فصل: فصل: معقودٌ فيمن يكون من أهل الالتقاط ومَن لا يكون من أهله، وهو غمرة الكتاب، وعلى الناظر مزيدُ اعتناءٍ به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: معقودٌ فيمن يكون من أهل الالتقاط ومَن لا يكون من أهله، وهو غمرة الكتاب، وعلى الناظر مزيدُ اعتناءٍ به:

5935- وهذا الفصل يستدعي تقديم أصلٍ في حقيقة اللقطة: وهو أن اللقطة فيها معنى الكسب؛ من جهة أن الملتقط يتملكها إن أراد، وفيها معنى الأمانة؛ من جهة أنها لو تلفت في يد الملتقط في مدة التعريف أو قبل الاشتغال بها، فإنها لا تكون مضمونة على الملتقط، فقد اجتمع فيها معنى الكسب والأمانة، ولا وجه لإنكار اجتماعهما.
وذكر الأئمة قولين مأخوذين من معاني كلام الشافعي في أن الغالب على اللقطة حكمُ الأمانة، أو حكمُ الكسب، ففي ذلك قولان إذاً، وعليهما خروج المسائل:
أحد القولين- أن الأمانة هي الغالبة؛ لأن الالتقاط يقترن به معنى الأمانة وحكمُها، ثم يتمادى إلى انقضاء التعريف، فهذا ناجز متحقَّق، والتملك منتظَر، قد يكون، وقد لا يكون، فليقع التغليب للحكم الحاضر.
والقول الثاني- إن الاكتساب أغلب؛ فإنه مآل الأمر، وعاقبتُه في الغالب، والنظرُ إلى عواقب الأشياء، لا إلى مباديها. وأيضاً، فإن الملتقط ينفرد بالالتقاط. وهذا بعيد-في حق من لا يلي- على قياس الأمانات، فإن الأمين من آحاد الناس من يأتمنه المالك، وهذا هو الأصل، فإذا جاز الانفراد بالالتقاط، كان ذلك حملاً على الانفراد بالاكتساب، ثم حكم الأمانة يثبت ثبوتاً غيرَ غالب.
هذا بيان القولين، وظهورهما بتفريع المسائل عليهما.
5936- ثم فرّع الأصحاب على القولين مسائلَ: منها التقاط الصبي، ومنها التقاط العبد، والمكاتب، والفاسق، والمبذّر، وقد يجري التقاط الذمّي في آخر الفصل.
فأما الصبيّ المميز إذا التقط، فهو مخرّجٌ على القولين. فإن قلنا: الغالب على اللقطة معنى الأمانة، فليس الصبي من أهلها؛ فإنه ليس ممن يؤتمن، وكيف يؤتمن من يتردد بين غباوة يمتنع معها الاستقلالُ بالأمر، وبين فطنةٍ تُطلعه على أنه غير معاقب أو مُتَّبَع.
وإن قلنا: الغالب على الالتقاط معنى الاكتساب، فهو من أهله؛ إذ يتصور منه الاكتساب الذي يتعلق بالأفعال كالاحتشاش والاحتطاب، وما في معناهما.
5937- فإذا ثبت القولان، فالتفريع عليهما أنا إن قلنا: ليس الصبي من أهل الالتقاط، فلو التقط فيده يدُ ضمانٍ، حتى لو تلفت اللقطة في يده أو أتلفها، وجب الضمان في ماله، ولو علم الولي حصولَ اللقطة في يده، لم يجز له تقريرها تحت يده، بل عليه أن يسعى في انتزاعها من يده.
5938- ثم ذكر العراقيون وجهين في أن الولي لو أراد أخد اللقطة من يد الصبي، والتفريع على أنه ليس من أهل الالتقاط، على نية ابتداء الالتقاط: أحد الوجهين- أن ذلك سائغ؛ فإن اللقطة في يد الطفل ضائعة، وهي بمثابة ما لو صادفها في مضيعة، فله الأخذُ من يده، كما له الالتقاط من قارعة الطريق.
والوجه الثاني-وهو قياسنا- أنه لا يصح الالتقاط من يده؛ فإن الالتقاط له صورة في العرف، وعليها يدلّ الشرعُ. والقياس لا جريان له في مفتتح الأمر. والذي يحقق ذلك، أن الصبي يعرض للضمان إذا ثبتت يده على اللقطة، فلو جعلنا الوليَّ ملتقطاً، لتضمَّن إسقاطَ الضمان عن الصبي، وهو في التحقيق إسقاطُ حق تملّك اللقطة بعد ثبوته.
فإن حكمنا بأن الولي يلتقط من يد الطفل، لم يختص هذا به، فلو صادفه أجنبي من أهل الالتقاط، كان له الأخد من يده، على حكم الالتقاط. وإنما يختص بالولي ما يختص بالطفل من مصالحه، ولا نظر إلى سقوط الضمان عن الطفل عند التقاط الأجنبي من يده.
ثم يتفرع على ذلك أنا إذا جعلنا الولي ملتقطاً، فيزول الضمان عن الصبي بالكلية، ولا يبقى في ماله تبعة؛ إذ قد التقط اللقطة من هو من أهل التقاطها، وانقلب الصبي عند التقاطه مشبَّهاً بمضيعةٍ بقارعة طريق.
هذا ما ذكره الأصحاب.
5939- وللاحتمال إليه تطرّقٌ من قِبل أن من غصب عيناً، وأضلّها، فالتقطها ملتقط، فقد ثبت حكم اللقطة فيها، ويبعد في هذه الصورة إبراء الغاصب، وإن اتصلت العين بيد ملتقطٍ هو من أهل الالتقاط. وستكون لنا إلى مسألة الغاصب عودة في آخر الفصل، إن شاء الله عز وجل.
5940- وإن لم نجعل للولي مرتبةَ الالتقاط بعد ثبوت يد الطفل، فالكلام وراء ذلك في فصلين:
أحدهما- أن العين لو تلفت في يد الصبي، فلا شك في وجوب ضمانها، كما لو غصب عيناً، وكذلك لو أتلفها، فالتلف والإتلاف يضمِّنانه القيمة.
وأما الولي، فينبغي أن لا يترك نظرَه للطفل، فإن استمكن من رفع الأمر إلى مجلس القاضي، فعل، وفيه تفصيل ساذكره في فصل العبد، وأرمز إذْ ذاك إلى حظ الصبي منه، إن شاء الله عز وجل.
وإن لم يتمكن من رفع الأمر إلى الحاكم، حَفِظ اللقطةَ جهدَه، وأخذها من يد الطفل، ثم لو تلفت، فالضمان ثابت على الطفل، وفائدة الاحتياط صون العين عن التلف، والتضييع.
وهذا أيضاًً ممّا لا يمكن تقريره إلا بعد تمهيد أصلٍ، نذكره في فصل العبد على أثر ذلك، إن شاء الله عز وجل.
5941- وإن جعلنا الصبي من أهل الالتقاط، فلا يترك الولي العينَ في يده، بل يأخذها منه. وإذا ثبتت يد الولي عليها، فهي أمانة، لو تلفت في يد الولي، لم نثبت ضمانها وفاقاً؛ فإنا نفرّع على أن الصبي من أهل الالتقاط، ولو ترك الولي اللقطة في يد الطفل، كان منتسباً إلى التضييع؛ فإنه إذا كان لا يترك في يده خالصَ ملكه، فكيف يترك في يده ملكَ غيره.
وإن علم الولي بكون اللقطة في يده، فتركها حتى ضاعت، فسنذكر ما يتعلق بذلك في فصل العبد، إن شاء الله عز وجل.
5942- ولو لم يشعر الولي بحصول اللقطة في يده، فأتلفها الصبي، تعلق الضمان بماله، وإن تلفت في يده، ففي وجوب الضمان وجهان. والتفريع على أنه من أهل الالتقاط.
ولو أودع رجل عند طفلٍ مالاً، فلو تلف في يد الطفل، لم يضمن، وإن كان سبب التلف تضييعه، فإن استحفاظه لم يصح، وانتسب من استحفظه إلى تضييع ماله، وإن أتلف الصبي الوديعةَ، ففي وجوب الضمان وجهان، وإنما اختلف الترتيب؛ من جهة أن المودِع هو الذي ضيع ماله؛ إذ استحفظ الصبيَّ فيه، وإذا التقط الصبي، فلم يوجد من جهة المالك تفريط في استحفاظه، فلذلك جعلنا المسألة على وجهين فيه إذا تلفت اللقطة في يده.
فإن قيل: لم ضمّنتموه، والتفريع على أنه من أهل الالتقاط؟ قلنا: معنى كونه من أهله أنه قد يُتملّك له قيمة ما التقط، إذا رأى النظرَ فيه، فأما أن تكون يده صالحة للأمانة في مدة التعريف قبل دخول وقت التملك، فلا.
فإن قيل: هلا قطعتم بوجوب الضمان لما ذكرتموه؟ قلنا: صاحب الضالّة على الجملة منتسب إلى التقصير، وإن لم يستحفظ الصبي على التعيين.
5943- ومما يتعلق بالتقاط الصبي أن القيّم إذا استخرج اللقطة من يده، فعرّفها سنة، فإن كان صلاحُ الطفل في أن يتملكها له فعل، وكان ذلك استقراضاً للطفل.
وإن لم يرَ في التملك صلاحاً، أمسك اللقطة أمانةً، أو سلمها إلى القاضي. وقد أحلنا أطرافاً من الكلام في لقطة الصبي على العبد وبيان حكمه.
5944- فأما العبد إذا التقط، فقد خرّج الأئمةُ التقاطه على القولين في تغليب الأمانة والكسب.
فإن حكمنا بتغليب الأمانة، فإن العبدَ ليس من أهل الالتقاط.
وإن حكمنا بتغليب الكسب، فهو من أهل الاكتساب. هكذا أطلقه الأئمة المراوزة. وفي هذا فضل تفصيل، سيأتي الشرح عليه، إن شاء الله تعالى.
ولا ينبغي أن يعتقد الناظر في أوساط أمثال هذه الفصول أنه يطّلع على سرّ ما ينتهي إليه، فإن أسرار المسائل المسلسلة تتبيّن عند نجازها.
5945- قال صاحب التقريب: اختلاف القول فيه إذا التقط العبد ونوى نفسه، فأما إذا نوى سيدَه، بالالتقاط، ففي المسألة احتمالٌ: يجوز أن يقال: يصح ذلك قولاً واحداً، ويجوز طرد القولين في هذه الحالة.
وفي هذا الكلام فضلُ نظر؛ فإن السيد لم يأذن لعبده في هذا النوع، فاستبداد العبد به دون إذن سيده لا يختلف حكمه بأن ينوي نفسَه، أو سيدَه، فلا وقع للتردد الذي أبداه.
5946- ولو أذن السيد لعبده في الالتقاط، وقال: مهما وجدت ضالةً، فارفعها، وائتني بها، فيجب قطعُ القول بوقوع الالتقاط عن جهة السيد، ويتطرق إليه نوعٌ من الاحتمال، لما في اللقطة من معنى الأمانة.
فإن قيل: لو أذن السيد لعبده في قبول الوديعة، صح منه قبولها، وكانت يده بمثابة يد السيد؟ قلنا: الأمر كذلك، ولكن الأمانة الثابتة في اللقطة مشوبةٌ بقضية الولاية؛ فإن الملتقط يستبدّ بإثبات اليد على اللقطة من غير إذنٍ من ربّها، والإذن لا يُلحق العبد بالولاية، وسيتضح هذا المعنى-إن شاء الله عز وجل- في أثناء الفصل.
التفريع على القولين:
5947- فإن قلنا: العبد ليس من أهل الالتقاط، فإذا حصلت اللقطة في يده، فلا يخلو إما أن يشعر السيدُ بها أو لا يعلمها، فإن لم يعلمها، فاللقطة مضمونة في يد العبد؛ فإن تلفت أو أتلفها، تعلّق الضمان برقبته؛ فإن ما يتلف تحت اليد العادية بمثابة ما يتلف بالجناية.
ثم تفصيل القول في فداء السيد إياه لا يخفى.
وتقريره في آخر كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
هذا إذا لم يشعر السيد بحصول اللقطة.
5948- فأما إذا علم حصولها في يد العبد، فأضرب عنها مقصّراً، حتى تلفت أو أتلفها العبد، فالقيمة تتعلق برقبة العبد، كما قدمناه، فإن ضاقت قيمة العبد عن الوفاء بقيمة اللقطة، فالذي نقله المزني عن الشافعي: "أن الفاضل من مقدار قيمة العبد يتعلق بسائر مال السيد، وتتوجه عليه الطَّلبة به، وإن سلّم العبدَ ليباع في الجناية، ولم يؤثر فداءه " ونقل الربيع عن الشافعي قولاً آخر: "أن الغرم ينحصر في رقبة العبد، ولا يتعلق الفاضل بسائر مال السيد".
5949- توجيه القولين: من قال: بانحصار الضمان في رقبة العبد، قاس ما نحن فيه على ما إذا أتلف العبدُ شيئاً بإذن سيده؛ فإن الضمان لا يعدو رقبة العبد، ولا أثر لإذن السيد في الإتلاف، فتقريره اللقطة في يد العبد لا تزيد على إذنه في الإتلاف وأمرِه به من غير إكراهٍ.
ومن قال: لا ينحصر الضمان في رقبة العبد، احتج بأن يد العبد بمثابة يد السيد، فإذا انضم إلى يد العبد تقصيرُ السيد في تقرير اللقطة في يد العبد، كان ذلك بمثابة ما لو تلفت العين في يد السيد، وهو معتدٍ. وهذا إنما كان يقوى، لو كنا نعلّق الضمان في الفاضل بالسيد، وإن لم يشعر بحصول اللقطة في يد العبد؛ فإن أسباب الضمان لا تختلف قضاياها بالعلم والجهل.
5950- ومما يتعلق بالتفريع على هذا القول أن السيد لو أخد اللقطة من يد العبد، وقصد بأخذها من يده الالتقاطَ، فقد ذكر العراقيون وجهاً أن ذلك يكون التقاطاً من السيد؛ لأن يدَ العبد على القول الذي عليه نفرع ليست يدَ التقاط واللقطة فيها ضائعة، فكانت بمثابة ما لو صادفها السيد في مضيعة.
وهذا الذي ذكروه بعيدٌ غيرُ متَّجهٍ؛ فإن العبد تعرّض للضمان بأخد اللقطة، فلو قلنا: يصح التقاط السيد من يده، لتضمّن ذلك إسقاطَ الضمان وتبرئةَ رقبة العبد، وفيه إبطال حق مالك اللقطة، واستفادة السيد حقَّ التملك في اللقطة. وهذا بعيد، لا اتجاه له، على قياس المراوزة. وما ذكره العراقيون لا يختص بالسيد، بل لو أخذ الأجنبي اللقطة من يد العبد، لبرىء العبدُ، وثبت الأجنبي ملتقطاً على الابتداء، وهذا بعيدٌ، لا اتّجاه له.
5951- فإن فرعنا على أن السيد لا يصير ملتقطاً، فيتعلق الكلام بعد هذا بأمرٍ يستدعي تفصيل مقدمة.
وهي أن نقول: إذا صادف القاضي عيناً مغصوبة في يد الغاصب، فلو أخد القاضي العين المغصوبة من الغاصب ليحفظها على مالكها، فهل يبرأ الغاصب عن الضمان؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يبرأ، وهو ظاهر القياس، لأن يدَ القاضي نائبةٌ عن يد المالك، فرجوع العين المغصوبة إلى يده، بمثابة رجوعها إلى يد المالك. والوجه الثاني- أنه لا يبرأ الغاصب عن عهدة الغصب، ما لم ترجع العين إلى يد المالك؛ فإن مالك العين ليس موليّاً عليه وِلاية قهر، وليس القاضي مستناباً من جهته، ولكنه يرعى المصلحة لتصدّيه للنظر العام، والذي يقتضيه الصلاح إزالة يد الغاصب، مع بقائه على غرر الضمان.
فإن قلنا: يبقى الغاصب في عهدة الضمان، فالقاضي يأخد العين المغصوبة منه، وإن قلنا: يبرأ الغاصب لو أخد القاضي منه العين المغصوبة، فهل للقاضي أن يأخذها، ويحفظها على مالكها؟ فعلى وجهين:
أحدهما: له ذلك؛ فإن قطع العدوان وحفظَ العين المملوكة للمالك أحوط وأليق بالنظر للغاصب والمغصوب منه.
والوجه الثاني- ليس له ذلك؛ فإن إبقاء العين في عُهدة الضمان أولى من تبرئة الغاصب، ورد العين أمانة.
وهذا التردد فيه إذا لم تكن العين المغصوبة معرضة للضياع، فإن كانت معرضة للضياع، وكان الغاصب بحيث لا يبعد تغييبه وجهَه، فالرأي: للقاضي أخذُ العين، وإن وقع التفريع على أن الغاصب يبرأ. هذا قولنا في القاضي وأخذه العينَ المغصوبة.
5952- فأما إذا أراد واحدٌ ممن ليس والياً أن يأخد العينَ المغصوبة محتسباً، ويوصِّلَها إلى مستحقها، فهل له ذلك، أم لا؟
ننظر: فإن لم تكن العين عرضةً للضياع، ولم يكن الغاصب ممن يفوت توجيه الطلب عليه، فليس لآحاد الناس أن يتعرضوا لإزالة يده.
وإن كانت العين عرضة للضياع، فهل يجوز للأمين من آحاد الناس أن يزيل يدَ ذلك الغاصب، ويحفظ المغصوب على المالك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: ليس له ذلك؛ فإن هذه الأمور يستفيدها الولاة بالولاية؛ من جهة أن الأمر يُفضي إلى المغالبة، وقد يؤدي إلى القتال، وشهْر السلاح، وكل ما كان كذلك، فهو مفوّض إلى راعي الرعية، والقاضي ينوب عن الغائبين بولايته.
والوجه الثاني- أنه يجوز للأمين أن يتولى ذلك احتساباً، ونهياً عن المنكر.
وهذا غير مرضيّ.
ثم يتصل بذلك أنا إذا لم نجوّز ما ذكرناه، فلو فعله الأمين، صار ضامناًً، وكان بمثابة الغاصب من الغاصب.
وإن جوزنا ذلك، فلا ضمان على الأمين، وفي براءة الغاصب وجهان مرتبان على الوجهين في براءته إذا أزال القاضي يدَه، وهاهنا أولى بأن يبقى الغاصب في عهدة الضمان.
ولو فصل فاصلٌ بين أن يجري ذلك من الواحد من الناس وفي الموضع قاضٍ يمكن رفعُ الأمر إليه، وبين أن تكون البقعة شاغرةً عن الوالي، لكان حسناً خارجاً على الترتيب الذي قدمناه في تفاصيل هرب الجمّال.
5953- فإذا تمهد ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى العبد إذا التقط، وقلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط، ويده على اللقطة يدُ غصب. فلو أراد السيد أن ينتزع تلك العينَ من يده، ويحفظها لمالكها، فهل له ذلك أو لا؟
نقول: لو استدعى السيد من السلطان أن يفعل ذلك، فهذه الصورة أولى بأن يزيل السلطان فيها يدَ العدوان، وإذا أزالها، فحصول البراءة أولى، والسبب فيه أن البراءة من الضمان ترجع إلى السيد، وهو غير منتسب إلى العدوان، حتى يغلّظ عليه الحكم، وليس كذلك إذا كانت الواقعة مع الغاصب نفسه.
5954- هذا إذا التمس السيد من السلطان، فأما إذا أراد السيد بنفسه أن يزيل يدَ العبد ويحفظ اللقطةَ على مالكها، فهل له ذلك؟ ولو فعل هذا يسقط الضمان؟
فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا تعرض لإزالة يد الغاصب آحادُ الناس، وهذه الصورة أولى بألا تحصلَ البراءة فيها؛ فإن السيد ساعٍ في حق نفسه ويدُ العبد يدُه، فلا يحصل الانتقال التام، ولا تتحقق الحسبة، والسيد في حكم من يبرىء نفسه بنفسه.
فإن قلنا: لا يملك السيد انتزاع العين من يد العبد، ولو فعله، لكان غاصباً بنفسه، والضمان باقياً، كما كان، فلا كلام.
وإن قلنا: للسيد أن يزيل يدَ العبد، وإذا أزالها، زال الضمان فلو كان العبد موثوقاً به، والتفريع على الوجه الذي انتهينا إليه، فأراد السيد استحفاظ عبده، وتقرير العين في يده، وإحلال يده على الابتداء محل يده، فهل يسقط الضمان إذا فعل ذلك؟ فعلى وجهين: أظهرهما- أنه لا يسقط؛ فإن اليد، لم تتبدل حسّاً، وقد كانت يدَ ضمان في ابتداء ثبوتها، وهذا هو الأصل.
ومن أصحابنا من قال: استحفاظ السيد إيّاه نازلٌ منزلة أخذه العينَ من يده.
وهذا بعيد.
وكذلك تكون التفاريع إذا كثرت، فإنها تزداد بعداً.
5955- وقد كنا وعدنا أن نذكر في الصبي إذا لقط، وشعر الوليّ به، وقرره تحت يده، والتفريع على أن الصبي ليس من أهل الالتقاط تفصيلاً، فنقول أولاً:
السلطان ينبغي أن يُزيل هذه اليد؛ نظراً للطفل، واحتياطاً له، فإذا فعل، فالأصح أنه يبرأ، ولا يغلَّظ عليه التغليظ الذي ذكرناه في الغاصب. هذا هو الأصل.
وقيل لا يزول الضمان بعد ثبوته، ولكنا مع ذلك نزيل يد الطفل.
5956- والوليُّ هل يأخد من الطفل ما التقطه إذا قلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط؟ هذا يترتب على أخد الأمين من آحاد الناس العينَ المغصوبة من الغاصب عند الإشراف على الضياع، والولي أولى بذلك؛ لأنه منصوبٌ شرعاً للنظر للطفل.
وإن قلنا: لا يبرأ الصبي، ولا سلطان في البقعة، تعيّن على الوليّ انتزاعُ المال من يد الطفل، وإن كان لا يستفيد بذلك تبرئة الصبي عن الضمان؛ لأنه إن كان لا يحصِّل البراءة، فيصون العينَ عن التلف، وهذه فائدة ظاهرة، فإذا فعل الولي ذلك، فهل يتعلق الضمان به؟ هذا فيه احتمالٌ؛ من جهة أن التفريع على أن البراءة لا تحصل، وليس لآحاد الناس أن يفعلوا ذلك محتسبين، ويجوز أن نجعل الولي كالقاضي في هذا المقام؛ حتى لا يتعلق الضمان به، ووجه الاحتمال بادٍ؛ من جهة أن ولاية الأب لا تتعلق بصاحب المال، وإنما هي مقصورة على رعاية مصلحة الصبي.
وإذا قررنا الضمان على الولي، فلو تلفت العين في يده، فيبعد أن يكون القرار عليه، مع أنا جوزنا له، أو أوجبنا عليه أن يأخد العين من يد الصبي، فالوجه أن نجعله كالمودَع من الغاصب، مع الجهل بحقيقة الحال، حتى تتعلق الطّلبة به، ولا يتقرر الضمان عليه. هذا تفصيل المذهب في انتزاع العين من يد الطفل.
5957- فلو قررناها في يده، تفرع هذا على ما ذكرناه. فإن قلنا: الولي لو انتزع العين، لم يزُل الضمان، فلا يكاد يظهر فائدة. وإن قلنا: لو أزال يدَ الطفل، وأخذ العينَ منه لبرىء، فإذا قرر العين تحت يده، مع العلم بحقيقة الحال، تعلق الضمان بالولي، لا محالة؛ فإنه حيث انتهينا إليه تَرَكَ النظرَ، وورَّطَ الطفل في الضمان، مع التمكن من تبرئته عنه، فيستقر الضمان عليه؛ فإنه لو سلم مالَ الطفل إليه حتى ضاع تحت يده، ضمنه، وما ذكرناه بهذه المثابة.
وقد قال الأئمة: لو أركب الولي الطفل دابة صعبة، فأتلفت الدابة بخبطها ورفسها شيئاً، فالضمان على الولي.
فهذا منتهى الكلام في ذلك.
5958- وقد حان أن نفرع على أن العبد من أهل الالتقاط.
فإذا التقط وأراد السيد أن يُبقي اللقطةَ في يد العبد ليعرفها، وكان موثوقً به، فله ذلك.
وإن أراد أخد اللقطة منه، ومباشرة التعريف بنفسه، فله ذلك، ثم إذا مضت سنة التعريف، فالسيد بالخيار إن شاء تملك، وإن شاء حفظ اللقطة أمانة، واستحفظ العبد فيها، إن كان موثوقاً به.
5959- ومما يجب التنبه له الآن أنا إذا جعلنا العبد من أهل الالتقاط، فلو التقط، ولم يشعر السيد، وعرّف بنفسه سنة، من حيث لم يدر السيد، ثم إنه بعد مضي السنة تملك اللقطة لمولاه، فهل يصح ذلك أم لا؟
هذا يترتب على أن الرجل إذا وهب من عبد إنسان شيئاً، فاتهبه دون إذن مولاه، فهل يصح اتّهابُه، حتى يدخل الموهوب في ملك السيد؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الاتّهاب يصح، والموهوب يدخل في ملك السيد، كما يدخل في ملكه ما يصطاده، ويحتطبه.
والثاني: لا يصح؛ فإن الهبة عقدٌ متعلِّق بقولٍ، ويبعد أن يصح من العبد عقدٌ يتضمن تمليكَ السيد من غير إذن السيد.
ولم يختلف أصحابنا أن العبد إذا خالع زوجته على مالٍ أن الخلع يصح، وعوضه يدخل في ملك سيد العبد قهراً دخول الصيد إذا اصطاد العبدُ؛ فإن العوض في الخلع يتبع الإبانة، وهي حق الزوج، فلم يثبت مقصوداً، وملك الموهوب مقصودُ الهبة.
5960- فإذا ثبت ذلك، فلو عرّف العبدُ اللقطةَ، وتملكها بعد السنة للسيد، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في صحة ذلك: أصحهما- أنه لا يصح؛ فإنه تملك للسيد بعوضٍ، وليس كالتملك بالهبة.
وحق ما ذكره من الوجهين أن يرتبا على الوجهين في انفراد العبد بالاتهاب، وهذا أولى بألا يصح، والفرق لائح.
5961- ولو اشترى العبدُ شيئاً بثمن في الذمة بغير إذن مولاه، فالأصح بطلان البيع. وقد ذكرنا قولاً بعيداً: إن البيع يصح، وهو ضعيف غير معتد به، ومن صححه، فالثمن عنده في ذمة العبد يطالب به إذا عتَق.
5962- فإن قلنا: يصح تملك العبد للسيد، فيبعد أن يقال: لا يطالب السيد بعوض اللقطة إذا ظهر مالكها، وليس كما إذا فرعنا على صحة شراء العبد بغير إذن سيده؛ فإن البائع رضي بذمة العبد، ولم يرض مالك اللقطة بذمة العبد في مسألتنا، فيجب القطع بأنا إذا صححنا تملّكَ العبد لسيده، فالعوض في ذمة السيد.
فإن قيل: فجوِّزوا أن يستقرض العبد لسيده، ويشغل ذمته بعوض القرض. قلنا: ذلك غير سائغ، والفرق على هذا الوجه الضعيف أنا جعلنا العبد من أهل الالتقاط، وهو السبب الأظهر في التملك، حتى كأنه ملتحق بالأفعال المملّكة، كالاحتشاش ونحوه.
5963- وإن جرينا على الأصح، وقلنا: لا يتملك العبد اللقطة دون إذن سيده، فمن أصحابنا من قال: لا يصح تعريفه دون إذن سيده أيضاً، وهذا غير سديد؛ فإنا إذا جعلناه من أهل الالتقاط، فالتعريف في معنى الالتقاط. نعم، إن قلنا: انقضاء التعريف يوجب حصولَ الملك، فيجوز أن يقال: لا يصح التعريف؛ فإنه لو صح، لاقتضى الملك. ويجوز أن يقال: يصح، ولا يقتضي الملك في هذه الصورة، كما لو عرف الملتقط، ولم يقصد التملك ابتداءً ودواماً.
5964- ومما يتم به تفريع التقاط العبد أن مدة التعريف إذا انقضت، ودخل وقت التملك، وليقع الفرض فيه إذا كان أذن السيد لعبده في التملك، فلو تلفت اللقطة في يد العبد أو أتلفها، فكيف الحكم؟ نُقدِّم على ذلك بيانَ هذا الحكم في حق الحر الملتقط الذي هو من أهل الالتقاط.
5965- فإذا عرّف اللقطة سنة، نُظر: فإن كان قصد بالالتقاط التملك بعد التعريف، ثم انقضت مدة التعريف، وهو على قصد التملك، والتفريعُ على أن مضي السنة لا يفيد التمليك، فإذا تلفت اللقطة قبل التملك، فهي مضمونة على الملتقط، بمثابة العين المأخوذة على سبيل السَّوْم.
ولو التقط أوّلاً على قصد الحفظ، ثم لم يغيّر قصده، وعرّف، فتلفت اللقطة بعد انقضاء التعريف، فهي أمانة؛ فإنّ قصد الأمانة اقترن بالابتداء، ولم يطرأ ما يناقضه.
ولو التقط، ولم يقصد تملكاً، ولا أمانةً، وعرّف على هذا الإطلاق أيضاً، ثم انقضت السنة، ولم يُحدث قصداً في التملك ولا في نفيه، فلو تلفت اللقطة، فيمكن أن يخرّج الضمان في هذه الحالة على القولين في أن الغالب على اللقطة حكمُ الأمانة أو حكم الكسب، حتى إذا قلنا: الغالب مقتضى الكسب يضمن اللقطةَ إذا تلفت، وإن قلنا: الغالب الأمانة لا يضمن.
هذا بيان حكم الضمان في حق الحر، ونقول بعده:
5966- العبد إذا كان مأذوناً في التملك، فإذا مضت سنةُ التعريف، فتلفت اللقطة في يده قبل أن يتملكها، وهو مأذون من جهة السيد في التملك، فإذا لم يتملك، وتلفت اللقطة، فالضمان يتعلق بذمة السيد، وذمة العبد، وهو كما لو أمر عبده حتى أخد عيناً على سبيل السوم، فتلفت في يد العبد، فالضمان يتعلق بالسيد من جهة صدور سبب الضمان عن إذنه.
هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذن السيد في هذا بمثابة إذنه في الغصب، ولو أذن لعبده، فاعتدى وغصب، لم يتعلق الضمان بذمة السيد، كذلك هاهنا.
والقائل الأول يقول: لو اشترى بإذن السيد، تعلّق الضمان بكسب العبد، وهو من ملك السيد، ويطالَب السيد بالثمن أيضاً إذا وقع المبيع ملكاًً له.
والأقيس أن الضمان في التالف المأخود على سبيل السوم لا يتعلق بذمة السيد.
فإن قيل: هلا علقتم الضمان بكسب العبد، كالثمن الذي يلتزمه بإذن مولاه؟
قلنا: إذا قال السيد، التزِم، فقد قال: أدِّ. وأقرب مصرف يحمل الأداء عليه مع بقاء العبد على حكم الرق الكسبُ، وإذا قال له: خد شيئاً مستاماً، فليس في هذا إذنٌ بالالتزام.
5967- ولو لم يصدر من السيد إذنٌ في التملك، وتلفت اللقطة في يد العبد بعد مضيّ زمان التعريف، فالمذهب أن القيمة تتعلق بذمة العبد يتبع بها إذا عتق، ولا يطالب السيد به أصلاً.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: تتعلق القيمة برقبة العبد؛ فإنها لزمت من غير معاملة صدرت من مالك العين، فكانت كأرش الجناية. وهذا مزيّفٌ، لا أصل له؛ فإن الشرع إذا سلّط على التملك بالعوض في وجهٍ ودخل وقتُه وأوانُه، كان ذلك بمثابة رضا المالك. والدليل عليه أن التملك يسوغ من غير إذن المالك تعويلاً على تسليط الشرع.
5968- ولو أتلف العبدُ اللقطة قبل التملك، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين:
أحدهما: أن القيمة تتعلق برقبة العبد لمكان الإتلاف، وإذا صادف الإتلاف ملكَ الغير، فموجبه يتعلق بالرقبة إذا كان المتلِف العبدَ.
والوجه الثاني- أن القيمة تتعلق بذمة العبد؛ فإن اللقطة وإن لم تتملك، فهي في حكم المتملّكة، وإذا اشترى العبد شيئاً شراءً فاسداً، وأتلفه، فالقيمة تتعلق بذمته؛ لأن البائع قد سلط المشتري على الإتلاف، وتسليطُ الشرع كتسليط البائع.
وقد نجز القول في العبد والتقاطه.
فرع:
5969- إذا التقط العبد، وقلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط، فلو أعتقه السيد واللقطة في يده، فعرّفها سنةً، فهل يملكها؟
ردّد الشيخ أبو حامد في هذه المسألة جوابه، ولم يفصّل فيها جواباً، ولكنه قال: المسألة محتملة، فيجوز أن يقال: إنه يملك في الصورة التي ذكرناها، ويجوز أن يقال: لا يملك استدامةً للحكم السابق.
وهذا التردد الذي ذكره رضي الله عنه قريبُ المأخد مما ذكرناه فيه إذا التقط الحرّ، ونوى الاختزالَ والخيانة، وقرن النية بالالتقاط، فلو عرّف، وأراد أن يتملك، ففيه خلاف ذكرناه، والعلم عند الله تعالى.
5970- فأما الفاسق إذا التقط، فطريق المراوزة فيه تخريجه على القولين في أن الغالب على اللقطة الأمانة أو الكسب؟ فإن قلنا: الغالب الأمانةُ، فالفاسق ليس من أهل الالتقاط، والعين التي أخذها مغصوبة في يده، ولو عرّفها لم يتملكها. وهذا فائدة قولنا: إنه ليس من أهل الالتقاط.
وإن قلنا: الغالب على اللقطة معنى الكسب، فالفاسق من أهل الالتقاط، وإذا عرّف، تملك.
5971- ثم ذكر المراوزة وجهين في أن اللقطة هل ينتزعها الوالي من يده، حتى تنقضي مدة التعريف:
أحدهما: أنه يفعل ذلك احتياطاً لمالك المال.
والثاني: لا ينتزعها من يده، ولكن يضم إليه من يراقبه، حتى إذا مضت المدة، انفرد بنفسه، واستقل بالتملك.
فإن قيل: إن لم يكن العبد ممن يؤتمن فالفاسق يجوز ائتمانه. ولو أودعه إنسان شيئاً، فتلف في يده، لم يلزمه الضمان.
قلنا: يتصور الإيداع عنده، ولكن الشرعَ لا يأتمنه، وحكم الأمانة في اللقطة ثابت شرعاً. وأيضاً الأمانة ممزوجة بحكم الولاية؛ فإن الملتقط يستقل بالالتقاط، من غير ائتمان، والفاسق ليس من أهل الولاية على هذا الوجه.
هذا طريق المراوزة.
5972- وأما العراقيون، فإنهم سلكوا مسلكاً آخر، فقالوا: الفاسق إذا التقط، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه يُخرِج القاضي اللقطةَ من يده.
والثاني: لا يخرجها من يده. ولكن ينصب من يشارفه حتى لا يضيعها.
5973- ثم قالوا على القولين: إذا عرّف وتحقق تعريفه؛ فإنه يتملك اللقطة، فقطعوا القول بأن الفاسق من أهل تملك اللقطة، وردّدوا القول في إزالة يده.
وهذا يخالف طريقَ المراوزة. وما ذكروه منقاس حسن، فإنه إذا أمكن إجراء الأمانة دون الفاسق، مع تبقية حقه في الكسب، فلا وجه لمنعه من الاكتساب.
وليس الفاسق في هذا كالعبد؛ فإن العبد ليس من أهل الاكتساب لنفسه، فيبعد أن يكتسب بالعوض لسيده، فكان الكلام في العبد على نسق آخر.
5974- ويجوز أن يقول من يسلك طريق المراوزة: الفاسق لو تملك اللقطة، لتملكها بالعوض من غير رضا مالك اللقطة، وهو ليس موثوقاً به، ولم يصدر من المالك رضاً بذمته، فيتجه خروجه عن هذا النوع من الاكتساب، مع أن إجراء الأمر في اللقطة مأخود من أوّله، والغالب على أول اللقطة الأمانةُ، وقد أوضحنا أن الفاسق ليس من أهلها.
5975- فأْما المكاتب، فقد قال أئمتنا: إن غلَّبنا معنى الكسب، فالمكاتب من أهل الالتقاط، ثم يستبد بالتعريف، والتملكِ بعد مدة التعريف، ولا شك أنه يتملك لنفسه.
وإن قلنا: الغالب الأمانة، فلا يلتقط المكاتَب، وإذا التقط، كان غاصباً، ولا يتملك في العاقبة.
والمكاتب وإن كان موثوقاً به، ويجوز الإيداع عنده. فليس من أهل الولاية، وقد أوضحنا أن الالتقاط فيه شَوْبُ الولاية.
وربما كان يقول شيخنا: المكاتب مرتب على القِنّ، وهو أولى بأن يكون من أهل الالتقاط.
والعراقيون قطعوا بأن المكاتب إذا التقط؛ فإنه يتملك اللقطة قولاً واحداً.
والقولان في أن اللقطة هل تبقى تحت يده أم لا؟ على القياس الذي قدموه في الفاسق.
وما ذكروه من القطع بأنه يتملك متَّجهٌ، لأنه موثوق به، وهو من أهل الاكتساب.
وما ذكروه من القولين في إزالة يده فيه بعدٌ، مع القطع بأنه يتملك، وهو موثوق به، فإن قيل: تزال يده في قولٍ لما ذكرت من شَوْب الولاية، فلا وجه للقول الآخر الذي ذكروه من أن القاضي ينصب عليه من يشارفه، فإن هذا إن اتجه في الفاسق من جهة سقوط الثقة به، فلا اتجاه له في المكاتب الموثوق به، فالوجه أن يقال: تزال يده على قولٍ وتترك اللقطة تحت يده على قولٍ من غير مشارفةٍ ونصب مراقبٍ، فقد تبين من أصل العراقيين أن الفاسق، والمكاتَب من أهل تملك اللقطة قولاً واحداً، لمّا كانا من أهل الاكتساب. والتردد في العبد القِنّ، كما ذكرناه.
5976- وأما الصبي، فهو من أهل الاكتساب، ولكنه ليس من أهل التملك بنفسه، فيجوز أن يوافق العراقيون فيه المراوزة في تخريج القولين في أن ما التقطه الصبي هل يتملكه؟
5977- فأما من نصفه حر، ونصفه عبد، فقد قال أئمتنا: هو بمثابة المكاتب؛ فإن له على الجملة استقلالاً بسبب حرية نصفه كالمكاتب.
وهذا فيه نظر؛ فإن الرق الذي فيه كامل، وإذا كمل الرق، ضعف التصرف فيما يقابل الرق، وإذا تحقق ذلك في بعض الملتقَط، عم جميعه؛ فإن التقاط البعض الذي يضاف إلى الحرية غيرُ ممكن؛ إذ من ضرورته لقطُ الكل.
5978- فإن قلنا: إنه من أهل الالتقاط، فلا يخلو إما أن يكون بينه وبين مالك الرق منه مهايأة، وإما ألا يكون بينهما مهايأة، فإن لم تكن مهايأة، فاللقطة إذا ملكت، تقسطت على النصف الحر، والنصف الرقيق.
وإن كانت مهايأة فاللقطة من الأكساب النادرة، وقد اختلف الأصحاب في أن الأكساب النادرة هل تدخل تحت المهايأة؟ فإن قلنا: إنها لا تدخل تحت المهايأة، فالملك فيها يقع منقسماً.
وإن قلنا: إنها تدخل تحت المهايأة، فالنظر إلى النوبة، فإن وقع ما هو المعتبر في نوبة السيد، فالملك في اللقطة له، وإن وقع في نوبة من نصفه حر، فالملك له.
5979- وفحوى كلام الأصحاب يدل على أن الاعتبار فيما ذكرناه بما بعد سنة التعريف، وفي كلام بعض المحققين ما يدل على أن الاعتبار بيوم الالتقاط؛ فإنه المستند، وهذا فقيه حسن.
فلو وقع الالتقاطُ في نوبةٍ، وانقضاءُ سنة التعريف في نوبة أخرى، فللتردد في ذلك مجال.
والأصل عندي القطع بأن الالتقاط لا يدخل تحت المهايأة؛ فإنه ليس اكتساباً محضاً، وإنما هو في حكم استقراض، وإنما يقع هذا بجملته.
هذا منتهى القول فيمن يكون من أهل الالتقاط، وفيمن لا يكون من أهله.
فرع:
5980- ذكر العراقيون وجهين في أن الذمي هل يكون من أهل الالتقاط في دار الإسلام، والذي قطع به أئمتنا أنه من أهل الالتقاط؛ فإنه أمينٌ مكتسب.