فصل: باب: المستحاضات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: المستحاضات:

465- القول في المستحاضات، يتعلق بنوعين:
أحدهما- أن يُطبق الدم ولا ينقطع.
والثاني: أن ينقطع الدم، وهو التلفيق.
فأما النوع الأول: فالمستحاضات في التقسيم الأول: مبتدأة، ومعتادة.
فأما المبتدأة: فهي التي كما يبتديها الدم تُطبق الاستحاضة، وتتصل الدماء.
وهي تنقسم إلى مميزة، وغير مميزة.
والمعتادة: تنقسم إلى ذاكرة لعادتها قبل الابتداء بالاستحاضة، وإلى ناسية لعادتها، وهي التي تسمى المتحيرة.
والمعتادة الذاكرة: قد تنقسم إلى مميزة، وغير مميزة أيضاً. فإذاً المستحاضاتُ أربع:
مبتدأة مميزة.
ومبتدأة غير مميزة.
ومعتادة ذاكرة.
وناسية.
466- وقد نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أخبار في المستحاضات، فنصدر بها الباب.
فمما نقل عنه صلى الله عليه وسلم في المستحاضة المميزة، ما روي عن عائشة: أنها قالت: "سألت فاطمةُ بنت أي حُبَيْش رسول الله، وقالت: إني أُستحاض، فلا أطهر، فقال عليه السلام: «إنما هو عرق انقطع، إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي، وصلي» وفي رواية: «دم الحيض أسود له رائحة تعرف».
والخبر الثاني: في المعتادة، وهو ما روي أن امرأة سألت أمُّ سلمة لها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مستحاضة، فقال عليه السلام: «مُريها فلتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتدع الصلاة، فإذا خلّفت ذلك، فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلِّ» والخبر الثالث: ما روي أن حمنة بنت جحش استحيضت سبع سنين، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: «تحيّضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء، وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن».
فالظاهر أنها كانت مبتدأة، وقوله عليه السلام: «في علم الله» معناه: فيما علّمك الله من عادات النساء.
المستحاضة الأولى
467- فنبدأ بالمميزة المبتدأة، وهي التي طبق الدم عليها من أول الأمر، وكان يتميز لها دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفة، كما سنذكرها، ولا يمتنع عليها التمييز، بسبب من الأسباب.
468- ونحن نذكر ما جاء في صفة دم الحيض: روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنه أسود محتدم بحراني، ذو دفعات له رائحة تعرف» فأما الأسود، فلم يعنِ به أسودَ حالك، وإنما أراد به تعلوه حمرة مجسّدة، كأنها سواد من تراكم الحمرة. والمحتدم، أراد به اللذّاع؛ فإنه قد يلذع البشرة بحدّته، وهو يختص برائحةٍ كريهةٍ؛ ولذلك أُمرت إذا طهرت أن تتبع بفِرصةٍ من مسكٍ أثرَ الدم. واختلفوا في البحراني، فمعناه الصحيح أنه ناصع اللون، يقال: دم بحراني وباحريّ، إذا كان لا يشوب لونَه لونٌ. ودم الاستحاضة أحمر رقيق، ضارب إلى الشقرة في غالب الأمر.
فإذاً: دم الحيض أقوى لوناً ومتانةً من دم الاستحاضة.
469- فإذا كان يتميز الدم القوي عن الضعيف-وهذه مبتدأة، لم تسبق لها عادةٌ، واستمرارُ أدوارٍ قبل الابتلاء بالاستحاضة- فهي مردودة إلى التمييز، بشرط أنه يجتمع ثلاثة أركان:
أحدها: ألا ينقص الدم القوي عن أقل الحيض، وهو يوم وليلة، على ظاهر المذهب.
والركن الثاني- ألا يزيد الدمُ القوي على أكثر الحيض.
والثالث: ألا ينقص الدم المشرق الضعيف عن أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوماً.
فإن استجمعت هذه الأركان تحيضت في أيام الدم القوي. وهي المعنية بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة» ثم إذا أدبر الدم القوي، فهي الاستحاضة، فتغتسل وتصلي، وحدثها دائم، كما مضى أمرها مفصلاً.
فإن عدمت ركناً من هذه الأركان، فقد عجزت عن التمييز، فهي مبتدأة غيرُ مميزة، وسيأتي حكمها إن شاء الله عز وجل، متصلاً بحكم القادرة على التمييز.
470- ثم مما نمهده في أمرها قبل الخوض في التفريع، أنها في أول الأمر إذا رأت دماً قوياً أياماً، ثم ضعف الدم وتغيّر، وكل ذلك دون الخمسةَ عشرَ من ابتداء الدم؛ فإنا نأمرها في الشهر الأول بأن تتربص وتتحيّض في ظاهر الأمر، وتنظر ما يكون، فإن انقطع نوع الدم على الأكثر، وامتد بعده النقاء خمسة عشر يوماً، فجميع ما رأته من الدم حيضٌ، وإن كان بعضه ضعيفاً مشرقاً؛ فإنّ المرأة إنما تردّ إلى التمييز عند ضرورة الاستحاضة، فإن تربصت منتظرة لا تصوم ولا تصلي، والزوج معتزل عنها، كما سبقت أحكام الحيض، فزاد الدم على الخمسةَ عشرَ، فقد تبينت الآن أنها مستحاضة.
فنقول: بان لنا أن حيضك الدمُ القويُّ الذي رأيتِهِ في أول الأمر، فحكمك فيه حكم الحيض، وقد تقلَّبَتْ عن الحيض من وقت تغيّر الدم إلى الضعف والإشراق، فعليها أن تتدارك، وتقضي الصلوات التي تركتها في تلك الأيام.
471- وإذا مضى الدم المشرق، وبلغ خمسة عشر يوماً فصاعداً، ثم عاود الدمُ القوي، فإنها تتحيّض ثم إذا مضى في الدور الثاني أيامُ الدم القوي، واستحال ضعيفاً، فكما استحال تغتسل وتصلي، ولا تتربص كما تربصت في الشهر الأول؛ فإنها في الشهر الأول لم تعلم كونها مستحاضة، حتى زاد الزمان القوي والضعيف على الأكثر. وهي على بصيرة في الشهر الثاني بكونها مستحاضة.
فإن قيل: ستذكرون خلافاًً في أن العادة في المستحاضة المعتادة هل تثبت بمرّة واحدة، فهلاّ خرّجتم هذا الخلاف في تبيّن الاستحاضة، حتى تنتظر الشهر الثاني على وجه انتظارها في الشهر الأول، ثم لا تنتظر في الشهر الثالث وجهاً واحداً. قلنا: لما أطبق الدم عليها في الشهر الأول، فقد استيقنت أنها مستحاضة، ومما تحقق في الجبلة أن الاستحاضة من العلل المزمنة التي تدوم مدة مديدة غالباً؛ فوقع الاكتفاء لهذا بدور شهر.
وأما مقدار الحيض في القلة والكثرة، فقد يختلف ولا يطرد، وليس استقراره مقدار مرةً واحدة أمراً ظاهراً موثوقاً به. فقال قائلون: لابد من التكرار، فقد لاح الفرق.
على أنا سنذكر أن الأصح أن العادة تثبت بمرة واحدة- إن شاء الله عز وجل.
472- ثم إذا استمرت الاستحاضة، وتمكنت من التمييز، فإنها مردودة إلى اتباع الدم القوي والضعيف في أدوارها. فلو جاءها دور ورأت في أوله خمسة أيام دماً قوياً، وتحيّضت فيها، وضعف الدم بعدها، فاغتسلت، ثم انقطع الدم على الخمسة عشر وشُفيت، فقال الأئمة: تحيُّضها في هذا الدور خمسة عشر يوماً؛ فإنا تبينا أنها ليست مستحاضة في هذا الدور، وإنما يردّ إلى صفة الدم المستحاضةُ.
فصل:
473- حقيقة التمييز في الاستحاضة اتباعُ قوة الدم، وضعفه، مع وجود الأركان التي ذكرناها للتمييز، فإن كانت ترى دماً أسودَ أياماً، ثم دماً أحمر منطبقاً إلى آخر الدور، فهي مستحاضة في زمان الحمرة؛ فإن الأحمر بالإضافة إلى الأسود ضعيف.
ولو كانت ترى أولاً دماً أحمر، ثم بعد ذلك دماً أشقر مشرقاً إلى الصفرة، فهي حائض في أيام الحمرة، مستحاضة في أيام الشقرة؛ فإن الأحمر قوي بالإضافة إلى ما بعده من الشقرة.
والأمر يختلف في القوة والضعف بالنسب والإضافات.
فلو رأت خمسةً سواداً وخمسةً حمرةً، ثم شقرةً إلى آخر الدور، فالدمان الأولان قوتان بالإضافة إلى الشقرة بعدهما والحمرة ضعيفة بالإضافة إلى السواد المتقدم عليها، قويةٌ بالإضافة إلى الشقرة بعدها، ففي المسألة طريقان:
من أئمتنا من قطع بأن السواد والحمرة جميعاً حيض؛ لقوتهما، ولإمكان تقديرهما حيضاً.
ومن أصحابنا من ذكر وجهين في الحمرة:
أحدهما: أنها حيض؛ لقوتها بالإضافة إلى ما بعدها.
والثاني: أنها استحاضة؛ لضعفها بالإضافة إلى السواد المتقدم عليها.
474- ولو رأت خمسة سواداً، وأحدَ عشر حُمرةً قانية، واصفرّ الدم بعد ذلك، وأشرق وتمادى خمسة عشر يوماً فصاعداً، فاختلف أصحابنا في ذلك، فقال بعضهم:
السواد والحمرة جميعاًً بمثابة سوادٍ مطبقٍ بالغٍ ستة عشر يوماً، أو حمرةٍ مطبقة في هذه المدة، ولو فُرض كذلك، لكان الدم القوي زائداً على أكثر، فكانت هي فاقدة لما هو من أركان التمييز، مردودةً إلى ما ترد المبتدأة إليه إذا لم تكن مميزة.
ومن أصحابنا من قال: نحيّضُها في أيام السواد، ونُلحق الحمرة بدم الاستحاضة؛ لأنها اتصفت بنوعين من الضعف:
أحدهما: أنها ضعيفةٌ بالإضافة إلى ما قبلها، والثاني: وقع طرفٌ منها وراء الأمد الأكثر، فصارت من هذين الوجهين كالشقرة.
وكان شيخي يذكر الصورة الأولى: إذا لم يزد الزمان على اكثر، ويذكر الصورة الثانية: وهي إذا كان مجموعهما يزيدان على الأكثر. ثم كان يقول: اختلف أئمتنا في الصورتين. فمنهم من حكم بأن الدمين حيض إذا أمكن الجمع بينهما، وإن لم يمكن الجمع بينهما فوجهان:
أحدهما: أنها فاقدة لركن من التمييز.
والثاني: أنا نحيّضها في أيام السواد، ونحكم بأن الحمرة بعده استحاضة.
ومن أئمتنا من قال: إذا زاد الدّمان على الأكثر، فلتلتحق الحمرة بالشقرة وجهاً واحداً، وتحيُّضُها في أيام السواد، وإذا لم يزد الدّمان على الأكثر، فوجهان:
أحدهما- أنهما حيض والاستحاضة بعدهما.
والثاني: أن الحيض منهما السواد الأول، والحمرة استحاضة.
فهذا منتهى الغرض في التنبيه على وجوه اختلاف الأصحاب في هذا.
475- ومما نُلحقه بهذا: أن الاعتبار في القوة والضعف باللون المجرد في الدم، فليُفهم ذلك، وإن ورد في الخبر صفاتٌ أخرى سوى اللون، من أنه محتدم، ذو دفعات، له رائحة تعرف.
وقد قطع به الصيدلاني، وهو متفق علَيه في الطرق، حتى لو رأت خمسةً سواداً مع الرائحة المنعوتة، وخمسة سواداً بلا رائحة، فهما دم واحد وفاقاً، وكذلك لا نظر إلى المتانة والرقة والخثورة، وإنما المعتبر اللون فحسب، فليثق الناظر بذلك.
476- ولو رأت أولاً خمسة شقرة، ثم خمسةً سواداً أو حمرةً قانية، ثم شقرةً إلى آخر الدور، فالدم في أول الدور ضعيف، ولكن موضعه وأوليته قد تقوِّيه في ظن الفقيه، والدم الثاني قوي في صفته، ولكنه متأخر عن وقته المعتاد غالباً، فاضطرب الأصحاب لذلك.
وأنا أرى أن أرسم صوراً، وأذكرَ مذاهب الأصحاب فيها، ثم أختمَها بما يضبط مأخذ الطرق.
477- صورة: فإذا رأت أولاً خمسة شقرة، ثم خمسة سواداً، ثم استمرت الشقرة، ففي هذه الصورة وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه يتبع الدم القوي على ما يوجبه التمييز، فنحيّضُها في الخمسة الثانية، ونجعل الخمسة الأولى دم فساد سابق على أول الدور، وهذا قياس التمييز.
والوجه الثاني: نحيّضُها في الخمسة الأولى والثانية جميعاًً، أما الخمسة الثانية، فإنها على نعت الحيض وقوته، وأما الأولى فمتقوية بالأولية، والغرض اتباع القوة، والجمع بينهما جميعاًً ممكن.
وحكى المحاملي في (الوجهين والقولين) وجهاً ثالثاًً، من أجوبة ابن سُريج: وهو أنها فقدت التمييز في الصورة التي ذكرناها؛ فإن النزول عن أول الدور بعيد، فهذه مبتدأة لا تميز، فتردّ إلى أقل الحيض، أو غالبه، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
478- صورة أخرى تماثل التي سبقت: إذا رأت خمسة أولاً شقرة، وعشرةً سواداً، ثم استمرت الشقرة، ففي وجه: حيضُها السواد في العشرة.
وفي وجه: تحيّضُها خمسةَ عشرَ يوماً؛ فإن الجمع بين الأوّلية وقوة الدم ممكن.
وفي الوجه الثالث الذي حكاه المحاملي: هي فاقدةٌ للتمييز.
479- صورة أخرى: إذا رأت خمسة شقرة، وأحد عشر سواداً، فقد تجدد في هذه الصورة أمرٌ آخر، وهو أن الجمع بين الأولية والسواد متعذر في هذه الصورة؛ فإنا لو فعلنا ذلك، لزادت الحيضة على الأكثر، فأما من يتبع السواد فيُحيّضها في الأحد عشر الذي فيه السواد، ومن يجعلها فاقدةً في الصورتين السابقتين، فهذا ظاهرٌ في هذه الصورة. وأما من يحاول الجمع بين الأولية وقوة الدم-وقد تحقق تعذّر ذلك- فالمذهب الظاهر أنها فاقدةٌ للتمييز.
وذكر شيخي عند تعذر الجمع في كتاب الحيض من تصنيفه، الذي ترجمه بالمحيط وجهاً غريباً، وهو أن من الأئمة من يحيِّضها في الخمسة الأولى، وإن كانت شقرة؛ نظراً إلى الأولية. وتغيُّر الدم إلى السواد، في هذه الصورة عند هذا القائل، كتغير الدم القوي إلى الضعيف.
وهذا الوجه هفوة لا أراه، ولا أعده من المذهب.
480- صورة أخرى: إذا رأت خمسةً شقرة، وستة عشر يوماً سواداً، فمن اتبع الدم الأسود لا يمكنه أن يُحَيِّضَها في أيام السواد، وإذا تعذّر ذلك، فلا شك في تعذر الجمع، فلا ينقدح في هذه الصورة إلا المصير إلى أنها غيرُ مميزة، ويأتي فيه الوجه الذي ذكره في المحيط، وهو أن نحيّضها في الخمسة الأولى.
وهذا غلط.
48-فآل محصول المذهب إلى أن من الأصحاب من يتبع الدم القوي متى فُرض.
ومنهم من يحاول الجمع بين الأولية والدم القوي إن أمكنه، وإن تعذّر الجمع، جعلها فاقدة للتمييز.
ومنهم من يُسقط التمييز، وإن أمكن تقدير الجمع من جهة الزمان.
فرع:
482- ولو رأت المبتدأة في الشهر الأول خمسة عشر يوماً شقرة، وكنا نأمرها بالترّبص، فلما انتصف الشهر، ابتداً السواد، فرأت خمسة عشر سواداً، فلا يكاد يخفى تفريع هذه الصورة، ولكن من يتبع قوة الدم، يأمرها بترك الصلاة، في النصف الثاني من الشهر. فهذه امرأة على هذه الطريقة أُمرت بترك الصلاة شهراً، أمرت به في النصف الأول للانتظار، ثم إنها تستدركه، وأمرت بترك الصلاة في النصف الثاني لقوة الدم على المذهب الذي نفرع له، ثم إن زاد الدم القوي على الأكثر، فهي غير مميزة؛ فنردّها بعد انقضاء الشهر والزيادة إلى ما تردّ المبتدأة إليه.
فصل:
483- قد تستفيد المرأة عادة من التمييز، فترجع إليها عند تعذر التمييز، وبيان ذلك أنها إذا كانت ترى خمسة سواداً، وباقي الشهر شقرةً، ثم أطبق السواد، وأطبقت الشقرة، وعسر التمييز، فهي مردودة إلى الخمسة التي كانت تتحيّض فيها.
بحكم التمييز.
وذلك واضح لا خفاء به.
فصل:
484- المردودة إلى التمييز إذا تغيّر دمها القوي إلى الضعيف على وجدان أركان التمييز، فكما يتغير، تغتسل وتستفيد أحكام الطاهرات من الحيض.
وقال مالك: تستظهر بعد التغيّر بثلاثة أيام.
ونحن لا نرى ذلك أصلاًً، ولكن أقول: إن انقلب الدم بدفعة من لون قوي إلى لونٍ دونه، فالحكم ما ذكرناه في استقبال أحكام الاستحاضة.
وإن بدت خطوطٌ من الشقرة، وبقيت خطوط من السواد، فالذي أراه أن حكم الحيض قائم؛ فإن السواد باقٍ، واقتران دم ضعيف به لا يخرجه عن حكم قوته.
فهذا حكم المبتدأة المميّزة.
المستحاضة الثانية
485- وأما المبتدأة التي لا تتمكن من التمييز، فكما حاضت أطبق عليها مثلاً لون واحد، فإلى ماذا تردّ؟
في المسألة قولان:
أحدهما: أنها تُرد إلى أقل الحيض
والثاني: إلى أغلب الحيض، وهو ست أو سبع. وقد رُوِّينا خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره حكم المبتدأة؛ فإنه عليه السلام قال: «تحيّضي في علم الله ستاً أو سبعاً» الحديث.
ومن قال: إنها مردودة إلى أقل الحيض، راعى الاحتياط في إدامة وظائف الشريعة وإقامتها؛ إذ ليس معها متعلَّق من اجتهاد أو عادةٍ، والأصل اشتغال الذمة بفرائض الله تعالى.
التفريع على القولين:
486- من قال: إنها مردودة إلى غالب الحيض لم يذكر الست والسبع تخييراً، وتخيُّل ذلك محال، ولكن ننظر إلى عادة النساء، فإن كنّ يحضن سبعاً، حيّضناها من أول الدور سبعاً، وإن كن يحضن ستاً، حيضناها ستاًً، وإن كن يحضن خمساً، حيضناها ستاً؛ فإنها أقرب إلى الخمس، وإن كن يحضن سبعاً أو ثمانياً، أو أكثر حيضناها سبعاً؛ فإن السبعَ أقرب إلى التسع والثمان من الست.
واختلف الأئمة في النسوة اللائي تُعتبر هذه بهن، فالذي صار إليه الأكثرون اعتبارها بنساء قراباتها.
قال الصيدلاني: نحن نعتبر مهر مثل المرأة بنساء العصبات كما سيأتي، والنساء المعتبرات في هذا الباب جملة نساء القرابة، من طرفي نسبها.
ومن أئمتنا من قال: نعتبرها بنساء ناحيتها وبلدها، ولا تخصص بنساء العشيرة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحيّضي ستاًً، أو سبعاً، كما تحيض النساء، وكما يطهرن». ولم يخصص بنساء العشيرة.
ولو كان بعض النساء المعتبرات يحضن ستاًً، وبعضهن يحضن سبعاً، فنردها إلى الست؛ لأن الست متفق عليها؛ إذ في السبع ست. ولو كان بعضهن يحضن خمساً، وبعضهن تسعاً، فهي مردودة إلى الست.
487- قال شيخي: إذا اعتبرناها بنساء العشيرة وعادتهن تسعٌ مثلاً أو عشر، فيحتمل أن تثبت لها تلك العادة بعينها، ولا تخصص بالست والسبع.
وهذا الذي ذكره حسن، ولكني لم أره لغيره، وعندي أنه ما ذكره وجهاً مخرجاً، وإنما أبدى وجهاً من الاحتمال.
ثم إذا رددناها إلى الست، أو إلى السبع، فنردّها إلى أغلب الطهر، وتكمل مع زمان الحيض الدورَ بالطهر ثلاثين يوماً، فإن حيَّضناها ستاًً، حكمنا لها أربعة وعشرين يوماًً، وإن حيّضناها سبعاً، حكمنا لها بعد السبع بثلاث وعشرين طهراً.
فهذا بيان التفريع على الرد إلى غالب الحيض.
488- فأما إذا قلنا: إنها ترد إلى أقل الحيض، فإلى كم ترد في الطهر؟
أبعد بعضُ أصحابنا، وذهب إلى أنها ترد إلى أقل الطهر أيضاًً؛ فيكون دورها ستة عشر يوماًً: يومٌ وليلة حيض، وخمسةَ عشرَ يوماًً طهر، ويُحكى هذا عن البويطي.
وهو اتّباع لفظٍ وإضرابٌ عن المعنى؛ فإنا إنما رددناها إلى الأقل، حتى تكثر صلواتُها. فأما إذا رددناها إلى أقل الطهر، فالحيض يكُرُّ عليها على قرب، ففي تقليل أمد طهرها تكثير حيضها، وهذا يخالف وضعَ هذا القول.
فإذا ثبت أنها لا ترد إلى أقل الطهر، فإلى ماذا تردّ في حساب الطهر؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنها تكمل بالطهر دورَها ثلاثين يوماًً، فحيضها يوم وليلة، وطهرها تسعةٌ وعشرون يوماً.
والثاني: أنا نردها إلى غالب الطهر. ثم الطهر الغالب بين ثلاثة وعشرين، وأربعة وعشرين. وكان شيخي-على هذا الوجه الذي انتهى إليه التفريع- يرى أنها ترد إلى أربعة وعشرين احتياطاً للعبادة.
فهذا بيان ما ترد المرأة المبتدأة إليه من الحيض.
489- ثم هي حائض في الزمان الذي رُدَّت إليه، وما حكمها وراء ذلك الزمان على اختلاف القولين إلى تمام خمسةَ عشرَ يوماًً من أول الدور؟ فعلى قولين: أصحهما- أن حكمها حكمُ الطاهرات؛ قياساً على المميزة المعتادة؛ فإن المميزة إذا فارقت الدمَ القوي، فهي طاهرة بها حدث دائم، وكذلك المعتادة إذا انقضت أيامُ عادتها، فهي طاهرة إلى عودة الحيض في مفتتح الدور الآخر، فلتكن المبتدأة كذلك وراء أيام الحيضة، ردت إلى الغالب، أو إلى الأقل.
والقول الثاني- إنها مأمورة بالاحتياط وراء الحيض إلى انقضاء خمسة عشر يوماًً من أول الدور؛ فإنا لم نسند أمرها إلى أصلٍ من تمييز ناجزٍ أو عادةٍ سابقةٍ، ولم يُنقل فيها حديث يتحقق أنه في المبتدأة، فاقتضى ذلك احتياطاً.
ثم الاحتياط على هذا القول، كالاحتياط في حق الناسية المتميزة، وسيأتي تفسيره فيها، فهو عمدة الكتاب.
فصل:
490- ما ذكرناه من شهر التربص، وشهر الشفاء، وما بينهما من الشهور في المميزة يعود في المبتدأة، فإذا استمر الدم بالمبتدأة لمّا رأته، فإنها تتربص خمسةَ عشرَ يوماًً، وهي أوْلى المستحاضات بالتربص؛ فإنها لم يسبق منها في نُوب الحيض شيء، وليست متمسكة بالتمييز في الحال، فإن انقطع الدم على الأكثر، فالكل حيضٌ، وإن جاوزه، ردت إلى الأقل من أول الدور، أو الغالب كما مضى، ثم لا تتربص في غير الشهر الأول كما تقدم، فإن انقطع الدم على خمسةَ عشرَ في شهر، وشفيت، فالدم بكماله في هذا الشهر حيض؛ فإن الاستحاضة إنما تتحقق إذا جاوز الدم الأكثر.
فصل:
491- حكى العلماء بأحكام الحيض، عن أحمد بن بنت الشافعي مذهباً في المبتدأة، لم يساعده الأصحاب عليه، وذلك أنه قال: إذا انفصل الخامس عشر بالنقاء عن السادس عشر، فما وقع في النصف الأول حيض؛ وما وقع في النصف الأخير من الدور استحاضة.
وبيان ذلك بالتصوير: إذا استمر الدم عليها، ثم طهرت في السادس عشر، وعاود الدم في السابع عشر واطّرد، فالنصف الأول حيض؛ فإنه لم يتصل آخره بدم في أول النصف الثاني من الدور، فكان ذلك انفصالاً لأحد النصفين عن الثاني.
وإن طهرت في الخامس عشر، ثم عاد الدم في أول السادس عشر، فما وقع في النصف الأول حيض أيضاً؛ لأن الدم لم يطرد على آخر النصف الأول مع أول النصف الثاني.
فأما إذا استمر الدم على آخر النصف الأول وأول النصف الثاني، فتردّ حينئذ إلى غالب الحيض من أول الدور.
وهذا الذي حُكي عنه مذهب يختص به، لا يعد من مذهب الشافعي.
وحقيقة المذهب في تقطع الدم بنقاء لا يبلغ أقل الطهر يأتي مستقصىً في باب التلفيق، إن شاء الله تعالى.
المستحاضة الثالثة
492- المستحاضة الثالثة: هي المعتادة، وهي التي استمرت لها أدوارٌ مستقيمة، ثم استحيضت، وطبق الدم عليها، فهي مردودة إلى عادتها في مقدار الحيض والطهر، ورعاية ترتيب الدور إذا كانت لا تتمكن من التمييز، وإن كانت متمكنة من التمييز، فسنعقد فيه فصلاً في الآخر. ولو كانت لها عادةٌ جارية مدةً، ثم تغيّرت قبل الاستحاضة، وزاد الحيض أو نقص، أو زاد الطهر أو نقص، وما استحيضت، فإن تكرر ذلك على انتظام ثم استحيضت، فهي مردودة إلى حكم الدور الأخير، فإن جرى التغير مرةً واحدةً، ثم استحيضت، فظاهر المذهب أنها مردودة إلى الدور الأخير.
وفي المسألة وجه ثانٍ: أنها ترد إلى العادة القديمة، ولا اعتبار بما جرى مرةً واحدةً، وهذا مذهب أبي حنيفة.
493- توجيه الوجهين: من قال لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، احتج بأن العادة من العود، وما لا يعود لا يؤثر فيما تكرر عوداً على بدء قديماً.
ومن قال بالوجه الأظهر، احتج بأن المتأخر بالإضافة إلى ما تقدم كالناسخ والمنسوخ، ولا حقيقة لقول منا يتمسك باشتقاق لفظ العادة، فإن هذه اللفظة ليست من ألفاظ الشارع، فلا معنى للتعلق بمقتضاها. ولئن كان يبعد ترك عادة قديمة بمرة، فتركها بمرتين لا يغير من الاستبعاد شيئاً.
وما ذكرناه متفقاً عليه، ومختلفاً فيه، يتهذب بصور نذكرها: فلو كانت تحيض خمسة أيام، وتطهر خمسةً وعشرين يوماًً، وكانت الأدوار تطّرد كذلك، فجاءها شهر، فرأت ستة دماًً، وأربعةً وعشرين طهراً، فقد زادت حيضتها، فلو زاد عليها دورٌ كذلك، فرأت ستة دماً، وأربعة وعشرين نقاءً، ثم فاتحها الدم وطبق، ولم ينقطع، فهي مردودة إلى حساب الدورين الأخيرين وفاقاً. ولو رأت الستة والأربعة والعشرين مرةً واحدةً، وفاتحها الدم وأطبق، فإن قلنا: تتغير العادة بالمرة الواحدة، وهو الأصح، فهي مردودة إلى الدور الأخير، فدورها ثلاثون يوماًً كان، لكن ستة من أول الدور حيض، وأربعة وعشرون استحاضة.
وإن قلنا: لا تتغير العادة بالمرة الواحدة فهي مردودة إلى عادتها القديمة، فنحيّضها خمسةً من أول الدور، ونحكم لها بالطهر خمسةً وعشرين يوماًً، وكذلك نُدير عليها أدوارها. وكذلك لو فرض نقصان الحيض مع التكرر، ومن غير تكرر، ثم طريان الاستحاضة، فلا يخفى تفريع الخلاف والوفاق.
وكل ما نذكره فيه إذا لم يزايل أول الدم بالتقدم ولا بالتأخر.
494- وتمام البيان في ذلك في ذكر قاعدة، وهي: أنها إذا كانت تحيض خمسة، وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها شهر، ورأت ستة دماً، وأربعة وعشرين طهراً، ثم رأت الدور الثاني سبعة دماًً، وثلاثة وعشرين طهراً، ثم فاتح الدم وأطبق.
فإن قلنا: العادة تثبت بالمرة الواحدة، فالعادة القديمة نسختها الستة والأربعة والعشرون، ثم السبعة والثلاثة والعشرون نسخت الستة قبلها. فالمستحاضة مردودة إلى حكم الدور الأخير حيضاً وطهراً.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فالأصح أنه لا معتبر بالدورين الآخرين؛ فإنهما مختلفان، لم يتكرر واحد منهما، فالمستحاضة مردودة إلى حساب الأدوار القديمة، فنحيّضها من أول الدم خمسةَ أيام، ونحكم لها بالطهر خمسة وعشرين يوماًً.
ومن أصحابنا من قال: الستة متكررة؛ فإن في السبعة ستة، والسابع هو الذي لم يتكرر، فنحيّضها ستة أيام من أول الدور.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فإن قيل: إذا ردّت إلى الستة في الحيض فإلى ماذا ترد في الطهر؟ قلنا: كان في الأدوار القديمة خمسة وعشرون، ثم رأت في الدورين الأخيرين النقصان في الطهر على وجهين، فرأت في الدور بالستة الطهرَ أربعة وعشرين، ورأت في الدور بالسبعة ثلاثة وعشرين، فنقص في الدور الأول يوم، ونقص في الثاني يومان، فقد تكرر في النقصان يوم واحد، واختُص الدور الأخير بنقصان يوم، فنحط من الخمسة والعشرين ما تكرر نقصانه، وهو يوم واحد، فنحيّضها ستة، ونحكم لها بالطهر أربعة وعشرين، والدور ثلاثون كما كان. هذا تفريع هذا الوجه في الطهر والحيض.
495- فأما إذا زايل الحيضُ أولَ الدور، فلا يخلو إما أن يزايله بالتأخر، وإما أن يزايله بالتقدم.
فإن زايل أولَ الدور بالتأخر، فلا يخلو إما أن يزايل بالتأخر من غير زيادةٍ، ولا نقصانِ، أو يفرض مع التأخر زيادة أو نقصان.
فأما التأخر المحض فنصوّره ونقول: إذا كانت تحيض من أول الشهر خمسة أيام، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فجاءها شهر وحاضت من أوله خمسة، وطهرت خمسة وعشرين، وانتظرت معاودة الحيضة، فلم تعد حتى مضت خمسةُ أيام، ثم رأت الدم في الخمسة الثانية، فالدور الأخير خمسة وثلاثون يوماً، خمسة حيض، وثلاثون طهر.
فإن رأت الخمسة الثانية دماً، وطهرت ثلاثين يوماً، فعاودها الدم في الخمسة الثالثة من الشهر، فإذا عاودها الدم، وطبق في هذه الصورة، فهي مردودة إلى هذا الحساب الذي تكرر، فنحيّضها من أول الدم المطبق خمسة، ونحكم لها بالطهر ثلاثين يوماًً، وندير عليها أدوارها على هذا الحساب، ولا نذكر خلافاً.
وإن جرى ذلك مرةً واحدةً، وكما رأت الدمَ في الخمسة الثانية استمر، فإن فرعنا على الأصح، وهو أن العادة تثبت بالمرة الواحدة، فدورها خمسة وثلاثون كما ذكرناه، ولا مبالاة بخلو أول الدور القديم.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فالذي صار إليه الأئمة، أنا نحيّضها خمسة من أول الدور؛ فإنه دمٌ في زمن إمكان الحيض، وقد تخلل بينه وبين الدم المتقدم طهر تام، فلابد من تحيّضها.
ثم اختلفوا وراء ذلك، فذهب المحققون إلى تحييضها في الخمسة الثانية، كما ذكرناه، وهو أول الدم المطبق، ثم تحسب بعده خمسة وعشرين طهراً، فإن الطهر ثلاثين لم يتكرر، فيعاودها الحيض في الخمسة الثانية أبداً، فإن الفقه في رعاية العدد، لا في خلوّ أول الدور.
ومن أصحابنا من قال: نحيضها في الخمسة الثانية وهي أول الدم المطبق، ونحكم لها بالنقاء بقية الشهر، وهو عشرون يوماً، ونحيّضها خمسة من أول الشهر الآتي، والدم مطبق، ثم نعود إلى الحساب القديم، فنحيّضها خمسة من أول الشهر الذي انتهى التفريع إليه، وطهرها خمسةٌ وعشرون، وقد جرى لها قبل الاستحاضة طهر وهو ثلاثون، فزادت خمسة، فنقصنا تلك الزيادة من أول دور الاستحاضة لنعود إلى الترتيب القديم مقداراً وأوّليةً وملازمةً لأوائل الأدوار.
496- وحقيقة الخلاف آيلةٌ إلى أن من الأئمة من لم يُقم لأولية الدور وزناً، وإنما راعى العدد، وهو الصحيح.
ومنهم من راعى الأوّلية بعض المراعاة، فجرّه ذلك إلى التصرف الذي ذكرناه.
فهذا مذهب الأئمة في التفريع على الصحيح والضعيف.
497- وأما أبو إسحاق المروزي، فقد صح عنه في هذه الصورة أنه قال: إذا تأخرت حيضتُها مرةً واحدةً إلى الخمسة الثانية، ثم استمر الدم، فجميعُ ما رأته في هذا الشهر استحاضة، ثم تحيض في أول الدور خمستها، وتعود إلى حسابها القديم.
وإنما قال ذلك لاعتقاده في لزوم أول الأدوار، ما أمكن ذلك.
وهذا المذهب وإن صح عنه، فهو متروك على أبي إسحاق معدودٌ من هفواته، وهو كثير الغلط في الحيض، ومعظم ما عثَر به إفراطُه في اعتبار أول الدور، ووجه غلطه: أنها إذا رأت الدمَ في الخمسة الثانية، ثم استمرّ، فأول دمها في زمان إمكان الحيض وقد تقدم عليه طهر كامل، فالمصير إلى تخلية هذا الشهر عن الحيض ساقط لا أصل له.
ثم نقل النقلة عنه غلطاً عظيماً، فقالوا: عنده أنها لو رأت في الخمسة الثانية دماً، واستمرّ إلى آخر الشهر، ثم رأت نقاءً في خمسة أيام من أول الشهر الثاني، وخمسة وعشرين دماًً، ثم تكرر عليها هذا الترتيب سنين كثيرة، فهذه امرأة لا حيض لها.
وهذا بالغٌ في السقوط والركاكة.
والذي حكيناه في الشهر الأول إن حمل على عثرة عالم، وقد صح أنه غلط، فطردُ ذلك في الشهور على التصوير الأخير لا يعزى إلى من يعد في أحزاب الفقهاء.
هذا تفصيل القول فيه إذا تأخرت الحيضة من غير زيادة ولا نقصان.
498- فأما إذا تأخرت الحيضة وزادت، فلا يتصور أن تتبين الزيادة إلا بتكرر الطهر؛ فإن الحيضة إذا تأخرت، ثم استمر الدم بها متصلاً بها، لم يَبن مقدارُها، فنصوّر الزيادةَ، وتكرُّرَها، ووقوعَها قبل الاستحاضة مرةً واحدةً، ونذكر في كل صورة ما يليق بها.
499- فإذا كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها أول الدور، وكانت ترتقب الحيض فلم تر الدم حتى مضى من أول الدور خمسةُ أيام، ثم رأت الحيض ستة أيام، وطهرت بعد ذلك ثلاثين يوماًً، فقد تكرر الطهر ثلاثين يوماًً مرتين، ورأت الحيض ستة أيام مرة واحدة.
فإن رأت بعد الطهرين ستةَ أيام دماًً، وطهرت بعد ذلك ثلاثين، ثم استمر الدم، فقد رأت الستة مرتين، والطهر ثلاثين ثلاث مرات، فهي مردودة إلى ذلك.
ومن ضرورة تكرر الزيادة في الحيض قبل الاستحاضة أن يتكرر الطهر ثلاث مراتٍ، فإذا اتصلت الاستحاضة، فنحيّضها من أول الدم ستةَ أيام، ونحكم بالطهر بعده ثلاثين، ثم يعود الحيض ستة، والطهر ثلاثين.
فإن قيل: هذا بيّن على قياس مذهب الجمهور، فما الذي يقتضيه قياس أبي إسحاق المروزي مع غلوّه في الامتناع من تخلية أوائل الأدوار؟ قلنا: لا يجوز أن نقدر منه مخالفة الأصحاب في ذلك، في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه لو تأخرت الحيضة و استعقبت طهراً زائداً، ثم عادت الحيضة والطهر، واستمرت الأدوار على استئخار الحيض، فلا يصير مُسْلِمٌ إلى أن ما يراه ليس بحيض، ثم إذا اطردت العادات كذلك، ثم استحيضت، يتعين الرد إلى حساب الأدوار الأخيرة، لا محالة.
والذي قدمناه من مذهبه فيه إذا تأخرت الحيضة، واتصل الدم، ولم ينقطع، ولو تأخر الدم، وزاد، ولم تتكرر الزيادة، فمن ضرورة تصور الزيادة تكرر الطهر؛ فإن الدم لو تأخر واستمر، لم تَبِن الزيادة.
ووجه التصوير أنها إذا كانت ترى الدم خمسة أيام في أول الدور، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فجاءها دور، فلم تر الدم في أوله حتى مضت خمسةُ أيام، ثم رأت الدمَ ستة أيام، ثم طهرت ثلاثين يوماً، ثم رأت الدم، واستمر واستحيضت، فقد كان طهرها خمسة وعشرين يوماًً، فجاءها دور، فلم تر الدم في أوله حتى مضت خمسة أيام، وتكرر عليها الطهر ثلاثين مرتين، وزادت الحيضة مرة واحدة. فإن قلنا: العادة تثبت بالمرة الواحدة، فالتفريع على ما تقدم، وإن قلنا: لا تثبت، فيثبت طهرُها ثلاثين للتكرر. ونردّها إلى الخمسة في الحيض أول الدم، فحيضُها خمسة وطهرها ثلاثون. ولا معنى للتطويل بعد وضوح الغرض.
وما ذكرناه في تأخير الحيض مع الزيادة.
500- ولا يكاد يخفى تأخرها مع فرض النقصان فيها متكرراً، أو غير متكرر.
501- فإذا تقدّمت الحيضة، وتصوير التقدّم أنها إذا كانت تحيض خمسةً من أول الدور، وتطهر خمسةَ وعشرين يوماً، فحاضت مرة خمسةً من أول الدور وطهرت عشرين يوماًً، وكانت تقدّر دوام النقاء خمسة أخرى على العادة، فرأت الدم في الخمسة الأخيرة، فقد نقص من طهرها خمسة أيام، فإن تكرر ذلك، وتصوير تكرره أن ترى الخمسة الأخيرة دماًً كما صورنا، وتطهر عشرين يوماًً، ثم يعود الدم ويستمر، فقد تكرر دورها خمسةً وعشرين، إذا رأت الطهر عشرين مرتين، فترد إلى ذلك، وتحيّض من أول الدم المستمر خمسة، ونحكم لها بالطهر عشرين، وتدور أدوارها كذلك.
ولا مبالاة بمفارقة الدم أول الدور على مذهب الجمهور، ولا يتأتى إلا مفارقة أول الدور؛ فإنا إذا رددناها إلى عشرين في الطهر، فلابد وأن تفارق الدم الأول.
وأما أبو إسحاق، فقياس مذهبه الذي يقرب بعض القرب، أنها لما رأت الدم في آخر الدور أولاً، ثم طهرت بعد ذلك، فتلك الخمسة حيض؛ فإنه احتوشها طهران كاملان، فلما طهرت عشرين من أول الدور الثاني، وعاد الدم في الحادي والعشرين من الدور الثاني، ثم استمر، فالذي ينقدح من مذهبه أيضاًً ما ذكرناه لتكرر نقصان الطهر، وذلك يقتضي لا محالة مزايلةَ أول الدور.
وإن قيل: لما استمر الدم، فالعشرة في آخر الدور الثاني استحاضةٌ غيرُ معدودة في حساب، وحيضها الخمسة الأولى من أول الدور، ثم تردّ بعدها إلى خمسةٍ وعشرين طهراً، لتعود الحيضة إلى الدور.
وسبب ذلك أن خلو أول الدور لم يتكرر، ومن ضرورة ردّ الحيض إلى أول الدور ردّ الطهر إلى الخمسة والعشرين، فهذا بعيدٌ. وإن كان يليق بعثراته في ملازمة أوائل الأدوار.
فالوجه: القطع بما قدمناه من مذاهب الأصحاب.
502- ولو كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فحاضت خمستها من أول الدور، وطهرت عشرين، فعاجلها الدم، واستمر الدم، فقد نقص طهرها في هذا الدور، وعاد إلى عشرين.
فإن قلنا: تثبت العادة بمرة واحدة، فتُرد إلى ما جرى في الدور الأخير، فنحيّضها خمسة من أول الدم، ونحكم لها بالطهر عشرين يوماًً، ثم نحيّضها خمسة، ونحكم بالطهر عشرين، وهكذا تدور أدوارها، ولا نبالي بمفارقة أول الدور القديم؛ فإنا إذا كنا نثُبت عددَ الطهر ونقصانَ الدور بالمرة الواحدة، فمزايلة أول الدور أيضاًً يثبت بالمرة الواحدة.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فإذا استمر الدم كما سبق تصويره، فقد اختلف أصحابنا كما سبق، فمنهم من قال: نحيّضها من أول الدم خمسة، ثم نحكم لها بالطهر خمسةً وعشرين، ثم نحيّضها خمسة، فيكون دورها ثلاثين، كما كان قديماً، ولكن زايلت الحيضة أوّلَ الدور بما جرى واتفق. ولكن حساب الدور باقٍ كما كان.
ومن أصحابنا من قال على هذا: نحيّضها الخمسة من أول الدم، ونحيّضها خمسة أخرى من أول الدور، فيكون حيضها في هذه الكَرَّةِ عشرةَ أيام، ثم نحكم لها بالنقاء خمسة وعشرين بقية الدور، ثم يعود الحيض خمسة في أول الدور، ويطَّرد الحيضُ خمسة، والطهر خمسة وعشرين، والحيضُ منطبق على أول الدور، كما كان قديماً.
وهذا القائل يلتزم من أول استمرار الدم زيادة الحيض، ليعود الحيض إلى الأول، ثم يستمر الحساب القديم، وهذا ساقط، لا أصل له؛ فإن الزيادة في الحيض من غير عادة سابقةٍ محالٌ.
والوجه اعتبار العدد، وترك المبالاة بأوّل الدور.
وأما أبو إسحاق، فقد اختلف الأصحاب في قياس مذهبه، والظاهر اللائق بمذهبه أنه يجعل الخمسةَ الواقعة في آخر الدور الأول استحاضة متقدمة، ويحيّضها في الخمسة الأولى من الدور، ويُدير أدوارها كذلك.
ومن أصحابنا من يقول: قياس مذهبه في هذه الصورة أن يحيّضها في هذه الكَرّة عشرةَ أيام، كما ذكرنا من مذهب بعض الأصحاب الآن، ثم يردّ الأمر إلى الحساب القديم.
503- ولو كانت تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها شهر وحاضت خمستها، وطهرت خمسة عشر يوماً، وعاود الدمُ، واستمر.
فإن قلنا: تثبت العادة بالمرة الواحدة، فقد صار دورها عشرين: خمسةٌ دمٌ، وخمسةَ عشرَ طهرٌ. وكذلك تدور الأدوار.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فالمذهب الصحيح أنّا نحيّضها خمسةً من أول الدم المعاود، ونحكم لها بالطهر بعدها خمسة وعشرين، ولا التفات إلى أول الدور، وإنما النظر إلى عدد الحيض والطهر، ومن أصحابنا من قال: نُحيّضها من أول الدم خمسة عشر يوماً، فتقع الخمس الأخيرة في أول الدور على الحساب القديم، ثم نحسب من بعد ذلك خمسة وعشرين طهراً، فيعود الحساب في مقدار الحيض والطهر، وأوّليّة الدور إلى ما كان قديماًً.
وهذا ضعيف؛ فإنه إثباتُ زيادة في الحيض في هذه المرة من غير أصل.
وأما أبو إسحاق: فقد اختُلف في قياسه، فقيل: قياسُه هذا الوجه الذي ذكرناه آخراً.
وقيل: بل مذهبه أن العشرة الواقعةَ في آخر الدور استحاضة غيرُ معدودة في حساب، وإنما نحيّضها خمسة من أول الدور، ثم يجري حساب أدوارها كما كان قديماً.
504- ولو كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فرأت من أول دورها خمستها، وطهرت أربعة عشر يوماًً، ثم رأت الدم واستمر، ولم ينقطع، فالنقاء الذي رأته ناقصٌ عن أقل الطهر بيوم.
فنقول: أولاً يوم وليلة من أول الدم استحاضة، تكملةً وتتمةً للطهر، هذا لابد منه، ثم نُفَرِّع المسألة.
فإن قلنا: العادة لا تثبت بالمرة الواحدة، فقد اختلف الأئمة فقال الأكثرون: نحذف يوماًً كما ذكرناه من أول الدم؛ استكمالاً للطهر، ونحيّضها بعد هذا خمسة أيامٍ، ونحكم لها بالطهر خمسةً وعشرين يوماً، ولا نبالي بمزايلة أول الدور، وإنما يتبع العدد في الحيض والطهر، كما تقرر في الصور المتقدمة.
ومن أئمتنا من قال: نحذف كما تقدم يوماًً من أول الدم، ثم نحيّضها العشرة الباقية من الدور، ونحيّضها خمسة من أول الدور الثاني، فيكون حيضها خمسةَ عشرَ، ثم نحكم لها بالطهر خمسة وعشرين، ثم نحيّضها، خمسة من أول الدور الثالث، وندير الأدوار القديمة، كما تقدم هذا المسلك في أمثلة متكررة.
وأما أبو إسحاق، فإنه يجعل الدم المبادر في أول الدور الأول استحاضة سابقة، ثم يحيضها في أول الدور الثاني خمسة أيام، كما تقدم.
ومذهب أبي إسحاق في هذه الصورة أقرب، وقد وافقه بعضُ الأصحاب.
والسبب فيه، أن أول الدم المبادر استحاضة؛ فإن اليوم الأول يكمل به الطهر، فيظهرُ بعضَ الظهور-والحالة هذه- الحكمُ على جميع ما تقدم بالاستحاضة.
فهذا إذا قلنا: العادة لا تثبت بالمرة الواحدة.
505- فأما إذا قلنا: تثبت العادة بالمرة الواحدة، فظاهر المذهب على هذا أنا نحذف يوماًً من أول الدم المبادر كما تقدم ثم نقول: عاد الدور إلى عشرين، فنحيّضها بعد اليوم خمسة، ونحكم لها بالطهر خمسة عشر، وندير على هذا الحساب أَدْوارها.
ومن أصحابنا من قال: لا يُرَدُّ الطهر إلى خمسة عشر بما جرى، وإن كنا نرى العادة تثبت بالمرة الواحدة، فإنا لم نتمكن من تحييضها في أول الدم المبادر، والدم يتردّد بين أن يكون حيضاً وبين أن يكون استحاضة، وليس كما لو رأت خمسةَ عشرَ يوماً نقاءً، ثم اطرد الدّم؛ فإن النقاء لا يكون إلا طهراً إذا لم ينقص عن الأقل، فنعتبر العادة القديمة بمرة واحدة فيها ليس بعيداً.
ثم من جرى على ما ذكرناه، فقد تردد الغائصون على هذا، فذهب المحققون إلى أنا نحذف يوماً، ونحيّضها خمسة أيام بعده، ثم طهرها خمسة وعشرون يوماً.
وقال آخرون: إذا رأينا ألا نردَّ الطهرَ إلى خمسةَ عشرَ بهذه المسألة، فنجعل الدم المبادر في آخر الدور كله استحاضة، ليكمل في هذا الدور الطهر خمسةً وعشرين أيضاًً، كما رآه أبو إسحاق.
وهذا فيه بُعد. والأصح المسلك الأول الذي ذكرناه الآن.
فصل:
506- قد ذكرنا فيما تقدم أن المبتدأة المميزة تميّز، وترد إلى التمييز إذا تمكنت منه، ووجدت أركانه.
وكذلك المعتادة إذا نسيت عادتها القديمة، واستحيضت، وتمكنت من التمييز، فهي مردودة إلى التمييز وفاقاً.
507- فأما إذا كانت على عادة مستمرة، واستحيضت وهي ذاكرة لعادتها في أدوارها، وكانت تتمكن من التمييز أيضاًً، فإن كان ينطبق مقتضى التمييز على العادة، فهو المراد.
وإن اختلفا، فكان التمييز يقتضي مقداراً من الحيض يزيد على العادة أو ينقص منها، فقد اختلف أئمتنا، فمنهم من قال: هي مردودة إلى التمييز؛ فإنه اجتهاد، والعادة في حكم التقليد، والاجتهاد مقدم على التقليد، ويعتضد هذا بأن اختلاف المزاج بالطعن في السن يقتضي في مطرد العرف تغايير في أقدار الفضلات التي تدفعها الطبيعة، فيبعد أن تطّردَ العادة على مقدار واحدٍ، ويتجه اعتبار صفات دم الحيض عند استمرار الدماء.
ومن أئمتنا من قال: هي مردودة إلى العادة؛ فإن اعتبارها متفق عليه، والتمييز مختلف فيه، وأيضاًً فإن الرجوع في التمييز إلى لون الدم، ونحن نرى ألوان دماء العروق تختلف اختلافاً متفاوتاً، وقد يصفرّ دم الحيض أيضاً.
ومن أئمتنا من قال: يجمع بين العادة والتمييز إذا أمكن الجمع بينهما.
والقائلان الأوّلان يستمسكان بأحدهما، ووجه الجمع أنها إذا كانت ترى خمسةً حيضاً، وتطهر خمسة وعشرين، فلما استحيضت، صارت ترى عشرة سواداً، وعشرين صفرة، فنحيّضها في العشرة، ونردّ طُهرَها إلى عشرين، وهذا فيه إشكالٌ من جهة أنا كما نرعى العادة في الحيض، وجب أن نرعاها في الطهر، وفي تحييضها عشرة تنقيص طهرها، وذلك إسقاط صلوات في خمسة أيام، ولكن لا ينقدح في الجمع بين العادة والتمييز إلا هذا.
وكذلك لو رأت أولاً خمسةً شقرة في أيام عادتها ثم رأت في الخمسة الثانية سواداً، ثم ضعف الدم إلى آخر الشهر، فمن يرى الجمعَ يُحيّضها في العشرة، وإن تعذّر الجمع بأن رأت خمسة في أيام عادتها دماًً ضعيفاً، ثم أحد عشر سواداً، فالجمع غير ممكن.
فإذا عَسُر الجمع على رأي من يجمع عند الإمكان، ففي المسألة أوجه:
أحدها: أنها ترد إلى العادة.
والثاني: إلى التمييز المحض.
والثالث: أنهما يتدافعان، فلا يعتبر واحد منهما، وتجعل هذه كالمبتدأة العاجزة عن التمييز. وقد سبق القول في المبتدأة.
وهذا الوجه ضعيف، لا أصل له، ذكره بعض المصنفين. وقد تكرر تعارض أمرين في الدماء، والاختلاف في الجمع إذا أمكن، وفي تعذّر الجمع كما تقدم في الدم الأسود والأحمر مع انطباق الأشقر بعدهما. والذي ذكرناه الآن في اجتماع العادة والتمييز يضاهي ما تقدم.
فرع:
508- المبتدأة إذا تمكنت من التمييز، ورُدّت إليه، وصارت ترى الدمَ الأسودَ خمسةً، والدم الضعيف خمسة وعشرين، ثم استمر عليها الدم الأسود، وعجزت عن التمييز، فالمذهب الصحيح أنها مردودة إلى الخمسة؛ فإن التمييز عند جريان أركانه أثبت لها عادة، فإذا انخرم التمييز، رُدّت إلى العادة المستفادة بالتمييز.
ومن أصحابنا من قال: إذا انخرم التمييز، فلا ننظر إلى أدوار التمييز، ونجعلها كمبتدأة ما تمكنت من التمييز قط.
509- ولو كانت المسألة بحالها، فاطردت أدوارٌ على انتظام أركان التمييز، ثم استمر الدم على لونٍ واحد، وتعذّر التمييز، ثم جاءها دورٌ، فرأت عشرةً مثلاً سواداً وعشرين شقرة، وقد كانت في الأدوار المستقيمة ترى خمسةً سواداً، فهي الآن مردودة إلى العشرة، ولا يخرّج هذا على الخلاف في تقديم العادة والتمييز؛ فإن الأدوار التي استمرت كانت تمييزية، وإنما الخلاف في عادات جرت في غير الاستحاضة مع أطهارٍ وأدوارٍ مستقيمة، إذا قيست بالتمييز الممكن عند استمرار الاستحاضة.
فصل:
قال الشافعي: "الصُّفرة والكُدرة في أيام الحيض حيض... إلى آخره".
510- الصفرة شيء كالصديد تعلوه صُفرة، وليست على شيءٍ من ألوان الدماء القوية والضعيفة.
والكدرةُ شيء كدر ليس على ألوان الدماء أيضاً.
ونحن نذكر حكمها في حق التي لا تستمر عليها استحاضة.
فإذا كانت المرأة ترى خمسةً دماً، وخمسة وعشرين نقاءً، فجاءها شهر، فرأت في أوان الحيض خمسةً صفرةً، أو كُدرة، ثم طهرت، فما رأته حيض؛ فإنها رأته في إمكان الحيض، وأيام العادة.
وإن كانت ترى خمسةً دماًً، ثم رأت سبعةً كُدرة في أول دور، ثم طهرت ثلاثة وعشرين، فالخمسة الواقعة في أيام العادة حيض، وما زاد عليها إلى تمام السبعة، فيه وجهان:
أحدهما: أنه ليس بحيض؛ فإنه ليس بدم، وليس في أيام عادة، فينزل منزلة بول دائم.
والثاني: أنه حيض؛ فإنه في زمان إمكان الحيض، فأشبه الواقع في أيام العادة.
هذا فيه إذا لم تر لَطْخةً من الدم، فأما إذا رأت في أيام العادة مقداراً من الدم، ورأت بعدها دماً، ثم صفرة أو كُدرةً في خمسةَ عشرَ، وهي زمان إمكان الدم، ففي الصفرة الزائدة على أيام العادة وجهان مرتبان على الوجهين في الصفرة الأولى. وهذه الصورة أولى بأن تكون الصفرة فيها حيضاً؛ لأنه إذا تقدم دمٌ، حُملت الصفرة على جزء منه؛ فإنّ تدرّج انقطاع الدم هكذا يكون، والجراحة إذا مجت دماًً عبيطاً، ثم انقطع، فترق أجزاء من بقية الدم مع رطوبات، ويتلون ألواناً كثيرة.
وإن لم يسبق دمٌ، فيبعد حملُ الصفرة على الدم إذا لم يتقوّ بالوقوع في عين أيام العادة.
فحاصل القول إذاً، أن ما يقوى بالوقوع في أيام العادة، فهو حيض وفاقاًً، وما يقع وراء أيام العادة من الصفرة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها ليست بحيض.
والثاني: أنها حيض إذا كانت في الخمسةَ عشرَ.
والثالث: أن ما يتقدّمه دم وقع في زمان الإمكان، فهو حيض، وما لا يتقدمه دم، ولا يكون في أيام العادة، فإنه ليس بحيض.
ثم كان شيخي رحمه الله يقول: مَنْ يشترط تقدّم دم، يكتفي بلحظة منه، ولا يشترط دوامه يوماًً وليلة؛ فإن الغرض من اشتراط تقدمه ما قدمناه من تخيل تدريج الدم في الانقطاع كما سبق. وهذا لا يختلف بالنقصان عن يوم وليلة.
51- ومن تمام البيان في ذلك أن المرأة إذا كانت مبتدأة، ورأت أول ما رأت صفرة، أو كُدرة، ثم طهرت، فقد اختلف أئمتنا: فذهب بعضهم إلى أن حكم مردّ المبتدأة على اختلاف القولين كأيام العادة في حق المعتادة، وهذا غيرُ مرضي، والصحيح أن حكم الصفرة في أيام مردّها كحكمها وراء أيام العادة في الخمسةَ عشرَ في حق المعتادة؛ فإنها في زمان إمكان الحيض ولم يسبق لها عادة معتبرة، والمستحاضة المبتدأة إنما تردّ إلى أقل الحيض أو أغلبه للضرورة. فهذا بيان الصفرة والكدرة.
512- ثم اختلف أئمتنا في معنى قول الشافعي: "الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض"، على حسب اختلافهم في المذهب.
فقال بعضهم: معناه أنها في أيام العادة حيض.
وقال بعضهم: إنها في زمان الإمكان حيض، وقد روي عن حمنة بنت جحش أنها قالت: "كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة وراء العادة شيئاًً" ثمْ إن جعلنا أيام مردّ المبتدأة كأيام العادة، فإذا رأت صفرة وراء المردّ في الخمسةَ عشرَ، ففيها وجهان، وإن جعلنا المسألة في مرد المبتدأة على وجهين، ففي الزائد أيضاً وجهان مرتبان، فهذا تمام البيان في ذلك.
513- وقد يتعلق بالمعتادة أن المرأة إذا كانت لها عادات مضطربة، فكانت تحيض في شهر خمسة، وفي شهر ستة، وفي شهر سبعة، ثم تعود إلى الخمسة، والستة، والسبعة، ثم استحيضت، فكيف يكون حكمها؟ وهذا يتعلق به أمور من المستحاضة الرابعة، وهي الناسية، فنذكره في أثناء الناسية المتحيرة- إن شاء الله تعالى.
514- ومما لم نعده تعويلاً على ما تقدم، ذكرُ التربص في الشهر الأول من شهور المستحاضة والاستمرار بعده على حكم العادة، وبيان شهر الشفاء. ولا ينبغي للناظر في أحكام الاستحاضة أن يتبرم بتكثير الصور، وإعادتها في الأبواب.
515- فإذا كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها شهر، فرأت خمستَها، ثم زاد الدم، فتتربص على حكم الحيض؛ فإن الحيضة قد تزيد، فإن انقطع الدم على الخمسةَ عشَرَ، أو على أقلَّ منها، فالكل حيض، وإن زاد على الأكثر واستمرت الاستحاضة، فقد تَبيَّنَّا أن الحيض الخمسةُ الأولى، والزائد عليها استحاضة، فتتدارك ما تركت من الصلوات وراء العادة، ثم في الدور الثاني لا نأمرها بالتربّص، كما سبق بيانه في المميزة والمبتدأة.
فإن جاءها دور، ورأت الدم في أوله، فلما زاد على الخمسة، اغتسلت، وأخذت تصلي، ثم انقطع الدم في هذا الدور على خمسةَ عشرَ وشُفيت، فقد علمنا أن جميع ما رأته من الدم حيض؛ فإنه انقطع على الأكثر، ونحن إنما نحكم بالاستحاضة عند زيادة الدم على الأكثر، وقد بان فيما سبق، ولم يضر الإعادة فيه.
المستحاضة الرابعة
516- فأما المستحاضة الرابعة: وهي الناسية، فحكمها عَمرة الكتاب، ونحن نستعين بالله تعالى، ونستوعب تفاصيل القول فيها، ونقدم تصوير أمرها، فنقول:
517- المرأة إذا كانت لها عادة، فنسيتها لعارض علة، أو كانت في أول أدوارها مجنونة، فاستحيضت وأفاقت، ولم تدر ما كانت عليه، فلا يخلو: إما ألا تذكر شيئاًً أصلاًً، لا مقدارَ الحيض والطهر، ولا وقتَهما، ولا زمانَ الانقطاع، ولا زمان الابتداء، ولكنها أفاقت ورأت الدم المستمر، وفقدت أركان التمييز، وهذه التي لا تذكر شيئاًً تسمى المتحيّرة.
وإن كانت تذكر شيئاًً، ففي ذلك القسم نذكر أبواب الضلال، والخلطَ، وغيرهما.
518- فلتقع البدايةُ بالمتحيرة المطلقة.
وقد اختلف قول الشافعي فيها: فقال في قولِ: المتحيرةُ كالمبتدأة، ولكن ابتداء دور المبتدأة من وقت رؤيتها الدم من سن إمكان الحيض، ولا نعرف للمتحيرة ابتداءً، فنردها إلى ابتداء الشهور، والمرعي الشهور العربية المبنية على الأهلّة، فنحيّضها من أول كلّ شهر المقدار الذي ذكرناه في المبتدأة، ثم إذا انقضى ذلك المقدار، فهي طاهرةٌ إلى آخر الشهر؛ فإن المواقيت الشرعية هي الأهلة.
وهذا القول ضعيفٌ مزيفٌ لا أصل له؛ فإنا نجد في المبتدأة مستنداً؛ من حيث رأت دماًً في زمان إمكان الحيض، فجعلنا ما رأته أولَ الحيض، ثم بنينا على ذلك المستند-المستند على التفصيل المتقدّم- ما اقتضاه الحال.
والمتحيرة لا مستند لها، والتحكم بتطبيق حيضها على أوائل الشهور لا يقتضيه قول الشارع، ولا قياسٌ ولا حكمٌ متلقَى من الفِطر والجبلات.
519- والقول الثاني- وهو الذي عليه التفريع، وبه الفتوى: إنها مأمورة بالاحتياط.
ثم منشأ الاحتياط أن حيضها ليس يتميّز عن استحاضتها، لا بصفة ولا بعادة معلومة، ولا بمبتدأ معلوم يُتخذ مَردّاً.
والحيض لا يدوم حتى يقدّرَ سقوط وظائف الشرع عنها.
ويبعد أيضاًً تقديرُ جميع ما ترى استحاضة؛ فإن رؤية الدم في زمان إمكان الحيض يقتضي القضاءَ بكونه حيضاً.
فإذا تعارضت هذه الأحوال، لم ينقدح إلا الأمر بالاحتياط، ثم من احتمال الحيض في كل وقت ينشأ تحريم الوقاع أبداً، ومن احتمال الاستحاضة في كل وقت ينشاً الأمر بوظائف الصوم والصلاة، ومن احتمال انقطاع الحيض في كل وقت ينشأ الأمر بالاغتسال لكل صلاة مفروضة.
وقد ينبني على هذا الأمرُ بقضاء الصلاة بعد أدائها، على مذهب المحققين، كما سيأتي على الجملة مشروحاً إن شاء الله عز وجل.
520- وتحقيق القول في هذا أن الذي ذكرناه على الجملة من الاحتياط-وسنفصله إن شاء الله- ليس من باب التغليظ والتشديد والأخذ بالأحوط. ومن اعتقد أن هذا احتياطٌ، فليس محيطاً بحقيقة الباب؛ فإن تأبيد التحريم، والأمرَ بإقامة وظائف الشريعة من العبادات، مع تكليف القضاء-كما سيأتي- امتحانٌ عظيم، والمبتلاةُ بهذه الحالة ليست منتسبة إلى ما يوجب عليها تغليظاً، ولا يليق بالدين الحنيفي السمح جمع هذه الأمور احتياطاً؛ فإنا قد نسقط قواعدَ لأدنى ضرر، ولكن أمرناها بما سنذكره ضرورة لا يستقيم غيره؛ إذ لو قدّرناها في كل زمان كأنها حائض، لسقطت الصلاة والصوم، وبقيت دهرَها لا تصلي ولا تصوم، وهذا لا صائر إليه من الأمة، فلو أردنا أن نبعّض الأمرَ، فلا سبيل إليه، ونحن لا نعرف مبتدأ ومنقطعاًً، والأصول كلها ملتبسة.
ولو أحْللناها لزوجها أبداً، وهي ترى الدم في زمان إمكان الحيض، لكان ذلك بعيداً.
فما نأمرها به في حكم الضرورة، لا في حكم احتياطٍ، ونحن نجد جهةً غيرَه.
وينضم إليه أن الاستحاضة في أصلها نادرة، والنسيان على الإطلاق في نهاية الندور، وتنقرض الدهور ولا تُلفى متحيرة.
فليس فيما ذكرناه تغليظٌ يعتم، بل هو مرتبط بأندر الأحوال، فاحتمل لذلك.
521- ثم القول في معنى الاحتياط في حق المتحيرة يفصّل في خمسة أبواب:
أحدها: في بيان طهارتها.
والثاني: في حق حكم الصلاة المقامة في الأوقات.
والثالث: في الصيام وما يتعلق به.
والرابع- في قضائها ما يفوتها من الصلاة والصيام.
والخامس- في أحكام متفرقة، من تحريم الوقاع والعدة، وقراءة القرآن وغيرها.