فصل: كتاب الهبات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الهبات:

5828- الأصل فيها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنها كانت تجري في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطريق ثبوتها التواتر، وإنما ينقُل الآحادُ في تفاصيل أحكامها أخباراً، وهذا سبيل كل أصلٍ من أصول الشريعة.
فمما ورد في تفاصيل أحكام الهبات ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه»، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لواهبٍ أن يرجع فيما وهب إلا الوالد، فيما وهب لولده».
وأصل الهبة مجمعٌ عليه.
5829- ونحن نصدّر هذا الكتاب بذكر ركني الهبة. ولها ركنان:
أحدهما: الإيجاب، والقبول، والثاني: الإقباض.
فأما الكلام في لفظ العقد، فقاعدة الباب أن الهبة عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع، وقد حكينا عن ابن سريج مذهباً بعيداً مائلاً عن قياس المذهب في أن البيع في المحقرات ينعقد بالمعاطاة، وهذا متروك عليه غيرُ معتد به، ولا شك أن من يصير إليه يُجريه في الهبة.
ونحن نضرب عن هذا، ونأخد في مسلك آخر ونقول:
قد عم في عادات السلف، ومن بعدهم المهاداة والإتحاف بالتحف، من غير فرض إيجابٍ فيها وقبول.
وهذا لا ينزل منزلة ما عمت به عادات بني الزمان بعد دروس شعار التقوى في الاكتفاء بالمعاطاة في البياعات؛ فإن هذه العادة لا يمكن دعوى إسنادها إلى الأوّلين، بخلاف ما ذكرناه في التحف.
وقد ذهب بعض المصنفين إلى القطع بتصحيح هذا من غير لفظ، وقطع العراقيون باشتراط اللفظ في الإيجاب والقبول، وما ذكروه قياس العقود، ولما أشرنا إليه من أمر العادة وقعٌ في القلب.
ثم إنما يصار إلى التوجيه المحمول على العادة فيما يمكن دعوى إسناد العرف فيه إلى الأولين، وهذا فيما أراه يتعلق بالمطعومات، فأما ما يضطرب النظر في ادّعاء العادة فيه، فهو غير ملتحق بتنزيل المعاطاة في البيع منزلة اللفظ.
5830- ومما يتصل بهذا الركن أن الأب إذا وَهَب من طفله وهو وليه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في أن هبته من الطفل هل تصح بمجرد الإيجاب، أو بمجرد القبول، أم لابد من الإتيان بهما؟ فمنهم من قال: لابد منهما، ومنهم من قال: يقع الاكتفاء بأحدهما؛ فإن التخاطب يجري بين اثنين، وهما في حكم ابتداء خطاب وجواب، وهذا لا ينتظم من الشخص الواحد، فاللفظ الواحد منه يعطي معنى العقد.
ثم رأيت الطرق متفقةً على أنا إذا لم نشترط اللفظين، فالاكتفاء بلفظ القبول جائز.
وفي هذا عندي فضل نظر. فأقول: للقبول صيغتان: إحداهما- أن يقول المخاطب بالبيع: اشتريت، إذا قال البائع: بعتُ. والأخرى: أن يقول: قبلت. كذلك يفرض مثل هذا في الهبة، فالمخاطب المتبرَّع عليه يقول: اتَّهبت، ويقول: قبلت. ثم الطالب في البيع يحسن منه أن يبتدىء، فيقول: اشتريت هذا العبدَ بألف، فلو قال: قبلتُ بيع هذا العبدِ بألف، فما أرى ذلك جائزاً؛ فإن هذا صيغة الجواب، والجواب قبل الخطاب لا ينتظم، ولا أشك أنه لو قال: قبلت مبتدئاً، كان كلامه لغواً.
فإذا تمهد لنا ذلك، عدنا إلى الغرض، فنقول:
إذا قال الأب: قبلت هبة هذا الطفل، أو قبلت بيع هذا له، فما أرى ذلك صحيحاً، ولا أشك في بطلان اقتصاره على قوله قبلتُ؛ فإنه كلام غير مفهوم.
وإن قال: اتّهبت لطفلي، أو اشتريت لطفلي، فهو موضع خلاف، وهو بمثابة قوله: بعت من طفلي، أو وَهَبت من طفلي.
وأما اكتفاؤنا بقرائن الأحوال في تقديم الطعام إلى الضيفان في الرأي الأصح، فهو خارج عما نحن فيه؛ فإن سبيله الإباحة، والإباحة ليست تمليكاً، ولم يختلف أصحابنا أنها لا تفتقر إلى القبول، على رأي من يغلو، ويشترط اللفظ. هذا قدْرُ غرضنا الآن، فيما يتعلق باللفظ.
5831- فأما القول في القبض، فحصول الملك في الموهوب يتوقف على القبض التام، والقبض في الهبة كالقبض الناقل للضمان في البيع، وقد فصلنا القولَ في القبوض والمقبوضات في كتاب البيع.
والذي نذكره هاهنا التفصيلُ في هبة الأب من طفله، فيما يتعلق بالقبض، والوجه تجديد العهد بهبة المودَع الوديعةَ من المودِع، وقد ذكرنا هذا في كتاب الرهن، وأثبتنا قولين في أن نفس الهبة والرهن هل يكون إقباضاً؟ فإن قلنا: إنه ليس بإقباضٍ، ففي كيفية الإقباض والعينُ في يد المتهب والمرتهن كلامٌ.
فإذا تجدد العهد بذكر هذا، عدنا إلى القول في الأب إذا وهب من طفله.
فإن قلنا: الهبة من المودَع تُحوِج إلى إقباض، فهذا في الأب أولى. وإن قلنا: من المودَع إقباض، ففي هبة الأب من طفله طريقان: من أصحابنا من قال: لا حاجة إلى الإقباض في حق الأب، ونفسُ اللفظ كافٍ؛ فإن الموهوب في يد من يكون في يده لو قدّر القبض.
ومن أصحابنا من قال: لابد من الإقباض؛ فإن الموهوب في يد المالك الواهب في مسألة الأب، وهو في يد المتهب في مسألة المودَع. وقد ذكر الخلاف على هذا الوجه الصيدلاني.
5832- وسلك بعضُ من لا يحيط بحقيقة المذهب مسلكاً آخر، فقال: إن قلنا: يجوز الاقتصار على أحد شقين لفظاً، فلا حاجة إلى إقباض، وإن قلنا: لابد من اللفظين، فهو خارج على قياس المودَع. وهذا هَوَسٌ؛ فإن الاقتصار على أحد اللفظين مأخذُه غيرُ مأخد القبض، كما دل عليه التنبيهات الجارية في أثناء الكلام.
5833- فإذا ثبت القول في القبض، فالقول الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الملك يحصل مع القبض إذا ترتب على الصحة على الهبة المنعقدة. وعنينا بصحة القبض ترتيبه على إقباض الواهب، فلو ابتدر المتّهب، وقبض من غير إقباض، ولا إذنٍ، لم يحصل الملك، خلافاً لأبي حنيفة رحمة الله عليه. وقد قدمنا تفصيل القول فيه إذا ابتدر المشتري، فقبض العين المشتراة في كتاب البيع.
ولو أتلف المشتري المبيع، كان إتلافه قبضاً ناقلاً للضمان، ولو أتلف المتَّهب الموهوب، لم يكن ذلك قبضاً، ولزمته القيمة للواهب، والسبب فيه أن إتلاف المشتري صادفَ ملكَه، فبعُد أن يغرَم القيمة لتُحبس في مقابلة الثمن، إن قلنا: بالحبس. وإتلافُ المتّهب صادف ملك الواهب.
هذا بيان القول الجديد.
وللشافعي قولٌ في القديم: أن الهبة إذا اتصلت بالإقباض، تبيَّنا أن الملك حصل بعقد الهبة للمتهب، وهذا قولٌ ضعيف في حكم المرجوع عنه.
5834- ثم الترتيب السديد أنا إذا حكمنا بأن الملك يحصل مع القبض، فلو مات الواهب أو المتهب قبل جريان القبض، انفسخت الهبة، ولو أراد وارثُ الواهب الوفاء بها، احتاج إلى إنشاء هبة.
وإن حكمنا بأن الملك يستند إلى العقد تبيُّناً إذا جرى القبض، فلو مات الواهب، أو المتهب قبل جريان القبض، ففي انفساخ الهبة وجهان، وقد ذكرنا نظيرهما في الرهن.
وأطلق بعض المحفقين الوجهين على القولين، ووجّهوهما من غير تعرضٍ للترتيب على القولين في وقت حصول الملك: من قال بالانفساخ، احتج بأن العقد قبل القبض جائز من الطرفين جوازاً شرعياً فينفسخ، كالجعالة، والوكالة، والقراض.
ومن قال: لا ينفسخ، احتج بأن مصير الهبة إلى اللزوم عند فرض جريان القبض، فالموت قبل القبض بمثابة الموت في زمان الخيار في عقد البيع.
وقد أجرينا هذا الخلاف في الرهن.
هذا منتهى غرضنا في ذكر ركني الهبة: اللفظ، والقبض.

.فصل: مشتملٌ على بيان ما يصح هبته، وما يمتنع هبته:

5835- فكل عينٍ صح بيعُها، صح هبتُها.
والشيوع لا يمنع صحةَ الهبة فيما ينقسم، وفيما لا ينقسم، كما لا يمنع صحة البيع والرهن، وخالف أبو حنيفة رحمة الله عليه في الهبة، وقياسه فيها يخالف قياسَه في الرهن، فلا جَرم قال: بيعُ الشائع الذي لا ينقسم أصله جائز، وتعويله في منع هبة الشائع على أن الهبة تبرع، فلو صحت في الشائع، لملك المتَّهب إلزام الواهب القسمة، وهذا يؤدي إلى إلزام المتبرع مؤونةً على التبرع في عين ما تبرع به، وهذا قد رددناه عليه في (الأساليب) وغيرها.
وإنما غرضنا أنهم يستمسكون بالقبض، ويقولون: "إنما يوقف الملك في الهبة على القبض؛ لأن الملك لو حصل بنفس الهبة، لوجب الإقباض، فيؤدي هذا إلى إلزام الشرع للمتبرع شيئاً بسبب تبرّعه، وهذا بعيد".
وهذا الكلام باطل عندنا.
5836- فإن قيل لنا: فما معتمد المذهب في اشتراط القبض، وقد قال مالك: الهبة تملك بنفسها من غير إقباض؟
قلنا: اعتمد الشافعي في اشتراط القبض حديث أبي بكر: فإنه كان منح عائشة رضي الله عنهما جِداد عشرين وَسْقاً، فلما مرض مرضه الذي مات فيه قال لها: "وددت لو حُزتيه قبل هذا، وهو الآن مالُ وارث بينك وبين أخويك وأختيك". قالت: "عرفت أخويّ محمداً وعبدَ الرحمن، وأختي أسماء، فخطر لي أن خارجةَ كانت حاملاً من أبي بكر، وأنها ستلد أنثى، فولدت أنثى".
هذا متعلق الشافعي في اشتراط القبض.
5837- ثم تردد الأصحاب في أمور نُرسلها، ثم ننبه على حقيقتها:
فذكر بعضهم في صحة هبة الكلب خلافاًً، وأورد الشيخ أبو علي هذا، ونَحَوْا بالهبة في الكلب نحو الوصية به، وهذا بعيد جداً، وحق هذا الإنسان أن يطرد هذا الخلاف في المجاهيل وغيرِها، مما تصح الوصية به، ويمتنع بيعُه، ولا شك أنهم يُلزَمون طردَ هذا في الجلد قبل الدباغ، والخمر المحترمة، وكل ما يثبت فيه حق الاختصاص إذا صحت الوصية؛ فإن الهبة تبرعٌ ناجز والوصية تبرعٌ مضاف إلى ما بعد الموت.
وكان شيخي لا يعرف هذا، وينزل الهبة منزلة البيع. وقد أجرى هو وغيره قولين في هبة الغائب، كما أجروْهما في بيع الغائب، وسنذكر في باب العمرى والرقبى أن تعليق الهبة باطل، والوصايا تقبل التعليقات، كما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
5838- وذكر طائفة من أصحابنا في صحة هبة المرهون وجهين:
أحدهما: البطلان؛ قياساً على البيع.
والثاني: الصحة، ومعناه البناء على الانتظار، فإن بِيع الرهنُ في حق المرتهن، تبيّنا بطلانَ الهبة. وإن انفك الرهن، فالخِيرَةُ إلى الراهن الواهب. فإن أقبض، حصل الملك.
وهذا على ضعفه يتجه بشيء، وهو أن الهبة لا تُعقب الملك في وضعها؛ فإن صادفت مرهوناً، لم يبعد الانتظار فيها؛ فإن القبض المملّك منتظَرٌ، وهذا يجرّ خبطاً عظيماً، ويُلزم تصحيحَ الهبة في الآبق، وما لا يقدر عليه في الحال.
ويجوز أن ينفصل عن الآبق؛ فإنه غير مقدورٍ عليه، والراهن قادر على فك الرهن بأداء الدين.
5839- ومما يتصل بما نحن فيه القول في هبة الدين. ونحن نقدم عليه تفصيل القول في بيع الدين، وقد قدّمتُ-فيما أظن- قولين في بيع الدين من غير مَنْ عليه الدين، وغرضنا الآن تفصيل القول في الهبة. فإن حكمنا بصحة بيع الدين، ففي صحة هبته وجهان ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنه يصح هبة الدين، فإن ما يصح بيعه، يصح هبته.
والثاني: لا يصح هبته؛ فإن الهبة تفتقر إلى القبض، والدين لا يتصور قبضه وهو دين.
فإن قلنا: لا تصح الهبة، فلا كلام.
وإن قلنا: تصح، فهل يفتقر انبرامها إلى قبض الدين واستيفائه، حتى تكون الهبة جائزةً، يبطلها الواهب قبل القبض الحسي؟
قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لابد من القبض في الانبرام، وهو قياس الهبات.
والوجه الثاني- أنه لا يفتقر إلى القبض المحسوس، بل تنبرم الهبة قبل استيفاء الدين.
ثم من أصحابنا من قال: تنبرم بنفس الإيجاب والقبول، ومقصود هذه الهبة أن يصير المتَّهب بعد الهبة كالواهب قبل الهبة، ومعلوم أن الواهب كان يستحق الدين في الذمة من غير قبض، فعلى هذا تنزل هبة الدين منزلة الحوالة، وهذا لا بأس به، وقد ذكره العراقيون على قريبٍ من الوجه الذي ذكرناه حكاية عن صاحب التقريب.
ومن أصحابنا من قال: لابد من تسليطٍ بعد الهبة، وهو في حكم الإقباض بالقول، فتنعقد الهبة بالإيجاب والقبول، ثم يقول الواهب بعدهما دونك والدين، فاستوفه، فقد سلطتك عليه، ويضاهي هذا التخلية في الأعيان التي لا تقبل النقلَ.
5840- وخرّج صاحب التقريب التصدقَ بالدين، حتى يقع عن الصدقة المفروضة إذا نواها- على هذا القياس؛ حتى إذا صحَّحْنا الهبة من غير استيفاء، قلنا على ذلك: لو كان مال الرجل ديناً، فتصدق بشيء منه على مستحقِّي الزكاة، وقع ذلك موقع الاعتداد والاحتساب. ولو كان له على مسكينٍ دينٌ، فوهبه منه عن حساب الزكاة، لم يقع الموقع؛ فإن هذا إبراء، وليس بتمليك على الحقيقة، وتنزيل الإبراء منزلة التمليك من باب الإبدال في الزكوات، ولا مساغ لها عند الشافعي. وقد قيل: إن أبا حنيفة رحمة الله عليه يمنع ذلك، مع توسّعه في إقامة غير المنصوص عليه مقام المنصوص عليه.
5841- ومما يتصل بذلك رهن الدين، وقد قدمنا في كتاب الرهن منعه، وهو الأصل، ولكن خرّج الأصحاب الرهن على الهبة فقالوا: إن منعنا الهبة، منعنا الرهن، وإن صححنا الهبة، لم يمتنع تصحيح الرهن. ولكن الوجه الذي ذكرناه في انبرام الهبة قبل الاستيفاء المحسوس لا يخرّج في الرهن، ولا يتجه فيه إلا اشتراط الاستيفاء، فإن المقصود من الرهن التوثق بالعين، وهذا لا يحصل فيما ليس مقبوضاً حسّاً، فصحة الرهن بتأويل انعقاده، ووقوف انبرامه على القبض المحسوس يخرّج على بعد.

.باب: العمرى والرقبى:

5842- هذه اللفظة استعملتها العربُ في الجاهلية قبل المبعث، ونحن نذكر صيغتها ومعناها، ثم نذكر حكمها.
فإذا قال الرجل: أعمرتك هذه الدار ووهبت منك عمرك، أو ما بقيت، فهذه صيغ العمرى. ومعناها أن الموهوب يكون للمعْمَر ما بقي، فإذا مات، لم يخلفه الوارث، ولم يقم مقامه. هذا معنى اللفظ، وكانت العرب تعنيه وتريده، وتبني النحلةَ على رجوع الموهوب إلى الواهب إذا مات المتَّهب.
فإذا بأن اللفظ ومعناه، عدنا إلى ترتيب حكم الشرع فيه.
5843- والترتيب القريب أن نقول: إذا قال: أعمرتك، أو وهبت عمرك، أو ما بقيتَ، ولم يتعرض لقطع الملك عن ورثته، ولا استمرار الملك عليهما، ففي المسألة قولان: أصحهما- وهو المنصوص عليه في الجديد أن الهبة تصح. وقال الشافعي في القديم: لا تصح الهبة.
توجيه القولين: من قال: لا تصح، فوجهه بيّن في القياس؛ فإن الهبة قياسها أن تقتضي ملكاًً يقتضي البيعُ مثلَه، وحكم الملك المستفاد من البيع أن يطّرد على الوارث، واللفظ لا يعطي هذا المعنى في الهبة، فينبغي أن تبطل.
ومن نصر القول الجديد، فمعتمده الخبر، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعل العمرى للوارث. وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: «لا تُعمروا ولا تُرقبوا، فمن أعمر شيئاً، أو أرقبه، فسبيله الميراث».
فإن تعلق ناصر القول القديم بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإعمار والإرقاب، قيل له: هذا محمول على طريق المشورة، وحاصله لا تعمروا، وأنتم تبنون الأمر على أن الموهوب يزجع عليكم، واعلموا أن سبيله الميراث.
التفريع على القولين:
5844- إن حكمنا بفساد الهبة، فلا كلام، وهي لاغية، وملك الواهب باقٍ، وإن
اتصل بالإقباض.
وإن حكمنا بأن الهبة صحيحة، فالأصح أن ما في اللفظ من التعرض للتخصيص بالعمر باطل، والهبة مؤبدةٌ، والملك مسترسل على الورثة إذا مات المتَّهِب المُعْمَر.
وحاصل هذا القول يرجع إلى تصحيح الهبة وإبطال مقتضى اللفظ في تضمين التخصيص والتأقيت، والمعتمد فيه الخبر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «فسبيله الميراث».
5845- وللشافعي قولٌ في القديم: إن الهبة تصح، وتقتضي الملك متقيداً بحياة المتَّهب، وإذا مات، رجع إلى الواهب.
وهذا وإن كان مشهوراً، فهو مختلٌّ جداً؛ فإن المعتمد الخبرُ، ومقتضاه طرد الملك على الورثة.
ثم تفريع القديم على الجديد لا يحسن في نظم المذهب، والأحسن أن نقول: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: وهو المنصوص عليه في الجديد أن الهبة تصح، ويطّرد الملك على الورثة، ولا مبالاة فيما في اللفظ من معنى الإشعار بتخصيص الملك بعُمر المتهب.
والقول الثاني- أن الهبة تفسد.
والقول الثالث: أنها تصح، والملك مقصور على عُمر المتهب. وهذان القولان نص عليهما في القديم، وكل ما ذكرناه فيه إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو وهبتك هذه الدار عمرك.
5846- ووراء هذه الصورة صورتان: إحداهما- أن يقول: أعمرتك ما بقيتَ، فإذا متَّ، فلورثتك.
والأخرى- أن يقول: فإذا متَّ، انصرف إليَّ الموهوب ملكاً. فإن قال: وهبتك عمرك، والموهوب بعدك لورثتك، فالهبة صحيحة، لا خلاف في صحتها، ويستوي في الحكم بالصحة الجديدُ، والقديمُ؛ فإنه صريح بتأبيد الملك، وتثبيته على حكم الاطراد.
فأما إذا قال: وهبتك عمرَك، فإذا متَّ، رجع إليّ الملك في الموهوب، فلا شك أن هذا باطل على المذهب القديم، إذا رأينا إبطال الإعمار المطلَق، فإن رأينا في الترتيب القديم تصحيحَ العُمرى، وتخصيصَ الملك بعمر المتَّهِب، فالهبة صحيحة، على هذه القضية، والملك فيها مقصور على عمر المتَّهِب. وهذا التقييد عند هذا القائل تصريحٌ بما يقتضيه مطلق الإعمار.
فأما إذا فرعنا على القول الجديد، وقلنا: الإعمار المطلق صحيحٌ، والملك مسترسل على الورثة، وما في اللفظ من معنى التخصيص باطل.
فإذا جرى اللفظ مقيداً بالرجوع إلى الواهب، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن هذا يبطل لما فيه من التصريح بالتأقيت. وهذا القائل يقول: الإعمار المطلق لا تأقيت فيه؛ فإنه إذا ذكر الملك في عمر المتهب، فقد تناهى في تأبيد الملك؛ فإن أقصى ما يمتد فيه ملك المالك عمرُه. ثم إذا ثبت هذا، فالإرث بعد انقضاء العمر فرعُ هذا المقتضَى. ولم يجر له ذكرٌ بنفيٍ ولا إثبات. فهذا وجه.
والوجه الثاني- أن الهبة لا تفسد؛ فإن ما صرح بهِ من التأقيت هو مقتضى الإعمار المطلق، فإذا ثبت أن الهبة تصح بلفظ الإعمار، فينبغي أن تصح، وإن قُيّدت بالتأقيت، فالشرط إذاً باطل، والهبة صحيحة.
5847- ومما يتصل بتفصيل المسائل أنه إذا قال: وهبتك عُمْرَ زيدِ، وذكر رجلاً غيرَ المتَّهِب، أو قال: وهبتك عمري، أو ما بقيتُ، والتفريع على الجديد، وقد تبين ميله إلى التصحيح، فالمذهب الظاهر أن الهبة تفسد؛ فإنها ما أضيفت إلى عمر المتَّهب، حتى يقال: تقديرها ملكتك على أقصى ما يتصور ملكك، واللفظ حائد عن اللفظ المعهود في الباب، ومعتمد التصحيح الخبرُ، وهو محمولٌ على الصيغة المعروفة.
وذكر الشيخ والعراقيون وجهاً آخر: أن الهبة تصح على الجديد، ويفسد التأقيت ولم يصر أحد ممن يُحتفل به إلى الحكم بالصحة، مع الوفاء بموجب الشرط، حتى يقال: يثبت الملك مختصاً بالعمر المذكور، حتى إذا مات زيدٌ، الذي ذكر عمرَه قبل موت المتَّهب يرجع الملك إلى الواهب المُعْمِر، ولكن يتأبد الملك بعد موته للمتهب، ثم لورثته بعده، فيؤول الخلاف إلى أن الشرط الفاسد هل يُفسد الهبةَ أم يُطّرح الشرط، ويحكم بصحة الهبة مؤبدةً على خلاف الشرط؟
5848- ولو قال: وهبت منك داري هذه سنةً، أو يوماً، فهذا خارج على الخلاف الذي ذكرناه؛ إذ لا فرق بين تقييد الملك بعمر غير المتهب، وبين تقييده بالوقت الصريح، فيخرَّجُ على الجديد وجهان:
أحدهما: أن الهبة فاسدة، وما جاء به إعارةٌ بلفظٍ فاسد.
والوجه الثاني- أن الشرط محذوف، والهبة في نفسها متبعة على حكم التمليك المؤبد.
5849- وينشأ من هذا المنتهى جريان الخلاف في تصحيح الهبة، وإبطال الشرط الفاسد، ثم خصص بعض أصحابنا هذا الخلافَ فيما يتعلق بالوقت.
وقال قائلون: كل شرطٍ فاسد مذكورٍ في عقد الهبة، فهو خارج على الاختلاف، حتى نقول في وجهٍ: يفسد الشرط، وتصح الهبة على موجب الشرع، حتى لو قال وهبت منك عبدي هذا على ألا تبيعه إذا قبضته، ولا تتصرف فيه، أو ما جرى هذا المجرى، فهذه الشرائط منحذفة، والملك حاصلٌ للمتَّهِب.
وهذا القائل يفصل بين الهبة وبين البيع، ويقول: الشرائط التي تذكر في البيع تُصيِّر الثمن-الذي هو ركن البيع- مجهولاً، وجهالة الثمن تُفسد البيع، ولا عوض في الهبة.
فهذا وإن نقله الأئمةُ حَيْدٌ عظيم، وإبعادٌ ظاهر، وسببه تصحيح الإعمار، وقد حكينا في كتاب البيع قولاً غريباً، عن صاحب التقريب، ردّده مراراً: أن الشرط الفاسد ينحذف في البيع، ونحكم بصحة البيع، وذلك غير معتدٍّ به من أصل المذهب. وليس ما حكيناه في الهبة ذلك القول، وإنما هو محكي مع الفرق بين الهبة والبيع.
هذا مجموع القول في العمرى، مع ما يتعلق بأطرافها.
5850- فأما القول في الرقبى فنذكر لفظها، وما كان يريده من يُطلقه، ثم نذكر حكمَ الشرع على ترتيبنا في العمرى.
فلفظ الرُّقبى أن يقول: وهبت داري هذه على أنك إن متّ قبلي، رجعت إليّ، فإن متُّ قبلك، استقر ملكُك.
وسُمِّي هذا النوعُ رقبى؛ لأن كلّ واحد منهما يرقب موت صاحبه، فالمتّهِب يرقب موتَ المُرقِب ليستقر ملكه، والمُرقِب ينتظر موت المتَّهِب ليرجع الملك إليه.
هذا بيان اللفظ ومعناه عند أهله.
5851- والحكم فيه إلحاقُ هذا اللفظ بما إذا قال: أعمرتك، أو وهبتك عمرك، وإذا مت، رجع إليّ، وقد ذكرنا في هذه الصورة طريقين للأصحاب. وقوله: فإن مت، استقر لك الملك لا يتضمن مزيد فساد، ولا يؤثر أصلاً، وإنما النظرُ إلى تصريحه برجوع الملك في الموهوب إليه عند تقدير موت المتّهِب في حياته.
فهذا تفصيل القول في العمرى والرقبى.
5852- ووراء ما ذكرناه فرعٌ نذكره ينتجز به مقصود الباب.
وهو أنه إذا قال: أعمرتك داري هذه، أو وهبتكها عمرك، وقلنا: تصح الهبة، ويثبت الملك متقيداً بعمر المتَّهِب، فلو مات المُعْمِر الواهب قبل موت المتَّهِب، فلو قدرنا رجوع الملك، فكان يرجع إلى ورثة المعمر. وهذا فيه استبعاد؛ من جهة أنه ثبوت ملكٍ للورثة ابتداء فيما لم يملكه الموروث في حياته، ولكن ما يقتضيه قياس هذا القول أنه يرجع إلى ورثته بحكم شرطه، ويكون كما لو نصب شبكة في حياته وتعقَّل بها صيدٌ بعد موته، فالملك يحصل في الصيد للورثة.
والصحيح أنه تركة تُقضى منه الديون والوصايا، فإن حمل حامل حصولَ الملك للورثة على حصول الملك لهم في الشبكة، كان ذلك غيرَ صحيح؛ إذ لا يمتنع فرضُ تسبب قوي يقصد مثله من غير تقدير ملك، وذلك بأن يحتفر حفيرة على مدارج الصيود، ولا يَقصد تملكها، فالصيد الواقع فيها للورثة، ولا ملك لهم في الحفيرة.
وقد يتكلف متكلف فيقول: صار الحافر أولى بالحفيرة من غيره، وهذا الحق ينزل إلى ورثته. والذي عليه التعويل ما قدمناه من كون الصيد من جملة التركة.
5853- ومما يتعلق باستقصاء الكلام في ذلك أنا إذا أثبتنا الملكَ للمتَّهب، وقيدناه بعمره، فلو باع ما ملكه، ثم مات، والعين مبيعة، فهذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: لا ينفد بيعُه؛ فإن مقتضى البيع-إذا صح- التأبيدُ، وهذا لا يسعه الملك المؤقت، وليس له أن يملّك غيرَه ما لا يملكه في نفسه. فإذن له الانتفاع، وله وطء الجارية التي جرى الإعمار فيها، وليس له أن يبيع.
ويجوز أن يقال: بيعه نافد محمول على التأبيد الذي يقتضيه البيع، وهو بمثابة ما لو علَّق عتقَ عبده بمجيء الغد، ثم إنه لم يجر بيعه قبل الوقت الذي هو متعلق العتق، فالبيع ينفذ، ويتعطل العتقُ، وتعليقُه. ولو لم ينفد البيع في مثل الإعمار، لما كنا مثبتين للمتَّهِب ملكاً.
5854- ولعل الأصح منعُ صحة البيع؛ فإن من علق عتق عبده لا يقال: تأقت ملكه، بل ملكه على التأبد الذي كان. والتعليق مشروط بألا يتقدم على وجود الصفة ما يتضمن دفعَ العتق عند وجود الصفة. والملكُ مؤقت في عمر الإنسان إذا فرّعنا على القول الذي انتهينا إليه.
وإذا خرج أصلٌ عن قانون القياس، فكلما كثرت الفروع، ازداد الفرعُ بعداً.
باب عطية الرجل ولده
5855- الأصل أن الهبة إذا صحت وأفادت ملكاً عند القبض، فالملك يطرد ولا يتطرق إليه إمكان القبض؛ فإن الملك يتم، ويتسلط المتّهِب على سائر جهات التصرفات، ومبنى الهبة على أنها إذا اقتضت ملكاًً، انقطعت فيها علائق العقود؛ إذ لا يتطرق إليها ردٌّ بعيب، ولا تفاسخٌ على الرضا على موجب الإقالة في البيع، فالذي يقتضيه الأصل ألا يرجع واهبٌ فيما وهب، غير أنا نثبت للأب الرجوع فيما وهبه لولده.
والأصل في الباب ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده» وروى الشافعي حديثَ النعمان بن بشير إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام، فقال: «أنَّى لك هذا؟» فذكر أن أباه بشيراً أنحله إياه، فقال صلى الله عليه وسلم لبشير: «أنحلت سائر ولدك مثل هذا؟» فقال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: «أيسرُّك أن يكونوا في البر إليك سواء»، فقال: نعم، قال: «فارجعه». وروي «فاردده». فثبت أن رجوع الواهب فيما وهب لولده في حكم المخصوص بتخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم الكلام يتعلق بثلاثة فصول:
أحدها: فيمن يثبت له حق الرجوع.
والثاني: في وقت الرجوع.
والثالث: فيما يقع الرجوع به.