فصل: فصل: أورده صاحب التقريب، مضمونه يشابه الوصيةَ بالمنفعة على التأبيد، وله تعلق بالثلث ومقدارِه وتفصيل الإجازة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: أورده صاحب التقريب، مضمونه يشابه الوصيةَ بالمنفعة على التأبيد، وله تعلق بالثلث ومقدارِه وتفصيل الإجازة:

7401- قال رضي الله عنه: إذا أوصى لإنسان بدينارٍ كلَّ سنة، ولم يذكر مقدارَ الدنانير، ومنتهى السنين، قال: تصح الوصية بالدينار الواحد في السنة الأولى؛ فإنه مضبوط لا شك فيه.
فأما بقية الدنانير في السنين المستقبلة، فقد ذكر صاحب التقريب فيها قولين:
أحدهما: أن الوصية باطلة فيها؛ فإن ضبطها غير ممكن، ولا ندري كم مبلغها، لنقدر خروجها من الثلث، وقد يتفق معها وصايا، فلا يتحقق مبلغ حصة هذه الوصية في المضاربة، ولو صححناها، لبقينا في موجَبها أبداً.
هذا أحد القولين.
والقول الثاني- أنه لا تبطل الوصية في باقي السنين؛ فإن الجهالة لا تتضمن بطلان الوصايا، كالوصية بالمنفعة.
ومن قال بالقول الأول، نفصل عن الوصية بالمنفعة، بأن قال: الوصية بالمنفعة على التأبيد غايتها أن تقتضي احتساب العبد من الثلث، ولتقويم المنفعة جهةٌ أوضحناها، أما إخراج دينار في كل سنة من غير ذكر نهاية، فهو مشكل جداً.
ثم اختار من القولين تصحيحَ الوصية، وقال مفرعاً على هذا:
7402- إذا ثبتت هذه الوصية، فلا يخلو: إما أن يكون في التركة وصايا سواها، أو لا يكون في التركة وصيةٌ غيرُها.
فإن لم يكن في التركة وصيةٌ غيرها، فلا شك أن الورثة لهم أن يتصرفوا في ثلثي التركة؛ إذ لهم رد الوصية في الثلثين، فأما الثلث، فهل ينفذ تصرفهم فيه؟ فعلى وجهين ذكرهما:
أحدهما: ينفذ تصرفهم فيه، بعد إخراج الدينار الواحد؛ فإن مِلْكه متحقق، ولا يُدرى هل يستحق الموصى له في مستقبل الأعوام أم لا.
والوجه الثاني- أن الثلث يوقف؛ فإن الموصى له إذا قبل الوصية، فقد ثبتت، ولا نهاية لها، فلا وجه إلا وقفُ الثلث. فإن رأينا الوقفَ، فلا كلام، فإذا بقي من له الحق على مر السنين، حتى استوعب بالدنانير الثلث، فذاك.
فإن مات قبل ذلك، فبقية الثلث مردودةٌ على الورثة.
وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن الوصية بالدنانير إلى غير نهاية، كالوصية بثمار الأشجار من غير نهاية، فإذا صححنا الوصية بثمار الأشجار، ثم مات الموصى له بها، فالوجه إقامة وارثه في الاستحقاق مقامه.
7403- والغرض في ذلك يبين بفرض ثلاث مسائل: إحداها- الوصية بالمنفعة، فالمذهب الظاهر أن الموصى له إذا مات، قام وارثه مقامَه، وخلفه في الاستحقاق.
وفيه وجهٌ بعيد ذكرناه.
وإذا أوصى بثمار الأشجار، فتخصيص الاستحقاق به وقطعه عن الورثة يظهر بعض الظهور؛ فإنّ في الوصية بالثمار احتمالاً في أصلها.
وإذا أوصى بأن يُصرفَ إلى إنسان كلَّ سنة دينار، فمات ذلك الشخص، فيظهر في هذه الصورة جداً انقطاعُ الوصية بموته، ويتجه أيضاً إذا صححنا الوصية أن يدوم الاستحقاق لورثته، ولهذا الإشكال في التفريع خرج قولٌ في إبطال الوصية.
ولو قيدَ الكلامَ بصرف دينار إليه كل سنة ما بقي، فلا شك في أن ذلك ينقطع بموته.
فإن صورنا المسألة في هذه الصورة، أو فرعنا على ما قطع به صاحب التقريب من حمل الوصية على الدنانير التي تكون على سني عمر الموصى له، فنقول: نصرف الثلث على وجه الوقف، ونصرف إلى الموصى له ديناراً ديناراً، فإن استغرق الثلثَ في حياته، فذاك. وإن مات، وقد بقي من الثلث بقية، رددناها على الورثة.
فإن قلنا: لا يُوقف الثلث، فالورثة يتصرفون فيه، ومهما استحق عند انقضاء سنة ديناراً، طالب الورثةَ به، وكان ذلك بمثابة ما لو اقتسم الورثةُ التركة، ثم ظهرت وصية.
وهذا فيه نظر؛ فإنه إذا ظهرت وصية تتبَّعْنا تصرَّفَ الورثة في الثلث بالنقض، فإن كان الأمر كذلك في مسألتنا، فلا فرق. وظاهر كلام صاحب التقريب أن تصرّفهم في الثلث ينفذ، ولا يُتْبَع بنقض.
وهذا فيه إشكال واحتمالٌ ظاهر، وبين المسألة التي نحن فيها وبين ظهور الوصية فرقٌ؛ من جهة أن الدنانير تنقسم على أواخر السنين في هذه المسألة وتثبت ديناراً ديناراً، وليس كالذي يبين أنه كان ثابتاً، ولم نعلمه.
وجميع ما ذكرناه فيه إذا تجردت تلك الوصية، ولم يكن معها وصايا.
7404- فأما إذا أوصى بوصايا ومن جملتها الوصيةُ التي ذكرناها، فإن جعل الوصية التي ذكرناها معلّقةً بعُمر الموصى له، فقد قطع صاحب التقريب بأن الثلث يُفضّ على مستحقي الوصايا في الحال، ولا نؤخر حقوقهم؛ فإنا لا نضبط مبلغ الوصية الأخرى، فلا وقف في حقوقهم، وإنما الاختلاف في وقف الثلث في حق الورثة إذا تجردت الوصية التي نحن فيها، والفرق أن الثلث إن وقفناه، فهو حق المتوفَّى، ومحل تبرعاته، فلا بُعد لو حُلْنا بين الورثة وبينه، فأما إذا ثبتت وصايا ناجزة، فالثلث محلُّ حقوقهم، فيبعد أن نقف الثلث إلى أن نتبين منتهى هذه الوصية المجهولة، فإذا فضضنا الثلث على الدينار الذي انتجز من هذه الوصية في هذه السنة وعلى سائر الوصايا، فإذا انقضت سنة أخرى، استحق الموصى له ديناراً وضارب به أربابَ الوصايا، واسترد منهم ما يقتضيه التقسيط في ذلك القدر، ثم لا يزال يفعل ذلك في كل ما يستحقه حتى تنتهي الوصية.
وهذا الذي ذكره بيّنٌ إذا كانت الوصية مقيّدة بحياة الموصى له، فأما إذا لم تتقيّد بحياته، ورأينا أن نقيم ورثته مقامه، فهذا مشكلٌ لا يُهتدى إليه، وحاصله مضاربةُ أقوام حقوقُهم مقدرة بما لا نهاية له.
ولو قيل: إنه لا يضارب إلا بمقدار الثلث، ويبطل ما وراءه، لانتفاء النهاية عنه، لم يبعُد. وهذا الإشكال في مضاربة الوصايا؛ فإن الورثة إذا ردّوا الوصية إلى الثلث انحصرت فيه، والغموض في مضاربة ما لا نهاية له أقداراً متناهية، فيجوز أن تبطل الوصية في الزائد على الثلث، ويكون هذا في هذه المسألة مناظراً لمذهب أبي حنيفة في رده ما يزيد من الأجزاء على الثلث إذا رُدّت الوصايا إلى الثلث، وهذه مناظرة لفظية، وإلا فما ذكره أبو حنيفة باطل؛ فإنه أبطل السدس من الوصية بالنصف، وهو مقدّر، وإنما الغموض في هذه المسألة من جهة انتفاء النهاية عن الوصية.
وينقدح أن يقال: يضارب بمقدار المال كله، حتى كأنه أوصى له بكل المال، ثم ردت الوصايا إلى الثلث، فإنا نثبت المضاربة بالزائد على الثلث.
ومنتهى الأمر تقدير الوصية بجميع المال، ثم هذا التضارب يقع شيئاً شيئاً.
كذلك قال صاحب التقريب.
ويجوز أن يقال: يوقف له القدر الذي ذكرناه، إما في تقدير الثلث وإما في تقدير الكل، بحكم المضاربة.
وقد قال صاحب التقريب: إذا قال: ادفعوا إلى فلان في انقضاء كل سنة ديناراً إلى عشرين سنة، فهل نقف هذا القدر له في معارضة الوصايا؟ فعلى وجهين.
7405- فليتأمل المتأمل أطراف هذه المسألة ولْيقْضِ العجبَ منها، وفي اختباط تفاريعها يظهر للإنسان بطلان الوصية، وليت شعري ما قول الأصحاب فيه إذا قال: أوصيت لفلان بما لا نهاية له من الدنانير؟ هذا فيه تردد، فينقدح إبطال الوصية؛ فإنها وقعت بغير ممكن، ويجوز أن يقال: هي وصية بالمال كله، والعلم عند الله عز وجل.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال أعطوه رأساً من رقيقي... إلى آخره".
7406- إذا قال الموصي: أعطوا فلاناً رأساً من رقيقي، فمضمون هذا اللفظ الوصيةُ له بمملوك من جملة مماليك، ومقصود الفصل بيانُ مقتضى هذا اللفظ، وإيضاحُ المعنى الذي يكون وفاء في المطلوب منه، فإذا كان للموصي عبيد وإماء، فأعطى الوارثُ الموصى له عبداً أوْ أمةً من جملة رقيقه، فقد خرج عن موجَب الوصية ومقتضى لفظها؛ فإن الرقيق يتناول الذكر والأنثى.
ولو كان في رقيقه خنثى، فالمذهب الصحيح أنه مجزىء، وبذلُه كافٍ؛ فإن اسم الرقيق يتناوله.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أنه لا يجزىء، ولا يكون بذله وفاءً باللفظ؛ فإن هذا الاسم يتناول ما يفهم منه في العرف، والخنثى يندر اتفاق وجوده، فلا يتناوله الاسم العام.
وهذا عريّ عن التحصيل، لا اعتداد به؛ فإن الاسم العام، وهو رأس من الرقيق يتناول الخنثى تناوله للذكر والأنثى، ولو قال الرجل: مماليكي أو أرقائي أحرار، دخل الخنثى بحيث يعتِق، فإن منع صاحب التقريب ذلك، كان في نهاية البعد، وإن سلّمه، وفرّق بأن المماليك إذا تناولت الجميع عموماً، لم يبعد اشتمال اللفظ على الخنثى مع جريانها على مقتضى عمومها؛ فإن اللفظ المُجرى على حقيقة عمومه يتناول النادر مع تناوله لغيره، وإذا قال: رأساً من رقيقي، فحمل على النادر الذي لا يخطر بالبال دون غيره، كان بعيداً، فهذا الفرق لا حاصل له؛ فإن قوله: رأساً من رقيقي وإن كان مقتضاه بذلَ واحدٍ، فهو مضاف إلى لفظ جامع شامل على أصل، فهذا الوجه.
7407- ولو قال: أوصيت لفلان برأسٍ من رقيقي، ولم يكن له رقيق حالة الإيصاء، ولم يمت عن رقيق أيضاً، فالوصية باطلة، فإنه أضاف الموصى به إلى أرقائه، فإذا لم يكن له مماليك، فلا أصل ولا مستند للفظه.
ولو قال: أوصيت لفلان برأس من رقيقي، ولم يكن له حالة الإيصاء رقيق، ثم ملك مماليك، ومات عنهم، فالمذهب أن الوصية تنفذ في واحد منهم.
ومن أصحابنا من قال: الوصية مردودة؛ فإن لفظه حالة الإيصاء لم يجد متعلقاً فلغَى وبطل، ثم لا أثر لوجود الأرقاء بعد ذلك، وهذا يضاهي ما لو قال: أوصيت لفلان بثلث مالي، وكان لا يملك إذ ذاك شيئاً أصلاً، ثم تموّل ومات عن مال، فالأصح أن ثُلث ماله مصروفٌ إلى وصيته.
ومن أصحابنا من قال: الوصية مردودة؛ لأنها لم تتناول مورداً، ولم تثبت بمتعلَّقٍ حالة الإنشاء.
ولم يختلف أصحابنا أنه لو كان يملك درهماً، فقال: أوصيت لفلان بثلث مالي، فخوله الله تعالى مالاً جماً، ومات، فثلث جميع ما خلف مصروف إلى وصيته.
هكذا ذكر الشيخ أبو علي في صورة الوفاق والخلاف في شرح التلخيص.
فعلى هذا لو كان قال؛ أعطوه رأساً من رقيقي، وكان يملك إذ ذاك أرقاء، ثم ملك غيرهم ومات، فللوارث أن يسلّم رأساً من الذين استفادهم بعد الإيصاء.
ولو قال: أعطوه رأساً من مماليكي، وكان لا يملك إلا مملوكاً واحداً ومات على ذلك، ولم يخلّف غيرَه من المماليك، فهذا اللفظ فيه خبلٌ، واضطراب؛ من جهة أنه أضاف المملوك الموصى به إلى مماليكه، وليس له جمع من المماليك يصح إضافة المملوك الموصى به إليهم، ولكن الذي يقتضيه المذهب القطع بتنزيل وصيته على ذلك المملوك الواحد، وإن لم نجد في ملكه جمعاً من المماليك، يضيف ذلك العبدَ إليهم؛ فإنا وجدنا متعلقاً لوصيته، فاستقلت به، ولا مبالاة بأن يختل بعد هذا المتعلق لفظهُ.
ولم يختلف أصحابنا في أنه إذا أوصى برأسٍ من رقيقه، وكان له جمع من الأرقاء، فماتوا إلا واحداً منها، نزلت الوصية عليه.
7408- ومما يتصل بمقصود الفصل، وهو المعتبر فيه-وعلى المنتهي إلى هذا الموضع من هذا الفصل أن يتامل ما نلقيه إليه- أنَّ هذه الوصية مفروضةٌ فيه إذا أطلق الموصي لفظه، وأرسل وصيته، وحاول أن تنفذ فيما ينطلق عليه لفظُه، ولم يضمر إرادةَ تعيينٍ من رقيقه، فمسائل الفصل مدارةٌ على هذه القاعدة، والغرض بيان مقتضى هذه الصيغة عند الإطلاق.
وعلى هذا قال الأئمة: لو أوصى برأسٍ من رقيقه، وكان له جمع من المماليك، فانتحى الوارث معيَّناً منهم، واعتمد أحسنهم قدراً، أجزأ ما يُخرجه عن الوصية؛ فإن اسم رأسٍ من رقيق يتناوله، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
فإن قال الموصى له: لم يُرد الموصي هذا، لم يردّه، على أن نُفهمه معنى عموم اللفظ وشمول الصيغة ونبين له أن المسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يعيّن الموصي بلفظه أحداً من مماليكه، وإنما أراد أيَّ واحدٍ كان من أرقائه.
ولو قال الموصى له: إنه أضمر واحداً منهم، وإن أبهم لفظه، فليس يبعد أن يضمر مع الإطلاق، وإن كان لفظه عاماً؛ فإن سيد المماليك لو قال: واحد منهم حُرٌّ، ثم زعم أنه عنى عند اللفظ متعيناً منهم، تبيّنا نزول العتق عليه.
وكذلك إذا قال الزوج: واحدةٌ من نسائي طالق. وأضمر عند إطلاق هذا اللفظ واحدةً متعينة منهم في نفسه، فهي المطلقة.
وإن أطلق إبهام العتاق والطلاق، ولم يضمر معيناً، خوطب بإيجاب التعيين عليه، على ما ستأتي هذه المسائل مشروحةً في كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
7409- فإذا وقع التنبيه لها، فنقول: الموصى له غير بعيد عن الاحتمال، ولكن لا نقبل دعواه، ما لم يعيّن عبداً، وما لم يقل هذا مَعْنِيُّه ومرادُه؛ فإن الدعوى المبهمة مردودة ممّن يبغي مالاً.
ثم إن عين، فالقول قول الورثة، فإن قالوا: لم يعيّن، ولم يُضمر تعييناً أصلاً، وإنما أبهم اللفظ ليُجرى على مقتضى عمومه، فالرجوع إلى أقوالهم.
وإن فرض عرْضُ يمين، فالقول في صيغتها يأتي في سياق الكتاب، فليس تفصيلها من غرضنا الآن.
7410- ولو قال: اشتروا عبداً من مالي وسلموه إلى فلان، فاشترى الورثة عبداً معيناً، وسلموه إلى الموصى له، وقع الاكتفاء به في قول أصحابنا المعتبرين؛ تعلّقاً بما ذكرناه من مقتضىً، وتشبيهاً لهذا بما لو قال: أعطوه رأساً من رقيقي، وكان فيهم معيب فقصدوه وأخرجوه إلى جهة الوصية.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الوصية إذا كانت متقيّدة بالشراء، فلا يقبل فيها معيب؛ فإن الشراء يقتضي سلامة المشترَى، ولذلك يثبت الرد بالعيب.
فإذا قال: اشتروا عبداً أو مملوكاً، وسلموه إلى فلان، فقد أوصيت له به، فربْطُه المملوكَ الموصى به بجهةٍ مقتضاها طلب السلامة يقتضي السلامة.
وهذا لا أصل له؛ فإن الوصية تستقل بموجب اللفظ، واللفظ عام، كما سبق تقريره، فلئن كان مقتضى العهدة في البيع ثبوت خيار الرد، فلا تعلق لهذا بوضع الوصية، والدليل عليه أن الرجل إذا وكل وكيلاً ليشتري له مملوكاً، وأطلق التوكيل ولم يقيّده بالسلامة، فاشترى الوكيل عبداً، ثم اطلع على عيب به، وكان العبد مع ذلك العيب يساوي الثمن المذكور، فالبيع يصح عن الموكل؛ حملاً على مقتضى الاسم المطلق، ثم عهدة العقد تقتضي ثبوتَ الخِيَرة في الرد، فلزم تنزيل الوصية على العبد المشترى وإن كان معيباً، ثم لا عهدة في الوصية حتى نفرض رد العبد فيها.
7411- ومما يتعلق بتحقيق الفصل أنه إذا قال: أوصيت لفلان برأسٍ من رقيقي، وكان له مماليك، فماتوا قبل موت هذا الموصي، انقطعت الوصية.
وكذلك لو ماتوا بعد موت الموصي، وقَبْل قبول الموصى له، فلا فائدة للحكم ببقاء الوصية؛ فإنها لو ثبتت، لكانت متعلقة بعبد من العبيد الذين خلّفهم الموصي، فإذا ماتوا موتاً لا يُعقب ضماناً على آخر، فقد فاتت الوصية في أعيان العبيد، ولم يُعقب موتُهم أَبْدَالاً، وعَسُر الوفاء، ونزل هذا منزلة ما لو ماتوا قبل وفاة الموصي.
7412- ولو أوصى برأس من رقيقه، فقُتِل أرقاؤه في حياته قتلَ ضمان، فاتت الوصية؛ فإنّ نَفَذ الوصية ما بعد الموت، وقد مات ولا رقيق له.
ولو قتلوا بعد موته، وقبل قبول الموصى له، نزلت قيم العبيد القتلى منزلة العبيد بأنفسهم، فيعيّن الوارث قيمة من شاء من المماليك.
وعلى الناظر تأملٌ في هذا؛ فإن الأقوال مختلفة في أن الملك في الموصى به متى يحصل للموصى له؟ ففي قولٍ يحصل الملك بنفس موت الموصي، ويستقر بالقبول.
وفي قولٍ يقف الأمر على القبول، فإن قُبل، تبيَّنا استنادَ الملك إلى موت الموصي، وإن ردّ الموصى له الوصية، تبيّنا انتفاء الملك أصلاً، ومسألتنا مفروضة فيه إذا قُتل العبيد، وقَبِل الموصى له الوصية بعد قتلهم، فيستدّ على القولين المذكورين صرفُ قيمة عبد إلى حقه؛ فإنا نتبيّن على الوقف، أو نحكم على تحقق أن عبداً من العبيد قُتل ملكاً للموصى له.
وفي أصل المسألة قولٌ ثالث، وهو أن الملك يحصل للموصى له بالقبول، فعلى هذا يقع قبوله بعد فوات رقاب المماليك، والوصية بواحدٍ منهم، فقد يُشْكل ورود الملك على قيمة عبد ابتداء، ولكن أطلق الأصحاب ما حكيته، والممكن منه أنا وإن حكمنا بأن الملك يحصل بالقبول، فللموصى له حق في الموصى به قبل القبول.
وآية ذلك أنه يستبد بتملكه، ولا يقدر أحد على إبطال هذا الحق عليه، وليس كحق القبول في البيع والهبة بعد الإيجاب من الموجِب؛ فإن الموجِب لو أراد بعد التلفظ بالإيجاب أن يُبطل إمكان القبول، تُصوِّر ذلك منه، ولا يتصور من الورثة قطع حق القبول، فخرج منه أنا وإن حكمنا بأن القبول يستعقب الملك، فلسنا ننكر ثبوت حق الموصى له قبل القبول، فالحقوق اللازمة الماليّة إذا تعلقت بأعيانٍ، لم يمتنع انتقالُها من الأعيان إلى أبدالها، كحق الموصى له، فهذا هو الممكن.
ولا يبعد عن القياس أن يقال: إذا حكمنا بأن القبول يستعقب الملك، تسقط الوصية و تفوت بفوات الأعيان قبل القبول، وهذا ابتداء احتمال من طريق النظر، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب، فلا اعتداد به.
7413- ولو قتل العبيد بعد موت الموصي وقبل القبول إلا واحداً منهم، فالذي ذكره أئمتنا في الطرق أن للورثة أن يصرفوا الوصية إلى قيمة قتيلٍ، كما لو قتلوا بأجمعهم، ولهم إخراج العبد الباقي.
ووجه ما قالوه أن القتلى بمثابة الأحياء في بقاء الوصية؛ إذ لو قتلوا، لكانت الوصية قائمة، فبقيت خِيرَةُ الورثة، ولا فرق بين الحي الباقي وبين القتلى.
وقطع العراقيون قولهم بأنه يتعين على الوارث تسليم العبد الباقي، وإن كان لو قتلوا جميعاً، لعيَّنُوا أيَّةَ قيمةٍ شاؤوا، واعتلّوا بأن قالوا: الأصل في الوصية إخراج رأسٍ من الرقيق، فما دام ذلك ممكناً، فالوفاء بحق الوصية إخراج رقيق؛ فإن فاتوا من عند آخرهم، أقمنا الأبدال لتعلق الوصية بالأعيان مقام الأعيان.
وهذا الذي ذكروه فقيه متجه، وما ذكره أصحابنا المراوزة ممكن غيرُ بعيد.
7414- ولو أوصى بعبد معيَّنٍ لإنسانٍ، فقُتل ذلك العبد قبل موت الموصي قَتْلَ ضمان، فقد فاتت الوصية بفوات العبد، ولا تعويل على القيمة؛ فإنه لم يوص بالقيمة، ولما قتل العبد، لم يقع مثلُه في وقتٍ ثبت فيه ملكُ الموصى له، أو حق تملكه.
فلو قتل بعد موت الموصي وقبل القبول، فإذا قبل الموصى له، كانت القيمة له، وهذا خارج على ما قدمناه من قول الأصحاب.
7415- وقد نجز الغرض في الفصل المفروض فيه إذا قال: أعطوه رأساً من رقيقي، وتبين أن شرط هذه الوصية أن يخلّف أرقاء، أو رقيقاً، كما بينا ذلك مفصلاً.
7416- فلو قال: أوصيت لفلان بعبد من مالي، أو قال: أعطوا فلاناً رقيقاً من مالي، فلا يشترط في صحة هذه الوصية أن يخلف مملوكاً، ولكن لو لم يخلف مملوكاً أصلاً، اشترينا من الثلث مملوكاً، وصرفناه إلى جهة الوصية.
ولو خلف مملوكاً أو مماليك، ولفظ وصيته: أعطوا فلاناً عبداً من مالي، فلو أراد الورثة أن يشتروا عبداً ويسلموه إلى الموصى له، فالذي صار إليه المحققون أن لهم ذلك، ولا يتعين عليهم إخراج عبد من عبيد التركة؛ فإنهم لو لم يكونوا، لاستقلت الوصية في مكان تحصيل العبد من المال، فلا أثر لوجود العبيد ولعدمهم.
ورأيت في بعض التصانيف رمزاً إلى أنه يتعين تسليم عبد من الموجودين، إذا كانوا في التركة، فإن لم يكونوا، فتحمل الوصية حينئذ على تحصيل العبد من التركة.
وهذا غير معتد به، ولا سبيل إلى عد مثله من المذهب.
فصل:
قال: "ولو قال: شاةً من مالي... إلى آخره".
7417- إذا أوصى بشاةٍ من ماله، فالمذهب الذي عليه التعويل أن اسم الشاة ينطلق على الذكر والأنثى، فلو أخرج كبشاً أو تيساً أجزأه؛ فإن الهاء في الشاة ليست هاء التأنيث، وإنما هي هاء التوحيد، فيما يتميز الواحد فيه عن الجمع بالهاء، على قياس التمر والتمرة، والجوز والجوزة، فقولك شاة أصله شاهة، ويتبين ذلك بقولك في التصغير شويهة، والتصغير يرد المحذوف إلى أصله.
هذا هو المذهب.
وأبعد بعض أصحابنا؛ فحمل الشاة على الأنثى. ثم لا خلاف أن الضانية والماعزة، مندرجان تحت الشاة، فيجوز للوارث أن يخرج من أي نوع شاء، ولو أخرج سخلة، فظاهر النص أنها تجزئه، وهو الذي قطع به صاحب التقريب وأئمة العراق، ومعظم المراوزة.
وذكر الشيخ أبو بكر في مجموعه في طريقة القفال، في روايةٍ أن السخلة لا تجزىء؛ فإن اسم الشاة لا يتناولها، كما أن اسم الرجل والمرأة لا يتناولان الطفل.
ثم قال الشافعي رضي الله عنه في الوصية بالشاة: "لو أخرج الوارث صغيرة، أجزأت"، فحمل الشيخ أبو بكر الصغيرة على جذعةٍ من الضأن صغيرة الجثة، وهذا الذي ذكره وإن كان له اتجاه على حالٍ، فهو خلاف ما صرح به الأصحاب أجمعون في طريقهم؛ فإنهم متفقون على إجزاء السخلة، وذلك أن اسم الشاة يتناول في اللسان ما يعد من جنس الغنم، والسخالُ من جنس الغنم، ويكمل بها نصاب الجذاع والثنايا في الزكاة، فلا اغترار بما ذكره الصيدلاني، والتعويل على الجنس كما ذكرناه، ثم إن جرى جارٍ على ما رآه اعتُرِض له بالجذعة من المعز؛ فإنها غيرُ مجزئة في الضحايا، والظاهر أنها مقبولة في الوصية بالشاة. فإنها منزلة على مرتبة السخال والجذاع، والله أعلم.
7418- والكلام في الفرق بين أن يقول: شاة من غنمي أو شاة من مالي، والكلام في موت الشياه وقتلها، والفرق بين قتل جميعها وبقاء بعضها كما ذكرناه في الأرقاء، فلا معنى لإعادة ما تقدم. وإنما نذكر في كل فصل ما يتجدد فيه، والقول في المعيبة والسليمة، كما سبق.
7419- ولو أوصى لإنسان ببعيرٍ، فالنص أنه محمول على الذكر، لا تجزىء الناقة فيه.
وقد ذهب طوائف من أئمتنا إلى أن الناقة مقبولةٌ، فكان هذا منهم قولاً مخرَّجاً، وهو موافقٌ للغة؛ فإن من كلام أئمة اللسان أن البعير من الإبل، كالإنسان يتناول الذكر والأنثى، والجمل كالرجل، والناقة كالمرأة. هذا وضع اللسان.
وما ذكره الشيخ أبو بكر في أن السخلة لا تجزىء عن الشاة الموصى بها على الإطلاق يظهر في البعير؛ فإنه قد يبعد حمله على فصيلٍ وحُوارٍ ومن قبل السخال في الغنم طرَدَ مذهبَه في الفُصلان ولم يُناقَض.
ثم قد ذكرنا أن مذهب جماهير الأصحاب أن الشاة مترددة بين الذكر والأنثى، والهاء للتوحيد، وما يخالف هذا بعيدٌ.
7420- واشتهر خلاف الأصحاب في الوصية بالبقرة والبغلة، فذهب بعضهم إلى أن البقرة محمولة على الأنثى، وكذلك البغلة، وذهب آخرون إلى أنها مترددة بين الذكر والأنثى تردد الشاة، ورأيت الطرق متفقةً على أن الكلب محمولٌ على الذكر من جنسه، لا غير.
وهذه الفصول المتداخلة تقتضي ترتيباً، فنقول:
ما لا يتخيل فيه التأنيث ويجري في قبيله تمييز الواحد عن الجمع بالهاء، فالمذكور بالهاء واحدٌ من الجنس، وهذا كالجوزة والتمرة واللوزة والشجرة والنخلة ولا تعويل على ما يُذْكر في النخيل من الذكور والإناث، والجنس الذي تتحقق فيه الذكورة والأنوثة من جهة الخلقة ينقسم، فمنه ما يتميز فيه الذكر عن الأنثى بالهاء، مع اتحاد البناء، وهذا بمثابة الكلب والكلبة، والحمار والحمارة، فالاسم المذكور مع الهاء الأنثى، ومن غير هاءٍ للذكور. وعليه يخرّج قول الأصحاب في حمل الوصية بالكلب على الذكر، وإن خطر لإنسانٍ فيه إشكال، فسببه ردّ الاسم إلى العجمية، وليس في لغة العجم فرق بين الذكر والأنثى.
فأما ما لم يثبت في اللسان فيه فرق بين الذكر والأنثى بالهاء ثبوتاً متحققاً منقولاً، ففيه اختلاف الأصحاب، وهذا ينقسم: فمنه ما غلب منه إرادة التوحيد، حتى لا يكاد العرب تفهم منه التأنيث، وهو كالشاة، وفيه ما لا يبعد فهم التأنيث منه، وهو كالبقرة والبغلة، فظهر الخلاف في البقرة والبغلة للتردد بين التوحيد والأنوثة، وبُعد الخلاف في الشاة.
فهذا ما يجب ضبطه في هذه المسائل.
7421- ولو أوصى لإنسانٍ بدابةٍ، فاسم الدابة في اللسان ينطبق على ثلاثة أجناس: الخيل، والبغال، والحمير، ولا يندرج تحتها الإبل، وإن كانت مركوبة، وهذا متفق عليه، ومعناه في اللسان واضحٌ، لا إشكال فيه.
ثم تردد أئمتنا في لفظ الدابة، إذا جرت في مصر، وقد قيل: إن أهلها لا يفهمون منه إلا الحمار، فلو فرضت بلدة لا يفهم أهلها من الدابة إلا الفَرَس، نفرض الكلامَ على ما يتحمل اللفظ على موجب اللسان ليتردّد بين الأجناس الثلاثة: الخيل، والبغال، والحمير، أو يُحمل اللفظ على موجب عرف المكان؟ فيه تردد للأصحاب: فمنهم من لم يبال بالعرف لظهور معنى اللسان، ومنهم من حمل اللفظ على موجب عرف المكان؛ فإن العرف قرينة الألفاظ.
7422- ويتصل بهذا الفصل أن ألفاظ العقود في النقود قد تحمل على الدراهم المغشوشة إذا كانت بيّنة العيار جاريةً في المعاملات، وقد ذكرنا أن الإقرار بالدراهم محمول على المطبوع من النقرة، وذكرت وجه ذلك على ما ينبغي، ولم أر للأصحاب في الوصية بالدراهم شيئاً، ووجدت صَغْوَهم الأظهرَ إلى تنزيل ألفاظ الوصايا منزلة ألفاظ المقرّين، ولكن لا يبعد عن الاحتمال عندي صرف الوصية بالدراهم إلى الدراهم الجارية في المعاملات، والظاهر إجراء الوصية مجرى الإقرار، والعلم عند الله تعالى.
وتمام القول في حمل الألفاظ على العرف يأتي في كتاب الأَيمان، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو قال: أعطوه كلباً من كلابي... إلى آخره".
7423- الوصية بالكلب الذي يجوز اقتناؤه صحيحة، والكلب الذي لا يُقتنى لا تصح الوصية به، وقد فصلنا في كتاب البيع ما يصح اقتناؤه، وما لا يحل اقتناؤه، وذكرنا تفصيلاً في الجرو الذي ينتفع به إذا كبر.
والقدر الذي يُكتفى به هاهنا ما ذكرناه من الرجوع إلى جواز الاقتناء، عماد جواز الاقتناء الانتفاع المشروع، ثم البيع وإن كان ممتنعاً، فالوصية جائزة؛ فإن البيع يستدعي الملكَ المطلقَ التامّ، والوصية لا تقتضي ذلك، بل أقرب معتبر فيها الوراثة، فكل ما يتعلق به حقُّ الإرث تتعلق الوصية به إذا انتفع الموصى له انتفاع الوارث.
وهذا فيه احتراز عن القصاص وحدّ القذف؛ فإن الوارث ينتفع به من جهة شفاء الغليل، وهذا لا يحصل للموصى له، والوارث يخلف الموروث في الانتفاع بالكلب المنتفع به، والموصى له بمثابة الوارث، وهذا يجري مطرداً في الأعيان النجسة التي يجوز الانتفاع بها، كالزبل والخمرة المحترمة، والجلدِ القابلِ للدباغ قبل الدباغ، فالوصية جائزة بهذه الأشياء؛ تعويلاً على تعلق استحقاق الوراثة بها مع التقييد الذي قدمناه.
ثم إن قال: أوصيت لفلان بكلب من كلابي، وله كلاب، فالوصية نافذة.
ولو قال: أوصيت لفلان بكلبٍ من مالي، ولم يكن له كلاب، فالوصية باطلة، فإن سبيل تقدير صحة الوصية ابتياع كلبٍ، وتسليمه إلى الموصى له، وهذا لا سبيل إليه؛ فبطلت الوصية.
7424- ومما يتعلق بمقصود الفصل كيفية اعتبار خروج الكلب من الثلث: قال الأئمة: إن كان له مال سوى الكلب، فالكلب خارج، وإن كان لا يملك إلا دانقاً، ولم يخلف على ورثته غيرَ ذلك الدانق، وعللوا بأن ما خلّفه من المال، وإن قل قدرُه، فهو أعلى قدراً من الكلاب؛ فإنها لو قُتلت، لم تُضمن، ولا يصح بيعها.
وعلى هذا لو أوصى بكلابه، وخلف درهماً، أو أقلَّ، فالكلاب بجملتها مسلمةٌ، والوصية بها نافذةٌ.
وذكر العراقيون هذا المسلك، وحكَوْا وجهاً آخر معه، وهو أنه لا أثر لوجود المال وعدمه في الوصية بالكلاب، حتى لو كان في يده كلب، وخفف مالاً جمّاً، وقد أوصى بذلك الكلب، فالوصية تقع بثلث الكلب، وذلك أن الكلب ليس من قبيل الأموال، وليست الأموال من جنس الكلاب، والثلث المعتبر من ثلاثة أجزاء، فإذا لم يكن الكلب من جنس المال، فعدُّه جزءاً من المال محال، فلا أثر إذاً للمال كان أو لم يكن.
وهذا الذي ذكروه بعيد، لا أصل له.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أوصى بكلب أو كلاب، ومعه شيء من المال، فأما إذا لم يكن له إلا الكلاب، فأوصى بكلب منها، فللأصحاب في المعتبر الذي إليه الرجوع في الخروج من الثلث، أوجه: أحدها: أن الاعتبار بالعدد لا غير، إذ لا قيم لها فتعتبر.
ومن أصحابنا من قال: تعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة، ومبنى الثلث على هذا التقدير.
ومن أصحابنا من قال: مبنى الثلث على اعتبار منافعها، وهذا قريب من اعتبار قيمتها، فإن قيمتها لمكان منافعها.
هذا منتهى القول في ذلك.
ومن تمامه أنه لو أوصى لإنسان بكلب أو خمر محترمة وأُهب، لم تدبغ بعدُ، فلا يمكننا اعتبار العدد في ذلك، ولا يتجه إلا قيمتها لو كانت لها قيمة، فإن منافعها لا تتجانس، فتعتبر.
ومن أصحابنا من يقول: إذا أخلف، كلاباً وأزقةً من الخمر المحترمة، فتعتبر الأعداد. وهذا بعيد.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال: طبلاً من طبولي... إلى آخره".
7425- الطبل له ثلاثة محامل: أحدها: طبل العطارين، والثاني: طبل الحرب، وفي معناه طبل الحجيج، والثالث:طبل اللهو، وهو الذي يضربه النسوة والمخنثون، وهو المسمى الكوبة.
فأما طبل الحرب وطبل الحجيج وطبل العطارين، فيجوز بيعها، وتصح الوصية بها.
وأما طبل اللهو وهو الكوبة، فمن آلات الملاهي، وسبيله سبيل المعازف، ثم الضبط فيها أنه إذا وجب تغييرها إلى حدٍّ يُسقط عنها الاسمَ المذكور، فالبيع باطل فيها وفاقاً.
فإن قيل: هلا صححتم البيع ونزلتموه على الأجزاء التي تبقى بعد التغيير؟ فإن آلات المعازف لا تبطل بالكلّية ولكنها تغير وتفسد فيها الصيغة التي تتهيّأ لهو لأجلها. ويبقى أجزاؤها ورُضَاضها، وقد ذكرنا في الغصوب طرق الأصحاب في المنتهى الذي لا يتجاوز في الكسر والتغيير؟
قلنا: البيع وإن كان سائغاً في الرضاض، فلا يصح إيراده على آلة اللهو قبل الترضيض. وهذا متفق عليه.
والسبب فيه استحثاث الناس على الانكفاف عن التصرف في آلات الملاهي، ولو جوزنا بيعها، ثم حملناه على الأجزاء التي تبقى، لكان هذا تنجيزَ تصرف فيما أمرنا باجتنابه، والتباعدِ عن التصرف فيه، فنخرّج عليه أنه لو قال: "بعتك هذا"، وأشار إلى كوبة أو بَرْبَط، فالبيع باطل، وإن لم يسم؛ فإن تعليل البطلان ما ذكرناه من الانكفاف عن التصرف فيه رأساً.
ثم إذا بان فساد البيع فيها، فالوصية بالآت الملاهي فاسدة أيضاً.
فإن قيل: قد صححتم الوصية بالكلب وإن منعتم بيعه، فهلا صححتم الوصية بآلات الملاهي، حملاً على رُضاضها؛ فإن الوصية تحتمل ما لا يحتمله البيع، ولذلك صححنا الوصية بالكلب وإن لم نصحح بيعه؟
قلنا: حق من يبغي دَرْك حقائق المذهب ألا يتبع الألفاظ، ويضرب عن المعاني، فالمعنى الذي لأجله رددنا البيعَ هو المنع من تعاطي هذه الأشياء، والجريان على شعار الدين في الانكفاف عن التصرف في هذه الأشياء، وهذا المعنى يجري في الوصية جريانَه في البيع، والدليل عليه أنا أخذنا الوصية من الوراثة، وقلنا: ما يستحقه الوارث لا يمتنع الوصيةُ به، ثم طبل اللهو لا يبقى في يد الوارث، فإذا كان لا يبقى في يد الورثة، فلا يصح الوصية به، غيرَ أن الوارث لا يستحقه طبلاً، ولو رُضّض، لكان الرضاض ملكَه إرثاً.
وإذا أبطلنا الوصية بطبل اللهو، لم نثبت للموصى له حقاً في رضاض الطبل، ومُكَسَّره؛ فإن الوصية من العقود، فإذا أُبطلت، قُدّر كأنها لم تكن، والإرث خلافة ضرورية، ووضعُها يقتضي أن يكون الوارث كالموروث، وقد كان الطبل مقرّاً على الموروث، وملكُه مستمر في المكسّر المغيّر.
7426- ولو أوصى لإنسان بطبل لهو، وكان يخرج عن صلاحية اللهو بتغييرٍ، كما فصلناه في كتاب الغصوب، واسم الطبل يبقى مع انتهاء التغيير المستحق نهايته، فقد قال العلماء: تصح الوصية بالطبل على هذا الوجه؛ فإن الاسم الذي اعتمد به الوصية يمكن تقريره وتنزيلُ الوصية عليه، فصحت الوصية على هذا النسق، واتفقت الطرق عليه.
ويجب على مقتضى ذلك القطع بتصحيح الوصية بمكسّر الطبل، أو رُضاض العود؛ فإنه جَعل موردَ العقد لفظاً مشعراً بمملوك محترم، وكأنه قال: رضضوه وسلموا إليه رضاضه، والوصية تقبل التعليق.
7427- ولو قال صاحب البَرْبَط: بعت منك رُضاض هذا، لم يصح البيع؛ فإن البيعَ لا يحتمل التعليق، فقوله: بعتك رضاضه تقديره: إذا رُضّض، فقد بعتك رُضاضه. ثم ليس للترضيض منتهى يوقف عنده على ضبط.
فإن قلنا: يكفي في تغيير البَرْبط نزعُ الأوتار منه، فقال: بعتك هذا دون وتره أو محلولاً الوتر.
فهذا يقرب من بيع ذراعٍ من خشبة تُعنى للحطب، والعلم عند الله.
7428- ولو باع إناء من فضة، وكان اتخذ آلة من آلات الملاهي من الفضة، فإذا باعه، فهذا محتمل عندي؛ فإن الصنعة، وإن لم تكن محترمة في آلة اللهو، وفرعنا على منع استصناع الآنية من التبرين، فالمقصود الأعظم نفاسة الجوهر، والصنعة تابعة، وليس كذلك الآلات المتخذة من الجواهر الخسيسة، كالخشب وغيرها؛ فإن المقصود الأظهرَ منها الصنعةُ، والرضاضُ بعد التكسير تابع غير مقصود، فيجوز أن يكون النظر إلى المقصود في النوعين، حتى يصحّ بيع الإناء وآلات الملاهي من التبرين.
ولا يجوز بيع آلات الملاهي من الخشب؛ فإن عماد المقصود فيها الصنعة، وهي مستحقة التغيير.
ويجوز أن يقال: لا يصح البيع في النوعين نظراً إلى الصنعة، فإن ما يبقى من آلة الخشب متموّل، وإن قل قدره.
فإذا ثبت ما ذكرناه، قلنا بعده:
7429- إذا أوصى بطبلٍ من طبوله، وله طبولُ حرب، وطبول لهوٍ، فالوصيةُ محمولةٌ على طبل الحرب، ثم للوارث أن يعيّن من طبول الحرب ما شاء.
ولو قال الوارث: لفظُ الطبل يتناول طبلَ اللهو، وطبلَ الحرب، والطبول موجودة في تركته، فلست أحمل لفظه على طبول الحرب ليصحّ، بل أحمله على طبل اللهو ليفسد، فنقول له: إذا أوصى، فقد أثبت والتزم، فلابد من إثبات وصيته ما وجدنا إلى الإثبات سبيلاً.
فانتظم من هذا أن اللفظ إذا تردد بين محملين يصح في أحدهما، ويفسد في الثاني، فهو محمول على الوجه الذي يصح فيه؛ فإن الموصي أثبت للوصية لفظاً وقصد إثباته، فلاح لنا من لفظه وقصده الإثبات، فمِلنا إليه.
ولو تردد لفظُ الموصي بين الكثرة والقلة، حملناه على القلة؛ فإن اللفظ مع القلة مستقل والوصية ثابتة، ونحن على تردد في الزائد على حد القلة، فلا يثبت ما ترددنا فيه.
هذا أصل المذهب.
7430- وقال الأئمة: لو أوصى بعودٍ من عيدانه، فاسم العود ينطلق على البَرْبط، وعلى العود الذي هو خشب كالعصا وغيرها، فاللفظ يحمل على العود الذي تصح الوصية به، لتناول اللفظ للنوعين، قياساً على ما ذكرناه في طبل اللهو والحرب.
7431- وممّا ذكره الشافعي رضي الله عنه الوصية بالقسيّ، فنقول: إذا أوصى بقوسٍ من قسيه، أو من ماله، اندرج تحت لفظه قسيُّ العجم، وقسيُّ العرب، وقسي الحُسبان، والحُسبان سهام صغار، ترمى على قسيِّ العجم، وهي المسماة نازك، ولا يدخل تحت اسم القوس قوسُ النَّدْف ولا قوس الجُلاهق، وهو قوس البنادق؛ فإن قسيّ النَّدْف مشبهة في الصورة بالقسي لمكان أوتارها، فكان تسميتها قوساً بحق التشبيه لا بوضع الاسم، وكذلك قوس الجُلاهق. هكذا ذكره الشافعي وأطبق الأئمة عليه.
ولو جرت الوصية في ناحية لا يعرف فيها إلا نوعٌ من هذه الأنواع، فهذا يخرّج على التردد الذي ذكرناه في الوصية بالدابة في القطر الذي لا يفهم منها إلا صنفاً واحداً.
وهذه المسألة وتيك تخرّجان على أن المتبع موجب اللسان في إطلاق اللفظ، أو ما يفهم منه في طرد العرف؟.
7432- ولو أوصى بقوس معيَّنٍ، وكان عليه وترٌ، فقد ذكر العراقيون وجهين في دخول الوتر في الوصية: أقيسهما عندنا- أنه لا يدخل الوتر؛ لأنه ليس جزءاً من القوس متصلاً به اتصال صيغة.
والآخر- لا اتجاه له وإن ذكره العراقيون، ولعلهم إنما يقولون هذا في القوس المعيّن، أو في قوسٍ من قِسيٍّ كلها موترة، فأما إذا لم يكن على القسيّ أوتار، وقال: اشتروا قوساً وسلموه إلى فلان، فلا يجوز أن يُتخيلَ خلافٌ في أنه لا يجب ضمُّ وترٍ إلى القوس الموصى بها.
وما ذكروه من الخلاف في دخول الوتر تحت الوصية بالقوس يجب طرده في بيع القوس الموتر؛ فإن ما يؤخذ من الألفاظ ولا يختلف فيه موجب الوصيةِ والبيعِ يجب طَرْدُ البابين فيه على قضية واحدة.
7433- ومن تمام القول في هذا أنه إذا كان عند الرجل قسيُّ ندْفٍ أو قسي جُلاهق، فقال: أوصيت لفلان بقوسٍ من قسيَّي، فالوصية تُصرف إلى قوسٍ من قسيّ الندف؛ فانه ليس يملك غيرَها، فإضافته القوس إلى ما يملك تصريحٌ منه بقوس الندف، وهو كما لو قال: أوصيت لفلان بقوس ندف.
ولو كان له قسيُّ ندفٍ، فقال: أوصيت لفلان بقوسٍ، أو قال: أعطوه قوساً، لم يصرف ما أوصى به إلى ما عنده، فالقوس محمولة على قوس الرمي لا غير. وإن كان يظن الظان أنه يريد بالقوس ما عنده.
ولو قال: أعطوه عوداً من القسي، فقوس العرب يُتخذ من نبعة واحدة، وليست القوس غيرَها، فالوصية تحمل على عودٍ مهيىءٍ لقوس العرب. فأما قسيُّ العجم، فهي مركبة من أجناس شتى، وقد يكون الخشب أقلها، فلا ينتظم لفظ العود فيها، فيتعين الصرف إلى أعواد قسي العرب، وأمثال هذا سهلة مع إحكام الأصول.
فصل:
قال: "ويجعل وصيته في الرقاب والمكاتبين... إلى آخره".
7434- إذا قال: "اجعلوا ثلث مالي في الرقاب"، فهو موضوع في المكاتبين عندنا، وعند أبي حنيفة رحمه الله، وقال مالك: يُشترى بثلث ماله عبيد يعتقون.
واتفق العلماء على أن الرقاب في صيغة الوصية محمولة على ما يُحمل عليه قول الله تعالى في آية الصدقات: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] غيرَ أنا حملنا الرقاب في آية الصدقات على المكاتبين، وحملها مالكٌ على صرف قسط الصدقات إلى شراء عبيد ليعتقوا.
فإن قيل: اسم الرقاب يتناول المكاتبين والأرقاء، فلِمَ يتعين في الوصية الحمل على المكاتبين؟ قلنا: رأى العلماءُ لفظَ الرقاب لفظاً عاماً في اللغة، خاصاً في عرف الشريعة، فغلّبوا اللفظ الشرعي، كما غلبوا لفظ الصوم، والصلاة، والحج، فإنها إذا جرت في وصيةٍ، أو نذر، أو يمين، كانت محمولةً على عرف الشرع، فكذلك القول في الرقاب.
ثم إذا قال: ضعوا ثلث مالي في الرقاب، فلابد من وضعه في ثلاثة من المكاتبين فصاعداً، والاقتصار على الثلاثة جائز، والزيادة حسنة جائزة، والنقصان ممتنع، وكذلك الوصية للفقراء والمساكين، وما في معانيهم.
والقول الضابط فيه أنه إذا أوصى لأشخاصٍ، تعيّن استيعابهم، ثم إذا كانت الوصية مطلقةً، يجب صرف الموصى به إلى جميعهم بالسوية من غير تفصيل، وإذا أوصى بشيء لموصوفين لا حصر لهم، وكانت الصفات فيهم عوارض لا تلزم، كالفقر، والمسكنة، والغُرم، والكتابة، فهذه الوصية مستقلّة بأقلّ الجمع، ولا نقصان من الأقل، وأقل الجمع في وضع الشرع ثلاثة، ويجوز الازدياد على الأقل إلى غير نهاية، والأمر مفوض إلى رأي الوصي إذا كانت الوصية مطلقة. وفي حكم هذا القسم جواز تفضيل البعض على البعض، حتى لو رأى الصرف إلى ثلاثة، فصرف المعظم إلى واحد منهم، وصرف إلى كل واحد من الباقين مقداراً نزراً، جاز ذلك، على ما سيأتي تقرير هذا في قَسْم الصدقات، إن شاء الله عز وجل.
7435- ولو أوصى لأقوامٍ يبعد عن الإمكان حصرهم، وكانوا موصوفين بصفات ملازمة لهم، لا تحل محل العوارض التي يفرض طريانُها وزوالُها، وهذا بمثابة الوصية للعلويّة، فأنسابهم في حكم الصفات اللازمة، وحصرهم غير ممكن، ففي صحة الوصية لهم قولان؛ فإن الصفات إذا لزمتهم، تضمن ذلك كونَهم مقصودين بأعيانهم، وليسوا كالموصوفين بما يعرِض ويزول؛ فإن الأشخاص ليسوا معينين، فإنما العَرَضُ يتبع الصفة التي يقع التعرض لها في جمعٍ، وسيأتي تفصيل القول في الوصية للعلوية وغيرهم، وإنما اعترض ذكرهم لاستيعاب أقسام الكلام، والغرض الآن أن الاقتصار على ثلاثة في الوصية للرقاب سائغ، كما يسوغ الاقتصار على ثلاثة في صرف سهام الرقاب من الزكاة إليهم، ثم الوصي إن صرف الموصى به إلى ثلاثة من المكاتبين، فقد وفَّى، وإن صرف الموصى به إلى اثنين وفات الأمرُ، فإنه يغرَم حصة ثالث، وفي القدر الذي يغرَمه خلاف مشهور.
ومن أصحابنا من قال: يغرَم له أقلَّ ما يتموّل، فإنه لو صرف إليه ذلك القدر ابتداء، لكان خارجاً عن العهدة وافياً بموجب الوصية، فخرج عن عهدة الغرم، بما كان يخرج به عن عهدة الوصية ابتداء.
ومن أصحابنا من قال: يلزم لمكاتب ثلث الموصى به، فإنه غرم واحداً من ثلاثة، وانتسب إلى المخالفة الملزمة للغرامة، فيجب أن يكون مطالباً بمقدارٍ منضبط، وأقرب الأمر الفَضُّ على رؤوسٍ ثلاثة. وسنشرح هذا أيضاً في قَسْم الصدقات، إن شاء الله عز وجل، فاكتفينا بذكر مراسمَ في التقاسيم.
7436- فإن قيل: إذا صححتم الوصية للعلوية، فهل توجبون استيعابهم؟ قلنا: إيجاب ما لا يستطاع محال، فالوصية إذا صحت لهم، فهم نازلون منزلة الفقراء، فيجوز الاكتفاء بثلاثة منهم، ثم لا يجب التسوية، بل يجوز تفضيل البعض على البعض، كما ذكرناه في الفقراء، ثم إذا أوجبنا على الوصي أن يغرم لمكاتبٍ ثالث شيئاً، فقد قال القفال فيما حكاه الصيدلاني: ليس لهذا الوصي أن يدفع بنفسه ما لم يلزمه إلى مكاتبٍ؛ فإنه إنما يسلم إلى المكاتَبَيْن ما يسلِّم بحكم الوصية، وكونه وصياً، وهو الآن غارم، وليس وصيّاً فيما يغرمه ولا مؤتمناً، فيتعين عليه أن يسلم ما يلزمه إلى حاكمٍ ليقبضه منه. ثم لو ائتمنه ذلك الحاكم فأمره بصرفه إلى مكاتب، جاز له ذلك امتثالاً لأمر الحاكم، وهذا حسن ظاهر.
فصل:
قال: "فإن لم يبلغ ثلاث رقاب، وبلغ أقل من رقبتين... الفصل".
7437- ذكر المزني هذا الفصلَ معطوفاً على الوصية للرقاب، وفي العطف إخلالٌ؛ فإن مضمون هذا الفصل الكلامُ في صرف ثلث المال إلى عبيد يشترَوْن ويعتقون، ومضمون الفصل الأول في صرف طائفة من المال إلى جمعٍ من المكاتبين، فإذا قال بعد نجاز الكلام في المكاتبين: "فإن لم يبلغ ثلاث رقاب وبلغ أقل من رقبتين"، لم ينتظم مبتدأ هذا الكلام مع مختتم الفصل الأول، وكان الوجه أن يبتدىء، فيقول: "لو أوصى بصرف شيء من ماله إلى شراء عبيدٍ، فلم يبلغ ثلاث رقاب، فحكمه كذا".
نعود إلى مقصود الفصل وفقهه ونقول:
7438- إذا أوصى بصرف ثلث ماله إلى شراء عبيد ليعتقوا، فلابد من صرفه إلى ثلاثة من العبيد؛ لأن اللفظ لفظ الجمع، فإن لم يوجد بثُلثِه ثلاثةُ أعبد، فقد قالت الأئمة المعتبرون من المراوزة: نصرف الثلثَ إلى عبدين نفيسين، فإن لم يتأت إلا صرفُه إلى عبدين، وفضل فضلٌ لم نجد به رقبة، ولم نجد عبدين يستوعب ثمنهما الثلثَ، فالفاضل مردود على الورثة، والوصية باطلةٌ فيه، ولا يجب صرف ذلك الفضل إلى شقصٍ من عبد، وعللوا هذا بأنه ذكر العبيد، واسم العبد لا ينطلق على شقص من عبد.
هذا مسلك أئمتنا المراوزة.
وأخذ العراقيون مأخذاً آخر، وقالوا: لا يرتدّ الفاضل إلى الورثة، بل يجب صرفه إلى شقصٍ من عبد؛ فإن غرض الموصي أن يصرف الثلث إلى جهة العتق، فإن تمكنا من الوصول إلى تحصيل العتق في أشخاصٍ، فعلنا ذلك، وإن لم نقدر على تحصيل العتق في جمعٍ من الأشخاص، حصلناه في شخصٍ أو شخصين، فإن فضل فضلٌ، فصرفه إلى شقصٍ أقربُ إلى مقصودِ الموصي من رده إلى الورثة.
ثم قالوا: إن أمكن صرف الثلث إلى عبدين نفيسين يستوعب ثمنهما الثلث، وأمكن صرفه إلى عبدين دونهما مع صرف الفاضل إلى شقص، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يجب أن نشتري العبدين النفيسين؛ حتى لا يؤدي إلى التبعيض. وهذا المسلك حتمٌ. قالوا: وهو اختيار ابن سريج.
والوجه الثاني- وهو اختيار أبي إسحاق فيما حَكَوْه أنه يجب أن نشتري عبدين، ونُفْضل، ونشتري بالفضل جزءاً من ثالثٍ؛ فإن هذا أقربُ إلى مقصود الموصي؛ إذ من مقصوده ربطُ العتق بجمع.
وطريق العراقيين بعيدةٌ عن طريق المراوزة؛ فإنهم لم يرَوا لشراء الشقص وإعتاقه وجهاً، وإذا فرض، لم يقع عن جهة الوصية عندهم.
فالخارج من أقوال الأئمة أن الصرف إلى ثلاثة من غير تشقيص إن أمكن تعيّن. ولو في أخسّاء من المماليك.
وإن لم نجد ثلاثة، ووجدنا عبدين وشقصاً، فالمراوزة قاطعون بردّ الفضل إلى الورثة، والعراقيون قاطعون بوجوب صرفه إلى شقصٍ.
وإن تصدّى لنا شراء نفيسين وشراء عبدين دونهما مع شراء شقصٍ في ثالث، فقد ذكر العراقيون وجهين، كما قدمنا، وقطع المراوزة بما حَكوه من اختيار ابن سُريج.
7439- ثم قال العراقيون: إذا قال المريض: اشتروا عبداً وأعتقوه عنِّي، فاشترى الوارث عبداً وأعتقه، ثم ظهر دينٌ مستغرق للتركة، نُظر: فإن كان اشترى من عين التركة، فقد بان بطلان البيع؛ إذ لا وصية مع الدين ولا ينفذ صرف شيء من التركة إلى ثمن العبد المشترى، لمكان الدَّين المستغرِق للتركة، فالعبد مردود على بائعه، والعتق فاسدٌ، وثمن العبد يُسترد ويصرف إلى الدين. وإن كان اشترى العبد في الذمة وأعتقه، نفذ البيع والعتقُ؛ فإن البيع اعتمد الذمة، فصح للوارث، ثم يَسْري العتقُ منه مطلقاً في ملكه، فلا مرد له. وهذا واضح لا خفاء به.
فصل:
قال: "ولو أوصى أن يحج عنه، ولم يكن حج حجةَ الإسلام... الفصل".
7440- ذكرنا صدراً صالحاً في الاستئجار على الحج المفروض والمتطوّع به في كتاب الحج، وقد يتكرر في أثناء الكلام بعضُ تلك القواعد.
فإذا استجمع الكامل شرائط الاستطاعة، والتزم حجةَ الإسلام، ومات فتحصيل الحج دين من رأس التركة، أوصى به أو لم يوصِ. وقال أبو حنيفة: إذا مات ولم يوص، لم يحج عنه، وطرد هذا في الزكوات المستقرة في حالة الحياة، فقال: إذا مات من تجمعت عليه الزكاة، ولم يوصِ بأدائها، لم تُخرج من ماله، وإن لقي الله عاصياً، وإن أوصى بإخراجها، أُخرجت من ثُلثه إن وفّى بها.
وكان شيخنا أبو محمد رحمة الله عليه يحكي هذا قولاً قديماً للشافعي رضي الله عنه، ولم يتعرض لحكاية هذا أحد من الأئمة الذين يبعد أن يشذ عنهم قريب وبعيد.
ثم معتمد أبي حنيفة رحمة الله عليه افتقارُ الزكاة إلى النية، ثم إن صدرت النية من ملتزم الزكاة، فذاك، وإلا قامت نية من يستنيبه مقامَ نيته، فإذا مات، فقد فات صدَرُ النية منه، ولم يوص، فتقوم نية وصيِّه ومأموره مقام نيته.
وهذا لا يستقيم على أصلنا مع مصيرنا إلى أن السلطان يأخذ زكوات الممتنعين، كما صح ذلك في سيرة الصديق رضي الله عنه، وإنما تردد أصحابنا في أن السلطان إذا أخذ الزكاة قهراً، وسقطت طَلِبتُه، فهل تسقط الزكاة عمن عليه باطناً بينه وبين الله تعالى؟ فيه اختلاف ذكرناه في موضعه من الزكاة. ثم كنا نقول في مراجعة شيخنا أبي محمد: القياس إن لم يكن من هذا القول بُدّ أن يقال: إذا أوصى، فالزكاة محسوبة من رأس المال؛ فإن متعلق هذا المذهب تعذّرُ النية وسقوطُ الزكاة بتعذرها، فإذا جرت الوصاية، فقد أمكنت النية على طريق النيابة، فليؤدِّ الزكاة ديناً، فكان يأبى هذا ويقول: "القول القديم مثلُ مذهب أبي حنيفة، فالزكاة تسقط إذا لم تجر وصية، فإن جرت، فهي من الثلث"، وهذا لا أعرف له وجهاً أصلاً.
رجع بنا الكلامُ إلى التفريع على أصل المذهب، فنقول:
7441- إذا استقر الحج في ذمته ومات، فحجة الإسلام الواقعة ركناً ميقاتية، هذا هو الركن، فيستأجر من الميقات أجيراً بأجرة قريبة، ويتأدى حج الإسلام به.
ولو كان نذر حجاً في صحته، لزمه الوفاء به إن استطاع إلى الحج سبيلاً، فلو مات قبل الوفاء، ففي الحجة المنذورة قولان:
أحدهما: أنها دَيْنٌ، كحجة الإسلام من رأس المال، ووجهه أنه وجب في الصحة، فاستقر في الذمة، فكان ديناً لله تعالى كحجة الإسلام.
والقول الثاني- أنها لا تكون من رأس التركة؛ فإن الناذر أدخل الوجوبَ على نفسه، فيجوز أن يقال: يُلزمه الشرع الوفاء به في تمكنه، فأما أن يصير ما أدخله على نفسه مزاحماً لحقوق الورثة، فلا.
وهذا التوجيه فيه مخيلةٌ من الفقه، وهو معنى قول بعض الأصحاب: إن هذين القولين مبنيان على أن المنذور هل يثبت له حكم الواجب شرعاً أم لا؟ وهذا فيه لبس وتعقيد؛ فإن الذي ذُكر من التردّد في أن الواجب بالنذر هل يأخذ حكم الواجب شرعاً؛ معناه أن من نذر لله تعالى صلاةً، ثم صلى قاعداً مع القدرة على القيام، فهل يخرج عن موجَب نذره؟ فهذا ومثله يخرّج على القولين في أن الواجب بالنذر هل يتقيد بالشرائط المرعية في الواجب شرعاً، ففي قولٍ نحمل النذر على ما يسمى صلاة؛ اتباعاً للفظ، وفي قول نحمله على مضاهاة الواجب شرعاً؛ تقريباً وتشبيهاً. فهذا مأخذ ذلك.
فأما القول في أن المنذور هل يكون من رأس التركة يبعد أخذه مما ذكره هؤلاء.
والخلاف في احتساب الكفارة من رأس التركة، وقد لزمت الكفارة في الصحة، كالخلاف في الملتزم بالنذر؛ فإن الكفارات دخلت عليه بتسبُّبِه إلى التزامها، وليست من وظائف الشرع، فنزلت منزلة المنذور.
وهذا فيما يجري في الصحة.
والنذرُ الذي يصدر من المريض في مرضه المخوف من الثلث، لا خلاف فيه، وكذلك الكفارات التي تجري أسبابها في المرض.
ونقول وراء ذلك: نذر الصحة إن جعلناه ديناً، فلا كلام. وإن لم نجعله ديناً، فالذي أشعر به كلام الأئمة أنه لابد من الوصية فيه، فإن لم تكن، سقط بالكلية.
وفي بعض كلام المحققين ما يدل على أنها تخرج من الثلث، وإن لم يكن وصية؛ فهي مستحقة من الثلث، ونفسُ جريان النذر في حكم الوصية به، وكذلك القول في الكفارات وأسبابها.
وهذا فقيهٌ حسن.
7442- ومما نذكره في قاعدة الفصل أن الوصية بحج التطوع هل تصح؟ فعلى قولين مشهورين ذكرناهما في المناسك، والأصح في الفتوى الصحة، وهو الذي تشهد له الآثار والأقيسُ أنها لا تصح؛ فإن الحج عبادةٌ بدنية وإجراء النيابة في المفروض منه في حكم الضرورة المتبوعة بطريق الرخصة، والوصيةُ بالتطوع مستغنى عنها.
ثم ذكر طوائف من أئمتنا أنا إذا صححنا الوصية بالحج تطوعاً، فهل تقدم على سائر الوصايا، أم هي مساوية لها في المرتبة؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنها مقدَّمة.
والثاني: أنها مساوية، وهذا ترددٌ وذكر اختلاف قول، لستُ أعرف وجهه؛ فإن الوصية بالحج ليست على مرتبة من التأكيد تقتضي تقديمَها، وكيف يُدّعى ذلك وفي أصل صحتها قولان:
أحدهما:عدمُ الثبوت، والمشهورُ اختلاف القول في تقديم الوصية بالعتق على ما سواه من الوصايا، وذلك لسلطان العتق في نفوذه، كما سيأتي شرح ذلك في مسائل الوصايا بالعتق.
وذكر الشيخ أبو علي طريقة ناصة على الحقيقة تشفي الغليل، وعليها التعويل عندي: قال رضي الله عنه: الوصية بحج التطوع لا تقدم على غيرها من الوصايا إلا أن ينص الموصي على تقديمها، فتقدم حينئذ بحكم الإيصاء، كما سنصف ذلك أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل.
والحجة المنذورة في الصحة إذا قلنا: إنها محسوبة من الثلث، قال رضي الله عنه: هل تقدم على سائر الوصايا؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا تقدم؛ لأن محلها الثلث.
والثاني: أنها مقدمة لتأكد لزومها في حالة الصحة. وهذا في نهاية الحسن.
ثم قال رضي الله عنه: نُجري في الوصية بالحج والوصية لزيد وعمرو بشيءٍ الاختلافَ في أنه إذا ازدحم على المال المتضايق حق الله تعالى، وحق الآدميين، فالمقدم أيُّهما؟ وفيه أقوال ستأتي، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: المقدَّم حقُّ الله تعالى، اتجه عليه تقديمُ الحج على الوصية للآدميين، وإن لم نَرَ ذلك، فقد نقدم حقَّ الآدمي في قول وقد نُسوِّي.
فأما الوصية بالحج والوصية بالصدقة إذا اجتمعا، فلا وجه لتقديم الوصية بالحج.
وكل ما ذكرناه في حكم المقدِّمة لمقصود الفصل.
7443- ونحن الآن نعود إلى غرض الفصل ونقول:
قد بينا أن حجة الإسلام إذا قرّت في الذمة، فهي دين، فلو كان أوصى الرجل بوصايا، ثم قال: أحِجوا عني حجةَ الإسلام من ثلثي، فقوله هذا محمول على مزاحمة الحج للوصايا، حتى إذا زاحمها، وقلت الوصايا بمزاحمته إياها، فإن تحصّل ما يتأدى الحج به من المضاربة، فهو المراد، وإن لم يتحصل من مزاحمة الوصايا ما يتم به الحج، أكملناه من رأس المال.
هذا إذا صرح الوصي بالإحجاج عنه من ثُلثه، وكان عليه حجةُ الإسلام، وقد استكمل الاستطاعة في حياته.
ولو قال: أوصيت إليكم أن تُحجوا عني إنساناً، ولم يتعرض للثلث ولاعتبار الحج منه، ولكنه ذكر لفظ الوصية، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على ما حكاه العراقيون، فذهب بعضهم إلى أن هذا ينزل منزلة تصريحه بالإحجاج عنه من ثلثه، حتى يقتضي مزاحمةَ الوصايا؛ فإن الوصية لفظةٌ مشهورةٌ فيما يحسب من الثلث، فجرى مجرى التصريح بالحَسْب من الثلث.
وذهب آخرون إلى أن الحج لا يزاحم الوصايا إذا لم ينصّ الموصي على اعتباره من الثلث؛ فإن الإيصاء بمثابة الأمر، ولو قال: أحجوا عني إنساناً، لم يتضمن مجردُ الأمر مزاحمةَ الحج للوصايا، ثم ذكروا صورةً أخرى، ورتبوا فيها الخلاف على ما ذكرناه، وقالوا: إذا قال: أوصيت إليكم أن تُحجوا عني وأن تصدقوا بكذا، وتعتقوا رقبة، فذكر لفظ الوصية في الحج وقَرَنه بما هو محسوب من الثلث، فهل يتضمن هذا في الحج مزاحمة الوصايا به؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا أطلق الوصية بالحج، ولم يقرنه بتبرعٍ محسوبٍ من الثلث، وهذه الصورة الأخيرة أولى بحَسْب الحج فيها من الثلث؛ فإنه انضم إلى لفظ الوصية ذكرُ الحج مع تبرعٍ يحسب من الثلث في قَرَنٍ، والإقران في الذكر من ضروب البيان.
ولو أمر بالإحجاج عنه، وقرن الحجَّ بتبرعٍ، ولم يَجْر لفظُ الوصية، ففي مزاحمة الوصايا بالحج خلاف، والأظهر أنا لا نزاحم به، إذا لم يجْرِ لفظُ الوصية؛ فإن مجرد الاقتران لا يستقل بنفسه تبييناً، ولكن إذا جرى لفظٌ له مقتضىً، فالاقتران يؤكده.
هذا مجموع القول في ذكر الحج أمراً وإيصاء، وتصريحاً بالحَسْب من الثلث، وذكْرِ غيره معه.
7444- وما ذكرناه في الحج، وهو دين يحتسب من رأس المال يجري في جملة الحقوق التي سبيلها أن تكون من رأس المال.
فإذا نصّ مَنْ عليه الحق على حَسْبه من الثلث إذا أطلق لفظَ الإيصاء أو قرنه بتبرعٍ، فالتفصيل في المزاحمة على ما ذكرناه في الحج، وفاقاً وخلافاً.
7445- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا فرعنا على تقديم الوصية بحجّ التطوع على الوصايا، فإذا أوصى من عليه حجةُ الإسلام، فإن تحصل الحجة من ثُلثه؛ فالذي دلّ عليه فحوى كلام الأئمة أنا على تقديم الحج على الوصايا نقدم حجة الإسلام على الوصايا جُمَع، فلا مزاحمة، حتى إن لم يفضل من الثلث شيء، بطلت الوصايا، وإذا فضل عن تمام الحج شيءٌ، صرف الفضلُ إلى الوصايا وفُض عليها، فتثبت المزاحمة في الثلث بحج الإسلام على حسب المزاحمة من حج التطوع والوصايا.
ومن أصحابنا من قال: نحن وإن قدمنا حجة التطوع على الوصايا، فإذا أوصى أن يوقع حجة الإسلام في الثلث، لم نقدمها، وذلك أنا نتلقى الاحتساب في الثلث من قوله المشعر بإرادة المزاحمة، وإلا فحجة الإسلام حقُّها أن تُقدَّمَ على الثلث، فإن أثّر تقديمُها في تقليل الثلث، فلابد من ذلك، فأما مزاحمة الوصايا في محل الوصايا، فمتلقى من قصد الموصي، لا من مقتضى حجة الإسلام.
نعم، إن قال: قدموا حجِّي في ثلثي على الوصايا، فيقدّم حينئذٍ عليها؛ اتّباعاً للفظه.
7446- ومما نذكره في استكمال هذا أنا إذا صححنا الوصية بحجة التطوع، فإذا أطلق الوصية بها، فقد ذكر العراقيون وجهين في أن الوصية المطلقة بالحجة محمولةٌ على حجة ميقاتية، أم هي محمولة على حجة ينتهض لها قاصداً من دويرة الموصي؟ أحدهما- أنها محمولة على ميقاتية، ولعل هذا هو الظاهر؛ فإن ألفاظ الموصي محمولة على أقل المعاني، فلذلك تحمل الوصية بالمال على أقل ما يتموّل، كما يحمل الأقرار عليه. واسم الحج ينطلق على الحج الميقاتي، فليقع الاكتفاء به.
والوجه الثاني- أن الوصية المطلقة محمولة على إحجاج قاصدٍ من دويرة الموصي؛ إذ هذا هو العرف الغالب، وهو المفهوم من الحج المطلق، فإذا أراد مريدٌ الحجَّ الميقاتي، قيده بذلك. والعرف إذا اقترن باللفظ، كان اللفظ محمولاً على موجب العرف، فإذا تبين ذلك، فلو قال في حجة الإسلام: أحجوا عني رجلاً من ثلثي، فالحج من الميقات مردودٌ إلى الثلث لغرض المزاحمة، وهل يتضمن الأمر بالإحجاج ترشيحَ قاصدٍ من دويرة الموصي؟ اختلف أصحابنا في ذلك أخذاً من الوصية المطلقة بحج التطوع، فمنهم من قال: لا يُحَج عنه إلا من الميقات، والمزاحمة تقع بالحجة الميقاتية، ومنهم من قال: ذكْر الحج في محل الوصايا يتضمن أن نرشح عنه قاصداً من دويرته.
وكان شيخي يقول: الأمر المطلق بالحج والحج ركنٌ لا يتضمن الإحجاج من دويرته، والأمر على ما قال.
وقال الأصحاب كافة: إذا فرعنا على أن حج التطوع مقدم على الوصايا، فهذا فيه إذا كان المبذول للأجير مقدارَ أجر مثله، فإن كان بذل له الموصي أكثرَ من أجر مثله، فتلك الزيادة الموصى بها لا تقدم على الوصايا قولاً واحداً؛ فإن سبب التقديم في الحج قوةُ الحج، أو شرفه، أو ما يرى، وهذا يختص بالحج، فإذا فرضتَ نِحْلة ومزيداً في الأجرة، فذلك الزائد كالوصايا.
وذكر شيخي أبو محمد أن من أصحابنا من رأى تقديم الزائد على أجر المثل في الحج على الوصايا إذا وقع التفريع على تقديم الحج؛ فإن ما يثبت عوضاً في الحج يتبعه في مقتضاه، ويكتسب حكمه. وهذا بعيدٌ، لم أره إلا له.
7447- ثم إن ابن الحداد ذكر مسألة وأخرى معها ثم شعّبهما الأصحاب بالتفريع.
قال ابن الحداد: إذا كان على الإنسان حجةُ الإسلام، وقد وضح أنها ميقاتية.
فإذا قال: أخرجوا حجة الإسلام من ثلثي، وأخرجوا أجرته إلى فلان، وسمى زيداً مثلاً، وقرر الأجرة، وقال مائة، وكان مقدار أجرته أجرة المثل، وأوصى لعمرٍو بما يبقى من ثلثه بعد الحج، وأوصى لبكرٍ بثلث ماله، وخلّف تسعمائة، فإن أجاز الورثة الوصايا، صرفنا ثلثاً كاملاً، وهو ثلاثمائة إلى الموصى له بالثلث، وصرفنا من ثلثٍ آخر مائة إلى الحج، وصرفنا الباقي من هذا الثلث وهو مائتان إلى عمرو، وهذا ترتيب القسمة حال الإجازة.
ولو رد الورثة الوصايا إلى الثلث، وأبطلوا الزائد عليه، والثلث ثلاثمائة في هذه الصورة، فحاصل ما ذكره الأئمة في كيفية القسمة بين الوصايا ثلاثة أوجه: أحدها: غلطٌ على المذهب.
والثاني: مزيّفٌ.
والثالث: المذهب.
7448- أما الغلط، فجواب ابن الحداد، قال: يصرف مائة إلى الحج، ويقسم باقي الثلث وهو مائتان بين عمرو الموصى له بباقي الثلث بعد الحج، وبين بكر الموصى له بالثلث، واعتلّ ابنُ الحداد بأن قال: لو ثبت الوصية بالحج مع الوصية بالباقي بعد الحج، والمسألة كما صورناها، لقلنا: للحجّ مائة، والباقي للموصى له بما يبقى من الحج، ولو فرضنا الوصية بالحج مع الوصية بالثلث، لقلنا مع ردّ الورثة الزائدَ على الثلث: نصرف إلى الحج مائة، ونصرف إلى الموصى له بالثلث مائتين، فإذا كان كل واحد من الرجلين في الوصية بالباقي، والوصية بالثلث يستحق مائتين، فإذا اجتمعا مع الحج وقد بان مساواة ما يستحقه كل واحدٍ لما يستحقه صاحبه، فإذا اجتمعا، استويا. فهذا إذاً مصير منه إلى تقديم الحج.
ثم فرع بعد هذا على مذهب أبي حنيفة؛ فإنه يُقدّر في قسمة الرد-بين الذين لهم الوصية- حالةَ انفراد كل واحد منهم، ولهذا يقول: الموصى له بالنصف يساوي الموصى له بالثلث عند رد الوصيتين إلى الثلث؛ لأن الورثة إذا ردوا الزائد وفرض انفراد الموصى له بالثلث، فليس له إلا الثلث، ولو فرض عند ردهم انفراد الموصى له بالنصف، فليس له إلا الثلث، فإذا اجتمعا في المسألة اشتركا على استواء في الثلث.
هذا مذهب أبي حنيفة.
ونحن نقول: الاعتبار في حالة الرد بنسبة القيمة حالة الإجازة، والموصى له بالنصف يفضُل الموصى له بالثلث حالة الإجازة؛ فيتفاضلان في الثلث حالة الرد على نسبة التفاضل حالة الإجازة، كذلك نقول في مسألة ابن الحداد: لو أجيزت الوصايا، فالحج مائة، وللموصى له بالباقي مائتان، وللموصى له بالثلث ثَلاثُمائة، فإذا رُدّت الوصايا إلى الثلث، ورأينا تقديم الحج، يجب أن تكون القسمة بين صاحب الثلث والباقي على التفاضل، كما سنصفه عند ذكرنا الوجه الثالث إن شاء الله.
هذا جواب ابن الحداد وبيان خطئه.
وهذا الجواب وإن صدر عن رجل عظيم القدر، فليس معدوداً من المذهب؛ فإنه غلطٌ لا يستراب فيه.
7449- والوجه الثاني- وهو المزيّف الضعيف مذهب ابن خَيْران، قال: وجدنا الثلثين حالة الإجازة على ستة أسهم بين الوصايا والحج: للحج منها سهم، وللموصى له بالباقي سهمان، وللموصى له بالثلث ثلاثة أسهم، فنتخذ هذه النسبة أصلاً في الرد، ونقول: للموصى له بالثلث ثلاثةُ أسهم من ثلاثمائة، وهو مائة وخمسون، وللموصى له بالباقي سهمان، وهو مائة، ولجهة الحج خمسون.
والثلاثمائة كذلك تنقسم إذا قسمت أسداساً.
وهذا الذي ذكره ركيك بالغٌ في الرداءة؛ فإن الموصى له بالباقي مؤخر عن تقدير تمام الحج، فالتبعيض من الحج ساقط رديء، وقد وافق ابن خَيْران في أن الموصي لو صرح بتقديم الحج، فقال: قدموا الحج بمائة، وما فضل فهو إلى تمام الثلث لعمرو، فلا يدخل النقص-إذا كان كذلك- على الحج، وقوله ما فضل من الحج تصريحٌ بتقديم الحج، ونظره إلى سهام الإجازة نظرٌ من حيث الظاهر لا غوْصَ فيه؛ فإن الباقي من الحج وقع سهمين، فإذا ردّت الوصايا، فينبغي أن نعتبر الباقي من الحج، ثم ننظر كم يقع.
فقد بطل هذا المذهب.
وما ذكره ابنُ الحداد، وإن لم يخرّج على مذهب الشافعي رضي الله عنه، فهو خارج على مذهب أبي حنيفة.
7450- والمذهب الصحيح أنا إذا رأينا تقديمَ الحج، أخرجنا للحج مائة، وقسمنا الباقي بين الموصى له بالثلث وبين الموصى له بالفضل من الحج أخماساً؛ فإن الوصية بالثلث والوصية بالباقي على هذه النسبة وقعتا حالة الإجازة، إذا صرفنا إلى الحج مائة، وإلى الموصى له بالثلث ثلاثمائة، وإلى الموصى له بالباقي مائتين، فنرعى هذه النسبة في الوصيتين بعد تقديم الحج؛ فإنا على تقديمه نفرع.
فإن لم نر تقديمَ الحج، فالوجه أن نقول: كنا صرفنا حالة الإجازة ثلثاً إلى الحج، والفاضل منه كان مصروفاً إلى من له الباقي، وصرفنا ثلثاً إلى الموصى له بالثلث، فنجمع الحج والوصية بالباقي بعد الحج، ونصرف إليهما نصف الثلث، ونصرف إلى الموصى له بالثلث نصف الثلث، ثم الحج من نصف الثلث وهو مائة وخمسون مائةٌ كاملة، والباقي وهو خمسون للموصى له بالباقي، ونصرف نصف الثلث وهو مائة وخمسون إلى الموصى له بالثلث.
هذا هو الوجه الصحيح الذي لا يسوغ غيرُه، فرّعناه على تقديم الحج على الوصايا كلّها، ثم فرعناه آخراً على تقديم الحج على إحدى الوصيتين، وهي الوصية بالباقي.
7451- صورة أخرى: إذا جرت الوصايا على ما ذكرنا، ثم رد الورثة الزائد على الثلث، وكان الثلث مائة وخمسين، ورأينا أنه لا نقدم الحج على جميع الوصايا، وهو الأصح، فعلى هذا نجعل الثلث نصفين، وسبيله أن نقول: صاحب الحج، وصاحب الباقي بعد الحج نجعلهما حزباً، وصاحب الحج يقول للموصى له بالثلث: أنا والموصى له بالباقي نأخذ مثل ما تأخذ فأَعُدُّ الموصى له بالباقي عليك، حتى أشاطرك، فاني وصاحبي مضافان إلى الثلث، ثم أفوز بنصف المائة والخمسين، ولا أدفع إلى صاحبي شيئاً، وأُعَادِكَ به، كفعل الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب، والجد؛ فإن الأخ من الأب، وإن كان محجوباً بالأخ من الأب والأم، فإنه يعدُّه على الجد، ونقدر الأخ من الأب ضارباً في ثلثي التركة حتى لا يخص الجدَّ إلا ثلث، ثم ما يقدّر للأخ من الأب يفوز به الأخ من الأب والأم، كذلك صاحب الحج يشاطر صاحب الثلث بضم صاحب الباقي إلى نفسه، ثم يفوز بجميع الشَّطر؛ فإنه أقلُّ من المائة التي يستحقها، فلا يفضل منه شيء.
هكذا ذكره أئمة العراق وصاحب التقريب وكلُّ معتبرٍ في المذهب، فلا فرق بين المعادّة في الفرائض، وبين ما ذكرناه هاهنا. ومن قبيل المعادَّة ردُّنا الأمَّ إلى السدس في فريضة فيها أبٌ وأخوان وأم؛ فإن الأخوين وإن سقطا بالأب، فهما معدودان على الأم، والأب يقول: أنا حاجبهما، فهما محسوبان عليك.
وقال ابن خَيْران: اعتبرْ حالة الإجازة، فإذا كان الثلث مائةً وخمسين، فالثلثان ثلاثمائة، فلو أجاز الورثة الوصايا، فعلمنا للموصى له بالثلث مائة وخمسون، وللحج مائة، والباقي من الثلث الثاني وهو خمسون للموصى له بالباقي بعد الحج، فقد وقعت القسمة في الإجازة في هذه الصورة أسداساً، ولكن وقع للحج سهمان في الإجازة وللباقي سهم وللثلث ثلاثة أسهم، فإذا ردّت الوصايا إلى مائة وخمسين، قسمناها على ستة أسهم: لصاحب الثلث منها ثلاثة أسهم، وهو خمسة وسبعون، ولصاحب الحج سهمان، وهو خمسون، ولصاحب الباقي سهم، وهو خمسة وعشرون.
وهذا ظاهر السقوط، وتبيّن بقوله في هذه الصورة ضعفُ مذهبه وإن جرى على قياس واحد؛ لأن ما ذكره لو كان نسبة حقيقية بالجزئية، لكانت لا تختلف بقلة المال وكثرته، وقد خص صاحب الباقي في المسألة الأولى مائتان وخص الحجَّ مائة، والسبب فيه أن الباقي هو المعتبر، وقد اختلف قدر الباقي، ولا باقي في مسألتنا عن الحج، بل ليس ما بقي معنا بمقدار الحج، فيظهر بطلان مذهبه، واتضح أن المسلك الحق ما ذكرناه.
وفي نفسي من المعادّة شيء؛ من جهة أن صاحب الباقي مترتب على الحج، فكيف يعادّ به صاحبُ الحج صاحبَ الثلث، والأخ من الأب يزاحم الجد مزاحمة الأشخاص، وكذلك الإخوة في فريضة فيها أبٌ وأم، وإذا لم نعتبر المعادّة، ولم نعتبر الحج، قلنا فريضة فيها حج بمائة، ووصية بثلث، وهما محصوران في الثلث، والثلث مائة وخمسون، فيجب أن نصرف للحج سهمين ولصاحب الثلث ثلاثة أسهم، وهذا احتمال، والأصل ما ذكره الأصحاب من المعادّة.
7452- صورة أخرى: إذا كان ترتيب الوصايا على ما صورنا، والثلث مائةٌ، وقد جرت الوصية بالثلث، وأجرةُ الحج مائةٌ.
فنقول: أما الوصية بما تبقى بعد أجرة الحج إلى الثلث، فباطلةٌ في هذه الصورة؛ فإن الأجرة مستغرقة للثلث، فليس يفضل منها شيء، والمعادّة التي ذكرها الأئمة في الصورة المتقدمة لا معنى لها في هذه الصورَة؛ فإن المعادّة إنما تجري بين ثلاثة أشخاص فصاعداً، إذا كان الذي يقع المعادة به يُفرضُ استحقاقُه مع واحد من الثلاثة إذا لم يكن الثالث، كالجد والأخ من الأب والأم والأخ من الأب، فالمعادّة تقع بالأخ من الأب؛ من جهة أنه لو كان مع الجد وليس معهما أخ من أب وأم يقاسم الجدَّ، فيعدّه الأخُ من الأب والأم على الجد.
وإذا كان من يُفرض المعادّة به لا يرث مع أحدٍ في الفريضة، فلا معنى للمعادّة به، وهذا كالأخ من الأم مع الجد، والأخِ من الأب والأم.
والوصيةُ بالباقي إذا كلان الثلث زائداً على المائة التي هي قدر الثلث يقدّر ثبوتُها لو تفردت الوصية بالحج، فيجوز أن يقع بتلك الوصية معادّة مع الموصى له بالثلث، فأما إذا كان الثلث على مقدار أجرة الحج، فلا يتصور للوصية بالباقي ثبات. ثم إن رأينا تقديمَ الوصية بالحج، فالوصية بالثلث ساقطة، كما سقطت الوصية بالباقي، والثلث مستغرَق بأجرة الحج، وهو مصروف إليها، وإن لم نر تقديم الحج، فالثلث بين الحج وبين الموصى له بالثلث؛ فإن الحاج يضرب بمائة والموصى له بالثلث يضرب بالثلث، وهو مائة فيما نطلقه في أول المسألة إلى أن تظهر غائلتها.
7453- ثم المسألة تدور لا محالة؛ فإنها مفروضة في الوصية بحجة الإسلام، والثلث في الصورة التي ذكرناها لا يفي بمقدار الحج، فلابد من استكمال أجرة الحج من رأس المال، وإذا أخذنا من رأس المال مقداراً، نقص الثلث، وقلّ ما يحصل المضاربة به ويزداد المأخوذ من رأس المال، ولا ننفصل إلا بالحساب، ومهما لم تف حصة الحج بأجرة الحج وهو حجة الإسلام، دارت المسألة؛ للاحتياج إلى أخذ التكملة والقيمة من رأس المال.
ثم قال الأصحاب: وجه الدور في هذه المسألة أن يقال: نأخذ من رأس المال شيئاً مجهولاً، فيبقى مال ناقص شيئاً، فثلثه وهو مائة ناقص بثلث شيء، فنقسم ذلك بين الحج وبين الموصى له بالثلث نصفين، يخص كلَّ واحد منهما خمسون ناقصاً بسدس شيء؛ فإن الثلث مائة ناقصة بثلث شيء، وفي يد الحاج شيء وخمسون درهماً ناقصاً بسدس شيء، فنجبر الخمسين بسدس شيء من هذا الشيء الذي أخذناه، فصار خمسين وخمسة أسداس شيء، وذلك يعدل مائة، فيذهب الخمسون بالخمسين، ويبقى خمسة أسداس شيء تعدل خمسين، فالشيء يعدل ستين، فنعود ونقول: الشيء المأخوذ من رأس المال ستون، يبقى مائتان وأربعون، ثلثها ثمانون، أربعون منها لعمرو الموصى له بالثلث، وأربعون للحج، وإذا ضم إلى ستين، كملت المائة.
قال الشيخ القفال: هكذا عَمَلُ أصحابنا، وهو غلط عندي؛ لأنا إذا أخذنا الستين من رأس المال، وكان الثلث بعد الستين ثمانين، فالموصى له بالثلث يجب أن يضرب بثمانين؛ فإن الثلث إنما يقام ويعدّل بعد أخذ الديون من رأس المال، والحاج يضارب بالمائة التامة بحكم الوصية.
فالمسلك الحق في الفقه لو صحت هذه الصورة أن يضرب الحاج بعشرة أسهم، ويضرب الموصى له بالثلث بثمانية أسهم. وإذا جرى التضارب كذلك، ازداد نصيب الحج، واختلف الحُسَّاب في المأخوذ من رأس المال، وعلى عبارة الجبر يضارب الحاج بمائةٍ كاملة، ويضارب الموصى له بالثلث بمائة ناقصة ثلث شيء، فالتضارب في مائة ناقصة ثلث شيء، وصاحب الحج يضرب بمائة تامة، هذا كلام القفال، ويجب بحسبه في الصورة التي ذكرناها أن يكون المأخوذ من رأس المال أقلَّ من ستين، فإنا لو أخذنا الستين وأثبتنا المضاربة بالمائة، لزاد ما يحصل على مائة.
ونحن نقول: ما ذكره القفال من تغليط الأصحاب صحيح لا مراء فيه ووجهه ما أبديناه من كلامه.
هذا القدر من كلام الشيخ الإمام أبي نصر القشيري رحمة الله عليه، ثم لم يذكر رضي الله عنه وجه الصواب في الحساب.
ونحن إن وفق الله تعالى نذكر ما يحضرنا في هذه المسألة، إن شاء الله عز وجل فنقول وقد نجزت مسائل الحج بما فيها: قد ذكر أئمة العراق في مسألة ابن الحداد وهي الوصية بالحج وبما بقي إلى تمام الثلث مع الوصية بثلث لثالثٍ شرطاً لم أره إلا لهم، وذلك أنهم قالوا: إذا تقدمت الوصية بالحج وبما بقي من الثلث، ثم جرت الوصية بثلث بعد ذلك، فالأجوبة كما قدمناها في أطراف المسألة.
فأما إذا تقدمت الوصية بالثلث، ثم جرى بعدها الوصية بالحج وبما يبقى بعد الحج إلى الثلث، فالوصية بالباقي إلى تمام الثلث باطلة؛ فإنه قد تقدم ذكر الثلث كاملاً، فالوصية بما يبقى بعد الثلث فاسدة في اللفظ.
وهذا الذي ذكروه لا أصل له؛ فإنه و إن جرى ذكر الثلث، فالوصية بالباقي بعد الثلث من الحج مقدرة من ثلثٍ آخر، ولا يمتنع تقدير فضلٍ من الحج إذا قُدّر ثلث آخر؛ فإن ذلك الباقي مضاف إلى الحج، وما تبقى منه إلى تمام ثُلثٍ.
7454- ومما كان يذكره شيخنا أبو محمد رضي الله عنه أن الوصية بالحج إذا تقيدت بترشيح رجل من بلدةِ الموصي، فإن وجدنا وفاء نفذناه، وإن لم نجد وفاءً، رَدَدْنا الحجة إلى الميقات، وإن كان يفي ما ظفرنا به ببعض الطريق قبل الانتهاء إلى الميقات، فإنا نُحجّ شخصاً من نصف الطريق، وكلما طالت مسافة القصد، كان الحج أفضل. وبالله التوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أوصى بأمةٍ لزوجها وهو حُرّ... إلى آخره".
7455- هذا الفصل وفصول بعده يستند إلى الملك متى يحصل للموصى له في الموصى به؟ ونحن نمهد قاعدة المذهب في هذا أولاً، ونوضح ما فيه أصلاً وتفريعاً، ثم نعود إلى تتبع الفصول المذكورة في (المختصر) على وِلائها، فنقول أولاً: الإيجاب في الوصية لابد منه، وهو لفظةٌ دالةٌ على التمليك نصّاً صادرةٌ من الموصِي، وذلك مثل أن يقول: أوصيت لفلان بكذا، أو ملكته كذا، أو أعطوه كذا، أو سلموا إليه من مالي كذا، فهذه الألفاظ وما في معانيها إيجابٌ من الموصي.
وتردد أئمتنا فيه إذا قال: وهبت لفلان كذا، ورام الإيصاء، لا تنجيز الهبة: فمنهم من قال: هذا إيصاء، كقوله: ملكت فلاناً، ومنهم من قال: لا تصح الوصية بهذه اللفظة؛ فإنها صريح في الهبة المنجزة، فإذا لم يترتب عليها مقتضاها في تنجيز الهبة، بطلت.
فهذا بيان ما يكون إيجاباً.
فإذا ذكر صيغةً صريحة في الإقرار، فهي إقرار، وليست إيصاءً، وذلك كقوله: هذا العبد لفلان، حتى لو أراد حملَ ذلك على الإيصاء، لم يُقبل منه، ولو قرن باللفظ ما يخرجه عن كونه إقرار، مثل أن يقول: هذا العبد من مالي لفلان، فالإقرار على هذه الصيغة باطل، وهل يكون هذا إيصاءً مع عُروّه عن إنشاء تمليك؟ فيه تردّدٌ واحتمال. ولو قال: جعلت هذا العبدَ لفلان، فهذا إيصاء لتصريحه بإثبات الملك له، ولو قال: عيّنتُ هذا العبدَ لفلان، فما أرى ذلك إيصاء؛ فإن التعيين له يتردد بين معانٍ: أحدها وعْدٌ بالإيصاء، كأنه قال: عينته له لأوصي له به، ويجوز أن يريد بلفظه تعينه للوصية بالمنافع، وإذا تقابلت جهات الإمكان، فلا نجعل اللفظ إيجاباً في الإيصاء، فإن زعم من يُقرّ أنه أراد إيصاء، فالظاهر عندي صحةُ الإيصاء بالكنايات إذا اقترنت بالقصود والنيات. وقد ذكرت تردداً في انعقاد البياعات بالكنايات، والسبب فيه استدعاء البيع جواباً ناجزاً من المخاطب به، وذلك يستدعي إفهاماً وهو عَسِرٌ بالكناية، وسأجمع في ذلك قولاً جامعاً في كتاب الخلع، إن شاء الله تعالى، والإيصاء لا يستدعي في الحال جواباً ولذلك قَبِل التعليقَ بالأغرار والأخطار.
فهذا بيان ما يقع إيصاء، ثم لا خلاف أن الوصية لا تستدعي جواباً من الموصى له في الحال، بل أجمع أئمتنا على أنه لو قبل، لم يكن لقبوله في حياة الموصي حكم، ولو أراد الردّ بعد موت الموصي، لكان على خِيَرته فيه، وكذلك لو ردّ الوصيةَ في حياة الموصي، لم يكن لرده حكم، وهو على خِيرَته في القبول بعد موت الموصي، ثم لا خلاف أن القبول لابد منه، كما سنصفه، ولا يشترط مبادرة القبول من الموصى له كما بلغه موت الموصي، ولكن الخيار إليه في التأخير والتعجيل.
7456- فإذا تبين ما ذكرناه، افتتحنا بعده غرضنا في أن الملك متى يحصل للموصى له في الموصى به؟ وقد اختلفت النصوص، وحاصل الأقوال في ذلك ثلاثةٌ: أحدها: أن الملك يحصل بموت الموصي من قَبْل القبول، ولكن لزومه منوط بالقبول، فإن قبل الموصى له، لزم الملك، واستقرّ إذا وفّى الثلث، وإن ردّ، انقطع الملك بعد ثبوته.
والقول الثاني-وهو أعدل الأقوال وأمثلها- أن الملك موقوف مراعى، فإن قبل الموصى له، تبيّنا أن الملك حصل بموت الموصي إسناداً إليه، وإن تأخر القبول عنه بمدة مديدة. وإن ردّ، تبينا أن الملك لم يحصل.
والقول الثالث: أن الملك يحصل للموصى له في الموصى به عند تمام قبول الموصى له؛ فالقبول يستعقب الملك على هذا القول.
7457- التوجيه: من قال: الملك يحصل بموت الموصي، احتج بأن هذا ملكٌ يقتضيه الموت، مع تقدم الإيصاء، فشابه الملك الذي يقتضيه التوريث، غير أنا نسلّط الموصى له على الزد إن أراده، حتى لا يدخل على اللزوم في ملكه ما لا يريده، ولو كان القبول يستعقب الملك في المقبول، لوجب اشتراط اتصال القبول بالإيجاب، فلما لم يكن كذلك، بل كان القبول المتصلُ بالإيصاء في حياة الموصي مردوداً ساقطَ الأثر، دلّ أن عماد الملك الموتُ بعد الإيصاء.
ومن قال: الملك يحصل عقيب القبول، احتج بأن قال: القبول معتبر بالاتفاق، إنما الكلام في أثره وفائدته، وكل تمليك اعتبر القبول فيه وجب أن يكون القبول مؤثراً في تحصيل الملك، حتى لا يتقدم حصول الملك عليه، وأيضاً؛ فإن إدخال الأشياء في أملاك الناس قَهْراً من غير ولاية بعيدٌ عن قاعدة الشريعة، وإن ثبتت لهم الخيرة في الرد. وسيتضح وقع هذا في التفريع.
وأما وجه قول الوقف، فواضح، وفيه الجمع بين نكت الأقوال؛ فإن القبول لابد منه، وليس هو على قياس القبول في سائر العقود، وللموت أثر بيّن في اقتضاء تحصيل الملك، فالوجه ربط الملك بالقبول في معرض التبيّن والإسناد.
7458- فإذا ظهرت الأقوال نقلاً وتوجيهاً، فأظهرها في نصوص الشافعي قولُ الوقف، وأبعدها في النقل قولُ استعقاب القبول الملك، ويلي قولَ الوقف في الظهور قولُ حصول الملك بموت الموصي.
وأول ما نذكره في تأسيس الأقوال قبل الخوض في تفصيل التفريع عليها أنا إن حكمنا بوقوع الملك بالموت، فالرد نقضٌ للملك، وإن حكمنا بالوقف، فمعناه لائح، وإن حكمنا باستعقاب القبول الملكَ، فالملك في الموصى به بعد موت الموصي إلى قبول الموصى له لمَنْ؟ فيه وجهان مشهوران:
أحدهما: أن الملك للوارث فيه.
والثاني: أن الملك يبقى للميت، فإذا فرض القبول، فإذ ذاك يملك الموصى له.
توجيه الوجهين:
7459- من قال: الملك للوارث احتج بأن الموصى به مملوك، وليس يحتمل مذهب الشافعي إثباتَ مملوك لا مالك له، ويستحيل بقاء الملك للميت؛ فإن الموت مقطعةٌ للأملاك، ومِن أدنى آثاره أن يخرج الميت عن كونه مالكاً، فيتيعن إسناد الملك إلى الوارث.
ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الملك لو وقع بالموت للوارث، لكان الموصى له متملّكاً عنه، وهذا بعيد عن وضع الوصية، مع أن الموصي مملِّك والموصى له يتملك عنه ولا يبعد تقدير بقاء الملك له إلى اتفاق التملك بالقبول، حتى يكون ملكُ الموصى له مترتباً على ملك الموصي، وإن كان لا يبعد بقاء الدّين على الميت تحقيقاً، فكذلك لا يبعد بقاء الملك له، وقد صار صائرون من أئمتنا إلى أن الأكفان على ملك الميت، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى.
فإذا ثبتت الأقوال تأصيلاً، افتتحنا التفريع عليها، حتى إذا استكملنا ما أراد الله من التفريع، خرَّجنا على مجاري التفريعات فصولَ السواد، إن شاء الله.
7460- فإن قلنا: الملك في الموصى به يحصل بموت الموصي، فيتفرع على ذلك القولُ في الزوائد، والمغارم، وانقطاع النكاح إن كان أوصى مالكُ الجارية برقبتها لزوجها، يتفرع أيضاً عتقُ الموصى به على الموصى له إن كان ابنه أو أباه أو غيرهما من الأصول والفصول. فهذه الأحكام لابد من تفريعها.
فأما القول في الفوائد كالأكساب، والنتاج الحادث، والثمار وما في معانيهما من الفوائد المنفصلة، فالقول الوجيز فيها أن الوصية إذا اتصلت بالقبول والتفريع على أن الملك يحصل بالموت، فتلك الزوائد تساق بجملتها إلى الموصى له، ولو أتلف بعضَها متلفٌ قبل القبول، غرِم البدلَ للموصى له؛ فإنه اجتمع أمران:
أحدهما: حصول الزوائد في وقت ملكه، على القول الذي عليه التفريع، والثاني: استقرار الملك عليه آخراً بالقبول. هذا إذا قبل.
فإن ردّ الوصية، ارتد الملكُ وانقلب إلى الورثة، وكان تركةً يؤدى منه الديون وتنفّذ منه الوصايا الثابتة. وفي تلك الزوائد وجهان مشهوران:
أحدهما: أنها تنقلب إلى الورثة وتتبع الأصل في انقلابها.
والوجه الثاني- أن الملك يرتد في الموصى به، وتبقى الزوائد في ملك الموصى له ملكاً لازماً لا يملك رده.
توجيه الوجهين: من قال: إنها تبقى على اللزوم، احتج بحصولها في الملك مع اختصاص الرد بمحل الوصية، ولو أراد الموصى له ردّ الزوائد، لم يملكه، كما لو حدثت زوائد على العين المشتراة في يد المشتري، ثم إذا ردّ المشتري بعيب اطلع عليه، فالزوائد تبقى له، ولا ترتد بردّه، وهذا مما نقله الشيخ أبو بكر في أثناء كلامه.
ووجه الوجه الثاني- أن الزوائد ترتدُّ تابعةً؛ إذ لو قضينا ببقائها على ملك الموصى له، لكان ذلك تسبباً إلى إدخال شيء في ملكه قهراً، وهو مطلق لا حجر عليه، وهذا بعيد عن القواعد، وينضم إليه أن الملك قبل حصول القبول ضعيف؛ فيليق بارتداده استتباع الزوائد، وقد ذكرنا في التفريع على أقوال الخيار في البيع أنه إذا حدثت زوائد في زمان الخيار، ثم أفضى العقد إلى الفسخ، والتفريع على أن الملك في زمان الخيار للمشتري، فإذا ارتد ملكه في المبيع، فهل يرتد الزوائد؟ فعلى خلافٍ مشهور، وبقاء الملك للمشتري في الزوائد مع ردّ الأصل أوجه من بقاء الملك في الزوائد في الوصية؛ فإن عقد البيع جرى بإيجابه وقبوله على حسب اختيار المشتري على حالٍ، فإن بقّينا له زوائدَ. صادفنا في ذلك مستنداً من اختيار المشتري، ولم يجْرِ في الوصية قبل القبول اختيارٌ، فيبعد عن القواعد إلزام الموصى له الملكَ في الزوائد على وجهٍ لا يملك نقضَه وردَّه.
ولا شك أنه يلتحق بالزوائد العُقر الذي يجب على الواطىء بالشبهة بين موت الموصي والقبول، وهو مندرج تحت ما أطلقناه من قيم الفوائد؛ فإن منافع البضع من الفوائد التي تجري بين موت الموصي وقبول الموصى له، والعُقر قيمةُ ما أتلفه الواطىء من منافع البضع.
وكذلك القول في أجرة المنافع إذا وجبت على الغاصب للعين الموصى بها.
هذا منتهى قولنا في الزوائد عند فرض القبول والردّ، تفريعاً على أن الملك يحصل بالموت.
7461- فأما ترتيبُ القول في المغارم التي من جملتها زكاة الفطر، فإذا فرض استهلال هلال شوال بين موت الموصي وقبول الموصى له، فزكاة الفطر تجب على الموصى له إن قبل الوصية على ظاهر المذهب؛ فان الملك كان في الرقبة حالة الاستهلال للموصى له، ثم أفضى إلى القرار بالقبول، وقد ذكرت هذا بما فيه مستقصىً في كتاب الزكاة، وأتيتُ في ترتيبه وتوصيفه بالعجائب والآيات، فليتأمّله مَنْ يريده في موضعه، ولْيَجمع بين ما ذكرتُه ثَمَّ وبين ما جمعتُه ها هنا لتتم القواعد جُمَع.
والقول في النفقات والمؤن بين الوفاة والقبول يخرج على هذا القانون، فإن أفضى الملك إلى القرار، فالمؤن بجملتها على الموصى له، وإن رد الموصى له الوصيةَ، فلا أحد من الأصحاب يستجيز إلزام الموصى له بالمؤن بين الموت والرد؛ فإن هذا إن قيل به هجومٌ عظيم على القواعد، وليس هذا كإلزامه ملكَ الزوائد حتى لا يمكن ردّها، نعم، وفي إلزامه الزوائد إلزامُه مؤن الزوائد، وهذا والحق أحق ما قيل فيه بعيدٌ، ولكنه متعلق بملك يقرّ في الزوائد، فكان يقرب بعض القرب، وإنما الأمر الذي لا يحتمل إلزام المؤنة مع ارتداد الملك في الأصل.
وقد يعترض وراء ما ذكرناه إشكال، وهو أن الموصى له إذا كان يؤخر القبولَ والنفقاتُ التي تسد الحاجات جاريةٌ لا تقف، فمن المطالب بها؟
الوجه أن نقول للموصى له: هل لك في تعجيل القبول أو الرد؟ ولا نُلزمه واحداً منهما، فإن قبل، لم يخف حكم القبول ولزوم النفقات، وإن ردّ، لم يخف حكم الردّ وانقلابُ المؤن إلى الورثة، وإن قال: لست أقبل الآن، ولست أردّ، وليس لكم حملٌ على أحد هذين، فيتجه جداً إن قال ذلك، أن يُطوَّقَ النفقةَ ونلزمه إياها؛ بناء على حصول الملك، وهو مقتدر على صرف المؤن عن نفسه بالرّدّ، ولو لم نقل هذا، والنفقاتُ لا تقف، وإلزامُ الورثة ولا ملك لهم محال، والإنفاق من التركة محالٌ، وردُّ المؤن إلى بيت المال بعيد- لم نجد للمقال مساغاً، ثم لا نعدَم للإلزام مثالاً، فإن من طلق على الإبهام إحدى امرأتيه طلاقاً مبيناً، وامتنع عن بيان المطلقة منهما، فعليه التزام نفقتهما جميعاً-كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل- وإن كانت إحداهما بائنة، وكذلك القول في النسوة الزائدات على منتهى العدد إذا أسلم عليهن زوجُهن، وأسلمن، ثم امتنع الزوج عن اختيار أربع منهن، فنفقتهن واجبة عليه في زمان التوقف، وليس ينقدح مسلك آخر سوى ما ذكرناه.
فإن قيل: إذا مضت مدة الخيار على ما وصفناه، ثم اختار الموصى له الردّ، قلنا: النفقة المقتضاة منه جاريةٌ، لا استدراك لها، ولا تراجع فيها؛ فإنه أُتي من قِبَل نفسه، ولم يختلف أصحابنا في أن الزوج إذا توقف عن البيان زماناً، وألزمناه النفقةَ، ثم بيّن، فما ألزمناه من النفقة لا يرجع به، هذا والمطلقةُ بائنة لا اعتصام لها في النفقة إلا تأخر البيان، والملك على القول الذي عليه نفرع ثابت للموصى له، وقد انضم إليه توقُّفُه مع القدرة على التنجيز.
7462- فلو فرضنا الموصى له غائباً، وعسر الوصول إليه، وتعذرت مراجعته، فنفقة العبد الموصى به ممن تؤخذ في الحال؟ الوجه أن يقال: إن أمكن استكساب العبد، فعلنا ذلك، فإن كان لا يكسب، ولا يستقل به، فلسنا نرى في الحال مأخذاً إلا بيتَ المال؛ إذ لا ملك للورثة فيطالبوا، وإنما يطالب بالنفقة مالكُ الرقبة، ولا سبيل إلى التعطيل، فلا وجه إلا ما ذكرناه.
ثم إذا قبل الموصى له الوصية، فالرجوع عليه بما أخرجناه من بيت المال منقدحٌ، وقد استقر الملك عليه آخراً، ويثبت للسلطان هذا النوع من التسلط، وهو بمثابة ما لو أنفق على عبيدِ غائب لمسيس الحاجة إلى الإنفاق عليهم، فإذا رجع المالكُ، رجع السلطان عليه، وإن ردّ الموصى له الوصية لمّا بلغه خبرها، ففي الرجوع عليه بالنفقة بُعدٌ؛ من جهة أن في ذلك إلزامَه مؤنةً من غير اختيارٍ منه، ومن غير تردّد مع العرض عليه، ولا سبيل أصلاً إلى الرجوع على التركة والورثة؛ فإن الملك لم يكن لهم، والنفقة تتبع الملك، كما رآه الناظر.
ولا يبعد أن يقال: إذا كنا نرى ارتداد الزوائد إلى الورثة إذا رُدّت الوصية، فينقلب عليهم الرجوع بالنفقات التي جرت، ونقول بحسبه: إذا كنا نُبقي الزوائد للموصى له مع ردّه الأصلَ، فلا يبعد أن يرجع السلطان عليه بالمؤنة، هذا مسلكٌ في الاحتمال، والفرق أظهر فيه؛ فإن إثبات الملك للغير أقرب إلى الأصول من إلزامه مؤنةً من غير اختياره، ومن غير تسببه إلى التوقف، وانقلاب الزوائد على الورثة على مذهب الاتباع من وقت ارتداد الملك، وليس ذلك على الإسناد إلى ما تقدم، فينتظم من مجموع ذلك ألا يكون لبيت المال مرجع.
هذا منتهى القول في الزوائد والمؤن والمغارم، تفريعاً على أن الملك يحصل بموت الموصي.
7463- فأما القول في انفساخ النكاح إذا فرضنا الوصية بزوجة الموصى له والتفريع على أن الملك يحصل بموت الموصي، فالنكاح ينفسخ بنفس موت الموصي، وذلك أن الملك ينافي النكاح منافاة المضادة، ويستحيل أن تكون زوجة الإنسان مملوكته، وكل ما يتلقى من التضاد، فلا فرق فيه بين الضعيف وبين القوي.
وإن فصل فاصل بين الملك الضعيف والقوي في إفادة الزوائد واقتضاء المغارم، فلا معنى لذلك فيما ينافي الشيءَ منافاة الضد، فخرج من ذلك أن الوصية إذا كانت بزوجة الموصى له، فالنكاح ينفسخ، سواء قَبِل الوصيةَ أو ردَّها، فإن الرد على هذا القول لا يبيّن لنا أن الملك لم يكن، ولكنه يقطع ملكاً حاصلاً.
7464- فأما القول في حصول العتق، فإذا كان الموصى به ابنَ الموصى له، فإذا قبل الوصية، عتق عليه ابنُه.
وهل يحكم بحصول العتق قبل القبول، حتى نقول: لو ردّ، لم ينفذ الرد؟ هذا محل التردد والاختلاف، وللمسألة التفاتٌ على قواعد نشير إليها، منها: أن المشتري إذا أعتق العبد المشترى في زمان الخيار، والتفريع على أن الملك له مع الفرض في ثبوت الخيار للبائع أيضاً مع ثبوته للمشتري، فقد اختلف أصحابنا في نفوذ العتق.
وبين مسألتنا وبين ما ذكرناه فرق ظاهر؛ من قِبَل أنا لو نفّذنا العتق في الصورة التي ذكرناها، لأفضى ذلك إلى إبطال خيار البائع، وإبرام العقد على الاستبداد، والحق في القبول للموصى له، وليس لأحدٍ معه حق، فيجوز أن يقال: نظير الوصية من البيع ما لو كان المشتري منفرداً بالخيار، والملك له، ولو كان كذلك فعتقه ينفذ باتفاق الأصحاب.
وبين هذه المسألة الأخيرة من البيع وبين الوصية فرق، فإن المشتري اختار التملك، وأثبت لنفسه مستدركاً، فإذا ضم إليه الإعتاق، كان ذلك منه قطعاً للخيار، والموصى له لم يوجد منه اختيار للوصية، ولو حكمنا بحصول العتق، لكان هذا إثباتَ ملك له على اللزوم قهراً، من غير اختيار من جهته؛ فإن العتق لا يترتب إلا على ملك، ثم العتق يستعقب الولاءَ، ومن حكم نفوذ العتق عليه لزوم الولاء له، فقد تبين بما ذكرناه تردد الرأي في المسألة.
وحاصل ما ذكره الأئمة أنه إن ردّ الوصية ففي الحكم بنفوذ العتق متقدماً على ردّه-وفيه ردُّ ردِّه- وجهان:
أحدهما: أنه يحصل؛ لسلطان العتق ونفوذه، وسقوط حق غير الموصى له.
والثاني: أنه لا ينفذ؛ لبعد إثبات الولاء له على قهرٍ، وهو مطلق لا اعتراض عليه.
هذا إذا رد الوصية.
فإن قبلها، فالعتق هل ينفذ مع الموت متقدماً على القبول؟ فعلى وجهين.
وظن بعض الأصحاب أن هذه الصورة تترتب على الأولى، وهي أولى بنفوذ العتق منها؛ من جهة إفضاء الوصية إلى القبول.
وهذا كلامٌ قليل الجدوى والفحوى؛ فإنا لسنا نفرع على قول الوقف، حتى نتبين بالقبول استناد قوة إلى الملك السابق.
وإذا حكمنا بنفوذ العتق، فلا أثر للقبول، ولا معنى للترتيب. وحاصل المذهب حصول الخلاف قبل القبول، فُرض الردُّ أو القبول.
وقد نجز ما أردناه من تفريع الأحكام الأربعة على قولٍ واحد.
7465- فأما إذا فرعنا على الوقف، فالكلام الوجيز فيه أن الموصى له إن قبل، ثبتت هذه الأحكام على قضية الملك اللازم، فلا نقول: نتبين إسنادَ الملك إلى حالة الموت على جوازٍ حتى نتردد في الزوائد، وحصولِ العتق، ترددنا في الملك قبل القبول على قولنا يحصل الملك بنفس الموت، وذلك لأن ذلك الملك وإن حكمنا به، فهو جائز، وإذا أسندنا الملك على قول الوقف نُسنده تاماً، ولسنا نقول: نسند ملكاً على الضعف، فلنثبت أحكام الملك التام. وهذا واضح.
وإن فرضنا الرد، لم يثبت في حق الموصى له حكمٌ من الأحكام المترتبة على الملك؛ فإنا نتبين أنْ لا ملك أصلاً، ولكن يعترض في هذه الحالة فقهٌ يناظر ما ذكرناه من حال الإجازة، وهو أن تلك الأحكام بجملتها للورثة؛ فإن القبول كما يُبيّن استنادَ الملك التام إلى ما تقدم، فالردّ يبين تقرر الملك التام للمالك.
فليفهم الناظر ما ذكرناه من أمثال ذلك، وإن كان من الجليّات؛ فمعظم الزلل ينشأ من الغفلة عن الجليّات.
7466- فأما إذا حكمنا بأن الملك يحصل بالقبول ولا يتقدم عليه تحققاً ولا تبيّنا، فنفرّع الأحكام الأربعة، ونقول: أما الزوائد الحاصلة بعد موت الموصي وقبل قبول الوصية، فسبيل الكلام فيها أن نقول: لا يخلو الموصى له إما أن يقبل الوصية وإما أن يردّها، فإن ردّها، فلا شك أنه لا حظ له في الزوائد، ثم هي تابعة للملك، وقد ذكرنا وجهين في أن الموصى به بعد الموت وقبل القبول ملك مَن؟ فإن قلنا: إنه ملك الميت، فالزوائد تحدث على هذا التقدير، ثم تكون إرثاً وحكمه حكم التركة يقضى منه الديون، وتنفّذ منه الوصايا.
وإن قلنا: الموصى به بين الموت والقبول ملكُ الوارث، فالزوائد حيث انتهى الكلام بمثابة الزوائد المستفادة من التركة، والظاهر من المذهب أن زوائد التركة لا تقضى منها الديون؛ فإن التركة مرتهنة بالديون، وهي مملوكة للورثة، فلا يتعدى حقوق مستحق الديون إلى الزوائد، والفوائد.
ومن أصحابنا من يثبت لزوائد التركة حكمَ التركة، وهذا لا خروج له إلا على قول من يقول: التركة لا يملكها الورثة إذا كانت مستغرقة بالديون، فانتظم إذاً وجهان في أن الزوائد تركة أم هي خالصُ حق الورثة.
هذا كله إذا ردّ الموصى له الوصيةَ.
فأما إذا قبلها، ففي الزوائد الحاصلة بعد الموت وقبل القبول وجهان:
أحدهما: أنها للموصى له نظراً إلى قرار الملك.
والثاني: أنها مجراةٌ على القياس الذي قدمناه فيه إذا ردّ الوصية؛ فإنا لسنا نفرعّ على قول الإسناد، فوجود طريان الملك بعد الزوائد. وعدمه بمثابة واحدة، وقد قدمنا في كتاب البيع أنه إذا حدثت زوائد في زمان الخيار-والتفريع على أن الملك للبائع- ثم أفضى العقد إلى اللزوم، فالزوائد مختلف فيها: من أصحابنا من جعلها للبائع؛ فحدوثها في حالة ثبوت الملك له، ومنهم من جعلها للمشتري؛ نظراً إلى قرار الملك في الأصل.
والضابطُ فيما هذا سبيله أنه إذا ثبت حقُّ الملك لجهة، ثم استقر على تلك الجهة، فالزوائد لتلك الجهة؛ فإنه اجتمع كونُ الملك حالة حصول الزوائد، والقرارُ من الآخر.
فإن كان الملك لجهةٍ والقرارُ على أخرى، ففي الزوائد وجهان:
أحدهما: أنها تتبع جهة الملك حالة حصول الزوائد.
والثاني: أنها تتبع جهة القرار، ثم إن جعلنا الزوائد للموصى له، فلا كلام، وإن لم نجعلها له، فهي على التفصيل الذي ذكرناه فيه إذا رد الموصى له الوصية.
7467- فأما القول في المغارم، فلم أر أحداً من أصحابنا يتبعها قرارَ الملك، مع تردّدهم في الزوائد، وكان لا يبعد عن القياس تنزيلُ الغرم منزلة الغُنم، ولكن تتبع الملك الناجز.
ثم يعرض في ذلك أنه ملكٌ ضعيف، وفي تعلق زكاة الفطر بالملك الضعيف خلاف قدّمته في كتاب الزكاة على أبلغ وجهٍ في البيان.
7468- فأما القول في انفساخ النكاح، فنقول: إذا كان حصول الملك للموصى له يقف على القبول، ثم يحصل معه، ولا يستند إلى ما تقدم تبيّناً، فلا يخفى حكم الموصى له في النكاح، فإذا قبل الوصية في زوجته المملوكة، انفسخ النكاح، ولا خفاء ببقاء النكاح قبل القبول.
هذا حكمه.
فأما إذا كانت الجارية الموصى بها زوجة الوارث، والتفريع على أن الملك لا يحصل للموصى له إلا مع القبول، فقد ذكرنا خلافاً في أن الملك في الموصى به ما بين موت الموصي إلى قبول الموصى له لمَنْ؟ من أصحابنا من قال: إنه للميت، فعلى هذا لا ينفسخ نكاح الوارث، فإنه لا يحصل الملك له.
ومن أصحابنا من قال: إن الملك للوارث إلى اتفاق القبول، فعلى هذا هل يحكم بانفساخ نكاح الوارث؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ينفسخ نكاحه بحصول الملك له في زوجته، وقد أوضحنا أن الملك والزوجية يجريان مجرى الضدين، وإذا كان انتفاء الزوجية بالملك على مضاهاة اعتقاب الضدين، فلا نظر إلى الضعف والقوة في الملك، قياساً على ملك المشتري في زمان الخيار؛ فإن من اشترى زوجته على شرط الخيار، وفرّعنا على أن الملك للمشتري، انفسخ النكاح بالملك الجائز.
ومن أصحابنا من قال: لا ينفسخ نكاح الوارث؛ فإن هذا الملك تقديرٌ اضطررنا إليه؛ من جهة أنا لا نرى إثبات ملك لا مالك له، فوضْعُ هذا إذا فرض القبول من الموصى له لا يفضي إلى مقاصد الأملاك وحقائقها، وليس ذلك كملك المشتري في زمان الخيار؛ فإنه ملك واقع في سبيل جلب الملك؛ فأثبت منّا قضاءً ولو رد الموصى له الوصية، فقد تقرر ملك الوارث، فمن قال بانفساخ نكاح الوارث إذا قبل الموصى له الوصية، فلا شك أنه يقول بانفساخه إذا ردّ.
ومن قال: إذا قبل الموصى له، لم ينفسخ نكاح الوارث؛ لأن ملكه في زوجته الموصى بها تقدير، فالأظهر أنا نحكم الآن باستناد الانفساخ إلى وقت موت الموصي، وهذا لطيفٌ؛ فإن حكم الإسناد يليق بقول الوقف، وقد اتجه في هذا الطرف، والتفريعُ على أن الملك يحصل بالقبول. وسببُ اتجاهه أنا لم نحكم بانفساخ النكاح إذا فرض القبول من الموصى له من حيث إن ذلك الملك كان مقدّراً، والآن إذا رُدّت الوصية، واستمر ملك الوارث، صار التقدير تحقيقاً، وهذا يتضمن الانعطافَ على ما تقدم.
وقيل: لا نحكم بانفساخ نكاح الوارث قبل الرد، وإنما نحكم بانفساخه إذا ردّ الموصى له؛ فإنَّ التحقيق يثبت من وقت الردّ، وهذا متجه، والأول ألطفُ وأغوص في الفقه.
7469- فأما القول في بيان من يعتِق على الوارث، أو على الموصى له، فإن كانت الوصية بمن يعتق على الموصى له، فحصول العتق يتوقف على القبول، فإن الملك به يحصل على القول الذي نفرع عليه، ثم إذا حصل، استقرّ، فلا يُتصور للموصى له على هذا القول ملك جائز في الوصية الصحيحة التي يحتملها الثلث.
فأما إذا كان الموصى به ممن يعتق على الوارث، فإن قلنا: الملك للميت ما بين الموت إلى القبول، فلا إشكال، وإن قلنا: الملك للوارث، فهذا ملكُ تقدير، وقد اتفق الأئمة على أنه لا يعتِق على الوارث؛ فإن الملك تقديرٌ، كما ذكرناه؛ وفي الحكم بنفوذ العتق إبطالُ الوصية، وهذا محال، وليس هذا العتقُ لو حكم به موجباً غُرماً على الوارث؛ فإن الغرم إنما يثبت في سرايات العتق إذا ترتبت على أسباب اختيارية، ولا سبيل إلى إبطال الوصية، فليفهم الناظر مواقع الكلام، ومأخذ الأحكام، وليقض العجب من محاسن الشريعة. نعم، لو رد الموصى له الوصية، لم يبعد أن يستند نفوذ العتق إلى ما تقدم إن كان العتق ينفذ في الملك الضعيف.
وقد انتهى تفريع الأحكام على الأقوال الثلاثة.
7470- ومما يتعلق بتمام القول في هذا الأصل بيانُ المذهب في موت الموصى له بعد موت الموصي وقبل القبول والرَّد، فإذا مات الموصي ولم يتفق من الموصى له قبول ولا رَدٌّ حتى مات، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن وارث الموصى له بالخيار: إن شاء، قبل الوصية، وإن شاء، ردّها.
وقال أبو حنيفة تلزم الوصية بموت الموصى له، وهذا في نهاية الضعف؛ فإنه إلزامٌ يتضمنه عقدٌ مع أقوامٍ مطلقين، وكان ينقدح في القياس القضاء ببطلان الوصية، لو كان مذهباً لذي مذهب؛ من جهة أن الموصى له قد مات، ففرضُ القبول من غيره، وليس القابل موصًى له بعيدٌ، ولم يصر إلى هذا أحدٌ نعلمه من العلماء. فإذا لم يصح هذا مذهباً، وبطل لزوم الوصية من غير قبول، لم يبق بين هذين الطرفين إلا إحلالُ الوارث محل الموروث.
وهذا المنتهى يشعر بدقيقة، وهي أن قبول الوصية ليس على حقائق قبول العقود، ولهذا استأخر عن الإيجاب، مع إمكان فرضه متصلاً بالإيجاب، ولكن الإيصاء يُثبت عند الموت للموصى له حقَّ التملك بالقبول، ولا يبعد أن يجري الإرث في حق التملك، كالشفعة على مذهبنا. ثم أبو حنيفة أبطل الشفعة بموت الشفيع، وألزم الوصيةَ بموت الموصى له.
7471- فإذا ثبت أن وارث الموصى له بالخيار في القبول والرد، فإن فرعنا على قول الوقف، لم يكن بين قبول الوارث وردّه، وبين قبول الموصى له وردّه فرقٌ؛ فإن قبل الوارثُ الوصية، تبيّنا أن الملك كان حصل بموت الموصي للموصى له، ثم خلفه إرثاً على ورثته، وننُزلُ قبولَ الوارث منزلة قبول الموصى له في حياته.
وإن رد الوراثُ الوصيةَ، تبيّنَّا أن الملك لم يحصل أصلاً، ونُنزل ردّ الوارث منزلةَ ردّ الموروث نفسه.
7472- وإن قلنا: الملك يحصل للموصى له بموت الموصي، وقبولُه للوصية تقريرٌ للملك، وردُّه قطعٌ لملكٍ حاصل من غير تبيّنٍ وإسناد، فقبول الوارث وردُّه بمثابة قبول الموصى له وردّه، ولا يظهر على هذا القول أيضاً مزيد حكمٍ.
7473- فأما إذا قلنا: الملك في الموصى به يحصل بالقبول، فقد يعتاص الكلام بعض الاعتياص في قبول الوارث، أما ردّه، فلا إشكال فيه؛ فإنه يستأصل الوصية ويقطع أثرها.
7474- فأما إذا قبل الوارث والتفريع على قول القبول، فقد اختلف أصحابنا على وجهين حكاهما صاحب التقريب: فذهب بعضهم إلى أن الوارث إذا قبل تقدّم الملكُ في الموصى به إلى ألْطف لحظة قبل موت الموصى له.
ومن أصحابنا من قال: يحصل الملك مع قبول الوارث من غير تقدم.
توجيه الوجهين: من قال بتقدم الملك، احتج بأن الموصى له هو المقصود بالوصية؛ فيستحيل أن نثبت الوصية من غير أن يثبت للموصى له ملكٌ في الموصى به، فاضطررنا إلى الإسناد على الحد الذي ذكرناه. وإن كنا لا نفرع على قول الإسناد والوقف.
ومن قال بالوجه الثاني احتج بأنّ التفريع إذا كان على قولٍ، فلا يجوز أن يترك أصله في تفصيله، وأصل قول القبول استعقاب القبول للملك، فيبعد أن يتقدم عليه.
التفريع على هذين الوجهين:
7475- إن حكمنا بأن الملك يتقدم على موت الموصى له، فالموصى به تركة الموصى له، ولا غموض.
وإن حكمنا بأن الملك يحصل مع قبول الوارث، فعلى هذا الوجه وجهان:
أحدهما- أن الملك يحصل للميت، ثم ينتقل إلى القابل إرثاً.
والثاني: أن الملك يحصل ابتداء للوارث.
توجيه الوجهين: من قال: يحصل الملك للميت، والموصى به تركة يُقضى منها ديون الموصى له، وتنفّذ منه وصاياه، احتج بأن الوصية للمتوفى لا لوارثه، فيستحيل أن تستقر الوصية من غير أن يستند الملك إلى الموصى له.
ومن قال: الملك يحصل للوارث، احتج بأن الميت يستحيل أن يثبت له ملكٌ على الابتداء، فيثبت الملك لمن خلفه، وحلّ محله. وهذا القائل يقول: استحق وارث الموصى له حق التملك، وهذا هو الموروث، وهو بمثابة إجراء الإرث في حق الشفعة، فإذا أقمنا الوارث في الشفعة مقام الموروث، فالملك يحصل في الشقص المشفوع للوارث ابتداء، وإن كان تلقي الملك مترتباً على حقّ موروث. ومال اختيار صاحب التقريب إلى هذا الوجه.
التفريع:
7476- إن حكمنا بأن الملك يستند إلى حياة الموصى له، فلو كان الموصى به ممن يعتِق على الموصى له تبيّناً، فإنه يعتق عليه، على ما سيأتي التفصيل في أن القريب كيف يعتِق على القريب في مرض موته؛ والمقدار الذي ننجزه أن المريض إذا ورث قريبه، عتق عليه من رأس المال، وتقدير الملك للموصى له لا اختيار فيه، فكان كالإرث على ما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
وإن قلنا: الملك يحصل مع قبول الوارث للميت، فإذا كان الموصى به ممن يعتِق على الموصى له، فإنه لا يعتِق على الموصى له، فإنا قدّرنا الملك بعد موته، ولا ينفذ العتق على الميت، على ما سنبين ذلك في مسائل نجمعها في العتق في هذا الكتاب.
وإن قلنا: الملك يحصل للوارث، وكان الموصى به ممن يعتق على الموروث في حياته، ولا يعتق على الوارث، بأن كان ابنَ الموصى له وأخَ الوارث القابل.
نعم، تردد أئمتنا على هذا الوجه في شيءٍ وهو أن الوارث إذا ملك الموصى به، فهل يجعل هذا في حكم تركة الموصى له، حتى يقضى منه ديونه؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: ليس ذلك تركته؛ فإنه لم يدخل في ملكه، فصار كالشقص المأخوذ بالشفعة.
ومنهم من قال: هو في حكم تركة الموصى له؛ لأن الوارث ملكه بسببه، وليس كالمبيع المشفوع؛ فإنه مملوك بعوضه لا بالإرث، وإنما الموروث حق تملكه، والموصى به في مسألتنا مملوكٌ بالوصية للميت، فشابه ذلك ما لو كان نصب شبكة في حياته وتعقّل بها صيدٌ بعد موته، فالمذهب الظاهر أن الصيد يثبت له حكم تركة الميت؛ لترتب الملك على سبب وجد منه في حياته، والملك المستفاد مشبه في مأخذه بالغُرم اللاحق، ولو كان حفر بئراً في محل عدوان، وتردى فيها بعد موته متردٍّ مضمونٌ، صار الضمان وإن طرأ بعد الموت كالدين الذي التزمه الميت في حياته.
ومن أصحابنا من لم يجعل الصيد المتعقل بالشبكة تركةً، كما ذكرناه في الموصى به إذا قبله الوارث، ويبعد أن يقال: الصيد يدخل في ملك الميت، ثم ينتقل عنه، وإن ذكرنا هذا وجهاً في الموصى به؛ وذلك أنا اضطررنا إلى هذا في الوصية لعلمنا أن الموصى له هو المقصود بالوصية المملكة.
هذا منتهى الكلام في حصول الملك في الموصى به إذا قبله الموصى له أو قبله وارثه.
وقد ذكرنا طرفاً من هذا في كتاب الزكاة، ولكنا أوجزناه، وحق من ينتهي إلى هذا الفصلِ من كتاب الزكاة أن يحيل الناظر إلى هذا الكتاب.
7477- ونحن نذكر بعد هذا-إن شاء الله تعالى- أصولاً نقلها المزني عن الشافعي رضي الله عنهما ونذكر في كل فصل ما يليق به، ونحرص ألا نعيد ما أوضحناه من أحكام الرّدّ والقبول.
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أوصى بأمةٍ لزوجها وهو حر، فلم يعلم حتى وضعت له بعد موت سيدها أولاداً... إلى آخره".
صورة المسألة أن السيد إذا أوصى بأمةٍ لزوجها الحر، ومات الموصي وتأخر القبول حتى وضعت أولاداً، ثم قبل الزوج الوصية. قال الشافعي رضي الله عنه: "عَتَق الأولاد ولم تكن أمهم أمَّ ولد له، حتى تلد بعد القبول بستة أشهر فأكثر؛ لأن الوطء قبل القبول وطء نكاح، والوطء بعد القبول وطء ملك".
وهذا النص مشكلٌ، وفي ظاهره تناقضٌ، كما سنوضحه في معرض السؤال، ثم نذكر الممكن والواجب.
فإن قيل: الأولاد إنما يعتقون عليه إذا حكمنا بأن الملك يحصل بموت الموصي، فيحدث الأولاد مملوكين لمن الأم مملوكة له، وإذا وقع التفريع على هذا، فيجب على موجبه أن يكون النكاح منفسخاً مع الموت، ثم يثبت الاستيلاد لمصادفة الإعلاق ملكَه، وإن كان الملك الضعيف لا يستقرّ فيه الاستيلاد على رأيٍ، فهو وجهٌ، وقد ذكرته. ولكن موجَبه أن الملك الضعيف لا يفيد الملك في الأولاد.
وإن قيل: يحصل الملك في الأولاد إذا بان استقرار الملك، فيلزم أن يثبت الاستيلاد إذا بان استقرار الملك، فنفْيُ الاسيتلاد مع إثبات الملك في الأولاد، والقضاءُ بعتقهم عليه مشكل جداً.
7478- ومن أراد فقه هذا الفصل، فقد قدمنا قواعد المذهب، وتفاريعها، وإنما غرضنا الآن الكلام على النص.
فمن أصحابنا من غلّط المزني في النقل، ونسبه إلى نقل جوابين للشافعي مفرعين على قولين.
ومن أصحابنا من قال فَرْض الكلام فيه إذا علق الولد بوطءٍ قبل موت الموصي؛ فإن الاستيلاد لا يثبت به، لا شك فيه؛ من قِبَل أن الوطء إذا فرضناه قبل موت الموصي، فهو جارٍ في وقت لا ملك فيه للواطىء، ولكن فرضنا الولادة بعد موت الموصي وأتبعنا الولدَ الأمَّ في الملك تفريعاً على أن الحمل يتبع الأم في الوصية المطلقة، على ما أوضحنا ذلك فيما سبق. وهذا لا بأس به.
ولكن في نص الشافعي ما يدرأ هذا؛ فإن الشافعي رضي الله عنه لما منع الاستيلاد علّل، فقال: لم تصر أم ولد لأن الوطء متقدم على قبول الوصية، فاعتبر تقدم الوطء على القبول، لا على موت الموصي.
وليس يتجه عندنا للنص تأويلٌ إلا من وجهٍ واحد، وهو أن نقول: لعلّه فرّع على أن الملك يحصل بالقبول، فلا ملك في الجارية إذاً قبل القبول، ولكنا قد نقول على قول القبول: إذا حدثت زوائد قبل القبول، ثم استقرت الوصية بالقبول، فالزوائد تكون للموصى له؛ نظراً إلى قرار الوصية، لا إلى الحالة التي حدثت فيها الزوائد، ولكن الاستيلاد لا يتقدم ثبوته على الوقت الذي يثبت الملك فيه، وهذا وإن كان منتظماً يبعد أن يفرِّع الشافعي عليه.
ومهما نعرض لقول القبول؛-فإن الملك يحصل به- ابتدره فريق، وقال: هذا قولٌ ينكسر عندنا، ثم ما ذكرناه في استحقاق الزوائد التي تقدمت على وقت ملك الأصل وجهٌ ضعيف على قولٍ ضعيف؛ فحَمْلُ نص الشافعي عليه استكراهٌ بيّن، وميلٌ عن مجاري كلام الشافعي، فلا وجه إلا نسبة المزني إلى الإخلال بالنقل، فَشَرْطُنا في كتابنا هذا ألا نتعدى قدرَ الحاجة في التنبيه على الغرض فيما يتعلق بنص سواد المختصر، وبعد كمال البيان للفقه والمعنى، فقد أوضحنا فقه الفصل فيما تقدم.
7479- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن مات قبل أن يقبل أو يرد، قام ورثته مقامه... إلى آخره".
ذكر الشافعي رضي الله عنه قبولَ ورثة الموصى له بعد موت الموصَى له من غير قبول ولا ردّ، ثم فرض هذه المسألة في الصورة الأولى حيث يفرض حصول أولادٍ للجارية الموصى بها قبل موت الموصى له.
ثم قال: "إذا قبل ورثةُ الموصى له الوصيةَ عَتَق الأولاد". وهذا فرّعه على أن الأولاد تدخل في ملك الموصى له، ثم يعتِقون عليه بتقدير ثبوت الملك فيه، وهذا ينقدح على قول الوقف، ويجري منقاساً حسناً، وكذلك يجري تفريعه متجهاً على قولنا: إن الملك يحصل بموت الموصي، ويتفرع أيضاً على قولنا: الملك يحصل بالقبول ولكن يتقدم على موت الموصى له، ويُجعل كأنه قبل ثم مات.
وهذا أبعد المحامل لكلام الشافعي؛ فإنه لا يكاد يفرّع على قول القبول، وإن جرى منه ذكر هذا القول، لم يزد على تزييفه، ثم إن المزني ذكر مسألة الوارث ونبّه بعد ذكرها لما في الكلام من الاختلاف في المسألة الأولى، حيث حكم الشافعي بعتق الأولاد ولم يحكم بثبوت الاستيلاد، وقد مضى القول فيه.
7480- ثم تكلم الأصحاب في مسألة قبول الورثة، فقالوا: إذا مات الموصى له بولده مثلاً، فقام وارثه مقامه في القبول، وحكمنا بأن الولد يعتِق، فهل يرث أباه مع الوارث القابل للوصية؟ قالوا: هذا مما ينظر فيه إن كان يؤدي توريثه إلى حرمان القابل وإخراجِه عن أن يكون وارثاً، فلا يرث الولد المقبول، وإن حكمنا بنفوذ العتق وصحة القبول، وذلك مثل أن يخلّف الموصى له أخاً فقبل الأخ له ولده، فلو ورّثنا الولد يخرج الأخ من أن يرث؛ فإن الابن يحجب الأخ عن الميراث، والمسألة فيه إذا كان الولد ابناً. ثم إذا قدرنا حرمان الأخ وخروجَه عن كونه وارثاً، لم يصح قبوله؛ وإذا لم يصح القبول، لم يعتِق الابن، وإذا لم يعتِق، لم يرث، ففي توريثه إبطالُ توريثه. وهذا من الدوائر الفقهية، وسنجمع منها مسائلَ في كتاب النكاح نبيّن بها قواعدَ الدوائر الفقيهة-إن شاء الله عز وجل- وهذه المسألة منها.
7481- وإن كان القابل لا يخرج عن كونه وارثاً، بتقدير توريث الابن المقبول، وذلك مثل أن يخلف الموصى له ابناً حُرّاً فقبل الوصيةَ بالابن المملوك، فإذا عتِق، فللأصحاب وجهان في أنه هل يرث: أحدهما أنه يرث؛ لأن القابل لا يخرج عن كونه وارثاً بتوريث هذا الابن.
والوجه الثاني-وهو اختيار القفال رحمه الله- أن الابن المقبول لا يرث أيضاً في هذه الصورة؛ لأن القابل بتوريث هذا المقبول يخرج عن أن يرث جميع المال من جهة مشاركة المقبول في استحقاق الميراث لو ورّثناه، فلو كان كذلك، فلا يصح القبول في كل الوصية؛ إذ لا يصح القبول في كل الوصية إلا ممن يرث كلَّ المال، ومن يرث البعض يقبل البعض، ولا سبيل إلى أن يقبل هذا الابن الذي كان رقيقاً بنفسه ليعتِق، فإن ورّثناه، لم يصح قبولُ أخيه له إلا في البعض، وإذا كان كذلك، لم يعتِق منه إلا البعض، والمعتَق بعضُه لا يرث، ففي توريثه إبطال توريثه من جهة التبعيض، وقد لاح أن هذا المقبول لا يتعاطى قبول الوصية؛ فإن الوصية لأبيه، فكيف يقدر الرقيق على قبوله، فليس يتجه إذاً إلا ما ذكره القفال رضي الله عنه، واختاره.
7482- ثم قال الأئمة: من ورَّث الابنَ المقبول، فينبغي أن يخرّج توريثه على قول الوقف، أو على قولنا يحصل الملك بموت الموصي، فيقتضي هذا أن يحصل العتق سابقاً على موت الموصى له، وهذا وإن صورناه كذلك، ففيه الإشكال الذي ذكره القفال؛ فإنا لو ورثنا ذلك الابنَ، لاحتجنا إلى فرض القبول منه، ويستحيل أن يتقدم حصول العتق فيه على وقت قبوله، فإنه لو أقدم على القبول رقيقاً، فقبوله باطل، ولو أقدم على القبول حراً، فقد حصل العتق دون قبوله.
وهذا كلام مضطرب، وسنأتي فيه وفي أمثاله بما يشفي الغليل في الدوائر الفقهية من كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
7483- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أوصى بجاريةٍ، ومات، ثم وهب للجارية مائة دينار... إلى آخره".
غرضُ هذا الفصل الكلامُ في أن الزوائد التي تحصل من الموصى به بين موت الموصي. وقبول الموصى له، أو قبول ورثته فتلك الزوائد لمن؟ والمائة الموهوبة كسبٌ متجدد في الحالة التي ذكرناها.
وقد ذكرنا بيان الأكساب والزوائد وإيضاح من يملكها على أحسن وجه في الترتيب، وأوقع نظامٍ في التفريع، فلا حاجة إلى إعادته.
وقد نجز الكلامَ في أقوال الملك في الموصى به، وأنه متى يحصل، وكيف يتشعب المذهب في تفريعاته، وتخريجات الأحكام الأربعة التي هي المعتبر وإليه الرجوع. والله ولي التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
فصل:
قال: "ولو أوصى له بثلث شيء بعينه، فاستُحِق ثلثاه... إلى آخره".
7484- إذا أوصى لإنسان بثلثٍ من عبدٍ أوْ دارٍ أو غيرهما من الأعيان، وكنا نقدّر أن العبد بكماله ملكُ الموصي، وأنه خصّصَ بوصيةٍ ثلثَه، ثم تبين استحقاق ثلثيه وأن الموصي كان لا يملك منه إلا الثلث، فإن لم يخلف سوى ذلك الثلث، وردّ الورثةُ الوصيةَ في الزائد على الثلث، فالوصية ترجع إلى ثلث الثلث لا محالة.
وإن خلف من الأموال ما يفي ثلثُها بتمام الثلث الموصى به، فالمنصوص عليه للشافعي رضي الله عنه القطعُ بأن جميع الثلث موصًى به.
وذهب بعض السلف إلى أن الوصية لا تنفذ إلا في ثلث الثلث؛ فإنّ ذكر الثلث جرى شائعاً، فكأنه أوصى بثلثٍ من كل ثلث، فإذا ثبت الاستحقاق في الثلثين، بطلت الوصية بثلثي الثلث، وهذا مذهب أبي ثور وزفر، والذي يستقيم على قياس الشافعي تنفيذ الوصية في جميع الثلث الموصى به.
وترتيب المذهب في هذه المسألة وغيرها من هذه الأجناس أن مَنْ كان يملك الشقص من دارٍ، فباعه، ولم يضفه إلى نفسه، مثل أن يقول: بعتك نصف هذه الدار، وكان مالكاً لنصفها، ولم يقل: بعتك النصف الذي أملكه، فهل نحمل بيعَه المطلق على ما يملكه أم نشُيعه في جميع الدار، حتى نجعلَه جامعاً بين بيع النصف من نصفه وبين بيع النصف من النصف الذي له؟ فيه اختلاف.
والأوجه عندنا تصحيح البيع في النصف الذي يملكه؛ فإنه باع النصفَ، وله النصفُ، والشيوع ينافي التميز، فلا حاصل لقول القائل: باع بعضَ ماله، وبعضَ ما لشريكه.
وقد ذكرنا هذا في كتاب البيع.
7485- فإذا أوصى بجزءٍ يستحقه من عبد أوْ دارٍ، ولم يضفه إلى ملك نفسه، فإذا صححنا البيع في جميع حصته، فلا إشكال في نفوذ الوصية أيضاً في جميعها، وإن جعلناه في البيع بائعاً بعضَ ما يملك، فالوجه حمل الوصية على جميع ما يملك، من جهة أن وضع الوصية حملُها على الصحة إذا ترددت بينها وبين الفساد؛ ولهذا قال الأئمة إذا أحضر الإنسان طبلين طبلَ حرب وطبلَ لهو، وقال: بعتك أحدَهما فالبيع لا يُحمل على طبل الحرب، ولكن يُقضى بفساده، لما في لفظه من التردّد، وإذا أوصى بطبل من طبوله، وله طبل لهو وطبل حربٍ، فالوصية محمولةٌ على طبل الحرب؛ لتصح؛ فيجب على هذا المقتضى صرفُ الوصيةِ إلى تمام حصة الموصِي.
وذهب ابن سريج من أصحابنا إلى أن الوصية تصح في جزءٍ من حصته، وينفصل عن البيع؛ من حيث إن البيع قد يفسد كله، لتفرق الصفقة، والوصية لا تبطل لتفرق الصفقة في المقدار الذي تصح منه لو أُفرد بالوصية.
ثم حاول ابن سريج فرقاً بين مسألة الطبل وبين مسألة الشيوع، فقال: إذا أوصى بطبل من طبوله، ففي حمل وصيته على طبل اللهو إبطالُها بالكلية، مع ظهور قصد الموصي في تصحيحها وقبولها للتردّد والورود على المجاهيل، وإذا صححنا الوصية على مذهب الإشاعة في جزءٍ من الحصة التي أطلقها الموصي، فقد وجدت الوصية متشبثاً، مع استمرار قياس الإشاعة، فانفصل بذلك عن مسألة الطبل.
هذا منتهى الغرض في المسألة.
فصل:
قال: "ولو قال: ثلث ما لي للمساكين، قُسم ثلثُه في ذلك البلد... إلى آخره".
7486- قد مضى في كتاب الزكاة صدرٌ من الكلام في نقل الصدقات، وسنذكره مستقصى، إن شاء الله تعالى في قَسْم الصدقات، وغرض هذا الفصل أنا إن جوّزنا نقلَ الصدقات، فالوصية للمساكين لا تختص بمساكين البقعة التي جرت الوصية فيها. وإن منعنا نقلَ الصدقات الشرعية، فالوصايا المطلقة المضافة إلى موصوفين لا ينحصرون هل يجوز نقلها أم تتقيد بقيد الصدقات الشرعية؟
اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يجب تنزيل الوصية المطلقة على موجب الزكاة، وهذا ما إليه صغوُ معظم الأصحاب.
وقد يوجّه بأن الألفاظ التي أجريت عن مستحقي الزكاة إذا جرت في ألفاظ الموصين، فهي محمولة على معانيها في الزكوات الشرعية، وهذا كذكر أبناء السبيل والرقاب وغيرها، فإذا كانت ألفاظ الموصين محمولة على معاني ألفاظ الكتاب والسنة في أصناف الزكاة فالألفاظ المطلقة في الوصايا ينبغي أن تتقيد بما تتقيد به الألفاظ المطلقة في الكتاب والسنة، ثم المساكين وإن أطلقوا في الزكاة محمولون على مساكين البلدة التي بها أمال الزكاة، فكذلك إذا قال الموصي: أوصيت بثلثي للمساكين، وجب حملهم على مساكين بلده.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب ذلك في الوصايا، فإنا إنما منعنا النقل في الزكوات لأخبارٍ وآثار وأقضية مصلحية تجري في وظائف الزكوات، فأما الوصية، فليس فيها ما يوجب منعَ النقل، والدليل عليه أنه يصح للموصي أن يصرف وصاياه قصداً إلى غير مساكين بلده، فاتباع موجَب لفظ الموصي أولى من حمله على الزكاة.
فصل:
قال: "ولو أوصى له بدارٍ، كانت له وما يثبت فيها... إلى آخره".
7487-أراد أن الوصية بالدار بمثابة بيع الدار، فكل ما يدخل تحت إطلاق اسم الدار في البيع، فهو داخل تحت مطلق تسمية الدار في الوصية.
وقد ذكرنا في كتاب البيع ما يندرج تحت البيع إذا سميت الدار، وأوضحنا موضع الخلاف والوفاق، وهذا لا إشكال فيه، ولكن نتكلم في مسألة وراء هذا، ونحن نذكرها، ونذكر نقيضها.
7488- فإذا أوصى بدارٍ لإنسان، فانهدمت في حياة الموصي، أو انهدم بعضُها، فذلك النقض مختلفٌ فيه: فمن أصحابنا من قال: إنه يخرج عن الوصية، فإن اسم الدار لا يتناول النقض، ولا يُستحق بالوصية إلا ما يبقى تحت اسم الدار عند قرار الوصية، كما سنوضح المعنى بقرارها.
ومن أصحابنا من قال: النقضُ موصى به؛ اعتباراً بحالة الإيصاء، واسم الدار كان متناولاً لهذه الأجزاء التي تحطمت بالانهدام، فيبقى تحت قضية اللفظ، وإنما يتغير قرار الوصية فيما يتعلق بتغاير الأملاك، أو فيما يشعر بالرجوع عن الوصية في حق الموصي؛ فإنه لو أوصى بحنطة ثم طحنها، فقد يكون هذا رجوعاً منه عن الوصية؛ من جهة إشعار طحنه باستعمال الطحين، وصرفه عن الاعتياد والإبقاء للموصى له، فأما انهدام الدار، فليس من هذا القبيل، وليس من الفقه تشبيه هذا بالنقض في حق الشفيع؛ فإن المبيع إذا انهدم قبل ثبوت ملك الشفيع فيه، ففي أخذه النقضَ خلافٌ قدمناه في كتاب الشفعة، وذلك الأصل ينفصل عما نحن فيه؛ فإنه لا يؤخذ من الألفاظ، والإطلاقات، وإنما يرتبط بأصلٍ حُكمي، وهو أن الشفعة لا تتعلق إلا بالثوابت.
ثم إن قلنا: نقضُ الدار يبقى تحت مقتضى الوصية إذا انهدمت الدار قبل موت الموصي، فلو انهدمت بعد موته، فإن قلنا: الملك على الوقف أو يحصل بالموت، فالنقض للموصى له إذا قبل الوصية.
وإن قلنا: يحصل الملك بالقبول ففي النقض خلاف مرتب على ما إذا انهدمت الدار قبل موت الموصي، وهذه الصورة أوْلى باستحقاق النقض فيها؛ من جهة أن الموصي إذا مات، فقد دخل وقت إمكان القبول، وهذا الآن على مضاهاة الشفعة مع بُعد الوصية عن قياس الشفعة.
هذا بيان انهدام الدار.
7489- فأما نقيض ذلك، فلو أوصى بدارٍ، ثم زاد في بنائها، فتغييراته بها لا تكون رجوعاً عن الوصية، بخلاف طحن الحنطة؛ فإن الحنطة تُطحن لتؤكل، والتغايير في الدار لا تشعر بمناقضة الوصية.
إذا أحدث زوائد في البناء، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن تلك الزوائد هل تدخل في الوصية؟ وهذا الاختلاف يبتني على أن أجزاء الدار من الدار تنزل منزلةَ أطراف العبد من العبد أم يثبت لأجزاء البناء حكم الاستقلال؟ وفيه خلاف ذكرناه في البيع، وأعدناه في أثناء الكتب، ونحن نحصّل القول فيه الآن مجموعاً، فنقول:
7490- إذا باع رجل داراً، فاحترق سقفها، فمن أصحابنا من يقول: احرّاق السقف من الدار بمثابة تعيّب العبد المبيع، فإن سقطت يدُه أو تناله آفةٌ أخرى، فللمشتري الخيار، فإن فسخ، استرد الثمن، وإن أجاز، أجاز بجميع الثمن.
ومن أصحابنا من قال: احتراق السقف بمثابة تلف مبيعٍ مضمومٍ إلى مبيعٍ مع اتحاد الصفقة واشتمالها عليهما، فهو كما لو اشترى الرجل عبدين، فتلف أحدهما، فالبيع ينفسخ فيه.
والرأي الظاهر أنه يسقط قسطٌ من الثمن، كما ذكرناه في تفريق الصفقة.
ثم عبّر الفقهاء عن هذا، فقالوا: أجزاء الدار في وجهٍ كالصِفة للمبيع، وفي وجهٍ هي مبيعة في أنفسها، وكل جزء متقوّم من الدار مبيع في نفسه.
فبنى الأئمةُ زيادةَ العمارة في الدار على هذه القاعدة، فقالوا: إن جعلنا أجزاء الدار كالصفات فزيادةُ الأعيان في العمارة الجديدة بمثابة كبر الغلام الموصى به، ونموّ الفسيل الموصى به وجملة الزيادات المتصلة.
وإن قلنا: لكل جزء من الدار حكمُ الاستقلال، فلا تدخل الزيادة المحدثة في الدار تحت الوصية.
7491- وهذا كلام مختلط عندي، والوجه القطع بأن زيادة الأعيان لا تدخل تحت الوصية؛ فإنا لو فتحنا هذا الباب، وأقمنا الزيادة صفةً حقيقةً، لزمنا منه ما صار إليه أبو حنيفة من أن الغاصب إذا استعمل الأعيان المغصوبة في دارٍ ابتناها على عرصته المملوكة، صارت الأعيانُ المغصوبة صفة لملك الغاصب، حتى لا تنتزع، ويُلزم بدلها؛ لأنه فوّتها على مالكها. ثم أبو حنيفة وإن طرد هذا في الغصب، لم يجره في الدار المشفوعة إذا زاد المشتري من أعيان ماله في بنائها، ولم يَقُل: الشفيع يأخذه؛ لأن ما زاده انقلب صفة للرَّبع المشفوع، فلا سبيل إلى اعتقاد حقيقة الصفة في الأعيان التي تزاد، ومن انتسب إلى التحقيق من أصحاب أبي حنيفة لم يعتمد في مسألة غصب الساجة إلا محاذرة إلحاق الضرار بالغاصب، ورأى وجه النظر من الجانبين ألاّ نهدم بناء الغاصب ونغرّمه قيمة الأعيان المغصوبة.
ولئن تخبط أصحاب أبي حنيفة، لا يليق بمذهب الشافعي مثلُ هذا.
نعم، اشتهر الخلاف في تلف أجزاء الدار في يد البائع، وليس ذاك من جهة التردّد في أن أجزاء الدار صفاتٌ، ولكن سبب الاختلاف أن الدار بيعت جملةً واحدةً، فوقع البيع في غرض المتعاقدين على صيغة مقتضاها ألا تُفردَ الأجزاء بالثمن، وليست أجزاء الدار في حكم قصد المتبايعين مع عرصة الدار بمثابة عبد مضمومٍ إلى عبد في البيع، ولست أعرف خلافاً أن البائع لو زاد في الدار المبيعة من أعيان ملكه قبل القبض، فالمشتري ينزعها أو يكلف البائع نزعها.
وإذا كان كذلك، فلا يتجه أصلاً تخيّل الخلاف في أن الأعيان التي زادها الموصي تدخل تحت الوصية، ولكن ذكرتُ ما ذكره الأصحاب، وقد حكاه الصيدلاني أيضاً ثم نبهنا على تحقيق القول فيه، ولم يختلف أصحابنا في أنه لو باع سقفَ داره، أو خشبةً من السقف، وسهل رفعها، وتسليمها من غير تغير ظاهر في الأعيان التي اتصلت الخشبة بها أن البيع جائز وما جاز إفراده بالبيع كيف ينتظم فيه كونُه صفةً على التحقيق؟
هذا منتهى القول في هذا الفصل.
مسائل مختلفة
ثم ذكر ابن الحداد وغيره مسائلَ في الوصايا مختلفة، ومتجانسة، وأنا أرى وضعَها هاهنا، فنرسم مسائل، ونضمّن كلَّ مسألة ما يليق بها.
7492- مسألة: إذا أوصى لرجل بعشرة دراهم، وأوصى لآخر بعشرة، وأوصى لثالثٍ بخمسة، وشرط أن نقدم صاحب الخمسة على أحدهما، وضاق الثلث عن احتمال الوصايا بجملتها، مثل أن يوصي لزيد بعشرة ولعمرٍو بعشرة وخالدٍ بخمسة، وشرط تقدّمَ خالدٍ على عمرٍو بخمسته، والثلث عشرون.
فالوجه أن نضع المسألة عريّةً عن شرط التقديم، ثم نذكر موجَب التقديم، فإذا لم يقدم أحداً من هؤلاء الثلاثة، ولم يتسع الثلث لجميع الوصايا، فينقدح في تخريج المسألة مسلكان قريبان تقدّما في المسائل، أو تقدم أمثالُهما:
أحدهما: أن نضبط مبلغ الثلث، ومبلغ الوصايا، ثم نضيف الثلاثة بالنسبة إلى الوصايا، وننفذ من كل وصية مثلَ تلك النسبة.
وبيان ذلك أن الثلث عشرون وجملة الوصايا خمسة وعشرون، فإذا أضفت عشرين إلى خمسة وعشرين، كانت العشرون أربعة أخماس الوصايا، فلكل واحد من مستحقي الوصية أربعةُ أخماس وصيته: لصاحب العشرة أربعة أخماسها، ولصاحب الخمسة كذلك، فيكون لصاحب كل عشرة ثمانية، ولصاحب الخمسة أربعة.
ويتجه مسلكٌ آخر، وهو مسلك التضارب، وذلك بأن ننسب الوصايا بعضها إلى بعض، ونقدرها سهاماً على أقل ما معنا: لصاحب الخمسة على سهمٍ، وصاحب كل عشرة على سهمين، فيضربون بخمسة أسهم في عشرين سهماً، ونجري العشرين خمسة أسهم، يأخذ صاحب كل عشرة جزأين من العشرين، أو خُمسين من العشرين، ويأخذ صاحب الخمسة جزءاً، وإن أحببت، قلت: خُمساً فيؤدي إلى ما ذكرناه. فإذا قدرنا قسمة العشرين بين هذه الوصايا من غير تقديم، فنبيّن على هذا التقديمَ، فنقول: يأخذ صاحب الخمسة أربعةً من غير تقديم، ويأخذ كل واحد من صاحبيه ثمانية، فنقدر لزيدٍ ثمانية ولعمرٍو ثمانية ولخالدٍ أربعة، ثم يأخذ خالدٌ من عمرٍو ما يكْمُل له به الخمسةُ، وهو سهمٌ، فيبقى في يد عمرٍو سبعة، وفي يد زيد ثمانية، ويكمل لخالد خمسة، ولا خفاء بهذا، ولكنه أوّل مسألة ذكرها ابن الحداد في هذا الكتاب.
7493- مسألة: تشتمل على تفصيل القول فيمن يعتق على المريض في مرض موته، فنقول: جهات الملك في مرض الموت ثلاثة في غرض المسألة: إحداها- الإرث، فإذا ورث المريض من يعتِق عليه، يثبت الملك إرثاً، ويترتب عليه حصول العتق من رأس المال، هذا متفق عليه؛ فإنه ملك قهري حصل من غير عوض، ووقع حصوله مستحَقاً بجهة العتاقة، فلا احتساب من الثلث.
ولو اشترى المريض من يعتق عليه، واحتمل الثلثُ العتقَ عَتَق عليه، وإن لم يسع الثلثُ تمامَ القيمة عَتَق منه القدرُ الذي يسعه الثلث، ورق باقيه، وهذا متفق عليه.
والعتق ملحقٌ بالتبرعات إذا كان الملك متلقَّى من جهة الشراء والابتياع.
ولو اتهب من يعتق عليه، أو كان أُوصي له به، ومات الموصي وجاز قبول الوصية، فقبلها في مرضه، فهل يجب العتق من ثُلثه أم ينفذ من رأس المال؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي رضي الله عنه:
أحدهما: أنه من رأس المال؛ من جهة أن الملك لم يحصل بعوضٍ، فصار كالملك المستفاد إرثاً.
والثاني: أنه محسوب من الثلث؛ فإنه تملّكٌ على اختيارٍ، فإذا حصل في ملكه باختياره، ثم قُدِّر العتق، كان كما لو اتهب عبداً ثم أنشأ إعتاقه.
وهذا الوجه ركيكٌ، لا اتجاه له، والاستشهادُ بالاتهاب والإعتاق باطلٌ؛ فإنه لو ورث عبداً، ثم أعتقه، كان العتق محسوباً من ثلثه، فلا تعويل إذاً إلا على كون العتق مستحقاً، مع أنه لم يبذل عوضاً في تحصيله حتى يعدّ بذله نقصاناً وخسراناً في المال، وإذا كان العتق مستحقاً، فلا أثر لاختيار الملك وإنما يؤثر اختيار العتق لو كان متعلقا بالاختيار.
7494- ثم إن اشترى من يعتِق عليه بمثل قيمته، فالوجه أن يحسب من الثلث، حتى لو فرض دينٌ مستغرِقٌ، فالعتق بجملته مردودٌ، على ما سنبين شرحَه في أثناء المسألة، إن شاء الله تعالى.
وإن اشترى من يعتِق عليه بأقلَّ من ثمن مثله، فإن قلت: العتق فيما يتهبه من الثلث، فلا إشكال في هذه المسألة.
وإن فرعت على المسلك الحق، وهو أن العتق فيما يتهب من رأس المال، فيجب أن يقال: إذا اشترى ابنَه وقيمتُه ألفٌ بخمسمائة، فنقدّر المحاباة بمثابة المستفاد على حكم الاتهاب، وإنما يتحقق التبرع في المقدار المبذول من العوض؛ من جهة أنه بذل العوض، ولم يستبدل عنه ما يبقى ملكاً.
7495- وتمام البيان في هذا الفصل أنا حيث نقول: يعتِق على المريض ابنُه أو أبوه بجهةٍ، فلا كلام، وحيث لا يحكم بحصول العتق فيه، مثل أن اشترى ابنه بمثل قيمته وعليه دينٌ مستغرق، فالمذهب أن الشراء يصح والابن لا يعتِق، ويسلَّم إلى جهة الديون رقيقاً.
ومن أصحابنا من قال: إذا كانت العقبى تقتضي ردَّ العتق، فلا يصح الابتياع في أصله، حتى لا يُفضي إلى أن يتصرف في ابنه الواقعِ في ملكه حسب التصرف في الأرقاء والعبيد، والأظهر الأصح تصحيح الابتياع، والمصير إلى أنه يباع في الديون.
7496- ومما يلتحق بهذه القضايا أنا حيث نحسب العتق من الثلث، ثم وسع الثلث القيمة، ولا مزاحمة من دَيْن؛ فإنه يعتِق ولا يرث؛ لأنه لو ورث وعتقه محسوب من الثلث، لكان العتق مصروفاً إلى حطه وصية له، والوصية للوارث مردودة، وإذا رددناها، فلا إرث، ففي توريثه منع توريثه، وهذا ملتحق بالدوائر الفقهية.
وحيث نحكم بأن العتق ينفذ من رأس المال، فإذا عتِق مَن ملكه عتقاً مستحقاً محسوباً من رأس المال، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنه هل يرث:
أحدهما: وهو الصحيح أنه يرث؛ لأنه لا مانع من توريثه؛ فإن عتقه لم يقع في حكم الوصايا، فهو بمثابة ما لو عتَقَ في حالة الصحة.
والوجه الثاني- أنه لا يرث، وهو اختيار الإصطخري، ولست أعرف هذا وجهاً، ولكنّ الشيخ أبا علي استدلّ له بأن قال: العتق حصل، وفيما نحتسب جنسَ العتق فيه من الثلث، فلا نظر إلى خروج هذا العتق عن القياس.
ولا ثبات لمثل هذا الكلام؛ فإن العتق لاسمِه ولقبِه لا يعتبر من الثلث، وهو منقسم: فمنه ما يحسب من الثلث، ومنه ما لا يحتسب، فلا حاصل تحت ما قال.
واستشهد بمسألة فقال: إذا نكحت المرأة في مرضها بدون مهر مثلها، فيصح ذلك منها، ولا يحسب من الثلث، فإنها حابت في عوض البضع، وليس البضع ممّا يبقى للورثة، قال: فهذا فيه إذا كان الزوج بحيث لا يرثها، مثل أن يكون رقيقاً أو مسلماً، وهي كافرة، فأما إذا كان الزوج يرثها، فيلزمه مهرُ مثلها كَمَلاً، فكأنا قدرنا ذلك وصيةً في حق الزوج الوارث، وإن لم نقدره وصيةً في حق غيره.
هكذا ذكره الشيخ، وأطلق جوابه في الفرق بين من يرث وبين من لا يرث.
وكان شيخي رضي الله عنه لا يفصل، ويقول: المحاباة بمهر المثل في النكاح من المريضة صحيحة مع الوارث وغير الوارث. وهذا متجهٌ حسن، وسيأتي كلام في نكاح المريضة ونكاح المريض، إن شاء الله عز وجل، هذا منتهى المسألة.
7497- مسألة: مشتملة على تفصيل القول في الوصية لمن نصفه حر ونصفه رقيق، والغرض يتعلق بصورتين: إحداهما- أن يوصي لشخص نصفه حرٌ ونصفه رقيق لغير وارثه.
والصورة الثانية- أن يكون النصف الرقيق ملكاً لوارث الموصي.
فأما إذا كان الرقيق منه ملكاً لمن لا يرث الموصي، فممَّا نجدد العهدَ به قبل الغوص في المسألة أن من وهب شيئاً لعبد غيره، فإن قبل العبدُ الهبة بإذن مولاه، صحت الهبة، ووقعت للمولى، وكذلك إن أوصى لعبدٍ بشيء، فقبِل الوصية بإذن السيد، فالوصية تصح، ويقع الملك في الموصى به للسيد.
فإن قبل الهبة والوصيةَ من غير إذن السيد، ففي المسألة وجهان قدمناهما في مواضع:
أحدهما: أن القبول باطل، ولا تصح الوصية ولا الهبة، فإنهما لو صحتا، لثبت الملك للمولى قهراً، والعبد محجورٌ عليه على حالٍ، فلا يصح منه أن يُكسب مولاه مالاً بعقدٍ من غير إذنه.
والوجه الثاني- أن القبول يصح، ويثبت الملك للمولى، إن لم يردّه، كما لو احتش العبد أو احتطب، وكما لو خالع زوجته على مالٍ؛ فإن عوض الخلع يدخل في ملك المولى قهراً.
فإذا تجدد العهد بما ذكرناه، عُدنا إلى تفصيل المسألة:
7498- فإذا أوصى الرجل لشخص نصفه حر ونصفه مملوك لأجنبي، فقبل الموصى له الوصية دون إذن المالك، ففي صحة القبول على مقابلة الرق وجهان، كالوجهين فيه إذا كان عبداً قِنّاً: فإن قلنا: يصح قبول المملوك دون إذن المالك، فقد ثبتت الوصية، ولا كلام.
وإن قلنا: لا يصح قبوله فيما يخص الرقيق منه، فقد بطل القبول في نصف الوصية.
وهل يصح في النصف الآخر؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي:
أحدهما: أنه يصح؛ فإنه لو كان عليه معترَضٌ في مقدار الرق منه، فلا يعترض في مقدار الحرية.
والوجه الثاني- أنه لا يصح القبول في شيء؛ فإنا لو صححنا القبول، وأثبتنا ذلك القدرَ المقبولَ لمقدار الحرية منه، لم يصح ذلك؛ من قِبل أنّ كل ما يستفيده، فحقه أن ينقسم على شطريه، واختصاصُ بعضه بالتملك على وجهٍ لا يَشيع محالٌ، فإن حصرنا، بطل الحصر، وإن أشعنا وأثبتنا البعضَ الذي صححنا القبولَ منه بينه وبين مالك رقّه، انعكس الأمر إلى إدخال شيءٍ في ملك المالك من غير إذنه، وهذا لا ينتظم قط؛ فيجب القضاء ببطلان أصل الوصية.
7499- ولو وَهَبَ ممّن نصفه حرّ ونصفه رقيق، وأبطلنا الهبة في نصيب المالك، فهل تصح الهبة في حصة الحرية؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه في الوصية، غير أن الهبة تنفصل عن الوصية في قضيةٍ ظاهرة، وهي أن القبول في الهبة إذا أبطلناه لأنه لم يصدر عن إذن المولى، فلو أذن المولى بعد تخلل الفصل وانقطاع الرابطة المرعية بين الإيجاب والقبول، فلو أذن السيد من بعدُ، فلا يصح القبول إلا أن يجدّد الواهب الهبة.
وإذا أبطلنا القبول في الوصية لعدم الإذن، ثم أذن المولى، فجدّد العبدُ قبولاً، فيصح القبول الآن ويحصل، كأن القبول الأول لم يكن، وهذا ظاهر، والغرض أمرٌ وراء هذا، وهو أن السيد لو ردّ الوصية، فهل يفسد بردّه سبيلُ القبول من بعدُ، حتى لو بدا له أن يأذن في القبول، وقد ندم على ما قدّم من الردّ، فلا ينفذ إذنه بعد الردّ، أم كيف السبيل فيه؟ هذا مما يتعين الاعتناء به، والاهتمام بفهمه.
فنقول: الهبة إذا قبلها العبد بإذن المولى، فالملك فيها يقع للمولى من غير واسطة، ولهذا قطع الأصحاب بأن الوصية لعبدِ الوارث وصيةٌ للوارث، والهبة من عبده في مرض الموت تبرع على الوارث ومع هذا لو قبل السيد الهبةَ، والمخاطب عبده، لم تنعقد الهبة بقبول السيد، وإن كان الملك واقعاً له، لأنا نرعى في القبول نظماً يقتضيه الإيجاب ليكون جواباً عنه، والسيد لم يخاطَب به، فلا يقع جوابه لو وقع، ولو ردّ السيد وكان حاضراً لما وَهَب من عبده، فإن شرطنا في قبول العبد إذنَ السيد، وأبطلناه بعدم الإذن، فالردّ أبلغ من عدم الإذن، وإن صححنا قبول العبد من غير إذن المولى، فلو زجره عن القبول، فالظاهر عندي أن الهبة تصح، ويقع الملك للمولى، ويكون كما لو نهاه السيد عن مخالعة امرأته على مالٍ، فخالف سيدَه وخالعها، فعوض الخلع يقع في ملك السيد قهراً وإن نهى عن الخلع زجراً، فكأن العبد في قبول الهبة على هذا القول الذي فرعنا عليه ليس محجوراً عليه، والقبول يعتمد صحة لفظه.
هذا قولنا في الهبة.
7500- فأما في الوصية فلو قبل سيدُ العبد الوصية بعد موت الموصي بناءً على أن الملك يحصل له، فكأنه الموصى له على التحقيق، فهذا فيه احتمال ظاهر عندي، يجوز أن يقال: لا تثبت الوصية بقبول المولى قياساً على الهبة، ويجوز أن يقال: تثبت الوصية بقبول المولى؛ فإن قبول الوصية يخالف في وضعه القبول في العقود، ولهذا ينفصل عن الإيصاء، ويقع بعد خروج الموصي عن أن يكون من أهل التصرفات، ويموتُ الموصى له فيخلفه الوارث، وهذا ينص على الغرض:
فإذا كان الوارث يقبل، وليس موصىً له، فلا يبعد أن يقبل السيد وإن لم يسمَّ في الوصية، نظراً إلى مصير الملك إليه.
ثم ينبني على هذا أنا إن صححنا قبولَ السيد، فيجب أن يبطل ردُّ العبد لو ردّ.
ولا ينبغي أن يغتر الفقيه بصورة يعارَض بها إذا قيل له: نحن وإن أقمنا الوارث مقام الموروث في قبول الوصية، فلو كان الموروث ردّ الوصية، لبطلت، وإذا مات، لم يصح قبول وارثه، فهلا قلتم: قبول السيد يصح، ولو ردّ العبد، لارتدت الوصية؟ فإن الموروث لو قبل، لكان الملك له، فهو الأصل في الوصية، فترتد الوصية بردّه، بخلاف العبد، وهذا واضحٌ لا غموض فيه.
7501- وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يكن بين مالك نصفه وبينه مهايأة، وكانت أعماله وأكسابه تقع مشتركة.
فأما إذا جرى بينه وبين مالك رِقِّه مهايأة، ووقع التواضع بينهما على أن يعمل ويكتسب في مدةٍ تواضعا عليها لمالك رقه، ويكتسب في مدةٍ لنفسه، فالأكساب المعتادة كالاحتشاش، والاحتطاب، واستحقاق أجرة العمل، إذا كان الشخص صانعاً، فهذه الأكساب تدخل تحت قضية المهايأة وفاقاً، وأثر دخولها تحتها أن صاحب كلِّ مدَّة يختص بما يقع فيها من كسب، فإذا كانت النوبة للشخص، اختص بأكسابه فيها اختصاص الأحرار، وإذا كانت النوبة لمالك الرق، اختص بالأكساب فيها اختصاص المالك بأكساب عبده الخالص.
وظهر اختلاف أصحابنا في أن الاكساب النادرة هل تدخل تحت المهايأة، وعدّوا من جملتها قبول الوصايا والهبات. وهذا الاختلاف ذكره المصنفون ولم يوضحوا مأخذه، وأنا أتحيل لهذا الخلاف وجهين ومسلكين:
أحدهما: أن قبول الهبة والوصية ليس مما يحتاج فيه إلى إعمال منفعته، وإنما هو لفظةٌ لا تحول بين العبد وبين جميع الأعمال التي يلابسها، والمهايأة ترد على المنافع، حتى كأنها قسمة فيها، وتصير المنفعة في كل نوبة حقَّ صاحب النوبة، كما يصير حق منفعة الشبكة لمن يستأجرها، وإذا اصطاد بها والمنفعة له، فالصيد ملكه، فالأكساب إذاً تبعُ المنافع، وقبول الهبة والوصية لا يتعلق ببذل منفعة، فلم يدخل في المهايأة التي وضعت لاقتسام المنافع، وإذا كان كذلك، تعيّن قسمة الموهوب على الرق والحريّة سواء جرت المهايأة أو لم تجر.
هذا بيان مسلك الخلاف.
ويجب أن نقول بحسبه: لو كانت الهبات غالبة في قُطرٍ، وكانت لا تعد من النوادر، فهي خارجة على الخلاف أيضاً؛ تلقِّياً مما ذكرناه في المنافع واختصاص أثر المهايأة بها.
ويجوز أن يقال: مأخذ الخلاف الندور والعموم كما أطلقه الأصحاب، ووجهه أن المهايأة المطلقة ترد على ما يجري في العرف، فلا يمتنع أن يقول المولى، أو الشخص: إنما أوردنا المهايأة على ما يجري العرف به، وما يندر، يبقى على حكم التقسّط والتوزّع، فعلى هذا إذا عمت الهبات في قُطرٍ، دخلت تحت المهايأة، وإنما الخلاف فيه إذا كانت الهبات والوصايا نادرة.
ويجري على هذه الطريقة تفصيلٌ آخر، وهو أنهما لو صرحا بإدراج الأكساب النادرة تحت المهايأة، لدخلت تحتها؛ فإن الخلاف في هذا المسلك محمول على أنهما وضعا المهايأة على ما يجري العرف الغالب به، فإذا وقع التصريح بإدراج الأكساب النادرة، اندرجت.
وإن سلكنا المسلك الأول في اتباع المنافع وتنزيل المهايأة عليها، فلا أثر للتصريح بإدخال الهبات، ولو وقع التصريح كذلك، لما دخلت.
التفريع:
7502- إن قلنا: قبول الهبات والوصايا لا تدخل تحت المهايأة، فقد مضى التفريع فيه إذا لم يكن مهايأة، فنقول: وإن جرت المهايأة، فلا أثر لجريانها في قبول الهبات والوصايا.
وإن قلنا: إنها تندرج تحت المهايأة، فالنظر إلى النوبة: فإن وقع ما يعتبر-كما سنشرحه، إن شاء الله- في نوبة الشخص، فيخلص له الموهوب والموصى به، وإن وقع في نوبة المولى يخلص له ما وقع في نوبته، ثم الاعتبار بالإيصاء أم بقبول الوصية؟ وهذا الذي أبهمناه الآن.
اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: الاعتبار بالإيصاء؛ فإنه ابتداء العقد، وهو الأصل، وعليه يترتب القبول.
ومنهم من قال: الاعتبار بالموت وما بعده، كما سنشرحه، إن شاء الله تعالى؛ فإن أوان قرار الوصية يدخل بالموت. والقائل الأول يحتج في اعتبار الإيصاء بالالتقاط، فإنا إذا جعلنا العبد من أهل الالتقاط وأدرجناه تحت المهايأة، فالاعتبار بيوم الالتقاط لا بيوم انقضاء الحول.
فإن قلنا: الاعتبار بيوم الإيصاء، فلا كلام.
وإن قلنا: الاعتبار بالموت وما بعده، فهذا يتفرع على أن الملك في الموصى به متى يحصل؟ فإن قلنا: إنه يحصل بالموت إما تحقيقاً وإما تبيُّناً، فالنظر إلى اليوم الذي يقع الموت فيه.
وإن قلنا: يحصل الملك في الموصى به بالقبول، فعلى هذا القول وجهان:
أحدهما- أن العبرة بالقبول، فإنه يستعقب الملك.
والثاني: أن العبرة بالموت، وإن فرعنا على قول القبول؛ فإن الأصل في الباب الموت، وهو الذي يُثبت حقَّ القبول، ويمكِّن الموصى له منه، فليكن الاعتبار به. قال الشيخ أبو علي: يتصل بذلك أنه لو وهب لمن نصفه حرّ ونصفه عبد في يوم سيده، وقبض في يوم نفسه، فالهبة في يوم من؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن الموهوب يصرف إلى من وقعت الهبة في يومه؛ فإن الهبة هي الأصل، وعليها يترتب الإقباض. قال الشيخ: وهذا الاختلاف ينبني على أن عقد الهبة هل يقتضي الملك مع ثبوت الخيار للواهب في الرجوع ثم القبض يلزمه ويُتمُّه؟ أم نقول القبض يستعقب الملك ويقتضيه وعقد الهبة لا يقتضيه؟ فيه اختلاف قولٍ قدمناه في كتاب الهبات، فإن حكمنا بأن عقد الهبة يُثبت الملك قبل الإقباض، فالاعتبار باليوم الذي وقع العقد فيه، وإن قلنا: الملك يحصل بالقبض، ففي المسألة وجهان كالوجهين المفرعين على قولنا: إن الملك في الموصى به يقع بالقبول.
وجميع ما ذكرناه فيه إذا وقعت الوصية لمن نصفه حر ونصفه رقيق لأجنبي.
7503- فأما إذا أوصى لمن نصفه حر ونصفه مملوك لوارثه، فالكلام في المهايأة جرت أو لم تجر، وفي أن قبول الوصايا هل يدخل تحت المهايأة؛ قد تقدم.
ونحن نقول الآن: إن تصورت المسألة بصورةٍ لو فرضت فرْضَ المالك الأجنبي، لكان الملك بكماله للمالك، فالوصية في مثل تلك الصورة مردودة في مسألتنا؛ فإنا لو صححناها، لكانت للوارث، والوصية للوارث مردودة.
وإن تصوّرت المسألة بصورة لو فرضت والمالك فيها أجنبي، لكانت الوصية تقع للشخص المنقسم، فالوصية تصح بجملتها لهذا الشخص في مسألتنا.
فإن اقتضى التفريع في الأجنبي قسمة الموصى به على السيد والشخص، فقد قال الشيخ أبو علي: إن انتهينا إلى ذلك، أبطلنا الوصية أيضاً؛ فإن البعض منها ينصرف إلى مالك الرق، وصرفه في مسألتنا إلى الوارث غيرُ جائز، فتبطل الوصية رأساً، واستشهد في ذلك بالإرث؛ فإن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن من نصفه حر ونصفه عبد لا يرث؛ فإن التوريث بنصفه الرقيق ممتنع، فإن فسد التوريث بالبعض، من جهة أنا لو ورّثناه بنصفه الرقيق، لصرفنا ذلك القدرَ إلى مالك الرقيق، وهذا يؤدي إلى توريث أجنبي من حميمه، ثم كما أبطلنا الإرث أبطلناه رأساً.
وهذا الذي قاله فيه نظر. أما الإرث، فمذهب الشافعي رضي الله عنه فيه ما ذَكَر؛ فإن الانقسام فيه متعذر، وأما الوصية، فلا يمتنع أن يقال فيها: تبطل الوصية في حصة الوارث، وتصح في حصة الشخص؛ فإن التبعيض ليس بدعاً في الوصايا؛ فإن الوصية الزائدة على الثلث تتبعض عند ردّ الورثة. فهذا ما أردناه.
ويتفرع على هذا المنتهى شيء، وهو أن من أوصى لإنسان بوصية خارجة من الثلث، فقبل الموصى له بعضَها، وردّ بعضها، فيجوز أن يقال:
يصح ذلك، ويجوز أن يقال: لا يصح. ووجه المنع تشبيه قبول الوصية بالقبول في الهبة، ولو قبل الموهوب له الهبة في بعض ما وهب منه لم يصح القبول في شيء، ومن فرق تمسك بما أشرنا إليه من الفرق بين قبول الوصايا وبين القبول في الهبة وغيرها من العقود. وسنذكر أن الموصى له إذا مات قبل القبول، وخلّف ذرية، فقبل بعضهم وردّ بعضهم، فالقبول قد يثبت في حق من قبل، وإن تضمن تبعيضاً في الوصية.
7504- ومما ذكره الشيخ أبو علي في خاتمة المسألة أن الرجل لو قال لمن نصفه حر ونصفه عبد: أوصيت لنصفك الحر، فكيف السبيل في ذلك؟ قال: قال القفال: هذه الوصية باطلة في كل مسلك؛ فإن الإيجاب لا يجوز توجيهه على نصف الشخص.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً أن الوصية تصح وإن توجهت على بعض الشخص، وطرد هذا الوجهَ في الهبة أيضاً إذا وُجّهت على البعض.
وكشْفُ القول في هذا أن نقول: إن حكمنا بأن الهبة والوصية لا تدخل تحت المهايأة، وأنهما يقعان على الاشتراك لا محالة، وإن جرت مهايأة، فتخصيص الوصية والهبة بالبعض الحر على خلاف موجَب التبرّع، فتبطل، وإن لم يتعد وقوع التبرّع بالوصية والهبة لهذا الشخص بحكم المهايأة.
فإذا وقع التوجيه على النصف الحر، نظر: فإن لم يكن مهايأة، بطلت أيضاً؛ فإن مقتضى الحال ألا تختص الهبة والوصية.
وإن كان ثَمَّ مهايأة، فإن وقع ذلك في نوبة السيد، بطلت أيضاً، فإن هذا على مناقضة الواجب. وإن وقع هذا في نوبة العبد، والتفريع على أن التبرع يقع له لو خُوطب به كله، فإذا خوطب به نصفه الحر، ففي صحة ذلك وجهان:
أحدهما: الفساد لاختلال اللفظ والمعنى، أما اللفظ فبيّنٌ، وأما المعنى، فلا يتصور أن يتّهب نصفٌ، وهذا الشخص في نوبته يتهب بنصفيه، ولكن نصفه الرقيق في نوبته عوضٌ عن نصفه الحر في يوم سيده.
والوجه الثاني- أن الهبة تصح؛ فإن قرار الملك بالحرية، وهي متبعضة بمخاطبة الجزء الحُرّ منه مخاطبة للمالك؛ فإنّ النصف الرقيق منه لا يملك لنفسه.
وللمسألة الآن التفاتٌ في الوصية على ما إذا قبل الموصى له بعضَ الوصية، وليست المسألة كتلك؛ فإن ما ذكرناه يجري في الوصية والهبة، وتبعيض القبول يختص بالوصية؛ فإن من قال لشخص: وهبت منك هذا العبد، فقال المخاطب: قبلتُ الهبةَ في نصفه، لم يصح وفاقاً.
وقد نجزت المسألة، ولم نغادر ما تمس الحاجة إلى ذكره، إن شاء الله تعالى.
7505- مسألة: السيد إذا أوصى لعبده القنِّ بثلث ماله، فإن نص على إدخال ثلث رقبته في الوصية، دخل فيها، وإذا قبل الوصية عَتَق ثلثُه ولا يسري العتق، وهذا أصلٌ جارٍ في العتق الوارد على بعض العبد بعدَ موت الموصي بالعتق؛ فإن العتق إنما يسري على موسرٍ، والميت معسر وإن خلَّف وَفْراً كثيراً، ومالاً جمّاً، ولا يجوز صرف الثلث إلى رقبته بالكلية، وإن وفّى الثلث بقيمته وزاد؛ لأنه أوصى له بثلث ماله، فيستحق الثلث في كل صنف على مقتضى الوصية، ولا يجوز صرف حصتِه من جميع الأصناف إلى رقبته؛ فإن ذلك لو قدرناه، لكان مخالفاً لصيغة الوصية، فيعتِق إذاً منه ثلثه، وتبقى الوصية له، وبعضه حر وبعضه رقيق للورثة فما يقابل الرقيق منه تبطل الوصية فيه.
وفي بطلان الوصية فيما يقابل الجزء الحر منه ما قدمناه في المسألة المتقدمة على هذه، واختيار الشيخ القطعُ ببطلان الوصية فيما يقابل الحرية تخريجاً لذلك على منع توريث من بعضه حر، وقد أوضحنا وجه الاحتمال، وطريقَ الفرق بين الميراث وبين الوصية.
7506-ومما يتعلق بما نحن فيه أن من أوصى بأن يُعتَق عبدٌ عينه من عبيده، ووفَّى الثلث به، فالوصية تنفذ، ولا حاجة إلى قبول العبد؛ فإن الغالب في العتق حق الله تعالى، والعبد المعين لا يملك إبطال حق الله، فلا حاجة إلى قبوله؛ إذ لا ترتدّ الوصية بردّه.
ولو قال: أوصيت لعبدي هذا برقبته، فمآل هذه الوصية أن يَعتِق، فهل يُشترط قبول العبد؛ فإنّ سبيل حصول العتق في هذه الجهة أن يملك العبد رقبته ويعتِق؛ هذا فيه تردّد تلقيتُه من فحوى كلام الأئمة؛ فيظهر أن نقول: لا حاجة إلى قبوله، لما ذكرناه من أن مقصود هذه الوصية إعتاقُه، فصار كما لو أوصى بأن يُعتق.
ولا يمتنع أن يقال: الوصية تتوقف على قبوله، وهذا الوجه أفقه، ووجهه أنه لم يوصِ بتحصيلِ العتق، ولكنه أوصى لعبده بملك رقبته، فليس العتق في مقصود الوصية مطلوباً للموصي على جزمٍ، وكأنه قال: "إن اختار عبدي قبولَ الوصية عَتَقَ بالوصية"، وإن لم يقيّد باختيار القابل؛ فهي في وضعها مقيدةٌ بذلك شرعاً.
وهذا التردد الذي ذكرته يجري في الوصية للعبد بثلث المال، مع التصريح بإدخال رقبته في الوصية، فيجوز أن نقول: يعتق ثُلثه من غير قبول؛ فإن الوصية في رقبته عتاقةٌ محضة، ويجوز أن نقول: لابد من قبوله، وإن ردّ الوصيةَ، ارتدت وكان رقيقاً للورثة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أوصى لعبده بثلث ماله، وصرح بإدخال ثلث رقبته في الوصية.
7507- فأما إذا أطلق الوصية له بثلث ماله، ولم يتعرض لإدراج رقبته تحت مقتضى وصيته، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب بعضهم إلى أن ثلث رقبته يدخل في الوصية، وهذا اختيار ابن الحداد، ووجهه أن اسم المال يتناول رقبة العبد؛ فإنه من ماله، فأشبه ما لو صرّح بإدخال رقبته في الوصية، وقد تقدم بيان المذهب فيه.
ومن أصحابنا من قال: لا تدخل رقبته في الوصية؛ فإن المخاطب لا يدخل فيما هذا سبيله تحت الخطاب، فإذا قال: أوصيت لك، اقتضى ذلك أن يكون الموصى به غيرَ الموصى له، وهذا في إطلاقه يمنع دخوله تحت الموصى به، وهو كما لو قال لوصيّه: اصرف ثلث مالي إلى الفقراء، فلو كان الوصي فقيراً، لم يجز له أن يأخذ من الثلث شيئاً.
ومن نصر الوجهَ الأول، انفصل عن هذه المسألة بأن قال: الصرف يقتضي إقباضاً من الوصيّ، وقبضاً من الآخذ، وذلك لا يتأتى من الوصي في حق نفسه، والوصية بالملك لا تقتضي قبضاً وإقباضاً.
فإن قلنا: يدخل ثلث العبد تحت الوصية المطلقة، عَتَقَ الثلث منه، فكان الكلام في باقي العبد على ما تقدم.
وإن قلنا: لا يدخل ثلثه في الوصية، فلا يعتِق شيء منه، وإذا لم يعتق، وقعت الوصية بكمالها للورثة، فبطلت.
7508- مسألة: إذا كان بين رجلين عبدان مشتركان لكل واحدٍ منهما النصفُ من كل عبد، وقيمة كل عبدٍ ألفُ درهم، فأعتق أحد الشريكين في مرضه نصيبه من العبدين، وكان ثلث مال هذا المريض ألفا وخَمسَمائة، فقد استوفى بالإعتاق من ثلثه ألفاً، وبقي إلى تمام الثلث خَمسمائة، ومحل تصرفه ثلثُه، وهو في مقدار ثلثه موسرٌ في تبرعاته، فلابد من تسرية عتقه في مقدار خمسمائة، ولا مزيد؛ فإنه فيما وراء الثلث معسرٌ، وعتْق المعسر لا يسري، فإذا ثبت ذلك، فكيف يسري هذا المقدار؟ أنفضُّه على العبدين أم نُقرع بينهما، ويحصل تمام العتق لأحدهما؟
قال ابن الحداد: نَفُضّ العتق على العبدين، ولا نقرع.
وقال في مسألةٍ تُداني هذه بالإقراع.
وصورتها كما ذكرناها، غيرَ أنه لم ينجز الإعتاق في مرضه، بل أوصى بإعتاق نصيبه من العبدين بعد موته وأوصى بتكميل العتق فيهما، وردّ الورثة الزائد على الثلث، فيعتِق نصيبه، ويسري مقدارُ خمسمائة، ثم قال في هذه الصورة: نقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، نكمل العتق فيه، وقد تم الثلث، فيعتق عبدٌ كامل، ويعتق النصف تنجيزاً من الثاني.
فاختلف أصحابنا في المسألتين: فمنهم من قال: لا فرق بينهما، وفيهما جميعاً وجهان:
أحدهما: أنا نفضُّ السراية إلى تمام الثلث عليهما؛ لأن المقتضي للسراية قد تحقق فيهما جميعاً، فليس أحدهما أولى بسراية العتق فيه من الثاني.
والثاني: أنا نقرع بينهما؛ فإن مذهب الشافعي رضي الله عنه جميعُ العتق بالقرعة، وسراية العتق لا تزيد على إنشاء العتق، ولو أعتق ثلاثة أعبدٍ لا مال له غيرهم؛ فإنا نردّ بالقرعة العتقَ إلى واحدٍ، إذا استوت قيمتهم، ونعتق واحداً، ونرق اثنين، وإن كان ذلك مخالفاً لقصده، وقد أثبت لكل واحد منهم حقّاً في العتاقة، فلم نعتبر قصدَه، وحكّمنا القرعة، فلتكن السراية بهذه المثابة.
ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على جوابي ابن الحداد فيهما، فقال في إنشاء العتق في النصيبين: نفضّ السراية إلى تمام الثلث على العبدين، ونقرع في مسألة الوصية بالإعتاق والتكميل، والفرق عند هذا القائل بين المسألتين أنه إذا أعتق نصيبه من العبدين، فليس له في تكميل العتاقة قصدٌ وإنما السراية حكمٌ ينفذ عليه، وإن لم يُردْه، فليس أحدُ العبدين أوْلى به من الثاني، وإذا أوصى بإعتاق نصيبه من العبدين، وأوصى بالتكميل، فقد ظهر قصدُه في تكميل العتاقة، ولم يمكن ذلك في العبدين إذا ردّ الورثة الزائد على الثلث، فكان التكميل في أحدهما قريباً من مقصوده، ولم يوجد من المعتِق في المرض ذلك القصد.
وهذا ضعيفٌ، لا ثبات له، ولا يتجه على مذهب الشافعي رضي الله عنه إلا التوصل إلى إكمال العتق في أحدهما بطريق القرعة في الصورتين جميعاً.
قال الشيخ رضي الله عنه: لو قال المريض في الصورة التي صورناها: أعتقت العبدين، وعبر عن إعتاقهما جميعاً، فالوجه تنزيل هذه المسألة على حكم مسألة الوصية؛ فإنه لما أعتقهما، ظهر قصدُه في طلب كمال الحرية، فكانت هذه الصورة بمثابة ما لو أوصى بتكميل العتق فيهما، ولو كان ثلثه بحيث لا يفي بتكميل العتق في أحد العبدين.
ولو صرفنا تمام ثلثه إلى أحدهما، لم يكمل عتقه، فيجوز أن يقال: إذا تصورت مسألة الوصية بهذه الصورة، فالعتق إلى تمام الثلث مفضوضٌ على العبدين؛ فإنا لا نستفيد بتخصيص العتق بأحدهما إكمالَ إعتاقه.
هذا منتهى القول في ذلك.
7509- ومن تمام البيان فيه أنا لما صوّرنا المسألة في الوصية، وأردنا تصوير السراية، لم نجد إليها سبيلاً؛ فإن العتق الوارد بعد الموت على بعض العبد لا يسري على الميت قط، لما حكمنا به من أن الميت بمثابة الحي المعسر.
ومن لطيف القول في ذلك أن الثلث محلّ تصرف الميت في مرضه وبعد موته، وقد يتخيل الفطن تسرية العتق إلى تمام ثُلثه، وليس الأمر كذلك؛ فإنه لو لم يوصِ ولم يتبرع، لكان ثُلثه لورثته، فإنما يكون الثلث محلاً لتبرعاته إذا أنشأها؛ فإذا لم يوجد منه إنشاء تبرع، فباقي ثلثه ملكُ ورثته.
وهذا حسنٌ بالغ.
7510- مسألة: إذا ملك ثلاثة أعبد قيمة كل واحد ألف، ولا مال له سواهم، ْوقال: أعتقوا بعد موتي من كل عبد نصفَه، فقد زادت الوصية على الثلث، فإن أجازها الورثة، نفذت، وإن ردّوها، رُدّت الوصية إلى مقدار نصفي عبدين، ويتميز ذلك بالقرعة، فنقرع بينهم، كما سيأتي تفصيل القرعة في كتاب العتق إن شاء الله عز وجل، فإذا خرجت قرعة الحرية على واحدٍ، عتق نصفه ورق باقيه، فإذا خرجت قرعةٌ أخرى على عبد آخر، عَتَق نصفُه ورق باقيه، ورق العبد الثالث بكماله.
وهذا الذي ذكرناه يستند إلى أصلين:
أحدهما: أن العتق الوارد على بعض العبد لا يسري على الميت، هذا أصلٌ متفق عليه، كما تكرر تقريره وتعليله.
والأصل الثاني- أنا لا نجمع نصفي عبد من عبد، حتى نعتق عبداً كاملاً، ونرق عبدين والسبب فيه أنه لم يتعرض لطلب إكمال العتق، حتى يتوصل إلى ذلك، ولو في عبد واحد، وليس كما إذا قال: أعتقوا العبيد الثلاثة، فإنا نعتق واحداً، ونرق اثنين إذا استوت قيمتهم.
ولو أعتق في مرض موته أنصاف هؤلاء العبيد الثلاثة، ثم مات من مرضه، لا مال له غيرُهم، قال الأئمة: نقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رِقّ، فنُعتق منه عبداً كاملاً، ونرق عبدين، ولا نظر إلى ذكره الأنصاف؛ فإن المالك إذا ذكر العتق في البعض، كان كما لو وجه العتق على كمال العبد.
ولو أعتق العبيد الثلاثة تنجيزاً، ورُدت الوصايا إلى الثلث؛ فإنا نعتق واحداً، ونرق اثنين، وليس كذلك إذا أوصى بإعتاق أنصاف العبيد بعد موته؛ فإن الإعتاق في الأنصاف مضاف إلى وقت لا يتصور سريان العتق فيه، ولا يتعدّى ما وراء الثلث إلى ملك من يقع العتق عنه.
والقول الوجيز فيه: أن إنشاء العتق من المريض في البعض بمثابة تنجيز العتق في الكل. هكذا ذكره الشيخ، وهو متَّضح، ولم أر فيما ذكره خلافاً للأصحاب.
ولو كان له عبدان لا مال له سواهما، فقال: أعتقوا من هذا نصفه، ومن هذا ثلثه بعد موتي، وقيمة كل عبد ألف، فقد زاد على الثلث، فنقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على صاحب النصف، عتق نصفه، وعتق من الآخر سدسه، وقد تم الثلث.
وإن خرجت القرعة على صاحب الثلث عتق ثلثه، وعتق من صاحب النصف ثلثه، وقد تم الثلث.
ولو قال في مرض موته: أعتقت من هذا نصفه، ومن هذا ثلثه، فهو كما لو قال: أعتقتكما؛ فإن العبارة عن الثلث في حق المريض بمثابة توجيه العتق على الجميع، ولو قال: أعتقتكما، أقرعنا سهماً، فمن خرجت قرعته، عتق فيه ثلثاه، ورق ثلثه، ورقّ العبد الآخر بكماله.
7511- مسألة: إذا أوصى لرجل ببعض عبدٍ، والعبدُ ممن لا يعتق على الموصى له، ولكن كان بحيث يعتِق على وارثه، فلو مات الموصي، ثم مات الموصى له قبل قبول الوصية، فالوارث بالخيار، إن شاء قبل الوصية، وإن شاء ردّها، فإن قبلها عَتَقَ عليه ذلك الجزء الموصى به، وهل يسري العتق إلى الباقي إذا كان الوارث القابل موسراً؟ هذا يستند إلى أصلٍ سيأتي استقصاؤه في كتاب العتق-إن شاء الله تعالى- وهو أن من ورث في صحته نصفاً من ابنه، وعتَقَ عليه، لم يسر العتق إلى الباقي وإن كان الوارث موسراً؛ لأنه لم يتسبَّب إلى تحصيل الملك في المقدار الذي عتق عليه، فيبعد أن يلزمَه غرمٌ في الباقي، وإذا بعُد تغريمه، امتنعت السراية؛ فإنها من غير غُرم محال.
ولو اشترى النصفَ ممن يعتق عليه، وجرى القضاء بنفوذ العتق فيه، فالعتق يسري إلى باقيه إن كان المشتري ذا وفاءٍ بقيمة الباقي، والسبب فيه أنه أقدم على تحصيل الملك قصداً بمسلك وُضِعَ لجلب الملك مباشرة من غير تخلل واسطة.
ولو اشترى المكاتب ابنَ سيده، ثم عجز عن أداء النجوم، فردّه مولاه إلى الرق، فلا شك أن ابن السيد يعتِق عليه لدخوله في ملكه، فلو كان اشترى المكاتَب نصفَ ابن سيده، ثم جرى التعجيز، والإرقاق وعَتَق عليه ذلك النصف، فهل يسري العتق إلى باقيه؛ فعلى وجهين:
أحدهما: يسري؛ لأن سبب الملك إرقاق المكاتب ورده قِنّاً، وذلك جرى باختيار السيد، فأشبه ما لو اشترى النصف من ابنه.
والوجه الثاني- أن العتق لا يسري؛ فإن الملك في بعض الولد ليس مقصوداً في عينه، وإنما جرى القصد في الإرقاق، ثم ترتب عليه انقلاب أكساب المكاتب إليه، ولهذا نظائر ستأتي مشروحة-إن شاء الله- فيما نذكره، وهو:
7512- مسألة ابن الحداد: من أوصى لإنسان بنصف عبد، وكان ذلك العبد ممن يعتِق على وارث الموصى له، فمات الموصي، ومات الموصى له، وقَبِل الوارثُ الوصية، فهذا يخرّج على أن وارث الموصى له إذا قبل الوصية، فالملك يحصل للموصى له، ثم ينتقل إرثاً إلى الوارث، أم يحصل الملك للوارث ابتداء؟ وقد ذكرنا تقرير ذلك على أبلغ وجه في البيان.
فإن فرعنا على الأصح وهو أن الملك يحصل للموصى له، ثم ينتقل إرثاً إلى الوارث، فإذا نفذ العتق في ذلك المقدار الموصى به، فهل يسري؟ فعلى الوجهين المقدمين؛ فإنه قد قصد واختار، ولكن لم يقع الملك له من غير واسطة، بل تضمّن قبولُه تحصيلَ الملك للموصى له، ثم ترتب عليه انتقالُ الملك إليه، فالتحق هذا بمسألة المكاتب وما في معناها.
وهذه المسائل تدار على ثلاث صور: إحداها- ألا يكون لمن يعتِق عليه اختيار أصلاً، فإذا جرى مثل هذا في البعض وعتِق، لم يسر.
والصورة الثانية- أن يختار مباشرة التملك، كما إذا ابتاع البعضَ من ولده أو اتهب، فإذا عتِق عليه، سرى إذا كان موسراً.
والصورة الثالثة- أن يختار سبباً يُفضي إلى حصول الملك بواسطة، فإذا حصل العتق، ففي السريان وجهان.
وإن قلنا: وارث الموصى له يملك الموصى به من غير تقدير إرث، فهذا يلتحق بما إذا اتهب البعض من ولده أو اشتراه.
7513- مسألة: إذا قال: أعتقوا فلانة بعد موتي، أو قال: إذا مت، فهي حرة، وكانت حاملاً ولم يستثنِ حملَها، ولا تعرض له، فإذا أعتقت الجارية بعد موته، والحملُ جنين، قال الشيخ أبو علي: يسري العتق إلى الحمل إذا وسع الثلث.
فإن قيل: لو أوصى بإعتاق قسط من عبده، نفذ العتق فيه، ولم يسر، مع أن وضع العتق على السريان، ولو أعتق أحدُ الشريكين نصيبَه من عبدٍ مشترك، وكان موسراً، نفذ العتق إلى نصيب صاحبه، ولو كانت الجارية الحامل ملكاً لزيد وكان حملها ملكاً لآخر، فإن فرضت الوصية بالجارية لزيد وبحملها لعمرٍو، فإن أعتق مالك الجاريةِ الجاريةَ لم يسر العتقُ إلى الولد. فإذا كان لا يسري العتق في البعض في حق الميت إلى باقي العبد، مع أن العتق يسري إلى ملك الغير، فكيف يسري العتق من الأم إلى الحمل، مع أن عتق الأم لا يسري إلى الولد المجتنّ في البطن؟ أجاب الشيخ عن هذا، بأن قال: العتق لا ينفذ في الحمل على مذهب السريان، ولكن اسم الجارية يتناول التي سماها مع جنينها، ولهذا يشتمل البيع الوارد على الأم الحامل على حملها.
هذا قول الشيخ، وقد قدمت لبعض الأصحاب أن الوصية بالجارية مطلقاً لا تتضمن الوصية بحملها، وإذا كان كذلك، فيخرج من هذا أن الوصية بإعتاق الجارية يجوز ألا يتناول ولدَها، وقد بطل السريان على الميت، فينتظم منه أن العتق لا يتعدى إلى الحمل، وهذا متجه، وإن قطع الشيخ بما ذكرناه.
7514- ولو كانت الجارية حاملاً، وقال: أعتقوا عيْنَ هذه دون حملها، فاستثنى الحملَ مصرحاً ناصّاً فإذا أعتقت الجارية، فهل يعتِق ولدُها؟ ذكر الشيخ أبو علي وجهين في هذه الصورة:
أحدهما: أنه لا يعتِق ولدُها، وهو المذهب المبتوت الذي يبعد عن القياس غيرُه؛ فإنا إن قلنا في صورة الإطلاق: يعتِق الولدُ لاشتمال الاسم على الحمل، فهذا لا يتحقق مع التصريح باستثناء الحمل، وقد ذكرنا أن السريان لا سبيل إلى الحكم به في حق الميت.
والوجه الثاني- أن الولد يعتِق، وإن استثناه إذا اتسع الثلث، كما سنصف التفصيل فيه-إن شاء الله- ووجهه أن الحمل بمثابة عضو من الأم في قواعدَ، أَوْلاها بذلك العتقُ، لما له من السلطان، فاستثناؤه ينزل منزلة استثناء عضو منها، بعد توجيه العتق عليها، مثل أن يقول: أعتقت هذه إلا يدها.
ولو قال لجاريته الحامل بولد رقيق في مرض موته: أنت أو حملُك حر، فردّد العتقَ بين الأم وبين الولد، قال الأئمة: نقرع بعد موته بين الحمل وبين الأم؛ فإن خرجت القرعة على الحمل عتَق واقتصر العتق عليه؛ فإن المذهب الأصح الذي نقله المعتبرون أن العتق لا يسري من الحمل إلى الأم بخلاف الأعضاء؛ فإن المالك لو وجه العتقَ على عضو من مملوكه، عتق المملوك، كما سيأتي مشروحاً في كتاب الطلاق، إن شاء الله تعالى- فإن خرجت القرعة على الأم عَتَقت.
والمسألة مفروضة فيه إذا كان الثلث يسع الأم والولدَ جميعاً معاً، فإذا عتقت والثلث يتسع، فهل يعتق الحمل؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما فيه إذا أوصى بإعتاق الأم واستثنى الولد، وذلك أن ترديد العتق بين الأم والولد يتضمن ألا يجمع العتق فيهما. فإن قلنا: الحمل لا يعتق، فوجهه اتباع قول المريض، وإن قلنا: إنه يعتق، فوجهه تنزيله منزلة عضوٍ من الأم في العتق الغالب، وهذا يقتضي أن يسري العتق من الحمل إذا وجه عليه إلى الأم، كما ينفذ العتق الموجه على طرف من أطراف المملوك، ولم يصر أحدٌ من أئمة المذهب إلى ذلك، إلا الشيخ أبو بكر الطوسي رحمه الله فإنه قال: يسري العتق من الحمل إلى الأم. وهذا فيه ضعفٌ؛ فإن انفراد الحمل بالحرية ليس بدعاً، والأمَةُ الرقيقة قد تَعْلق بولدٍ حر، وإنما يجب الحكم بنفوذ العتق إذا وُجّه على طرفٍ؛ لأنه لا يتصف بالعتق، ففي ترك التسرية تعطيل العتق، والحمل يعتق، وليس جزءاً شائعاً من الأصل.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الثلث يسع الأمَّ والحمل.
7515- فأما إذا خرجت القرعة على الأم واحتملها الثلث وحدها، ولم يحتمل حَمْلها، فإن قلنا: إن الحمل لا يعتِق إذا اتسع الثلث واحتملها، فلا إشكال، فيقتصر العتق على الأم، وإن قلنا: العتق يسري إلى الولد إذا اتّسع الثلث وإن استثناه صريحاً، ففي هذه الصورة وقد ضاق الثلث وجهان:
أحدهما: أنا نعتق من الجارية مع الحمل ما يسعه الثلث، فيعتق منها مقدارٌ، ومن حملها مقدار، بحيث لا يزيد المقداران على الثلث، وذلك بأن نقوّمها حاملاً، ثم نرِق منها ومن ولدها ما يزيد على الثلث.
والوجه الثاني- أن الأم تعتق دون الحمل، وإن كنا نرى التسرية إلى الحمل، فنضطر هاهنا إلى ترك التسرية؛ فإن الحمل يقع وراء الثلث، ولا يتعدى تبرع المريض إلى ما يقع وراء الثلث، فالحمل إذاً بمثابة الحمل الحر، ولو كانت حاملاً بولدٍ حُرٍّ، لنفذ العتق فيها ولا معنى لنفوذه في حملها وهو حر الأصل.
وقد نجز الغرض من المسألة.
7516- مسألة: الرجل إذا كانت له جاريةٌ مملوكة، ولتلك الجارية ابنان حرّان: أحدُهما من سيدها، وكانت علقت به حراً من السيد قبل أن ملكها، بأن نفرض وطء شبهة، أو وطئاً في نكاح على حكم الغرور، والولد الثاني كان من غير السيد-وتصويره سهل- فلو أوصى بهذه الجارية للابن الذي ليس منه، ومات الموصي وخلّف ابنه منها وارثاً، فإن كان الثلث يحمل الجارية، فلا يخلو إما أن يقبل الموصى له الوصية، وإما أن يردّها، فإن قبلها، عتِقت عليه؛ فإنها أمه دخلت في ملكه، وإن ردّ الوصية، عتقت أيضاً على ابنها من سيدها.
ولو كان الثلث لا يحتمل خروجها، فالابن الوارث لا يخلو إما أن يجيز الزائد على الثلث، وإما أن يردّ الزيادة: فإن ردّ الزيادة على الثلث وقبل الموصى له القدرَ الخارج من الثلث، فيعتق على الموصى له القدرُ الذي صحت الوصية فيه، ويعتِق على ابن السيد منها باقيها.
هذا إن أراد الوارث ردَّ الزائد على الثلث.
وإن أراد أن يجيز الوصية بكمالها، فقد قال الشيخ أبو علي رضي الله عنه: هذا يخرّج على أن الإجازة ابتداء عطية من المجيز أم تنفيذ وصية؟ وفيه قولان، فإن قلنا: إنها ابتداء عطية، فلا يجد الابن الوارث إلى إجازة الوصية في الزيادة سبيلاً؛ لأن حقيقة هذا القول أن الزائد على الثلث دخل في ملكه قطعاً، وإذا دخل عتق، فلا يتأتى ابتداء العطية فيما ملكه وعَتَق عليه.
وإن قلنا: الإجازة تنفيذ وصية، فإذا أجاز الابن الوارثُ، صحت الوصية، ونفذت بكمالها على الابن الموصى له إذا قبل الوصية، وتعتِق عليه لا محالة.
وهذا فيه سرٌّ يجب التنبّه له، وهو أن قائلاً لو قال: إذا منعنا ثبوت الخيار في شراء من يعتق على المشتري، فكأنا حسمنا مسلك ردّ الملك والعتق، وهذا القياس يقتضي أن نقول: لا يتخير الابن الوارث في إجازة الوصية، بل يعتِق عليه بعضُها، وتنقطع الخِيَرةُ، وهذا إن قيل به، فليس ببعيد. ولكن سرّ الفقه ما ذكره الشيخ، وهو أن الإجازة تنفذ على قولنا: إنها تنفيذ وصية، فإن معنى هذا القول أنّا عند الإجازة نتبيّن أن الوصية بكمالها نفذت من الموصي، إلا أن ذلك القدر الزائد يدخل في ملك المجيز، ثم يخرج بالإجازة، وسبيل تخيّره في الإجازة كسبيل تخير الإنسان في اتّهاب من يعتق عليه إذا وهب منه.
هذا تمام البيان في ذلك.
7517- ولو كان للرجل جاريةٌ، ولها ابن حرٌّ من غيره، وللسيد أخٌ، أو وارثٌ غيرُه، بحيث لا تعتِق الجاريةُ عليه، فإذا أوصى بالجارية لابنها، فلو لم تخرج الجارية من الثلث، فاعتق الوارث القدر الذي لم يخرج من الثلث من الجارية، وقبل الموصى له الوصية، قال ابن الحداد: نفذ العتق على الموصى له، ولم يسْرِ العتق في حق واحدٍ منهما، بل ينفذ إعتاق الوارث في الزائد على الثلث إنشاءً، ويعتِق على الموصى له ما قَبِل الوصية فيه. هكذا قاله الشيخ أبو علي.
قال الأصحاب: ما ذكره من نفي السراية من الجانبين مطلقاً غيرُ سديد، والوجه تخريج المسألة على القولين في أن الملك في الموصى به متى يحصل؟ فإن قلنا: يحصل مستنداً إلى موت الموصي، فعلى هذا يعتق على الموصى له قدرُ الوصية، ويسري عتقه إلى نصيب الورثة؛ فإن وقوع العتق تبيناً يتقدم على إعتاق الوارث، والمسألة مفروضةٌ في بيان الموصى له والوارث جميعاً.
وإن قلنا: إن الملك يحصل عقيب القبول، فينفذ عتق الوارث في قدر الزيادة، ويسري عتقه إلى نصيب الوصية؛ إذْ لم يثبت في الوصية حق العتق بعد، فإذاً تثبت السراية على القولين، على خلاف ما قاله ابن الحداد، ولكن يختلف المذهب فيمن يسري عتقه، كما اقتضاه التفريع.
ثم إذا سرّينا عِتْقَ الوارث، فإنه يغرم للابن قيمة مقدار الوصية، وهذا يقع بدْعاً؛ فإن قيمةَ الأم غُرمت له، ولم تعتق عليه، والسبب فيه أن قبوله صادف الغُرْم، والقيمةُ لا تقبل العتق.
7518- ثم ذكر ابن الحداد على الاتصال بهذا مسألةً وأجاب فيها بجواب يخالف جوابه في هذه المسألة، فقال: لو أْوصى بعبدٍ لمن يعتِق عليه ولأجنبي، لكلِّ واحدٍ منهما النصفُ، فإن قبلا معاً، عتق نصيب الابن، وسرى عتقُه إلى الذي هو للأجنبي، إذا كان الابن موسراً، وكذلك إن قبل الابن نصيبه أولاً، فيعتِق نصيبه ويسري العتق إلى نصيب الأجنبي، ثم إن قبل الأجنبي الوصيةَ، فعلى الابن قيمةُ نصيبه، وإن ردّ الأجنبي الوصيةَ، ارتد نصيبه إلى الوارث، فيغرَم للوارث قيمةَ نصف العبد.
قال: ولو قبل الأجنبي أولاً نصيبه، وأعتقه إنشاء، ثم قبل الابن نصيبه، فهذا يخرّج على القولين في أن الملك متى يحصل للموصى له؟ فإن قلنا: إنه يحصل له الملك عقيب القبول، فقد نفذ إعتاق الأجنبي في نصيبه، وسرى إلى نصيب الابن، ويغرَم للابن قيمةَ نصيبه.
وإن قلنا: إن الملك يستند إلى مَوْت الموصي، فعلى هذا إذا قبل الابن، بان أنه عتَق نصيبه بعد الموت، وسرى العتق إلى نصيب الأجنبي.
هذا تفريع ابن الحداد على القولين أجراه على السداد، ولم يتعرض له في المسألة السابقة. وهذا زلل غريب؛ فإنه أغفل أصلاً، ثم ذكره وفرّع عليه على الاتصال، ولم يستدرك، ولم يُسَبِّب بفرقٍ، وكيف نقدر الفرق في تفريعِ أصلٍ واحد!!
7519- مسألة: إذا أوصى بعبدٍ لأبيه الحرّ أو لابنه، ومات الموصي، ثم مات الموصى له قبل قبوله الوصية، وخلّف ابنين.
فإن ردّا الوصية، فلا كلام.
وإن قبلا، فظاهر المذهب أن الملك يحصل للمتوفى الموصى له، فعلى هذا يعتِق العبد على المتوفى، لأنه يدخل في ملك من يعتِق عليه. هذا هو المذهب.
قال الشيخ: قد ذكر بعض أصحابنا: أنه لا يصح قبولهما، ولا قبولُ أحدهما؛ فإنا لو صححنا القبول، لحكمنا بالعتق على الموصى له، ولو عتق عليه، لثبت له الولاء، ولكان الورثة قد أَلْزَموه الولاء من غير اختيارٍ فرطَ منه في حياته، وهذا الوجه ضعيف.
هذا إذا قبلاه أو ردّاه.
فأما إذا قبل أحدهما الوصيةَ وردّ الثاني، فالذي ذكره الأصحاب أن القدر الذي قبله يعتِق على الميت. ثم إن كان في يد القابل من التركة ما يفي بالسراية، سرى العتق فيه، وبذل القابل القيمة مما في يده، وينفذ العتق على الميت في هذه الصورة ابتداءً وسرايةً. هكذا ذكره الأصحاب. ولو لم يكن في يده من التركة شيء أصلاً، فلا يسري العتق.
ثم قالوا: يعتبر في ذلك ما في يد القابل من التركة، ولا يعتبر ما في يد صاحبه؛ فإنه ردّ الوصية، ولم يختر قبولَها.
قال الشيخ: الذي عندي فيه أنه إذا قبل أحدُهما وردّ الثاني، فيعتق القدر الذي قبله، ولا يسري أصلاً؛ فإنه لو سرى، لسرى على الميت، وقد ذكرنا أن العتق لا يسري على الميت؛ لأن حكمه حكم المعسرين.
ولا وجه إلا ما ذكره الشيخ، وما سواه غلط في القياس.
ثم قال رضي الله عنه: إذا قبل أحدهما، وعتق ما قبله، أو قلنا بالسراية على رأي الأصحاب، فسرى إلى التمام، فالولاء للميت، ويرث به الابن القابل، وهل يرث به الابن الذي لم يقبل؟ ذكر فيه وجهين:
أحدهما: أنه يرث به؛ إذ الولاء يثبت للموروث في الأصل، فاستوى فيه الورثة، وهذا هو الصحيح.
والثاني: أنه يختص بالإرث بالولاء من تسبب إلى جَلْبه، وهذا ضعيفٌ؛ فإن الولاء ليس يورث، بل يورث به، وإذا ثبت الولاء للموروث، وجب توريث كافة الورثة به.
7520- مسألة: إذا قال: إذا مت، فعبدي حر، أو قال: إذا مت، فاصرفوا إلى فلان كذا.
فإذا قُتل، فهو كما لو مات حتف أنفه؛ فإن كلّ قتيلٍ ميت، ويجب طرد هذا في عاقبتي اليمين حنثاً وبرّاً.
ولو قال: إن مت من مرضي هذا، فعبدي حر، فبرأ واستبلّ، ثم مرض ومات، فلا يعتِق عبدُه؛ فإنه علّق وصيتَه على هذا الوجه بموته من ذلك المرض، فلم تثبت الوصية.
ولو مات، فاختلف الموصى له والوارث، فزعم الوارث أنه مات من مرضٍ آخر، وزعم الموصى له أنه مات من ذلك المرض بعينه. قال ابن الحداد: القول قول الوارث؛ فإن ما قاله محتمل، والأصل عدم ثبوت الوصية.
قال الشيخ: هذا هو المشهور، ومن أصحابنا من قال: القول قول الموصى له؛ فإنه قد ثبت موتُه، والأصل بقاء ذلك المرض، والوارث يدّعي زوالَه وارتفاعَ وصيةٍ ثبت أصلُها. وابن الحداد يقول: الوصية إنما تثبت إذا ثبت الموت من ذلك المرض.
والصحيح ما قاله ابن الحداد.
7521- مسألة: إذا قبل الموصى له الوصية، ثبت ملكه في الموصى به، ولم يتوقف حصوله على القبض والتسليم، بخلاف الهبات.
ثم الذي قطع به المراوزة أن الموصى له لو حاول ردّ الوصية بعد قبولها وقبْل القبض لم يكن له ردُّها، ولو ردّها، لم ترتد؛ فإن المنح والتبرعات إذا أفضت إلى تحصيل الملك، لم تَقبل الفسخ والنقضَ، والرجوعُ الذي أثبته الشرع في الهبات في حق بعض الناس في حكم تملك جديد أثبته الشرع.
وذكر العراقيون هذا وارتضَوْه، وحكَوا معه وجهاً آخر، وهو أن الموصى له بالخيار في الردّ-وإن قبل- ما لم يقبض، فإذا قبض، لم يصح منه الرد بعد القبض والقبول. وهذا ضعيف لا مستند له من أثرٍ ولا معنى، فلست أعتد به.