فصل: باب: المرض الذي يجوز فيه العطية ولا يجوز:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: المرض الذي يجوز فيه العطية ولا يجوز:

7591- مقصود هذا الباب متعلق بتنجيز التبرعات؛ فإن الوصايا المعلقة بالموت محسوبة من الثلث، سواء فرض إنشاؤها في الصحة أو في المرض، والتدبير في هذا المعنى نازل منزلة الوصايا؛ ومن هذا ظهر إلحاقه بالوصايا؛ فإنّ عِتق المدبر من الثلث، وإن جرى تدبيره في الصحة؛ فإنما تفترق الحال إذاً بين أن يكون الموصي صحيحاً أو مريضاً مرض الموت في التبرعات المنفذة كالعتق، والهبة، والمحاباة، وما في معناها.
فإن كان المرض مخوفاً وأفضى إلى الموت، فهي من الثلث، وإن جرت وانتهت في الصحة، أو في مرض غيرِ مخوف، فمن رأس المال.
7592- ثم لا مطمع في الاطلاع على تقاسيم الأمراض والمَيْز بين المخوف منها وغير المخوف؛ فإن العلم بذلك ليس بالهيّن وهو يتعلق بفنٍّ معروف قد يستوعب طالبُ الكمالِ فيه العمرَ، ثم لا ينال مطلوبَه، والعجب أن الفقهاء خاضوا في عدّ المخوف من الأمراض وغير المخوف منها، ولست أرى التزام ذلك، و إن اعتلقتُ طرفاً صالحاً منه، ولكن الوفاء به غير ممكن، فالوجه أن نقول: ليس المرض المخوف هو الذي تندرُ النجاةُ منه وُيؤئِس المعالجَ؛ فإن البرْسام معدودٌ من الأمراض المخوفة، والنجاة منه ليست بالنادر، فلا ينبغي أن يظن الفقيه أن المخوف هو الذي يغلب الهلاك منه، حتى يعد الاستبلال والبرء منه في حكم النادر، ولكن يكفي ألا يكون الهلاك منه في حكم النادر، فليتثبت الناظر في هذا العقد فإليه الرجوع، فإنا إذا كنا نرعى الخوفَ، كفى فيه ظهور توقع الموت وإن لم يغلب عليه يلتحق ببقية النوادر.
والمرض الذي ليس بمخوف هو الذي يندر ترتب الموت عليه، لأجل ذلك لا يكون توقع الموت منه في حكم المظنون.
7593- فلو كان المرض مخوفاً، وجرت فيه تبرعات ثم اتفق البرء منه، فجملة التبرعات منفَّذة نازلة منزلة ما يقع في الصحة، وهذا لا شك فيه؛ فإن الخوف المعتبر إنما يظهر أثره إذا أفضى إلى الموت.
7594- وإن كان ذلك المرض بحيث لا يعد مخوفاً، ولكن اتفق ترتب الموت عليه، فهذا لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتفق الموت من سبب عارض سوى ما كنا نعرفه، وإما أن يتفق غلطٌ ممن رجعنا إليه في نفي الخوف، والغلط يفرض من وجهين:
أحدهما: ألا يكون ذلك المرض من الجنس الذي ظنه مَنْ إليه الرجوع، وإما أن يكون من ذلك الجنس، ولكنه لم ينسبه إلى قوّة المريض النسبة الصحيحة؛ فإن القوة إذا انحطت، فالمرض الذي لا يكون مخوفاً من القوي مخوف في حق الضعيف؛ إذ القوةُ حمالةُ الأمراض، وعلى قدرها الخوفُ وظنُّ البرء.
فإن ثبت طريان سبب آخرَ مخوفٍ، فالموت محال عليه، والتبرع الذي جرى في المرض الأول بمثابة التبرع في الصحة.
وإن بان أن سبب الموت ذلك المرضُ بعينه، ولكنه أفضى إلى الموت لضعف المريض وعجزه عن الاستقلال، فقد بان أنّا ظنناه غير مخوف وكان مخوفاً.
فإن قال قائل: لو لم يكن ضعفٌ، ولم يتجدد سبب آخر، واتفق الموت؟ قلنا: هذا ما لايكون في مستقر العادة، وعليه الكلام.
ومما يعترض في ذلك أنه إذا اتفق مرضٌ غيرُ مخوف في ظاهر الظن، وترتب الموت عليه، وقال أهل البصر: لابد من تجدّد سببٍ باطن في الأعضاء الرئيسية، فالتبرع المتقدم على ذلك تبرع في الصحة.
وإن جوز من إليه الرجوع تجدّدَ سببٍ، وجوز أن يكون الموت من ذلك المرض بسبب ضعف القوة، وأنه لم يتأمل مقدار المرض والقوة، فالظاهر-إذا كان كذلك، وعسُر الاطلاع على الحقيقة- إلحاقُ المرض بالأمراض المخوفة. وفيه احتمالٌ من جهة أنا نستصحب حكم الصحة إلى تحقق نقيضه، وقد يطرأ مثل هذا في إفضاء الجرح إلى الموت مع اعتراض هذه الاحتمالات، وحاجتنا تمس إلى دَرْك ذلك لإيجاب القصاص ونفيه، وسيأتي ذلك مستقصىً في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
7595- ومما يجب الاعتناء بدركه أن العليل إذا كان لا يعدّ في مرض مخوفٍ ونشأت علة أخرى، فإن قال أهل البصر: العلة الأولى تُفضي إلى هذه العلة إفضاءً مظنوناً مخوفاً، فالعلة الأولى إذاً مخوفة، وإن قالوا: يندر إفضاؤها إلى هذه العلة، فالأولى ليست مخوفة، وما يجري فيها من تبرع ملتحق بتبرع الصحة.
ولو لم تتجدد علّة، ولكن تزايدت، والعلة واحدة، فهكذا سبيل إفضاء
العلل إلى الموت؛ فإنها مقسومة إلى التزايد والانتهاء والانحطاط، والقوى يقسّمها مهرةُ الأطباء على هذه الأطوار، فيبنون على ذلك ظنَّ البرء والهلاك، فإذا جرى التبرع في ابتداء حمّى، وقد لا يطّلع الطبيب على جنس الحمى، وهي منقسمة إلى المخوف وغير المخوف، فإذا ظهرت أعراضها، وبان للطبيب أنها مخوفة، فابتداؤها بحكم التبين مخوفٌ، ولكنه عرفه الآن وليس ما يتجدد من اطلاعه تجرّد علةٍ.
هذا هو الذي لابد من بناء الباب عليه.
ثم ما ظهر كونه مخوفاً، لم يخف حكمه إذا أفضى إلى الموت، وما لم يكن مخوفاً لم يخف حكمه، وما أشكل الأمر فيه، فالرجوع إلى أهل البصر، ثم إن فرض نزاع، لم يثبت كون المرض مخوفاً إلا بشهادة مسلمَيْن عَدْلين من أهل العدالة، ولا يقبل فيه رجل وامرأتان، وإن كان مقصود الشهادة التعرضَ للمال؛ فإن المشهودَ به المرض وصفتُه، وهو ليس بمالٍ، وليس موجِبَ مالٍ بنفسه، بل هو ينفصل عن الأحكام المالية، فإن كانت الشهادة على علةٍ بامرأة على وجهٍ لا يطلع الرجال عليها غالباً، فإن تلك العلة تثبت بشهادة أربع نسوة، وإذا ثبت بِشهادتهن تثبت أيضاً بشهادة رجلين وشهادة رجل وامرأتين.
وإن أشكل الأمر على الذين راجعناهم، كما صورتُ الإشكال في صدر الباب، وذلك بأن يفرض مرضٌ ليس مخوفاً في صنفه ويتقدّر الموت، ثم يتردّد الظن في أن الموت كان لعلّةٍ طارئةٍ، أو هو محمول على ذلك المرض بعينه، مع اعتقاد إفضائه إلى الهلاك بسبب ضعف قوة المريض. هذا فيه تردّدٌ، وقد قدمته. والشهادة تمس الحاجة إليها عند ادّعاء علةٍ وإنكارها، فأما إذا ثبتت علةٌ، ووقع الاتفاق على صنفها، وآل الكلام إلى أنها مخوفة أم لا، ورجع النزاع إلى نسبة قوة المريض إلى العلة، وهذا يختص بدركه الماهرون من علماء الطب، فلابد مع الإشكال من مراجعة خبير موثوقٍ به.
ثم الذي أراه أن ذلك لا يلحق بمراتب الشهادات من كل الوجوه، بل يلحق بالتقويم وتعديل الأقساط في القسمة، حتى يختلف الرأي في اشتراط العدد ولفظ الشهادة. هذا منتهى حظ الفقه من الباب.
7596- ولو ذهبت أتبع ما ذكره الفقهاء من تقاسيم العلل التي عدُّوها وأنّى لهم بها، لأتيتُ بكلام سخيفٍ، ولو ستمددتُ مما حَظِيتُ به من هذه الصناعة، لأتيت بكلام كثير في غير موضعه، وهو لا يثمر فائدةً.
وهذا يضاهي محاولة إغراق الكلام في أدلة القبلة في بابها.
7597- ومما أجراه المزني أن قال: "السل ليس بمخوف"، وهذا كلام مدخولٌ، لا يرتضيه أرباب البصائر، وإن كان يرى أن العلل المزمنة التي ليست بالحادة، ليست مخوفة، كالدِّق والاستسقاء وما في معناهما من الأعلال التي يظهر الخوف فيها، وليست سريعة الانقلاب إلى البرء، أو الهلاك، فهذا بعيد مع تحقق الخوف.
فليتأمل الناظر ما يمر به.
7598- والهرَم في الشيخ الكبير ليس يلتحق بالأمراض المزمنة، فافهموا ترشدوا.
وإنما يتطرق الكلام إلى الأمراض المزمنة من وجهين:
أحدهما: أن الأئمة قالوا: الحامل ليست في حالة خوف، وإنما تُعدّ في حالة الخوف إذا طُلقت، وإن كنا نعلم أن كل حاملة تضع أو تجهض، وإلى أي المصيرين صارت فإلى الخوف مصيرها، ثم لم تجعل في حالة خوف قبل الطّلْق. هكذا. ولكن المرض المزمن ينفصل عنه، من جهة أن صاحبه مريض في الحالة الراهنة وذات الحمل على أحوال الصحة إلى أن تُطْلَق، ويتطرق إلى الأمراض المزمنة أنها إذا لم تكن حادّة، فقد تمكّن من العلاج في طول المدة، وهذا مما يجب التنبه له.
والذي يتحصل عندنا في ذلك أن نمزج إمكان العلاج، وطول المدة بقوة المريض، وتقع القضية على حسب ذلك، فإن قال أهل البصر مع ما ذكرناه: الخوف غالبٌ، فالمرض مرض الموت إذا أفضى إليه، ولا نظر إلى طول المدّة وقصرها، والله أعلم.
وقد ذكرنا في أثناء الكلام مسألةَ الحامل، وهي مقصودة، فلتعرف كما وصفناها.
فصل:
7599- نص الشافعي رضي الله عنه على أن الرجل إذا كان في قُطرِ وقع فيه الطاعون الغالب، وعم طريانه، فأمر المقيم في ذلك القطر مخوفٌ، وإن لم يطعن بعدُ.
وكذلك من كان في التحام القتال بعد التفاف الصفين، وازدحام القسي، فأمره مخوف وإن لم يجرح بعدُ.
وقال في أهل السفينة إذا هاج البحر والتطمت الأمواج وانتهَوْا إلى حالة مخوفة: هم في حالة خوف، وإن لم تنكسر السفينة بعدُ. هذه نصوص الشافعي رضي الله عنه، ثم نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من قُدّم ليقتص منه غيرُ مخوف ما لم يجرح، فمن أصحابنا من جعل في هذه المسائل كلها قولين، وكذا في أسيرِ في يد طائفة من الكفار يقتلون الأسارى. وهذا اختيار المزني؛ فإنه لم ير فرقاً في هذه المسائل، من جهة أنا إن نظرنا إلى الشخص، فهو صحيح في بدنه، وإن نظرنا في توقّع إلمام الخوف به، فهذا المعنى حاصل.
ومن أصحابنا من فرق بين مسألة القصاص، فأجراها على النص وبَيْن غيرها من المسائل، وقال: يغلب من المسلم أن يرحم إذا ملك واقتدر، وقد يرغب في المال، فيعفو، وهذا لا يتحقق في سائر المسائل، وهذا الفرق لا يكاد يتضح.
والذي يعترض في نفس الفقيه أنا إذا حكمنا بالخوف في هذه المسائل، فالحامل وإن لم تُطلَق بعد لا يمتنع أن تلحق بالمسائل التي ذكرناها، وهذا احتمال أبديناه، والذي ذكره الأصحاب أنها ما لم تطلق لا يثبت مقتضى الخوف في حقها.
ثم قال: "ومن أنفذته الجراح فمخوف" قال الأصحاب: صاحب الجائفة مخوف، وكذا صاحب الجراحة الواصلة إلى العظم، وكذلك إذا انتهت إلى مجتمع اللحم.
والذي عندنا في هذا أن نذكر للفقيه ما ذكره الأئمة في الجراح التي توجب القصاص، على ما سيأتي القول فيها مشروحاً، إن شاء الله.
وقد قالوا: من قطع إصبع إنسان أو أنملة من أنامله، فالجرح جرحُ قصاص، وردّدوا الخلاف في الإبرة تغرز في غير مقتل، فإن كانوا يجرون حكم الخوف في الوصايا ذلك المجرى، فقد اتسق القياس في البابين.
وإن كان أئمة المذهب يَفْصلون بين البابين ويخصصون الخوف بالجوائف والجراحات المنتهية إلى مجتمع اللحم، وقد تبين أنهم لم يرعَوْا هذا في وجوب القصاص، كان هذا من مشكلات المذهب، والممكن إن كان الأمر كذلك أن يقال: الجراح الموجبة للقصاص نيط القصاص بهما، وإن كانت لا تؤدي إلى القتل غالباً محافظة على صون الأرواح؛ فإن أغوار الجراح لا تنضبط، ولا يُدرى كيف وصولها إلى التجاويف والتلافيف، فعلِّق القصاص بقبيلها، حسماً للباب وردعاً للجناة، فأما القضاء بالخوف، فينبغي أن يتبع وقوع الخوف، وظاهر كلام الأئمة الفرق بين البابين.
وقد نجز مقصود الباب.
7600- وذكر صاحب التلخيص مسائل وأقوالاً غريبة تتعلق بأحكام الأمراض، ونحن نذكر الزوائد منها وإن كان لا يليق بعضها بهذا الكتاب، فمما ذكره اختلاف قول الشافعي رضي الله عنه في إقرار المريض للوارث، وفيه قولان مشهوران ذكرناهما في كتاب الأقارير، والذي زاده صاحب التلخيص أنه حكى قولاً أن إقرار المريض للأجنبي في مرضه بمنزلة تبرعه عليه؛ من جهة أنا لا نأمن اتخاذ الإقرار ذريعة إلى صرف طائفةٍ من ماله إلى الأجنبي، إذا علم أن التبرعات الزائدة على الثلث مردودة. وهذا القول بعيد جداً، قال الشيخ: لم يحكه أحد غيره.
7601- ومما حكاه أن الجنون يُسقط الصلاة أداءً وقضاءً، والإغماء إذا استغرق وقت الصلاة ينزل منزلة الجنون، فتسقط به الصلاة أداء وقضاء، وأما الصوم، فالمنصوص أن الجنون يسقطه، فلو مرت أيام من رمضان في الجنون، ثم أفاق المجنون، فلا قضاء، ولو مرت أيام في الإغماء، فيجب قضاء الصوم، والذي زاده صاحب التلخيص أن من أصحابنا من جعل المسألة على قولين في الجنون والإغماء نقلاً وتخريجاً:
أحدهما: لا يسقط الصوم بواحد منهما، ويجب القضاء فيهما عند زوال العذر.
والثاني: لا يجب القضاء في أحدٍ من العذرين، وهذا لم أره لأحد من أصحابنا غيره.
ومما ذكره متعلقاً بأحكام الأمراض: أن الصائم إذا مرض في رمضان، وخشي زيادة الأوجاع، فله أن يفطر، وقد ذكرت في كتاب الصيام تقريب القول في الأمر المرعي في المرض الذي يبيح الفطر.
7602- قال الشيخ متصلاً بهذا: ما يجوّز للصائم في رمضان أن يُفطر قد يجوّز لمن لزمته كفارة الظهار أن يترك به صومَ الشهرين، فيتحول إلى الإطعام، وإن كانت الكفارة تقبل التأخير. هذا ما ذكره الشيخ، وقطع به وفيه تأمل على الناظر. نعم، لا يشترط أن يكون المرض مزمناً لا يرجى زواله حتى يجوز التحول، ولكن إن قلنا: الاعتبار في الكفارات بوقت الوجوب وكان مريضاً إذ ذاك، فيجوز التحول إلى الإطعام، وإن قلنا الاعتبار بوقت الأداء، ففي هذا أدنى نظر، يجوز أن يقال: إذا أطعم وهو مريض أجزأه الإطعام كما قال الشيخ، ويجوز أن يقال: إذا دام المرض شهرين، فالأمر على ما قال، وإن انقطع دون الشهرين، ففيه تردد والأظهر ما ذكره الشيخ.

.باب: الأوصياء:

قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يجوز الوصية إلا إلى بالغٍ حر عدلٍ... إلى آخره".
7603- نَصْبُ الأوصياء جائز، وجوازه متفق عليه، وقد صار أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوصاية تنزل منزلة الولاية، وليس الأمر كذلك؛ فإنها نيابة، غيرَ أنا نشترط في الأوصياء كثيراً من صفات الولاة، من جهة أن الوصاية أُثبتت مصلحةً، ولو رُدّ الأمر فيها إلى ظاهر القياس، لما صحت؛ فإن قياس النيابة أن تنقطع بموت المستنيب، من جهة أن النائب فرعُ المستنيب، فيبعد أن يتصرف بعد خروج أصله من التصرف، ولكن أثبت الشرع الوصاية نظراً للأطفال، وقياماً بالوصايا، وهي في النيابات تنزل منزلة الوصايا في التصرفات؛ فإن التصرفات حقها أن تنقطع بانقضاء العمر، ثم نفذت الوصايا بعد منقرض العمر، كذلك نفذت الوِصاية غير أنها أثبتت خارجة عن قياس وضع النيابة لمسيس الحاجة إليها، فاشترط لذلك اتصاف المنصوب بالصفات التي تطابق المصلحة، فظن أبو حنيفة أن اشتراط هذه الصفات ألحق الأوصياء بالأولياء، ثم ناقض هذا، فجوّز للإنسان أن ينصب عبدَه وصيّاً على أطفاله، ولم يجوّز أن يوصي إلى عبدٍ لأجنبي، ونحن لا نجوّز الوصاية إلى عبدٍ.
7604- والصفاتُ المرعية في الأوصياء خمسٌ: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والعدالة. ذكر الأصحاب هذه الصفات. والرشدُ لابد منه؛ فإن من لا يستقل وإن كان عدلاً لا يصلح للقيام على الأطفال، وتنفيذِ الوصايا، وإنما اشترطنا العدالة في الوصاية ولم نشترطها في الوكالة؛ من جهة أن من يوكل وكيلاً من أهل التصرف فإنما يوكله في حق نفسه، ويُحل تصرفَه محل تصرف نفسه، فلا معترض عليه. والوصي يتصرف في حق غير الموصي، فيجب أن يُرعى فيه استجماع الصفات التي ذكرناها.
فقد قال علماؤنا: إذا وكل الرجل وكيلاً، ثم قال له موكله: وكِّل فيما فوضت إليك وكيلاً، فليس لذلك الوكيل أن يوكِّل فاسقاً؛ فإنه إنما يوكّل على غيره؛ فيجب أن يرعى المصلحة فيه؛ فلا يوكِّل إلا موثوقاً به صالحاً.
وكذلك لمالك المال أن يودعه عند فاسق، والمودَع في نفسه إذا احتاج إلى المسافرة، وجوزنا له أن يودع الوديعة التي عنده، فيتعين عليه أن يودعها عند عدلٍ موثوق به.
ثم اشتراط التكليف بيِّنٌ؛ فإلب التصرف لا يصح إلا من مكلّف، واشتراط العدالة معلَّلٌ بما ذكرناه، واشتراط الحرية سببه أن العبد لا يستقل بنفسه؛ ولذلك لم يكن من أهل الولايات.
ثم مذهب الشافعي رضي الله عنه أن المكاتب لا يجوز أن يكون وصياً، كالقِنّ؛ فإنه وإن كان مستبداً بنفسه في تصرفاته وأكسابه، فلا يستقلّ استقلالاً تاماً، ولذلك يمتنع عليه كثير من التصرفات، وعند أبي حنيفة يجوز أن يكون المكاتب وصياً، وهذا أيضاً يناقض قول أصحابه: إن الوصي بمثابة الولي.
وأما اشتراط الإسلام فسببه أنا لا نثق بكافر، فإن أوصى مسلم إلى كافرٍ، لم يصح، وإن أوصى كافر إلى مسلم، صحت الوصاية، وإن كان يتصرف في حقوق أطفالٍ من الكفار، وهذا يوضح أن الوصاية ليست ولاية.
ولو نصب كافرٌ كافراً وصياً، ورفعت الوصاية إلينا، فهل ننفذها؟ وهل نقضي بها؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وهذا يقرب من التردّد في أنا هل نحكم بولاية الكافر على ابنته الكافرة؟ وإذا كان الظاهر أن ولي الكافرة كافر، فالظاهر أيضاً تنفيذ وصاية الكافر إلى الكافر، وهذا إذا كانت الوصاية لا تتعلق بحقوق المسلمين، مثل أن ينصب كافر كافراً في حقوق أطفاله الكفار، فأما إذا كان أوصى للمسلمين بوصايا، ونصب وصياً في تنفيذها فيبعد تصحيح الوصاية إلى كافر في مثل هذا.
7605- ثم قال أئمتنا العراقيون: هذه الأوصاف التي شرطناها في الوصي في أيةِ حالةٍ تراعى وتعتبر؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تعتبر يوم الموت، فإذا تحققت يومئذ، نفذت الوصاية مع القبول، ولا يضر اختلالها قبل ذلك. وهذا أصح الوجوه، وهو الذي قطع به المراوزة؛ فإنا نعتبر في أركان الوصية حالة الموت، فكذلك في الوصاية.
والوجه الثاني- أنا نعتبر حصول هذه الشرائط في وقتين:
أحدهما: وقت عقد الوصاية من الموصي، والثاني: حالة الموت، ولا يضر اختلالها بين هاتين الحالتين.
والوجه الثالث: أنه يشترط تحققها في الوقتين، ويشترط دوامها بينهما، حتى لو اختل شيء منها ما بين الوصاية والموت، بطلت الوصاية.
وهذا ضعيفٌ، لا أصل له.
7656- ثم إنهم لما ذكروا هذه الأوجه بنَوْا عليها حكمَ القبول، فقالوا: إن لم نعتبر الأوصافَ في حياة الموصي، فلا حكم على هذا القول لقبول الوصي ورده في حالة الحياة، كما لا حكم لقبول الموصى له ورده في حياة الموصي.
وإن قلنا: إنا نعتبر الأوصاف في حياة الموصي، فلا خلاف أنا لا نشترط قبول الوصي متصلاً بالإيصاء، فإن الوصي قد يكون غائباً، ولكن لو قبل الوصي المستجمع للأوصاف في حياة الموصي، فهل يثبت قبوله؟ ولو رد الوصاية هل يلزم رده؟ فعلى وجهين ذكروهما:
أحدهما: يلزم ردّه، ويثبت قبوله فيكونان كالرد والقبول بعد موت الموصي، والثاني: لا حكم لهما أصلاً.
وهذا هو الصحيح الذي لم يعرف المراوزة غيرَه.
ومما ذكره العراقيون في الأوصياء خلافُ الأصحاب في أن الأعمى هل يجوز أن يكون وصياً؟ وهذا فيه احتمال.
7607- ومما يتعلق بتمام القول في هذا الفصل تغير الوصي عن الصفات المشروطة في الوصاية بعد قبول الوصاية، واستقرارها: أما ما يُصيِّره مَوْليّاً عليه كالجنون، فلا شك أنه يُخرجه عن كونه وصياً، ثم إذا عقل، لم يعد وصياً بعد الانعزال.
فأما إذا فسق الوصي، فالذي دلّ عليه ظاهر كلام الأصحاب أنه ينعزل، ولا ينفذ بعد فسقه تصرفهُ بالوصاية.
وقد ظهر اختلافٌ بين الأصوليين في أن الإمام الأعظم لو فسق هل ينخلع بفسقه أو يخلع؟.
وذكر الفقهاء قريباً من هذا الخلاف في فسق القضاة والولاة الذين تلقَّوا الولاية من تولية الإمام، والقدر الذي نذكره هاهنا أن فسق الأئمة مختلفٌ فيه، ولو قلنا: الظاهر أنهم لا ينعزلون بنفس الفسق، لكان ذلك مستقيماً، والسبب فيه أن استمرار العصمة بعيد، والمصير إلى انخلاع الإمام بالفسق يخرم ثقة الخلق بالإمامة والزعامة، وليس وراء الإمام ناظر، فالوجه ألا يطلق القول بانعزاله.
وأما القضاة فللخلاف فيهم مجال؛ من جهة أن نظر الإمام محيطٌ بهم، فإن حكمنا بانعزالهم، لم يجرّ ذلك خللاً؛ فإن الإمام مستقل بالاستبدال عنهم من غير إفضاء الأمر إلى انتشار الرأي.
فأما الوصي؛ فإنه ليس ولياً، والعدالة مشروطة في منصبه اشتراط العقل، وهو من العقود الجائزة، فطريان الفسق عليه كطريان الجنون.
7608- ثم الوصاية لا تثبت إلا بالقبول على الرأي الظاهر، ومن أصحابنا من أحلّها محل الوكالة، وخرّجها على الخلاف المذكور في أنا هل نشترط القبول من المستناب؟ ثم إذا قبل الوصاية، لم يلزمه الوفاء بها، وله أن يعزل نفسه، كما للوكيل أن يعزل نفسه.
وخالف أبو حنيفة في هذا، فأوجب على الوصي الوفاء بالوصاية إذا قبلها.
7609- ومما يتصل بهذا الفصل أن الوصي إذا خرج عن كونه وصياً، تعين على السلطان أن ينصب قيّماً، ويقيمه مقامه، حتى لا تتعطل أمور الأطفال، وتنفذ الوصايا المنوطة بالأوصياء.
هذا إذا خرج الوصي عن كونه وصياً، فأما إذا لم يخرج عن كونه وصيّاً، ولكن عظمت أشغاله، وكان وحده لا يستقل بها، فالسلطان يضم إليه من يعينه حتى لا يتطرق الاختلال إلى مقصود الوصاية.
ولو لم يكن على الأطفال وصي، فحقٌ على القاضي أن يقيم عليهم قيِّماً على الشرائط التي ذكرناها في الإيصاء، فإذا نصب قيماً، ولم يستقلّ ذلك القيم بجميع الأشغال، فالقاضي إن أراد، صرفه، وأقام مستقلاً بالأمر. وإن أراد أن يضمّ إليه مضموماً، فعل.
ووصيُّ المتوفَّى إذا لم ينعزل ولكنه لم يستقل، فليس للسلطان أن يعزله؛ فإنه ما تلقَّى الوصاية من جهته، وإنما للسلطان بل عليه أن يضم إليه من يدرأ الخلل؛ حتى يحصل الاستقلال بهما، فأما القيم فأمره إلى الوالي، إن أراد صَرْفَه من غير سببٍ، لم يُعترض عليه.
هذا منتهى القول في الأوصياء، وصفاتهم المرعية، وبيان ما يطرأ عليهم، وتفصيل القول في القبول والردّ.
7610- ونحن نذكر الآن ما يتعلق بالأوصياء فنقول: إن كان في الورثة أطفالٌ، أو مجانين، وكان المتوفى يليهم لو كان حيّاً، فله أن ينصب وصياً عليهم؛ حتى يرعاهم. وإن كان الأطفال إخوةَ الميت، فهو لا يليهم حياً، فلا يصحّ أن ينصب عليهم وصياً، بل أمرهم مفوّض إلى السلطان، وهذا بيّن.
ولو لم يكن في الورثة مَوْليٌّ عليه، فلا معنى لنصب وصي على الورثة، ولكن إن أوصى بوصايا وفوض تنفيذها إلى الوصي، فهي إليه، ثم الوصايا قد تكون لجهاتٍ عامة، كالوصية للفقراء أو لبناء المساجد، أو لعمارة الثغور، وغيرها من وجوه الخير، فإن فوض تفصيلها إلى رأي الوصي، فلا معترض عليه ما وافق الشرع، وإن أوصى لمعيّنين، ونفذت الوصايا باتّساع الثلث وقبول الموصى لهم، فلا يكاد يظهر للوصي أثر، سيّما إذا كانت الوصية بأعيانٍ؛ فإن الذين لهم الوصية يأخذونها ولا يراجعون الأوصياء.
وإن أوصى بإعتاق عبد معين، فإنشاء الإعتاق إلى الوصي، وإن كان لا يملك العدول عن العبد المعين، والدليل عليه أن ذلك العبد المعين لا يعتِق، ما لم يُعتق.
وأما قضاء الديون، فلا يتعلق منه أمرٌ بالوصي؛ فإن الورثة لو أرادوا قضاء الديون من أموالهم واستبقاء أعيان التركة لأنفسهم، كان لهم ذلك؛ فإن أبَوْا أن يؤدوها من أموالهم، وأرادوا-وهم أهل رشدٍ لا يولّى عليهم- أن يتعاطَوْا بيعَ التركة وصرفَ الثمن إلى الغرماء، وكان المتوفى فوّض ذلك إلى الوصي، فهذا فيه تردّدٌ؛ من جهة أن الوصي نائب عن الموصي، فلا يبعد أن يقال: إذا لم يؤدِّ الورثةُ الديون من أموالهم، فله أن يتولى البيع ويحتاط، ولا يعترض عليه.
ويجوز أن يقال: التعويل على الورثة في ذلك. فليتأمل الناظر هذا الموضع.
فأما تجهيز الميت إذا لم يجْر فيه وصيةٌ منه في تعيين ثوب، أو مالط، فهو بمثابة الديون، وقد قدّمنا فيها تفصيل المذهب، ومحلَّ الوفاق وموضعَ التردّد.
وأما ردُّ الغصوب والودائع، فليس يتعلق بالأوصياء؛ فإن مُلاك الأعيان يأخذونها. نعم، مؤنة ردّ الغصوب من التركة، وسبيل تلك المؤنة كسبيل الديون.
7611- والمرأة إذا خلفت أولاداً، ونصبت عليهم وصياً، فهذا يخرّج على الخلاف المشهور في أن المرأة في نفسها هل تلي أطفالها إذا لم يكن لهم أب كافل؛ فإن قلنا: إنها تليهم، فلها أن توصي إلى إنسان وتنصب وصياً عليهم، وإن قلنا: إنها لا تلي في حياتها، فلا يصح منها نصبُ الوصي على أطفالها.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أوصى إلى رجلين، فمات أحدهما، أو تغيّر... إلى آخره".
7612- إذا نصب الرجل وصيين في أمورِ أطفاله وتنفيذ وصاياه، لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يجوِّز لكلٍّ منهما أن يستقل بالتصرف.
والثاني: أن يشترط عليهما أن يجتمعا في الأمور، ولا ينفرد واحدٌ منهما بنفسه.
الثالث: أن يطلق الإيصاء، ولا يتعرض لإثبات استقلال كل واحد منهما، ولا لنقيضه.
فأما إذا أثبت لكل واحد منهما أن يستقل، فلا إشكال، ولكن لو كان أوصى بصرف طائفةٍ من ماله إلى المساكين، مثلاً، وكل واحد منهما مستقل بنفسه، فلو أراد أحدهما أن يصرف الموصى به إلى أقوام من المساكين بعينهم، وأراد الثاني أن يصرفه إلى آخرين معينين عنده، فنقول أولاً: إن اتفق سبقُ أحدهما إلى التنفيذ، فلا معترض لما نفذه على موجب الشرع، وقول الموصي.
وإن اجتمعا وتنازعا، فمن أصحابنا من قال: الحاكم يقرع بينهما. وهذا فيه بعدٌ؛ فإنّ استعمال القرعة من غير ثبتٍ شرعي في كل موضع لا سبيل إليه، ولم يرد في مثل هذا استعمال القرعة.
ومن أصحابنا من قال: السلطان يضع ذلك المال فيمن يراه، على وَفْق الوصية والشرع، ويتركهما يتنازعان. هذا إذا كان فوّض إلى كل واحد منهما أن يستقلّ، فأما إذا شرط اجتماعهما، واعتضاد كل واحد منهما بالآخر أو أطلق الإيصاء إليهما، فعندنا أن إطلاق الإيصاء يقتضي ألا ينفرد كلُّ واحد منهما، كما لو قيّد الإيصاء بالاجتماع؛ فإن غرضه من جمعهما صدور الأمر عن رأي اثنين.
وهذا من الأغراض الظاهرة والمقاصد البينة، ثم كل ما أوضحنا أنه لا يتعلق بالوصاية، فلا معنى لربطه باجتماعهما، وهذا كردّ الودائع والغصوب، وكتسليم الأعيان الموصى بها إلى الموصى لهم؛ فإن هذه الأشياء لا وصية بها، ولا أثر للوصاية فيها.
فأما ما يتعلق بالوصاية، فلا يستقل واحدٌ منهما بنفسه.
هذا مذهب الشافعي وأصحابه، وأبو حنيفة يرى لكل واحد منهما أن يستقلّ، وهذا بناه فيما زعم أصحابه على أن الوصاية ولاية، في خبطٍ لهم طويل، لسنا له الآن.
ولو كان أوصى بعتق عبد معين، فلابد من اجتماعهما، ولا ينفرد بإعتاق ذلك العبد المعين أحدُهما؛ فإن الشرط اقترانهما في كل تصرف، لابد من إنشائه وإعتاق ذلك العبد المعين بهذه المثابة.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن اختلفا، قُسّم بينهما ما كان ينقسم... إلى آخره".
7613- أراد رضي الله عنه بذلك أن الوصيين إذا تنازعا في حفظ المال، فإن كان يجمعهما مسكن واحد، فإنهما يشتركان في مراقبة المال وصونه بالحفظ الممكن المعتاد، وإن كانا يسكنان مسكنين، قال الشافعي رضي الله عنه: إن كان المال قابلاً للقسمة، قسم بينهما، واستقل كل واحد منهما بحفظ حصته.
وإن كان المال مما لا ينقسم، وتعذر اشتراكهما في الحفظ، فإن اتفقا على رجل موثوق به واستحفظاه، فجائز، وإن لم يتفقا وتنازعا انتزعه الحاكم من أيديهما ووضعه على يدي عدل رضاً.
هذا ما ذكره الشافعي رضي الله عنه، وهو من مشكلات الباب وسؤالاته.
7614- فإن قيل: التفويض المطلق عند الشافعي إلى الوصيين يقتضي أن يشتركا في وجوه الاستصلاح، ولا ينفرد واحد منهما بوجه من الوجوه دون صاحبه، فإذا اقتسما المالَ، فكل واحد منفرد بحفظ مقدار، والاشتراك في الحفظ يزيد في الاحتياط، فليس المحفوظ في كلاءتين والملحوظ بعينين، كالمحفوظ بعينِ واحدٍ، كما أن التصرفات الصادرة عن رأيين مختصة بمزيد احتياط، فإذا اشترطنا صدور التصرفات عن نظرهما، فلمَ نجوز اختصاص كل واحد منهما بحفظ مقدار من المال لا يشاركه فيه صاحبه؟
قلنا: معظم هذه الأحكام المتلقاة من الألفاظ راجعٌ إلى حكم العرف، فإذا فوض الرجل تصرفاً إلى اثنين، اقتضى ذلك أن يشتركا فيه. هذا موجب اللفظ ومعناه، في فهم أهل العرف، وهو لائق أيضاً بالمقاصد، فرأى الشافعي رضي الله عنه أن نسبة تفويض التصرف بالوصاية إلى اثنين بمثابة توكيل رجلين ببيع أو غيره من التصرفات، فأما الاشتراك في الحفظ، فمّما يعسر تكليفه، ولا يُفهم من تفويض الوصاية إلى رجلين أن يتخذا مسكناً واحداً، ويشتركا في حفظه، فاقترن موجب العرف باللفظ، واحتكم عليه. وأما إصدار التصرفات عن نظرين، فمعتاد.
هذا ما يتوجه به النص، وما ذهب إليه جمهور الأصحاب.
7615- وذهب صاحب التقريب إلى طريقة خالف بها الأصحاب، وذلك أنه قال: إن فوض الوصاية إليهما على أن يستقل كل واحد منهما، فلا شك أنه لا يمتنع على هذا المقتضى استقلالُ كل واحد بحفظ مقدار من المال.
وإن كانت إضافة الوصاية إليهما تقتضي أن يشتركا في التصرفات ولا ينفرد بها واحد، فإن اقتسما المال بينهما على ما ذكرناه لينفرد كلُّ واحد منهما بحفظ مقدار، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن ذلك لا يسوغ؛ فإن الاشتراك فيه ممكن، وموجب التفويض الاشتراك، كما ذكرناه في التصرفات.
وهذا قياسٌ بيّنٌ.
والوجه الثاني- أن ذلك سائغ وتوجيهه ما ذكرناه.
ثم فرع على الوجهين، وقال: إن فرعنا على ظاهر النص، فإذا تنازعا، قسم المال بينهما إن كان مما ينقسم، وإن فرّعنا على الوجه الثاني، قيل لهما: إما أن تشتركا في الحفظ وفاءً بموجب التفويض المطلق المقتضي للاشتراك، وإما أن تمتنعا من ذلك، فيرى القاضي في حفظ المال رأيه.
ثم إن أخرج الإمام أو القاضي المال من أيديهما عند امتناعهما من الاشتراك في الحفظ، فهل للقاضي أن يستحفظ فيه رجلاً واحداً، أم يستحفظ فيه رجلين؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه لو أراد أن يستحفظ رجلاً واحداً، جاز؛ فإن اشتراكهما كان متلقّىً على الوجه الذي عليه التفريع من لفظه الموجِب لذلك، وكان لفظه مختصاً بهما.
فإذا امتنعا، انقطعت قضية الوصاية، وصار كأنه لم يوصِ أصلاً، ولو خلّف رجلٌ ذريةً، ولم يوصِ، فالقاضي بحكم نظره ينصب عليهم قيماً، كذلك في هذه المسألة.
والوجه الثاني- أنه يستحفظ رجلين؛ فإن الوفاء بذلك ممكن، وهو من مقاصد الموصي. وهذا ضعيفٌ لا شيء.
قال صاحب التقريب: هذا إذا كان المال مما ينقسم، فإن كان مما لا ينقسم، ففي المسألة وجهان على موجب النظر فإن قلنا في المال المنقسم: إنه لا يقسم بينهما، بل ينتزعه القاضي منهما، فهذا متحقق في المال الذي لا ينقسم، ثم التفريع فيه ما تقدم، وإن قلنا: يقسم القاضي المال بينهما، فإن كان مما لا ينقسم قال: في المسألة وجهان:
أحدهما: أنه ينتزعه منهما؛ إذ لا سبيل إلى القسمة، وقد امتنعا من الاشتراك في الحفظ.
والوجه الثاني: أن الوالي يقرع بينهما، فمن خرجت قرعته سلّم إليه المال.
هذا تفصيل القول في حفظهما وتنازعهما فيه.
7616- ومما يجب الإحاطة به أنا أطلقنا وجوب الاشتراك في التصرفات، وليس المعنى به أن يتلفظا بإيجاب البيع وقبول الشراء، ولكن الغرض أن يجري كل تصرف صادر عن نظرهما ورأيهما، فإذا حضرا العقد ونظرا، ثم قال أحدهما لصاحبه: اشتر هذا بكذا أو بعه، ووافق العقدُ رأيهما، فذلك جائز وفاقاً، وكذلك إذا وكلا من يبيع ويشتري بحضرتهما، فهو جائز لصدور العقد عن رأيهما.
ولو وكلا من يشتري على ما يرى أو يبيع كذلك من غير أن يراجعهما، لم يجز ذلك.
فإن قيل: إذا ارتضيا ذلك، فقد جرى التوكيل عن رأيهما؟ قلنا: هذا رأيٌ يتضمنه إثبات الاستقلال لشخص، وهو مخالف لرأي الموصي وموجب لفظه المقتضي للاشتراك، كما تقدم ذكره.
فإن قيل: قد تكلفتم تعليل انفراد أحد الوصيين بحفظ مقدار بالعرف، فهلا قلتم: إذا ارتضى أحدهما بحفظ الثاني وأمانته وفوّض إليه الحفظ جاز، كما لو فوض إليه إنشاء عقد؟ قلنا: إنه يرى أولاً رأيه في العقد، ثم يفوّضه بمرأى منه، أو على غيبةٍ قريبة لا يختلف في مثلها وجوه الرأي، فأما الحفظ، فالمنفرد مستقل به ولَحْظُ صاحبه منقطع عنه، وهو بمثابة ما لو فوض أحدهما إلى الثاني النظرَ في التصرفات، وجوز له أن ينفرد بها من غير مراجعة صاحبه في تفاصيل العقود، ولو فعل ذلك لم يجز. فهذا منتهى الغرض.
فصل:
قال: "وليس للوصيّ أن يوصي... إلى آخره".
7617- إذا نصب وصيّاً، ولم يجعل إليه أن يوصي بتلك الوصاية إلى وصيٍّ عند موته، فليس له أن ينصب وصياً؛ فإن الوصاية تقتضي تفويضَ التصرف المذكور إلى الوصي، فأما إقامته غيرَه مقام نفسه عند انقطاع تصرفه، فليس من مقتضيات الوصاية، ولا مما يقتضيه العرف، حتى يُعتقَد تقيّد اللفظ به.
نعم، إذا وكّل الوصي المطلقُ في حياته وكيلاً صالحاً موثوقاً به، فهو جائز؛ فإنّ العرف يقتضي اقتضاءً ظاهراً تجويز ذلك، وهذا كما أن العامل في القراض يوكّل ويستنيب في تفاصيل تصرفاته، ولا ينصب مقارضاً.
فأما إذا قال: أوصيت إليك بكذا فقُمْ فيه، وأوْصِ إذا حضرتك الوفاة بهذه الوصاية إلى وصيّك، ففعل ممتثلاً لإذنه، ففي جواز ذلك قولان:
أحدهما: أنه يجوز، لأن الموصي الأول أذن في ذلك، ورضي به.
والقول الثاني- لا يجوز؛ لأن الوصاية المتعلّقة بموته المتصلة به جائزة شرعاً جوازاً خارجاً عن القياس، كما سبق التنبيه عليه في صدر الباب.
فأما إثبات أوصياء متعاقبين يخلف البعض منهم البعض، فلا توقيف فيه والأصل مفتقر إلى التوقيف.
ولو قال للأول: أنت وصيي في كذا وكذا، فإذا متَّ وأوصيتَ إلى رجل، فهو وصيي فيما أنت وصيي فيه، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بأن من يعيّنه الوصي الأول إذا حضرته الوفاة يصير وصياً للموصي الأول؛ فإنه هو الذي نصبه وصياً نصباً معلقاً، والتعليق غير ممتنع في نصب الأوصياء؛ إذ لو قال: أنت وصيي إلى أن يبلغ هذا الصبي رشيداً، ثم هو وصيي، أو قال: أنت وصيي، فإذا قدم فلان، فهو وصيي، فهذا جائز.
ومن أصحابنا من جعل المسألة على قولين في الصورة التي ذكرناها، وفرق بأنه إذا عيّن شخصاً وعلّق الوصية إليه بمقدمه، فهو جائز قولاً واحداً؛ لأنه عالم به، وإذا قال: من أوصيتَ إليه، فهو وصيِّ، فهذه جهالة تقطع نظر الموصي عن الوصي الثاني، ولا يصح نصب الوصي كيف كان، بل لابد من رعاية صفات فيمن ينصب وصياً، فإذا كانت رعايتها إلى الوصي الأول، فهو المتخير إذاً، والصور التي ذكرناها في تعليق الوصاية مفروضة في معيّنين.
والصحيح قطعُ القول بانتصاب الوصي الثاني وصيّاً بنصب الوصي الأول، ولا حاصل في الجهالة التي ذكرناها، حتى ذهب ذاهبون من الأصحاب إلى تغليط المزني في نقل القولين في الصورة التي قطعنا القول فيها. وقد ذكر قولين في هذه الصورة.
فرع:
7618- إذا نصب وصيين، وجعل إليهما التصرف جمعاً، فقد ذكرنا أنه لا ينفرد أحدهما بالتصرف، فلو فسق أحدهما، أو مات، فيقيم القاضي مقامه آخر، فلو أدى اجتهاد القاضي إلى تفويض الأمر إلى الثاني، ورآه مستقلاً كافياً ليكون منصوباً من جهته، ووصياً من جهة الميت، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون:
أحدهما: لا يجوز؛ فإن الميت لم يرض إلا بشخصين، فلابد من ارتسام رسمه.
والثاني: يجوز؛ فإن رسمه إنما يمتثل ما بقي الوصيان، فإذا خرج أحدهما عن الوصاية تعذَّر اتباع أمره وفات رعاية اجتماعهما، ثم القاضي يرى رأيه.
قالوا: كذلك إذا ماتا جميعاً، أو فسقا، فهل يتعين على القاضي نصبُ شخصين أم يجوز أن ينصب شخصاً واحداً؟ فعلى. وجهين، وذكر الخلاف في هذه الصورة بعيد؛ فإنه إذا بقي أحدهما، فهو متعلّق الوصاية، فلا يبعد اشتراط ضمِّ شخص آخر إليه؛ فإذا خرجا جميعاً بالفسق عن الوصاية، أو ماتا، فقد زالت الوصاية بالكلية، فصار كما لو لم يوصِ أصلاً.
فصل:
7619- إذا نصب وصيّاً، وعيّن له شغلاً، لم يكن له أن يتصرف في غير ذلك الشغل المعيّن، خلافاً لأبي حنيفة. وسرّ المذهب على ما بنينا الباب عليه، من أن الوصاية نيابة مترتبةٌ على الاستنابة، فلا تعدو محلّ الإذن كالوكالة.
فرع:
7620- الجد أب الأب أوْلى عند عدم الأب، فلو أوصى الأب في أمور أطفاله إلى أجنبي، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن الوصي هل يتصرف بالوصاية؟ منهم من قال: الوصاية باطلة مع الجد أب الأب، إذا كان مستجمعاً لشرائط الولاة؛ فإن الوصاية إنما أثبتت لعدم الولي الخاص، وولاية الجد أقوى، وهو بالتصرف والنظر أولى من الوصي الأجنبي.
ومن أصحابنا من قال: الوصي أولى؛ لأنه بمثابة الأب بعد وفاته، فكان مقدّماً على الجد، كما يتقدم وكيل الأب على الجد في حياة الأب، وهذا التردد في ولاية الأطفال.
فأما إذا وصى إلى أجنبي صرف صدقةٍ أو غيرِها من جهات التبرعات، فهو أولى من الجد، لا خلاف فيه.
7621- ثم عقد المزني باباً في تصرف الوصي في مال اليتيم وقد أتينا به على أحسن مساق في كتاب البيع، وذكر فصولاً من الفروع: أولها- أن الوصي لا يملك التزويج بالوصاية، وهذا وما يتصل به سيأتي في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل.
7622- وقد نجزت المنصوصات من كتاب الوصايا، ونحن نرسم مسائل انسلّت عن ضبط الأبواب، ونأتي بها على غير نظام ترتيب، وبنجازها نجازُ الوصايا، إن شاء الله عز وجل. منها: إن المريض في مرضه المخوف لو قدّم بعضَ الغرماء بتمام حقه، وكانت التركة تضيق عن جملة الديون، ولو قسمت، لنقص حق كل واحد منهم، فإذا توفي والمسألة كما صورناها، فهل نسترد من الذي قدمه المقدار الذي يزيد على حصته عند المضاربة؟ فعلى وجهين حكاهما صاحب التقريب عن ابن سُريج:
أحدهما: لا نسترد شيئاً، ونُمضي ما فعله؛ فإن ما صدر منه لا يسمّى تبرعاً أصلاً.
والوجه الثاني- أنا نسترد؛ فإن ما يفعل في المرض بمثابة ما يوصي به، ولو أوصى بتقديم بعض الغرماء، لم نقدمه.
7623- ومنها أنه لو ضمن عن وارثه في مرضه لأجنبي، قال الأصحاب: لا يصح ذلك؛ فإنها وصية لوارث، أو نازلة منزلة الوصية؛ إذْ لو أدى لأدى عن وارثه. ولو ضمن في مرض موته ديناً عن أجنبي لوارثه، ففي المسألة وجهان ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: لا يصح، كالصورة الأولى لتعلّق الضمان بوارثه.
والوجه الثاني- أنه يصح؛ فإنه لم يزد الوارث على حقه المستحق شيئاً، وهذا فيما إذا ضمن ضماناً يثبت له الرجوع على المضمون عنه وليس يتضح بين المسألتين في الضمان-الأولى وهذه- فرقٌ سديد.
7624- ومنها لو قال لإنسان: ضع ثلثي فيمن شئت وأين شئت. فلو أراد الوصي أن يضعه في نفسه، فيكون مستحقه، قال صاحب التقريب: ليس له ذلك. وفيه احتمال عندنا على بُعد.
قال: ولا يضعه أيضاً في وارث الموصي؛ فإنه وإن لم يقصد وارثه، فإذا رددنا الوصية للوارث، فلا ينبغي أن يصل شيء من الوصية إلى الوارث، سواء قصد بها أو أطلقنا الوصية ولم نقصد بها، فلا يدفع إليه شيء في الحالتين.
ثم قال: فلو دفع قسطاً مثلاً من الثلث في هذه المسألة إلى الوارث على سبيل الوصية، فما الحكم فيما دفعه إليه؟ فذكر فيه وجهين:
أحدهما: أنه يُسترد، ويردّ إلى الوصي ليضعه حيث شاء.
والثاني: أنه ينقلب ذلك القدر ميراثاً، فإنه وضعه حيث شاء، فانتهى تصرفه في ذلك القدر، ولكن لما بطل رُدَّ ميراثاً. وهذا ليس بشيء.
7625- منها لو قال المريض وقد نصب وصياً: "قد أوصيت بثلثي لرجل سميته لوصي هذا، فإذا مت، وجاء فذكره وسماه، فصدقوه فيما يقول، وسلموه إلى من يسميه، فإنه صادق". فإذا سمى ذلك الوصي رجلاً، وكذبه الوارث فله تكذيبه؛ فإنه يجوز أن يكذب وقد كلف ورثته بتصديقه فيما يجوز كذبه فيه.
نعم لو شهد الوصي لذلك الرجل وحلف مع شاهده، ثبت المقصود.
7626- ومنها أنه إذا كان للمريض دين على وارثه، وقد ضمن عن الوارث أجنبي، فأقر في مرض موته أنه استوفى الدين من الوارث، فقد اختلف قول الشافعي في أن الإقرار للوارث هل يقبل. فإن قلنا: لا يقبل إقراره للوارث، فيبقى الدين على الوارث، ولا يبرأ عنه بإقرار المريض. فأما الأجنبي، فهل يبرأ عن الضمان؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يبرأ عن الضمان؛ فإن الإقرار وإن رُدّ في حق الوارث، وجب قبوله فيما يتعلق بحق الأجنبي.
والثاني: أنه لا يبرأ؛ فإن أصل إقراره مردُودٌ في حق الوارث وبراءة الكفيل تبعٌ لبراءة الأصيل في مثل هذه الصورة.
وبمثله لو كان له دين على أجنبي، والوارث ضامنٌ به، فأقر بأني قبضتُ ذلك من الأصيل يقبل إقراره في حق الأصيل، وهل يبرأ الضامن الوارث؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: لا يبرأ؛ لأن الإقرار في حق الوارث مردود.
والثاني: يبرأ؛ فإن الإقرار إذا قبل في الأصل، فبراءة الوارث تقع تبعاً. ثم ذكر صاحب التقريب مسلكاً ثالثاً فقال: إن رددنا الإقرار في حق الوارث، لم يبعد أن نردّه في حق الأجنبي؛ من جهة أن الإقرار لا يتبغض في هذا المقام، فإذا وجب ردّه، فالوجه تعميم ذلك؛ إذ يستحيل مطالبة الضامن مع الحكم ببراءة الأصيل.
7627- ومنها مسألة فرّعها صاحب التقريب على قولنا: إن الوصية للقاتل باطلة، فقال: لو أوصى لزيد بألف ولعمرو بألفٍ، وخلّف ابنين، فأقام أحدهما بيّنة أن زيداً قتله، وأقام الثاني بينةً أن عمراً قتله فقد ذكر أقوالاً متشعّبة من أصول مشهورة في الدعاوى:
أحدهما: أن البيّنتين تتهاتران وتسقطان جميعاً مقرراً وصيتهما.
والقول الثاني- أن كل واحد من الابنين يستحق نصفَ الدية على الذي ادعى أنه قتل أباه، ويبرأ عن حصته من الوصية، ويكون نصف وصيته على الابن الذي لم يدّع أنه قتله.
والقول الثالث: أنه يجعل كما لو قتلاه اشتراكاً، فتسقط الوصيتان، ويشتركان في الدية. وهذا قول بعيد، لا أصل له.
7628- ومنها أنه لو وقف ذمِّيٌّ على كنيسة شيئاً، فرفع إلينا، فلا ننفذ وقفه، ومثله لو كان نفذه قاضيهم، ثم رفعوه إلينا، قال: فيجوز ألا ننقضه، ونجعل إبرام قاضيهم بمثابة ما لو اشترى واحد منهم خمراً وقبضه؛ فإنا لا ننقض عهدهم.
والصحيح أنه لا أثر للقضاء في ذلك، بل لا وقع لأحكام قاضيهم.
7629- ومنها أنه لو قال لأمته: إذا مت فأنت حرة، على ألا تتزوجي، فإذا مات، فإن قبلت ذلك، عَتَقَت. قال: ولابد من قبولها، وإن كان لا يلزمها الامتناع من التزوج، ولكن قال: لابد من القبول لتعتِق، كما لو أعتق الرجل أمته على خمرٍ؛ فإنها لا تعتِق ما لم تقبل، وسيأتي أصل ذلك في النكاح، والخلع-إن شاء الله عز وجل- ثم ينبغي أن يقع قبولها بعد الموت، هكذا قال.
ثم قال: ولو قال لأمته المسلمة: إذا مت، فأنت حرة إن بقيتِ على الإسلام، فلا تَعتِق بالموت ما لم تقبل.
ثم قال: إذا قبلتْ عَتَقت، ويلزمها قيمتُها، كذلك القيمة تلزم إذا التزمت أن لا تتزوج.
وهذا الذي ذكره صاحب التقريب في الإسلام بعيد؛ فإن الإصرار على الإسلام ليس مما يتخيل مقابلته بمال، بخلاف الامتناع عن التزوج؛ فإنها في امتناعها معطِّلة على نفسها حقَّها من الاستمتاع، فالوجه أن نجعل التعليق بالإصرار على الإسلام تعليقاً محضاً.
ثم في النفس شيء من الحكم بعتقها في الحال، فإن عنى بقوله: إن بقيت مسلمة بقاءها على الإسلام إلى وقت موته، فلا إشكال، وإن عَنَى بقاءها على الإسلام إلى موتها، فالحكم بالعتق ولم يتحقق ما يكون منها فيه نظر، إذا أخرجنا التزام ذلك على قياس المعاوضات، ولا يتبين حقيقة الأمر ما لم تمت على الإسلام في ظاهر الأمر، ثم يستند الحكم.
ولفظ صاحب التقريب في المسألة أنه قال: إذا متُّ، فانت حرة إن بقيتِ على الإسلام، وهذا تعليقٌ في صيغته.
ولا يبعد أن يقال: لو قال لها: إذا مت، فأنت حرة إن لم تتزوجي، فذكر امتناعها على صيغة التعليق لا على صيغة الإلزام المقتضي للقبول، فلا نحكم بحصول العتق في الحال ما لم ينقضِ عمرها.
ثم يعترض في هذا إشكال، وهي أنها إن تزوجت، فقد خالفت، وإن استقلت، فهذا فاسد، والفاسد لا حكم له، وإن زوجها الوارث، فإذ ذاك نتبين أنها ما عتقت، وسيأتي دقائق العتق والتدبير والتعليقات إن شاء الله عز وجل.
فرع:
7630- لو أوصى بجاريةٍ لإنسان ومات الموصي، فعلقت بعد الموت بمولودٍ، وانفصل قبل القبول، قالوا: الولد إما أن يكون للورثة على قولٍ، أو للموصى له، ولا يكون محسوباً من التركة، حتى يُقضى منه الدين، وطرد العراقيون هذا في جميع زوائد التركة إذا فرضت قبل اتفاق صرف التركة إلى الديون. هذا ما ذكره العراقيون، ثم قالوا: من ذهب مذهب الإصطخري فقال: إذا كان في التركة دين، فلا يملك الورثةُ التركةَ، فعلى هذا ما حصل من زيادة فيكون حكمها حكم التركة.
7631- ومما ذكره العراقيون أنه إذا أوصى بعبدٍ قيمته مائة وخلف مائتي درهم، وكانتا غائبتين، وتعذر الوصول إليهما في الحال، فلا يسلم جملة العبد إلى الموصى له في الحال؛ فإنا لا ندري تَسْلمُ الدراهم للورثة أم لا تسلم؟ ولكن نصرف ثلث العبد إلى جهة الوصية، ونرقب العاقبة.
ثم قال العراقيون إذا صرفنا ثلث العبد إلى الوصية، فلا نقول: إن تصرف الورثة ينفذ في بقية العبد، فإنا نقدّر وصولَ المال إليهم، ولو وصلت الدراهم يسلم تمامُ العبد.
ثم إذا منعناهم من التصرف في ثلثي العبد، فهل ينفذ تصرفات الموصى له في الثلث الذي صرفناه إليه في الحال؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه ينفذ تصرفه فيه؛ فإنه يسلم له ثلث العبد على كل حال، فلا شيء يتوقع مما ينقص هذا الثلث، وليس كذلك الورثة؛ فإنا إنما منعناهم عن ثلثي العبد، حتى تصل إليهم التركة.
والوجه الثاني- أنه لا ينفذ تصرف الموصى له في الثلث رعاية للتسوية بين الورثة وبين الموصى له؛ إذ يبعد أن لا يسلم للورثة شيء ولا ينفذ تصرفهم، وينفذ تصرف الموصى له.
وناصر الوجه الأول يقول: إذا كان لا يطمع الورثة في ثبوت حق لهم في الثلث، فلا معنى للحجر على الموصى له فيه، وهو يتعين لاستحقاقه لا محالة، ثم إن لم يتصرف الورثة، فسببه بيّن، وعلته ظاهرة، والضرورة في أطراف المسائل تؤدي إلى أمثال هذا.
7632- وهذا الفصل لا يشفي ما لم نفصل القول في الغيبة: فإن كان المال الغائب بحيث يعسر الوصول إليه لخوفٍ، أو لسبب من أسباب الحيلولة، فيظهر فرض المسألة التي ذكرناها هاهنا، ولا يجوز بيع مثل هذا المال؛ فإنه غير مقدور عليه، إلا أن يفرض بيعُه ممن يقدر عليه.
فأما إذا كان المال غائباً والطرق آمنة، وكان الوصول إليه في العرف يُعدّ متيسراً، وقد جرت الوصية بالعبد الحاضر، فقد رأيت في كلام الأئمة تردّداً في أن هذه الغيبة هل تعد حيلولة مع إمكان التصرف في المال أم لا؟ وبنَوْا على هذا التردّد اختلافاً في أنه هل يجب إخراج الزكاة عنه، مع وجوبها فيه، وهذا القدر لا يُلحق المال بالمجحود والمغصوب حتى يَخْرجَ في أصل وجوب الزكاة قولان، ولكن إذا وجبت هل يجب تنجيز الإخراج؟ فيه الخلاف الذي أشرنا إليه، فإن أوجبنا إخراج الزكاة في الحال، فلا أثر لهذه الغيبة، وإن لم نوجب إخراج الزكاة في الحال فيجوز أن نقول: لا يسلم إلى الوصية إلا ثلث العبد، ولكن يجب القطع بنفوذ تصرف الموصى له؛ لأن تصرفات الورثة نافذة في المال الغائب.
هذا تمام ما أردناه.
فصل:
7633- إذا أوصى أن يحج عنه فلان بمائة، ففي المسألة أحوال: أحدها: أن يكون الحج فرضاً، وكانت المائة أجرَ المثل، فلا شك أنها من رأس المال، فإن حج ذلك المسمى، فذاك، وإن لم يحج، أحججنا عنه غيرَه.
فإن وجدنا من يحج بأقلّ من مائة، أحججنا عنه ذلك الإنسان. فلو قال ذلك المعين: قدِّروا هذا وصيةً لي، فأحجوني بالمائة، وإن قدرتم المائة تبرعاً فالثلث وافٍ. قلنا: ما ذهب إليه معظم الأصحاب أنا لا نجيبه إلى ذلك؛ فإنه ليس متبرَّعاً عليه، والوصية إنما تنفذ بالتبرع، وهو بمثابة ما لو قال: لا تبيعوا تركتي في صرفها إلى ديوني إلا من فلان، فهذه الوصية باطلةٌ لا معنى لها.
ولو كانت المائة أكثر من أجر المثل، فالزيادة على أجر المثل وصية، فإن لم يكن المعيّن وارثاً ووفى الثلث، وجب إحجاج ذلك المعيّن، فإن لم يحج ذلك المعيّن، أحججنا آخر بأجر المثل، أو أقل إن وجدنا من يسامح.
ولو كان الحج تطوعاً، وجوزنا النيابة فيه، فالأجرة بكمالها من الثلث، وإن لم يحج الشخص الذي عينه الموصي، فهل نستأجر غيره ليحج؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا نستأجر غيره فتبطل الوصية كما لو قال: اشتروا عبد فلان فأعتقوه، فلم يبع فلان العبد؛ فإنا لا نشتري عبداً آخر.
والوجه الثاني- أنا نستأجر غيره؛ فإن المقصود الظاهر الحج، فلا نعطل المقصود الظاهر بتعذّر تحصيله من جهة شخص معين، وليس كما لو عين العبدَ؛ فإن مقصودَه الظاهر تحصيل العتق لذلك العبد.
ولو عين لحج التطوع وارثاً، وسمى له أكثر من أجر المثل، فالزيادة وصية، والوصية للوارث باطلة، فإن حج الوارث عنه بأجر المثل، فذاك، وإن أبى، أحججنا عنه غيرَه بأجر المثل.
ولو قال: أحجوا عني رجلاً بألف درهم، وكان الألف زائداً على أجر مثل كل من يحج، ولم يعيّن أحداً، فمن أصحابنا من قال: هذه الزيادة باطلة؛ فإنه لم يعيّن لاستحقاقها رجلاً، وليس صرف هذه الزيادة من جهات الخير، فلا معنى له، فنُحِج عنه بأجر المثل.
ومن أصحابنا من قال: الوصية صحيحةٌ، ويجب تنفيذها، والتعيين إلى الوصي.
وهذا تمام مسائل الوصايا.