فصل: فصل: جامع فيما يجوز التقاطه، وما لا يجوز التقاطه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: جامع فيما يجوز التقاطه، وما لا يجوز التقاطه:

5981- فنقول: إذا وجد الرجل مالاً ضائعاً، لم يخل إما أن يجده في الصحراء أو يجدَه في العمران.
فأما إذا وجد في الصحراء، فلا يخلو: إما أن يكون الموجود حيواناً، أو غير حيوان. فإن لم يكن حيواناً، لم يخل: إما أن يكون مما يتسارع إليه الفساد، أو لا يكون كذلك.
فإن كان مما يتسارع إليه الفساد كالطعام، وما في معناه، يأكلْه على مكانه، ولا نكلفه التعريف؛ فإنه غير ممكن في الحال، ولو ترك الطعامَ، ولم يأكله، لضاع، وسبب الأمر بالتعريف فيما لا يفسد التسبب إلى ظهور مالك اللقطة، ليأخذها قبل أن تملك عليه، فإذا كان التعريف يؤدي إلى إفساد المال، استحال اشتراط تقديمه.
ثم إذا أكل الطعام، فهل يجب عليه التعريف بعد الاكل؟
فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجب عليه، فإنَّ وَضْع التعريف في الشرع أن يقدّم على التصرف في اللقطة، فإذا تقدم التصرف، وفاتت العين، فالتعريف خارج عن وضعه، ويشهد لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما سئل عن الشاة يجدها الواجد، فقال: "هي لك، أو لأخيك، أو للذئب " ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم لإيجاب التعريف، والطعام في معنى الشاة، وأيضاً التعريف في المضْيعة لا يفيد، والطعام مما لا يطلب في الغالب، فإذا تقدم الأكل ولم يُفد التعريفُ في مكان الوجود، وبَعُد العثور على صاحب الطعام في بلدةٍ سيصل إليها، فاجتماع هذه
الأسباب يُسقط التعريف.
والوجه الثاني- أنه لابد من التعريف؛ فإنه لو تركه، وقد أكل الطعام، كان في حكم الكاتم المُغَيِّب لملك الغير. وهذا بعيد.
5982- فأما ما لا يتسارع إليه الفساد، فلابد من تعريفه سنةً أوّلاً.
وسبيل تعريفه ما ذكرناه في فصول التعريف، فيبتدىء التعريف إذا انتهى إلى البلدة التي يقصدها، وقد قدمنا تفصيل ذلك.
5983- فأما الحيوان إذا وجد في الصحراء، فلا يخلو إما أن يكون مما يمتنع عن صغار السباع كالإبل، والبقر، والخيل، والبغال، والحمير، فلا يجوز التعرض لها. والدليل عليه حديث زيد بن خالد، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله متبعٌ، وفيه مَقْنع، ولعل المعنى أن هذه الحيوانات لا يطرقُها الطارقون في الصحارى إلا على الندور، وهي ممتنعة من صغار السباع، ويندر انتهاءُ كبار السباع إليها، كالأُسْد والنمور، وكأنها ليست ضائعة، وقد يخطر للإنسان أن الحُمر ضعيفة لا تمتنع عن الذئاب، ولكن الأصحاب مجمعون على إلحاق الحُمر بالحيوانات الممتنعة عن صغار السباع.
5984- وأما الحيوانات التي لا تمتنع عن صغار السباع، كالغنم، والفُصلان، والعجاجيل، وما في معانيها، فواجدها يأخذها. والأصل فيها قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الشاة: "هي لك، أو لأخيك، أو للذئب"، ثم لواجد الشاة الانتفاعُ بها في الحال، والقول في التعريف بعد الانتفاع بها، على ما قدمناه في الطعام الذي يتسارع إليه الفساد، وسيأتي في ذلك فضل بيان في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى.
5985- فأما ما لا يؤكل من صغار الحيوانات كالجحش، فكيف السبيل فيه؟ وقد وجده من وجده في الصحراء؟ الأصح أنه لابد من تعريفه سنة، بخلاف الشاة؛ فإنها ملتحقة بالمطعومات، والعاثر على الجحش لو كان يستديمه، فهو مما يبقى، وإن كان يعسر استدامته، فلا طريق إلى الانتفاع به.
ومن أصحابنا من ألحقه بالغنم، وجوز تملّكه في الحال، واستدل عليه بأن تعهده بالعلف مما لا تسمح به الأنفس من غير تملكه، وفي منع تملكه في الحال تضييعُه وتركُه بالعراء في مضيعة الصحراء، وأصل اللقطة أُثبت محافظةً على الأموال أن تضيع. هذا قولنا فيما يوجد في الصحراء.
5986- فأما ما يجده الإنسان في العمران؛ فإنه ينقسم على حسب ما ذكرناه في الصحراء، فمنه ما ليس بحيوان، ومنه الحيوان.
فأما ما ليس بحيوان، فينقسم إلى ما يتسارع إليه الفساد، وإلى ما لا يتسارع إليه الفساد.
5987- فأما ما لا يتسارع إليه الفساد، فهو اللقطة التي سبق وصفها، وسبيلها أن تُعرّفَ سنةً، كما تقدم.
ثم القول في السبب المملك ما ذكرناه.
5988- فأما ما يتسارع إليه الفساد كالطعام، فهل يجوز لمن يجده أن يبتدر أكله إذا كان بيعه ممكناً؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه يأكله، وفي بعض الكتب أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيمن وجد طعاماً: "أكله، ولم يعرّفه".
والقول الثاني- أنه لا يأكله، بل يسعى في بيعه، ثم إن كان في الموضع حاكم، فرفعت القصة إليه، وباع الطعام، فلا كلام.
وإن أراد الملتقط أن ينفرد بالبيع مع القدرة على مراجعة الحاكم، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه لا يبيعه؛ فإن التصرف بالبيع في الأموال التي غاب عنها ملاكُها إلى الحكام.
والوجه الثاني- أن الملتقط ينفرد ببيعها، كما ينفرد بأخذها وتعريفها وتملكها، والسبب في ذلك أن الشرع أثبت له التصرفَ في اللقطة على الموضوعات المعلومة في الشريعة.
التفريع:
5989- إن حكمنا بأن واجد الطعام يأكله، فالأصح أنه يجب عليه التعريف، بخلاف ما لو وجد الطعام في الصحراء؛ فإن التعريف في المفازة عسرٌ، غيرُ مجدٍ، وإذا استأخر التعريف بَعُد العثور على مستحق الحق، والأمر في العمران على خلاف ذلك.
ثم إذا أوجبنا التعريف، فالتعريف يعتمد ذكرَ بعض أوصاف الطعام؛ فإنه المعرَّف، وبذكره يتوقع العثور على مالكه.
5990- ثم هل يجب على معرِّفه أن يميِّز قيمته من ماله، حتى يقع التعريفُ، والقيمةُ مُمَيَّزَةٌ؟ فعلى وجهين معروفين: أطلقهما الأصحاب: أحد الوجهين- أن ذلك واجب، لتقومَ القيمة مقام المقوَّم، ويصادفَ التعريفُ كائناً موجوداً خلفاً عن العين المستهلكة.
والوجه الثاني- أن ذلك لا يجب، ولكن يعرِّف من يعرف، والقيمةُ في ذمة من استهلك الطعام.
وقال أئمة العراق: التعيين في القيمة والتمييز من سائر أملاك الملتقط موجَبُه أن القيمة لو تلفت في مدة التعريف، كان تلفها على حكم الأمانة، وكان ينزل منزلة تلف العين المعرَّفة، لو كانت باقية، حتى تلفت في مدة التعريف.
5991- وهذا فيه بعض الخبط، وسببه شيئان:
أحدهما: إطلاق الأصحاب لذكر القيمة وتمييزها، وهذا يجرّ إشكالاً في التصوير. والآخر- ضعفُ الوجه.
أما التصوير، فوجه الغموض فيه أن الملتقط المستهلك للطعام لو ميز قيمة الطعام في قصده فعيَّنها في تقديره، فهذا ليس بشيء، وليس هو التعيين الذي ذكره الأصحاب؛ فإن القيمة لا تتعين بمثل هذا من غير فرض يدٍ قابضة عن المتلِف الملتزِم، والذي أراده الأصحاب بالتعيين ما ذكره الصيدلاني، وكلُّ واقفٍ على المراد من هذا الفصل، قالوا: حقٌّ على الملتقط أن يسلّم القيمةَ إلى القاضي أو إلى نائبه، ثم يكون القاضي بمثابة يد المستحِق في إفادة التعيين، وتفرض القيمة من طريق التقدير مملوكةً لمالك الطعام، ثم إذا فرضنا تلفَ القيمة في مدة التعريف، فيكون تلفُها بمثابة تلف العين المعرَّفة في مدة التعريف، إذا كانت باقية.
هذا بيان ما يتعلق بالتصوير.
5992- أما ضعف الوجه، فلا شك فيه، فإن التزام القيمة من غير طالبٍ ومطالَبٍ بها في اللقطة بعيد، وليس في تمييزها احتياط لمالك الطعام؛ فإن تبقية الطعام في ذمة الملتقط المستهلك للقطة أحوطُ لمالك اللقطة، من تعريض حقه للسقوط بتقدير تلف القيمة.
ثم الأصحاب قالوا في التفريع على تمييز القيمة: القيمة قائمة مقام العين، وليست مملوكة في الحقيقة لمالك اللقطة.
والقدر الذي ذُكر في ثبوت حكم التعيين ما صرح به العراقيون، إذ قالوا: لو أفلس الملتقط، وظهر مالكُ الطعام، فهو أولى بالقيمة المميَّزة على الصورة التي ذكرناها، يستبدّ بها ولا يضارب الغرماء. وهذا فيه بُعدٌ، وسببه أنه مفرّعٌ على وجه بعيد.
5993- ثم الذي أراه في ذلك أن يتملك صاحب الطعام إذا ظهر القيمةَ المميَّزةَ له، ويكون أولى بتملكها بحق التعيين السابق، ولو لم يتملكها، وأعرض عنها، لم يكن إعراضه عنها كإعراض المالك عن ملكه، وتمكّنُه من التملك فيها بمثابة تمكن البائع من الرجوع إلى العين المبيعة بطريق فسخ البيع، ولم يكن المبيع ملكاًً له حالة الإفلاس، ولكنه أوْلى به من الغرماء، كذلك القول في القيمة.
5994- ولو انقضت السنة على شرط التعريف، والقيمةُ المميَّزةُ متروكةٌ في يد الحاكم، أو في يد من عينه الحاكم مبقَّاةٌ على حق مالك اللقطة، فإن لم يظهر، ولم يظهر المالك، وتلفت القيمة، سقطت العهدة بالكلية عن الملتقط المستهلك.
ولو لم يكن في الناحية حاكم، فأراد الملتقط بسلطان الالتقاط أن ينصّب نائباً عن مالك اللقطة، ويسلم القيمة إليه، فيُنزله منزلة الحاكم لو كان. هذا فيه احتمالٌ، كما ذكرناه من الاختلاف في أن الملتقط هل يملك بيع الطعام، إذا فرعنا على أنه يباع؟ ثم هذا الاحتمال يجري، وإن كان في الناحية حاكم، غيرَ أن البقعة إذا شغرت عن الوالي، والتفريعُ على وجوب البيع، فالملتقط يبيع وجهاً واحداً.
وإذا فرضنا خلوَّ المكان عن الوالي، فلا يجري إنفاقٌ على ملك الملتقط و نصب نائبٍ عن مالك اللقطة حتى يقبض القيمة التي يعتمدها التعريف، بل الأمر محتمل مشكل في ذلك؛ فإن ملك بيع مال الغير أمرٌ مفهوم، وتمييز القيمة، ونصب من يقبضها عن مالكٍ مجهول، كلام فيه اضطراب بيّن. وإنما يظهر بعض الظهور إذا صدر قبضُ القيمة من والٍ ينوب عن الملاك الغُيَّب، وإن كانوا مجهولين.
هذا منتهى القول في ذلك.
5995- ولو عين القيمة على الوجه الذي يصح، ثم أراد إبدالها، لم يكن له ذلك، وامتناع الإبدال من أول آثار التعيين الذي يهتدى إليه. فأما إذا قلنا: بأن الطعامَ يباع، وأمكن بيعه فنحصِّل ثمن الطعام أولاً، ثم نفرض ابتداء التعريف، فإذا مضت سَنةُ التعريف، تملَّك الملتقط الثمنَ، ولو تلف الثمن في مدة التعريف، كان أمانةً، ثم الثمن يسلّم إلى الملتقِط إذا كان من أهل الالتقاط، كما تُبقَّى اللقطة في يده لو كانت اللقطة مما لا يتسارع الفساد إليها.
هذا كله إذا لم تكن اللقطة حيواناً.
5996- فأما إذا كانت حيواناً، وصادفها، وأخذها في أثناء العمران، من القرى والبلدان، فقد جمع صاحب التقريب ثلاثة أوجه للأصحاب:
أحدها: أنه لا يأخد الحيوان واجدُه، فإنه ظاهر ليس عرضة للضياع. وإنما يثبت حق الالتقاط في متعرَّض للضياع.
وهذا القائل لا يفصل بين الكبار من الحيوانات التي منعنا التقاطها في الصحراء، وبين الصغار منها، وأجرى الجميع في منع الالتقاط مجرى الكبار في الصحراء.
والوجه الثاني- أن الواجد يلتقط ما يجد من الحيوانات في العمران، من غير فرق بين الكبار وبين الصغار؛ فإن جميعَها عرضةٌ لأخد الآدميين، واحتوائهم، وإذا أمكن اختزالها وتقدير تغييبها، فالكل بمثابةٍ واحدةٍ، وليس كذلك الصحارى؛ فإن طروق الآدميين فيها نادر، والحيوانات منقسمة بالإضافة إلى السباع، كما تقدم، وإمكان التغييب يعمّ في العمران الصغارَ من الحيوانات والكبارَ.
والوجه الثالث: أن واجدَ الحيوان يلتقط في العمران ما يلتقطه في الصحراء، ولا يلتقط ما يمتنع عليه التقاطه في الصحراء؛ تمسكاً بظاهر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
5997- ثم ذكرنا في صغار الحيوانات إذا صادفها واجدُها تفصيلاً، وقسمناها إلى المأكول، كالشاة وإلى ما لا يؤكل كالجحش، فالشاة إذاً ملحقة بالطعام، وقد مضى التفصيل في الطعام في العمران. وفي الجحش، وما لا يؤكل التفصيلُ المقدم.
ومن سَلَّط على تعجيل التملك فيه، فسببه تعذر العلف.
والرأيُ الظاهر أنه لا يتملكه قبل التعريف، فإنا ألحقنا الشاة بالطعام للخبر، ومن رأى تعجيل التملك لضرورة العلف لا يصير إلى هذا المذهب في الحيوان الكبير، إذا فرّعنا على جواز التقاطه في العمران، فإنه يصير إلى ما يصير إليه لمشابهة الصغير الشاةَ في الضعف، وعدمِ الاستقلال.
5998- ثم إذا التقط حيواناً، فلا خلاف أن مؤنة علفها لا تكون على الملتقط، وإنما هي على مالك اللقطة، ثم الوجه في تحصيلها بيعُ جزءٍ من الحيوان، وصرفُ الثمن إلى العلف، وسائر المؤن، فإن تمكنا من رفع الأمر إلى قاضٍ، فعلناه، ثم إنه يفعل ذلك فعلَه لو كان يريد إمساك بهيمةٍ على مالكها.
وإن لم نجد حاكماًً، تولّى الملتقط ذلك بنفسه، ولو أراد أن يتولاه مع وجود الحاكم، ففيه الوجهان اللذان سبق ذكرهما.
وكان شيخي يقول: يجوز أن تُلحِق ضرورةُ العلف وتوقعُ مسيس الحاجة إلى أن تأكل الدابةُ نفسها- الدابة بالطعام الذي يتسارع الفساد إليه، حتى يباع ويَعْتُد ثمنُه، ثم يفرض التعريف على حسب ما فرعناه في بيع الطعام، وهذا حسن بالغ.
وقد نجزت معاقد الكلام على أصناف اللقطة في البقاع المختلفة.
5999- ومما يجب إلحاقه بخاتمة الفصل الكلامُ في الفرق بين القليل والكثير، وتصرف الأصحاب فيه، فنقول أولاً: القليلُ الذي لا يتمول لقلته، لا لخسته إذا صادفه الواجد، فأخذه، لا يتعلق به حكمٌ في تعريفٍ أو غيره. ولكن الواجد يختص به، وهذا كالزبيبة يجدها، وما في معناها، وقد ذكرتُ في آخر كتاب البيع ما يجب اتباعه فيما يتموّل، وما لا يتمول، ويمكن أن يطرد في ذلك لفظان:
أحدهما: الانتفاع، وكل ما يقدّر له أثر في النفع، وموقعٌ في هذه الجهة، فهو متموّل. وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع، فهو لقلته خارج عما يُتموّل. وهذا مما قدمته.
ويمكن أن يقال: المتمول هو الذي يفرض له قيمة عند غلاء الأسعار، والخارج عن التموّل هو الذي لا يفرض ذلك فيه.
6000- ثم ما لا يتموّل لا يصح بيعه، لا بما يتموّل ولا بما لا يتمول. وصاحبه الظاهر أولى به، فلا يزاحَم عليه، وله منع من يزاحمه.
ولو وهبه، فيظهر عندي تصحيح الهبة فيه، على معنى إحلال المتَّهِب محلَّ الواهب في الاختصاص. وهذا محتمل لا أقطع به.
وإذا كنا نذكر الخلاف في هبة الكلب، تعويلاً على حق الاختصاص، فلا يبعد إجراؤه فيما ذكرناه. ويسوغ أن يقال: الهبة في الكلب تعتمد إمكان الانتفاع به، ولا نفع فيما لا يتمول، فيظهر إبطال الهبة.
6001- ولو أتلف متلفٌ المقدار الذي لا يتمول، وكان جنسه من ذوات القيم، فلا شيء على المتلف، كسلك من ثوب.
وإن كان المتلَف من ذوات الأمثال، فقد ذكر بعض الأصحاب خلافاًً في أنه هل يضمن له مثلَ ما أتلفه. ويخرّج عليه التردد الذي ذكرناه في الهبة، والأظهر إبطال الهبة، ونفيُ غرامة المثل.
6002- فإن أخذ الملتقط ما لا يتموّل، استبد به، ولا تبعة في الحال؛ فإن ما يقتضيه سلطانُ الالتقاط يزيد على ما ذكرناه.
6003- فأما إذا كان الشيء المصادف متموَّلاً، ولكن عُدّ يسيراً، فللأصحاب فيه تردد، نأتي به على وجهه، ثم بيان القول فيه يبين آخراً.
فإذا وجد الملتقط شيئاً يسيراً متموّلاً، فمن أصحابنا من قال: هو كالكثير في جميع الأحكام، فلابد من تعريفه سنة؛ فإن أحكام الأموال في هذه المنازل لا تختلف بالقلة والكثرة إذا كان الشيء مما يتمول.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب تعريف الموجود سنة كاملة.
وهذا فيما ذكره الأصحاب ظاهرُ المذهب. ووجهه أن الشيء الخطير لا يبعد توقُّع طلبه في مدة السنة، والشيءُ الحقير قد ينعكس عليه فاقده على قربٍ، فإن لم يجده بَعُد دوامُ الطلب فيه المدةَ الطويلة، هذا حكم العرف.
فإن قيل: فلا توجبوا التعريف أصلاً؛ فإن الحقير قد لا يطلب. قلنا: لا يمكن الحكم بهذا على طبقات الخلق، فإن فيهم من يرجع على طلب ما نعتقده حقيراً.
فإن قيل: هلا أوجبتم التعريف سنةً؛ إذ في الناس من يطلب ما نراه حقيراً مدة طويلة؟ قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فإن طبقات الناس على خلاف المراتب يستوون في ترك إدامة الطلب في الحقير الذي لا يؤثر العاقلُ التعبَ الكثيرَ في طلبه، ثم لهذا السؤال صار صائرون إلى وجوب التعريف سنة على ما قدمناه.
6004- فإن قيل: إذا لم تُوجبوا التعريف سنة، فما المعتبر عندكم؟ وقد أوجبتم أصل التعريف؟ قلنا: الذي تلقيناه من كلام الأصحاب في ذلك تحصره أوجه:
أحدها: أن مدة التعريف ثلاثة أيام. وهذا تقريب لا بأس به. وفي بعض التصانيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من التقط لقطة يسيرة، فليعرّفها ثلاثة أيام». وهذا إن صح معتمدٌ ظاهر.
ومن أصحابنا من لم يقدّر في ذلك مدة، وقال: تعرف مدة يُظن في مثلها رجوعُ الفاقد على ذلك المفقود، وهذا يختلف باختلاف أقدار ما يندرج تحت اليسير.
وهذا وإن كان مستنداً إلى فقه الفصل، فهو كلام مبهم، لا يكاد يتحصل. ثم عبر الأئمة عن هذا، فقالوا: يعرّفه يوماً، أو يومين، ومنهم من قال: وأكثره ثلاثة أيام.
ومن أصحابنا من رمز إلى أنه يكفي فيه التعريف مرة واحدة على شرط الإظهار.
وهذا في نهاية الحسن؛ فإن هذا القدرَ يكفي في إخراج اللقطة عن حيز ما يُكتم؛ فإنه لا ضبط بعده لمدة تذكر.
وهذا إنما يتجه لو لم يصح الخبر الذي ذكرناه.
6005- فإن قيل: لم تذكروا ضبطاً يُتمسك به في الفصل بين الحقير والخطير؟ قلنا: ذكر أولاً بعض المصنفين في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحقير ما دون نصاب السرقة؛ فإن ما دون ذلك تافه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "كانت الأيدي لا تقطع في المال التافه، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا وجه.
والوجه الثاني- أن التافه ما دون الدرهم؛ فإن ما ينقص عنه مما يستوي طبقات الخلق في الحكم بتحقيره، والدرهم التام قد لا يكون كذلك، ثم لا ضبط للهمم، فقد يستحقر الرجل المعظمُ المالَ العظيمَ في حق غيره.
والوجه الثالث: أن الدينار، فما دونه حقير، وقد روى من ذكر هذه الأوجه: أن علياً رضي الله عنه وجد ديناراً، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يستنفقه، ولم يأمره بتعريفه. وهذا لم أره في غير هذا التصنيف، وفيه إشكال وهو إسقاط أصل التعريف، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى إسقاط أصل التعريف، وإن قل مقدارُ الملتقَط.
وقد يتجه خروج ذلك إن صح الأثر على الاكتفاء بالتعريف مرة واحدة.
فإن قيل: لم يجر التعريف مرة واحدة؟ قلنا: ليس للتعريف لفظٌ يجب اتباعه، وإنما الغرض شهر الأمر وإظهار القصة، وهذا يحصل بمراجعة عليّ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الواقعة على رؤوس الأشهاد، وحكمه صلى الله عليه وسلم فيها.
وكان شيخي أبو محمد لا يضبط اليسير بمقدارٍ ويأبى أن يحتكم في التقدير من غير توقيف، ويقول: الرجوع في ذلك إلى ما يغلب على الظن أن مثله لا يطول من طبقات الخلق طلبه، وإن فُرِض طلبُ الفاقد له، فلا يتمادى أمدُ طلبه.
وهذا الذي ذكره حسن في طريق المعنى، وفَرْضُنا وراءه قائم في التقريب إن أمكن.
فرع:
6006- إذا صادف الإنسان كلباً منتفعاً به، فقد ذكر العراقيون: أنه إذا صادفه في العمران، وقلنا بالتقاط الحيوان فيه، فإنه يعرّفه، ثم يصير أولى من غيره.
ولست أرى الأمر كذلك؛ فإنه لا يتصور جريان الملك فيه، وأحكام الالتقاط تثبت فيما يملك، ثم يعسر التفريع على ما ذكروه؛ من جهة أن الملتقِط إنما يصير أولى باللقطة بعوضٍ يلتزمه، والكلب لا عوض له.
وإن قيل: يعتبر عوضه بمنفعته، فعوض المنفعة لا تتقدّر من غير فرض مُدّة، ثم يلزمهم طرد هذا في الأعيان النجسة المنتفع بها؛ فإنه يثبت فيها حق الاختصاص، والكلب نجس العين، فإن طردوا ما ذكروه في الأعيان النجسة، كان بعيداً.
فرع:
6007- من وجد لقطة في الحرم، فقد ظهر اختلاف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: لا سبيل إلى تملكها، واستدل بظاهر الحديث المشهور المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ ذكر الحرمَ، وتحريمَ الله تعالى له، وقال في أثناء كلامه: "لا يُنَفَّر صيدُها، ولا يُعْضَدُ شجرُها، ولا تَحِلّ لُقَطَتُها إلا لمنشد".
ومن أصحابنا من قال: من صادف لقطة في الحرم، عرّفها، وملكها على قياس اللقطة في سائر البلاد، وتأويل هذا الحديث عند هذا القائل قريب محتمل؛ فإنه يقول: قطع رسول الله صلى النه عليه وسلم وَهْمَ من يظن أن اللقطة في الحرم لا تعرّف أصلاً، وقد يظن ذلك ظانٌّ فيما يَلقى في المواسم إذا تفرق الحجيج مشرِّقين، ومغرِّبين؛ فإنه يبعد منهم أن ينعطفوا في طلب ما يفقدون، وقد مَدّت المطيُّ أعناقها، وأخذت أصوابَها، فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز ترك الإنشاد؛ حملاً على ما نبهنا عليه.
ويجوز للقائل الأول أن يقول: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمَ اللقطة في سياق ذكْرِه خصائص الحرم وما يتعلق به من تحريمٍ وتعظيمٍ، وليس في كلامه ما يشعر بالتعرض للمواسم ومزدحم الخلق. ثم هذا لا يختص بالحرم، بل يمكن فرضه في كل بقعة يجتمع عليها سَفْرٌ، ثم ينقلبون.
فصل:
6008- قد ذكرنا أصل الالتقاط وأنه واجب، أو مستحب، أو مباح، وقد تردد نص الشافعي في الإشهاد على الالتقاط، فدل بعضُ مجاري كلامه على إيجاب ذلك، وقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يجب الإشهاد، وهو مذهب أبي حنيفة، وفي بعض التصانيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من التقط لقطة، فليشهد عليها» وهذا إن صح متعلق قوي.
ومن أصحابنا من قال: الإشهاد احتياط، وهو غير واجب، وهو مذهب أبي يوسف، وتعليله أن الالتقاط تردد بين الأمانة والكسب، ولا يجب الإشهاد عليهما جميعاً، والخبر إن صبح محمولٌ عند هذا القائل على الاستحباب، كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282].
6009- ثم من أراد الإشهاد، ورآه مستحقاً أو مستحباً، فإنه لا يشترط وصف اللقطة بكمالها للشهود، أو إظهارها لهم؛ من قِبل أنه لو فعل ذلك، لم يأمن أن يجرّ ذلك لَبْساً، وخبلاً، بأن يذكر للشهود الوصفَ ويواطئوا شخصاً حتى يصف اللقطة ويدّعي الملك فيها، وهذا يظهر إذا قلنا: يجب ردّ اللقطة اعتماداً على الوصف، ولا نأمن أن يشهد أولئك له بالملك عن مواطأة؛ فإذاً الوجه الاقتصارُ على بعض الوصف.
ومن أصحابنا من قال: يكفي أن يُشهد على أنه وجد لقطةً من غير أن يتعرض لشيءٍ من الأوصاف. وهذا ساقطٌ عديمُ الفائدة. فإن قيل: أتحرّمون ذكرَ تمام الوصف، أم تكرهونه؟ قلنا: ما نرى الأمر ينتهي إلى التحريم في ذلك.
فرع:
6010- إذا التقط لقطة، فجاء إنسان، ووصفها بصفاتها، فإن غلب على الظن صدقُ الواصف، فله أن يسلّمها إليه. وظاهر المذهب أنه لا يلزمه التسليم، حتى يقيم البيّنة.
وإن لم يغلب على ظن الملتقط صدقُه، وجوز كذبَه مع الإحاطة بالأوصاف عن قرينةٍ، فلا ينبغي أن يسلمها إلى الواصف، وقد رأيت في هذا تردداً في جواز التسليم.
والظاهر عندي أنه لا يسلِّم ما لم يغلب على ظنه صدقُه، فلو سلمه إليه عند الغلبة، ثم ثبت أن المستحِق غيرُه، وأقام المستحِقُّ بينةً، فله أن يطالب من شاء، فإن طالبَ الآخد الواصفَ، وكانت العينُ تالفةً، وغرّمه القيمة، فلا يجد به مرجعاً على الملتقط.
ولو غرَّم المستحقُّ الملتقطَ، فلا يخلو إما إن كان أقر ابتداءً بالملك للواصف، أو لم يقر له، ولكن اقتصر على ظاهر الرد، فإن أقر له بالملك، لم يرجع عليه إذا غرِم؛ فإنه مُؤاخد بموجب إقراره المتقدم. وإن لم يقر بالملك لمن ردّ عليه، فإذا غرَّمه المستحِقُّ، رجع بما غرِم له؛ على المردود عليه؛ فإن قرار الضمان على من تلفت العين المضمونة في يده.
فصل:
6011- إذا انقضت سنةُ التعريف، وتملّك الملتقطُ اللقطةَ، فإذا ظهر مالكها، فهل يكون أوْلى بعين اللقطة؟
فيه اختلاف بين الأصحاب، ذكرنا مثله في القرض. فمن استقرض شيئاً، ولم يخرجه، ولم يتصرف فيه، فأراد المقرض الرجوعَ في عينه، وقال المستقرض: أردّ بدله، فهل يجاب المقرض إلى مُراده؟ فيه خلاف قدمتُه في موضعه.
ومأخذ الملك في اللقطة كمأخذ الملك في القرض، غير أن الاستقراض مبني على الإقراض، والملك يحصل في اللقطة من غير تمليك من مالكها، ثم إذا ظهر المالك، كان كحضور المقرض.
6012- ثم إذا عابت اللقطة بعد التملك، فإن قلنا: لا يملك الرجوع في عينها، فيطالِب بالبدل. وإن قلنا: يملك الرجوع في العين، فلو كانت عابت بعد التملك، كما ذكرنا، فإنه يسترجع العينَ، ويغرِّم الملتقطَ أرش النقص؛ فإن العين لو تلفت، لكانت مضمونة بقيمتها، فإذا عابت، كانت مضمونة بالأرش.
وإذا كنا نفرعّ على أنه أوْلى بعين اللقطة، فلو كانت سليمة، فأراد أن يطلب بدلَها، لم يجبه الملتقط إلى مراده، فإذا عابت، فقال: لست أستردها، وقد عابت، وأرجع إلى البدل، وقال الملتقط: بل أردُّ العينَ، وأغرَم أرش النقص، فقد ذكر الأئمةُ في هذا خلافاً: فمنهم من قال: ليس له إلا الرجوع في العين الناقصة مع أرش النقص.
ومنهم من قال: له الرجوع إلى البدل؛ فإن العيب قد لا يقف، ويسري.
ومن غصب عيناً فعابت في يده عيباً لا سريان له، فليس للمغصوب منه إلا استرداد العين، وتغريم الغاصب أرش النقص، وفي مسألتنا الخلاف الذي ذكرناه يتعلق بنقص يد ثابتةٍ شرعاً متعلقةٍ بحق في الاختصاص، فكان الخلاف لذلك.
فرع:
6013- قال صاحب التلخيص: من وجد بعيراً في الصحراء، فقد ذكرنا أنه لا يحل له أخذها. ثم استثنى من هذا مسألة، وهي أن يجد الرجل بعيراً في أيام منى ضالاً في الصحراء، وهو مقلَّد بما يقلّد به الهدايا، فظن الواجد أنه هديٌ شرد عن صاحبه. قال: نص الشافعي على أن له أن يأخذه، فإن خاف فوات أيام النحر، فله أن ينحره.
قال الشيخ أبو علي وأئمة المذهب: هذا الذي ذكره صاحب التلخيص، فهو مصدق في نقله. ولكن ذكر بعض أصحابنا قولاً آخر: إنه لا يأخذه، ولا يحل له أخذه؛ بناءً على ما ذكرناه من أنه لا يجوز التعرض لكبار البهائم في الصحراء.
وكان الشيخ القفال يُخرِّج هذين القولين على أن من وجد بدنة منحورة، ورأى ميسمَها قد غُمس في دمها، وضُرب به غاربها، فهل يحل له الأكلُ بناء على هذه العلامة، وعلى شعار الإشعار؟ والهدي المسوق إذا كاد أن يعطب، يُفعل به هذا؛ دَلالةً على أنه مأكول. ففي جواز الأكل اعتماداً على هذه العلامات قولان مذكوران في كتاب الحج، وله نظائر. كذلك الهدي المقلّد بما يقلد به الهدايا عليه العلامة، والظاهر أنه خُلِّف لانقطاعه عن المسير.
6014- والضحية المعيّنة لجهة التضحية إذا ذبحها في أيام الذبح من ظفر بها، وقعت مجزئةً، وإن لم يصدر الذبح عن إذن صاحبها.
وهذا فيه بعض النظر؛ فنا وإن حكمنا بأن التضحية وقعت موقعها ممن ليس مأذوناً فيها، فلا يجوز الإقدام عليها.
وصاحب التلخيص استثنى هذه المسألة وحكم فيها بجواز الأخذ والنّحر، كما وصفناه.
وهذا قد لا يشبه المنحور الذي على غاربه العلامة التي وصفناها؛ فإن تلك العلامة تثبتُ مسلّطةً على جواز الأكل منها، ولم يثبت في مسألتنا علامة تسلط على جواز الذبح، مع جواز أن هذه البدنة شردت عن الرفاق، وامتنع عليهم أن يلحقوها، فغاية الإمكان أن تُقدَّر أنها خُلِّفت، ولم تُنحر قصداً لضعفها عن المسير قبل أيام النحر.
فهذا منتهى الإمكان في ذلك، مع التنبيه على ما فيه.
6015- وقد يستثنى عن تحريم أخذ البدنة جواز أخذها على قصد الرد على مالكها. وهذا يخرّج على الوجهين اللذين ذكرناهما فيه، في أن من وجد مالاً ضائعاً، فأراد أن يأخذه محتسباً ليرده على مالكه، فهل له ذلك أم لا؟ وفيه الخلاف الذي مهدناه فيما تقدم.