فصل: باب: تفريق القسم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: تفريق القسم:

قال الشافعي رضي الله عنه: "كل ما حصل ممّا غُنم من أهل دار الحرب، من شيء قلّ أوكثر... الفصل".
7730- مسائل هذا الكتاب كثيرة الوقوع في مسائل السير، والأصحاب يخلطون الأبواب بالأبواب، وهذا يجرّ إلى التكرار، وإلى التعطيل، فالذي نراه أن نتخذ منصوصات المختصر إمامَنا، وما يقع وراءها، ولا يتصل بها، فهو محالٌ على أبواب السير، وبالجملة القدر اللائق بهذا الكتاب الكلامُ في كيفية القسمة، وأقدارها، والكلام في صفات المستحقين، فأما ما عدا ذلك، فحقه أن نذكره في كتاب السِّير.
7731- فنبتدىء، ونقول: كل ما أصابه الغانمون من منقولٍ أو عقارٍ تحقق الاستيلاء عليه، أو وقع في أيديهم من الذراري والنسوان فسبيل ذلك التخميس، والقسمةُ بين الغانمين. والذراري والنسوانُ يَرِقّون بنفس الوقوع في القبضة، وينزلون منزلة الأموال المغنومة، ولا يخفى أن ما ذكرناه فيه إذا تمت الحيازة، وولّى الكفار، فأما ما دامت الحرب قائمة، وكنا نصيب منهم ويصيبون منا، وقد يستردّون ما نُصيبه، فلو اتفق وقوع شيء في أيدينا، ثم استردوه قبل انكشاف القتال، فلا نقول: ملكنا ما أخذنا ثم أخذوه من أملاكنا قهراً، حتى يكون سبيله كسبيل ما يأخذون من أموالنا، بل إذا استردوا، وانفصل الأمر، وانجلى القتال بعد ذلك، فلا ملك لنا فيما استردوه، وكذلك القول فيما يستردون من الذراري والنسوان، لا نجعلهم مقرّين
على حكم الرق بمثابة عبيد المسلمين، والغرض أنا لا نثبت الملك عليهم حتى ينفصل القتال.
وما نصيبه من مجانينهم، فهو بمثابة نسائهم وذراريهم.
هذا قولنا في هؤلاء.
فأما رجال القتال من الكفار الأحرار إذا أسروا، وثبت الاستيلاء، فهؤلاء لا يَرِقون بنفس الأسر وفاقاً، ولكن الإمام يتخير فيهم بين أربع خلال، لا معترض عليه في شيء منها: فإن أراد أن يضرب رقابهم، فعل ذلك على حسب الرأي، ولا خيرة على حكم الإمام وإن أراد أن يمنّ عليهم، ويطلقهم، فله ذلك، و إن أراد أن يفاديهم، فله ذلك، وإن أراد أن يضرب الرق عليهم، فعل ذلك، ولا معترض عليه، وهو مأمور بينه وبين الله تعالى بأن لا يبني ما يختاره على الإرادة المحضة، بل حقٌّ عليه أن يتبع وجهَ الرأي في تعيين قسم من هذه الأقسام، وله أن يقضي الأمر فيهم بهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام.
7732- ثم إن أرقهم، نُظر فإن كان انفرد بأسرهم آحادُ الرجال، ففي اختصاصهم تملك الرقاب الخلافُ المشهور الذي ذكرته في فصل السلَب.
وإن اتفق الأسر من جميع الجند، فرقابهم مغنومة مردودة إلى المغنم.
وإن قال قائل: إذا رأينا ضربَ الرق على المأسور، وقد أُرقَّ إلى الآسر، ثم رأينا أن لا يخمس السلب، فإذا أسرهم الجند يرقون، ثم لا تخمس رقابهم، لم يكن ذلك بعيداً، والظاهر التخميس؛ فإن التخصيص إنما صادفناه عند اختصاص بعض رجال القتال بوجهٍ من الغناء، فإذا لم يكن كذلك، فالظاهر وجوب التخميس، والإجراء على مناظم المغانم.
7733- وإذا فادى الأسرى، فما يأخذه من أموال المفاداة ملحق بالمغانم، لا خلاف فيه، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فادى به أسرى بدر، والسبب فيه أن التوصل إلى الأموال المأخوذة منهم، كان بسبب احتواء الجند على المأسورين.
7734- ثم إن اختار الإمام القتل، فوضع السيف فيهم، فإنما يفعل ذلك بالرجال المقاتلة الأحرار، دون الذراري والنساء والعبيد، فإن أشكل عليه بلوغُ واحدٍ، فله أن يأمر بالكشف عن مؤتزره، فإن لم يكن أنبت، ألحقه بالذراري، ومن أنبت، فله ضرب رقبته. وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أسر رجالَ بني قريظة، ونزّلهم على حكم سعد.
ثم القول في الإنبات وأنه عين البلوغ أو علامته ليس مما نذكره الآن، وقد أجرينا فيه كلاماً مُشْبعاً في كتاب الحجر، والقول في ادّعاء استعجال الإنبات مما ذكرناه ثَمَّ، وسنعود إليه في كتاب السير، إن شاء الله عز وجل.
7735- ومما يذكره الأصحاب في الكتابين أن واحداً من الأسرى لو أسلم بعد الإسار، فلا شك أنه يمتنع قتلُه، وقد قال الشافعي: "لو أسلموا بعد الإسار رُقوا"، وظهر اختلاف الأصحاب في هذا، فالذي صار إليه جماهير الأصحاب أنه لا يمتنع بإسلامهم بعد الإسار إلا القتل، ويتردّد الإمام فيهم على حسب الرأي بين المنّ، والفداء، والرق، فأما المن، فإذا كان يجوز في حق الأسير المصرّ على الكفر، فهو فيمن أسم أولى وأجوز، وإذا جوزنا الإرقاق، فالمفاداة أجوز.
ثم هؤلاء يفتنّون في تأويل قول الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: "وإذا أسلموا بعد الإسار، رُقّوا" والغاية المقبولة في التأويل أنهم قربوا من الرق، وهذا يناظر قول المصطفى عليه السلام من وقف بعرفة، فقد تم حجه، والمراد قرب من التمام، وأمن الفوات.
ويمكن أن يقال: المن مما يقلّ في تصرف الإمام، فلم يعتدّ به الشافعي، وكذلك المفاداة، والغالبُ الإرقاقُ والقتلُ، فبنى الشافعيُّ رضي الله عنه على الغالب، وردّ النظر إلى القتل والإرقاق، ثم صادف القتلَ ممتنعاً، فقال: رُقُّوا. هذا هو الممكن في التأويل.
ومن أئمتنا من جرى على ظاهر النص، وقال: من أسلم من الأسارى، رُقّ.
وهذا وإن كان يوافق ظاهر النص، ففي توجيهه عُسرٌ، والممكن فيه أنه إذا أسلم، فالمن يتعلق بأهل الحرب الذين لم يلتزموا حكمنا، والمفاداة ينبغي أن تفرض من أموال أهل الحرب أيضاً؛ فإن ابتداء ضرب مال على مسلم بمثابة ابتداء ضرب جزية على مسلم، والرق وإن كان أشد من ذلك، فقد نراه يجري ابتداء على أولاد المسلمين.
وإذا انحسم القتل، وبعُد المن والفداء، صار المأسور، وإن كان رجلاً كالصبي والمرأة، فهذا هو الممكن في ذلك.
7736- ومما يتعلق بما نحن فيه أن الأسارى لو قالوا: قبلنا الجزية، وكانوا ممن يجب تقريرهم على الجزية في جيشهم إذا لم يكونوا مأسورين، فالذي عليه الجريان أن اختيار الإمام في المن والفداء والإرقاق على ما كان، وإنما التردّد في أنه لو أراد أن يقتلهم، هل له أن يقتلهم؟
هذا مما اختلف فيه الأصحاب، فمنهم من قال: له قتلهم، ولا حكم لقبولهم الجزية وهم في قبضة الإسلام، وهذا ظاهرُ القياس.
ومن أصحابنا من قال: يحرم القتل؛ فإن قبول الجزية من العواصم في الجملة كالإسلام، فالإقدام على القتل مع قيام عاصم محرمٌ، كما لو أسلم الأسير.
وكأن القتل بين هذين الوجهين في جواز القتل يبنى على ما لو حاصرنا قلعة ليس فيها إلا النساء، فقبلن الجزية، فهل يحرم سبيهن لقبول الجزية؟ فعلى وجهين سيأتي شرحهما في كتاب السِّير إن شاء الله تعالى.
ووجه البناء أن النسوة لسن من أهل التزام الجزية، ولكن صورة التزامها هل تعصمهن عن الرق؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه، كذلك الأسير ساقط الاختيار، فإذا وجد منه التزامُ الجزية، فهو بمثابة التزام الجزية ممن ليس من أهلها، غير أن التأثير في الأسير يظهر في سقوط القتل، وفي النسوة في سقوط السبي.
وقد ذكر صاحب التقريب في كتاب السير وجهاً بعيداً حكاه وزيّفه، فقال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الأسير إذا قبل الجزية، يجب إطلاقه، وإجابته إلى عقد الذمة، وتنزيله منزلة المختار من الكفار إذا طلب الذمة، وهذا في نهاية البعد؛ فإن الأسير إذا اسلم، لم يُطلَق وجوباً، وكان الإمام على وجهٍ مخيراً بين المن والفداء والإرقاق تخير نظرٍ واجتهادٍ.
وفي وجهٍ يرِق بنفس الإسلام، فلو أطلقنا الأسير القابل للذمّة، لكان أثر الأسر ساقطاً بالكلية، فإن المختار مجالب إلى عقد الذمة إذا طلبه ويستحيل أن يبقى أثر الأسر مع الإسلام ويسقط أثره مع طلب الذمة.
ولكن وجه هذا الوجه على بعده أن الجزية من آثار الكفر، فإن عقدنا له الذمة، لم نُخله عن صَغار الكفر، ولو خلّينا المسلم حتماً واجباً، لكان الإسلام مُحبطا لآثار الإسار بالكلية، وهذا لا سبيل إليه.
7737- ومما يتعلق بأحكام الأسرى أن الإمام لو أراد أن يضرب الرق على الأسير وهو من عبدة الأوثان، فالمذهب المبتوت الذي ذكره الأئمة أن ذلك جائز، ثم يصير اطّراد الرق عليه عاصماً له ولا يجب قتله، بل لا يجوز؛ لحق الرق الثابت في رقبته للملاّك المحترمين، وليس كالمرتد؛ فإن الرق لا يعصمه.
والكفار على أقسام: منهم من يقرّر على كفره بالذمة، وهم أهل الكتاب، والمجوس يسنّ بهم سنّة أهل الكتاب.
ومنهم من لا تعصمه الذمة، ولكن يُنظَرون مدّةَ التسييح، وهي أربعة أشهر، على ما سيأتي تفصيلها في السِّير، إن شاء الله عز وجل، وهؤلاء إذا رُقوا، دامت عصمتهم بالرق.
ومنهم أهل الردة، ولا عاصم لهم من حكم الله بوجهٍ من الوجوه.
وقال أبو سعيد الإصطخري: "لا يجوز إرقاق عبدة الأوثان، بل يتخيّر الإمام بين المن، والفداء والقتل فيهم". وإحلالُ هذا الكفر المغلّظ محل الردة نوعٌ من القياس، فإذا كان يجوّز المن والفداء، فقد خرم القياس الذي اعتمده، فلا اعتداد بما ذكره أصلاً.
7738- ومما يليق بتمام البيان في ذلك أنا إذا قلنا: الأسير إذا بذل الجزيةَ لا يجوز قتله، وجرينا على الأصح، وهو أنه لا يجب قبول الجزية منه وإطلاقُه، ولكن يحرم قتله، فلو أراد الإمام المنَّ عليه، فعل، وإن أراد إرقاقه، نفذ ذلك منه، وإن أراد مفاداته ورأى المصلحة، وهو لا يبغيها ويأبى إلا الجزية وقبولها، فلا سبيل إلى إجباره على المفاداة؛ فإن الكلام لا ينتظم؛ إذ لا يجبر عليها إلا بالقتل، وهذا عوْد إلى القتل الذي حكمنا بسقوطه، ولا يجوز أن يقال أيضاً: إذا لم يمتثل أمرنا في المفاداة، أحبطنا عصمته، وعاد الإمام إلى رأيه في قتله إذا رأى القتل؛ فإن التفريع على أن قبول الجزية عصمةٌ، فيتعين في الصورة التي انتهى الكلام إليها قبولُ الجزية منه.
فإن قيل: هذا الوجهُ الذي حكاه صاحب التقريب، فإنه ألزم إطلاقَه وعقْدَ الذمة له، وتوظيفَ الجزية عليه.
قلنا: الفرق بين مذهبه وبين التفريع الذي انتهينا إليه أنه يرى إسعاف قابل الجزية، وإن كان الصلاح في إرقاقه، ونحن نقول: إذا كان الصلاح في إرقاقه أرقه، ونفذ الرق عليه قهراً، وإن لم يكن في إرقاقه مصلحة، ولو أرقّه، لصار كلاً ووبالاً على المسلمين، ولو أدى الجزية التي قبلها، ورأى الإمامُ قَتْلَه، فإذا امتنع قتلُه بالجزية ولم ير الإمام إرقاقَه، لم يتجه إلا إطلاقُه، وقبولُ الجزية منه.
7739- ومما نذكره من أحكام الأسارى أن الأسير قبل أن يجري الرقُّ عليه، وقبل أن ينفذ الإمام رأيه فيه، لو ابتدره واحدٌ من المسلمين، وقتله، فقد أساء وتعرض لتعزير الإمام، ولكن يجب ألا نُضمِّنه؛ فإنه كافر غيرُ معصوم.
فإن قيل: لو كان الإمام يرى إرقاقهم، فمن قتل واحداً منهم، فقد فوّت الإرقاق، فهلا كان ذلك بمثابة تفويت الرق بالغرور، والمغرور يلتزم القيمة لمنعه الرق من الجريان؟ قلنا: ذلك الرق كان يجري لا محالة لولا الغرور، فالغرور دفع الرق الذي لا حاجة إلى تحصيله، والرق لا يجري على الأسير من غير ضرب، وأشبه الأشياء بما نحن فيه إتلاف الجلد القابل للدباغ قبل الدباغ؛ فإنه لا يوجب الضمان مع تهيُّؤ الجلد للدباغ ابتداءً فإنشاء الدباغ كإنشاء الإرقاق، وليس ما نحن فيه كالخمرة المحترمة؛ فإن من أصحابنا من أوجب على متلفها الضمان، وهذا على بعده موجّهٌ بأن الخمرة لو تركت، فإلى التخلل مصيرها.
وقد نجز غرضنا من الكلام في الأسارى، فإن كان فيهم بقايا سنستدركها في كتاب السير، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "وينبغي للإمام أن يعزل خمسَ ما حصل... إلى قوله يرضخ لهم من الجميع".
7740- نصدّر هذا الفصلَ بالرضخ وأهلِه وبيان محله، فنقول أولاً: مستحق السهم المسلمُ الحر البالغ الذي بلغ عدّه من أهل القتال، وإن كان يضعف غناؤه ويقلّ أثره، ويشترط مع ذلك كله ألا يكون مخذِّلاً، على ما سنصف المخذلَ وحكمَه.
7741- والنسوةُ والصبيان وأهل الذمة والعبيد أصحاب الرضخ.
ثم إن كانت النسوة يُتصور منهن إعانة الجند في خدمةٍ، أو حفظ رَحل أو تهيئة طعام، أو غيره من وجوه المنفعة، فهم من أهل الرضخ، وكذلك الصبيان إذا كان ينتفع الجند بهم، فالجواب على ما ذكرناه.
وإن لم يكن في النسوة منفعة، وما كان بلغ الصبية مبلغ النفع، فقد ظهر في كلام الأصحاب تردد في أنا هل نرضخ لهم؟ فمنهم من قال: لا رضخَ إلا لمن ينتفع الجند بحضوره، وهذا ظاهر القياس.
ومنهم من قال: يرضخ لهم، حتى لا نكون حرمنا مسلماً شهد الوقعة، وشاهد المغنم، وإذ ندب الله تعالى إلى ذلك في قسمة بين ملاك متعينين في أملاك لازمةٍ لهم فقال عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] فلا يمتنع إذاً تحتم ذلك في المغانم التي لا تثبت الأملاك فيها إلا بالقسمة.
وقد أشار الأئمة إلى التيمُّن بحضور أطفال المسلمين ونسائهم، فلا يبعد أن يكون حضورهم مدْرأةً لظفر الكفار وأهل الذمة، وإذا حضروا، فهم أهل الرضخ، ثم إن حضروا بإذن صاحب الراية، استحقوا الرضخ، وإن حضروا ولا أمر ولا نهي، استحقوا الرضخ، فإنهم في منصب الذب عنا؛ إذ هم من سكان ديارنا.
وإن نهاهم الإمام عن الحضور، فلم ينتهوا، وحضروا، ففي المسألة تردد.
ويجوز أن يقال: لا يستحقون الرضخ لمخالفتهم.
ويجوز أن يقال: يستحقونه؛ فإن الحضور في المغانم لا يختلف بالموافقة والمخالفة.
وأما نسوان أهل الذمة وأطفالهم، فقد ظهر فيهم اختلاف الأصحاب.
والذي نرى ذكره أوجه: أحدها:أنا لا نرضخ لهم أصلاً.
والثاني: أنا نُجريهم مجرى أطفال المسلمين ونسائهم.
والثالث: أنا نرضخ لهم إن كان فيهم منفعة وغَناء، وإن لم يكن فنقطع بأن لا يرضخ لهم، وإن رضخنا لأمثالهم من أطفال المسلمين؛ والفرق أنا نستدفع بأطفال المسلمين كرّةَ الكفار وظفرتهم، ولا يتحقق هذا المعنى في أطفال الكفار.
7742- وأما المخذّل، فهو الذي يكسر قلوب الجند، ويسعى في تفريق كلمتهم، ويستحثهم على الهزيمة، ويُرعب قلوبَهم بالأراجيف، ويفتّر أعضاءهم، فإذا شهد الوقعة، وشعر الإمام به، صرفه قهراً، فإن انغل في الجند، فلا سهم له، ولا رضخَ له، اتفق علماؤنا عليه، فلو اتفق منه قتلُ كافرٍ، وهو متمادٍ على تخذيله، وقد يتفق منه القتل في دفع أو إرهاقٍ إلى مضيق، فقد قطع أصحابنا بأنه لا يستحق سلَب القتيل، والسبب في ذلك أنه ضرٌّ كله، وأثره عظيم، وضرره بيّن، ونحن إنما نُسهم أو نرضح لمن ينفع أوْ لا يضر.
فإن فرض فارض ضرراً من استصحاب الأطفال، فليس الضرر منهم، وإنما هو من ضرورة الحال، والمخذّل مزجور بالحرمان عن وجوه الاستفادة.
7743- ومما نذكره في ذلك أن المريض الزَّمن الذي لا حراك به من أهل الرضخ، كما سنصف المرضى وأحوالَهم.
فهذا بيان من يستحق الرضخ.
7744- فأما القول في محل الرضخ، فحاصل ما ذكره الأئمة في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أن الرضخ يخرج من المغنم قبل التخميس، ثم يقع التخميس بعد إخراج الرضخ، ووجه هذا تنزيل الإرضاخ منزلة المؤن، كمؤنة نقل المغانم إلى الموضع الذي تتهيأ القسمة فيه فالإرضاخ ينزل هذه المنزلة.
والوجه الثاني- أن المغانم تخمّس أولاً، ثم يؤخذ الرضخ من أربعة أخماس الغنيمة.
ويحط قدر الرضخ عن قدر السهم كما سنصفه، فالرضخ إذاً عند هذا القائل من حصص الغانمين، ولكنه محطوط من السهم، كما يحط حق الراجل عن حق الفارس.
والوجه الثالث: أن الإرضاخ يخرج من السهم المرصد للمصالح، وقد ذكرنا فيما تقدم التنفيل في البدأة والرجعة، وذكرنا محل التنفيل، والخلافَ فيه، وقد ظهر عندنا أن من أصحابنا من ينزل النفل منزلة الرضخ، وقد تفصل القول في محله.
7745- ومما نذكره متصلاً بذلك أنه لو شهد الوقعة أهل الرضخ، ولم يشهد من أهل السهم أحد، فإذا استفادوا غنائم، فلأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدها: أن المغانم تخمس، فيصرف الخمس إلى مصرفه، ويصرف أربعة الأخماس إليهم.
ومن أصحابنا من قال: يفرز الخمس، ويصرف إلى أهله، ويصرف إليهم الرضخ على ما يراه الإمام، ويصرف الفاضل إلى تمام أربعة الأخماس إلى بيت المال، ويلقى في سهم المصالح. وهذا ضعيف غيرُ معقول؛ فإنا لا ندري كم ينصرف إليهم، وكم يقدر معهم من أصحاب السهام، فلا ضبط لهذا، ولا وجه له.
ومن أصحابنا من قال: ما أحرزوه لا يثبت له حكم الغنيمة أصلاً، وسبيله كسبيل ما يأخذه المسلمون سرقة، وما كان كذلك لا يخمّس، بل يصرف بجملته إلى السرّاق، على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب السّير إن شاء الله عز وجل.
ووجه ذلك أنهم ليسوا من أهل القتال، وإن قاتلوا، فهم أتباع، فإذا لم يكن معهم أصحاب السهام، فلا حكم لقتالهم.
7746- ثم إذا أضفنا مقداراً من الرضخ إلى العبد فهو لمالك رقبته اعتباراً بجميع أكساب العبد. ولو جرى الإحراز، وهم على الرق، ثم عَتَقوا قبل القسمة، فالحقوق للسادة، كما ذكرنا؛ فإن الإحراز جرى في اطراد الملك على رقابهم، ولو عتقوا قبل انجلاء القتال، فهذا فيه احتمال، وسنذكره في الفصل الذي يعقب هذا الفصل، عند ذكرنا التغايير الطارئة على الجند في أثناء القتال، كنفوق الدوابّ واعتراض الأمراض وغيرها.
7747- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه أن الإمام يخرج الخمس، ويقرع بينه وبين أربعة الأخماس، ولا يكاد يخفى كيفية الإقراع في ذلك، وهو محتوم لما في أعيان الأموال من الأغراض.
فصل:
قال: "ثم يعرف عددَ الفرسان والرجّالة... إلى آخره".
7748- إذا أفرز الإمام الخمسَ، وأراد قَسْم أربعة الأخماس بين الغانمين، فينبغي أن يعلم أولا الفضل الذي بين الفارس والراجل: مذهب الشافعي رضي الله عنه أن للراجل سهماً، وللفارس ثلاثة أسهم: سهمٌ في مقابلته وسهمان في مقابلة فرسه، وهذا إنما صرنا إليه من جهة توقيف الشارع، وقد صحَّ الخبر على حسب هذا.
ومن شهد الوقعةَ بفرسين، فالمذهب الظاهر أنه لا يسهم إلا لفرس واحد، وحكى شيخي عن بعض أصحابنا وجهاً أنه يسهم لفرسين، وهذا يقرب بعض القرب من مذهب من جعل الجنيبة من سلب الكافر القتيل بمثابة مركوبه، ثم لا مزيد على فرسين في الموضعين، والوجه المحكي في أن الجنيبة سلبٌ معروف، وسببه بيّن، وإثبات السهم لفرسين مع اتحاد الفارس لم أره في مذهبنا إلا من جهة شيخنا. وقد نقل الفقهاء هذا مذهباً عن الأوزاعي.
7749- ثم لا سهم إلا بسبب الخيل، وراكب البغل لا يستحق إلا ما يستحق الراجل، وكذلك القول في راكب الحُمر. والإبلُ والفيلةُ، وإن كان فيها بعض الغناء، فالسهم الزائد للخيل.
والذي يعترض في قلب الفقيه أن المسابقة جائزة على الخف والحافر، والمسابقة إنما جوّزت مع اشتمالها على الغرر المضاهي للقمار استحثاثاً على ركوب الخيل والإبل.
ولا اغترار بهذا، فليس كل عُدّة تجوز هذه المعاملة عليها يزداد السهم بسببها، كالمناضلة، وهي الأصل دون سائر الأسلحة، فالغرض من المسابقة الاستعداد بالأهب، والسهام تؤخذ من الدّواب التي تصلح للهرب والطلب والكرّ والفرّ، والإجماع يغنينا عن هذا.
7750- ولو أحضر الغازي فرساً رازِحاً لا يكاد ينهض لضعفه، وهُزاله، فحق الإمام أو صاحب الراية أن يمنع من مثل هذا، إذا كان في الخيل الصالحة والأهب العتيدة ممتنَع، كما يمنع من مصادمة القتال من غير سلاح، فلو اتفق إحضار مثل هذا الفرس الذي لا غناء فيه، ففي تعلق السهم بإحضاره قولان:
أحدهما: أنه لا يتعلق به استحقاق سهم؛ من جهة أنه لا غَناء فيه، فكان كالجنس الذي لا يتهيأ لمقاصد القتال من البغال والحمر وغيرها.
والقول الثاني- أنه يتعلق به استحقاق السهم؛ نظراً إلى الجنس؛ فإن اتباع آحاد الأفراس في الجند العظيم عسر، فالوجه الاكتفاء بالجنس، وحسم باب النظر في التفاصيل، وهذا بمثابة إيجاب الزكاة في الجَرْبى المراض من الماشية، مع علمنا بأن الشرع لم يعلق الزكاة إلا بالجنس المُرْفق والمقدار التام.
ثم من أوجب السهم نظراً إلى الجنس، اشترط أن يكون الفرس بحيث يتأتى ركوبه، حتى لو أحضر مهراً لا يركب أو فرساً لا يتأتى ركوبه، فلا يجوز أن يكون في مثل هذا خلاف؛ فإن متعلّق إثبات السهم أن استحقاق السهم لا يتوقف على مصادمة الكفار، بل الوقوف في الصف كافٍ في الاستحقاق؛ من جهة أن المصطفّين وزرُ المقاتلين كرّاً وفرَّاً، فمن كان على فرسٍ في الصف أرعب بموقفه، ولا يطّلع العدو على صفة فرسه، وشرْطُ هذا أن يكون مركوباً.
7751- ولو نفق الفرس قبل القتال، لم يستحق صاحبه إلاَّ سهمَ راجل؛ فإنه لم يلق القتال إلا راجلاً، ولا فرق بين أن يكون نَفَقُ الفرس بعد دخول دار الحرب، أو قبل دخولها، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه قال: إذا دخل بفرسه دار الحرب ونفق، استحق سهم الفرس، وإن لم يلق عليه قتالاً، وإن قامت الحرب، والفرس مركوب قائم، ثم نفق قبل انجلاء الحرب، فالحاصل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يستحق سهم الفرس، حتى ينجلي القتالُ والفرسُ قائم، فإنّ الاستحقاق يستقر بانكشاف الحرب وانجلائها، فإذا تقدّر نفوق الفرس قبل تحقق سبب الاستحقاق، لم يُستحق بسبب الفرس شيء.
والقول الثاني- أن صاحب الفرس يستحق سهم الفرس؛ لأنه لقي القتال عليه، وحصل الإرعاب منه في انتصاب الحرب.
والقول الثالث: أنه إن نفق قبل حيازة المغنم، فلا سهم بسبب الفرس، وإن نفق بعد حيازة المغنم، وقبل انجلاء الحرب، استحق صاحبه سهم الفرس، وسنوضح هذا الأصل، إن شاء الله عز وجل- عند ذكرنا المددَ إذا لحقوا بهم متى يشاركون في المغنم، ومتى لا يشاركون فيه.
ولم يفصل أصحابنا بين أن يكون سبب الهلاك جراحة أصابتها في الحرب وبين أن يكون نفوقها لا بسبب القتال.
ولو مات الغازي في أثناء الحرب قبل انكشافها، فقد قطع الأئمة أقوالهم، بأنه لا يثبت له استحقاق في المغنم؛ حتى يقال: يخلفه الورثة فيه. وهذا يعضد أحد الأقوال في نفوق الدابة.
والمقدار الذي ذكر الأصحاب في الفرق أن الغازي إذا مات قبل انكشاف الحرب، فلا مستحق يُعزى إليه حقُّ المغنم، وإذا مات الفرس وقد أحضره صاحبه وأرعب به، فلئن نفق الفرس، فمن يستحق بسببه قائم، وهذا الفرق فيه غموض وبُعد.
7752- ومما يتعلق بذلك أن الغازي لو مرض في أثناء القتال، قال الأصحاب: إن كان ذلك المرض بحيث لا يمنعه من القثال، فلا كلام، وهو من أهل القتال، واستحقاق المغنم. وإن كان ذلك المرض يمنعه من القتال، نُظر: فإن كان ممّا يرجى زواله، فلا مبالاة به، وإن كان ذلك المرض مزمناً لازماً، بحيث لا يرجى زواله، ففي استحقاق السهم قولان:
أحدهما: أنه لا يستحقه، لخروجه عن وصف المستحقين قبل انكشاف القتال، فصار كما لو مات في أثناء القتال.
والقول الثاني- أنه يستحق لبقائه، ويتصور إضافة استحقاقٍ إليه.
وهذان القولان-قبل أن ننعطف على هذه التفاصيل بالتتبع- يضاهيان القولين في نفوق الدابة؛ فإن نفوقها مع بقاء صاحبها وإمكان إضافة الاستحقاق إليه بمثابة سقوط قوّته مع إمكان إضافة الملك والاستحقاق إليه فلا فرق، ومأخذ الخلاف في المسألتين متقارب.
وذكر بعض أئمتنا في سبب ثبوت السهم للمريض الذي زَمِنَ أن رأيه منتفع به، بأن يراجَع ويستشار، فلم يسقط الانتفاع به بالكلية، وهؤلاء ربما يترددون فيه إذا جُنّ، فمنهم من يجعل الجنون كالموت في إسقاط السهم قولاً واحداً.
ومنهم من أجرى القولين في طريان الجنون؛ لأن المجنون لا يمتنع إضافة الملك إليه، وهذا المسلك أفقه؛ فإن الرأي المجرد لو كان معتمداً في الباب، لوجب إثبات السهم للذي شهد القتال مريضاً، وبقي كذلك إلى الانجلاء، وليس الأمر كذلك.
فهذا ما ذكره الأصحاب.
7753- وفي بعض هذه الفصول تأمل على الناظر. أما ما ذكره الأصحاب من أن المرض إذا كان يرجى زواله، فما المراد بهذا؟
ليعلم المسترشد أن المراد برجاء الزوال توقُّع زواله في أثناء القتال، قبل انكشافه، وتقدير الكلام أن نفرض زوال ما اعترض، حتى يقدّرَ كأنه لم يكن، وما أراد الأصحاب توقعَ الزوال بعد انقضاء القتال، حتى لو كان ذلك المرض بحيث لا يتوقع زواله إلا بعد أيامٍ مثلاً، فهو في حكم المرض المزمن.
ومما يجب الاعتناء به أن من حضر الوقعة وبه مرض يمنعه من القتال، فزَمِن مثلاً، فلا سهم له، ولكنه يستحق الرضخ، ولو كان به مرض لا يمتنع عليه معه ركوب الفرس، والوقوفُ في الصف، ولكن لا يتأتى منه مباشرة القتال، فلا سهم له، وذلك أنا وإن كنا نسهم لمن يقف في الصف ولا يقاتل، فيشترط أن يكون بحيث يتأتى منه القتال لو مست الحاجة إليه، وإنما يكتفى بالوقوف في الصف؛ لأن ترتيب القتال يقتضي ذلك؛ فإن جملة الجند لا يتأتى منهم بأجمعهم الاشتغال بالقتال دفعة واحدة، ولكنا نشترط ما ذكرناه من إمكان القتال عند مسيس الحاجة، فلو دام-من أول القتال إلى آخره- المرضُ الذي وصفناه، فلا سهم، والواجب الرضخ.
ولو كان من أهل القتال، فطرأ المرض الذي يرجى زواله-على ما فسرنا ذلك- فإن اتفق زوال ذلك المرض فذاك، وإن اتفق دوامه إلى انجلاء القتال، ففي هذا تردد ظاهر، يجوز أن يقال: إنه بمثابة المرض المزمن، ويجوز أن يقال: ليس هو بمثابته، وهو كالطارىء الزائل.
وهذا يلتفت على تردد الأصحاب في أن من مرض مرضاً مرجو الزوال، وامتنع عليه الاستواء على الدابة، فليس له أن يستأجر من يحج عنه، وإنما يستأجر ذو العَضب الذي لا يرجى زواله، فلو استأجر المريض مرضاً مرجو الزوال من يحج، فحج عنه الأجير، ثم تمادى المرض وأفضى إلى الموت، ففي وقوع الحج عن المستأجِر قولان.
هذا ضبط القول في الأمراض التي تعرض وتزول أو لا تزول.
فرع:
7754- إذا كان مع الرجل فرسه، ولكنه نزل ليقاتل راجلاً عند مسيس الحاجة إليه، والفرس مقود موجود بالقرب من صاحبه، ومهما مست حاجته إليه ركبه، فإذا كان كذلك، استحق سهم الفرس، لأنه مُرصَد معتد معه، فصار كما لو كان راكبه، هذا إذا كان الفرس بحضرته.
فأما إذا نزل الفرسان ليقاتلوا مترجلين في مضيق ثم درجوا فيه موغلين في القتال، وبعدوا عن الخيل، فهل يستحقون سهام الأفراس؟ حكى شيخي رضي الله عنه في ذلك وجهين:
أحدهما: أنهم لا يستحقون؛ فإنهم دخلوا القتال من غير خيل، ولم يكن الخيل بالقرب منهم، حتى يفرض منهم ركوبها إذا مست الحاجة إلى الركوب.
والوجه الثاني- أنهم يستحقون سهام الأفراس؛ فإنهم أحضروها الوقعة، والتزموا مؤنها، وهي موجودة، وما بعّدوها عن أنفسهم إلا لتولّجهم في المضيق الذي لا تنسلك الخيل فيه، وقد يرجعون على أدراجهم، فالخيل على هذه الصفة تعد عدة في المعترك.
هذا منتهى القول في الخيل وما يلحقها من التغايير.
7755- فإذا تبين الغرض في ذلك، فإنا نذكر بعد هذا تفصيل القول في كيفية القسمة، فنقول: الغرض قسمة أربعة أخماس الغنيمة، فإن رأينا أخذ الرضخ من رأس الغنيمة، فليؤخذ المقدار الذي يفي بالأرضاخ، ثم الإمام لا يسوي بين مستحقي الإرضاخ مع التفاوت في الغَناء والأقدار، ولكنه يفاوت بينهم باجتهاده، وهي قريبة الشبه من الحكومات في أروش الجراحات، وهي مفوضة إلى اجتهاد الولاة، فالأمر في الرضخ على هذا الوجه يجري، ولا يظهر أثر الخلاف في أن الغنيمة هل تخمس أم لا؟ في أقدار الأرضاخ؛ فإنها سواء أخذت قبل التخميس أو بعدها، فالقاضي يقلّل ويكثِّر باجتهاده. وإنما يظهر الأثر في الخمس، فإن أفرزنا الخمس أوّلاً، كثر قدره، ووفر مبلغه، وإن أخذنا الرضخ أولاً، انتقص الخمس.
وإن فرعنا على الأصح، وهو أن الأرضاخ تؤخذ من أربعة أخماس الغنيمة، فهذا ممّا نقصده الآن، فنقول أولاً: إن لم يكن في المعسكر أحد ممن يستحق الإرضاخ، فإنا نقسم أربعة أخماس الغنيمة بعد إخراج أسلاب القتلى على الغانمين، وننظر إلى الغانمين، فإن كانوا رجّالة، قسم المغنم عليهم بالسوية، وكذلك إن كانوا فرساناً لا يشوبهم راجل، قسمت الغنيمة عليهم بالسوية، ولا يظهر التفاوت، ولا فرق بين الوقوف في الصفوف وبين الذين يصلون بنار القتال.
ولو كان الغانمون رجالة وفرساناً، فنقول: للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، والسبيل أن نضبط عدد الرجالة والفرسان، ونعتمد عدد الرجالة، ونضعّف عدد الفرسان، فنعد كل فارس ثلاثة من الرجالة، ونقسم أربعة أخماس الغنيمة على منتهى العدد الخارج، ثم نصرف إلى كل راجل سهماً من السهام المعدّة عنده، وإلى كل فارس ثلاثة أسهم، فإذا كان الجندُ ألفَ راجل، وألفَ فارس، فأربعة أخماس الغنيمة تقسم على أربعة آلاف سهم، على القاعدة التي ذكرناها.
هذا إذا لم يكن ثمَّ أصحابُ رضخ، فإن كان مع أصحاب السهام أصحاب رضخ، وقلنا: أرضاخهم تقع بعد التخميس من أربعة أخماس الغنيمة، فالوجه أن يضبط القاسم مبلغَ أربعة الأخماس، ويتأمل عدد أصحاب السهام، ثم يرى رأيه في أصحاب الرضخ، وينهي اجتهاده نهايته في أقصى ما يراه لبعضهم، وفي أدنى ما يراه لبعضهم وأوسطهم، ويحط الرضخ الأعلى عن سهمٍ، ويثبت مقداره بالاجتهاد، ويثبت الأدنى والأوسط وينسبهما إلى الرضخ الأعلى، ثم ينظر إلى كم ينتهي مبلغ الأرضاخ التي تعدّ للقسمة على عدد أصحاب السّهْمانِ، فيزيد ذلك المبلغ على العدد الذي كان يبتنى عليه القسمة بين أصحاب السهام لو انفردوا، فتعتدل القسمة على هذا النسق، وذلك بأن يكون أصحاب السهام ألفاً من الرجالة، وألفاً من الفرسان، فأعداد السهام أربعة آلاف، ثم لما نظر في أصحاب الرضخ اجتهاداً كانوا ثلاثمائة مثلاً، وكان المبلغ الذي أخرجه لهم بالاجتهاد مائة وخمسين، فيضم هذا العدد إلى أربعة آلاف، ويقسم أربعة أخماس الغنيمة من هذا المبلغ كله، ويحط منه ما يحتاج إليه الرضخ، ويقسمه على اجتهاده بينهم، ثم يقسم السهام الباقية على أصحاب السهام.
ولو كان في أصحاب الرضخ فارس، فكيف الوجه في اعتبار حصته؟ أنحطها من سهم راجل؟ أم نحطها من ثلاثة أسهم لفارسٍ هو من أهل السهام؟ الرأي أن نعتبره بفارس من أهل السهام، ونجعل كأنه ثلاثة من أصحاب الرضخ، ونقدر له ثلاثة مبالغ، ونحط كل مبلغ عن سهم من السهام المعدَّلة عندنا.
هذا هو الوجه لا غير، وقد وضح ما أردناه من كيفية تعديل القسمة.
فصل:
قال: "ولو كان لرجل أجير يريد الجهاد... إلى آخره".
7756- الوجه أن نذكر المسائل في هذا النوع مرسلةً، ونوضّح في كل مسألة ما قيل فيها، ثم نذكر عند نجازها ضابطاً لها.
فالمسألة الأولى في الأجير: فإذا استأجر الغازي من يخدمه أو يسوس دابتَه، أو يضرب أخبيته، ويقوم بما تمس إليه حاجته استئجاراً صحيحاً، فالظاهر الذي أجراه الأصحاب أنه إن لم يقاتل كما حضر الوقعة، لم يستحق السهم. وإن قاتل، ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يستحق السهم مع الأجرة، أما الأجرة، فلعمله لمستأجِره، وأما السهم فلقتاله، وهو من أهل استحقاق السهم، ثم إنما يستحق الأجرة إذا لم يعطل من العمل الموظف عليه شيئاً، وذلك بأن يقع القتال في فترة من أعماله كان لا يحتاج إلى العمل فيها.
وإن عطّل عملَه في مقدارٍ من الزمان، يستحق السهمَ لقتاله، وسقطت الأجرةُ على مقابلة تعطيله الأعمال المستحقة عليه، إذا كانت الإجارة تعتمد المدّة. وهكذا ينتظم تصويرها.
والقول الثاني- أن الأجير لا يستحق السهم؛ لأنه لم يقصد الجهاد في خروجه وحضوره، وأيضاً فإنه مستحَقُّ المنافع بالإجارة، فكان كالعبد، والعبد لا يستحق السهم، ولا يستحقه مولاه بسببه.
والقول الثالث: أن الأجير يخير بين الأجرة وبين السهم؛ لأنه متردّدٌ بين حالة المجاهدين وحالة الأجراء، إن أترك الأجرة، تحقق أنه مجاهد فليستحق السهم، وإن استمسك بالأجرة، فلا سهم له، وتوجيه ذلك بيّن.
7757- ثم إذا شرطنا في استحقاق السهم إسقاط الأجرة، فحاصل ما ذكره الأصحاب في إسقاط مقدار الأجرة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يكفيه أن يسقط ساعة القتال، فإذا فعل ذلك، استحق السهم.
والثاني: أنه لا يستحق السهم ما لم يسقط أصل الأجرة من يوم خروجه إلى منتهى القتال؛ فإنه بذلك يصرف خرجته إلى جهة الجهاد، ولا يكفي حط أجرة ساعة القتال.
والوجه الثالث: أنه يحط أجرته من وقت دخول دار الحرب. وهذا بعيد عن قواعدنا؛ فإنا لا نعتبر دار الحرب، ولا نعلّق بها حكماً في أصول المذهب.
فهذا ظاهر ما ذكره الأصحاب في الأجير الذي استأجره الغازي على عملٍ من أعماله التي يحتاج إليه. وقول إسقاط الأجرة فيه تأمل؛ فإنا إذا كنا لا نُبعد الجمع بين استحقاق السهم والأجرة، فمقتضى ذلك أن يعمل ويقاتل.
فإن قال قائل: هو في وقت قتاله لا يتفرغ إلى ما يعمل لمستأجِره، فيترك عمله ويقبل على القتال بدله، وإذا ترك عمله، استحال أن يستحق الأجرة بكمالها.
قلنا: هذا تضيّق في التصوير، لا معنى له؛ فإن الأجير لا يعمل دائباً والمكافحة في القتال لا تدوم أيضاً، فيمكن فرض القتال في فترات لو ترك الأجير العمل فيها لجاز له، ولما أثر بترك العمل في الأجرة.
وأما قولنا: لا يدوم القتال، فهو حق؛ فإن البطلَ الكرّار ربَّما لا يحتاج في جميع مدّة القتال إلا إلى ضربات تجري مجرى الفُرص ينتهزها، وليس من الحزم في القتال أن يأتي بها إلا كذلك، وأوقاتها تلطف، وأزْمانُها تخفّ، وليس المعنىُّ بقولنا: قاتلَ الأجيرُ أن يدأب ضرباً، وطعناً، وانغماساً في العدو. وإذا تبين المراد، اندفع بمجرد التصوير السؤال.
وإن حكمنا بأنه لابد من إسقاط الأجرة بجملتها إن أراد السهم، فالمراد منه أن نهضته إن كانت مقصورة على جلب الأجرة، لم يقصد الجهاد؛ فإن أراد أن يصرف نهضته إلى جهة الغزو فيسقط حقه الأول، حتى يُقدَّر كأنه لم يخرج لمّا خرج إلا غازياً.
ومن قال: لا يلزمه أن يسقط أكثر من أجرة ساعة القتال، فهذا فيه أدنى تأمل؛ فإنا إن صورنا لطفاً في أوقات القتال، فلا يقابل شيءٌ من الأجرة وقتَ القتال، فلا معنى لإسقاط الأجرة.
وإن صورنا القتال ممتدّاً في زمان يقابَل بالأجرة، فإذا اشتغل فيه بالقتال وترك العمل، سقطت الأجرة من غير إسقاط، ولم يبق لاسقاط الأجرة معنى، وآل النظر إلى أن الأجير الذي استحق المستأجِر عملَه هل له أن يترك العمل المستحَق عليه ويشتغل بالقتال، فينبغي أن يتأنَّق الفقيه في توجيه هذا الوجه.
والسبيل فيه أن نقول: إذا قاتل في أوقات لطيفة، وهو واقف في معظم الأوقات في الصف موقف المقاتلين، وهو في ذلك يعمل لمستأجره، وقد يكون عمله مراقبةَ الرجل أو رياضةَ دابةٍ هو راكبها، فيتصور الإتيان بالأعَمال مع تصوير القتال وينبني على ذلك أنه يستحق الأجرة؛ لأنه لم يخلّ بها، فإن أراد السهم على الوجه الذي نفرعّ عليه، فينبغي أن نسقط أجرته في مدة المعركة؛ فإنه وإن لم يكن مباشراً للقتال في جميع المدة، فهو في حكم المقاتل إذا قاتل في بعض المدّة، فقد اجتمع القتال وتوفية الأعمال، والتخير بين إسقاط أجرةٍ وجبت وبين طلب الأجرة وترك السهم.
وعماد هذا الفصل أن من جاء مجاهداً وجرّد قصده في الغزو، فلو وقف في الصف، ولم يقاتل، لكفاه ذلك في استحقاق السهم، لا خلاف فيه، ومن لم يتجرد قصده في الجهاد، فمجرد الوقوف من غير قتال، هو الذي فيه الكلام، والذي ذكره الأصحاب في تقسيم حال الأجير، حيث قالوا: "إن لم يقاتل، لم يستحق السهم".
أرادوا إذا وقف في المعركة، ولم يتعاط قتالاً، فخرج من ذلك أن الوقوف قتالٌ في حق من جرّد قصدَه، وليس هو قتالاً في حق الأجير على موجب هذه الطريقة، وسنذكر ترتيباً يخالف ذلك في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
وإن تعاطى القتال، ففيه الأقوال، كما قدمناه.
7758- ولو حضر البقعة تاجراً، فالذي ذكره بعض الأصحاب في الترتيب أنه إن قاتل، استحق السهم، وإن وقف في الصف ولم يقاتل، ففي استحقاق السهم قولان، والتجارة أضعف من الإجارة؛ فإنها ليست من الأشغال الشاغلة، ويتأتى الجمع بينها وبين غيرها من الأشغال، وأيضاً؛ فإن التاجر لا يُستَحقُّ عليه عملٌ سوى القتال بسبب اشتغاله بالتجارة، وإبرامه عزمه عليها، والأجير كالعبد؛ من جهة أنه مستحَقُّ المنفعة، فاقتضى هذا الافتراقُ قلبَ الترتيب وإجراءه على مقتضى ما ذكرناه في الأجير، فإنا قلنا: إن الأجير إن لم يقاتل، لم يستحق السهم، وإن قاتل، ففي استحقاقه الخلاف المقدم، ونقول في التاجر: إن قاتل استحق، وإن وقف ولم يقاتل، ففي المسألة قولان.
7759- ولو كان في أيدي الكفار أسير من المسلمين، فأفلت ذلك الأسير من ربطهم وتحيز إلينا، فالذي أجراه الأصحاب أنه إن قاتل، استحق السهم، وإن وقف في صف المسلمين، ولم يقاتل، ففي المسألة قولان، على الترتيب الذي ذكرناه في التاجر، ووجه التشبيه أنه يليق بحال الأسير إذا أفلت أن يقصد مقاتلة الكفار، والاشتفاء منهم، وليس يتحقق فيه ما ذكرناه في الأجير من كونه مستغرق المنفعة مستحَق العمل، فرأى الأصحاب تشبيه الأسير بالتاجر في الترتيب.
7760- ومما ذكره الأصحاب أن الإمام إذا استأجر من سهم المصالح أجيراً للقتال، فقد أطلق الأصحاب أن ذلك جائز، ثم قالوا: إذا حضر وقاتل، فهل يستحق السهمَ؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قطع بأنه لا يستحق السهم، لأن عينَ قتاله مقابلٌ بالأجرة، فيستحيل أن يقابله استحقاقُ السهم، وليس كالمستأجَر على الخدمة والسياسة؛ فإنه إن قاتَل، فليس قتالُه مقابلاً بالأجرة قصداً.
ومن أصحابنا من جعل المستأجَر على القتال بمثابة المستأجر على الخدمة والسياسة، وجعل المسألة في استحقاق السهم على الأقوال التي ذكرناها.
ويخرج من هذا الترتيب أن سبب المستأجر على القتال أقوى من سبب المستأجر على غير القتال من الأعمال، والاستئجار على الأعمال أقوى من التجارة، وإفلات الأسير.
فهذا ترتيب جماهير الأصحاب.
7761- فإن اعترض على الفقيه إشكال في استئجار الإمام طائفةً على الجهاد، فلا ينبغي أن يستبعد ذلك على شرط الضبط بالمدّة، فإن فروض الكفايات يجوز الاستئجار على معظمها، كحمل الجنائز وحفر القبور، وما في معناها، وسنجمع في ذلك قولاً ضابطاً في أول كتاب الصداق، إن شاء الله عز وجل.
والذي يجب الاعتناء به في تصوير الإجارة إعلام العمل، وهذا قد يغمض مع ذكر المدّة؛ لأنّ غوائل القتال وما تمس الحاجة إليه لا ينضبط. هذا فيه بعض النظر، ويمكن فرض بذل العوض في معرض الجعالة، حتى تكون المعاملة أقبل للجهالة، فهذا مجموع ما أبهمه الأصحاب وأرسلوه من المسائل، مع مزيد شرح في التنبيه على المراتب.
7762- وذكر الشيخ أبو بكر في خاتمة هذا الفصل ما يشفي الغليل، وقال: كل مسألة قلنا فيها: إن لم يقاتل، لم يستحق السهمَ، وإن قاتل، فعلى أقوال، فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا: يستحق المقاتل، ففي الواقف قولان.
وكل مسألة قلنا فيها: إن قاتل، استحق، وإن وقف، فعلى خلاف، فمن أصحابنا من قال فيها: وإن قاتل فهل يستحق السهم؟ فعلى قولين. فيخرج من مجموع كلام الأصحاب في الإجارة والتجارة وإفلات الأسير واستئجار الإمام على عين القتال أقوال: أحدها: أن هؤلاء يستحقون إذا وقفوا وشهدوا المعركة وإن لم يقاتلوا.
والثاني: أنهم لا يستحقون السهم وإن قاتلوا.
والثالث: أنهم يستحقون السهم إن قاتلوا، ولا يستحقون بالوقوف المجرد.
والرابع- أن التاجر يستحق والأجير لا يستحق.
والخامس- أنه يفصل بين أن يُسقط الأجرة أو لا يُسقطها، كما تفصل.
وينشأ قولٌ آخر من الفرق بين المستأجر على القتال وبين المستأجر لشغل آخر، وهذا كما أشرنا إليه في الترتيب المشهور من قوة بعض الأسباب وضعف بعضها. وإذا رأينا في الأجير أن يُسقط الأجرة، فلا شيء في حق التاجر يُسقطه، وقد ينقدح على بُعد أن يُشترط تصميمه على العزم على ترك التجارة، وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه له.
قال الشيخ أبو بكر: كأن الأقوالَ في هذه المسائل ناشئة من الخلاف في أن القصد والنية هل تعتبر في الجهاد؟ ففيه خلاف: من أصحابنا من لا يعتبر القصدَ في الجهاد، وعلى هذا لا يبعد أن يسهم لهؤلاء، قاتلوا أو وقفوا ولم يقاتلوا.
ومن أصحابنا من اعتبر القصدَ في الجهاد، فعلى هذا تنفصل الأقوال كما تقدم ذكرها.
فهذا مجموع القول في هذه المسائل تأصيلاً وتفصيلاً.
ثم حيث قلنا: إنه يستحق السهم، فلا كلام، وحيث قلنا: لا يستحق السهم، فهل يستحق الرضخ، فعلى وجهين حكاهما الشيخ أبو علي والعراقيون، أنه يستحق الرضخ، ولا ينحط عن الأطفال والمرضى في حكم المغنم، وهذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من قال: لا يستحق الرضخ، فإن المعنى الذي أسقط السهم يتضمن إسقاط حقه بالكلية من المغنم، وهذا وإن كان له وجه، فالمذهب ما تقدم من استحقاق الرضخ.
فرع:
7763- إذا استأجر واحدٌ من المسلمين غازياً حتى يجاهد عنه، فالاستئجار باطل؛ فإن الجهاد مما لا يجري النيابة فيه، فلو اندفع المستأجر على الغزو، ووفّى ما شرط عليه من العمل، فلا شك أنه لا يستحق الأجرة، فإن العمل لم يقع عن المستأجِر، وهل يستحق السهم؟ فعلى قولين ذكرهما الأصحاب، وقربوهما من القولين في أن المستأجَر على الحج إذا نوى الحج عن مستأجِره، وكان الأجير صرورةً، فالحج يقع عن الأجير، وفي نفي استحقاق الأجرة اتفاقٌ بين الأصحاب، فلا أجرة، ولو صح الاستئجار على الحج، فأحرم الأجير عن مستأجِره على الصحة، ثم صرف الحجةَ إلى نفسه ظاناً أنها تنصرف إليه، وقضى المناسك على هذا القصد، ففي استحقاق الأجرة قولان، فجعل الأصحاب استحقاق السهم مع فساد الإجارة على خلافٍ، ولا شك أن هذا التردد يترتب على أن الإجارة على الجهاد، ولو صحت من الإمام، فهل يستحق المجاهد السهمَ مع استحقاق الأجرة؟ وفيه الخلاف المقدم.
فإن قلنا: إنه يستحق الأجرة والسهمَ، فإن لم يستحق الأجرة لفساد الإجارة، فلأن يستحق السهم أولى، وإن قلنا: المستأجر على الصحة إذا استحق الأجرة لا يستحق السهم، فالمستأجر على الفساد إذا لم يستحق الأجرة، فهل يستحق السهم؟ وفيه الخلاف الذي ذكرناه. والمذهب أنه يستحق.
7764- ومما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك أن الواحد من المسلمين إذا استأجر من يغزو، ولم يقصد وقوع الغزو عنه، وإنما قصد إقامة هذا الشعار وتحصيلَ هذا الخير وصرف عائدته إلى الإسلام، ففي جواز الاستئجار من آحاد المسلمين وجهان مبنيان على جواز الاستئجار على الأذان من آحاد المسلمين، وكل ذلك يأتي مستقصىً، إن شاء الله عز وجل- في أول الصداق.
فرع:
7765- قال صاحب التلخيص: إذا كان في أيدي الكفار أسير من المسلمين، فلما قاتلناهم، وانكشف القتال وانحازت كل فئة، قال: "فلو أفلت أسيرٌ بعد ذلك، فهل يستحق السهمَ؟ فعلى قولين". فصوّر إفلات الأسير بعد انقضاء القتال، وهذا مأخوذ عليه عند جماهير الأصحاب؛ فإن التردد فيه إذا أفلت والحرب قائمة، فأما إذا أفلت وقد أحرز المسلمون المغانم فتخيل الخلاف في استحقاق السهم بعد ذلك بعيدٌ.
ثم إن تكلفنا وجهاً لما قاله صاحب التلخيص، فلعل السبيل فيه أن يفرض الأسير في الصف، وهو في أيدي الكفار، وينتهز منهم الغرة، فلعل صاحب التلخيص جعل كونه في الصف-إذا أفلت في العاقبة- وقوفَ قتالٍ، وهذا على بعده يُحْوج إلى فرض كونه مطلقاً غيرَ مربوط، ويحوج أيضاً إلى تصوير اتصاله بنا على قرب من انجلاء القتال، فلو بعد وتخلل اليوم أو أكثر، فلا يجوز تقدير الخلاف فيه.
والوجه القطع بتخطئة صاحب التلخيص؛ فإن السير لا غَناء فيه، ولا وقْع لوقوفه.
7766- ولو أسلم واحدٌ من الكفار، واتصل بنا قبل انجلاء القتال، فسبيله كسبيل الغزاة، حتى يستحق السهم بالوقوف وإن لم يقاتل، فإنه يغلب على حاله وقد ترك دينه قصدَ الذبّ عن دين الله تعالى وليس كالأسير منا يفلت؛ فإنه يغلب عليه قصد الفوز والنجاة، وهذا يضعف قصده في القتال، والله أعلم.
فصل:
قال: "ولو جاءهم مدد قبل انقضاء الحرب... إلى آخره".
7767- إذا قاتل المسلمون وأحرزوا غنائم، وانجلى القتال، وانكشف الأعداء، ثم لحق بعد ذلك مددٌ لجند الإسلام، فمذهبنا أن المدد اللاحق بعد انجلاء القتال لا يشارك الجندَ فيما أحرزوه من المغانم.
وقال أبو حنيفة: "إن لحقوا والجند بعدُ في دار الحرب يشتركون في المغنم، ولو تعلق جند الإسلام بدار الإسلام، ثم لحقهم مددٌ؛ فإنهم لا يشركونهم". فعندنا التعويل على الإحراز، ولا التفات إلى الدار.
وهذا الفصل يتطرق إليه ضربٌ من الانتشار المحوج إلى الضبط، فالوجه نقل ما ذكره الأصحاب، ثم الاعتناء بتمهيد الأصل ورعاية الضبط، فنقول:
ما يحصل في يد الجند المجتمع من المغانم مشترك بينهم، لا يختصّ آخذ الأموال بها، وفيه سببان:
أحدهما: أن ما يأخذه الآخذون إنما يقرون على أخذه لقتال المقاتلين، أو لوقوف المصطفِّين، فالأَخْذ وإن حصل من بعضهم، فهو مضاف إلى كلهم.
والمعنى الثاني- أنا لو خصصنا الأموال بآخذها، لكان ذلك خرماً لسبيل السياسة، فكأن الأموال على حالةٍ مطلوبُ الخلق، فإذا حصل العلم لرجال القتال بأن المال لآخذه، لابتدروا الأموال، وتركوا القتال، ثم قد يكون ذلك سبباً لظفرة الكفار، ومن أدنى آثار ركوبهم علينا أن يستردوا ما أخذناه، وربما يضعون السيف في المسلمين، فاقتضت مصلحة القتال أن تكون الأموال فوضى.
وإذا نفذت طليعة من كُثر الجند على الرسم المعتاد فيه، فإن أفادت هذه السرية المتقدمة شيئاً، لم يختصّوا به، بل يشركهم الجند فيه، إذا كانوا بحيث لا يتعدَّوْا الغوث منهم، وكذلك الجند إذا غنموا، فالسرية تشترك فيما أخذه الجند، والسبب فيه أن الغوث إذا كان لا يبعد، فالسرية المتقدمة مع كُثر الجند كالميمنة مع القلب، وهذا بيّن.
ولو نفذت سريتان من الجند، فأخذت كل واحدة صوباً، فهما من كثر الجند على بُعد، لا يبعد معه الغوث، فكل سرية تشرك الجندَ، والجند يَشْرك كلَّ واحدة من السريتين. وهل تشرك إحدى السريتين الأخرى فيما أصابته؟ على وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنها تشرك الأخرى؛ فإنهما صادرتان عن جندٍ واحد والجمع بجملتهم متناصرون. وهذا هو القياس الذي قطع به المراوزة.
والوجه الثاني- أن إحدى السريتين لا تشرك الأخرى؛ فإنها ليست متهيئة لنصر الأخرى، وإنما تستنصر كل فئة بنصر الجند إذا مست الحاجة إلى النصرة، وهذا ضعيف. والوجه الأول هو المذهب.
7768- ووراء ما أرسله الأصحاب نظرٌ من وجهين:
أحدهما: يشتمل على القول في تقريبٍ يصار إليه في معنى لحوق الغوث وتعذره، والفقيه قد يكتفي في مثل هذا بالرجوع إلى أهل الأمر، والتعويل على خبر ذوي الخبرة، وقد يختلف ذلك بتوعر الطرق وسهولتها، ويختلف بعزة الماء ووجوده، إلى غير ذلك مما يقطع على المسافرين، ومما يقرب مسيرهم، ويسهل وصولهم، وهذا لا بأس به على ما فيه من الإبهام، والمعتمد فيه أن السرايا وكُثر الجند إذا كانوا في مواقع يتأتى منهم التناصر والتظافر كانوا بمثابة الجند الواحد في المعترك الواحد، وإذا تقاذفوا وتبادَوْا، وكان لا يتأتى من فريق منهم الاستنجاد، وكل فرقة مستقلة بقوتها، راكبة إلى منتهى يقطعها عن الطوائف الأخرى، فيثبت لكل فريق حكم الاستقلال.
ثم الذي يمكن ضبطه في ذلك أن تكون المسافة بحيث يتأتى الانتشار في مثلها مع مكالحة العدو. ولا يشترط أن يلحق الغوث في الحال، فإن ذلك لو فرض، لكانوا معاً على صعيد واحد، ولكن إذا كان المستنجدون بحيث لو اشتغلوا بمطاردة العدو، وأرسلوا المستنجِدَ، للحقهم الغوث قبل أن يُصطلموا، فهذا هو المعنيُّ بالغوث.
وفيه دقيقة لا تخفى على أهل الحرب، هو أنه إذا كان بين يدي الجند، وبين السرية المبتعثة مسافة الغوث، كان الأعداء مرعوبين مذعورين بإمكان المدد، وذلك يفل من عزمهم، فيقع التواصل ناجزاً بهذا، والخوف على التقريب الذي ذكرناه.
وذهب بعض الأصحاب إلى مسلك آخر، عليه يدل كلام شيخنا أبي بكر، وها أنا واصفه، قال: إذا تجرر عسكر من صوب، وكانوا ينحون وطراً، فرأى من يسوسهم أن يفرق سرايا في جهاتٍ حتى يشتمل على أطراف القطر المأموم، ويكون مددهم سببَ تبدد جمهور الأعداء، وقد يروْن محاصرة قلاع على الممرّ وحفظ مراصد، ثم ينأَوْن ويبعدون، بحيث لا يلحقهم معه المدد لو تحامل عليهم العدو، ولكن صاحب الراية يفعل ذلك على وجهٍ يبعد معه تحامل جيش جرار على سرية، فإنهم يأتون من الجوانب، والراية تخفق على كُثر العسكر، وهذا الضرب من الرأي يعصم السرايا من أن يُقصَدوا، والغرض قُطر واحد بنواحيه، فلا تعويل على الغوث، والحالة على ما وصفناها، فإذا فرض والحالة هذه إصابة مغانم من السرايا، ردّوها على الجند، وإذا أصاب الجند شيئاً شرّكوا فيه السرايا؛ فإنّ صَدَرَ الجميع عن رأيٍ واحد، والغرض في التحقيق غزاةٌ واحدة. هذا مسلك اختاره المحققون.
7769- وقال الشيخ أبو بكر: لو كان الإمام الذي منه الصدَرُ والوالي في بلدة، فسيّرا سرايا في جهاتٍ، فأصابوا مغانم، ومعظم الجند هؤلاء مع صاحب الراية في البلدة، فمن فيها لا يشركون السرايا فيما أصابها، وإن كانت مواقعهم في القتال غيرَ بعيدة عن غوث صاحب الراية في البلدة، واحتج هؤلاء بخبرين:
أحدهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة حنين، فبعث سرية إلى أَوْطاس ثم أشركهم فيما أصاب بأوطاس، وبين حُنين وبين أَوْطاس مسيرة ليالٍ"، "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارّاً بالمدينة، والسرايا تبتعث في الجهات، ويختصون بما يغنمون لا يُشرِكون المقيمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصيبون، قربت المسافة أو بعدت".
فتحصّل مما قاله الأصحاب مسلكان مختلفان:
أحدهما: النظر إلى إمكان لحوق الغوث على النفير الذي ذكرناه، ومعتمد هؤلاء وقوعُ الجند-وإن تفرقوا- موقع الجند الواحد المتناصر، وإن كانوا كذلك، اشتركوا اشتراك الجند الواحد. وإن كانوا لا يتناصرون، فكلٌّ مستقل بقوته. وكل هؤلاء يقولون في حديث حنين: كان تجهّزه صلى الله عليه وسلم في صوب حنين. والخبر محمول على ذلك؛ فإن الحصار لم يقع قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حنين، وهؤلاء يقولون أيضاً: السرايا المنبعثة كانت بمنأى عن غوث المقيمين بالمدينة، ويقولون: لو فرض وقوع سرية بحيث يلحقهم غوث الجند المقيمين، فما يصيبونه يشترك فيه المقيمون، ثم هؤلاء يسلمون أن هذا في الجند المتأهبين للخروج إذا بلغهم هائعة ومن عداهم، وإن قربوا إذا لم يكونوا متأهبين، فلا غوث منهم، وإن اشتغلوا بالتأهب يفوت الأمر وينزل بُعْد ذلك عن الحصول منزلة بعد المسافة هذا مسلك.
والمسلك الثاني- أن يشمّر قوم لصوب، ويبتُّوا أمرهم على ناحية، كما قدمنا وصفه، فالصادرون عن رأي واحد في حكم المتناصرين وإن كانوا لا يتناصرون، وعلى هذا الجندُ المقيمون في البلد ما بنَوْا أمرَهم على التشمر لأمدٍ يشاركهم السرايا فيه.
هذا منتهى كلام الأصحاب صريحاً وضمناً.
7770- وتمام البيان أن المدد إذا وقعوا في الجند في المعترك موقعاً لو شعر الجند بهم، لاستنجدوا بهم، ولكنهم لم يشعروا، ثم انجلى القتال، ثم لحقهم المدد، فالذي رأيت الأصحاب متفقين عليه أن المدد لا يشركون الجند، وهذا يعتضد بمسلك من لا يعتمد التناصر، ويعوّل على الصدَر عن رأيٍ واحد؛ فإنه ليس بين الجند والمدد رأي جامع. ومن يعتمد التناصر ينفصل عن هذا، ويقول: عدم شعور الجند بمكان المدد يحجزهم عن الاستمداد والاستنجاد، فكان ذلك بمثابة عسر الاستمداد.
وقد نجز الغرض، وضممنا فيه النشر جهدنا.
7771- وفي بعض المصنفات وجه محكي عن القفال، أخّرته حتى لا يوثق به ولا يعدَّ من المذهب: حكى صاحب التقريب: أن القفال كان يقول: إذا انبعثت السرايا والجند بعدُ في دار الإسلام، لم يشركوا، وهذا غلط صريح، ولم ينقل أحد من أصحاب القفال هذا عنه، فإنّ التعويل على الدار لا يوافق مذهب الشافعي بوجهٍ؛ فإنّ معوّل الشافعي على المعاني لا على الديار.
7772- ولو لحق المدد والحرب بعدُ قائم، نُظر: فإن لم يحرز الجند المغنم حتى لحق المدد، فما يقع آخراً... بعد لحوقهم مشترك.
وإن كانوا أحرزوا مغانمهم، والحرب بعدُ ناشبة والقوم مطاردون، فهل يُشرِك الجندُ المددَ فيما أثبتوا أيديهم عليه؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنهم لا يشركونهم؛ فإنهم لحقوا بعد إثباتهم الأيدي عليها، فأشبه ما لو لحقوا بعد انجلاء الحرب..
والقول الثاني-وهو الأصح- إنهم يشركونهم؛ فإنّ تلك الأيدي لا حكم لها، وهي مع قيام المطاردة ضعيفة، بل هي عرضة للاستدراج لو كان للكفار عَكْرَةٌ على المسلمين.
7773- ويتصل بهذا القولُ في القسمة، فنقول: إذا انكشف القتال، وتحاجز الفئتان، فقسمة الغنيمة جائزة، وإن كانت في دار الحرب، قال الشافعي: لو قلت: القسمة في دار الحرب أولى، لم أكن مبعداً؛ فإن ذلك أنفى للغُلول وأنقى للقلوب. وإذا تبدّد المغنم، خف محمله.
7774- ولو ثبتت الأيدي صورةً على مغانمَ والحربُ بعدُ قائمة، والمطاردة دائمة، فلو اقتسموها، فالذي رأيت للأصحاب أن القسمة مردودة. ولست أبعد تخريج صحتها على القولين في أن المدد اللاحق هل يشترك في هذه الأعيان الواقعة في أيدي الجند قبل لحوق المدد، وهذا لابد من تخريجه على ذلك. والله أعلم.