فصل: فصل: في الضلال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في الضلال:

587- وهذا عدّه الفقهاء من غمرات أحكام الناسية، والغرض منه، ومما تقدم من أمثاله بيانُ أحكامٍ مستفادةٍ مِنْ ذِكْرها أشياءَ في أدوارها، مع بقاء الإبهام في أشياء، ثم بوّب العلماء أبواباً وذكروا أسماء وألقاباً، وغرضهم إيناس الناظرين بمدارك التصرّف، ومسالك استخراج اليقين في الأمر بالاحتياط.
588- والضلال هو الذي نصفه، وهو منقسم إلى الضلال المطلق على الأجمال، وإلى الضلال المقيّد:
فأما الضلال المطلق الذي لا تقييد معه، فلا فائدة فيه، مثل أن تقول: أضللت حيضي في دوري، ولم تذكر مقدار الدور وابتداءه، فلا أثر لما ذكرت، فهي متحيرة مطلقة.
وكذلك إن ذكرت أن دورها كان ثلاثين، ولم تذكر ابتداء دورها أنه كان من أي وقت، فلا أثر لما ذكرت، وهي متحيرة.
ولو ذكرت ابتداء دورها، وزعمت أنها أضلّت حيضَها فيه، فلابد أن تذكر مقدار الدور لتستفيد من ذكرها.
فإذا قالت: كان دوري ثلاثين، وابتداؤه من وقت ذكَرَتْه، وقد أضلَّت حيضها فيه، فمن ضرورة الإضلال ألا تكون خالطة آخِرَ دورٍ بأولِ دورٍ؛ فإنها لو ذكرت خلطاً، فقد سبق حكم الخلط، فإذا ذكرت الضلال، تضمن هذا انحصارَ الحيض في الدور، ولا يبعد في مقتضى الضلال انطباقُ الحيض على أول الدور.
589- فإذا ذكرت مقدارَ الدور وابتداءَه، وقالت: أضللت حيضي فيه، فلا يخلو إما أن تذكر مقدار الحيض، أو لا تذكر، فإن قالت: لا أدري مقدار حيضي، فلا تستفيد مما ذكرت شيئاًً، إلا أنها لا تغتسل يوماًً وليلة من أول الدور؛ فإن الغسل إنما يجب لاحتمال الانقطاع، والانقطاع غير محتمل في اليوم الأول؛ فإنه لو فرض الانقطاع فيه، لكان من ضرورة ذلك أن تخلط، وقد ذكرت أنها كانت لا تخلط، فإذاً هي في اليوم الأول بين أن تكون طاهرة أو حائضاً، فإذا مضى يومٌ وليلة، اغتسلت لكل فريضة إلى آخر الدور.
فهذا إذا لم تذكر مقدار الحيض.
وإن ذكرت مع الضلال مقدار الحيض، فقالت: أضللت حيضي، وهو خمسة في دوري، والدور ثلاثون، وهو معلوم المبتدأ، فتستفيد مما ذكرت ألا تغتسل خمسةَ أيام من أول الدور؛ فإن الانقطاع لا يحتمل فيها مع نفي الخلط، وهي بين أن تكون طاهرة أو حائضاً، كما تقدم.
ولو عينت للضلال أياماًً من دورها، فإن كان الحيض مثل نصف محل الضلال، أو أقل، فلا يحصل لها حيض معيّن، وإن كان حيضُها أكثرَ من نصف محلّ الضلال، فيثبت لها يقين حيضٍ، على ما سنصف. فإذا ذكرت أنها أضلت خمسةً في العشر الأول من دورها، فتستفيد بهذا أنها طاهرة وراء العشر إلى آخر الدور قطعاً، ثم لا تغتسل في الخمسة الأولى، من العشر الأولى؛ فإن الانقطاع فيها لا يحتمل، وتغتسل في الخمسة الثانية، ولا تغتسل في بقية الدور؛ فإنها طاهرة بيقين وراء العشرة، ولا يثبت لها في العشر حيض على التعيين مستيقن.
ولو كانت حيضتها تزيد على نصف محل الضلال، فيثبت لها حيض معيّن مستيقن. مثل أن تقول: أضللت ستة في العشرة الأولى-ثم الأصل في معرفة مقدار الحيض التقديم والتأخير- فنقدم حيضها على أقصى الإمكان، فنقدر كأن حيضها منطبق على أول المحل، فينتهي الحيض على هذا التقدير إلى آخر السادس، ونؤخر الحيض أقصى ما يمكن فنقدر، كأن آخر حيضها منطبق على آخر العشر. فيقع أول الستّة في أول الخامس، فيدخل في حساب التقديم والتأخير الخامس والسادس، فهما حيضٌ بيقين؛ فإن أقصى التبعيد في التقديم والتأخير ما ذكرناه، فما يندرج تحت التقديرين، فهو يقع حيضاً، لا محالة.
ثم هي مأمورة بالوضوء في الأيام المقدمة الخارجة عن حساب التأخير؛ فإن الطهر والحيض محتملٌ فيه، ولا يحتمل فيه الانقطاع، وما يقع بعد الحيض مما دخل في حساب التأخير ولم يلحقه حساب التقديم، فهي مأمورة بالغسل فيه، لاحتمال الانقطاع في كل وقت من الأوقات هذه الأيام.
وقد ذكرنا في الأيام المقدمة في باب الخلط أنها مأمورة بتطبيق الصلاة في أول الوقت، وذكرنا أنها في الأيام المؤخرة مأمورة بتأخير الصلاة، على تفاصيلَ بالغنا في إيضاحها، والأيامُ المقدّمة في الضلال على يقين الحيض في تلك الأحكام التي ذكرناها كالأيام المقدمة في الخلط، والأيام المؤخرة بعد يقين الحيض في الأحكام المذكورة، كالأيام المقدمة في باب الخلط، حرفاً حرفاً.
وهذا الذي ذكرناه يجري إذا كانت في الضلال على وجهٍ يقتضي يقين حيضٍ لا محالة.
590- ثم عبر الفقهاء عن مقدار يقين الحيض بعبارتين ضابطتين: إحداهما- أنا ننظر إلى المقدار الزائد من الحيض على نصف محل الضلال، فنضعّفه، ونحكم بأنه حيض بيقين من وسط المحل. وبيان ذلك أن الحيض ستة، والمحل عشرة، والستة زائدة على نصف العشرة يوم وليلة. ثم نضعِّفه، فيصير يومين وليلتين، فيكونان حيضاً من وسط المحل، ووسط العشرة الخامس والسادس. وهذا يجري في كل صورة فيها حيض بيقين في صور الضلال.
والعبارة الثانية- أنا نضعف الحيض ونقابله بالمحل، فيزيد على المحل لا محالة، فيصير قدر الزيادة حيضاً من وسط المحل، وبيان ذلك أن الستة إذا ضوعفت، فالمبلغ اثنا عشر، وهو يزيد على المحل بيومين، فهو حيض من وسط المحل، فيقاس على هذه الصورة ما في معناها. ولا معنى لتكثير الصور مع القطع بجريان ما ذكرناه واضحاً بيَّنَّاً في كل صورة.
591- فنذكر صورة أخرى للإيناس.
فلو قالت: أضللت يومين في ثلاثة أيام، فتجري الطرق المتقدّمة، ونحكم لها بالحيض في اليوم الثاني.
هذا ما يقتضي التقديم والتأخير.
وإن أجرينا العبارتين الأخريين، جرتا، فنصفُ المحلِّ يوم ونصف، والحيض يزيد على ذلك بنصف يوم، فنضعّفه فيصير يوماًً وليلة، فهو الحيض من وسط المحل. وكذلك تجري العبارة الأخرى، والأحكام في الوقت المقدّم والمؤخر على الترتيب المقدّم.
فهذا كافٍ فيما ذكرناه
592- فأما إذا ذكرت مع الضلال شيئاًً آخر، فعينت يوماًً للحيض، أو يوماًً للطهر، فنذكر في كل قسم من هذين صوراً.
فلو قالت: أضللت خمسةً في عشرة، وأعلم أني كنت حائضاً يوم الخامس، وليلته بيقين، فيحتمل أن يكون هذا آخر حيضها، بأن يقدر أول الحيض من أول المحل. ويحتمل أن يكون هذا أول حيضها، فينتهي إلى آخر التاسع، فيخرج اليوم العاشر عن الحسابين، فهو طهر بيقين؛ فإنه خارج عن أقصى التقديرين والحسابين؛ فآل محلُّ الضلال إلى تسعة، فكأنها قالت: أضللت خمسةً في تسعة، ولو قالت ذلك، لم يخف تخريج الصور على العبارات الثلاث المقدمة، والطرق السابقة، فيقتضي تحييضها اليوم الخامس وليلته. وهو الذي عيَّنته بذكرها.
ولو قالت: كنت يوم السابع حائضاً-وإذا ذكرنا يوماًً أردناه بليلته- فإن أخرنا، انتهى إلى آخر المحل، وانتهى الأول إلى السادس. وإن قدمنا، فقدرنا السابع آخراً، كان الأولُ الثالثَ، فيخرج الأول والثاني من الحسابين جميعاً، فهي طاهرة فيهما بيقين فنخرجهما من المحل، فكأنها أضلت خمسة في ثمانية أيام، أول المحل اليوم الثالث من العشر الأول، فيقتضي ما تقدم من الطرق أن نحيّضها اليوم السادس والسابع.
ولو قالت: كنت يوم الثالث حائضاً بيقين، فنقدّم، ونقدّر أول الحيض اليومَ الأول، فينتهي الآخر إلى الخامس، وإذا أخرنا، فقدّرنا أول الحيض اليوم الثالث، فينتهي إلى آخر السابع، فيخرج الثامن والتاسع والعاشر عن المحل، ويكون طهراً بيقين، فتكون قد أضلّت خمسة في سبعة، فنحكم بالحيض يقيناً في الثالث والرابع والخامس، على الأصول المقدمة.
593- فأما إذا ذكرت مع الضلال طهراً بيقين في يوم من المحل، فنذكر في ذلك صوراً.
فإذا قالت: أضللت خمسة في عشرة، وكنت يوم الخامس طاهرة بيقين، فهذه تَحسبُ ضلالاً، ولا ضلال؛ فإنا نعلم أن الخمسة لا تقع قبل اليوم الخامس، فهي طاهرة في الخمسة الأولى، وإذا تعينت الخمسة الأولى للطهر، تعينت الخمسة الثانية للحيض، ولا ضلال.
وإن قالت: أضللت أربعة في عشرة، وكنت يوم الخامس طاهرة بيقين، فالأربعة قبل الخامس تحتمل الحيض وتحتمل الطهر، ولا تحتمل الانقطاع، فهي أيام الوضوء، ثم تغتسل في آخر الرابع مرة، ثم تتوضأ من أول السادس إلى آخر التاسع؛ فإن الانقطاع غيرُ ممكنٍ فيها، وتغتسل في اليوم العاشر، لاحتمال الانقطاع في جميع ساعاته، بتقدير استئخار أوّل الحيض عن أول السادس، وانتهاء الانقطاع إلى أوقات اليوم العاشر.
ولو قالت: أضللت أربعةً في عشرة، وكنت يوم الرابع طاهرة، فهي طاهرةٌ أيضاً في الأيام الثلاثة قبل الرابع. فنقول: قد أضلّت أربعةً في ستة، أوّلها اليوم الخامس، فتجري الطرق في استخراج يقين الحيض كما تقدم ذكره، ولا يكاد يخفى بعد ذلك على الفَطِن استخراج اليقين من أمثال هذه الصور.
فلنكتف بهذا المقدار في ذلك.
فصل:
594- كنا وعدنا في المعتادة أن نذكر التي تختلف عاداتها ثم تُستحاض في آخر الناسية. وهذا أوان تفصيل القول في ذلك.
فإذا كانت تحيض من أول شهرٍ ثلاثة، ومن أول شهر خمسة، ومن أول شهر سبعة، ثم تعود إلى الثلاثة، ثم إلى الخمسة، ثم إلى السبعة، ثم تعود وأوائل الحيض منطبقة على أوائل الدور، وأواخرها مختلفة المقدار، ولكنها متسقة في الأدوار المتعاقبة، فإذا جاءها شهر، فاطرد الدم، فقد اختلف أئمتنا، فقال بعضهم: نردّها إذا استمرّ الدم بها إلى ما كانت عليه في الشهر الذي قبل الاستحاضة، حتى إن كان شهر الثلاثة، فنحيّضها ثلاثة من أول الدور أبداً، ولا ننظر إلى ما كانت عليه في غيره من الأشهر.
وهؤلاء يقولون: إذا كانت عاداتها المتعاقبة مختلفة، فهي متناسخة، والأخير منها ناسخ لما تقدم.
وذهب الأكثرون إلى أنها مردودة إلى ترتيب عاداتها، وهؤلاء يقولون: تباينُ أقدارِ حيضها على الاعتقاب، والانتظام- عادة محكوم بها، فإن كان الشهر المتقدم على الاستحاضة شهر الثلاثة، فنردُّها في شهر الاستحاضة إلى الخمسة، ثم إلى السبعة، ثم إلى الثلاثة، فندير عليها أدوارها في الاستحاضة، كما عهدناه قبل الاستحاضة.
وهذا الاختلاف الذي ذكرناه لا اختصاص له بقولنا: العادة تثبت بالمرة الواحدة أم لا تثبت؟ وإنما منشأ الخلاف في أن اختلاف أقدار الحيض-وإن كانت على انتظام- هل تنتظم منه عادةٌ أم لا؟ وإن حاضت أول مرة ثلاثة، ثم حاضت خمسةً في الدور الثاني، ثم سبعة في ثالث، ثم استحيضت في الرابع، فلا خلاف أنها لا ترد إلى انتظام تلك الأقدار في الأدوار، وإن قلنا تثبت العادة بالمرة الواحدة، ولكن على هذا الوجه تُردّ إلى أول الدور المتقدّم على شهر الاستحاضة.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فقد اختلف أئمتنا: فمنهم من قال: نردّها إلى أقل عاداتها؛ فإن الثلاثة موجودة في دَوْر الخمسة. والسبعة، فكأنها متكررة. ومنهم من قال: لا نردّها إلى شيء من تلك الأقدار الجارية في الأدوار، وسبيلها سبيل مبتدأة تستحاض في الدور الأول.
وقد مضى التفصيل، وقد مهدنا هذا المسلك في فصول المعتادة.
595- وكل ما ذكرناه فيه، إذا انتظمت لها أدوارٌ متفقة الأوائل مختلفة الأواخر، على اتساق ونظام، فاستحيضت وعلمت الشهر الذي تقدَّمَ الاستحاضة.
فأما إذا كانت عاداتها كما وصفناها، ولكنها قالت: لست أدري أن استحاضتي في أي نوبة كانت، ولست أعرف الشهر المتقدم على شهر الاستحاضة، فقد أشكل عليها الأمر في مقدار الحيض، وعلمت أن حيضها كان ينطبق على أوائل الشهور، وهي تعلم أن حيضها كان لا ينقص في نوبةٍ من النُّوَب على ثلاثة، وعلمت أن حيضها كان لا يزيد على سبعة.
فإن فرعنا على أن انتظام العادات المختلفة أمرٌ مستفاد من تكرار العادات، كما سبق، فقد عسر علينا معرفة قدر الحيض في كل نوبة، ولكن سبب ذلك جهلُها بالنوبة التي استحيضت فيها.
فنقول: نقضي بما نتحقّقه، ونأمر بالاحتياط فيما لا نعلمه، فنحيّضها ثلاثة أيامٍ من أول كل دَوْر، ثم نأمرها بالاغتسال عقيب الثالث، ثم تتوضأ لكل صلاة، فِعْل المستحاضات إلى آخر الخامس، ثم تغتسل مرة أخرى، لاحتمال الانقطاع بأن نقدر النوبة للخمسة، ثم تتوضأ إلى آخر السابع، ثم تغتسل مرة ثالثة، ثم حكمها حكم الطاهرات المستحاضات إلى آخر الدور. ويحرم على هذه في السبعة من أول الدور ما يحرم على الحُيّض، ولكن لا نأمرها بالاغتسال إلا في آخر الثالث والخامس والسابع.
وإن قلنا: لا يثبت من انتظام عاداتها حكم، وهي مردودة إلى النوبة الأخيرة المتقدمة على الاستحاضة لو كانت ذاكرة لها، فكيف حكمها وهي جاهلة بها؟.
فنقول: قد يظن ظان في التفريع على هذا أنها تكون مردّدة بين الثلاثة والخمسة والسبعة؛ فإن نوبتها كانت لا تخلو من هذه الأعداد، ثم يلزم من هذا التقدير أن نحيّضها ثلاثة أيام بيقين، ثم سبيلها في آخر الخمسة والسبعة كما تقدم إذا فرعنا على أنها تستفيد من انتظام عاداتها أمراً، فيتفق التفريعان على الوجهين عند فرض الجهالة.
وهذا الظنّ خطأٌ، وآيةُ ذلك استواء التفريع على وجهين مختلفين؛ فالوجه القطعُ بأنا لا نديرها على الثلاثة والخمسة والسبعة، إذا كنا نردّها إلى النوبة الأخيرة لو كانت عالمةً بها؛ فإن صاحب هذا المذهب لا يلتفت إلى ما قبل النوبة الأخيرة أصلاًً، وما ظنَّه هذا الظان نتيجة الالتفات على ما مضى. فإذاً قد جهلت هذه مقدارَ حيضها، ولكنها علمت مقدارَ الدور، وانطباقَ الحيض على أول الدور، وأنها كانت لا تخلط دوراً بدور، ولا خلاف أنا نعمل بهذا، وإن التبس الأمر في المقدار؛ فإن الناسية لو قالت: كنت لا أخلط دوراً بدور، ولا أذكر غير ذلك، لكنا نبني على هذا ما يليق به من الحكم، فاختلاف المقادير لا يمنعنا من التمسك بانطباق الحيض على أوائل الأدوار.
فهذا قولنا في أصل الدور إذا علمته، والأولية.
فأما المقدار، ففيه الخلاف المقدَّم: فمن أئمتنا من قال: نحيّضها ثلاثة أيام، وهو أقل عاداتها، ومنهم من يجعلها كمبتدأة لا تعرف شيئاً. ثم القول في المبتدأة قد مضى، وهذا أَقْيس على هذا الوجه الذي نفرع عليه.
ثم قد ذكرنا في المبتدأة قولين في أنها هل تؤمر بالاحتياط إلى آخر خمسة عشر يوماًً من أول كل دور، وهما يجريان في هذه، ولا يختص الاحتياط بالسَّبع، كما نفرع على الوجه الأول في استفادة الانتظام من عاداتها؛ فإن ذلك إن قيل به، كان التفاتاً إلى ما تقدّم، وذلك يوجب التمسك بنظام العادات، ولا يكاد يخفى بعد وضوح هذه التفاريع أن الأصح استفادةُ الانتظام كما تقدم.
596- وكل ما ذكرناه في العادة المنتظمة. فأما إذا كان أقدار الحيض منضبطة، فكانت ثلاثة وخمسة وسبعة. ولكن لم تكن عوداتها منتظمة، فمرّة كانت تحيض ثلاثة ثم خمسة ثم سبعة، وأخرى كانت تحيض خمسة ثم ثلاثة ثم سبعة، لا على أمرٍ منظوم يتعلّق الفقه به، فإذا استحيضت وطبق الدم، فإن رأينا في الصورة الأولى، وهي إذا انتظمت العادات أن نردها إلى النوبة الأخيرة، فهذه الصورة أولى بذلك.
فإن قلنا في الصورة الأولى بالاستمساك في ترتيب عودات الحيض، فهاهنا لا ترتيب في العود ولكن الأقدار مضبوطة، فلا زيادة على السبعة، ولا نقصان من الثلاثة، والمتوسطة بين الثلاثة والسبعة خمسة، فإذا استحيضت، والتفريع على استفادة ما يمكن استفادته، فالقول فيها كالقول في التي جهلت النوبةَ المتقدمة على الاستحاضة، وكانت عاداتها منتظمة القدر والعود، ولكنها إذا جهلت، لم تنتفع بما كان من انتظام العود، فعدمُ انتظام العود في الصورة الأخيرة كجهلها بالانتظام الذي كان، فتتحيّض ثلاثة، وتغتسل، ثم تتوضأ لكل صلاة، وتغتسل بعد انقضاء الخمسة، ثم تتوضأ إلى آخر السابع، ثم تغتسل، ثم هي مستحاضة إلى آخر الدور.
فهذا منتهى غرضنا في اختلاف العادات، وإن زاد زائدٌ صوراً، لم يخف على الفَطن وجهُ استخراجها، مما ذكرناه الآن من الأصول المتقدمة في أبواب الناسية.

.باب: التلفيق:

597- هذا مما يُعدّ من غوامض أبواب الكتاب وهو أصل مستفتح، فلابد من الاعتبار بدرك أصله.
والقول فيه يتعلق بنوعين:
أحدهما- فيه إذا تقطَّعَ النقاء والدم، وجرى ذلك في مدة لو طبّق الدمُ فيها، لكان حيضاً، ثم ترى بعد ذلك نقاءً مطرداً خمسةَ عشرَ يوماًً فصاعداً.
والأخرى- أن يجري التقطّع ويزيد أمدُه: دماًً ونقاءً على الخمسةَ عشَر، وقد يطّرد ذلك في جميع الأيام.
598- فأما إذا وقع التقطع في الخمسةَ عشرَ، ورأت بعد ذلك طهراً كاملاً متواصلاً، فنستوعب قواعدَ المذهب في ذلك إن شاء الله، ونسميه التلفيق في غير المستحاضة.
فإذا كانت ترى دماًً يوماًً وليلة، ونقاءً يوماًً وليلة، ثم دماً، كما ذكرناه إلى الخمسةَ عشرَ مثلاً، أو إلى مدة أقلَّ منها، فما حكم النقاء المتخلل بين الدماء؟ فعلى قولين:
أحدهما: وهو الذي نص عليه في عدة مواضع أن النقاء حيض، وحكمها فيه حكمُ الحيض. وهذا مذهب أبي حنيفة.
والثاني: أنّ حكمها في زمان النقاء حكم الطاهرات في الصلاة والصوم، وحِلِّ المواقعة وغيرها.
وقيل: ذكر الشافعي هذا القولَ في مناظرةٍ جرت له مع محمد بن الحسن.
توجيه القولين: من قال: حكمُ النقاء الناقص عن أقل الطهر المحتوش بدمين هما حيض- أنه حيضٌ. قال: إذا نقص عن الأقل، وأحاط به دمان هما حيض، حُمل النقاءُ على الفترات التي تقع في خلال استرسال الحيض؛ فإن الحيض لا يسيل سيلاناً متصلاً، بل يخرج دُفعة دُفعة، كما دلّ عليه بعضُ الأحاديث المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي يعضد ما ذكرناه أنّ الدم الناقص عن أقل الحيض دمُ فسادٍ، وحكمه حكم الطهر. والنقاءُ الناقص عن الأقل حكمه حكم فترات الحيض.
ومن قال: حكمها في زمان النقاء حكمُ الطاهرات، استدلّ بأنها نقية حسّاً، طاهرةٌ قطعاًً، والنقاء مجاوزٌ لأزمنة الفترات في العادات، فثباتُ الحيض ولا حيضَ بعيدٌ.
التفريع على القولين:
599- إن قلنا: حكم النقاء حكمُ الحيض، فهذا يسمى ترك التلفيق، فإن رأت يوماًً وليلة دماًً ومثله نقاءً ثم مثله دماًً، ثم مثله نقاءً، ثم هكذا، حتى انقطع على الخمسةَ عشرَ، ولم يجاوز، فالكل حيضٌ.
ولو رأت يوماًً وليلةً دماًً وثلاثة عشر يوماًً نقاءً، ويوماًً وليلة دماًً ثم طهراً كاملاً، فهي حائض في الخمسةَ عشرَ يوماً، وإن كانت نقيةً في ثلاثة عشر يوماً.
ثم اختلف الأئمة في تفصيل مقدار ما تراه من الدماء: فقال بعضُهم: إنّما يكون النقاء الواقع بين الدَّمين حيضاً، إذا كان كلُّ واحدٍ منهما بالغاً أقلَّ الحيض، فإن نقصا أو نقص أحدهما عن الأقل، فلا يكون النقاء حيضاً، وهذا الوجه مزيَّفٌ.
وقال أبو بكر المحمودي: ينبغي أن يبلغ الدّمان إذا جمع أحدهما إلى الثاني أقل الحيض. مثل أن ترى اثنتي عشرة ساعةً دماً، ثم نقاءً إلى الخامس عشر إلا اثنتي عشرة ساعة. ثم ترى في هذه الساعات الباقية دماًً، فالدمان وما بينهما من النقاء حيضٌ.
وإن نقص مجموع الدمين عن يوم وليلة، فليس النقاء حيضاً، وما رأته من الدم دمُ فساد، لقصوره عن الأقل. ثم من مذهبه أن اليومَ والليلة لو انقطع على الخمسةَ عشرَ، وكان مجموعهما بالغاً أقل الحيض واقعاً في الخمسة عشرَ يوماًً، فالنقاء حيضٌ، ولا يشترط أن يكون كل دمين بينهما نقاء بالغين أقل الحيض، بل يعتبر ما قاله في جملة الدماء الواقعة في الخمسةَ عشرَ.
وقال أبو القاسم الأنماطي: لو رأت لحظةً دماً، ثم امتد النقاء إلى آخر الخامس عشر إلا لحظة، ثم رأت فيها دماًً، ثم امتدّ الطهرُ، فالخمسة عشر كلها حيض، وإن نقص ما رأته من الدماء عن الأقل. وهذا سرفٌ ومجاوزةُ حدّ. وأعدل الوجوه ما ذكره أبو بكر المحمودي.
600- ومن أهم ما يفرّع على هذا القول: أن المرأة إذا رأت دماًً ثم نقاءً، فبماذا تؤمر، على قول ترك التلفيق في الحال إلى أن يعود الدم أو لا يعود؟
قال أئمة المذهب: إن كان ما رأته من الدم أقلَّ من يومٍ وليلةٍ، فلا نأمرها بالاغتسال؛ فإن الدم إن لم يعد، فالذي انقطع دمُ فسادٍ، ولا غسل فيه. وإن فرض عودُه في الخمسةَ عشرةَ، فذلك النقاء حيضٌ في بعض الوجوه المتقدّمة، وليس على المرأة غسلٌ في استمرار الحيض.
فأما إذا كان ما رأته من الدم المتَّصل بالغاً أقل الحيض، فإذا انقطع، وجب الغُسل؛ فإنّ الذي رأته حيض، وقد انقطع ظاهراً، فإن قيل: ربما يعود الدم في الخمسةَ عشر، فنتبين على القول الذي نفرع عليه أنها اغتسلت في أثناء الحيض.
قلنا: الحكم ينبني على الانقطاع المحسوس، لا على توقُّع العودِ. وهذا متفق عليه في هذه الصورة. ثم ينبني على ذلك إثبات أحكام الطاهرات لها زمانَ النقاء، في الصوم والصلاة، وحلّ الوطء، وغيرها.
فإن عاد الدمُ، نتبين بالأَخَرَة وقوعَ ما قدمناه في الحيض، ثم لا يخفى حكمُها، وسبيل تدارك ما يُتدارك منها.
601- فلو عاد الدم، ثم انقطع على الترتيب الذي عهدناه، فهذا مما تخبط فيه كلامُ المصنفين في كتاب الحيض. وأنا أذكر فيه وجهَ السداد، وطرقَ الاحتمال.
فالذي وجب القطع به أن ما ينقطع في النوبة الأولى في الخمسةَ عشرَ لا يعدّ في حكم المتكرر، حتى يُبنى عليه الكلام المعروف في أن العادة تثبت بالمتكرر، وفي ثبوتها بالمرَّة الواحدة الخلاف. بل نقول: كما أمرناها بالغسل لما انقطع الدم، ثم أمرنا بتدارك ما مضى-كما تقدم- فإذا انقطع الدم ثانياً، نأمرها بالاغتسال، فقد لا يعود الدم.
ثم إن عاد في الخمسةَ عشرَ، فيتدارك كما تقدم.
وكذلك الانقطاع الثالث والرابع في نوبة واحدة؛ فإن الحكم بعَوْد الدم وبناء الأمر عليه بعيدٌ في النوبة الواحدة من الحيض، فإذا انقطع الدم على الخمسةَ عشرَ، وامتدّ طهرٌ كامل، ثم عاد الدم على سجيّة التقطع في الدور الثاني، وكذلك في الدور الثالث مثلاً، فهذا موضع تردّدِ الأصحاب.
فذهب ذاهبون إلى أنّ هذا يخرَّج الآن على الأصل الممهّد في أنّ العادة هل تثبت بالمرة الواحدة أم لا؟ فإن قلنا: لا تثبت، فالحكم في الدور الثاني كالحكم في الدور الأول. وإن حكمنا بأن العادة تثبت بالمرة الواحدة فقد تمهّد التقطع في الدور الأوّل، ونحن نفرع على ترك التلفيق، فالنقاء حيض، ولا يوجب الغسل، ولا تثبت أحكام الطهر بناءً على ما عهدناه أول مرّة، ثم من يسلك هذا المسلك، يقطع بأن الأمرَ في الدور الثالث يُخرّج متفقاً عليه؛ فإن التقطع قد ثبت مرتين، ولم يبن وجهٌ في الخلاف. فهذا مسلكٌ.
ومن أئمتنا من قال: لو تكرر التقطع مراراً كثيرة، فالحكم في الكرّة الأخيرة كالحكم في الكرة الأولى.
وهذا القائل يقول: ليس التقطع مما يثبت على اعتياب، ولا خلاف بين فرق الأصحاب أن الدمَ إذا انقطع مراراً في أدوارٍ، ثم استحيضت المرأةُ، وطبَّق الدمُ من غير تقطّعٍ، فلا نحكم على قول التلفيق بتقطيع الحيض في زمن الاستحاضة، حتى تلقط حيضاً من الخمسة عشر، كما سيأتي ذلك. ونحكم بتخلل دم الاستحاضة في أثناء الحيض، على قولنا بالتلفيق. فإذاً كل دورٍ في التقطع يقدّر كأنه ابتداء التقطع.
والسبب فيه أنه إذا انقطع الدم عيناً، فبناء الأمر على عَوْد الدم بعيدٌ. نعم، إن عاد، فاستدراك ما مضى على ما يقتضيه الشرع لا يبعد.
فهذا ما ثبت عندي من كلام الأصحاب.
602- وذكر شيخي أن الدم إذا انقطع في الدور الأول، فيجري فيه التردّد، حتى إذا انقطع أولاً، فليس إلا الأمر بالغُسل، ثم الاستدراك، كما مضى. فإذا انقطع ثانياً، فقد تكرر الآن الانقطاع، فيندرج بالثاني الانقطاعُ الأول في العدد؛ فنحكم بالتكرر.
وهذا بعيد، لم أره لغيره؛ فإن الحكم بالتكرر في نوبة واحدة محال، وقد ينقص الحيض ويقتصر على مقدار، فبناء الأمر على تقدير العود لا وجه له. نعم، إذا بان ذلك في نوبةٍ، ثم بدا مثلُه في نوبةٍ، فقد يتخيل ذلك.
ثم ما ذكره شيخي فيه إذا كانت لها عادة في مقدار الحيض، فكانت تحيض خمسة أيام متوالية، ثم جرى من التقطع ما وصفناه، فيحتمل ارتقابُ العَوْد إلى استيفاء ما كانت تراه، فأمّا المبتدأةُ إذا انقطع دمُها في أول نوبة، فلا يخطُر لمحصّل بناء الأمر على العود في النوبة الأولى أصلاًً.
603- وأنا الآن أجمع في التكرر والاتحاد في قواعد الحيض كلاماً يحوي المقصودَ. وأشير إلى موضع الخلاف والوفاق.
فأقول: ما يرجع إلى مقدار الحيض زيادةً ونقصاناً، فيجري فيه أن العادةَ هل تثبت بالمرة الواحدة أم لا؟، كما سبق تقريره، وهذا مع ملازمة الحيض أول الدّور، والحكم بالاستحاضة يثبت بدورٍ واحد، وجهاً واحداً؛ فإن الدم إذا طبَّق وزاد على خمسةَ عشرَ يوماًً، فقد أمرناها بالتربص إلى الخمسةَ عشرَ، ثم زاد الدم، فنردّها إلى العادة، وفي الدور الثاني لا نأمرها بالتربص، فإذاً الاستحاضةُ تثبت بدورٍ واحد. وكان من الممكن أن تؤمر بالتربص مرتين عند من لا يُثبت العادة بالمرة الواحدة، ولكنّ الأمرَ مجمع عليه، كما حكيناه. والسبب فيه أنا استيقنّا أنها مستحاضة في الدور الأول، والاستحاضة من العلل التي إذا وقعت، دامت وتمادَت، فيحصل لها بالمرّة الواحدة ظنٌّ غالب في استمرار الدم.
فأما زيادة الحيض ونقصانه، فعادات النسوة في ذلك تضطرب، ولا يُستبعد توقع الاختلاف فيه، فإن استظهر مستظهر بالتكرر، كان حسناً، وكان سببه ما ذكرناه: أن الحيض فضلة تنفضُها الطبيعة كسائر الفضلات، وقد تختلف الحالات، فتختلف لها أقدار الفضلات، ولكنا لا نتعدى ما حُدَّ لنا في الأكثر والأقل.
والاستحاضة دم عرق ينفطر، أو ينقطع، وهو مزمنٌ إذا وقع.
قال القفال: لو كانت امرأة تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فرأت خمستها، وانقطع الحيضُ عشر سنين مثلاً، ثم طبَّق الدم، فلا يجوز أن يقال: نردّها إلى مقدار الطهر عشر سنين، إذا فرعنا على الوجه الأصح، وهو أن العادة تثبت بالمرة الواحدة. فإذا لم يسغ هذا، فالسنة الواحدة في معنى عشر سنين فصاعداً، فما المنتهى المعتبر في ذلك؟
قال: راجعتُ في ذلك مشايخي، فلم يذكروا ضابطاً، ثم قال: والوجه عندي أن يقال: غايةُ طول الدور تسعون يوماً، الحيض منها ما يتفق، والباقي طهر. واعتبر في ذلك أنّ الشرع جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، فكانت أقربَ معتبر. فلو كانت تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين، فحاضت خمسةً، وطهرت خمسة وثمانين، ثم طبق الدم، فتجعل طهرها خمسةً وثمانين، ودورها تسعين. وإن حاضت خمسةً، وطهرت تسعين، فلا يعتبر هذا في الاستحاضة، ولكن نردها إلى الخمسة والعشرين التي كانت تطهر فيها قديماًً.
فإن قيل: هلاّ قلتم: نردُّها إلى خمسة وثمانين، ونطرح الزيادة؟ قلنا: إذا تناهى تباعدُ الحيض، فسبب الاحتباس علة أخرجت الطبيعةَ عن الاعتدال، وجميع أمد التباعد محمول على هذا، فلا نعتبره، ونرجع إلى العادة القديمة.
ولا مزيد على ما ذكره القفال.
ولكن لو تكرر طهرها سنة سنة مرتين أو مراراً، ففي ردّها إلى ما تكرر احتمالٌ، والظاهر عندي أنه لا تبالي به وإن تكرر. والله أعلم.
وأما مفارقة الدم أول الدور، فإن انضم إليه زيادةُ الطهر، فهو مما يُبنى على الخلاف في المرّة والمرتين.
وإن استأخر مدةً، ثم عاد قدرُ الطهر كما كان، فالنظر عند المحققين إلى المقدار.
وقد اختبط في ذلك المروزي، كما سبق.
وأما تقطّع الدم، فهل يُتلقى أمره من التكرر في نوبة أو نوبٍ؟، فيه من التفصيل ما ذكرته الآن. ولا خلاف أنه لو تكرر التقطع في مائة نوبة، ثم اطَّرد الدم واستُحيضت، فلا نلتفت إلى قول التلفيق-وإن كنا نرى القولَ بالتلفيق- حتى لو كنا على قول التلفيق نلقط خمسة أيام من خمسةَ عشرَ يوماًً، ثم طبق الدمُ، فنحيّضها خمسة وِلاءً من أول الدم المطبق، هكذا قال الأئمة. وفيه للاحتمال أدنى مجال.
فهذا مجموع ما يتفرق في أصول الحيض في هذا الفن جمعناه، لينْظر الناظر فيه مجموعاً.
604- ثم إذا كنا نجعل النقاء بين الدّمين حيضاً، فلا شك أنا نشترط وقوع الدمين في الخمسة عشر. فلو رأت يوماًً وليلة دماًً، وأربعة عشر نقاءً، ثم يوماًً وليلةً دماًً، فالدم الثاني استحاضة لوقوعه وراء زمان الإمكان، ثم يكون النقاء طهراً أيضاً؛ فإنه غيرُ محتوشٍ بدَمين هما حيض، وسنبيّن هذا في أحكام التلفيق في المستحاضات. إن شاء الله عز وجل.
فأما إذا فرَّعنا على التلفيق، وحكمنا بأن النقاء بين الدَّمين طهر، فإن رأت يوماًً وليلةً دماًً ومثلَه نقاء، ثم يوماًً وليلةً دماً، فالدمان حيضٌ. ولو كان مجموع الدماء في الخمسةَ عشرَ ينقص عن أقل الحيض، فالكل دم فسادٍ، لا شك فيه، فإنّا نُفرّع على أن النقاء طهرٌ. ومن اكتفى بلحظتين في الدم في الخمسةَ عشرَ على قول ترك التلفيق يعتمد أنّ النقاء حيض، فيضمه إلى الدم. وهذا لا يتصوّر في قول اللقط والتلفيق، على أنّ ذلك الوجه في قول ترك التلفيق ضعيفٌ جدّاً كما مضى.
فأمّا إذا كان مجموع الدماء في الخمسةَ عشرَ يبلغ أقلّ الحيض ولكن كل دمٍ في نفسه لا يبلغ أقلَّ الحيض. فالمذهب الصحيح أنها حيض؛ فإن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، ثم على قول التلفيق: ينقطع الطهر على الحيض، ولا يبعد أن ينقطع الحيض على الطهر أيضاً.
ومن أصحابنا من قال: الدم الناقص ليس بحيض؛ لأنه ينضم إلى قلّته انقطاعه عما قبله وبعده بالنقاء الذي يتخلّل. والدم ينقسم إلى ما هو حيض، وإلى ما ليس بحيض. فأما صورة النقاء، وهو عدم الدّم، فمهما تحقق، بَعُدَ معه الحكم بالحيض. والمذهب الأول.
فإن رأت يوماًً وليلةً دماًً وانقطع، والتفريع على التلفيق، فلا شك أنها تغتسل، وحكمها حكم الطاهرات. وإن رأت دماً ناقصاً عن الأقل، وانقطع، فإن لم نجعل ما رأت حيضاً، فلا غسل، ولكنها تتوضأ وحكمها حكم الطاهرات.
وإن فرعنا على المذهب الصحيح، وقلنا: هو حيضٌ إذا عاد في الخمسةَ عشرَ ما يُكمّله، فعلى هذا لا ندري أيعود أم لا، ولو لم يعد، لما وجب الغسل، فكيف الحكم؟
من أصحابنا من قال: لا نوجب الغُسلَ في الانقطاع الأول؛ فإنا لا ندري أنّ المنقطع حيضٌ أم لا، وإيجاب الغسل من غير ثَبَت يُخالف موضوع الطهارات.
ومنهم من قال: نوجب الغسل احتياطاً؛ فإنا أوجبنا الغسلَ على الناسية المستحاضة، لاحتمال انقطاع الحيض من غير قطعٍ، وهذا الاختلاف يقرب من القولين في أن الناسيةَ هل تؤمر بالاحتياط أم لا؟.
هذا ما أردنا في ذلك.
ولعل الأمر بالاغتسال يتجه؛ فإنّ ما رأته في زمان إمكان الحيض، ونفس الانقطاع لا يخرجه عن كونه حيضاً، حتى تخلو الخمسةَ عشرَ، عن تتمة يوم وليلة.
605- ومما يتم به التفريع أن الحيض لا يسيل سيلاناً في الغالب، بل يخرج دُفَعاً، والفترة بين الدفعتين حيضٌ قولاً واحداً، ولم يذكر الأصحاب في تمييز الفترة عن النقاء-الذي يقع في القولين- ضبطاً. ومنتهى المذكور فيه أن ما يُعتاد تخلله بين الدُّفع، فهو من الفترات الملحقة بالحيض. وما يزيد على المعتاد و يكون أكثر منه، فهو على القولين. ثم جميع النقاء في القولين لا شك فيه، قدر الفترة من أول النقاء الكثير لا يستثنى من القولين، ويلحق بالحيض، وهذا لا خفاء به. ولكن قد ينتفع بذكره المبتدىء.
606- وأنا أقول: أقرب مسلكٍ في التقريب الفاصل بين الفترة وبين النقاء الذي يلفّق على أحد القولين أن يقال: الحيض يجتمع في الرحم، ثم الرحم يقطّره شيئاً شيئاًً؛ فإنه ليس الرحم منتكساً في الخلقة، حتى يسيل ما فيه دُفعة واحدة، فالفترةُ ما بين ظهور دُفعة إلى أن تنتهي أخرى من الرحم إلى المنفذ، والنقاء الذي في القولين يزيد على ما ذكرناه، حتى كان الطبيعة في مدة النقاء تجمع دماًً آخر في الرحم، ثم يزجيه الرحم على سجية التقطير والدُّفع.
فهذا أقصى الإمكان في ذلك، وقد تم تمهيد المذهب في تقطع الدم من غير استحاضة، ومجاوزة الخمسةَ عشرَ.
ونحن الآن نبتدىء تفصيل القول في التقطع مع مجاوزة الأكثر وثبوت حكم الاستحاضة. ونرى أن نبتدىء بالمعتادة.