فصل: كتاب الوديعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الوديعة:

7634- قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} [النساء: 58]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علامة المنافق ثلاث: إذا قال كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وقاعدة الوديعة متفق عليها، وتردد فقهاؤنا في تسميته عقداً.
وهذا الاختلاف سببه أن القبول ليس شرطاً من المودعَ وفاقاً، وإنما اختلف الأصحاب في التوكيل بالعقود وما في معناها، والأصح أنه لا يشترط القبول في الوكالة على أي وجهٍ فرضت، وقد سبق تفصيل هذا في كتاب الوكالة، وليس للاختلاف في أن الإيداع عقدٌ فائدة فقهية.
ثم الأمانة تثبت تبعاً لمقاصد في عقود، وتثبت مقصودةً في الإيداع، فأما حصولها تبعاً، فمثل ثبوت حكم الأمانة في الرهن، والإجارة، والقراض، ورقاب الأشجار في المساقاة، وكل ما يقبض مستحق المنفعة سبيلها ما ذكرناه.
ومعنى قول الفقهاء: "الائتمان مقصود في الإيداع" أن نفس الإيداع حكمٌ من المودِع بائتمان المودَع؛ فإنه أحله محل من يؤتمن، فكان مؤاخذاً بوضع الإيداع ومقتضى الائتمان، وإلا فمقصود الإيداع حفظ الوديعة، ولا حظ للمودَع من الوديعة أصلاً.
ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا أودع رجل وديعة، فلم يثق بأحدٍ يجعلها عنده، فسافر بها بحراً وبراً، ضمن... إلى آخره".
7635- مضمون هذا الفصل أن المودع إذا طرأت عليه حالة حملته على المسافرة، أو أراد أن يسافر مختاراً من غير إرهاق واضطرار، فماذا يصنع بالوديعة؟ أيسافر بها أو يودعها؟ قال الأئمة: إذا أراد المودع المسافرة، وكان صاحب الوديعة حاضراً، فيتعين عليه ردُّها كما سنصف معنى رد الوديعة، إن شاء الله، وإن لم يكن حاضراً، وكان وكيله بقبض الودائع والحقوق حاضراً، فانه يسلمه إليه، ولا طريق غيره. ولو لم يجد مالكَ الوديعة، ولا وكيلاً من جهته، فإن كان في الموضع حاكم، راجعه وسلّم الوديعة إليه، ثم الحاكم إن قبضها بنفسه، فذاك، وإلا أقام في حفظها موثوقاً به، فينزل ذلك القائم منزلةَ الحاكم.
ولو أراد أن يسافر بالوديعة أو يودعها عند إنسان مع القدرة على مراجعة الحاكم، لم يكن له ذلك، ولو فعل، ضمن.
فأما إذا خلا المكان عن حاكم يراجَع، ولم يكن في الموضع صاحب الوديعة ولا وكيله، فلو أراد المودع أن يودع الوديعة عند أمينٍ، فظاهر النص هاهنا أن له ذلك.
وقال الشافعي في كتاب الرهون: العدل الذي عدّل الرهن عنده، لو أراد سفراً، فأودع ما عنده عند أمين، ضمن. وإنما قال ذلك في شغور المكان عن الحاكم، فلم ير علماؤنا بين المسألتين فرقاً، وجعلوا المسألتين على قولين:
أحدهما: أنه يضمن؛ لأنه المودَع والمستحفظ، والحفظ أمرٌ خاص، وليس للمأمور في الشغل الخاص أن يقيم غيرَه مقام نفسه، فإذا فعله، كان مخالفاً لموجب الإيداع مجاوزاً لما يتضمنه أمر المالك.
والقول الثاني- أنه لا يضمن؛ فإنا لو ضمناه، وقد تمس الحاجة إلى المسافرة، لكان ذلك ضربَ حجر عليه، وفي هذا خرمُ أصل الإيداع؛ فإن المودَع متبرع، ولهذا صُدِّق فيما يدعيه من ممكنٍ من الرد والتلف؛ إذ لو لم يصدَّق، لما رغب في الحفظ متبرعٌ. كذلك لو اقتضت الوديعة حجراً، لجر ذلك امتناعَ الناس عن حفظ الودائع. وحق ما يتفرع من الأصول أن يرد إليها ويجري على حسب أصولها.
ومما يذكر أنه لو سافر بالوديعة حيث لا حاكم، ولا مالك، ولا وكيل، فإن كانت الطرق مخوفة، فلا شك في امتناع المسافرة بالوديعة. فإن كانت الطرق آمنةً آهلة، والمعنيُّ بالأمن فيها غلبة الظن في السلامة، من غير قيام سبب من الخوف معلوم أو مظنون، ومن حكم تصوير الأمن قيام أسبابه: من إيالة ضابطة، ويدٍ من الوالي العدل بطَّاشة، وترتب من الناس في الأطراف، حتى لو لم يعلم بسبب الأمن، فالمسافرة غرر وإن لم يكن سبب الخوف بهذا القدر لابد من الإحاطة به في بيان معنى الأمن.
فإذا كانت الطريق آمنة على ما فسّرنا، فالذي أطلقه الأصحاب منع المسافرة، وحكَوْا فيه خلاف أبي حنيفة، وأقاموا المسألة خلافية. وهذا ظاهر المذهب.
وذكر صاحب التقريب وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه، وهو الذي صححه ورآه أصل المذهب.
والوجه الثاني- أن المسافرة بالوديعة جائزة، وهذا الوجه يوافق مذهب أبي حنيفة، ووجهه على بعده أن يده مستدامة، والمسافرة مع الأمن بمثابة الإقامة، والأموال المضنون بها كأموال الأطفال يسوغ المسافرة بها.
7636- فهذه مسائل أوردها الأصحاب في الطرق، فجمعناها مرسلة. ونحن الآن ننعطف عليها، ونذكر رباطها والفقه المعتبر فيها.
فأما تعين مراجعة المالك ووكيله والحاكم، فلا إشكال فيه، إلا أن المودع إن سافر مضطراً أو محتاجاً، فيتعين على الحاكم أن يقبل الوديعة منه، إما بنفسه أو بإقامة صالح للحفظ.
فأما إذا كان سفرُ المودع عن اختيار من غير حاجة حاقّة، ولا ضرورة مرهقة، فإذا راجع الحاكم، فإن أسعفه الحاكم، فلا إشكال، وهل يجب على الحاكم أن يسعفه؟
هذا مما اختلف فيه العلماء المتكلمون في أحكام الإيالات-والشريعة بحاجة إليها، وليس للفقهاء اعتناء بها- فمنهم من قال: يجب على الحاكم ذلك؛ على أصل وجوب الإعانة وهو من أقطاب الإيالة.
والثاني-لا يجب ذلك؛ إذ لا حاجة، والقيام بمآرب الخلق غيرُ ممكن.
ولا خلاف أن المودع لو أراد رفعَ اليد عن الوديعة وتسليمَها إلى الحاكم، لم يجب على الحاكم قبولها منه، مع استدامة الإقامة. هذا القدر كافٍ، ولا نتعداه فنقع في دقائق أحكام الإيالة.
7637- فأما ما ذكرناه عند شغور الناحية عن الحاكم من التردد في جواز الإيداع وجواز المسافرة، ففي هذا المقام نظرٌ من وجوه: من أصحابنا من لم ير المسافرة أصلاً إذا لم يكن ضرورة، وسأصف الضرورة في أثناء الفصل، إن شاء الله.
فهؤلاء يقولون: في الإيداع قولان، وعليهم تفصيلٌ لابد منه، فإن وقعت ضرورة أرهقت المودع إلى الخروج، وقد منعناه من المسافرة بالوديعة، فالذي أراه هاهنا القطعُ بأنه إذا أودع، لم يضمن؛ فإنا لو ضمّناه، لصار الإيداع متضمناً عهدةً، وهذا يخالف وضعَ الوديعة.
وبيان ذلك أن الأحوال المتقلبة قد تُفضي إلى الضرورات المزعجة الحاملة على الخروج، فإن قلنا: لو أودع-والحالةُ هذه- يضمن، فلا سبيل إلى المسافرة إذا كان يجر ذلك ما ذكرناه من إفضاء الإيداع في بعض الأحوال إلى ضمانٍ لا محالة، وتحقيقه أن الضرورة المزعجة تسوّغ له الخروج إن لم توجبه، فإن قلنا: يمتنع الإيداع، والمسافرةُ بالوديعة ممتنعةٌ، فهذا جمع النقيضين.
وإن قلنا: يجوز له الإيداع على شرط الضمان، كان هذا خروجاً عن وضع الوديعة بالكلية؛ فإن وضع الوديعة على أن كل ما يسوغ لا يضمن.
وإذا لم تكن ضرورة، ففي هذا نظر دقيق في أنا نحرّم عليه الخروج؛ لمكان الوديعة، أم نقول: له الخروج، ولا يسافر بالوديعة ويودع على شرط الضمان؟
وهذا فيه احتمال عظيم؛ فإنا إن حجرنا عليه لمكان الوديعة، كان عظيماً، وأدنى ما فيه امتناعُ الناس. عن قبول الودائع، وليس هذا هيناً في الوديعة؛ فإنا بنيناها على مخالفة الأصول لتحقيق مقصودها، فصدَّقنا المودع، وهو في مقام المدَّعين وآية ذلك أنه يقيم البينة فتسمع، ثم نقبل قوله ويحلف لو اتهم، ولا يقال: هلا أشهدت على الرد الذي ادعيت، وليس من الكلام الرضي أن يقول القائل في دفع هذا الإيداعُ هو الذي تضمَّن ذلك؛ فإن المودع لم يضمن تصديق المودع في كل ما يقول، بل فقه الباب مصلحة كلية وهي ما أشرنا إليه من سقوط حظ المودع في حفظ الوديعة، وإذا سقط حظ الإنسان في شيء، لم يرغب في التعرض لعهدته، فلو تضمن الإيداع حجراً، لكان هذا أدعى إلى امتناع الناس من قبول الوديعة. هذا وجهٌ.
وليس يمتنع أن يقال: الوديعة تقيّده كما يلزمه في الإيداع الحفظ إلى أن يجد ربَّها.
هذا فن من النظر.
ويجوز أن يقال: لا يتقيد ويودع، ولكن هل يضمن عاقبة الأمر؟ فيه القولان المذكوران.
7638- وأما ما ذكرناه من المسافرة، فإن منعناها، فلا كلام، ولكن إن جرت ضرورة لو لم نفرض معها المسافرة بالوديعة، لضاعت، وذلك بأن يُقدَّر في البلد نهبٌ أو ينجلي أهلُه، فالمسافرة بالوديعة سائغة هاهنا إذا كانت الطرق آمنة وسأصف تعليل ذلك في ضابطٍ أذكره في آخر الفصل، إن شاء الله عز وجل.
وإن لم نرجح المسافرة بالوديعة إلى حفظها وصونها عن الضياع، فهي ممتنعة على هذه الطريقة.
فأما من جوز السفر، ففيه تردّدٌ عندي في أنه هل يجوّز صاحب هذا المذهب الإيداع أم كيف السبيل فيه؟ يجوز أن يقال: يمتنع الإيداع عنده؛ فإن فيه رفع اليد عن الوديعة، وإقامة يد المودعَ مقام يد المأمور بها. وهذا تصرّفٌ يليق بالولاية لا يقتضيه الأمر الخاص في الشغل الخاص، والمسافرة بالوديعة تُديم يده عليها، والسفر من أطواره.
ويجوز أن يقال: إنما يجوز المسافرة إذا لم يجد المودعَ أميناً يضع الوديعة عنده، وهذا ظاهر كلام الصيدلاني في مجموعه، فأنه قال: "فإن لم يكن حاكم، فحينئذ يودعها أميناً، فإن لم يجد أميناً، فله أن يسافر بها حينئذ، ولا يضمن" هذا لفظه. ووجه ذلك أن السفر عُدَّ عذراً في باب الوديعة، والإيداع عند الأمناء أوثق وأوفق لمقصود الأمانة من التعرض لغرر السفر.
ثم قال العلماء: المنع من المسافرة فيما إذا لم يكن الإيداع في سفر، فإن كان الإيداع في السفر، فإن المودعَ يتمادى على وجهه في سفره، ولا نقول: الوديعة تثبطه، ولا نقول أيضاً: إذا انتهى إلى موضع يتأتى الإقامة فيه نُلزمه أن يقيم، بل يتمادى إلى منتهى مقصوده، ولا حجر، ولا نقول إذا انتهى إلى مقصود سفره: نثبّطه عنده، بل يؤوب إلى وطنه، ولا يخفى على الفقيه هذا. نعم، إذا عاد إلى وطنه، ثم أراد أن يسافر مرة أخرى فهل له المسافرة بالوديعة بعد هذا؟ فيه احتمال ظاهر، يجوز أن يقال: له ذلك؛ فإن المودِع قنع به مسافراً، فلا منافاة بين السفر وبين مقصود المودع.
ويجوز أن يقال: إنما قنع المودعُ بسفره لعلمه بأنه إلى القرار مصيره، وليس في حاله ومقاله ما يتضمن الرضا بسفره أبداً.
فهذا ما أردنا أن نذكره في تتبع المسائل التي أطلقناها وتنزيلها على حقائقها.
فصل:
7639- ونحن نذكر الآن فصلاً عليه التعويل فنقول: الأوامر وإن كانت مطلقة، فإذا قيدتها الأحوال ومجاري العرف، تقيدت بها، وعلى هذا بنينا بطلان بيع الوكيل المطلق بما عزَّ وهان، وهذا أصلٌ قد عرفه من ينتهي نظره إلى هذا المحل من هذا الكتاب؛ فإذا أودع رجل وجوّز للمودَع المسافرة، فهذا كلام مقيد، وإن أطلق، قلنا: تمنع المسافرة على الرأي الأصح؛ من جهة التغرير؛ إذ لو صح هذا لامتنعت المسافرة بأموال اليتامى، ولكن قرينة الحال تقتضي تثبيت الوديعة في محل الإيداع؛ فإن الغالب أن الإنسان يودع ويسافر بنفسه، فكأن الإيداع يقترن به من العرف ما يقتضي منعَ المسافرة به. ولهذا خلّفه المودِع وسافر، فالمتبع العرف إذاً.
فأما الإيداع عند أمين، فليس يضيق العرف عن احتمال ضيعة المسافرة؛ فإن المودِع قد يقدّر مسيس حاجة المودَع إلى المسافرة، ثم يبغي منه أن يحتاط في الوديعة جهده، فهذا ما لابد من مراعاته، ومن لم يمزِج العرف في المعاملات بفقهها، لم يكن على حظ كامل فيها.
وقد نجز مقصود الفصل.
7640- ونحن نلحق به مسائل خرجت عن يد الضبط تتمةً للغرض.
منها أن المودَع إذا أراد أن يدفن الوديعة وُيغَيِّب، نُظر: فإن دفنها في مضيعة، فلا شك في الضمان بالخروج عن مقتضى الائتمان.
وإن دفنها في موضع حريز، قال الأصحاب: إن لم يُطلع على مدفنها أحداً، صار ضامناً، وهذا يستقيم على الأصل؛ فإن كل مال يفرض محرزاً، فحقيقة الحرز فيه تستدعي مراقبةً من عين كالئةٍ على ما سنذكر تقدير ذلك في صفات الأحراز من كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى.
ثم قال الأصحاب: إن أطلع عليه أميناً وأعلم بمكانها، جاز ذلك.
وهذا فيه فضل نظر على المتأمل؛ فإن بعض الأئمة أطلق الإطلاع مع كون الموضع حريزاً، وشرط إطلاع أمينٍ على المدفن المحرز، وقال أئمة العراق: لا يكفي إطلاع أمين حتى يكون المدفن تحت يد ذلك الأمين، وهذا الذي قالوه حسن متجه، ولست أرى في ذلك خلافاً بين الطرق، والإطلاع الذي ذكره عن العراقيين محمول على ما ذكره العراقيون؛ ولكنهم بيّنوه وفصّلوه. والذي يوضح ذلك أن موضع الإطلاع إذا لم يكن تحت يد المُطْلَع، فلا يكون محفوظاً برعايته، حتى لو فرض الدفن في دار وفيها سكان، والمطلَع لا يداخلهم، فلا أثر لإطلاعه في الحفظ المقصود، وإن كانت الدار خالية والمطلَع لا يدخلها، ولكنه يرعاها من فوق رعاية الحارس، أو من الجوانب، فلا يكاد يصل إلى الغرض، وإن أحاطت بالدار حياطتُه وعمها من الجوانب رعايتُه، فهذه هي اليد التي تليق بالوديعة، وهي التي عناها العراقيون، ويكون المدفن الآن في حكم بيت مرعيٍّ من جوانبه على العادة في مثله، والبيت مغلقٌ، فهذا ما يجب الاتفاق عليه.
ثم يبتني على ذلك أن التعويل على يد هذا المُطلَع، لا على الدفن، وإذا كان على هذا الوجه، فقد غاب المودعَ، واستودع أميناً، فيلتحق بالتفصيل المقدم في أن المودعَ هل يودع؟ وقد مضى الخلاف فيه وتنزيله على الترتيب الواضح الحق.
وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على أن تقرير الوديعة في موضعها، وتفويض الرعاية إلى أمينٍ أوْلى أن ينتفي الضمان فيه من نقل الوديعة بالكلية إلى يد مودعَ، ولم ينكر تخريجَ الخلاف مع ما ذكره من الترجيح، وهذا الذي أشار إليه لست أرى له وقعاً في اقتضاء الترتيب؛ فإن التعويل على يد هذا المطلَع لا غير، وقد تبدلت اليد، فلا أثر لاتحاد مكان الوديعة.
هذا منتهى البيان في ذلك.
7641- ومما يتصل بهذا الفصل أن صاحب التقريب قال: إذا أودع رجلٌ وديعةً عند إنسان في قريةٍ خربة، ثم بدا للمودَع أن ينتقل منها إلى قرية حصينة آهلة، فإن لم يكن بين القريتين من المسافة إلا ما يقع بين محِلّتين للبلد، والأمن مطّرد، فلا بأس بالانتقال بالوديعة والحالة هذه. فأما إذا كان بين القريتين مسافة تزيد على الحد الذي ذكرناه، وكانت القرية الخربة موضعَ حفظٍ على حالٍ، ولكن القرية التي إليها الانتقال أحرز وأحصن، فإن كانت المسافة بين القريتين مسافةَ القصر فصاعداً، فالانتقال بالوديعة مسافرةٌ بها، وقد استقصينا القولَ في المسافرة بالوديعة مع إمكان الإقامة.
وإن كانت المسافة قاصرة عن مسافة القصر، فإن جوّزنا الانتقال والمسافة مسافة القصر، فلا شك في جوازها إذا قصرت المسافة، وإن منعنا المسافرة عند بعد المسافة، قال: ففي الصورة التي تقرب المسافة فيها وجهان.
ومقصود صاحب التقريب يتضح بذكر مراتب: فالمسافرة مع بعد المسافة وإمكان الإقامة على وجهين. والمسافرة مع قرب المسافة واستواء قرية الإيداع والقرية التي إليها الانتقال على وجهين مرتبين على الصورة الأولى، وإن قصرت المسافة وكانت قرية الإيداع خربة والقرية التي إليها الانتقال حصينة، ففي المسألة وجهان، وهذه الصورة أولى بالجواز من التي تليها، وهي مع تصوير الخراب في قرية الإيداع مفروضة فيه إذا كان الحفظ في القرية الخربة ممكناً، ولا يعد تقرير الوديعة فيها تضييعاً.
هذا منتهى المراد في ذلك.
فصل:
قال: "وإن تعدّى في الوديعة ثم ردها إلى مكانها... إلى آخره".
7642- مضمون هذا الفصل بيان ما يصير به المودعَ ضامناً، وقد مهدنا ثبوت الأمانة في حق المودَع مقصودة، ونحن نوضح الآن ما يُخرجه عن الائتمان ويثبت عليه الضمان، فنقول: الأسباب المضمّنة في الوديعة شتَّى: منها التضييع، فإذا وُجد من المودَع ما يعد تضييعاً وتركاً للاحتياط المعتاد في الحفظ؛ فإنه يصير ضامناً، ولا حاجة إلى تفصيل التضييع؛ فإن فيما ذكرناه وسنذكره من وجوب رعاية جهات الحفظ، ما يوضح أن ما يخالفها يكون مضيعاً. هذا وجهٌ في اقتضاء الضمان.
والوجه الثاني- الانتفاع بالوديعة، فإذا كانت الوديعة ثوباً، فلبسه، أو دابة فركبها من غير حاجةٍ ماسة في الحفظ إلى الركوب، ضمنها؛ فإنه في حالة انتفاعه يتعدّى، ويده يد عدوان، ولو كان ينتفع بالإذن فيضمن لكونه مستعيراً، فما الظن بما إذا انفرد بالانتفاع؟
ومن الوجوه المقتضية للضمان مخالفة المودَع في أمره، وهذا أصلٌ يجب الاعتناء بفهمه، فقد ثبت على الجملة أن المخالفة إذا تحققت، كانت مقتضيةً للضمان، وهذه الجملة تستدعي تفصيلاً.
فنقول: إذا قال مالك الوديعة للأمين: احفظ هذه الوديعة في هذا البيت، تعيّن موضعَ الحفظ، و إن لم يصرح بالنهي عن النقل عنه، فلو نقل المودَع الوديعة إلى بيت مساوٍ للبيت المعيّن في الإحراز أو إلى بيت أحرز من المعين، فهذا النقل غيرُ ممتنع، ولا يخفى أن النقل من بيت إلى بيت ومن دارٍ إلى دار، ومن محِلّة إلى محِلة، وكل ذلك في بلدة واحدة لا امتناع فيه، وليس ينزل منزلة المسافرة بالوديعة. هذا متفق عليه.
والذي زدناه أن التعيين لا يؤثر في المنع منه إذا كان على الصورة التي وصفناها؛ فإنّ قول المالك: احفظ هذه الوديعة في هذا البيت غيرُ محمولٍ على الحجر على الأمين، وإنما يحمل على الأمر بصَوْن الوديعة في هذا البيت، أو فيما يحل محله في الإحراز وإذا لم ينتقض غرض المالك في الإحراز فلا أرب له في أعيان البيوت.
وإن نقل المودَع الوديعةَ إلى بيت خرب في نفسه كان يجوز للمودَع حفظ الوديعة فيه لو كان الإيداع مطلقاً، ولكنه كان دون البيت المعيّن في الإحراز، فالنقل ممتنع على هذا الوجه؛ فإن فيه مخالفة لغرض المودع في الإحراز، والمخالفة على هذا الوجه تؤثر في اقتضاء الضمان.
هذا إذا أمره بحفظ الوديعة في بيت ذكره، ولم ينهه عن نقلها منه إلى غيره، فأما إذا قال: احفظ الوديعة في هذا البيت أو في هذه الدار، أو في هذه المحلة، ولا تنقلها إلى موضع آخر، فإذا عين ونص على النهي عن النقل، فنقل المودعَ، لم يخلُ إما أن يلجئه إلى النقل ضرورة أو لم يكن ضرورة، فإن ظهرت ضرورة تقتضي النقل مثل أن يظهر في المحل المعيّن حريق أو غيره من الآفات، فإذا نقل والصورة هذه، لم يضمن أصلاً.
وزاد العراقيون في صورة الضرورة تفصيلاً، فقالوا: لو ترك الوديعة في البيت المعين، ولم ينقلها مع القدرة على النقل حتى تلفت، فهل يضمنها؟ فعلى وجهين ذكروهما:
أحدهما: أنه يضمن؛ لأنه عرضها للتلف.
والثاني: لا يضمن، فإنه راعى فيه إذْن المودع، وقد نهاه عن النقل صريحاً.
ولو قال: لا تنقلها وإن خفت عليها أو أيقنت بتلفها، فلو تركها، لم يضمنها وفاقاً، ولو نقلها والحالة هذه، قالوا: لا يضمن أيضاً وإن خالف صريح قوله؛ فإن قوله إنما يراعى فيما فيه تحفظ وإحاطة، فأما ما يخالف ذلك، فقوله فيه ساقط الأثر.
وهذا الذي ذكروه آخراً محتمل.
ويظهر عندنا مع التصريح بالنهي عن النقل عند خوف التلف وجوب الضمان على الناقل، وسنبين بعد عدّ المسائل ما يوضح فقهها ويربط نظامها، وإذ ذاك نعود إلى هذا التردد، إن شاء الله.
هذا كله إذا عين ونهى عن النقل، وطرأت ضرورةٌ تقتضي النقلَ، فأما إذا لم تكن ضرورة في النقل، والمسألة مفروضة فيه إذا عين موضعَ الحفظ، ونهى عن النقل عنه، فإذا نقل، فلا يخلو إما أن ينقلها إلى بيتٍ دون البيت المعين في الإحراز، فإن كان كذلك، ضمن، فإنّ تجرُّد التعيين من غير نهي عن النقل يوجب الضمان في هذه الصورة، فلا يخفى ثبوت الضمان مع النهي عن النقل.
وإن نقلها الأمين إلى بيت مثلِ البيت المعين، أو إلى بيت أحرزَ منه، فقد ذكر صاحب التقريب والعراقيون وجهين:
أحدهما: أنه يضمن؛ لأنه خالف صريحَ قول المودِع من غير ضرورة.
والثاني: لا يضمن أصلاً، كما لو كان اقتصر المالك على تعيين البيت ولم ينه عن النقل فالنقل لا يُضمِّن في هذه الصورة، وإن كان فحوى التعيين وموجبه من طريق اللفظ ينبىء عن ترك النقل، فليكن الحكم كذلك مع التصريح بالنهي عن النقل.
وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على وجه ثالث- وهو أنه إن نقل إلى مثله، ضمن؛ فإنه لم يزد احتياطاً وخالف، وإن نقل إلى أحرز منه، لم يضمن، وتصير زيادة الحرز مقابلة للمخالفة.
7643- فهذا ذكر المسائل في هذا المقصود، وتحقيق المعنى يستدعي اطلاعاً على معنيين:
أحدهما: الاعتناء بفهم العرف، وليعلم الناظر أن كل حكم يُتلقَّى من لفظٍ في تعامل الخلق، وللناس في ذلك القبيل من التعامل عُرفٌ، فلن يحيط بسرّ ذلك الحكم من لم يحط بمجاري العرف؛ فإن الألفاظ المطلقة في كل صنف من المعاملة محمولة من أهلها على العرف فيها، فإذاً إذا قال: احفظ الوديعة في هذا البيت، ولا تنقله منه، فالعرف يقتضي حملَ هذا القول من المالك على تعيين مقدار الإحراز بالبيت المعيّن، فإن فرضت ضرورة؛ فهي خارجة عرفاً عن موجب القول؛ فإن العاقل لا يحتكم على المستحفَظ المتبرع بما يؤدي إلى إتلاف ملكه، فهذه التقييدات لا يفهم منها في الإيداع تعريض الوديعة للتلف، وكذلك لو كانت الضرورة في نفس المؤتمن، فلا يفهم أرباب العقول من قول المالك التماسه من المودعَ تعريض نفسه للهلاك، أو ما في معناه لمكان وديعته، فقد خرجت الضرورة الراجعة إلى الوديعة والضرورة الراجعة إلى المودَع عن حكم التقييد والتعيين، ولا يتمارى في هذا ذُو لُبٍّ.
فأما إذا لم تكن ضرورة وقد جرى التعيين، والنهيُ عن النقل، تعارضَ في هذا المقام وجوهُ الرأي، فيجوز أن يقع الاعتماد على قدر الإحراز بناء على ما نبهنا عليه، ويجوز حمل تقيد المودِع على حسم باب النقل من غير ضرورة؛ فإن النظر قد ينقسم في المنقول إليه، فيحاول المالك حسمَ النقل، ويعد هذا من الأغراض الواضحة في هذا الصنف، ونظائرها في الشرعيات والحسيات كثيرة، لسنا نطوّل بذكرها.
وهذا أصلٌ رأينا التنبيه عليه.
7644- والمعنى الثاني- أن التحكم على المودَع بأمورٍ لا تليق بمصلحة الحفظ في الوديعة ممنوع عند المحققين، وهو في حكم القول الملغى، الذي لا مبالاة به، وقد قربه هؤلاء من الشرط الفاسد الذي لا يتعلق بمقصود العقد، كقول القائل:
بعتك هذا العبد على شرط ألا تطعمَه إلا ألذ الأطعمة، فهذا وما في معناه لغوٌ مُطَّرح.
ومن الأصحاب من لا يرى مخالفة اللفظ الصريح، وإن لم يتعلق بمصلحة الوديعة؛ بناء على أصلٍ، وهو أن الحفظ مربوط بإذن المالك، ولا حق للمودَع فيه، فيجب تنزيله على حكم نصِّه الصريح وينشأ من هذا التردد ما ذكرته في حالة الضرورة، فإذا كان قال: لا تنقله وإن أشفى على الهلاك وأيقنت بتلفه، فما ذكره العراقيون إحباطٌ منهم لتعيينه من غير غرض صحيح يرجع إلى مصلحة الحِفظ، وما ذكرناه يرجع إلى اتباع إذنه، إذْ نصَّ وصرح، فإذا قال: احفظه في هذا البيت، ولا تنقله، فحالة الضرورة مستثناة بحكم العرف، والاحتمال تطرق إلى اللفظ إذا اقترن العرف به، ويجري اللفظ إذا لم يُرد التقييد على ما ذكرناه مجرى اللفظ العام، والعرفُ المقترن به في حكم المخصص، وهذا بمثابة ذكر الدراهم في العقود، مع تعيين العرف لنقدٍ من النقود.
فإن قال: لا تنقل وإن خفت الهلاك أو أيقنت به، فهذا قطعٌ للعرف الآن، ويعود النظر إلى احتكامه بما لا غرض فيه، كما ذكرناه. هذا مدار هذه المسائل.
7645- ومما يتعلق بغرض هذا الفصل وفيه استكماله أن الرجل إذا أودع عند إنسان دابَّةً، وكان لا يليق بمنصب المودعَ القيامُ بحفظها وسياستها، وإنما يُقيم مثلُ هذا المودَع في حفظ الدابة عبداً أو أجيراً مأموناً، فمطلَق الإيداع لا يُلزم المودَعَ تولِّي الحفظ، وهذا مما يقضي العرف به قطعاً من غير تحيّل ولا تردد.
ومما يتعلق بذلك أن دار المودَع إذ كانت لا تتهيأ لمرابط الدواب لعزتها أو لضيق مضطربها، فحكم العرف يقتضي حفظ الدابة في الإصطبل القريب من الدار، وإن بعُد واطّرد العرفُ في احتمال مثله في مثل هذه الدابة، فلا يمتنع حفظها في ذلك الموضع.
وإن كان لا يمتنع في العرف ربطُ الدابة في دار المودَع، فإذا أراد أن يربطها في حرم الدار وهي منه بمرأيً ومسمع، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين، وهما محمولان على صورة يتردد النظر في العرف فيها.
ومن أحاط بالأصل الذي مهدناه، هان عليه دَرْك محل الوفاق والخلاف.
7646- ومما يتعلق بتتمة المقصود، وهو مما يجب الاعتناء به أن المودَع لو وكل حفظ الوديعة إلى عبده المأمون عنده، أو إلى زوجته، أو ولده، أو من يأتمنهم من دونه، فكيف السبيل فيه؟
هذا فيه التباس مترتب على التباس العرف، ونحن نأتي فيه بالواضحة إن شاء الله عز وجل، فإذا كان الموكول إلى العبد ومن في معناه النقلُ وإغلاقُ الباب، والحراسة، ومحل الفعل مرعي بنظر المودَع، فهذا لا منع فيه؛ فإن الوديعة في يد المودَع.
وإن سلم الوديعة إلى من يستبدّ بيده، ولكن رآه أهلاً لذاك وربما يضع عنده ذخائره، فإذا أراد التسليم إليه بالكلية، فهذا ممنوع؛ فإنه إيداع من المودَع من غير سفرٍ، ولا ضرورة، والذي يقتضيه عرف الإيداع خلاف هذا قطعاً، ولا ينبغي أن ينظر الفقيه إلى أن المودَع يفعل بالوديعة ما يفعله بملك نفسه في الاحتياط المعتبر في الحفظ؛ فإن هذا لا يجوز اعتقاده، مع تبدل اليد على التحقيق، فإنما المودَع هذا الشخص المعين، فقد خرج هذا أيضاً، ومهما ارتكبت المسائل وشملها السؤال على إبهام، فالرأي التقليل من المسائل وإخراج الواضحات من محل النظر ليستدَّ النظر في محل الإشكال، فقد آل النظر إذاً إلى أمر المودَع عبده بردّ الوديعة إلى مَحْرَز والسيد لا يلحظ المَحْرَز، بل يكتفي فيه بنظر العبد وحراسته. هذا محل النظر.
فالذي يشعر به فحوى كلام الأئمة تجويز هذا. وفي بعض التصانيف التصريح بمنع ذلك إذا لم يكن الشيء مرعيّاً من جهة المودَع. أما وجه هذا المذكور آخراً، وهو أن التسليم إلى العبد إزالةٌ لليد ولحفظ المودَع المؤتمن، فكان في معنى تسليم الوديعة إلى صديق مأمون موثوق به، وهذا له إيضاح في القياس، ووجه ما دل عليه قول الأئمة حملُ الأمر على العرف؛ فإن الإنسان إذا أودع وديعةً عند بعض أماثل الناس، فيبعد أن يكلفه تولِّي الحرز ومراقبة الحرز، والانقطاع عن الانتشار في الحاجات والمآرب، فإذا كان ذلك بعيداً في العرف، ولا طريق مع مفارقة المنزل إلا استحفاظٌ عند موثوق به، أو استحفاظُ متصلٍ بالإنسان كالزوجة ومَنْ في معناها.
فهذا مسلك عندنا يجب القطع به؛ فإن حمْل المودَع على خلاف ما ذكرناه يخالف العرف المطّرد، وقد أوضحت أن الألفاظ في المعاملات محمولة على موجب العرف المطرد.
فإذا قيل: هذا في حكم إبدالِ يدٍ بيد. قلنا: ليكن كذلك، والمحكّم العرف، وليس كإيداع أجنبي ليس من المتصلين بالمودَع.
والجملة الضابطة في ذلك اتباعُ العرف المستمر على نسق، فإن لم نجده، اتبعنا صيغة اللفظ. وقولُ المودِع: "أودعتك" متضمنهُ اختصاصه باليد وما أخرجه العرف خرج، وما لم يقيّده العرف، فاللفظ فيه مُجرىً على فحواه، وهذا بمثابة حملنا التوكيلَ بالبيع المطلق على بيعٍ بالنقد عريٍّ عن الغبن، وإن كان البيع في وضع اللسان متناولاً للبيع بالغبطة والغبن.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن الإيداع المطلق يتقيد عرفاً بالاستعانة بالمختصين، وإن كان يقتضي ما يعرض من الأحوال زوالَ اليد.
ومما يتعلق بذلك أنه لو سلم الوديعة إلى عبده، وكان لا يطالع المَحْرَز في الأحايين، فهذا فيه بعض التردد، من جهة أنه لا يمكن الحكم على العرف فيه بالاطراد.
7647- وحاصل الكلام في ذلك يوضحه ذكرُ صور: إحداها- أنه لو أودع مطلقاًَ فأراد المودع الخروجَ لحاجاته، واستحفاظَ من يثق به من متصليه، وكان يطالع المحرَز في عوداته، فهذا هو الذي رأينا القطعَ بحمل الإيداع المطلق على تجويزه، وهو الذي اقتضاه كلام الأئمة في الطرق.
وفي هذه الصورة ذكر بعضُ المصنفين امتناعَ ذلك إلا بإذن المودِع، وهذا غير معتد به.
والصورة الأخرى- أن يفوّض الحفظ إلى بعض المتصلين به من عبد أو زوجةٍ، أو ولدٍ، أو أجيرٍ، وكان لا يلاحظ الوديعة أصلاً، فهذا موضع التردد.
والصورة الأخرى- أن يكون الحِرز خارجاً عن دار المودَع ومسكنه الذي يأوي إليه، وكان لا يطالعه المودع، فالظاهر هاهنا المنعُ، وتضمين المودع.
فأما إذا سلم الوديعة إلى من ليس متصلاً به، واستحفظه فيها، فهذا ممتنع قطعاً مخالف للفظ وللعرف. هذا منتهى المراد في مخالفة المودَع وموافقته في طريق الحفظ.
7648- ومما يضمّن المودَع جَحدُه لأصل الإيداع، فإذا جحد المودَع الإيداع كاذباً، والوديعة في يده؛ فإنه يصير بالجحد غاصباً، ولو تلفت الوديعة في يده بعد الجحد، كانت مضمونة عليه.
فإن قيل: لو جحدها غالطاً، ثم لما ثبتت له حقيقة الحال اعترف، فكيف السبيل؟ قلنا: حكم الجحد في الظاهر اقتضى تضمينه، ودعوى الغلط منه مردودة، فإذا ثبت حكم الغصب بالإنكار، لم تعد الأمانة بالإقرار.
ولو ادعى الغلط، ثم أقر، فصدقه مالك الوديعة في دعوى الغلط، فالذي نراه أن الضمان لا يجب مع تصادقهما.
7649- وقد ذكرنا أن الانتفاع بالوديعة مضمِّن؛ فلو لبس الثوبَ المودَعَ ظاناً أنه ثوبُه، ثم كما استبان انكفّ، فالذي نراه القطعُ بأنه لا يضمن، كما ذكرناه في الجحد، ولو انتفع وادعى ما ذكرناه من الغلط، لم يصدق في ذلك؛ فإن ظاهر الانتفاع مضمِّن.
7650- ولو ألقى الوديعةَ في مضْيعة، ضمن، فلو كان ذلك عن جهل، فلا شك أنها لو ضاعت، ضمنها، ولو لم تضع وتذكر المودعُ فردَّها إلى المحرَز، فهذا فيه نظر؛ فإن التضييع من أسباب التلف، وكل ما كان من أسباب التلف لا يفصل في اقتضائه الضمانَ بين أن يقع عمداً أو خطأً، ووجه، تطرّق الاحتمال إلى ذلك أنه إذا استدرك، خرج ما جرى عن كونه سببَ التلف.
7651- نعود إلى الجحد، فنقول: إذا جحد المودَع الإيداع، وكانت الوديعة تلفت قبل جحده مع استمرار الأمانة، فإن تحقق ذلك، فلا ضمان على الجاحد، فإن جَحْده لم يجر إلا بعد تلف الوديعة على حكم الأمانة، وكل عين تلفت على حكم لم ينقلب ذلك الحكم بطارىء يطرأ، وظهور التلف قد يكون باعتراف من المالك، فلو أراد الجاحد أن يحلف بعد الجحد على التلف قَبْلُ، لم يقبل يمينه؛ من جهة أن جحد الإيداع في الأصل مناقضٌ دعوى التلف؛ فإن من ضرورة التلف تحت يده جريان الإيداع.
ولو أراد أن يقيم بينة على تلف الوديعة قبل الجحد، فقد ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أن البينة لا تسمع فإن شرط سماعها ترتيبها على دعوى صحيحة ودعواه التلف تناقض جحدَه الإيداع، وإذا بطلت دعواه، لم تصادف البينةُ مستنداً صحيحاً.
والوجه الثاني- أن البينة مسموعة؛ فإنه رجع عن جحده، وكذّب نفسَه فيه، وأنشأ الآن قولاً ممكناً، والدعوى قولٌ ممكن، فإذا اعتضدت بالبينة، ثبت المقصود بها، وإنما لا تقبل البينة إذا كان قول مقيمها عند إقامتها يناقضها.
والضبط في ذلك أن قول المقيم إن ناقض البينة لدى الإقامة، والبينةُ مفتقرة إلى الدعوى، فهي غير مسموعة، وإن سبق قولٌ يناقض ورجع عنه القائل وكذب نفسه فيه، وأقام على وَفق القول الثاني بينةً، ففي قبول البينة خلاف وتردد.
وهذا يقرب من أصلٍ نشير إليه ونفرضه متصلاً بما نحن فيه، فنقول: إذا جحد الإيداع، ثم ادعى التلف قبل الجحد، ولم يجد بينة، ولم نحلِّفه بجحده السابق، فلو قال لمالك الوديعة: احلف بالله لا تعلم تلف الوديعة قبل جحدي، فهل له أن يحلّفه؟ فيه تردد للأصحاب. وظاهر المذهب أنه يحلِّفه. ولو أقام بينة قبل منه، ولو ادعى ردَّ الوديعة قبل الجحد، فهو كما لو ادعى تلفها، ولو جحد، ثم اعترف، وقال: تلفت الوديعة بعد جحدي، فالضمان ثابت عليه، فإنه صار بالجحد غاصباً، وانقلبت الوديعة مضمونة، فلو تحقق التلف، لكان على حكم الضمان.
ولو ادعى الرجل على رجل وديعة، فقال المدّعى عليه: مالكَ عندي شيء، ثم أقر بالإيداع، أو قامت البينة عليه، فادعى بعد ذلك تلفاً، أو ردّاً، فقوله مقبول، فإنه لم ينكر الإيداع، وإنما قال: ليس عندي لك شيء، فدعوى التلف توافق ذلك الكلام؛ لأن من تلفت الوديعة عنده، فهو صادق في قوله لمالكها: مالك عندي شيء، أو لا يلزمني دفع شيء إليك.
هذا بيان الجحد واقتضائه سقوطَ حكم الأمانة، مع ما يتعلق به من جهات التداعي.
7652- ومما يتضمن التضمين في الوديعة وهي من أصول الكتاب تركُ الإيصاء.
وبيان ذلك: أن من كانت عنده وديعة، وهو في حال الصحة واستمرار السلامة، فلو مات فجأة أو قتل غيلة، ولم يتمكن من الإيصاء، فلا ضمان؛ فإنه لا ينسب إلى التقصير ما استمر في السلامة، وإن كان أدب الدين يقتضي ألا يبيت المسلم ليلةً إلا ووصيته مكتوبة عنده، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ترك الأولى في هذا لا يوجب الضمان.
ولو مرض الرجل وتمييزه قائم، فلم يُوصِ، أو حبس ليقتل، واستمكن من الإيصاء فتركُ الإيصاء يتضمن الضمان، كما سنفصله الآن، إن شاء الله تعالى.
والمرض الذي أطلقناه هو المرض المخوف الذي يحسب التبرع فيه من الثلث، إن لم يبلغ المرض هذا المبلغ، فهو ملتحق بالصحة، والهرمُ من غير مرض ملتحق بالصحة في تنفيذ التبرع من رأس المال، وفيما نحن فيه من أمر الإيصاء، فإذا ترك الشيخ الإيصاء ثم فاجأته المنية بغتةً، فلا ضمان، فإذا تحقق التقصير بترك الإيصاء، أو أوصى إلى فاسق غيرِ موثوق به، فإذا تلفت الوديعة بعد موته، وجب الضمان في تركته؛ من جهة أنه بإعراضه وتركه الدّلالة على الوديعة، مع ظهور النُّذُر وشواهد الموت يُعدّ مضيعاً للوديعة، والتضييع من أسباب الضمان، كما تقدّم ذكره.
7653- ولو كانت الوديعة تلفت في حياته على حكم الأمانة، فترْكُ الإيصاء لا يثبت ضماناً، فإن فائدة الإيصاء الدلالة على الوديعة الباقية، حتى لا تضيع.
7654- ولو أوصى إلى عدلٍ وذكر له الوديعة، فإن عيّنها، فذاك، وإن وصفها، وكان في تركته من جنسها، فإذا جحدها الورثة، ولم يعرفوها وما كان عيّن الموصي، فالضمان واجب؛ من جهة أنه لو عين وميّز، لما كان يلتبس الأمر، فترْكُه التعيين، وفي تركته أمثال الوديعة بمثابة تركه الإيصاء أصلاً.
ولو لم يكن في تركته من جنس تلك الوديعة التي وصفها، ولكنا لم نجد تلك الوديعة الموصوفة في التركة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا ضمان، فإن من الممكن أن الوديعة تلفت بعد موته، قبل تمكن الورثة من الرد، ولو اتفق ذلك، فلا ضمان، فيجب حمل الأمر على وجهٍ لا يقلب الأمانة عن حقيقتها، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي.
ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان إلا أن يقيم الورثة بيّنةً على تلف الوديعة قبل موت المودَع المؤتمن أو بعد موته وقبل التمكن من الرد، فإن الوديعة ثبتت، والظاهر أنها لو تلفت، لتمكن الورثة من بيان تلفها. وإذا مات وهو المؤتمن، فحق الوديعة ثابت في التركة إلى أن تقوم بيّنة تتضمن نفيَ الضمان.
7655- ولو مات ولم يوصِ، فجاء مالك الوديعة، وادعاها ونسب الميت إلى التقصير بترك الإيصاء فيها، فقال الورثة: لعله لم يوصِ لتلف الوديعة على حكم الأمانة في يده، فاعترفوا بأصل الإيداع، أو قامت البينة عليه وادعَوْا ما ذكرناه، فهذه المسألة مترددة في الضمان، فإذا كان أبو إسحاق يرى نفي الضمان حيث لم تصادَف الوديعة في التركة بعد الإقرار بها والإيصاء، فلا شك أنه يبقى الضمان في الصورة التي ذكرناها آخراً، وهي ادعاء التلف قبل الموت، وحَمْلُ ترك الإيصاء عليه. ومن أوجب الضمان وخالف أبا إسحاق، فقد يوجب الضمان في هذه الصورة، ونفيُ الضمان في هذه الصورة أولى.
ثم إن ادعى الورثة التلفَ، فالأمر على ما ذكرناه، وإن قالوا: عرفنا الإيداع، ولكن لم ندر كيف كان الأمر، ونحن نجوّز أن الوديعة تلفت على حكم الأمانة، فلم يوص لأجل ذلك، ولا ثَبتَ، ففي ذلك قولان: فإن ضمّناهم حيث يجزمون دعوى التلف، فلأن نُضمِّن هاهنا أولى. وإن لم نضمنهم في هذه الصورة الأولى، ففي هذه وجهان:
أحدهما: أن الضمان يجب؛ لأنهم لم يذكروا مُسقطاً، ولم يدّعوه.
والوجه الثاني- أن الضمان لا يجب، لأن أصل الوديعة على الأمانة، والأمر متردد كما ذكره الورثة، فعلى من يدعي الضمانَ إثباتُه، والأصح الوجه الأول في هذه الصورة الأخيرة.
ويتصل بهذا الفصل كلام يتعلق بالورثة في الدعوى، وسنذكره في فصول الكتاب، إن شاء الله تعالى؛ فإن غرضنا الآن عدُّ ما يوجب الضمان في الوديعة، والقدرُ الذي ذكرناه في الإيصاء وتركه كافٍ في غرضنا.
7656- ومما نذكره في المضمِّنات أن المودَع لو نقل الوديعة نقلاً مسوَّغاً كما تفصَّل ذلك فيما تقدم، ونوى عند النقل تغييب الوديعة والاستبدادَ بها، فإنه يصير ضامناً لأن هذا فعلٌ مبتدأ منه اقترن به قصد العدوان، ولو لم يجدّد نقلاً، ولم يُحدث فعلاً، ولكنه نوى التغييب والاستبداد، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن مجرد النية لا يتضمن تضمين المودَع.
وحكى العراقيون والشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن مجرد النية يتضمن التضمين، كما أن مجرد نية الاقتناء تقطع حول التجارة.
ولو طرح المالك الوديعةَ في يد المودَع، فنوى المودَع مع الأخذ الخيانةَ، فظاهر المذهب أنه يضمن لاقتران النية بأول الأخذ، وهذا بمثابة ما لو التقط الملتقط وقرن بالالتقاط قصد التغييب، وما عدا ذلك غيرُ معتد به.
والمذهب المبتوت ما ذكرناه.
7657- وقد نجز القول فيما يتضمن تضمين المودَع وآل حاصلها إلى التضييع، والانتفاع، ومخالفةِ المالك، والجحْدِ، وتركِ الإيصاء، وهو من أسباب التضييع.
7658- وقد تبين القول في نية الخيانة، ووضح محل الخلاف والوفاق، ثم النية التي ذكرناها تجريد القصد، فأما ما يخطر من الهواجس من ضروب الوساوس وداعيةُ الدين يدافعها، فلا حكم لها.
وإن تردد الرأيُ ولم يجزم قصداً، فالظاهر عندنا أن هذا لا حكم له حتى يجرّد قصده في العدوان.
فإذا نجز بيان العدوان فإذا اعتدى المودَع وضمن فترك سببَ العدوان، وإن لم يعُد أميناً عند الشافعي رضي الله عنه، وكان طريان العدوان في قطع الوديعة وحكم الأمانة بمثابة طريان الجنون على الوكيل، ثم إذا جن الوكيل وحكمنا بانعزاله، فلو أفاق لم يعُد وكيلاً، والمسألة من طيول مسائل الخلاف.
فلو قال المالك: ائتمنتك فيما تعدّيتَ ابتداء، ولم يبدّل يده، ففي زوال الضمان مع استمرار اليد الأولى وجهان مشهوران، ذكرناهما في مواضعَ من كتاب الرهن وغيره، فلو قال المالك: أبرأتك عن الضمان، ففي زوال الضمان وجهان مبنيان على أن الإبراء عما لم يجب ووجد سببُ وجوبه هل يصح أم لا؟
وبيان ذلك أن الضمان في الأعيان المضمونة إنما يجب عند تحقق التلف، ولكن العدوان قبل التلف سببٌ في الضمان، فإذا أبرأ من له الحق عن الضمان قبل التلف، كان ذلك إبراء عما وجد سببه، ولم يجب بعدُ.
وفي هذا أدنى نظر؛ فإن الإبراء لو كان يوجد من هذا المأخذ، للزم على مقتضاه أن نقول: إذا أتلف العين بعد الإبراء لا يضمن قيمتها، وهذا بعيد لم يسمح به الأصحاب.
ولو قال قائل: إنما أبرئه بشرط ألا يجدد عدواناً، فهذا إبراء مشروط، والإبراء على هذا الوجه يفسد، فالوجه إذاً في إجراء الوجهين ردُّهما إلى أن الضمان هل يسقط بإسقاط المالك حتى تعود العين أمانة؟ فعلى وجهين، فيكون الإبراء إذاً في معنى ائتمان جديد كما قدمناه.
وهذا نجاز الفصل بما فيه.
فصل:
7659- نقل المزني مسائل متفرقة في أحكام الأمانة إذا دامت، وفيما يصدَّق المؤتمن فيه، وأنا أرى جمعَها تحت ضوابط؛ حتى تُلفَى أحكامُ الأمانة مجموعةً متصلةً بذكر أسباب العدوان المناقضة للائتمان.
فنقول: إذا ثبتت الأمانة وانتفت أسباب العدوان، فلو فرض تلف الوديعة، فلا ضمان.
وإذا لم تكن الوديعةُ مضمونةَ العين، فليست مضمونة الرد.
وقد أجمع علماؤنا على أنه لا يجب على المودَع ردّها بنفسه، ولا يلزمه مؤنةٌ بسبب الرد، وإنما الذي عليه أن يخلّي بين المودِع المالك وبين الوديعة، حتى يأخذها بنفسه، فأما تولّي الرد وتعاطيه بالنفس أو بالغير، فمما لا يجب على المودَع وفاقاً.
7660- ثم من أحكام الأمانة تصديق المودَع، وفي ذلك تفصيلٌ، وهو مقصود الفصل، و تصديقه يتعلق بشيئين:
أحدهما: دعوى التلف.
والثاني: دعوى الردّ.
فأما القول في دعوى التلف، فإن ادعى المودَعُ التلفَ بسبب خفي ممكن ليس يجب في حكم العرف ظهوره إذا وقع، فالمودَع مصدق فيه مع يمينه، فإن حلف، انقطعت الطَلِبةُ عنه، وإن نكل عن اليمين، رُدت اليمين على المالك، ثم إنه يحلف على نفي العلم؛ إذ لا يمكنه أن يثبت اليمين في نفي التلف وبقاء العين، فتكون يمينه في نفي التلف كيمينه على نفي فعل الغير. هذا هو المذهب المعتمد.
ومن أصحابنا من يكلّفه جزمَ اليمين؛ من جهة أنه من الممكن أن يطّلع على بقاء العين في الوقت الذي ادعى المودَع تلفها فيه، وإذا كان هذا ممكناً، فجزمُ اليمين ممكنٌ أيضاً، وسيأتي تفريع هذا وأصله في الدعاوى والبينات.
ثم إن العراقيين ذكروا ترتيباً حسناً في ادعاء الأمين التلف، فنسوقه على وجهه، ثم نذكر مسالك المراوزة.
7661- قال العراقيون: إن ذكر المودَع سبباً في التلف ممكناً، وكان مثله لا يظهر في العادة، فيتعذر إقامة البينة عليه، فالقول قوله مع يمينه.
وإن ذكر سبباً يظهر مثله في العادة ويتيسر إقامة البينة عليه، مثل أن يدعي هلاك الوديعة بحريق في الدار ظاهرٍ وغيرِه، مما شأنه أن يظهر، كالنهب العظيم، وسيلٍ جارف ينقلب على السكة أو المحِلة، قالوا: إذا ادّعى المودَع التلف بجهة من هذه الجهات، فلابد من إقامة البينة، ولا يُقبل قولُ المودعَ، ويمينه، وشبهوا ذلك في طرده وعكسه بقول القائل لامرأته: إذا حضت فأنت طالق، فإذا ذكرت أنها حاضت قُبل قولُها، وإن اتهمت، حلفت، وإن قال لها إذا ولدت ولداً، أو دخلت الدار، فأنت طالق، فإذا ادّعت أنها ولدت أو دخلت، لم يحكم بوقوع الطلاق حتى تقوم البينة على وجود الصفة التي تعلّق الطلاق بها، أو يعترف الزوج بها.
هذه طريقة العراقيين.
7662- وقال صاحب التقريب: إذا ادعى الأمين تلف الوديعة بحريقٍ في المحلة أو غير الحريق مما شأنه أن يظهر في العرف إذا وقع، فإذا ادعى المودَع ذلك، ولم يشتهر في الناس ما ادعاه، وحكمُ العرف أن يشتهر، فلا يُصدق الأمين في دعوى ذلك، فإن الحالة مكذبة له، ومن ادعى أمراً تكذبه المشاهدة فيه، فقوله غير مقبول.
ثم قال: ولو رام الأمين تحليفَ المودِع على نفي الحريق في هذه الصورة، فهل له ذلك؟
فعلى وجهين:
أحدهما: ليس له تحليفه؛ فإن المشاهدة كذّبته في ذلك؛ إذ الحريق الظاهر لا يخفى، وتتوفر الدواعي على نقله، فإذا لم ينقل بان الكذب، ولولا ظهور الكذب، لصدّقنا المودَع وحلفناه.
والوجه الثاني- أن له تحليفَ مالك الوديعة؛ فإنه لم ينحسم إمكان صدق المودَع بالكلية، وذلك بأن يُفرضَ حريق وانطفاء مع ذهول الناس، أو مع اشتغالهم بما ألهاهم عن التعرض لهذا الحريق، ولا يمتنع فرض مواطأة في ليلةٍ حتى يخفوا ذكر الحريق.
وهذا محالٌ عظيم، وفيه تلبيساتٌ لا يستقلّ بفكِّها إلا المتبحرون في الأصول.
وحظ الفقه منه أنا في توجيه هذا الوجه إن قدَّرنا الإمكانَ، لزمنا تصديقُ المودَع، وإن لم نصدقه لظهور كذبه، لم ينتظم لنا تصوّرُ إمكان صدقه، ولكن يجب أن نعتقد أنا وإن بنينا الوديعة على تصديق المودَع، فلا يمتنع أن نشترط في ذلك ألا يعارِض قولَه أمرٌ في نهاية الوضوح، وإذا لم يظهر ما يناقض قولَه، فإذ ذاك نصدّقه.
وهذا يناظر النزاع بين الزوجين في الوطء، حيث نجعل القولَ قول الزوج في إثبات الوطء؛ نظراً إلى استبقاء النكاح.
وهذا الأصل في هذه القاعدة ينزل منزلة أصل الائتمان في الوديعة؛ فإن الشرع اقتضى تصديق الزوج في الوطء، مع أن الأصل عدمه؛ لاستبقاء النكاح، كما جعل القولَ قول المودَع في دعوى التلف، مع أن الأصل عدمه لتحقيق معنى الأمانة.
ثم لو ادعت المرأة أنها عذراء، وشهد بعذرتها نسوة ثقات، فلا يصدق الزوج في دعوى الوطء لظهور كذبه، ولكن من حيث إنا نجوز عوْد العُذرة على بعد نجوّز للزوج وإن لم يصدّق أن يحلّف المرأة، فلا يمتنع أن يجري في الوديعة حالةٌ ظاهرة، لا يصدّق معها الموع، ولكن من حيث لا يزول أصل الإمكان على استيقان لا يمتنع تحليفُ المودَع مالكَ الوديعة.
فإن قيل: فلم كانت مسألة العُذْرة متفقاً عليها؟ قلنا: لأن عَوْد العُذرة ليس متعلّقاً بمطّرد العادة، بل هو أمر يرتبط بالجبلة، وأما الحريق، فخفاؤه يكاد يخرم العادة، فاقتضى ذلك تردداً.
هذا منتهى ما ذكره الأئمة نقلاً.
7663- وقد تحصّل من مجموع ما ذكروه ثلاث طرق: أما العراقيون- فإنهم قالوا: إذا ادعى شيئاً في التلف يهون إثباته بالشهادة، لم يصدّق، ولم نقنع بيمينه، وإنما نقنع بيمينه إذا ادعى سبباً خفياً، وألحقوا دعوى الرد بالأسباب الخفية؛ لأن العادة جارية بإخفاء الودائع بأخذها.
7664- وأما المراوزة، فإنهم رأوا تصديقَ المودع، وإن ظهرت مخايل كذبه، ويكتفون بإمكان صدقه، قرُب أو بعُد، ويفصّلون القول في الحريق، ويقولون: إن كان ليليّاً بحيث يتوقع انطفاؤه من غير اطلاع، وفرض في طرفٍ من البلدة، فخفاؤه نادر، ولكنه ممكن، فالمودع يصدق مع يمينه. فإن كان الحريق نهاراً بحيث نستيقن أنه لو كان، لما خفي، فلا سبيل إلى التصديق، ولا يبقى تنازع.
7665- وأما صاحب التقريب، فإنه أثبت منزلةً يظهر فيها الكذب ولا ينقطع الإمكان، كما صورناه، وقضى فيها بأن المؤتمن لا يصدق لظهور الكذب، ثم ردّد الجواب في تحليف المالك.
وطريقُه ينفصل عن طريقة العراقيين؛ من جهة أنهم يقولون: علامة الكذب وإن لم يظهر إذا كان إثبات سبب التلف ممكناً بالشهادة، فلا يحلف المودع.
فهذا بيان الطرق.
فقد خرج مما ذكرناه أن المودع مصدَّق في ردّ الوديعة يحلف عليه، وهو مصدق في دعوى التلف أيضاً، وهذا الأصل متفق عليه، وإنما تردد الأصحاب في التفاصيل.
7666- ومما يتعلق بأحكام الائتمان أن المودَع لو ادعى الرد على رسول المودِع، فأنكر الرسول القبض، وأنكر المالك وصولَ الوديعة إلى يده، فالقول في هذا المحل قولُ المالك، وقول الرسول إن ارتبطت الدعوى به، والسبب في ذلك أن المؤتمن لم يدع رد الوديعة على من ائتمنه، وإنما ادعى ردها على الرسول، وهو لم يأتمنه.
ومن قواعد الشريعة أن الأمين إذا ادعى الرد على من لم يأتمنه، لم يقبل قوله مع يمينه، ولهذا نقول: إذا ادعى الوصي ردّ مال الطفل عليه بعد بلوغه، لم نكتف بقول الوصي ويمينه، فإنه وإن كان أميناً، فقد ادعى الرد على من لم يأتمنه، وهو الطفل الذي بلغ، وقد شهد بذلك نص القرآن، فإنه عز من قائل قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] والأمر بالتأكيد بالشهود يشعر بأن الراد لا يصدق في المردود عند تقدير الجحود، وهذا يعضد التلويح الذي ذكرناه في أن المودِع لما أحل المودَع محل المؤتمنين فقد التزم تصديقَه وهذا يختص بما يدور بينه وبين المؤتمن، فأما من لم يأتمنه، فليس ملتزماً بتصديقه. فإذا اعتضد الحكم بظاهر القرآن وطرفٍ من المعنى اللائق بالموضوع الذي فيه الكلام، وجب الاكتفاء به.
وعلى هذا الأصل لو ادعى الأب الردَّ على ولده بعد بلوغه ورشده، لم يقبل قوله لما ذكرناه.
7667- ولو أراد المودَع سفراً، وجوزنا له أن يودِع الوديعةَ عند أمين، فإذا فعل، ثم ادعى المودَع الثاني الردّ على المالك، وأنكر المالك، لم يصدَّق المودَع على المالك؛ لأن المالك لم يأتمنه، وإنما يُصدّق المودَع في الرد إذا ادعى على من أحلّه محل الأمناء.
7668- وينشأ من هذا المنتهى أصل، وهو أنا إذا جوزنا للهامّ بالسفر أن يودع الوديعة عند أمينٍ، فلو فعل، وانطلق، ثم عاد فأراد الاسترداد من المودع الثاني وردّ الوديعة إلى يده، فهذا فيه احتمال ظاهر؛ من جهة أن يده زالت عن الوديعة بالكلية، فلو جوزنا له أن يسترد الوديعة، لكان هذا في حكم ائتمان جديد، وهذا يبعد على أصل الشافعي.
ويمكن أن يقال: له رد الوديعة إلى يده؛ لأنه الذي أزال اليدَ على حكم الأمانة، وفعل ما له أن يفعله، فكان له العود إلى ما كان عليه، وهذا يشبه تردّدَ الأصحاب في أن وكيل الوكيل هل هو وكيل الوكيل حتى ينعزل بعزله وجنونه، أم هو وكيل الموكِّل؟ فالمودَع من المودَع على هذا الخلاف يخرّج: فإن جعلنا المودع الثاني في حكم المودع من المالك، فعلى هذا كأن المودع الأول خرج من البين، ولكنا مع هذا لا نصدقه إذا ادّعى الرد على المالك؛ من جهة أنه لم يصدر منه ائتمان له.
7669- وعلى هذا يخرّج حكمٌ كثر فيه اضطراب الأصحاب، وهو أن الرجل إذا غصب وديعةً من يد المودَع، فهل للمودَع الدعوى عليه واسترداد العين المغصوبة من يده؟ فيه اختلاف بين الأصحاب: منهم من جوز له ذلك؛ من جهة أنه مستحفَظٌ في الوديعة باستحفاظ المالك، مأمور بالذب عن الوديعة، ومن تمام الذب عنها استردادُها من غاصبها، فالإيداع المسلِّط على الحفظ يُسلّط على الاسترداد ورد العين إلى الحفظ.
7670- ومن تمام البيان في الفصل الذي خضنا فيه أنّا إذا جوّزنا للمودَع أن يستحفظ عبده وزوجته، إما في ساعات من الليل والنهار، وإما على العموم، فلو أراد صرف زوجته وولده عن القيام بالحفظ، ورد الوديعة إلى يده على حكم الاستبداد، فهذا مسوّغ لا خلاف فيه، وذلك أن استحفاظَه هؤلاء في حكم الاستعانة بهم، وهو الأصل في الوديعة، فإن أراد أن يخرجهم من البين، كان له ذلك؛ فإنهم وقعوا أتباعاً وكانت يده باقية، وإن قام بالحفظ غيرُه.
هذا تمام البيان في هذا الأصل.
7671- ولو قال المودع: رددت الوديعة إلى مأمورك ووكيلِك باستردادها وهو فلان، فقال مالك الوديعة: ما وكلته قط، فالقول قول المالك، ولو قال: كنت وكلته بقبض الوديعة ولكنك لم تسلم إليه الوديعة، فالقول في ذلك قول المالك؛ فإنه الآمر ومنه صَدَرُ الأمر. والمودَع لم يدّع الرد على المودِع نفسه.
ولو قال الوكيل: قد استوفيتُ الوديعةَ وصُدّق من المودَع في ادعاء تسليمها إليه، وأنكر الموكِّل هذا، وقال: تواطأتما عليّ، فلا أنت استرددت، ولا هو ردّ، فالقول أيضاً قول الموكِّل، لم يختلف الأصحاب فيه.
فإن قيل: إن لم تُصدقوا المودَع لأنه ادّعى الرد على غير من ائتمنه، فالوكيل بالقبض إذا قال: قبضتُ، يجب أن يكون مصدّقاً.
وهذا أصلٌ عظيم في الوديعة، وبه نتبين سرّ الكتاب. فنقول: لا شك أن من ادعى قبضاً، فالأصل عدم قبضه، ومن ادعى رداً، فالأصل عدمُ رده، ولكن ورد الشرع بتصديق المودَع إذا دار النزاع بينه وبين المالك، حتى لا يضمَّن المودَع، فتخرج الأمانة عن حقيقتها، فالمقصود الأظهر في تصديق المودَع تحقيقُ حكم الأمانة ونفي موجَب الخيانة، والوكيل إذا قال: قبضتُ ولم يصدقه الموكل، فلا ضمان عليه، ولا تبعة فلا معنى لإلزام الموكِّل بتصديقه.
ولو صدق الموكل المودَع في تسليم الوديعة إلى الوكيل، وأنكر الوكيل قَبْض الوديعة وجحده، فالموكل هل يضمِّن المودَع، من جهة أنه قصّر؛ حيث ردّ ولم يُشهد؟
فيه اختلاف مشهور:
من أصحابنا من قال: له تضمينه؛ لأنه ضيع الوديعة، حيث سلمها، ولم يستوثق بالإشهاد.
ومنهم من قال: لا ضمان؛ فإنه اعترف بأنه سلّم الوديعة ممتثلاً أمره، وما كان شرط المالك الإشهاد في تسليم الوديعة.
وأطراف الكلام في الأمانات تدور على التصديق من غير إحواج إلى إقامة بينة، وقد ذكرنا لهذا نظائرَ في الوكالة وغيرها من الكتب، من أقربها أن الرجل إذا وكل باستيفاء دين له على رجل، فقال الوكيل: قد استوفيتُ ودفعت إليك، فقال الموكل: ما استوفيتَه، فالقول قول الآمر؛ إذ لو ثبت على الوكيل أنه لم يستوف، لم يكن متعدياً، ولا ضامناً، وإذا كان لا يلزمه من تكذيبه ضمان، فالخصومة ترد إلى أصلها، وهو أن الأصل عدم الاستيفاء.
7672- وبمثله لو قال: بع هذه السلعة واقبض الثمن، فباعه بثمن حالٍّ، ثم اختلفا، فقال: قبضتُ الثمن وتلف عندي، أو دفعته إليك، وقال الموكل: لم تقبض، بل سلمت المتاع قبل قبض الثمن، فالقول في هذا المقام قولُ الوكيل؛ لأن الموكل يدعي عليه تعدّياً وضماناً؛ فإن تسليم المبيع قبل قبض الثمن عدوانٌ موجِب للضمان، ونحن لا نورِّط الوكيل في الضمان بقول الموكل، فاستبان أن الدَّوران على ثبوت الضمان على الوكيل وانتفائه عنه، فإذا لم يكن في تكذيبه ما يوجب تضمينه، فلا يبعد أن لا يصدق إذا تعلقت الخصومة بثالث.
وقد استقصينا هذا الفصل من أحكام الوكالة في كتابها، وذكرنا أنا في هذه المسألة الأخيرة إذا صدقنا الوكيل؛ حتى لا ننسبه إلى عدوان، فهل ينفذ هذا التصديق في حق المشتري؛ حتى نحكم بسقوط الثمن عنه؛ إذ هذا مقتضى تصديق الوكيل في قبضه، فإذا صدق الوكيل في قبض الثمن، تضمن ذلك براءةَ المشتري.
و اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من حكم ببراءة المشتري لِما ذكرناه، ومنهم من لم يحكم ببراءته، وصار إلى أن فائدة تصديق الوكيل تبرئتُه عن الضمان، حتى لا ينسب إلى العدوان، بسبب رفع اليد عن المبيع قبل تسليم الثمن.
وقد استقصينا الكلام في جوانب هذه المسألة، وأوضحنا الإشهاد ومعناه، وموتَ الشهود، فلا معنى لإعادته.
7673- وقدرُ غرضنا من مساق هذا الفصل أن المودَع إنما يُصدّق مع مؤتمِنه ومودِعه، فإذا تعلق النزاع بمن لم يأتمنه، فلا يصدقه من لم يأتمنه، فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في حكم الأمانة.
7674- وبقية الفصل أن المودَع ذا فعل شيئاً يقتضي تضمينه في حالة الاختيار، ولا يقتضيه في حالة الاضطرار، كنقل الوديعة أو المسافرة بها على التفاصيل المقدمة، فإذا تلفت الوديعة، فادعى المودَع اضطراراً يخرج به فعلُه عن كونه مضمّناً، وأنكر المودِع ما ادّعاه من الاضطرار، فالقول قول المؤتمَن المودَع، وكل نزاع يدور بين المالك وبين المودَع من هذا الفن، فكأن المالك يدعي سببَ تضمينٍ والمودَع ينفيه، أو كأن المودعَ يدعي سبباً يدرأ الضمان وكأن المالك ينفيه، فالقول قول المودَع في جميع ذلك. ثم هذا يُعرَض على تفاصيل الطرق التي أوضحناها في خفاء الأسباب وظهورها.
وقد نجز ما حاولنا، في معاقد أحكام الأمانة وجرى هذا مع الفصول المقدمة تمهيداً لأصول الكتاب.
فصل:
قال: "ولو أودعه دابّةً، وأمر بعلفها وسقيها... إلى آخره".
7675- إذا أودع عند إنسان دابة، ولم يتعرض لعلفها وسقيها، وغاب، فليس للمودَع أن يعطلها، ويقطعَ عنها ما تحتاج إليه، خلافاً لأبي حنيفة. ومعتمدُ المذهب أن قبول الوديعة يتضمن القيام بحفظها واستدامتها، وليس من استدامتها أن تعطل حتى تهلك، وهذا يعتضد بالعرف أيضاً، فإن الدّواب لا تُقْبل لتقتل وتترك حتى تموت وتهلك ضياعاً وجوعاً.
ثم للمودَع أن يرفع الأمر إلى القاضي ليستقرض على المالك إن رأى ذلك، أو يبيع الدابة إن رأى بيعها، ولسنا نطوّق المودَع الإنفاق من عند نفسه، شاء أم أبى، مع التمكن من الجهة التي ذكرناها، فإن إلزام الإنفاق من غير سبب في الالتزام لا وجه له، وإن لم يجد المودَعُ الحاكمَ فأنفق وأشهد واقتصد، فهل يرجع على مالك الدابة؟ اختلف أئمتنا في ذلك على طريقين: فمنهم من خرجه على قولين ذكرناهما فيه إذا هرب الجمّال، ومست حاجة المكتري إلى استئجار من يقوم بتعهد الدّواب، ولم يجد حاكماً يراجعه، فإذا استأجر من مال نفسه لمسيس الحاجة، ففي ثبوت الرجوع على الجمّال قولان.
فقال قائلون- المودع إذا أنفق في مثل هذه الصورة، كان على ما ذكرناه من
الخلاف.
ومن أصحابنا من قال: لا يرجع المودَع قولاً واحداً، والفرق أن المكتري يستحق على الجمال القيام بتعهد الجمال لتتهيأ لحمل الأثقال، فإذا هرب الجمال، فاستأجر المكتري، كان ذلك تسبباً منه إلى استيفاء حقٍّ مستحَقّ، وهذا المعنى لا يتحقق في حق المودَع؛ فإنه المقصّر لمّا قبل الدوابَّ من غير تعرضٍ لعلفها وسقيها.
ولو أذن القاضي للمودَع أن ينفق ليرجع بما ينفقه، فقد ذكر أصحابنا في ذلك خلافاً، وقد أوضحنا مثلَ هذا الخلاف في مثل هذه الصورة من مسألة الجمّال.
وهذا الخلاف لا يُتلقى مما قدمناه فيه إذا لم يجد الحاكم فأنفق؛ فإن الحاكم إذا رأى الاستقراض على ربّ الدواب أو رأى بيعَ دوابه، كان له ذلك، والمودَع مع الحاكم لا يستبد، فإذا كان أراد الحاكم أن يأذن له لينفق ويرجع، فوجه الامتناع فيه عند من يمنع أنه في حكم المقرض القابض، وهذا يبعد اجتماعه في حق الشخص الواحد ومهما تعلق أمرٌ بالحاكم وردَّدنا فيه رأياً، لم نعنِ به أن الحاكم لو أدى اجتهاده والمسألة مجتهد فيها، لم نتبع اجتهادَه؛ فإن اجتهاد القضاة متبع بلا خلاف، وإنما الذي نمهده مسلك النظر حتى يرى القاضي فيه رأيه، فإن استقرّ رأيه على شيء، اتبع.
7676- ثم إذا أوجبنا على المودَع أن ينفق على الدابة، فالقدر الذي يجب إنفاقه مما يتعين إنعام النظر فيه، فنقول: أما المقدار الذي يقيها الهلاك، فلابد منه، وكذلك إذا كانت تتعيّب، وإن كانت لا تهلك، فيجب أن يصونها عما يعيّبها؛ فإن التعيب في معنى التلف.
ولا نكلف المودع أن يستفرغ الوسع في تسمينها، والذي يضطرب الرأي فيه أنها إذا كانت على حالةٍ وحدٍّ من السمن عند الإيداع، فهل يشترط أن يعلفها علفاً يبقيها على حدِّها أم نقول: لو انحطت عن ذلك الحد قليلاً، لم يضر، إذا لم ينته النقصان إلى حدّ العيب؟ هذا فيه نظر واحتمال، ولعل الأوجه أنها إذا كانت على غايةٍ من السمن لا يشترط استبقاؤها على ما كانت عليه، وإن كانت على اقتصاد، فيتردد الرأي، والاحتمال متطرق إلى جميع أطراف المسألة.
7677- ومما يتعلق بهذا أن المودع لو حبس الدابة، ولم يعلفها حتى هلكت، فإن لم تكن جائعةً لمّا ثبت يده عليها، ثم حبسها، فهلكت جوعاً، لزمه الضمان. ولو كانت عند الإيداع على حدٍّ من الجوع، فحبسها، وازداد الجوع وتمادى، فنفقت الدابة، وكان نفوقها بسبب الجوع السابق وما انضم إليه، فهذا يستدعي تقديم مسألة ستأتي مشروحة في الجراح، إن شاء الله تعالى، وهي أن الرجل إذا حبس إنساناً وأغلق عليه باباً حتى مات جوعاً، وكان على حدٍّ من الجوع لما حُبس، فانضم ما زاد إلى ما كان، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه لا يجب الضمان؛ فإن الحابس لو حبسه في مثل الزمان الذي جرى الحبس فيه ولم يكن جائعاً عند ابتداء الحبس فهذا القدر كان لا يهلكه، ولم يوجد منه إلا الحبس في هذا القدر، فلا يؤاخذ بتلفٍ ترتب على الجوع السابق. هذا وجه.
والوجه الثاني- أن الضمان يجب؛ فإن حبسه صادف موصوفاً بالجوع، فكان مهلكاً لمصادفته جائعاً، وهذا ينزل منزلة ما لو ضرب رجلاً مريضاً مُدْنفاً سياطاً لا يهلك الصحيح بها ويقصد بها قتل المريض، فإذا مات، كان الضرب موجباً للقصاص؛ فإن المريض يُقصد قتله بهذه الضربات. فقال الأئمة إذا حبس المودَعُ الدابة وكانت جائعة فتمادى الجوع إلى الموت، ففي وجوب الضمان وجهان مرتبان على الوجهين في حبس الآدمي، وجعلوا الصورة التي ذكرناها في الوديعة أولى بسقوط الضمان فيها؛ من قبل أن المودعَ له أن يحبس الدابة على الجملة، وليس يجوز لمن حبس آدميا أصلُ الحبس.
وسنذكر في كتاب الجراح، إن شاء الله وجهاً ثالثاً في أن الضمان يتقسط؛ فيسقط بعضه ويجب بعضه، ولا طريق إلا التنصيف؛ فإنّ وقْع الجوع في الباطن يختلف أولاً وآخراً، وهذا وجه لا بأس به، وإذا خرج في حبس الآدمي، خرج في حبس الدابة من غير علف أيضاً.
7678- ولو قال مودِع الدابة: أودعتها عندك، فلا تعلفها ولا تسقها، ولا عليك لو ماتت، فلو حبسها حتى هلكت، فلا شك أنه يأثم، ويأثم مالكُها، والذي قطع به الأصحاب انتفاء الضمان؛ فإن الضمان حق مالك الدابة، وقد أباح التسبب إلى إهلاكها. وحكى العراقيون وجهاً عن الإصطخري أن الضمان يجب على المودَع، ولست أدري لهذا وجهاً؛ فإنه إن قال ذلك من جهة تحريم ترك العلف، فيلزمه على مساقه أن يقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتل عبدي هذا، فقتله يلزمه الضمان، فإن طَرَد مذهبَه في هذه الصورة، فقد استجرأ على مخالفة الإجماع، وإن رام فرقاً لم يجده، ولست أعد مثل هذا من متن المذهب، ولكني لا أجد بدّاً من حكايته.
7679- ومما يتعلق بالفصل أن المودِع لا يكلفه القيام على الدابة بنفسه وتعاطي سقيها، وهذا يخرّج على ما مهدته في استعانة المودَع بعبده والمتصلين به، ولو كانت الدابة تخرج للسقي، فإن أخرجها عبدٌ أو أجير، فلا بأس، وذلك مع اطراد الأمن واعتدال الحالة؛ فإن طرأت حالة في البلدة تقتضي أن ألا تسلّم الدابة إلى مملوك أو سايس، فيجب على المودَع أن يرعى في كل حالة ما يليق بالعرف فيها، والتعويل في التفاصيل على العرف، وأعرف الناس به أعرفهم بفقه المعاملات.
فصل:
قال: "فلو حوّلها من خريطة إلى أحرز منها... إلى آخره"
7680- نصوِّر هذا الفصل بفض الختم والشدّ، فنقول: إذا كانت الوديعة في خريطة، وعليها ختم المودِع، فإن فض المودَعُ الختم، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب في الطرق أن المودَع يصير ضامناً للوديعة بفض الختام.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً أن فض الختم لا يوجب الضمان، وهذا غريب جداً، ووجهه على بعده أن فض الختم ليس من الأسباب المضمّنة التي ذكرناها في صدر الكتاب، ولو كان منها، لكان يلتحق بالتضييع، وليس فض الختم تضييعاً؛ فإن الختم لا يزيد في الصون والإحراز، وهذا متجه في القياس، ولكن ظاهر المذهب ما قدمناه.
فإن قيل: فما وجه ظاهر المذهب؟ قلنا: فض الختم فعلٌ يشعرُ بخيانة المؤتمن، وإذا ظهرت مخيلة الخيانة، ارتفعت الأمانة، وهذا يتقوى بالعرف؛ فإن الناس يعدّون من فض الختم خواناً، وقد ذكرنا أن مبنى الكتاب على العرف.
والذي يشهد له أن المودع إذا انتفع بالوديعة، ضمنها، وليس انتفاعه تضييعاً، ولكن يستبين به مخايل الخيانة، ومجاوزة حدود الأمناء.
هذا قولنا في فض الختم.
وألحق الأئمة بذلك حلَّ الشداد عن الكيس، إذا كان مشدوداً، وهذا فيه تفصيلٌ عندي، فإن كان الشدّ على وجهِ يقصدُ، وقد يكون إعلاماً حتى يستدل ببقائه على بقاء الكيس على ما كان، فهذا كالختم، فإن كان الشد قريباً، بحيث لا يقصد مثلُه في صوان أو إعلام فما أراه مما يُبالَى به، والاحتمال يتطرق إليه على حال.
7681- ومما يتصل بذلك، وهو مقصودٌ في نفسه أن المودَع إذا فض الختم وضمّناه الوديعة، فلا كلام، وإن لم يكن الكيس مختوماً، ولا مشدوداً شدّاً معتبراً، فلو أخذ المودَعُ من جملة الدراهم درهماً، و استنفقه، ضمنه، ولا يضمن غيره، وإن ردّ بدلَه من مِلكه إلى الكيس، فالمردود إلى الكيس ملكُه، ولا يتأدى به ما عليه؛ فإن الدين لا يتأدى إلا بمُقبضٍ وقابض، وهذا غير متحقق فيما نحن فيه، فالدرهم إذاً مُقَرٌّ على ملكه، ثم إنا ننظر وراء ذلك، ونقول: إن كان درهمه يتميز عن دراهم الكيس، فلا تصير الدراهم مضمونة عليه، وإن اختلط درهمه بدراهم الكيس على وجه لا يتميز، فيصير ضامناً لجميع دراهم الكيس، وكلُّ من خلط مال نفسه بمال غيره متعدياً، صار ضامناً لجميع مال الغير، وإن قل قدر ماله، والسبب فيه انبساط أثر الخلط على جميع المال.
هذا إذا أخذ درهماً واستنفقه، ثم رد بدله.
فأما إذا أخذ الدرهم من الكيس ولم يفض ختماً، ولا حل شداداً، ثم رد ذلك الدرهم بعينه إلى الكيس، نُظر: فإن كان ذلك الدرهم متميزاً عن سائر الدراهم، فالضمان لا يعدوه إلى سائر الدراهم، وإن اختلط ذلك المضمون بسائر الدراهم، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يضمن جميعَ الدراهم؛ فإن الدرهم المردود إلى الكيس مضمون؛ بناء على أن المودع إذا ضمن عيناً من أعيان الوديعة لم يعد أميناً فيها بردها إلى الصون المطلوب منه، فالدرهم إذاً وإن رُدّ مضمونٌ، وإذا تحقق الاختلاط، فلا درهم يشار إليه إلا ويجوز أن يكون ذلك الدرهم، فانبسط الضمان على الجميع، وصار كما لو خلط درهماً من دراهمه بتلك الدراهم.
والوجه الثاني- أنه لا يضمن إلا درهماً؛ فإنه لم يتعدّ إلا في درهمٍ، ولمّا رده، فهو مال صاحب الوديعة، فلا عدوان في الخلط.
7682- ومما يليق بهذا المنتهى أنه إذا وضع وديعة عند إنسان والتمس منه أن يجعلها في ظرفٍ من ظروفه، فإذا فعل المودَع ذلك، ثم أراد إخراج الوديعة من ذلك الظرف، وردَّها إلى ظرفٍ آخر، فلا بأس إذا لم يكن في النقل من الظرف المعيّن إلى ظرفٍ آخر إخلال بالإحراز، وحطٌّ عن حدّ الحرز الأول. وأعظم منازل الظروف-إن كان لها أثر في الإحراز- أن تكون كالبيوت. ولو قال المالك احفظ هذه الوديعة في هذا البيت، فنقله إلى بيت آخر، لم يضرّ ذلك إذا اقتصر على التعيين، ولم ينه عن النقل، فإن نهى عن النقل، فقد مضى تفصيل المذهب فيه.
فإن كان الظرف يؤثر في الإحراز، بأن يعسر قرضه وقطعه، فهو بمثابة البيوت إذا عينت. هذا إذا كان الظرف للأمين.
فأما إذا كان الظرف لصاحب الوديعة، فأخرج المودَع الوديعة من ذلك الظرف وحفظها دونه، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين:
أحدهما: أن هذا يضمّنه الوديعة، وينزل منزلة فض الختم، وحل العِفاص والوِكاء؛ فإن التعرض لإخراج الوديعة من ظرفها تفتيش، والتفتيش عن الودائع من شيم الخوّان.
والوجه الثاني- أن ذلك لا يضر، وليس هو في معنى الفض والحل؛ فإنهما يشعران بطلب الاطلاع على أقدار الودائع، وهذا هو المحذور، فإذا كان الكيس مفتوحاً، فليس في تمييزه من الدراهم طلبُ اطلاع، والكيس مع الدراهم في حكم وديعتين، فإذا أراد المودَع أن يحفظ وديعتين في بيتين، فلا حرج عليه.
هذا منتهى القول فيما يتعلق بالختم، والحل، والشدّ.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شرط ألا يرقد على صندوق... إلى آخره".
ثم قال: "ولو شرط أن يربطها في كمه، فأمسكها في يده... إلى آخر الفصول"
7683- جمع الشافعي رضي الله عنه بين مسائل، وضابطُها واحد، وجامعها من طريق التصوير أن يذكر مالكُ الوديعة في حفظها جهةً مخصوصة في الكيفية، ثم إن المودَع يخالف تلك الجهة إلى أخرى، وذلك مثل أن يدفع دنانير إلى إنسان ويقول له: اربطها على كمك، فاحتوى عليها المؤتَمن بكفه، فهذا احتياطٌ من وجه، وإن كان مخالفةً لما ذكره المودِع، وقد اختلف طرق الأصحاب في ذلك.
فالطريقة المشهورة نأتي بها على وجهها، ثم نلحق بها غيرَها، فنقول: إن لم يَجْرِ من صاحب الوديعة تنصيصٌ على كيفية الحفظ، فلا معترض على المودَع: ربطَ الوديعة في كمه، أو أمسكها في كفه؛ فإن هاتين الجهتين في الحفظ بمثابة بَيْتين في الدار، وكل واحد منهما يتصف بكونه حرزاً معتاداً في مثل الوديعة المفروضة، فالمؤتمن يتخير في حفظ الوديعة في أي بيت شاء.
فأما إذا عين صاحبُ الوديعة نوعاً من الحفظ مثل أن يقول: اربطها في كمك، فاحتوى عليها بكفه، فالربط على الكم يختص بنوعٍ من الاحتياط في بعض الأحوال، فإنه لو غفل أو غلبته عيناه، فالمربوط على الكم لا ينسلّ، ولا يتبتّر، فلو كانت الوديعة في كفه، وغلبته عيناه، لاسترخت أنامله، وانسلت الوديعة.
والضبط في الكف قد يكون أحرز في بعض الأحوال، فإن غاصباً لو أراد سلب الوديعة من حافظها، فكونها في الكف أحوط وأضبط من كونها مربوطة على الكُم، وكذلك الطَّرار قد يهون عليه حلّ الكُمّ، واستخراج ما فيه، ولا يعصم عنه الربط، ولا يتوصل الطرار إلى ما يحتوي المرء عليه بكفه.
فإذا لاح ذلك، ابتنى عليه ما ذكره الأصحاب، قالوا: إن عيّن مالك الوديعة الربطَ على الكم، فضبط المودَعُ في الكف، فضاعت الوديعة، نظر: فإن جاء الضياع من جهة الانتشار والانسلال عند النوم، والغفلة، وجب الضمان؛ فإن الضياع جاء من الجهة المحذورة التي يكون الربط فيها أحوط من الاحتواء بالكف، وإن جاء الضياع من جهة سلب، ونهبٍ، فمانعَ المودَعُ الوديعة جهده، ثم غُلب، فلا ضمان؛ فإن الاحتواء بالكف أحوط في مثل هذه الحالة.
وحكى الأصحاب نصاً على هذا الوجه عن الشافعي، وذلك أنه قال: "إذا سلم مالكُ الوديعة ماله إلى المؤتمن، وقال: احفظه في هذا البيت، ولا تُدخل عليه زيداً، فخالف المودَع وأدخل ذلك الشخص الذي نهاه المالك عن إدخاله، فضاعت الوديعة، نظر: فإن جاء الضياع من جهة دخول ذلك الشخص، واطّلاعه على الوديعة، بأن سرق هو أو دلّ سارقاً، وجب الضمان، وإن جاء الضياع من جهةِ غير هذا الداخل، فلا ضمان. وبنى الأصحاب على ذلك تعيينَ البيت في مثل قول المودع: احفظ الوديعةَ في هذا البيت، فنقله إلى بيت آخر، وكان في كل واحد من البيتين نوعٌ من الاحتياط ليس في الثاني، فإذا ضاعت الوديعة، نظر: فإن تحقق الضياع من جهة قصور البيت المنقول إليه عن البيت المعيّن، وجب الضمان، وإن لم يأت الضياع من جهة القصور، لم يجب الضمان، وذلك مثل أن يكون البيت المنقول إليه أقوى جداراً، وأطولَ سَمْكاً، وأمتن أساساً، ولكنه كان يتاخم شارعاً، والبيت الآخر أضعف من المنقول إليه، ولكنه لا يتاخم الشارع، فإن أتى الضياع من جهة النقب والبيت المنقول إليه أمنع للنقب، فلا ضمان. ولا يخفى تصوّر نقيض ذلك في الجهة المحذورة، وهذه الطريقةُ المشهورة.
7684-قال صاحب التقريب لما استاق هذا الترتيب على وجهه: هذا هو المشهور من المذهب، ويحتمل عندي أنه إذا خالف في جهة الحفظ التي عيّنها مالك الوديعة، فضبط في كفه، وقد أمره بالربط، أو ربط وقد أمره بالحفظ في اليد أنه يضمن في الحالتين، سواء جاء الضياع من الجهة المحذورة، أو من جهة أخرى، واعتلّ بأن قال: إذا كان الضمان ممكناً في جهة المخالفة على وجهه، فقد حصل من المودَع تعرض للضمان على الجملة، فإذا تعرض للضمان في بعض الأحوال لأجل المخالفة، وجب أن يصير ضامناً بسبب المخالفة كيف فرض الضياع.
وهذا وإن كان له اتجاه في المعنى، فهو غريب، ويلزم على مساقه أنه إذا نقل الوديعة من البيت المعيّن إلى غيره، وكان بين البيتين تفاوت في جهتي الحفظ أنه يجب الضمان. وفي كلام صاحب التقريب ما يتضمن ذلك.
فأما إذا استوى البيتان في جهات الحفظ، فإذ ذاك إذا نقل، فلا ضمان-وإن عين المالك أحد البيتين- إذا لم يصرح بالنهي عن النقل عنه.
7685- وذكر العراقيون مسلكاً آخر، ولم يتعرضوا لشيء من هذه التفاصيل التي ذكرناها، فقالوا: إذا أمره بأن يضبطه ربطاً على الكم، فحفظه في كفه، فقد اختلف نص الشافعي في أنه إذا ضاع هل يضمن أم لا؟ ولم يذكروا في اختلاف النص التفصيل الذي حكيناه في طريقنا.
ثم قالوا: اختلف أصحابنا فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: أن الضبط في الكف أولى وأحرز، ومنهم من قال: لا، بل الربط على الكم أحرز وأولى.
فإن قلنا: الكف أحرز، فإذا أمره بالربط، فضبط في كفه، لم يضمن، ويكون كما لو قال: احفظه في هذا البيت، فنقله إلى أحرزَ منه، وإن قلنا: الربط في الكم أحرز من الضبط في الكف؛ فإنه يضمن إذا احتوى عليه بكفه؛ لأنه ترك الأحوط في مخالفته، فكان كما لو عين له بيتاً ليحفظ الوديعة فيه، فنقلها إلى بيت دونه في الحِرز، فلم يتعرض العراقيون لما ذكره أئمتنا المراوزة من اتفاق الفوت بالجهة المحذورة عند فرض المخالفة، وإنما مهدوا أولاً تردُّداً في الأحوط، ثم بنَوْا عليه حكمَ الضمان، إذا فرضت المخالفة.
ومن تمام طريقهم أن المسألة عندهم مصوّرة فيه إذا نص على جهة وخصصها بالذكر، ولم ينه عن الانتقال عنها، ونزّلوا هذا منزلة ما لو عين بيتاً، وقال: احفظ الوديعة فيه، ولم يصرح بالنهي عنه إلى غيره.
فلو نص على جهة في الحفظ، وصرح بالنهي عن غيرها مثل أن يقول: اربطها على كمك ولا تترك الربط ولا تعدل عنه إلى الحفظ في الكف، فإن كان كذلك، فهو بمثابة ما لو قال: احفظ الوديعة في هذا البيت، ولا تنقلها إلى غيره، وقد ذكرنا أنه إذا نقل إلى بيتٍ أحرزَ مما عين أو مثلِه، ففي المسألة وجهان، كذلك يجري هذا الاختلاف في هذه الصورة.
ومما يرد على طريقهم أن قائلاً لو قال في تأسيس الكلام: الربط والضبط متساويان، أو في كل واحد منهما نوعٌ من الاحتياط ليس في الثاني، والأحوال التي تُحوج إلى خاصة كل واحدة من الجهتين متعارضة الإمكان، ونتيجة هذا الحكمُ بالتساوي.
ومهما ذكر العلماء في شيئين ترجيحين، وذهب كل فريق إلى تغليب الجهة التي رآها فيتجه عند الناظر، إذا استدّ نظره استواء الجهتين لما نبهنا عليه.
هذا منتهى طريق العراقيين.
7686- فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاث طرق: إحداها- للمراوزة، وهي تدور على النظر إلى وجه الهلاك، بعد تبين ما يخص كل جهة به من الاحتياط ونقيضه، فإن اتفق الفوات من الوجه المحذور من الجهة المنتقل إليها، وجب الضمان وإن اتفق الهلاك من غير الوجه المحذور في الجهة المنتقل إليها، فلا ضمان.
والطريقة الثانية لصاحب التقريب- وهي أنا نوجب الضمان إذا فرض الانتقال من الجهة المعيّنة إلى الجهة الأخرى، سواء كان الفوات بما يحذر في تلك الجهة أو بغيره.
والطريقة الثالثة للعراقيين- وقد تفصلت على وجهها.
ويُجري الفطن في أثناء ما ذكرناه في الجهتين تفصيل القول في تعيين البيت والنقل منه إلى آخر، والتفطّن لما يختص به كل بيت من احتياط في الحفظ ونقيضٍ له، حتى إن كانا كذلك، فهما كجهتي الحفظ، فإن استويا، لم يخف تفريعهما.
وقد نجز تمام المراد في ذلك.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شرط ألا يرقد على صندوق... إلى آخره".
7687- هذا متصل بما تقدم في تعيين طريق الحفظ والنهي عنه، وقصد الشافعي بهذا الردَّ على مالك؛ فإنه سلك مسلكاً لم يرتضه الشافعي، فقال: إذا نهاه عن الرقود على الصندوق، فرقد عليه كان برقوده عليه دالاً اللصوص على مكان الوديعة، والدلالة على الوديعة سببُ الضمان، فرد الشافعي عليه ذلك، ولم يجعل ما تخيّله معتبراً؛ فإن كلّ محوط برعاية كالىءٍ فيه هذا المعنى، وقد أوضحنا أن الدُّور لا تكون أحرازاً بأنفسها ما لم تكن ملحوظة بعينٍ كالئة، نعم إن فرض غرض في الرقود أمام الصندوق، مثل أن كانت الوديعة تؤتى من أمامها، فإذا فرض الرقود أمام الصندوق، فقد يعسر على من يبغي الصندوق إتيانه من جهة قدّام، ولو فرض الرقود على الصندوق تهيّأ إمكان الإتيان من الجهة المحذورة، فيلتحق هذا بما إذا عيّن جهة في الحفظ، كالربط على الكم والضبط في الكف، فتركَ الجهة المعينة، واختار أخرى وقد مضى تفصيل ذلك، فلا حاجة إلى إعادته.
فصل:
7688- إذا مات المودَع، وخلف الوديعة، وأوصى بها، ولم ينسب إلى تقصير، فتلفت الوديعة في يد الوارث، فإن كان تلفها على القرب قبل التمكن من الرد، فلا ضمان أصلاً؛ فإن المودَع لم يقصر، ومن خلفه بالوراثة لم يقصر أيضاً، ولو مر زمان إمكان رد الوديعة، ثم تلفت في يد الوارث، فهذا فيه تردد يتعين الاعتناء بفهمه.
فليعلم الناظر أن الوارث ليس مودَعاً من جهة المالك، وموت المودَع لا يورِّثه حقَّ الحفظ في الوديعة، كما أن موت الوكيل لا يورث وارثه حقَّ التصرف الذي كان مفوضاً إلى الوكيل، فخرج منه أن الوارث فيما في يده بمثابة من يطيّر الريحُ ثوباً إلى يده، فليس له حكم المعتدين، وليس أيضاً أميناً من جهة المالك.
وقال الأئمة: إن لم يطلع على صاحب الثوب، لم يكن عليه طَلِبَة، وهذا فيه بعض النظر عندي، فالقول فيه يبنى على أن الثوب الذي وصفناه في حق من وقع في يده هل ينزل منزلة اللقطة أم لا، وفيه خلاف ذكرته في فصل الركاز من كتاب الزكاة، فإن جعلناه لقطة، لم يخفَ حكم اللقطة فيما يجب ويجوز فيها، وإن لم نجعله لقطة، فهو أمانة، وفي وجوب الإشعار بها تردد، والظاهر أنه لا يجب طلب مالكه؛ فإن وجوب التعريف في معارضة تسليط الملتقط على التملك، فإذا سددنا باب التملك، لم نكلف من وقع الثوب بيده القيام بالتعريف، وما ذكرناه يتضح بسقوط اختيار صاحب اليد.
وذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الإشعار به. ثم القول فيه يختلف على تردد واحتمال، فيجوز أن يجب الإشعار أبداً، ويجوز أن يكتفى بإشهاره والإشهار به إلى حدٍّ يغلِّب على الظن شيوع خبره، ثم لا يجب غيره، أما تقييد التعريف بالسنة على قياس اللقطة، فليس بالمتجه، مع أن انقضاء السنة لا يُعقِب حقَّ التملك، وليس يُبعد فقيهٌ المصير إلى ذلك؛ من حيث إنه تعريف شرعي.
ولو اطلع صاحب اليد في الثوب على مالكه، يجب عليه إعلامه، وإن لم نوجب التعريف عند التباس المالك، فكذلك على الوارث في مسألتنا أن يُعلم صاحب الوديعة، فإن قصر في إعلامه بها، صار ضامناً.
هذا معنى قول الأصحاب: إن تلفت الوديعة قبل الإمكان، لم يضمن، وإن تلفت بعد إمكان الرد، ضمنها، والمراد إن تمكن من الإعلام، فلم يُعلم، ولم يُرد الأصحابُ أن الوارث يلزمه تعاطي الرَّد بنفسه، حتى إن كانت مؤنةٌ في الرد، وجب عليه التزامها، هذا ما لا قائل به من الأصحاب.
7689- ولو ادعى الوارث الرد على المودَع، لم يقبل قوله، والسبب فيه ما مهدناه قبلُ من أنه ليس مؤتمناً من جهة المالك، وإنما تُقبل دعوى الرد من المؤتمن على من ائتمنه، وحكم الأمانة إن ثبت في حق الوارث، فلم تثبت الأمانة مقصودة، والتصديق في دعوى الرد موقوف على ثبوت الأمانة قصداً.
7690- ولو ادعى الوارث التلفَ، فكذبه المودِع، فالوجه عندنا القطع بتصديقه؛ لأنه ليس معتدياً ويده يد أمانة.
وينقدح عندي هاهنا طريقةُ العراقيين في إيجاب الإشهاد، إن كان السبب مما يمكن الإشهاد عليه، وكان الإشهاد ممكناً، ولهذا لم نصدقه في الرد؛ فإن الإشهاد على الرد ممكن.
هذا منتهى النظر في ذلك.
ولو ذكر المودَع أن الوديعة تلفت في يده، ومات قبل أن يحلف، فالأمر محمول على ذلك، ولمالك الوديعة أن يحلّف الوارث، ثم قال الأصحاب: إن تحقق الوارث تلف الوديعة، حلف عليه بناء على علمه، وإن لم يتحقق ذلك، وكان ظنه غالباً في صدق أبيه، فله أن يحلف على البت؛ بناء على ظنه بصدق أبيه.
وهذا قطب من أحكام الأيْمان سيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل، في كتاب الدعاوى.
وإن غلب على ظنه كذب أبيه، لم يكن له أن يحلف.
وإن أمكن فرض استواء الأمرين في الاعتقاد من غير تصوير ظنٍّ غالب، ففي جواز الاعتماد على قول الأب خلاف، سببه اعتضاد اليمين ببراءة ذمة الوارث، وسلامة التركة له.
ومن منعه من اليمين، اعتل بأن اليمين لا مستند لها من يقين ولا ظن، والأصل بقاء الوديعة.
فهذه جملةٌ في أحكام الورثة، كنا وعدنا ذكرها، وقد نجز الغرض منها، وإذا ضمت إلى ما ذكرناه في الإيصاء وترك الإيصاء، كان المجموع كلاماً بالغاً في ذلك.
فصل:
قال: "ولو ادعى رجلان وديعة، فقال المودَع: هو لأحدكما ولا أدري لأيكما هو... الفصل".
7691- إذا ادّعى رجلان وديعةً، فقال المودَع: لا أدري لأيكما هو، وقد علمت أنه لأحدكما. فإن لم يدعيا علمه، فلا كلام لهما معه؛ فإنه ليس متعدياً باتفاقهما، ونسيانُه لا يلحقه بالمتعدين وفاقاً، فليُحط الناظرُ بذلك، فهو قاعدة الفصل، فإذا لم يكن ضامناً، ولم يُدَّع عليه علمٌ، انقطعت الطَّلِبةُ عنه. هذا ما ذكره الأصحاب.
قال صاحب التقريب: هل للقاضي أن يحلّفه على نفي العلم، وإن لم يدّع الخصمان العلم؟ فعلى وجهين. ثم قال: إن قلنا: لا يحلّفه القاضي، وهو الأصح، فلا كلام، ووجهه أن هذا يتعلق بحقهما، وهما لا يدعيانه. قال: وإن قلنا: يحلفه القاضي، فهو استحبابٌ وليس باستحقاق، قطعَ جوابَه بهذا.
وهذا عندي كلامٌ مضطرب؛ فإن التحليف في حق الله من الزكوات إذا قضينا بأنه مستحب لغوٌ من الكلام، كما نبهت عليه في كتاب الزكاة، والحق في الزكاة لله، ويليق بحقوق الله تعالى احتياط القضاة، فأما إثبات التحليف في حق الآدميين، من غير دعوى، مع الحكم بأنه استحبابٌ، فكلامٌ في نهاية السقوط والركاكة، ولكن صاحب التقريب كرر هذا في كتابه، فلم أوثر إخلاء هذا المجموع عنه، ولا يمكن حمل كلامه على تنبيه القاضي الخصمين على دعوى العلم؛ فإنه لم يُرد ذلك، ولم يتعرض له، ورأى التحليف إذا قيل به من مراسم القضاة، وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة في إيضاح تداعيهما في الوديعة وقطعهما الدعوى عن المودع إذا استفرغنا مقصودَ الفصل.
7692- ولو ادعى كل واحد منهما علمَه، فقال هذا: أنت تعلم أني مالك الوديعة، وقال الآخر مثلَه، فيحلف المودع بالله لا يعلم.
وذكر أئمتنا في طرقهم إن اليمين الواحدة تكفيه في حقهما، وقال أبو حنيفة: لابد وأن يحلف لكل واحد منهما يميناً، وهذا عندي محتمل في القياس؛ فإن خصومة كلِّ واحد منهما منفصلة عن خصومة الثاني، وهذا احتمالٌ، والمذهب ما نقلته.
ولو فرضنا حضورَ أحدهما، وادعاءه العلمَ، فأنكر المدعى عليه العلم، وحلف عليه، فإذا حضر الخصم الآخر، فهل يقع الاكتفاء باليمين السابقة؟ وليقع الفرض فيه إذا تعرض المودَع للتردد بينهما، فقال لما توجهت عليه الدعوى من الأول: لست أدري أودعتَ أم أودع صاحبُك فلان، فإذا جرى الحلف مع الأول، فهل يحلّفه الثاني؟ هذا لا نقل فيه، وفي المسألة احتمال، ولا يبعد أن يثبت للثاني أن يحلِّفه، وتخصيص اتحاد اليمين بشهودهما حال قيام الخصومة، وهذا فيه إذا وقع التعرض في جواب الأول للرجلين.
فأما إذا ادعى الأول، فكان من جواب المدعى عليه: إنك أودعتني أو رجل آخر لم يسمِّه، ولست أدري، فإذا حلف لا يدري أن المدعي أودع عنده، فلابد من تجديد اليمين إذا حضر الثاني.
ثم إذا حضرا وادعيا، وعُرضت يمين العلم، فلا يخلو إما أن يحلف بالله لا يعلم مَن المودِع المستحِق منهما، أو ينكل عن اليمين، فإن حلف: لا يدري من المستحِق منهما، قال صاحب التقريب: لا يخلو الخصمان إما أن يحلفا بينهما أو ينكلا عن التحالف، أو يحلف أحدهما وينكل الثاني.
7693- فإن نكلا جميعاً، ولم يحلف واحد منهما، قال: فلا يدفع المال إليهما، ولا يقسم بينهما؛ إذ لم يُقم واحد منهما حجة، ولا يدَ أيضاً لواحدٍ منهما، فلا يقتسمانه، ولكن يوقف المال بينهما كما يوقف كل مالٍ بين جماعة أشكل مستحقه منهم.
ثم إن أقام واحد منهما بينة، قضي بها، وإن اصطلحا، وتراضيا، فهو إليهم، ولعلنا نذكر في ذلك قولاً ضابطاً في نكاح المشركات، إن شاء الله عز وجل- يحوي أطراف الكلام في أمثال هذا الإشكال.
فخرج منه أنا على رأي صاحب التقريب لا نقسم الوديعة بينهما وجوباً، ولكنا نقف على التراضي أو البيان.
وقال طوائف من أئمتنا-وهو مذكور في بعض المصنفات- إذا لم يحلفا، قُسّمت الوديعة بينهما قَهْراً، وسبيلهما كسبيل رجلين في أيديهما دارٌ، وكل واحد يدعي الدار بكمالها لنفسه، فحكم الدار أن تقرر في أيديهما ويُقضى بظاهر الملك لكل واحد منهما في نصف الدار.
وهذا يمكن توجيهه بأن المودَع في إقراره لهما سوّى بينهما، ولم يعيّن واحداً، وأبهم الأمرَ، واعترف بأن يده مستعارة، فصار كما لو ثبتت أيديهما على الوديعة.
وهذا وإن كان يتجه، فالأموال المشكلة تَرد على ذلك؛ فإن من أسلم على ثمان نسوة وأسلمن، فإضافة الربع أو الثمن إليهن على قضيةٍ واحدة، ليس بعضهن أولى به من البعض.
ثم لم يُطلق جماهير الأصحاب القولَ بوجوب قسمة الربع أو الثمن بينهن، على أنهم لم يُخلو ذلك الفصلَ عن المصير إلى قسمة ذلك بينهن وجوباً، على ما سيأتي.
وقياس ظاهر المذهب، ما ذكره صاحب التقريب.
ثم قال: إذا قلنا: يوقف المال، فهل تبقى تلك الوديعة في يد المودَع، أم تخرج من يده؟ فعلى قولين، وهذان القولان جاريان في نظائر ذلك:
أحدهما: أنها تخرج من يده؛ فإنه أقر بأنه ليس بمستحق له، وثبت طلب الاسترداد من كل واحد من الخصمين، فيسلم القاضي الوديعة إلى عدل أو يحفظها بنفسه.
والقول الثاني- أنه يتعين تقريرها في يد المودَع؛ فإنه لو استخرجها من يده، لوضعها عند مثله، فاستدامةُ يده إلى البيان أولى.
وإن قلنا: للقاضي أن يُخرج الوديعة من يده، فلو رأى أن يستحفظه من تلقاء نفسه، لم يمتنع ذلك، ولكن لابد منه.
هذا إذا حلف المودَع، ونكل الخصمان عن التحالف بينهما.
7694- فأما إذا حلفا جميعاً: هذا حلف أنه المستحِق دون صاحبه، وكذلك صاحبه، قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان حينئذ:
أحدهما: أن الوديعة تقسم بينهما، ويكون كما لو تنازعا داراً في أيديهما وتحالفا، فلكل واحد منهما نصفها، كذلك هاهنا.
والوجه الثاني- أنه لا يجب قسمة الوديعة بينهما؛ فإن يمينهما تعارضتا وتضادّتا فلتسقطا، ويلتحق الخصمان بما إذا نكلا، ثم لا شك أن من يقسم الوديعة بينهما في نكولهما يجري هذا الحكم في حلفهما، ثم قال: إذا لم تقسم الوديعة، لم تثبت أيديهما، وكانت الوديعة موقوفة، وقد مضى تفصيل القول في الوقف.
وكلُّ ما ذكرناه فيه إذا عرضنا اليمين على المودَع، فحلف بالله لا يعلم.
7695- فأما إذا عرضنا اليمين عليه في نفي العلم، فنكل عن اليمين، قال صاحب التقريب في كيفية ردّ اليمين على المدّعين وجهان:
أحدهما: أن القاضي يبدأ بمن شاء منهما؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، فيحلف كل واحد منهما، والبداية موكولة إلى القاضي.
والوجه الثاني- أنه يُقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة يحلف أولاً ثم الثاني بعده.
7696- التفريع على الوجهين: إن قلنا: إنه يحلِّفهما بلا قرعة، فإذا حلفا، فقد ذكر صاحب التقريب ثلاثة أوجه على هذا الوجه أحدها: أنه يسلّم إلى كل واحد منهما نصف العين ويغرِّمه كلُّ واحد منهما نصفَ قيمة العين، وتعليل ذلك أن كل واحد منهما يقول: أثبتُّ بيميني استحقاقي للوديعة، وأنت بترك الإقرار حُلْت بيني وبين نصف الوديعة، ولما نكلتَ عن اليمين لم تُعذَر، ولم تصدَّق على دعوى النسيان، فيتحصل من ذلك أن كل واحد منهما ينسبه إلى تفويت نصف الوديعة عليه، وموجب ذلك ما ذكرناه من تغريم كل واحد منهما إياه نصفَ قيمة الوديعة، وهذا الوجه لا يتضح إلا بذكر صفة اليمينين، فيحلف كل واحد منهما على استحقاقه، وعلى علم المودَع باستحقاقه؛ فإنه بحلفه على علمه يُثبت تفويتَه، ولو لم يحلف على علمه، لم يستحق عليه شيئاً من القيمة.
هذا أحد الوجوه.
و الوجه الثاني- أن العين تقسم بينهما، وليس لواحد منهما عليه شيء من القيمة.
وهذا الوجه يخرج خروجاً صحيحاً على قولنا: الشاهد على الملك إذا رجع عن شهادته بعد نفوذ القضاء، لم يغرم للمشهود عليه قيمةَ المشهود به، وكذلك إذا قال: غصبتُ هذا العبدَ من فلان، لا بل من فلان، فالعبد مسلّم إلى الأول المقرّ له أولاً، وهل يغرم للمقر له الثاني قيمةَ المقرّ به؛ من جهة انتسابه إلى التفويت عليه بالإقرار الأول؛ فيه قولان.
فالوجه الأول والثاني إذاً مأخوذان من هذين القولين.
7697- وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً- وهو أن العين لا تسلم إليهما، بل توقف بينهما، وهذا الوجه خارج على ما مهده من الخلاف في حلفهما بناء على تعارض اليمينين، فالذي يقتضيه الترتيب إذاً ذكر خلاف في أن العين هل تسلم إليهما أم لا؛ فإن قلنا: لا تسلم إليهما، وقد حلف كل واحد منهما على علمه، فهل يغرَم القيمة للتفويت؟ فعلى وجهين مبنيين على ما ذكرناه من أن التفويت هل يوجب الغُرم؟ فإن قلنا: لا يوجبه، فالعين موقوفة، ولا غرم، وإن قلنا: التفويت يوجب الغرم، فالعين توقف، والغرم يجب، ثم يغرَم المودع لكل واحد منهما تمام القيمة؛ فإنه ينسب في حق كل واحد منهما إلى الحيلولة في العين.
وفي كلام صاحب التقريب دقيقة على وجه الوقف، وهو أنه قال: إذا أوقفنا العين، فيغرَم المودَعُ لكل واحد منهما نصفَ القيمة قولاً واحداً لتنجيز الحيلولة في العين الموقوفة، وهل يغرم تمام القيمة، أم النصف الثاني من القيمة في حق كل واحد على التردد المتلقى من القولين في الشهادة والإقرار؟ وهذا حسن.
وكل ذلك تفريع على وقف العين.
فإن قلنا: العين تقسم بينهما، ففي تغريم المودَع لكل واحد منهما نصف القيمة الوجهان المقدمان.
هذا كله إذا نكل المدعى عليه، وحلف الخصمان.
7698- ولو نكلا، كان كما لو حلف المدعى عليه على نفي العلم ونكلا؛ فإن نكولهما أقام حكم يمين الخصم وثبتت خاصية نكولهما، فالتحق هذا بما تقدم فيه إذا حلف ونكلا.
7699- ولو حلف أحدهما ونكل الثاني فاز الحالف بالعين، وخاب الناكل؛ فإن نكوله كما يحرمه العين يحرمه الرجوع في القيمة.
وكل ذلك تفريع على أحد الوجهين، وهو أنا لا نقرع بينهما.
7700- فأما إذا قلنا: نقرع بينهما، فمن خرجت لها القرعة، حلّفناه، فإن حلف، فكيف السبيل فيه؟ ذكر صاحب التقريب وجهاً ظاهراً، ورمز بالثاني، فالذي أظهره أن الحالف يفوز بملك العين، وهذا فائدة القرعة، فلو قال الثاني: فأنا أحلف؛ حتى يشترك في العين، لم نُجبه إلى ذلك، ومن آثار القرعة إعتاق عبد وإرقاق عبد، والخصمان هاهنا يدعي كل واحد منهما تمامَ الاستحقاق، والمدَّعى عليه معترفٌ بالاستحقاق لأحدهما لا بعينه، فلا يمتنع أن تؤثر القرعة في تعيين أحدهما. وقد قال الشافعي في أحد أقواله: إذا تعارضت بينتان، ورأينا استعمالهما، فإنا نقرع بين الخصمين، فمن خرجت له القرعة، فاز بالملك، وخاب صاحبه.
وإنما ذكرنا هذا حتى لا يستبعد الناظر اقتضاءَ القرعة اختصاص أحدهما بملك العين. هذا وجه ظاهر.
ثم فرع عليه، وقال: إذا فاز من خرجت له القرعة-وحلف- بملك العين، فهل يغرم المودَع للثاني إذا حلف؟ فعلى وجهين، وهما الوجهان المذكوران في أن إيقاع الحيلولة هل يتضمن تغريم القيمة؟ فإن قلنا: لا يغرم للثاني شيئاً، فلا يحلِّفه أصلاً ويحلّف من خرجت له القرعة لا محالة. وإن قلنا: الحيلولة توجب الغرامة، فيحلف الثاني، فإن حلف، استحق تمام القيمة.
هذا كله بيان الوجه الذي أظهره، وهو اقتضاء خروج القرعة تخصيصَ من خرجت له القرعة باستحقاق العين.
وأشار إلى وجهٍ آخر وهو أن القرعة لا تفيد ذلك، ولا تقتضيه، ولكن فائدة القرعة بدايةٌ محضة باليمين، فإن خرجت القرعة لأحدهما، وحلف، حلّفنا الثاني، ثم يعود التفريع إلى أن القاضي يحلّف من شاء منهما، وقد مضى تفصيل القول في ذلك.
7701- ثم إذا كانا يحلفان، فسبيل حلفهما فيما يتعلق بالعين ما نصفه، فنقول: من تقع البداية به إن حلف، فيحلف أنه لا حق لصاحبه في العين، ثم إن نكل صاحبه، فعلى الذي حلف أولاً أن يحلف مرة أخرى على الإثبات، فيثبت له الاستحقاق بيمين النفي والإثبات، ولا يجمع في الابتداء بين النفي والإثبات. وإن نكل من بدأنا به، فحينئذ يجمع صاحبه-إن أراد أن يحلف- بين النفي والإثبات.
وتمام البيان في هذا يأتي في الدعاوى عند ذكرنا اختلاف رجلين في أيديهما دارٌ وكل يدعي تمامها لنفسه، فيدُ كلِّ واحد ثابتة في نصف الدار، وهو فيه مدَّعىً عليه، وهو مدعٍ في النصف الذي في يد صاحبه. وحكم يمين المدعى عليه أن يكون على النفي ويمين الردّ يكون على الإثبات، ولا يثبت يمين الرد إلا عند نكول الخصم.
7702- وقد نجز تفصيل القول في مسألة الوديعة، وذكر الأئمة صورةً أخرى تتعلق بالغصب تناظر صورة الوديعة، وهي أن من في يده العين لو قال: غصبت هذه العين من أحدكما، ولا أدري ممن غصبت، فلا يكتفى منه بيمين واحدة على نفي العلم، بل كل واحد منهما يكلفه أن يحلف على البت: ما غصبتُ هذه العينَ منك فإن أبى، كان ناكلاً عن اليمين، والفرق بين البابين أن المودَع غيرُ ضامن، وقد ذكرنا في صدر الفصل أن نسيانه لا يُثبت له حكمَ العدوان، فاكتفينا منه بنفي العلم؛ فإنه إذا انتفى العلم عنه، انتفى الضمان، وانتفاء العلم في الغصب لا يدرأ الضمان، ولا يقطع الطَّلِبةَ عن الغاصب، فلاح الفرق.
ولو ادّعى أحدهما عليه الغصبَ، وكان سبق منه دعوى التردّد، وقال للذي وجه الدعوى عليه ما غصبت العين منك؛ فإنه يصير مقرّاً للآخر؛ لأنه اعترف أولاً بأن الغصب كان من أحدهما، فإذا جزم نفي الغصب في حق أحدهما، تعين الثاني لثبوت الغصب في حقه، فيسلّم العين إلى الثاني.
ثم هل يغرم للذي ادعى عليه، فأنكر الغصب في حقه شيئاً، وكيف السبيل فيه؟ لا شك أنه بمجرد الإنكار في حقه لا يغرم؛ فإنه لم يأت أولاً بما يقتضي ثبوتَ حق له، حتى ينتسب إلى إيقاع الحيلولة آخراً، نعم، لو أنكر دعوى الأول، وجعلنا ذلك إقراراً للآخر، فلو أقر للأول بعد ما أنكر، فهل يغرم للأول شيئاً؟ فعلى قولين وعلى هذين القولين يبتني أن الأول الذي أنكر حقَّه هل يملك تحليفه؟ فإن قلنا: لو أقر له بعد الإنكار، غرِم له، فيملك الأول تحليفَه لتوقع أن ينكل، فيحلف المدعي.
وإن قلنا لو عاد، فأقر للأول، لم يغرم له شيئاً، فليس للأول أن يحلّفه؛ فإن تحليفه إياه لا يفيد غُرماً، وقد استقر الإقرار المتلقَّى من الإنكار للثاني، وذاك لا مستدرك له، فلا معنى للتحليف.
وقد هذى بعضُ الأصحاب بشيء، لا فائدة فيه، ومثله يشوش المذهب، ويفسد القواعد، وذلك أن بعض من لا يحيط بسر الفقه، صار إلى أن الأول لو حلف يمين الرد، لا يستحق العين المغصوبة؛ بناء على أن يمين الرد ينزل منزلة البينة المقامة، ولا ينزل منزلة إقرار الخصم، ثم لو أقام الأول بيّنة، قضي له بها، وهذا ليس بشيء، وهو بإجماع أئمة المذهب غلطٌ، وسنذكره على الاستقصاء في كتاب النكاح، وفي كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
7703- ذكر الأئمة رضي الله عنهم أن الصبي ليس من أهل أن يؤتمن، ويده لا تصلح لحفظ الودائع، ثم ذكر الأصحاب التفصيلَ في إتلافه الوديعة. وقد ساق العراقيون طريقةً جامعة في أحواله، فقالوا: إن ثبتت يد الصبي على مال إنسان، وجرى من مالك المال ما يتضمّن تسليطَ الصبي على إتلافه، فإذا حصل بهذا الطريق مالٌ في يد الصبي، وأتلفه، فلا ضمان عليه، وهذا كما لو باع شيئاً من صبي، وسلّمه إليه، فالبيع فاسد، ولو أتلف الصبي ما قبضه، لم يضمنه؛ فإن مالك ذلك المتاع سلّط الصبي على ذلك، ولا نظر إلى قول من يقول: إنما سلطه بعوض؛ فإن ذلك العوض ساقط، والتسليط على الإتلاف كائن، والساعي في تضييع المال هو المالك، ثم إذا لم يضمن في صباه، لم يلزمه الضمان بعد بلوغه، والضمان منفي عنه في الحال والمآل، ظاهراً وباطناً.
ومن أحوال الصبي في الإتلاف أن يتلف مالاً ابتداءً من غير صدور سبب من المالك، فإذا جرى ذلك على هذا الوجه، وجب الضمان في مال الصبي، يخرج منه في صباه، ولا ينتظر بلوغه. وإن اتفق استئخار الطلب إلى ما بعد البلوغ، طولب بعد استقلاله.
ومن أحواله في الإتلاف أن يُثبت المالك له يداً مقصِّراً مغرِّراً بمال نفسه، من غير أن يسلطه على التصرف فيه، وهذا بمثابة ما لو أودع مالَه عند صبي، ففي الإيداع إثبات يدٍ له، ولكن ليس فيه تسليطهُ على التصرف، فإذا أتلف الصبي الوديعةَ، ففي وجوب الضمان وجهان:
أحدهما: يجب الضمان في مال الطفل، كما لو أتلف مالاً ابتداء.
والثاني: لا يجب؛ فإن مالك المال هو المغرِّر المقصر.
والأول يقول: المالك لم يسلِّطه على الإتلاف، وإنما استحفظه في المال.
وهذه الأحوال الثلاث تجري في حق العبد، فإن باع المالك منه شيئاً، فالبيع مردود على المذهب، فلو أتلفه العبد، لم يتعلق الضمان برقبته، ولكنه يطالب بالقيمة إذا عتق.
ولو أودع عند عبدٍ من غير إذن المولى، فأتلف العبد الوديعة، ففي تعلق الضمان برقبته وجهان، والعبد يفارق الصبي من حيث إن ما لا يضمنه الصبي من مال في صباه لا يضمنه قط، وإذا أسقطنا تعلق الأرش برقبة العبد وفاقاً، ثم عَتَق، طولب بقيمة المتلَف بعد زوال الرق، والسبب فيه أن المرعي في نفي الضمان عن الصبي حقه، وحقُّه مرعيٌّ في الحال والمآل، والمرعي في نفي تعلق الأرش بالرقبة حقُّ المالك، وحقه يزول بالعتق.
فلو جرى ما وصفناه من مملوك صغير، فإن كان ذلك لو صدر من صبي حر، لما وجب الضمان في الحال والمآل، فكذلك لا يتعلق الضمان بالصبي المملوك؛ فإنه كالصبي الحر، غيرَ أن الصبي الحر لم يتعلق به استحقاقٌ لغيره، بخلاف المملوك.
وحيث قلنا: يجب الضمان في مال الصبي الحر، فإذا صدر ذلك السبب من الصبي المملوك، تعلق الأرش برقبته.
وقد نجز تمام المراد في ذلك ونجز بنجازه مسائل الوديعة، والله الموفق بالصواب.