فصل: فصل: في بيان من تصح منه الوصية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في بيان من تصح منه الوصية:

7546- البالغ العاقل الحر المسلم تصح وصيته، ووصية الذمي نافذة إذا وافقت شرط الشرع.
وهي على أقسام منها أن يوصي لشخص، وقد سبق التفصيل فيمن تصح الوصية له، فالقول فيمن يوصي الذميُّ له كالقول فيمن يوصي المسلم له.
ومن الأقسام أن يوصي بما يكون قربة عندنا وعندهم، فإذا رفعت إلينا وصيته، والثلث متسع، أجزناها ونفذناها، كالوصية بعمارة المسجد الأقصى.
وألحق الشافعي بذلك عمارة قبور الأنبياء عليهم السلام، وهذا حسن؛ فإن قبورهم مشاهد قوم، وعمارتها قُربة، وكان شيخي يميل إلى ذلك في قبور مشائخ الإسلام وعلماء الدين، بناءً على ما ذكرناه، والضابط فيه أن كلَّ قبرٍ يزار تقرباً، فعمارة نعشه لإدامة الزيارة قُربةٌ.
وكذلك إذا أوصى الذمي للفقراء أو لجهة من جهات الخير، ولو أوصى بما هو قربة عندنا، وليس قربةً عندهم، مثل أن يوصي بعمارة مساجدنا، فالوصية نافذة على شرطها في محلها.
ولو أوصى بما يكون قربةً عندهم، معصيةً عندنا كعمارة الكنائس والبيع وبيت النيران، فالوصية إذا رفعت إلينا، أبطلناها.
هذا مذهب الشافعي، رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف تجاز هذه الوصية، وكذلك أجازوا الوصية بالخمر والخنزير من ذمي لذمي.
7547- ومما يتعلق بالفصل وصية الصبي المميز، وفيها قولان للشافعي رضي الله عنه:
أحدهما:أن وصيته جائزة، وكذلك تدبيره، وهو مذهب طوائف من العلماء، وقد عُزي هذا القول بتصحيحها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروي أيضاً عن عثمان وابن عمر رضي الله عنهما.
ورمز الشافعي رضي الله عنه إلى طرفٍ من المعنى، فقال: الوصية لا تنجِّز حجراً، ولا تمنع تصرفاً، فإذا كانت لا تفوّت مقصوداً مالياً، فإن بقي، فالمال عتيد، وإن مات، كانت الوصية ذُخراً.
والتعويل على الآثار أولى مع مصير الشافعي رضي الله عنه إلى أن الصبي لا عبارة له في العقود الواردة على الأموال.
هذا أحد القولين.
وقال الشافعي رضي الله عنه في موضع آخر: لا تجوز وصيته، ولا تدبيره، وهو مذهب ابن عباس واختيار المزني.
7548- ثم قطع الأصحاب أقوالهم بتصحيح الوصية والتدبير من السفيه المبذر؛ فإن عبارته صحيحة، ولذلك كان من أهل الطلاق والإقرار بالجناية الموجبة للقصاص، واستلحاق الولد ونفيه باللعان.
7549- ولو أوصى مملوك أو مكاتب، فالوصية لا يقع تصحيحها في الحال، فلو ماتا على الرّق، تبينّا فساد الوصية. وإن عتقا وتموّلا وماتا- فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمن أصحابنا من قال: تصح الوصية، نظراً إلى صحة العبارة ابتداء وإلى الحرية انتهاءً.
ومن أصحابنا من قال: لا تصح الوصية؛ فإنها جرت والرق مستمر، فإن أراد تصحيحها، فليُنشئها بعد الحرية.
باب
الوصية للقرابة
قال: "ولو قال: ثلثي لقرابتي، أو لذوي رحمي أو لأرحامي... إلى آخره".
7550- هذه الألفاظ إذا استعمل الموصي واحدةً منها، لم يختلف حكمها، فقوله: أوصيت لقرابتي، أو لذي رحمي أو لأرحامي عباراتٌ عن معبَّر واحد.
والعلماء مضطربون في الوصية للقرابة، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إذا قال: أوصيت لقرابتي، أو لأقاربي بثلث مالي، فإنا لا نفضِّل الأدنى والأقرب على البعيد إذا كان البعيد قريباً ولا فصْل بين المحرم وغير المحرم، ولا فرق بين الغني والفقير، والذكر والأنثى، والموصى به مفضوضٌ عليهم بالسويّة.
وتعليل ما ذكرناه بيّن، ومقتضى اللفظ شاهدٌ عليه.
والذي يغمض في هذا الفصل؛ من طريق الانتشار المحوج إلى الضبط أن المدلين بالأجداد العالية من بين الأعمام قد يكثرون وينتشرون انتشاراً عظيماً، وللعلماء اضطرابٌ في طلب موقف ينتهون إليه ولا يتعدَّوْن، فقال أبو يوسف: ننتهي إلى أعلى أبٍ له في الإسلام، ولا نتعدى إلى آباء الشرك، ونصرف الوصية إلى المنتسبين من ذلك الأب العالي فمن دونه.
ونحن لا نصير إلى هذا؛ فإنه خارج عن الضبط، وإذا لم نرتضِ هذا، فأين الموقف مع عموم لفظ القرابة؟ المعتمدُ في هذا مأخوذ من كلام الشافعي رضي الله عنه، ولم يقصر الشيخُ أبو بكر في التعبير عن مراد الشافعي رضي الله عنه: الوصيةُ تصرف إلى البطن الأدنى الذي ينتمي إليه ويعرف به دون الأباعد، واستشهد، فقال: إذا كانت الوصية للقرابة والرجل من بني شافع، فالوصية مصروفة إلى بني شافع دون سائر بني المطَّلب، أو سائر بني عبد مناف، أو سائر قريش؛ فإن الشافعي وإن كان مطّلبياً مَنَافياً قُرشياً، فإنما يشهر بشافع.
فهذا هو الضبط التام في ذلك، ولا ينتهي رهط الرجل إلى الخروج عن الضبط حتى تكون وصيته لقرابته كوصيته للعلوية؛ فإنهم إذا انتشروا هذا الانتشار، وكثروا هذه الكثرة، اشتملوا على شُعب والموصي من شعبةٍ هو يشهر بها.
ثم قال أئمتنا: ما ذكره الشافعي رضي الله عنه في حمل الوصية للقرابة من الرجل الشافعي على بني شافع محمول على عهده القريب بأرومة شافع وجُرثومته، والآن، فقد انتشروا، ولكل موصٍ ينتمي إلى الأب العالي الشافعي بطن يخصّه وهم فصيلته التي تؤويه، ولا يخفى على الفطن بعد ذلك حقيقة المراد، ثم كل من نصرف إليه من الوصية للقرابة شيئاً، فهو يُدلي إلى الميت بأسلوب من أساليب القرابة لا محالة.
7551- وقال الأئمة: إن كان الموصي من العجم، دخلت تحت اسم قرابته القرابةُ من قِبَل الأب، والقرابةُ من قِبل الأم، وهذا الذي ذكره الأصحاب واضح؛ فإن اسم القرابة في وضع اللسان شامل للقرابة من جهتي الوالدين.
قال الشيخ أبو بكر وجمهور الأصحاب: إن كان الموصي من العرب وقد أوصى لقرابته، فالوصية لقرابته من قبل أبيه لا غير، وزعم الأصحاب أن العرب لا تفهم من القرابة في عرف لسانها إلا الذين يدلون به من قبل آبائه.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً أنه لا فرق بين العربي والعجمي، وقرابة الأم داخلون تحت إطلاق اسم القرابة، كما ذكرنا في العجم، وهذا-وإن استبعده الأئمة- متجهٌ جداً موافق للغة، ومن موجب اللسان، ولا مستمسك لحمل القرابة في حق العربي على الذين يدلون من قبل الأب إلا من جهة ادعاء عرفٍ غالب في العرب، وهذا لم أتحققه من عرفهم على أني أكثرت مخالطتهم، وأصل اللسان يشمل الجانبين، والقرابة إن عُرضت على الاشتقاق، فهي من القُرب، وإن كان مختصاً بقرب النسب.
7552- ومما يتعلق بهذا الفصل أنه إذا أطلق الوصية للقرابة، فهذا الاسم يتناول الورثة ومن ليس وارثاً، ثم قال الصيدلاني: إذا أبطلنا الوصية للوارث، فهي مصروفة بجملتها إلى الذين لا يرثون من القرابة، وقال غيره: نجعل الوصية مضافة إلى من تصح الوصية له، وإلى من لا تصح الوصية له، وظاهر القياس في مثل هذا الموضوع تقدير التقسيط على الكل، ثم المصير إلى إبطال ما يقابل الورثة، وتصحيح ما يقابل من ليس بوارث.
وذكر طوائف من أصحابنا أنه إذا أوصى للقرابة، فالأولاد والأبوان لا يدخلون في الوصية، وذهب آخرون إلى أنهم يدخلون تحت اسم القرابة، وإذا دخلوا، أمكن فرضهم بحيث لا يرثون لاختلاف دين.
وقد يوصي الرجل لقرابة زيدٍ، فتمس الحاجة إلى التعرض لدخول أولاده وأبويه، ومن أدخل هؤلاء، تمسك بموجب اللسان، ومن لم يدخلهم تمسك بموجب العرف؛ فإن الأصول لا يسمَّوْن قرابة في إطلاق اللسان، ومن سمى أباه وابنه وأمه قرابته، كان ذلك في العرف تعقيداً وإلغازاً.
ثم الذين لم يدخلوا الأبوين اختلفوا في الأجداد والجدات، وأولاد الأولاد، فمنهم من أدخلهم، ومنهم من لم يدخل واحداً من الأصول ولا واحداً من الفصول، وإن بعُدوا، وخصّص القرابة بالذين يقعون على جانب من عمود النسب.
ولو أوصى للأقرب فقال: أوصيت بثلثي لأقربهم بي رحماً، فقد قال الأئمة: تسلم الوصية إلى أقربهم بأبيه وأمه؛ فإنه ذكر الرحم، وهذا يتناول جانبَ الأب والأم جميعاً، ويستوي في ذلك العربي والعجمي.
قال الصيدلاني: ظاهر كلامه دليل على أن اعتبار جانب الأم في حق العربي سببُه ذكرُ الرحم والقربُ به؛ فإن لفظ الموصي على ما صور: "أوصيت لأقربهم بي رحماً" وهذا يقتضي أنه إذا قال: أوصيت لذوي رحمي-والموصي عربي- دخل تحته المدلون بالأم، وكذلك إذا قال: أوصيت لأرحامي، وإنما يحمل لفظ العربي على المدلين بجانب الأب إذا ذكر القرابة، ولم يتعرض للرحم، فعلى هذا إذا قال: أوصيت لأقرب قرابتي، ولم يتعرض للرحم والموصي عربي، فيجب على مساق ما حكاه الصيدلاني ألا نعتبر جانب الأم؛ فإن الذي ذكره الموصي القرابة مع صيغة تشعر بالأدنى.
ثم أجمع الأصحاب على أن الأقرب يتناول الأبوين والولد، وإنما التردد فيه إذا ذكر لفظ القرابة ولم يتعرض للأقرب، وتعليل ذلك بيّن؛ فإن الإنسان إذا أشار إلى شخص، وقال: هذا قرابتي، وكان أباه أو ولدَه، فلفظه تعقيد، وإذا قال: هذا أقرب قرابتي، ثم فسره بالأب والولد، قبل منه، ولم يعدّ ذلك تعقيداً.
7553- فإذا تبين أصل الكلام في هذا عدنا بعده إلى من تصرف إليه الوصية للأقرب على شرط التحرز من صرف الوصية إلى وارثٍ، كما قدمناه، وإذا أردنا أن نتوسع في تصوير الأقرب مع تصحيح الوصية له، فرضنا الكلام في وصية الرجل لأقرب قرابات زيد، فتجري لنا جميع الصور، فنقول أولاً: لسنا نتبع الميراث في هذه القاعدة؛ فإنا نرى قريباً مدلياً بالعصبة لا يرث كابن البنت، ويرث أولاد عمومة الجد مع وقوعهم حاشية على البعد، والوصايا تنفذ على مقتضى الألفاظ، فلسنا نحكم إذاً فيما ننفي ونثبت الميراث، ولكنا نتبع لفظ الأقرب، فإن ظهر لنا معناه في مسألة، تبيّنا الجواب قطعاً، وإن ترددنا، أنشأنا ترددنا عن إشكال في معنى اللفظ، ونحن نعلم أن الأقرب يشير إلى قرب الدرجة، ويشير أيضاً إلى قوة القرابة، هذا معلوم من معنى اللفظ، وما يفهم منه في مجرى العرف.
ومما نمهده قبل المسائل أن الأقرب يتعلّق بجانب الأب والأم جميعاً، والمُدْلي بالجهتين نقدمه على المختص بإحداهما على الترتيب الذي سنذكره، إن شاء الله عز وجل.
ومن أهم ما يجب الاعتناء به أنه إذا قال: أوصيت لأقربهم لي رحماً، فقد يظن الفقيه أن لفظ الرحم يختص بجانب الأم، وليس الأمر كذلك؛ فإن الرحم المطلق في القرابة لا يعنى به مقرّ الولد، وإنما شاع هذا اللفظ في القرابة، واللفظ إذا شاع على وجهٍ لم يلتفت إلى اشتقاقه، كالدابة؛ فإنها في الأحكام اللفظية محمولة على حيوان مخصوص، وإن كانت مشتقة من الدبيب.
7554- فإذا تمهدت هذه الأصول، افتتحنا بعدها المسائل، وخرّجناها على مقتضاها، فلفظ الأقرب يتناول الأب والأم على وجهٍ واحد، والموصى به بينهما بالسوية، والابن والأب في قياس الطرق مستويان، وذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه، وهو الذي صححوه.
والثاني: أن الابن أولى، وهذا على بعده قد يتجه فيه كلام له غوصٌ في الفقه؛ فإن الوصية إذا وقعت لأقرب الناس بفلان، فقد يعتقد أن لفظ القرب في الولد أحرى منه في الأب، فإن ولد الرجل قريب منه، وقد لا ينساغ هذا في الأب انسياغه في الولد؛ فإن الولد قريبٌ من والده، وولده قريب منه، فهذا تخيل يؤول إلى معنى اللفظ، لا اتجاه له على بعدٍ، والأصح التسوية؛ فإن القرب من أسماء الإضافة، وما قرب من شيء، قرب ذلك الشيء منه، وإنما يختلف النسب والأسماء، فالولد قريب من أبيه؛ من جهة كونه بعضه، والأب قريب من الولد من جهة كونه أصله، فلا وجه إلا التسوية.
ولا يخفى أنه إذا اجتمع أولاد الدِّنْية والأحفاد، فالأقربون أولادُ الدِّنْية، وهكذا البطون إذا اجتمعوا والوصية للأدنَيْن: أولاد الدِّنية.
ولو كان في الدرجة الأولى من الأحفاد أولادُ البنات وكان أسفل بنو بني البنين، فالوصية لأولاد البنات؛ فإنهم الأقربون، ولا نظر إلى الميراث، ولا فرق بين الذكور، والإناث.
قال شيخي: لو اجتمع أسباطٌ متسفلون، وإخوة فالأسباط مقدمون في الاستحقاق، وإن بعدت درجتهم؛ لأنهم ينتمون بالتعصبة؛ فقرابتهم أقوى وإن بعدوا، ولسنا نعلل هذا من طريق المعنى، ولكنا نرعى أن هؤلاء وإن بعدوا، فهم المفهومون من الأقربين إذا اجتمعوا مع الإخوة، وهذا متجةٌ ظاهر.
وإذا اجتمع الأخ من الأب والأم والأخ من الأب، فالأخ من الأب والأم أولى؛ لأنه جمع القرابة من الجهتين، وهو مقدم أيضاً على الأخ من الأم لما ذكرناه.
ثم الأخت من الأب والأم مقدمة على الإخوة من الأب لما ذكرناه من اجتماع القرابتين، فلا التفات إلى الذكورة والأنوثة ومسالك التوريث.
وابن الأخ وبنت الأخ بمثابةٍ واحدة في الاستحقاق، وإن اختص بالإرث ابنُ الاخ.
والأخ من الأب مع الأخ من الأم مستويان، وكل واحد منهما على قرابة واحدة.
فالضابط في هذا الفن استعمال الدرجة والقوة.
وابن الأخ من الأب يتقدم على ابن ابن الأخ من الأب والأم؛ لأن قرب الدرجة في هذا المقام أولى بالاندراج تحت الأقرب من الاختصاص بمزية قرب مع البعد في الدرجة.
7555- وذكر الصيدلاني وغيره من أئمة المذهب قولين في الجد والأخ من الأب والأم أو من الأب: أحد القولين- أن الأخ مقدم على الجد؛ لأن إدلاءه بالابن وإدلاء الجد بالأب، وإدلاؤه بالبنوة، والإدلاء من جهة البنوة أقوى.
والقول الثاني- أنهما سواء، وقد ذكرنا إجراء هذين القولين في عصبات الولاء.
وينشأ من هذا إشكال يحيك في صدر الفقيه، وذلك أن سبب اختلاف القول في الولاء أن التعويل في التوريث بالولاء على قوة العصوبة، والبنوةُ أجلب للعصوبة من الأبوة، ولمَّا رأينا في التوريث بالقرابة التسويةَ بين الجد والأخ، ولم نردّد القولَ، كان السبب فيه أن التوريث بالقرابة لا يقتصر على طريق العصوبة.
فهذا نظر كلي في التوريث بالقرابة والولاء. ومن لا يُجري القولين في الجد والأخ يقول: في الجد وابن الأخ قولان:
أحدهما: أن الجد أولى، ويسقط ابن الأخ.
والثاني: أن ابن الأخ أولى لقوة قرابته، ولا مزيد في الضعف على هذا؛ فإن تقديم ابن الأخ وإن تسفل في الوصية للأقرب في نهاية السقوط، وإنما اتجه هذا في الولاء لاتباع العصوبة، فأما صرف الوصية إلى الأقرب، فمأخذه موجب اللفظ، وقد ذكرنا أن هذه المسألة لفظية، ثم أوضحنا أن من كان على عمود النسب أصلاً وفصلاً، فهو في حكم العرف وفهمِ الخطاب أولى باسم الأقرب، ثم حكينا عن شيخنا أن الأحفاد وإن سفلوا مقدمون على الأخ القريب.
ومَنْ ضبط ما قدمناه وأحاط بما نبهنا عليه الآن، لم ينقدح له وجه من الرأي إلا تقديم الجد على الأخ؛ فإن تَحَامَل، يسوي بينهما، أما تقديم الأخ، فبعيدٌ عن مأخذ الكلام في المسألة، ولست أذكر مثل هذا لأغيّر المذهب؛ فإن التعويل على النقل فيه، ولكن لابد من تنبيه.
ولا شك في تقديم بني الإخوة على الأعمام، وإن بعدوا، وكذلك يقدّمون على بني الأعمام، والسبب فيه تعلقهم بقوة قرابة الأخوّة، فهذه قوةٌ مقدمة على قرب الدرجة، وليس كقوة ابن ابن الأخ من الأب والأم مع قرب ابن الأخ من الأب؛ فإن القرب مقدم على هذا القدر من القوة؛ فإن الأخوّة جامعة، وقرب الدرجة أجلب لاقتضاء اسم الأقرب من الاختصاص بأخوّة مع البعد في الدرجة.
ولم يختلفوا أن الجد مقدم على الأخ من الأم، وقالوا: في أب الأم وأخ الأم قولان؛ فإن أبا الأم أصلٌ، وأخ الأم يدلي إلى الأم بالبنوة، ولا نظر إلى الميراث.
قال الصيدلاني: أبو الأم بمثابة أبي الأب، وأخو الأم بمثابة الأخ من الأب فيجري قولان:
أحدهما: أن الأخ من الأم مقدم.
والثاني: أنهما سواء، وهذا خبط لا ينساغ للفقيه.
فإن قيل: إخوة متفرقون وأخوات مفترقات؟ قلنا: الوصية لأولاد الأب والأم من الذكور والإناث بالسوية.
فإن قيل: بنو إخوة مفترقون وبنات إخوة مفترقات؟ قلنا: الوصية لبني الإخوة وبنات الإخوة من الأب والأم بالسوية.
7556- والأعمام والعمات يشتركون في الاستحقاق، وإن اختلفوا في الإرث، ويجب القضاء بالتسوية بين الأخوال والأعمام للاستواء في الدرجة، وقرابة الأم كقرابة الأب.
فهذا بيان معنى الأقرب، مهّدنا أصوله، ثم هذبنا الأصول بالصور، ونصصنا على محل الإشكال، وهو الجدّ والإخوة، فلم يبق مالا يخرج على الأصول التي ذكرناها.
7557- ثم يتشعب من هذه الأصول مسائل ذكرها العراقيون وغيرهم من أئمة المذهب منها: أنه إذا أوصى لأقرب الناس به رحماً، فإذا كان أقرب الناس به وارثاً، ورددنا الوصية للوارث، قالوا: فالوصية تبطل في هذه الصورة؛ فإن الأقربين خرجوا عن استحقاق الوصية، وامتنع تصيير الوصية إلى الأبعدين لمكانهم، وهذا قياس الطرق.
ومما ذكروه أنه إذا أوصى لجماعة من الأقربين لزيد، وذكر في هذا لفظاً يقتضي الجمعَ، فلو كان لزيد ثلاثة من البنين، وجمعٌ من بني البنين، فلا شك أن الوصية مصروفة إلى البنين دون بنيهم.
قالوا: فلو كان له ابن واحد وابنا ابن، فللابن الثلث والباقي لابني الابن.
وكذلك لو كانوا ثلاثة، فللابن الثلث والباقي بينهم، يعني بين البنين.
وزعموا أن ضبط المذهب في ذلك أنا إن وجدنا من الأقربين ثلاثة، صرفنا الكلَّ إليهم، وإن لم نجد منهم ثلاثة، فنصرف إلى من وجدنا ما يخصه لو كانوا ثلاثة، فإن كان واحداً، فالثلث، ثم نصرف الباقي إلى الذين في الدرجة الثانية.
وليس ذلك كما لو أوصى الرجل لأقرب الناس به رحماً، فإنا نبطل الوصية للورثة إذا كانوا هم الأقربين، ولا نقول: إذا لم نجعلهم مستحقين نرتفع إلى غيرهم، وذلك أنهم وجدوا ولم يستحقوا، فهو كما لو ردّوا الوصية فبطلت الوصية بردهم، وليس كذلك إذا ذكر لفظ الجمع، ثم لم نجد من الأقربين إلا واحداً أو اثنين، وهذا ذكره على هذا الوجه صاحب التقريب موافقةً للعراقيين حرفاً حرفاً، والكلام في هذا المقام لطيفٌ جداً.
فإذا قال: أوصيت لأقرب الناس لي، فكان أقرب الناس به وارثاً محجوباً عن الوصية، فوجوده يحجب من بعُد، وإذا ذكر لفظ الجمع، ثم لم يوجد في الدرجة الأولى جمع، فكيف يثبت الحجب، ولم يتحقق جمع؟ ثم إذا لم يثبت الحجب دخل في الاستحقاق من بَعُد، ولكن لمن قرب اختصاصٌ، فاستحق الثلث، فهذا جواب متركب من قواعد حسنة ينجح بمثلها الفقيه.
7558- وتمام هذا الفصل في مسائل نذكرها للشافعي وللأصحاب تتعلق برعاية الجمع، قال الشافعي رضي الله عنه: إذا أوصى لقرابة فلان أو لأقربائه، فسواء كان له قريب واحد أو اثنان أو ثلاثة، فالوصية لهم، والأقرباء صيغة جمع إن كان في القرابة نظر.
ووجه ما ذكره الشافعي رضي الله عنه أن لفظ الجمع في هذا المقام لا يعني الجمع، وإنما الغرض الصرف إلى جهة القرابة، فإن جرت لفظة الجمع، فالغرض أن يستوعب قرابة ذلك الرجل، ثم يذكر الذاكر الجمع وهو يبغي الجهة والصنف، وقد يحمله على ذكر الجمع استيعاب جمعٍ إن كانوا، وليس من غرضه قصرُ الوصية إذا لم يبلغوا جمعاً.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه إذا ذكر لفظ الأقرباء، فلم يكن له إلا قريب واحد، فليس له إلا ثلث الوصية، وهذا يتيسر توجيهه. وما ذكره الشافعي أفقه وأليق بمعنى الكلام.
فإن أوصى لذي قرابته وله قريب واحد، فلا خلاف أن الوصية مصروفةٌ إليه بكمالها. والذي أطلقه الأصحاب أن الوصية للقرابة لا تتضمن جمعاً؛ فإن القرابة ليست من أبنية الجمع، وإذا قيل: قرابة فلان، فمعناه ذو قرابته. وإذا قال: أوصيت لذوي قرابة فلان، وقريبُه واحد، فهل يكون له جميع الوصية؟ فهذا لفظ مشعر بالجمْع وهو بمثابة قوله: أوصيت لأقرباء فلان؟ ظاهر النص أن الوصية مصروفة إلى قريب واحد إذا لم يكن غيره.
ومن أصحابنا من قال: لا تصرف جميع الوصية إلى ذلك الواحد، ثم هؤلاء يفضّون الوصية على تقدير جمع، وأقل الجمع في هذه المسائل ثلاثة.
وإذا تبين ما ذكرناه، فلو أوصى للأقربين، كان كما لو أوصى للأقارب في أنه هل يُحمل هذا على اقتضاء الجمع لا محالة، أو تصرف الوصية بكمالها إلى واحد إن لم نجد من الأقربين غيره؟
وقد ذكرنا مسألةً في الأقربين، وفرضنا ابناً، وأحفاداً، وتلك المسألة تخرّج على وجوب رعاية الجمع. فإن فرعت على النص وأردت تخريج تلك المسألة، فنصوّر في صيغة الوصية تقييداً بلفظةٍ تقتضي جمعاً لا محالة، مثل أن يقول:
أوصيت لجماعة من أقرباء فلان، ثم تتفرع تلك المسألة، وتنساق على حسب ما قدمناه.
7559- وقد نجز القول في الوصية للقرابة والأقربين، ونحن نذكر ألفاظاً نفرض إجراءها في الوصايا، ونذكر معانيها. فقد كثر اختباط الفقهاء فيها، وقد نذكر في بعضها مذاهب بعض السلف، لأغراضٍ لنا صحيحة.
فإذا قال: أوصيت لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن آل رسول الله كل من يحرم عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، واعتمد الشافعي في هذا هذا الأصلَ، وهو تحريم الصدقة؛ فإنهم أقيموا في هذه القاعدة مقام رسول الله عليه السلام، وهذا حسن.
وقال مالك: آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقيل: آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمّتُه. وهذه اللفظة فيها استبهام، واشتقاق اللفظ-إن لم يُقدّر فيه قلبٌ وإبدال- من قولك آل يؤول، فكل من آل إليك أمره فهو من آلك، وقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] أراد به الذين ضلّوا بسببه، وآل ضلالُهم إليه.
ومن الناس من يقول أصل الآل الأهل، فأبدلت الهاء همزة، فصار أَأْلاً، ثم استثقلوا اجتماع الهمزتين فأبدلوا الثانية ألفاً، فصار آلاً، واللفظة على حالٍ فيها تردد.
ثم الشافعي رضي الله عنه قطع جوابه في آل الرسول صلى الله عليه وسلم للأصل الذي وجده فيهم من تحريم الصدقة، ونزّل ذلك منزلة القرينة المشاعة في العرف، ورأى تقييد هذا اللفظ المتردّد بها.
فلو أوصى رجل لآل زيد وعمرو، ولم نتبين معنى لفظه، فمن أصحابنا من أبطل الوصية، لاستبهام اللفظ وتردده بين القرابة، وأهل الدِّين، وأصحاب الموالاة، وغيرها من الجهات.
ومن أصحابنا من صحح الوصية؛ فإن الاحتكام بإبطال الوصية لا معنى له.
وهذه المسألة قطبٌ يقاس به كل وصية تشتمل على لفظ مجمل متردد بين جهات من الاحتمالات يعسر جمعُها، ويعسر الاحتكام بتعيين بعضها، ثم من صحح الوصية اختلفوا: فمنهم من قال: الوصية للآل كالوصية للقرابة، ومنهم من قال: نصحح الوصية ونفوضها إلى اجتهاد الحاكم، ثم سبيل الحاكم أن يرعى الأصلح في جهات الاحتمال، فإن أدى اجتهاده في معنى اللفظ إلى جهة، اتبع رأيه فيها، ولو كان نصب وصياً، فقد قال هؤلاء نتبع رأي الوصي أيضاً، وهذا فيه نظر؛ لأنه ليس مسلّطاً على أن يفعل ما يشاء، وليس مجتهداً يرجع إلى اجتهاده، فينتظم مع الوصي وجهان:
أحدهما: أن الرجوع إلى رأي الحاكم.
والثاني: أنه يجوز الرجوع إلى رأي الوصي.
7560- فلو أوصى لأهل بيت رجل، فقد اختلف أصحاب الشافعي في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن الوصية لأهل البيت كالوصية للآل، ومنهم من زاد على معنى الآل الزوجة؛ فإنها أصلٌ في معنى لفظ أهل البيت.
ولو أوصى لأهل رجل، ولم يقل: أوصيت لأهل بيته، فقد قال بعض الأصحاب: هذه الوصية تختص بالزوجة، وقال بعض أصحابنا: تعم كلَّ من يلزمه نفقته، والوجه الأول مذهب أبي حنيفة، والوجه الثاني مذهب أبي يوسف ومحمد.
ولو أوصى لأهل امرأة، فهذا يخرّج على الخلاف المقدم، فمن قال: الأهل معناه الزوجة، فالوصية باطلة، ومن حمل الأهلَ على من تلزم نفقته، صَرَفَ الوصيةَ إلى من يلزمها نفقتهم.
7561- ولو أوصى لأختانه، فقد قال أبو حنيفة: يدخل فيها زوج كل ذات رحم محرم منه ويدخل أيضاً كلُّ ذي رحم محرم من ذلك الزوج.
وقال أصحاب الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: الوصية للختن وصيةٌ لزوج البنت، واختلفوا في أزواج الأخوات ولم يتعدَّوا هذا الحدّ، وقطعوا القول بأنه لا يدخل أزواج العمات والخالات وغيرهم من المحارم. والأصحُّ التخصيص بأزواج البنات.
ثم سنذكر خلافاً في أن الأحفاد في الوصية للأولاد هل يدخلون تحت اسم الأولاد، فمن أدخلهم تحت الوصية للأولاد، أدخل أزواج الإناث من الأحفاد تحت الوصية للأَخْتان، فلو أوصى للأَخْتان، وكانوا قد طَلَّقوا البنات طلاقاً يقطع الزوجية، وصادفنا البناتِ غيرَ ذواتِ أزواج يوم موت الموصي، فلا وصية للذين كانوا أزواجاً، فإنهم لم يكونوا أختاناً عند الموت، وقد يتجه فيه قول أنّا نعتبر حالة الإيصاء، وهذا يخرّج على أنا إذا ردَدْنا الإقرار للوارث، فيعبتر كونه وارثاً يوم الإقرار، أو يُعتبر ذلك يوم الموت؟
وكان شيخي أبو محمد يقول: هذا التردّد في الاقرار للوارث على قول ردّ الإقرار، فإنا قد نعلّل ردَّ الإقرار بالتهمة، فأما الوصايا فالاعتبار فيها بحالة موت الموصي؛ فإنها ليست مبنية على التهمة، ومقرّ الوصايا يوم الموت، فعلى هذا لو أوصى لأَختان بناته، وما كن مزوّجات، ثم تزوجن، وكن في حِبالة أزواجهن يوم موت الموصي؛ فالوصية مصروفة إلى أزواجهن، ولو كن متزوجات يوم الموت فقبل الأزواج الوصية، ثم أبانوا البنات، فالوصية قد استقرّت لهم، ولو طلقوا ثم قبلوا، فإن وقع التفريع على أن الملك بالموت أو هو موقوف فالوصية تثبت لهم، وإن قبلوها بعد البينونة، فإن حكمنا بأن الملك يحصل في الوصية بالقبول، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الوصية تبطل إذا تقدمت البينونة على القبول؛ فإن التعويل في هذا القول على القبول، وما كانوا أزواجاً يومئذ.
والوجه الثاني- أن الوصية تثبت؛ فإن القبول إن استعقب الملك، فالاعتبار في صفة الموصى له بيوم الموت، والمسألة محتملة.
ولو تزوجن بعد موت الموصي، فهذا فيه تردّد أيضاً، مأخوذ مما ذكرناه، فإن اعتبرنا يوم الموت أو فرّعنا على الوقف، لم نصرف الوصية إليهم، وإن فرعنا على قول القبول، ففيه تردد مأخوذٌ ممّا قدمناه في تقديم البينونة على القبول، وإن طلق الزوج طلاقاً رجعياً، فهو زوج ووجهه بيّن.
7562- ولو أوصى لأصهاره فقد قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه: الوصية للأصهار وصيةٌ لأبوي المرأة، فإن أوصى لأصهار نفسه، دخل تحت الوصية أبو زوجته وأمها، وإن كانت له زوجات، دخل تحت الوصية آباء الزوجات وأمهاتهن فحسب، ولم يدخل تحتها أبوا امرأة ابنه ولا أبو امرأة أبيه. وإذا خرج هؤلاء، فما الظن بسائر القرابات؟
والوصية للأحماء كالوصية للأصهار.
ثم إذا جعلنا الوصيةَ للأصهار وصيةً لأبوي الزوجة، ففي أجدادها وجداتها تردد بين الأصحاب سيأتي له نظائر، إن شاء الله عز وجل.
7563- ولو أوصى لأمهاتٍ رجل، فالجداتُ من قبل الأم يدخلن لا محالة؛ فإنه لما ذكر الأمهات على صيغة الجمع، عرفنا أنه لم يُردْ قصرَ الوصية على الوالدة، وفي دخول الجدات من قبل الأب تردُّدٌ، والأظهر أنهن لا يدخلن.
وإن أوصى لآبائه، دخل تحت ذلك الأجداد من قبل الأب، وهل يدخل الأجداد من قبل الأم؛ فعلى اختلافٍ وتردُّدٍ بين الأصحاب.
ولو أوصى لأجداده، دخل الأجداد من الجهتين بلا خلاف.
وكذلك إذا أوصى لجدّاته دخلت الجدات من الجهتين بلا خلاف، الوارثات منهن والساقطات عن الإرث بمثابةٍ في استحقاق الوصية.
7564- ولو أوصى لبني فلان، نُظر: فإن كانوا محصورين، وقد عزاهم إلى أب معلوم، وكان له بنون وبنات، فظاهر المذهب أنه يختص بالوصية الذكورُ من أولاده.
ومن أصحابنا من قال: يدخل جميع أولاده الذكور منهم والإناث، وهذا بعيدٌ، لا اعتبار به.
ولو أوصى لبني فلان، وذكر قبيلة، مثل أن يوصي لبني شافع، فقد اتفق الأصحاب على أن اللفظ لا يخصص بالذكور؛ فإن القبائل يعبر عنها على هذا الوجه، ولكن يتعرض للتفصيل إمكانُ حصرهم، فإن كان الحصر ممكناً، فالوصية صحيحة، وإن لم يكن الحصر ممكناً، ففي المسألة القولان المذكوران في الوصية للعلوية ومن في معناهم.
7565- ولو أوصى لأولاد رجل، يتناول الذكور والإناث، وهل يختص بأولاد الدِّنية، أو يتناول الأحفاد؟ فيها خلاف مشهور، وظاهر النص أنه يختص بأولاد الصلب، فإن جعلنا اللفظ شاملاً لأولاد الصلب والأحفاد، فلا كلام، وإن خصصنا الوصية بأولاد الصلب عند وجودهم، فلو قال: أوصيت لأولاد فلان، ولم يكن له أولاد صلب إذْ ذاك وكان له أولاد أولاد، ففي المسألة خلاف.
ثم إن قلنا: إنهم يدخلون، فيدخل أولاد بنيه، وهل يدخل أولاد بناته على هذا الوجه؟ وجهان، وسبب التردّد أن انتساب أولاد بنيه إليه بوسائط البنين، وانتساب أولاد بناته إلى أزواجهن، وهذا معنى قول القائل:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وإن أوصى لإخوة فلان، فقد قال أبو حنيفة والشافعي: إن كانوا ذكوراً استحقوا الوصية وإن كن إناثاً، لم تصرف الوصية إليهن، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً إخوة وأخوات، فمذهب أبي حنيفة وظاهر نص الشافعي أنه يختص بالوصية الإخوة دون الأخوات، وقال أبو يوسف ومحمد: هو لجميعهن.
7566- ولو أوصى لمولاه، فاسم المولى يتناول المعتِق، وهو المولى الأعلى، وقد يتناول المعتَق، وهو المولى الأسفل، قال مالك: الوصية للمولى مصروفة إلى الأسفل. وقال أبو حنيفة: إن لم يبين، فالوصية باطلة، وقال أبو ثور: يقرع بين الأعلى والأسفل، وحكى البويطي عن الشافعي قولين:
أحدهما: أنه يوقف بينهم حتى يصطلحوا.
والثاني: أنه يقسم بين الأعلى والأسفل.
وهذا إذا وُجد الموليان، فإن كان لا يوجد إلا أحدهما، صرفت الوصية إلى ذلك الصنف، فإن اقتضى الحال صَرْفَ الوصية إلى المعتَقين، فكل من يثبت له الولاء عليه داخلٌ تحت الاستحقاق سواء كان متبرعاً بالعتق، أو مؤدياً فرضاً، كالذي يعتق عن كفارة أو وفاء نذر، وهل يدخل تحت الوصية أمهات الأولاد والمدبّرون الذين يعتِقون عند الموت؟ اختلف أصحاب الشافعي في ذلك فمنهم من قال: لا يدخل هؤلاء، وبه قال محمد بن الحسن، وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف.
ومنهم من قال: يدخلون، وهو الرواية الثانية عن أبي يوسف، وليس ذلك بعيداً عن القياس، ومولى الموالاة والمحالفة ليس من الموالي عند الشافعي رضي الله عنه.
فصل:
7567- إذا أوصى لجيرانه، فقد قال الزهري: حدُّ الجوار أربعون داراً من كل ناحية، وهذا هو الذي ذكره العراقيون مذهباً لنا، ولم يعرفوا غيره، واستدلوا فيه بمذهب عائشة رضي الله عنها، والظن بها أنها لا تحتكم بذلك إلا عن ثبت عندها.
وللعلماء في ذلك مذاهب مختلفة، والظاهر من مذهب أصحاب الشافعي أن الجار هو الملاصق من الجوانب لا غير، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو القياس؛ لأن الجار من المجاورة، ومعناها الظاهر الملاصقة، فإن حُملت على مزيدٍ، فلا منتهى له يوقف عنده، فيجب الاقتصار على القدر المعلوم.
واختلف أصحابنا في الذين يجمعهم زقاق غير نافذ، فهل نجعلهم جميعاً جيرانا؟ فيه اختلاف، ومحل الخلاف في الذين لا يلاصقون.
وكذلك اختلف الأصحاب في الجار المحاذي وإن كانت السكة نافذة، وسبب الاختلاف أنه يسمى في العرف جاراً، وقد يقال: في تقسيم الجيران: جار ملاصق، وجار مقابل.
ثم من رأى إدخال الجار المحاذي، فلا يشترط الحذاء المحقق على معنى المسامتة، ولكن لو زال عن الحذاء قليلاً، فهو كالمحاذي، والضبط في هذا الفن أن يكون داره من دار الموصي بحيث يتوقع منها ضرار الاطلاع، وفي مثل ذلك نذكر ضرار الجار ونقيضه، وهذا نبينه على تفصيلٍ في اتساع الطريق وضيقها؛ فإن الشارع إذا اتسع، فلا يكون المحاذي من الجانب الآخر جاراً.
وإذا ضممنا إلى ما ذكرنا ما ذكره العراقيون ورأوه مذهباً، انتظم منه أوجهٌ، لا يخفى تعدادها، فهذا اقصى الإمكان في ضبط معاني هذه الألفاظ المشكلة.
وإنما ذكرنا في بعضها مذاهب العلماء إشعاراً بإشكالها؛ حتى يأخذ الفقيه في نظره فيها حِذْرَه، ويتثبت في الفتوى جهده، فقد بلغنا في بعض مسموعاتنا أن المسألة الجلية كانت تُعرض في جمع من علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتفادَوْن في الجواب، ويحيل البعض على البعض، فربما يخرج السائل ولا جواب معه.
7568- ومما يتعلق بالألفاظ المذكورة في الوصايا أنه إذا أضاف الوصيةَ إلى صنفٍ من أصناف الزكاة، فسيأتي بيان أوصافهم في قَسْم الصدقات.
والقدر الذي نذكره هاهنا أن الفقراء يتميزون عن المساكين، والفقير أشد حالاً من المسكين، فإن وقعت الوصية للفقراء والمساكين جميعاً، فرَّقنا بينهما بما سنذكره في الصدقات، وإن أوصى للفقراء، فهذا الاسم في الانفراد يصلح للفقراء والمساكين جميعاً، لم يختلف علماؤنا فيه، وكذلك إذا أوصى للمساكين، فهو يتناول الفقراء وأهل المسكنة، وكأن اللفظين لا يستقل واحد منهما بمزيّة حتى يجتمعا، فنتحقق عند اجتماعهما فرقاً.
فصل:
7569- إذا أوصى لأرامل بني فلان فقد قال الشعبي: هذا يقع على الرجال والنساء، وبه قال إسحاق بن راهويه واستدلوا بقول جرير:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتَها... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وقال الشافعي رضي الله عنه: الأرامل هن اللواتي مات عنهن أزواجهن، أو بِنَّ عنهم بسبب من الأسباب.
ثم اختلف أصحابنا في أنا هل نشترط مع ذلك فقرهن ليدخلن تحت الوصية للأرامل؟ وظاهر النص يشير إلى اشتراط الحاجة والخِلة، ثم إن كن محصورات، صحت الوصية، وإن لم يكنّ محصورات، صحت الوصية أيضاً، ويحمل على أقل الجمع.
وليست الوصية لهن كالوصية للعلوية؛ فإن ما وصفن به لا يلزمهن أيضاً كما لا يلزم الفقر والمسكنة.
ولو أوصى لأيامى بني فلان، كانت الوصية مصروفة إلى غير ذوات الأزواج، والفرق بين الأيامى والأرامل أن الأرملة هي التي كان لها زوج، والأيم هي التي ليست ذاتَ زوج في الحال، ولا فرق بين أن يتقدم لها زوج أوْ لا تكون نكحت قط، ثم لا فرق عندنا بين الأبكار والثُّيب، فاسم الأيامى يشملهن، وفي اشتراط الفقر، والوصيةُ للأيامى تردّد كما ذكرنا في الأرامل؛ فإن كلّ واحد من اللفظين يشعر بعدم الكافل، وذلك يشير إلى الحاجة.
ولو أوصى لكل ثيب من بني بكر، فالذي ذهب إليه أكثر أصحابنا أن الوصية للنساء دون الرجال، وهو مذهب أبي حنيفة.
ومن أصحابنا من قال: يدخل الرجال الذين جامعوا تحت اسم الثيب.
وكذلك لو أوصى لكل بِكرٍ من بني فلان، ففي المسألة وجهان في دخول الرجال.
وإنما صار إلى الوجه الضعيف من صار إليه لقول رسول الله عليه السلام: «البكر بالبكر جلد مائةٍ وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائةٍ والرجم».
7570- ومن الألفاظ التي تستعمل في الوصايا الغلمان، والشيوخ، والكهول، والأطفال، والصبيان، والفتيان، قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: الغلام من لم يحتلم ولم يبلغ خمس عشرة سنة، وكذلك القول في الطفل والصبي، وكذلك الذراري.
وفي طريق العراقيين ما يدل على أنا لا نشترط في الذراري الصِّغر، وهم النسل والأولاد كيف كانوا، ومن خالف في أن اسم الولد هل يتناول الحافد، ذهبوا إلى أن الذرية يتناول الأولاد والأحفاد، فقال أبو يوسف: يكون الإنسان بعد البلوغ فتًى إلى ثلاثين سنة، ثم كهلاً إلى خمسين سنة، ثم يكون بعدها شيخاً إلى آخر عمره.
وقال محمد بن الحسن: هو بعد البلوغ فتى إلى أربعين سنة، ويسمى شاباً في هذه المدة، ثم يكون كهلاً إلى خمسين، ثم شيخاً إلى آخر عمره، وهذه الألفاظ معانيها مشكلة في الإطلاق، ولكنا نعلم أن الطفولية إلى تهيؤ الجبلّة لثبوت مادة الزرع فيها، ثم من هذا الوقت في كل جبلّة نموٌّ وازدياد في الجسم والقوى، ثم إذا انتهى النمو، ظننا وقوفاً في مدة، فإذا انتهى ابتدأ النقص.
والشباب من كمال الجبلّة وتهيئها لأن تولد مادة تصلح لمثلها، ومن هذا الوقت شباب إلى منقرض وقت النمو، ووقتُ الوقوف كهولة.
فإذا ابتدأ النقصان الجبليِّ، فهو شيخوخة إلى منقرض العمر.
ثم هذه الأطوار لا تنضبط بمددٍ معلومة في جميع الجبلات؛ فإنها مختلفة في البنية والقوى، وورد في الشرع ضبطٌ زماني في البلوغ إن استأخر الحكم، فلو ورد مثلُه في هذه الأطوار، لاتبعناه، هذا إلى اختلال الأبنية بالاعتلال والعوارض، فكيف السبيل والذي أطلقه الأصحاب الرجوع إلى العرف، وإلى ما يفهم منه في الجبلات المختلفة؟
ولست أرى في ذلك متمسكاً شرعياً أو جبليّاً، والقدر الذي ورد الشرع به ذكْر الأربعين، فإنها الأشُدّ في التفسير الظاهر، وقد شهد بذلك نصّ القرآن قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] وإذا غمض المدرك في شيء، واستبهم الأمر، اكتفى الفطن بالمتعلق الذي لا يتعلق بمثله إذا اتسع المجال.
هذا، ولا نصَّ لصاحب المذهب، وليس ما نُجريه من الأمور الوجودية، كأدوار الحيض، وسن الاحتلام، ومدة الحمل في الأقل والأكثر.
ولست أنكر مع ذلك الالتفاتَ إلى شيئين:
أحدهما: الضعف الذي لا يحمل على الأعراض والأمراض، ووخط المشيب الذي لا يحمل على الندور، مع أنه قد يُمتَّع بالسواد الشيخ ويبادر الشابَّ الشيبُ، هذا إلى الاستمساك بما المرء فيه إلى ظهور الزوال، على أني ذكرت من مذهب السلف ما يضطرب ذو الرأي فيه.
7571- ولو أوصى ليتامى بني فلان، فيستوي في ذلك الذكور والإناث، وهم الذين لا آباء لهم، ولا يتم بعد البلوغ، اتفق عليه أصحابنا، ونطق به الخبر الصحيح، وهل يشترط الفقر، واسم الأيتام مطلق؟ فعلى وجهين، وهذا الخلاف يجري في كل صفة تذكر في الوصية مشعرة بعجزٍ في النفس أو انقطاعٍ كامل، كالوصية للعميان والزمنَى والأرامل واليتامى والأيامى.
فأما الوصية للصبيان، فلا تقتضي فقراً وفاقاً، وكذلك الوصية للشيوخ.
ولا يخفى على المتأمل الفرق.
ثم يجري في جميع المسائل انحصار الموصى لهم وخروجهم عن الحصر، وترتيب المذهب على ما تقدم في بيان محل الوفاق والخلاف.
7572- ولو أوصى لعقب فلان، يتناول ذلك الأولادَ والأحفادَ وإن سفلوا، ولا فرق بين الذكور والإناث.
وذكر بعض الأصحاب أنه إذا كان لمن أوصى لعقبه أولادُ صُلبٍ وأولاد أولادٍ، فالوصية مصروفةٌ إلى الأَدْنَيْن، فإن لم يكن له أولاد صلب، فإلى الأقرب فالأقرب من الأحفاد.
وهذا غير صحيح عندي؛ فإن اسم العقب في وضعه يتناول الأولاد وأولاد الأولاد، وإن سفلوا، فلا معنى لتخصيص هذا اللفظ المطلق بالأدنَيْن، ولعل الذين رأَوْا ذلك أخذوه من الخلافة، فإن أولاد الدِّنْية يعقبون من الموروث خلافة، فإن لم يكونوا، فأولاد الأولاد يعقبونه، وهكذا على ترتيب البطون.
ولو أوصى لعقب فلانٍ، ومات الموصي، والمذكورُ عقبه حيٌّ بعدُ، قال جماهير الأصحاب: بطلت الوصية؛ فإنه ما دام حيّاً، فليس يعقبه أحد، وهذا جارٍ على قياس تقديم الأقرب فالأقرب؛ فإنا إذا كنا نفهم من العقب من يعقب، فالحي لا يعقبه أحدٌ وهو حي، ومعنى العقب عند هذا الإنسان من تقدّم العقب غيرُه.
والظاهر عندنا أن الوصية تصح إذا كان له أولادٌ؛ فإنهم يسمون أعقاباً في حياة الإنسان.
7573- ولو أوصى لورثة إنسان، فالوصية لكل مَنْ ورثه من ذكر أو أنثى بنسب أو بسبب، غير أن الموصى به في الإطلاق موزّع عليهم بالسوية، وإن اختلفت حصصهم في الاستحقاق بالميراث.
ولو أوصى لورثة فلان ومات الموصي ومن يُنسب الورثةُ إليه حي، فقد قال الأصحاب: تبطل الوصية، وقولهم في هذا أظهر؛ فإن الوراثة لا تتبين في حياة الإنسان. فإن كان يتطرق إليه احتمال، فيشترط فيه الوقوف إلى أن يموت، ونتبين من يرثه من الموجودين عند موت الموصي.
وإذا قلنا: تصرف الوصية إلى عقبه وهو حي فقد يحتمل أيضاً أن نتوقف حتى نتبين من يعقبه.
ومن هذا التنبيه يتبيّن ظهور كلام الأصحاب.
ولو أوصى لورثة زيد، ثم مات ولم يكن له وارث خاص، فالوصية باطلة، ولا نقول: كأنه أوصى للمسلمين، لأنهم يرثونه؛ فإن الوراثة في هذه المنزلة حكم لا يتلقى مثله من موجب الألفاظ.
ولو أوصى لورثة فلان، فمات فلان، وخلفته بنتٌ واحدة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة على وجهين: منهم من قال: يصرف إليها جميع الوصية، وإن لم نقل بمذهب الردّ.
ومنهم من قال: نصرف إليها نصفَ الوصية ويبطل النصف منها.
ثم قال الأصحاب: إن أوصى لعصبة فلان، فمات الموصي وفلان حيّ، فالوصية تصح لعصبته، ولا يشترط موته في استحقاق الوصية عند موت الموصي، وليس كالورثة؛ فإن هذا اللفظ يشعر بالوراثة، ولا وراثة في الحياة، وليس كالعقب؛ فإنه يشعر بالخلافة، ولا خلافة في الحياة. وهذا حسن متجه.
ثم قال الأصحاب في الوصية للعصبة: "أولاهم بالوصية أولاهم بالعصوبة" وهذا مستقيم لا يسوغ غيرُه؛ فإن حكم العصوبة يثبت للأقربين.
هذا منتهى ما بلغنا من الكلام في هذه الألفاظ المدارة في الوصايا.
ولو أوصى لعترته، قال العراقيون: قال ثعلب وابن الأعرابي: العترة هم الذرية، وقال القُتبي: العترة هم العشيرة، وعشيرة الرجل قرابته، وردّد العراقيون قولَهم لتردد أئمة اللغة. والله أعلم.