فصل: باب: تفريق الخُمس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: تفريق الخُمس:

7775- قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] قد قدمنا في صدر الكتاب أن الغنيمة مخموسة، وكذلك الفيء، ومقصود هذا الباب المعقود إيضاح مصارف خُمس الغنيمة وخُمس الفيء.
وقاعدة المذهب أنّ خمس الفيء وخمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم متساوية، سهم منها للمصالح العامة، وهو السهم الذي يُرصد للمصالح، وكان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما استأثر الله تعالى به صرف سهمه إلى المصالح.
وسهمٌ لذوي القُربى، وسهمٌ لليتامى، وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل.
وما ذكرناه تراجم، ونحن نذكر الآن الشرح والتفصيل.
7776- فأول ما نذكر أن الشيخ أبا علي حكى في الشرح قولاً غريباً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انقلب إلى رحمة الله تعالى ورضوانه، ارتفع سهمه، وعادت مصارف الخُمس إلى أربعة أسهم: أحدها: لذوي القربى.
والثاني: لليتامى، والثالث: لأبناء السبيل، والرابع- للمساكين. وهذا قول غريب لم أره إلا في طريق شيخنا أبي علي.
وذهب بعض العلماء إلى أن السهم الذي كان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مصروف إلى خليفة الزمان؛ فإنه وزرُ المسلمين، وهو الذي يقرب إلى القيام مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم تصح عندي نسبة هذا إلى أحد من أصحابنا.
وفي بعض الطرق صيغةٌ مختلّة بهذا المعنى؛ فإنّ صاحب الطريقة قال: ظاهر المذهب أن السهم الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصرف إلى خليفة الزمان، ثم ذكر مذهب السلف. وقوله ظاهر المذهب يشعر بخلافه، ولكنه إيهامٌ لا حاصل وراءه، فلا أصل لهذا الرمز، ولا للقول الغريب الذي حكاه الشيخ، ولا عوْد إليهما. وهذا قولنا في السهم الذي يعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7777- فأما سهم ذوي القربى، فإنه مصروف إلى بني هاشم، وبني المطلب.
ونعني الذي يكون من صلب بني هاشم وبني المطلب، وهم الذين ينتمون إلى هؤلاء بالآباء لا بالأمهات، فمن كانت أمه هاشمية ولم يكن أبوه هاشمياً، فليس من بني هاشم، وإنما الانتساب إلى الآباء وانتمائهم إلى الأجداد القديمة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلبة بني هاشم، وبنو المطلب يقعون منه موقع بني عبد شمس وبني نوفل. ثم خصص رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب، ولم يعط غيرهم، وقد قيل: إن عثمان بن عفان جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عبشمياً. فقال: يا رسول الله إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك منهم، ولكن قرابتنا وقرابة بني المطلب واحدة، وقد أعطيتهم وحرمتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، وشبك بين أصابعه». فأبان أن سبب اختصاصهم دون الذين هم في درجتهم من القرابة، ما كان منهم من موافقة بني هاشم في الجاهلية والإسلام وهؤلاء هم الذين حرموا الصدقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم سهمهم من خمس الغنيمة والفيء، ويقول: "إنّ الله قد أغناكم عن أوساخ أموال الناس بما أعطاكم".
ثم أجمع أئمتنا في الطرق أنهم يستحقون سهمهم، كانوا أغنياء أم فقراء، وهذا كما أن استحقاق الورثة للميراث لا يتخصص بالفقراء المحاويج، بل يستوي في استحقاقه الغني والمحتاج، كذلك هذا.
وكذلك أجمع الأصحاب على أن سهمهم مصروف إليهم على التفاوت بين الذكر والأنثى، فللذكر سهمان وللأنثى سهم، وهذا محتوم؛ فإن سبيله سبيل الميراث، وهذا السهم مصروف إليهم صرف التركة أو صرف باقيها إلى الذكور والإناث من العصبة. ولا يجوز تفضيل البعض إلا من جهة الذكورة والأنوثة كما نبهنا عليه، فأما التفضيل بسائر الفضائل والمناقب، فلا سبيل إليه. فإن قيل: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل، وفاضل بينهم. قلنا: كان السبب أن بعضهم كان ذا أولاد بخلاف البعض، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه ونصيب أولاده.
هذا قولنا في سهم ذوي القربى، وإن كان ذلك يقتضي التوريث بالعصوبة، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي سهم ذوي القربى الأجداد والأحفاد، فلا مزيد على ما صح النقل فيه.
7778- فأما اليتامى، فهم يتامى المسلمين الذين لا آباء لهم، وأما المستحقون ما كانوا أطفالاً، إذ لا يُتْمَ بعد البلوغ. ولا نفضّل في هذا الصنف ذكراً على أنثى.
واختلف أصحابنا في أنّا هل نشترط فقرهم؟ فمنهم من لم يشترط، وجعل الأيتام من المسلمين مستحقين لهذا السهم من الخمس، وإن كانوا أغنياء. ومن أئمتنا من قال: إنهم يستحقون إذا احتاجوا، ولا يستخقون إذا استغنَوْا. وهذا القائل يزعم أن اليتم يشعر بعدم الكافل، وإنما لسهم هذا لحاجة ناجزة.
ثم الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب اشتراك كافة يتامى المسلمين في الاستحقاق. وانفرد القفال بأن قال: المراد يتامى المرتزقة دون غيرهم، وهذا.... ولم يُساعَد عليه.
7779- وأما المساكين، فلا حاجة إلى وصفهم، وهم المساكين المذكورون في آية الصدقات، كما يأتي الكلام فيها، إن شاء الله تعالى.
7780- وأما أبناء السبيل، فهم المسافرون، وسيأتي وصفهم في الصدقات، إن شاء الله تعالى. وقد ذهب جماهير الأصحاب إلى أنه تُشترط فيهم الحاجة.
وحكى بعضهم وجهاً عن بعض الأصحاب أنا نصرف هذا السهم إلى كل من يَهُمّ بسفر، وإن لم تكن حاجة ماسة. وهذا غريب جداً لا تعويل عليه.
والمعتبر عندنا في الباب أن كل من سمي في البابين، فلا يختلف وصفه فيهما، ومن جملة ذلك أبناء السبيل.
فأما الذين لا ذكر لهم في آية الصدقات، فأصحاب القرابة منهم، ولا تشترط حاجتهم. والمعتمد في ذلك الأخبار؛ فإنه صح في الأخبار "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي سهم القرابة للأغنياء كما كان يعطي الفقراء منهم". فأما اليتامى، فلا ذكر لهم في الصدقات، وليس معنا فيهم ثبت من جهة الخبر، واسمهم مشير إلى الحاجة.
7781- ومما يتعلق بمقصود الباب أن الذي دل عليه النص وصار إليه جمهور الأصحاب أنه يجب على الإمام أن يوصّل كل سهم من هذه السهام إلى جميع المستحقين في خِطة الإسلام، لا يغادر منهم أحداً، وذلك مما يتمكن الإمام منه بأن ينصب في كل قُطر أميناً موثوقاً ذا خبرة ويأمره بضبط أعداد المستحقين، واتخاذ جرائد وسجلات تحوي أنساب ذوي القربى، ويضبط اليتامى وغيرَهم من مستحقي السهام. وإذا صدَرَ أمورُ الخِطة عن رأي واحد واتّسقت الطاعة وأمكنت الاستطاعة، فهذا هيّن.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أن الإمام لا يلزمه ذلك، ولكنه يأمر حتى يُصرف ما يتّفق من خمس الغنيمة في كل قطر إلى المستحقين من أهل ذلك القطر، حتى لا يحتاج إلى جمع الجميع نقلاً، ثم يلزمه تفريقها بعد جمعها. وهذا الذي ذكروه فيه إبهام.
ونحن نقول إن عنى أبو إسحاق بهذا أن يكل الإمام أهل كل قطر إلى ما يتّفق في ذلك القطر من فيء أو مغنم حتى إن لم يكن، فلا شيء لهم-وربما تمرّ السنون على أهل كل قطر ولا يُصيبون فيه فيئاً ولا مغنماً، ومساق هذا يقتضي لا محالة أن يُحرم قومٌ ويعطَى قوم- فإن أراد هذا، فهو مخالفُ لما عليه معظم الأصحاب والنصِّ.
وإن أراد بذلك أن للإمام ألا ينقل الأخماس من الأقطار ويُقرَّ في كل قطر المقدارَ الذي يليق بأهل ذلك القطر، فهذا قريب لا ينبغي أن يكون فيه خلاف، على ما شرط أنه إن خلا قطرٌ، لم يُحرم أهله، ويبعث إليهم حظهم من حيث يستصوب.
7782- فإن قيل: أليس من يؤدي الزكاة لو أراد أن يقتصر من كل صنف على ثلاثة، كان له ذلك؟ قلنا: نعم، ولكن آحاد الناس لو تكفلوا فضّ صدقاتهم على المستحقين في خِطة الإسلام، وما في أيديهم يقلّ على سبيل الانبساط على كافة المستحقين ويتعذر عليهم الإمكان لو أرادوه، ولا يقبل كلُّ مقدار بسطاً، فحسمنا هذا الباب.
أما الإمام، فإنه ينظر لأهل الإسلام نظر الشخص الواحد لذويه المعدودين، حتى لو ضاع واحدٌ، تداعى ذلك إلى انتسابه إلى التقصير في الضبط، فإذا كان يجب عليه أن يرعى آحادهم، فسبيل رعايتهم أن يبسط كل سهم على جميع مستحقيه، إذا كان يقبل الانبساط عليهم، ولو جُمع الزكوات عند الإمام، تعيّن عليه أن يرعى في الزكاة ما يرعاه في خمس الفيء والغنيمة.
ولكن يعترض في الزكاة قول منع النقل؛ فإن كان الإمام يرى النقل، فإنه يلتزم في جميع الزكوات إيصالها إلى المستحقين في الخِطة.
فإن قال قائل: هلا خُرّج في خمس الفيء والغنيمة قولٌ في منع النقل، كما خرج في الصدقات؟ قلنا: لا يمتنع أن يخرج، ولم يتعرض لذلك الأصحاب بالنفي والإثبات.
فإن قيل: أليس حمل الشافعي قول معاذ لأهل اليمن-"إئتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين والأنصار بالمدينة"- على الفيء؟ وهذا دليل من نصه على أن الفيء يُنقل. قلنا: لا يمتنع حمله على أربعة أخماس الفيء، فإنها مُرصدة للمرتزقة والجند المعقود بالمدينة، وإنما كلامنا في مصارف الخمس.
وهذا منتهى المراد في ذلك.
7783- ومن تمامه أنا إن أوجبنا البسط على الكافة، فإن لم يكن الفقر مشروطاً فيهم، فيجب الفضّ على كافتهم بحيث يستوي الذكور في أقساطهم، وتستوي الإناث في حصصهم، وقد تقدم أن الأصل في الباب على تضعيف حق الذكور كما تقدم.
وإن شرطنا الحاجة في مستحقي بعض السهام، فلا يمكن التسوية بينهم، ولا يتجاوز سداد الحاجة، ويجعل الحاجات معتبره ومرجوعَه.
وإن كان المقدار الحاصل بحيث لا تنتهي حصة واحد منهم إلى مقدار سدّ الحاجة، أفيسوي الإمام أم يعطي على قدر الحاجات؟ فإن الأشخاص وإن كانوا هم المستحقين، فالجهة التي اقتضت الصرفَ الحاجةُ، فكان للإمام أن يرعى الكثرة في أشخاصٍ بالإضافة إلى من قلّت حاجته.
وإن وقع بيد الإمام مقدارٌ لو بسطه على أهل الخِطة لما تُصوِّر أن ينبسط لقلّته وكثرةِ المستحقين، فإذا تُصوّر الأمر كذلك، فالأمر مفوّض إلى اجتهاده، ثم سبيل اجتهاده أن يقدِّم بما معه الأحوج فالأحوج، وإن كانت الحاجة غير مرعية في مستحقي ذلك السهم. لا وجه غير ذلك؛ فإن التأخير على الجملة ممتنع والفضّ على الكافة غير ممكن، والتحكم لا سبيل إليه، فلا وجه إلا ما ذكرناه.
7784- ومما ذكره الأئمة في هذا الباب أنه إذا جاء إلى الإمام إنسان، وادعى أنه من ذوي القربى، لم يعطه بدعواه حتى يثبته، فإن كان نسبه مستفيضاً، اكتفي به، وإلا ألزمه إثباته بالبينة، إن أراد طلبَ حقه من ذلك السهم.
وكذلك لو ذكر أنه يتيم، فلا سبيل إلى اعتماد قوله؛ فإن اليتيم لابد وأن يكون طفلاً، وقول الطفل غير مقبول، فعلى الوالي أن يبحث عن ذلك بطريق البحث عنه، ثم إذا استبان صغره، فلابد وأن يتحقق عنده موت أبيه.
فأما من جاء يطلب من سهم المساكين، وذكر أنه مسكين، فلا نكلفه إقامة البينة على مسكنته، وإن كانت البينة تقام على الإعسار، ولكن نكتفي بقوله، وسيأتي شرح ذلك وأنه هل يحلّف إذا اتُهم- في موضعه من قسم الصدقات، إن شاء الله عز وجل.

.باب: تفريق أربعة أخماس الفيء:

قال: "وينبغي للإمام أن يُحصي جميع من في البلدان... إلى آخره".
7785- مقصود الباب الكلام في أربعة أخماس الفيء، وقد قدمنا في أول الكتاب اختلاف الأقوال في أربعة أخماس الفيء، وذكرنا أن القول الأشهر أنها مصروفة إلى المرتزقة، وهم الجند المرتبون المشمرون للإجابة مهما دعوا، وللجهاد مهما ندبوا، وهم شوكة الإسلام ونجدة الملّة، ولقبهم الخاص بين الفقهاء المرتزقة، والمراد أنهم بنَوْا أمرهم على الترصد للذب عن دين الله تعالى، وطلب الرزق من مال الله.
والمطوِّعة هم الذين ينهضون للغزو من غير أن يكونوا مدوّنين عند السلطان.
7786- وأول ما نذكره في صدر الباب أن الإمام إذا كان يصرف إلى المرتزقة حقوقهم من الفيء، فينبغي أن يعرف أقدار حاجاتهم، ويضبط عيال كل واحد منهم، والذين يتصلون به ممن يمونهم، حتى إذا ثبت عنده مبالغ الحاجات، فيعطي كل واحد منهم على قدر حاجته وعياله، ثم يجرّد نظره في آخر كل نوبة؛ فإن الأحوال في قدر الكفايات لا تجري على نسق واحد، وكذلك تختلف المبالغ والأقدار باختلاف الأسعار، فليكن الجميع على ذُكْره لتكون قسمته على بصيرة وثَبت.
ومما يرعاه منهم حاجاتهم في الأسلحة والمركوبات.
7787- ثم إذا فَضَّ عليهم من الفيء ما يسدّ حاجتهم، فإن لم يفضل شيء، فلا كلام، وإن فضل شيء فما يصنع بذلك الفاضل؟ فعلى قولين مبنيين على أن أربعة أخماس الفيء ملك المرتزقة، أم ليس لهم منه إلا الكفاية؟ وفيه قولان: فإن قلنا: ليس لهم إلا الكفاية، فالفضل يصرف إلى سائر وجوه المصالح، فإنا في هذا القول لا نملِّكهم شيئاً، وإنما نكفيهم ليتفرغوا إلى الجهاد والقتال.
والقول الثاني- أن أربعة أخماس الفيء ملكُ المرتزقة، فعلى هذا إن فضل عن حاجاتهم شيء، فهو مردود عليهم.
وحاصل القول في هذا أنا وإن رأينا كفاية المرتزقة من المصالح، فإذا كُفوا المؤن؛ فقد كفى وتم الغرضُ.
وهذا القول يوجّه بأن المرتزقة لا اختصاص لهم بسببٍ يوجب لهم الملك، بخلاف الغانمين؛ فإنهم اختصوا بإثبات أيديهم على المغانم، فكفاية المرتزقة من أهم المصالح، فإذا كفوا المؤن، فقد كفى وتمّ.
فأما تمليكهم من غير صدور سببٍ منهم يقتضي الملك، فلا وجه له، فإذا ملكناهم كان السبب أنهم النجدة والعماد، وعليهم الاعتماد، ولو شغرت البلاد عن أهل الاستعداد، لهجم الكفار على الثغور، وكبسوا على المساكن والدور، فما يُظفر به من غير قتالٍ بسبب رعبٍ، فينبغي أن يستبدّ به الذين منهم الرعب، فعلى هذا تصرف الأربعة الأخماس إليهم ملكاً.
7788- وعلى المنتهي إلى هذا الموضع أن يصرف الفكرَ إلى أمرين:
أحدهما: أن المغانم تقسّم على رؤوس الرجّالة والفرسان، ولا ينظر إلى المؤن التي يلتزمها كل شخص، كما ينظر إلى الكفاية في المرتزقة، والسبب فيه أن المقتضي الظاهر في الملك الاستيلاءُ وإثباتُ اليد، وهذا مما يُرجع فيه إلى القوّة الناجزة، ثم للشرع توقيفٌ في الفرسان والرَّجالة، وهو مبني على التمكن الناجز والأمر الحاضر، وفي هذا مقنع عن النظر إلى المؤن ولكن سبب الملك في المرتزقة الإرعاب، وذلك يخرج عن الضبط، فالتفت الشرع فيه إلى المؤن، التي يلتزمها المرتصد للقتال، والبدار إلى هائعة الواقعة؛ إذ ليس ذلك استيلاء محققاً فيرعى.
هذا أحد ما يجب الاعتناء به.
ثم المؤن التي ذكرناها ينبغي ألا تنتهي إلى حدّ السرف واشتغال المرء بما لا يعنيه، وهذا بمثابة كفايتنا مؤن العبيد، فإن كان فيهم غناء، فليبلغوا ما بلغوا، وإن كانوا زمنى ويقوم بهم مقدارٌ قريب-فقد يألف عبداً قدمت خدمته عنده- فلا نَضَّايق بهذا القدر؛ فإن ذلك خروج عن قانون الباب، فأما إذا كان يعتمد جمعَ الزمنى، فلا يجاب إلى كفايتهم من الفيء. هذا أحد الأمرين اللذين رأيت الاعتناء بهما.
والثاني: أن المرتزق لو كان ذا غنىً وثروة، فلا ينظر إلى ماله، ولا نقول: هو مستقلٌّ بماله، فلا نكفيه، ولكنا نكفيه من الفيء، ونترك له ماله عتيداً، لنكون أقمنا مؤنته من مال الله تعالى، فإذ ذاك يترصد لقتال أعداء الله تعالى.
ثم إذا قمنا بالمؤن وكفايتها، وفضل فاضل من المؤن-والتفريع على قول الملك- فإنا نقسم الفاضل على الرؤوس بالسوية، فإن المؤن قد زالت بالكلية، فإنها غير معتبرة، والفيء مضاف إليهم ملكاً، ولا فرق.
فإن قيل: هلا قسمتم الفاضل على نسبة الحاجات؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك وقد زالت الحاجات.
فإن قيل: هلا فضّلتم في الفاضل الفارسَ من المرتزقة على الراجل كصنيعكم في الغنيمة؟ قلنا: هذا التفاضل قد نقدّر الفراغ منه في مقام الكفايات، إذا قمنا بسد الحاجات.
فإن قيل: هلا فضلتم البعض على البعض بالمناقب والمآثر، والقرب من شجرة النبوة، والعلم والتقوى وغيرها من الفضائل؟ قلنا: هذا رأي أبي بكر: ترك التفضيل، واتبع الشافعيُّ رأي أبي بكر في هذه المسألة، وذكر مفاوضة جرت بين الخليفتين، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: "أتجعل من شهد بدراً وبيعة الرضوان واختص بالسوابق كمن يدخل في الإسلام آنفاً، قال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجرهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ".
وقد قال صاحب التقريب: إن اتسع المال، فرأى الإمام أن ينهج منهاج عمر، كان ذلك محتملاً، فذكر قولاً مخرجاً عند اتساع المال، فلعله أراد بذلك أن يفاضل الإمام، ويكون في المال من التوسعة ما يرد به نُهمةَ المفضول، ومال غيره إلى قولٍ مطلق غير مقيد باتساع المال.
وكان شيخي أبو محمد يقول: التصرف في ذلك قريبٌ من التصرف في حد الشرب؛ فإنا قد نفوض الرأي إلى الإمام كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
هذا والمذهب المعتمد ترك التفضيل، وهو الذي نص عليه الشافعي وبتَّ به جوابَه.
وكل ما ذكرناه، والتفريع على أن أربعة أخماس الفيء ملكٌ للمرتزقة.
7789- ومما نفرعه أن نص الشافعي تردد في أنه هل يجب تمليكُ ذراري المرتزقة أم لا يجب ذلك فيهم، بل يصرف إلى المرتزقة مقدار كفايتهم، ويفوض الأمر في الصرف إلى المرتزقة ولا نعترض عليهم؟ فذكر الأئمة قولين:
أحدهما: أنه إنما يملّكهم كما تملك المقاتلة.
والثاني: لا يملكهم؛ فإن هذا حق المرتزقة، وهم رجال القتال المستجمعون لصفات الغانمين الذين يستحقون السهام. والذراري ليسوا من المرتزقة، فلا معنى لتملكهم ما أُعد للمرتزقة.
فإن قلنا: لا يملِّكُ الذراري، فلا كلام.
وإن حكمنا بأنهم يملّكون، فقد اختلف أصحابنا في تمليك بنات المرتزقة، فمنهم من أوجب ذلك طرداً للباب، ومنهم من خصص إيجاب التمليك بالغلمان الذين يتوقع أن يبلغوا رجالاً للقتال كآبائهم. ثم الذين أوجبوا تمليك النساء اختلفوا في زوجات المرتزقة، وليس من بنات المرتزقة، فمال الأكثرون إلى أنه لا يجب تمليكهن.
وما ذكرناه لا يجرّ خلافاً في القَدْر المبذول، فإن الكل يدور على مقدار الكفاية، وفي كيفية صرف مقدار الكفاية التردد الذي ذكرناه.
فالذي هو التحقيق تمليك المرتزقة قدر كفايتهم ويفوّض الأمر إليهم.
ومنهم من رأى إيجاب تمليك كل واحد من المتَّصلين القدر لأجله في الكفاية.
هذا بيان صوره.
7790- ومما يتعلق بذلك أن الرجل من المرتزقة إذا مات وخلّف أولادً، فهل يجب أن يصرف إليهم من الأرزاق، وإن لم يكونوا من أهل القتال؟ فعلى قولين أيضاً:
أحدهما: لا يجب؛ لأنهم ليسوا من المقاتلة، وليسوا تحت كفاية مقاتل.
والثاني: يجب؛ فإن رجال المرتزقة إذا علموا أن ذراريهم لا يرزقون بعدهم لا يشمّرون للقتال، ولا يعرّضون أنفسهم ودماءهم للحتوف وظُبات السيوف، وهم يعلمون أن صبيانهم بعدهم يضيعون وروي: "أن عمر كان لا يفرض لأولاد المرتزقة، ولا يفرض إلا للفطيم، فخرج ليلة يطوف، فمرّ بباب دار، فإذا بامرأة ولها صبيٌّ يبكي، وهي تقول: حكم الله بيني وبين عمر، فوقف بالباب، وقال: مالَكِ ولعمر، فقالت: إن عمر لا يفرض إلا لفطيم، وقد فطمته قبل أوانه، ففرض عمر بعد ذلك للصغير فطيماً كان أو رضيعاً".
ثم إذا رأينا الفوض للصبي، فهو على قدر كفايته، وكلما يَفَع وترعرع ازدادت مؤنته، فيزيد الإمام في الفوض له.
ثم إذا قام بأقدار الحاجات وآل الأمر إلى قسمة الفاضل على قول التمليك، فالذي رأيته من فحوى كلام الأصحاب أنه يختص بالفاضل رجالُ القتال والذراري يكفيهم مقدار الكفاية، وإن قلنا إنهم يملكون. هذا ما رأيته، وفيه احتمال، والعلم عند الله تعالى.
7791- ومما يليق بقاعدة الباب أن توظيف الأعطية إلى رأي الإمام، فإن رأى أن يجعلها مسانهة، فعل، وإن رأى أن يجعلها مشاهرة، فلا معترض.
والذي كان عليه ديوان عمر رضي الله عنه المسانهة. وذلك أنّ مجالب الأموالِ المغانمُ والفيءُ. وذلك في الغالب لا يتكرر في السنة.
7792- فإن جُمع المال وتحصّل في قبضة الوالي وانقضت المدة التي ضُربت للأرزاق، فمات بعض المرتزقة بعد نهاية المدة وجباية الخمس، فحصة ذلك الذي مات تكون ملكاً له محقَّقاً مصروفاً إلى ورثته، وإذا كنا نقيم الوارث مقام الموروث الغانم إذا مات قبل قسمة الغنائم، مع العلم بضعف الملك فيها قبل القسمة، فالتوريث بعد انتهاء المدة وحصول المال ليس بعيداً.
7793- وفي كلام الأصحاب تردُّدٌ في المرتزق لو أعرض عن مقدار رزقه بعد انقراض الزمان وحصول المال، فهل يسقط حطه بالإعراض، أم الملك في حصته لازمٌ له كالملك الحاصل للورثة في حصصهم؟ فالمسألة محتملة، والأظهر عندنا أن الملك لا يقرّ؛ فإن الترتيب في ديوان المرتزقة ظاهر الإشعار بقصد تحصيل الرزق.
والجهاد لا يحمل إلا على قصد إعلاء كلمة الله والذب عن الملة، فلا يقع المغنم فيه مقصوداً.
هذا إذا مات المرتزق بعد المدة وجباية المال.
فأما إذا جمع المال، فمات بعض المرتزقة في أثناء المدة المضروبة، فهل نقول: إنه يستحق جزءاً من حصته على قدر المدة؟ ذكر الأئمة قولين، وقربهما بعضهم من القولين في الجزية إذا مات الذمي في خلال السنة؛ فإن للشافعي قولين في أنه هل يجب مقدار من الجزية على قدر ما مضى من السنة؟ ووجه الشبه عند هذا القائل من تشبيه المدة بالمدة غير مرضي عند المحققين؛ من جهة أن مدة الجزية لا تنقص عن السنة أصلاً، وهذا توقيف شرعي متفق عليه، ومدة العطاء لا ضرب لها، ولو أراد صاحب الأمر أن يجعلها ستة أشهر أو أقل، جاز ولا معترض، وإذا كانت المدة تنقص وتنقسم ابتداءً، ولا يتصور مثل ذلك في الجزية، استبان أن وجه البناء غير سديد.
والصواب توجيه القولين المذكورين في المرتزق إذا مات من غير بناء، فمن قال: إنه يستحق مقداراً من رزقه، ويصرف إلى ورثته بنسبة المدة والمال المستحق، فهذه الإجارةُ والأجرة، ثم إذا انقضى شيء من مدة الإجارة، ففُرض انفساخُ الإجارة في بقية المدة بانهدام الدار، فالأجرة تتقسط ثبوتاً وسقوطاً.
ومن قال: لا يستحق المرتزق شيئاً إذا مات في خلال المدة شبّه الترصد بالارتزاق والترتيب في مرتبة الجند المعقود بالجعالة؛ فإن ما يفرض وقوعه مما يبعث فيه الجند لا ينضبط ولا يتطرق إليه الإعلام المرعي في الإجارة، فتشبيه حالة المرتزق بالجعالة أولى. ثم حكمها ألاّ يُستحق ببعض العمل فيها شيء من الجعل المضروب.
هذا بيان توجيه القولين من.....
فصل:
ذكر الشافعي رواية مالك بن أوس بن الحَدَثان عن عمر أنه قال: "ما من أحد منكم إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم أُعطِيَه أو مُنِعه". ثم ذكر الشافعي وجوهاً في هذا الأمر، منها أنه قال: لعله خاطب أهل الفيء والصدقة وقال ما قال وهو منتظم في حقوقهم.
ويجوز أن يقال: إنه ما من أحد من المسلمين إلا وله في أربعة أخماس الفيء انتفاع؛ فإن المرتزقة إذا رُتّبوا فيها، وكُفوا المؤن، وتشمروا لسدّ الثغور وحماية البيضة، فقد انتفع المسلمون قاطبةً بذلك، وكذلك إذا بنينا القناطر، والرباطات، والمساجد، فينتفع بها الناس كافة في أحوالهم، وكأنه قال ما من أحد إلا وقد حُطّ عنه بهذا المال فرضُ كفاية، فإنه كما لا يجوز تضييع الفقراء لا يجوز تعطيل الثغور، فإذا صرف هذا المال إلى سد الثغور، رجع نفعه إلى المسلمين كافة. وهذا معنى الحديث، والأمر في ذلك قريب.
فصل:
قال: "ولم يختلف أحد لقيتُه في أن ليس للمماليك في العطاء حق، ولا للأعراب... إلى آخره".
7794- وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في عبيد المرتزقة، وهذا أوان استقصائه، فنقول: إذا اتخذ الرجل منهم عبيداً زمنى لا يتأتى منهم الخدمة، ولا القتال، فلا نلتزم بنفقاتهم، ولو كان الرجل مخدوماً فاتخذ عبداً مملوكاً لم ليخدمه، فإنا نكفيه مؤنة ذلك العبد من مال الفيء، إذ ذلك من الحاجة، وإن زاد على عبدٍ لخدمته، فقد قال الأصحاب: لا حق له في الزائد، ويقال للسيد: أعطيناك كفايتك وكفاية عيالك، وكفاية العبد الذي يخدمك، وليس لك من جهة الكفاية غيرُ هذه، وهؤلاء العبيد إن لم يمكنك أن تنفق عليهم، فبعهم. هذا ما ذكر الأصحاب.
وقد قدمنا فيما سبق أنه إذا أعد غلماناً للقتال، وكانوا صالحين، فيجب القيام بكفايتهم من مال الفيء، وليس في ظاهر النص في هذا اللفظ تعرُّضٌ له؛ فإنه نص على أنا لا لانلتزم أكثر من مؤنة عبدٍ لخدمته.
واختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أن عبيد الحرب يجب القيام بمؤنهم، كما تقدم. والذي تعرض له الشافعي عبيد التزيّن والتجمل إذا كان لا يتأتى منهم القتال.
وهذا هو الصحيح.
ومنهم من قال: ليس للرجل المرتزق أن يتخذ عبداً للقتال، ولكن للإمام إن رأى ذلك ابتداءً اقترح على المرتزق أن يفعل هذا.
وإن رأى أن يقيم مقام العبيد أحراراً أصحاب نجدة يترتبون في الديوان، فعل من ذلك ما استقر رأيه عليه. وفي المسألة احتمال. وظاهر النص أنا لا نكفي من الفيء إلا خادماً واحداً.
وأما إن زاد المرتزق على زوجة واحدة، فظاهر النص أنا نكفي مؤن الزوجات، وإن بلغن أربعاً، ومن أصحابنا من سلك بذلك مسلك المضايقة، ولم يذكر القيام بأكثر من مؤنة زوجة واحدة.
7795- ثم قال الشافعي: "وعليهم أن يغزوا إذا أغزوا، ويرى الإمام في إغزائهم رأيه... إلى آخره".
وهذا بكتاب السير أليق، ولكنه ذكره هاهنا، فنشير إليه، ثم نعود إلى استقصائه في كتاب السير، إن شاء الله تعالى.
فنقول: حق على المرتزقة أن يتبعوا رأي الإمام وأمرَه، وإذا ندبهم إلى الجهاد، لم يتثبطوا ولم يعارضوا رأي الإمام، بل طاروا إلى الجهة التي يعيّنها. وهذا فائدة إعدادهم واستعدادهم، فلا يكون لهم مشاركة في الرأي، ويكون إلى التأني.
ولو أراد الإمام ندبهم، فلا شك أنه يُغزي كل طائفة إلى الصوب الذي يليهم، ويكون قد رتب في كل قطر أقواماً يكتفون به.
وهذا الفن يحتاج إلى فصل ثانٍ، وسيأتي مبيناً في كتاب السير، إن شاء الله تعالى.
ولو أراد الإمام أن يندب طائفة من المطوّعة، فإن لم تحدث حالة يتعين القتال لها، فلا ينبغي للإمام أن يجزم أمره في ذلك؛ فإن المطّوعة ليس الجندَ المرتبين، والجهادُ في حقهم من فروض الكفايات، فلو جزم الإمام أمره من غير حادثة تقتضيه، لكان ملحقاً فرضَ الكفاية بمراتب فرائض الأعيان، وهذا لا سبيل إليه؛ فإن فعل الإمام، فهل يتعين امتثال أمره، وارتسام رسمه؛ بذلاً للطاعة على حسب الاستطاعة؟
وفيه اختلاف عظيم الوقع في حكم الإمامة، ونحن بعون الله نذكر من هذا طرفاً صالحاً في كتاب السير، إن شاء الله تعالى، عند ذكرنا المحالّ التي يتعين فيها الجهاد، والمواضع التي لا يتعين فيها الجهاد، فعند ذلك نذكر تأصيل هذا الفصل وتفصيله، إن شاء الله تعالى.
7796- ثم قال الشافعي: "ولا يعطى مجاهد من الفيء... إلى آخره".
أراد بالمجاهدين الغزاة المطّوعة الذين لم يثبتوا أسماءهم في الديوان المشتمل على العسكر المعقود والغرض من ذلك أن أربعة أخماس الفيء مقصورة على المرتزقة المترتبين؛ إذا جعلناها ملكاً لهم ورددنا الفاضل من الكفاية عليهم.
وإن قضينا بأنهم لا يملكون الأربعة الأخماس، ولكنها مال مصلحة، ونحن نبدأ بهم نكفيهم، فعلى هذا لو أراد الإمام أن يصرف الفاضل من كفايتهم-الذي يجوز له صرفه إلى بناء القناطر والمساجد والرباطات- إلى طائفة من المطّوعة، فلا معترض على صاحب الأمر في ذلك؛ فإن للنظر في مال المصالح متسعاً رحباً، وهذا بيّن، ولكن الأصل أن سهم الصدقات يصرف إلى المطّوعة، وهو المعني بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّه} [التوبة: 60] فإذا لم يحصل ذلك السهم من الصدقات، فإنا نصرفه إليهم على الشرط الذي سنذكره في كتاب قَسْم الصدقات، إن شاء الله تعالى.
وإن اتفق ذلك السهم ووضعه في أهله واقتضى الرأي مزيداً، فلا معترض على رأي الإمام كما ذكرناه.
ولو أراد الإمام أن يصرف سهم سبيل الله من الصدقات إلى المرتزقة، لم يكن له ذلك إذا كان في مال الفيء متسع. فإن لم يكن في يده من مال الفيء شيء، وكان المرتزقة مستظهرين بأموالهم، ولم يكونوا على الصفات التي نشترطها في استحقاق سهم سبيل الله من الصدقات، فلا يجوز صرف ذلك إليهم.
فإن كانوا غير مستظهرين ولو لم نكفهم، لضاعوا، فإذا رأى الإمام والحالة هذه أن يصرف سهم سبيل الله من الصدقات إليهم، ورأى انتهاضهم وهم المعدّون المستعدون أقرب من انتهاض المطوعة، فلا معترض على الإمام في ذلك.
وهذا الطرف الآخر سيكون لنا إليه عودة، إن شاء الله تعالى- في قسم الصدقات، وهذا التنبيه الآن كافٍ.
فصل:
7797- ذكر الشافعي في أثناء كلامه أن ما مع الإمام من مال الفيء إذا فضل عن كفاية المرتزقة، فهو مردود عليهم، موضوع فيهم، إذا فرّعنا على أنه ملكهم، وإن لم نره ملكاً لهم، فأقرب وجوه المصالح صرف ذلك الفاضل إلى عُدد القتال قصداً ودفعاً، وأولاها أمر الثغور والحصون، وإعداد الكُراع والسلاح، ومن وجوه المصالح أرزاق الحكام والولاة وأمر الأحزاب وهم الشُّرَط، ثم ينبثُّ النظر إلى القائمين بإظهار شعار الإسلام، وهذا مما نبسط القول فيه، ونحن نأتي به ونستقصيه في كتاب السير، إن شاء الله تعالى.
وقدر الغرض منه الآن أن المشهور من مذهب الشافعي أن الإمام لا يبقي في بيت المال شيئاً من مال وجوه المصالح، ما وجد مصرفاً لها مصطرفاً فيها، فإن لم يجد، ابتدأ في ابتناء رباطات ومساجد على حسب الرأي فيها، ولا يتصور انحسام هذه الجهات من الرأي، وتأسى الشافعي في ذلك بسيرة الشيخين؛ فإنهما ما كانا يدخران مال سنةٍ، بل كانا يصرفان مال كل سنة إلى مصارفه ويشرفون إلى ما سيكون في السنة القابلة من الفتوح، وأخماس الغنائم والفيء.
وهذا وإن كان أشعر به ظاهر النص، فالذي ذهب إليه المحققون العارفون بأحكام الإيالة من الأصحاب أن الإمام لو أراد إعداد مالٍ وذخيرة لجند الإسلام، أُهبةً لإلمام الملمات، ووقوع المهمات، فلا معترض عليه إذا فضل المال عن الوجوه اللائحة في المصالح.
وجميع ما ذكره الأصحاب لا يخرج عن أوجه: أحدها: وهو ظاهر النص أنه يُخرج ولا يدّخر، ثم إن ألمت ملمة-والعياذ بالله- تعين القيام بكفايتها، فإنه يخاطب أصحاب الثروة من المسلمين. والقول في ذلك يطول، وهو من غمرة أحكام السير.
والوجه الثاني- أن له أن يعد في بيت المال ذخيرة، وهو أولى من كثيرٍ من وجوه المصالح، والنظر في ذلك إليه.
والوجه الثالث: أن يعد القدر الذي أقرّه الأولون فيه باستفتاح مساجد ورباطات، فأما المصالح الدائمة، فلا يؤخر بسبب الاستعداد إذا واعد أداءُ المال شيئاً منها، وسيكون لنا في ذلك بسط، ومزيد كشفٍ، إن شاء الله عز وجل.