فصل: باب: اجتماع الولاة وتفرقهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: اجتماع الولاة وتفرقهم:

7883- قال الشافعي: "ولا ولاية مع الأب... إلى آخره".
الغرض من هذا الباب ترتيب الأولياء، وبيان منازلهم، وتقديم الأَوْلى منهم.
والوجهُ أن نذكر المراتب الكلية، ثم نذكر ترتيب الأشخاص في كل مرتبة، فنستثني الملك والتزويجَ به، ونقول بعده: الوِلاية تناط بالنسب، والوَلاء، والوِلايةِ العامة. وأهلُ النسب مقدمون على أهل الولاء، والولاية. ثم مستحقو الولاء، ثم بعدهم الوالي.
فأمّا أهل النسب، فلا شك أنهم لا يلي منهم أحد إلا العصبات، ثم ترتيب الأولياء في التزويج، كترتيب عصبات النسب في الميراث، إلا في ثلاثة أشياء: أحدها: أن أوْلى العصبات الابن، ولا يتصور أن يكون مع الابن عصبة، ولا ولاية للابن في التزويج عندنا أصلاً، ولا يملك أحدٌ التزويج بسبب آخر؛ فإن القاضي يزوّج أمَّهُ بولاية القضاء، وللابن أن يزوّج أمَّه بالولاء، إذا كان يستحق ولاءها.
والجملة أنّ البنوة لا تفيد الولاية، ولا تنافي الولاية بسبب آخر من الأسباب.
والمعنى الذي نضبط به المذهب حدّاً أن الابن ليس منتسباً إليها، ولا هي منتسبة إليه، فانتسابها إلى أبيها، وانتساب ابنها إلى أبيه، وليس الابن أيضاً منتسباً إلى أصل نسبها. فهذا مما فارق ترتيبُ الأولياء فيه ترتيبَ عصبات النسب في الميراث.
والثاني: أن الأخ من الأب والأم، أو من الأب يزاحم الجدَّ في الميراث، كما تقدم البابُ المشهور فيه. والجد مقدّمٌ في التزويج على الأخ؛ فإنه عند عدم الأب يُنزّل منزلة الأب، وتثبت له الولاية الحقيقية؛ وهي الإجبار، ولا يثبت ذلك للإخوة.
والثالث: أنّ الأخ من الأب والأم يقدّم على الأخ لأبٍ في الميراث.
واختلف قول الشافعي في أن المرأة إذا كان لها أخ من أب وأم، وأخ من أب، كيف سبيلها في الولاية؟
الأول- لا يتقدم الذي هو مُدلٍ بقرابة الأب والأم على الذي هو مُدْلٍ بقرابة الأب على التمحُّض.
والقول الثاني- أن الأخ من الأب والأم أولى.
توجيه القولين: من رأى تقديمَ الأخ من الأب والأم، قاس الولاية على الميراث، ومن قال: إنهما يستويان، احتج بأنهما استويا في الإدلاء بمن استفادة الولاية منه؛ فإنّ قرابة الأم لا تفيد الولاية، وهما مستويان في قرابة الأب، وقرابة الأم تفيد الميراث على الجملة.
ومن نَصر القول الأول؛ أجاب بأن قرابة الأم لا تفيد العصوبة، والأخُ من الأب والأم إنما يحجبُ الأخ من الأب بطريق العصوبة. وقد ينقدح في هذا جواب، وما ذكرناه الآن كافٍ.
7884- ثم يتصل ببيان ما نحن فيه أمور: منها- أنه لو اجتمع في المسألة ابنا عم، أحدهما أخٌ لأم، فلا يتقدم ابنُ العم الذي هو أخ من الأم على الذي ليس أخاً، ولكن للذي هو أخ من الأم السدس بالأخوّة، والباقي بينهما بالعصوبة. هذا حكم الميراث.
فأما حكم الوِلاية؛ فإذا رأينا تقديم الأخ من الأب والأم فلو اجتمع ابنا عم، أحدهما أخ لأم، فالذي ذكره شيخي-وهو مذكور في بعض التصانيف- أن الذي هو أخ لأم مقدَّم؛ فإن الأخوَّة من الأم لا تناسب الولاية أصلاً، وليس فيها إلا أنه مزيد قرابة، وهذا المعنى متحقق في أخوة الأم في ابن العم، وإن كانت لا تناسب قرابة العمومة.
وكان يقول: إذا كان للمرأة ابنا ابن عم: أحدهما ابنُها، فيخرّجُ هذا الخلافُ أيضاًً، وإنْ كانت البنوة لا تفيد الولاية أيضاً.
وقال ابن الحداد: إنْ كان للمرأة ابنا معتِق، وأحدهما ابنُها، فهو أولى بتزويجها، فرجَّح بالبنوّة في مرتبة الولاء، ولم أر هذا لغير شيخي. وفيما ذكره ابن الحداد ما يوافقه.
وذكر بعضر المصنفين هذا على هذا الوجه.
ولست أرى الأمرَ كذلك؛ فإن من يقدِّم الأخ من الأبِ والأم؛ فمعتمده تقدُّمُه على الأخ من الأب بالعصُوبة وإن كان أُخوّة الأم لا تؤثّر في العصوبة؛ فالوجه أن نخصص هذا بما يؤثّر في العصوبة لا غير، وأخوّة الأم في ابن العم لا تفيده قوةً في العصوبة أصلاً. وأبعدُ من ذلك البنوّة؛ فإنه لا وقع لها أصلاً.
والذي ذكره ابن الحداد مأخوذٌ عليه عندي؛ فإن الولاء جنسٌ آخر مخالف النسب؛ فترجيح من يزوّج بالولاء بالبنوة في نهاية البعد، فالوجه إجراء القولين في أخوين أحدهما من الأب، والثاني من الأب والأم. ثم نجري هذا في ابنيهما، كما ذكرناه في بني الإخوة.
7885- ومما يتعلق بما نحن فيه أن المزني اختار أن الأخ للأب والأم أولى بالصلاة على أخيه من الأخ للأب، واحتج في ذلك بالميراث، وبالصلاة على الميت؛ فإن الأخ من الأب والأم أولى بالصلاة على أخيه من الأخ من الأب.
وقد ذكر الأئمة في عصبات المعتِق أنه إذا كان للمرأة أخو المعتق من الأب والأم وأخوه من الأب، فكيف السبيل فيه؟ قالوا: في الميراث بينهما خلافٌ: من أئمتنا من سوى بينهما؛ فإن الميراث بالولاء يتعلق بمحض العصوبة، والأصح تقديم الأخ من الأب والأم في المواريث بالولاء أيضاًً. ثم أمرُ التزويج يترتب على هذا، فمن أئمتنا من قطع باستوائهما في ولاية التزويج، ومنهم من أجرى القولين، وسبب هذا الاختلاف، التردد الذي ذكرناه في الميراث.
وما احتج به المزني من الصلاة على الميت؛ فالمذهب القطع فيه بالسَمليم، والفرق أن مزيد القرب يورث مزيد رقّة وتحنّن وشفقة، وذلك قد يؤثّر في صدق النية في الدعاء. وكذلك الوصية للأقرب يظهر فيها اعتبار قوة القرابة.
وقد ذكر بعض أئمّة المذهب أن من أصحابنا من أجرى في الصلاة والوصية أيضاًً قولين، كما ذكرناه في ولاية التزويج، ولولا أني رأيت هذا لمعتمَدِين، لما أوردته مع ظهور الفرق بين الصلاة والوصيَّة، وبين الولاية.
فهذا مجموع ما أردنا أن نذكره فيما تفارق فيه عصباتُ النسب في الميراث عصباتِ الولاية.
7886- وإذا أردنا تجديد العهد بترتيبهم؛ قلنا: الأبُ أولى في الولاية.
ثم الجد أبو الأب أولى من غيره.
ثم الأخ، وقد قدّمنا القولين في أخوين؛ أحدهما من أب وأم، والثاني من أب، وأجرينا ذلك في ابني الأخوين.
ثم الأعمام، والترتيب فيهم كالترتيب في الإخوة. ثم كذلك بنو الأعمام، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم. وهذا على الترتيب المذكور في العصبات.
هذا بيان ترتيب الأشخاص في مرتبة أهل النسب.
7887- فإذا لم تكن للمرأة عصبةُ نسب من الذين ذكرناهم واعتبرناهم؛ فالنظر بعد ذلك في الولاء.
ونحن نذكر مستحقي الولاء أولاً، وحُكمَهم في التزويج، ثم نذكر عصباتِ أصحاب الولاء.
فأما مستحقو الولاء، فالمعتِق يلي تزويج معتَقته إذا لم تكن لها عصبةُ نسب من الذين ذكرناهم.
ولو أعتقت المرأةُ جاريةً-ولا شك أن المعتِقة لا تزوج نفسها- ولكن قال الأصحاب: يُزوِّج مُعتَقَتَها من يزوجها. معناه: أن أولياءَ المعتِقة أولياءُ المعتَقة.
وهذا سديد؛ فإنهم عصبات المعتِق، وسنصفهم.
ثم قالوا: يزوج وليُّ المعتِقةِ المعتَقةَ ولا حاجة إلى إذن المعتِقة؛ فإنه لا احتكام لها على معتَقتها، ولا حاجة إلى إذنها، وهي ليست وليّة في العقد.
هذا ما ذهب إليه الجمهور. وليس ذلك كتزويج مملوكة المرأة، فإن وليَّ المالكة يزوجها بإذن المالكة، ولا حاجة إلى إذن المملوكة؛ فإن الحكم في المملوكة للمالكة.
ورأيت لبعض الأصحاب في المجموع الكبير للشيخ أبي علي، وهو في بعض التصانيفِ أيضاًً: أنه لابد من مراجعة المعتِقة أيضاًً؛ فإنها مستحِقةٌ للولاء، وعصباتها إنما يزوّجون المعتَقَة لإدلائهم بالمعتِقة. وهذا متَجِهٌ لا بأس به.
ثم إن روجعت المعتِقة، فأذنت، فلا كلام، وإن أبت، كانت عاضلةً حينئذٍ، وقياس هذا الوجه يقتضي أن تراجِع السلطان.
ثم التزويج إلى السلطان، أم إلى عصبة المعتِقة، والسلطانُ يأذن؟ الوجه القطع بأن السلطان يأذن، والعصبات يزوّجون. فليتأمل الناظر ذلك.
ومما يتعلق بما نحن فيه أنه إذا أعتق الأمةَ طائفةٌ من الشركاء؛ فلا سبيل لأحدهم للانفراد بالتزويج؛ فإنهم- وإن تعدّدوا بمثابة معتِقٍ واحد. فهذا ما اتفق عليه علماؤنا، وليسوا كإخوةِ امرأةٍ؛ فإن كل واحد منهم أخ على الكمال، وحالُه ومعه أمثالُه كحاله لو انفرد، وليس كذلك المشتركون في الإعتاق؛ فإن الولاء حقٌّ يثبت لهم على قدر أملاكهم. ثم إن رضوا وكلوا وكيلاً، أوْ وكلوا واحداً منهم. فإن عضَلوا، زوّجها السلطان، وإن امتنع بعضهم، فهو كما لو امتنع جميعهم، فالسلطان يزوّج المعتَقة.
ولو أعتق الجاريةَ رجلٌ واحد، ومات، وخلّف ابنين، ثبت لكل واحد منهم حقُّ التزويج، ولا يكون الولاء مشتركاً بينهما؛ فإن الولاء لا يورث، ولكن يورث به، ولسنا لتفصيل ذلك الآن، بل إلى كتاب الولاء، إن شاء الله، ولكن إن عرضت مسألة أوضحناها. ونكتفي الآن بمسألةٍ واحدة، وهي حكمنا بأن الولاء للكبير.
وبيان ذلك؛ أن من أعتق مملوكاً ومات، ثم خلّف ابنين، ثم مات أحد ابنيه، وخلّف ابناً، ثم مات المعتَق وخلّف ميراثاً، فهو لابن المعتِق، وليس لابن ابنه منه شيء. ولو كان الولاء موروثاً، لكان لما مات أحد ابني المعتِق، رجعت حصته إلى ابنه، ثم كان يقتضي ذلك أن يُصرف قِسطٌ من الميراث إليه، فوضح أن الولاء لا يورث؛ وموجَبُ ذلك أن ابني المعتِق بمثابة أخوين؛ فيتصور أن ينفرد كل واحد منهما بالتزويج. وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد كشفٍ فيه.
ولو أعتق الجارية شريكان، ثم ماتا، وخلف كلُّ واحد منهما ابناً، فهما بمثابة المعتِقَين في الحياة. ولو خلف أحدهما ابنين، والثاني ابناً واحداً؛ فكل واحد من ابني أحدهما ينزّل منزلة المعتِق للنصف، لما ذكرناه من أنهما لا يرثان الولاء، بل يرثان به، وهذا بيّن.
وقد نجز ما أردناه في المعتِق، وما اتصل الكلام به في الأطراف.
7888- ونحن نبتدىء الآن الكلامَ في عصبات المعتِق، ونستعين بالله تعالى، فنقول:
ترتيب عصبات المعتِق كترتيب عصبات النسب، إلا في مسائلَ نستثنيها:
أحدها: أن ابن المرأة لا يليها، وابن المعتِقة يلي تزويج المعتَقة؛ وذلك لأن ابنَ المرأة لا ينتسب إليها، وابنُ المعتِقة تنتسب إليه.
والثاني: أن جدّ المرأة أولى من أخيها، فإذا اجتمع جدُّ المعتِق، وأخوه من الأب والأم، أو الأب؛ ففي المسألة قولان: أحدهما: أنهما يستويان، لاستوائهما في الدرجة والقرب، هذا يقول أنا أبو أب المعتِق، وهذا يقول أنا ابن أب المعتِق.
والقول الثاني- أن الأخ أولى؛ فإنه يُدلي إلى أب المعتق بطريق البنوة، والجد يدلي إلى أب المعتِق بطريق الأبوة، والبنوة أقوى في العصوبة من الأبوة، وليس جدّ المعتِق أصلاً للمعتَقَة التي تُزوَّج، حتى يجعل أولى بالقيام بولاية الفرع ممن يقع فرعاً في نسبها، وإذا كان كذلك؛ فالوجه تقديم من هو أقوى في جهة العصوبة.
ولو اجتمع جدّ المعتِق وابن أخيه؛ فيجري قولان فيهما على وجه واحد، وهما مأخوذان من المعنَيين اللذَيْن جرى القولان عليهما في الجد والأخ: فمن راعى الدرجةَ في الجد والأخ، وقضى باستوائهما، يقدّم الجدّ على ابن الأخ، ومن يقدم الأخ، يقدم ابنه، فإنه ينظر للقوة، ولا يلتفت إلى قرب الدرجة وبُعدها.
ومما يتعلق ببيان ذلك؛ أن من أعتق جارية، وكان للمعْتِق أبٌ وابنٌ، فلا شك أن واحداً منهما لا يلي تزويج المعتَقة في حياة المعتِق؛ فإن المعتِق هو الوليّ، وليس لأبيه ولا لابنه ولاء في حياته، وإذا مات، وخلف المعتَقَةَ وخلّف أباه وابنه، فالابن هو الذي يزوّج المعتَقَة دون الأب؛ لأن الابن هو العصبة، والأب مع الابن صاحب فرض، وليسَ لأصحاب الفرض استحقاقٌ بالولاء، ولو ماتت المعتَقة، لم يرثها إلا ابن المعتِق.
7889- ولو أعتقت امرأةٌ جاريةً، ولها أبٌ وابن؛ فالذي ذكره شيخي وجماعةٌ من الأئمة أن الأب يزوج المعتَقة في حياة المعتِقة، أما بعد موتها فقد ظهر اختلاف أصحابنا، فذهب المحققون إلى أن تزويج العتيقة يثبت بعد موت المعتِقة لابن المعتِقة؛ فإنه الوارث بالولاء؛ فيجب أن يثبت حق التصرف بالولاء له، وليس للأب حق في الولاء مع الابن، وليس هذا كحالة الحياة؛ فإن الأب والابن استويا في أنهما لا حق لهما في الولاء ما دامت المعتِقة حية، ولكن الأب لما كان وليَّ المعتِقة، ملك تزويج عتيقها، وقد انقطعت ولاية الأب عن المعتِقَة بموتها، ولم يتجدد له حق في الولاء.
ومن أصحابنا من قال: ولاية تزويج العتيقة كانت ثابتة للأب في حياة المعتِقة؛ فتدوم تلك الولاية على ما كانت، وتبقى مستصحَبةَّ.
وهذا الوجه على اشتهاره ضعيف، ووجهه على ضعفه؛ أن الابن لو زوج لم يكن تزويجه باستحقاقه الولاء؛ فإنا ذكرنا أن الولاء لا يورَث، وإنما يورث به، من جهة العصبات، والعصبات ينتمون إلى مستحِق الولاء، وإذا كان الابن يزوّج عتيقة أمه لو انفرد، بسبب أنه ابن صاحبة الولاء، فاستصحاب الولاية التي كانت في حياتها أقربُ من إثبات الولاية بالانتساب إلى مستحقةِ الولاء. فهذا ما ذكره الأصحاب.
وذكر الشيخ أبو علي أن المعتِقة لو كانت حيّة، ولها أب وابن فمن يزوّج العتيقة؟
فعلى وجهين؛ أحدهما- أنه يزوجها أب المعتِقة؛ فإنه وليها، فكان إليه تزويج عتيقها.
والوجه الثاني- أنه إنما يزوج العتيقة في حياة المعتقة ابنها. وهذا غريب جداً؛ فإنه لا استحقاق له في حياة المعتِقة، وليس إليه تزويج المعتِقة، حتى يزوج العتيق تبعاً لتزويج المعتِقة. وهذا واضح.
ولكن وجهه-على بعده- أنا إذا كنا نذكر وجهاً في أن الأب هو المزوِّج بعد موت المعتِقة، مع العلم بأنه لا استحقاق له في الولاء بعد موت المعتِقة؛ فلا يبعد أن يقال: الابن يزوج العتيقة في حياة المعتِقة، وإن لم يكن له استحقاق في الولاء.
والطريقة ضعيفة في وضعها لما قدّمنا ذكره. والمذهب المعتد به ما ذكره الأصحاب.
هذا ما أردناه، وقد بان به القول في عصبات المعتِق.
7890- فإن مات المعتِق، ولم يكن له عصبةُ نسب، وكان لمعتِقه معتِقٌ؛ فولاية التزويج إلى معتِق المعتِق، ثم إلى عصبة معتِق المعتِق، فإن كان قد مات معتِق المعتِق، فإن لم يخلف معتق المعتِق عصبة، لا من جهة النسب ولا من جهة الولاء؛ فلا شك أن ميراث المعتَقة لبيت المال. فقال: فالولاء و حق التزويج للمسلمين، والنائب عنهم الوالي، وهذا مستغنىً عنه، مع أن السلطان ولي من لا ولي له.
ولو قيل: تزويج السلطان معلل بعلتين: إحداهما- أنه نائب المسلمين، فحق الولاء راجع إليهم، والسلطان نائبهم، والعلة الثانية: الولاية العامة. فللقول في هذا مجال، وهو قليل الفائدة. وهو غرض الفصل.
وقد انتجز القول في ترتيب الأولياء في جهة الولاء.
وقد رسمنا في مبتدأ الفصل ثلاث مراتب، وأوضحنا أن مرتبة النسب مقدمة، وتليها مرتبة الولاء، ثم في كل مرتبة ترتيبٌ لأشخاص تلك الجهة، وقد تقدم بيان ذلك. فإن لم نجد نسيباً ولا منتمياً إلى ولاء، فولاية التزويج إلى السلطان. وقد مضى تفصيل القول فيه.
فرع:
7891- إذا كان بين رجلين جاريةٌ مشتركة، فأعتق أحدهما نصيبه، وكان معسراً، فلم يسْر عتقُه، وبقي نصفُها رقيقاً، فمن يزوجها؟ وما التفصيل؟ نُقدم على ذلك تجديدَ العهد بالقول في الميراث، ومذهبُنا أن من نصفُه حر لا يرث. وهل يُورَث؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه يورَث ويُستَحق بالإرث ما خلص له على مقابلة الحرية.
والثاني: لا يرثه قرابته.
فإن قلنا: يرثه قرابته، فلا كلام. وإن قلنا: لا ترثه؛ ففي مصرف ما خلفه وجهان:
أحدهما: أنه يُصرف إلى مالك الرق في نصفه؛ فانه أقرب الناس إليه.
والثاني: أنه يُصرف إلى بيت المال. وقد فصّلنا هذا في كتاب الفرائض.
فإذا تجدد ذكر هذا، عُدنا بعده إلى المقصود.
7892- فإذا أردنا تزويج جارية نصفُها رقيق ونصفها حر، فلا يخلو: إما أن تكون لها عصبة من القرابة تصلح لولاية النكاح، أو لا يكون لها عصبة، فإن كان لها عصبة، فالمذهب أنه يزوجها عصبتها مع مالك الباقي، وتزويجهم أولى من تزويج مالك الولاء؛ فإن النسب متقدم على مستحق الولاء.
ومن أصحابنا من قال: ليس للنّسيب ولايةٌ أصْلاً؛ فإن النسب لا يتبعض، فإذا لم يسلط على التزويج بالنصف الرقيق، فقد بطل أثره؛ فعلى هذا يكون التزويج إلى صاحب الولاء ومالك الرق؛ فإنه كما لا يمتنع التبعيض في الملك لا يمتنع التبعيض في حق الولاء، وإنما المستبعد التبعيض في حكم النسب.
وهذا ساقط لا أصل له، مع مصيرنا إلى أن أهل النسب يرثونه في نصفه الحر بسبب النسب، فإذا لم يبعد إفادة النسب الإرث، لم يبعد إفادته الولاية. وما ذكرناه تفريع على أن ما خلَّفه يستحقه أهل نسبه.
فأما إذا فرّعنا على أن أهل النسب لا يرثونه، فلا يثبت لهم ولاية التزويج؛ قال الشيخ أبو علي: يزوجها في ظاهر المذهب مالك الرق ومستحق الولاء، ولا ينظر إلى الميراث.
قال: وقد ذكر بعض أصحابنا في أصل المسألة وجهاً آخر: أن هذه الجارية لا تُزوَّج أصلاً لعسر الأمر فيها. وهذا قولٌ سيأتي في موضعه في "المستولدة لا تزوّج". وهذا الوجه بعيد.
7893- وفي المسألة بقية نظر: وسبيل الكشف أنا إن أثبتنا الميراثَ لأهل النسب؛ فظاهر المذهب أنه يزوّجها عصبة النسب والمالك، وفيه وجهٌ بعيد؛ أن عصبة النسب لا تزوِّج. فعلى هذا؛ هل يزوِّج المولى مع المالك؟ الظاهر أنهما يزوجانها، وإن كان صاحب الولاء لا يرث مع عصبات النسب.
ومن أصحابنا من قال: يزوجها المالك والسلطان، ويُخرج المعتِقَ كما أخرج أهلَ النسب، من جهة أن صاحب الولاء محجوب في الميراث بأهل النسب. فيبعد أن يزوِّج. نعم، يجوز أن يقال: إذا تعذر التزويج من المتعلقين بالأسباب الخاصة، فالسلطان يزوج.
وذكر بعض الأصحاب أنها لا تزوج.
وهذا إذا ورّثنا أهل النسب.
فإن لم نُورّث أهلَ النسب، لم نورث صاحب الولاء أيضاًً؛ فينقدح في هذا المقام ثلاثة أوجه: الأول- أن القاضي والمالك يزوِّجان، وهذا متجه في هذا المقام.
والثاني: أن التزويج إلى المالك وصاحب الولاء، وكأن صاحب الولاء مالك؛ فإن الولاء تبعُ الملكِ والحالّ محله إذا زال الملك، غير أنه لا إجبارَ به. وهذا ضعيف.
والوجه الثالث: أنها لا تزوج أصلاً.
والصحيح من جميع ما ذكرناه أنا إن ورثنا، فالتزويج للمالك ولعصبة النسب، وإن لم نورّث، فالتزويج للمالك والقاضي.
هذا تحرير ما قيل في هذه المسألة.
فرع:
7894- إذا أعتق المريض أمةً في مرض موته، لا مال له سواها؛ قال ابن الحداد: ليس لأوليائها الأحرار تزويجُها. فإذا كان للمعتَقة أخ حر، فزوجها الأخ الحر على الوجه الذي ذكرناه، لم نحكم بصحة النكاح. واعتل بأن أمرها في عتقها موقوف، فربما لا تَعتِق كلها-وهذا هو ظاهر الحال- وربما تَعتِق كلها؛ بأن يصح من مرضه، أو يستفيدَ من المال ما يُخرج هذه عن ثُلثه. وإذا كان الأمر على التردد؛ فالنكاح على الوقف مردود عند الشافعي. هذا كلام ابن الحداد.
واختلف أصحابنا في المسألة: فذهب بعضهم إلى أنا لا نحكم بصحة النكاح، كما قاله ابن الحداد.
ومنهم من قال: نحكم بالصحة في الحال، ونقضي بتسليط الزوج عليها؛ فإنا نراعي في تصرفات المريض الحال، ولا ننظر إلى ما يكون في المآل، والدليل عليه أنه لو وهب جميع ماله لإنسان، فالذي قبضه الموهوب له، نقضي فيه بملكه، ولو تصرف فيه تصرف الملاّك، لحكمنا بنفوذه في الحال، ولم نمنعه من الإقدام على تصرفه، وإن كنا قد نُتبع بعضَ التصرفات بالنقض في المآل إذا مات الواهب ولم يف ثلثه، وكذلك إذا مات المعتق في مسألة ابن الحداد، وأوجب المآل فساد النكاح، بأن بان لنا فساده إسناداً. وهذا لا يمنع من الحكم بالتسليط في الحال على الظاهر. وهو كما لو عقد النكاح بشهادة مستورَيْن، فالزوج يتسلط في الحال على الاستمتاع، وإن كنا نقول: لو بان من بعدُ فسقُهما حالة العقد، لكنا نحكم بفساد النكاح تبيُّناً.
قال الشيخ أبو علي: من وافق ابنَ الحداد فيما قاله: وهو أنا لا ننفذ النكاح في الحال لتردده- فيحتمل على قياسه طردُ ذلك في هبة المريض؛ حتى يقال: لو وَهبَ هذه الجارية التي فرضنا إعتاقها وسلَّمها، لا ينفذ التصرف من المتهب القابض، إذا كان التصرف لا يقبل الوقف، ولا يحل له الإقدام على وطئها لتردد الأمر، ولا يحتمل قياسه إلا هذا.
يحققه: أن من جملة ما يفرض من تصرفاته؛ أن يزوجها إذا قبضها بحكم الملك، ولا فرق بين أن يزوجها المتّهب بحكم الملك، وبين أن يزوجها أخوها إذا أعتقت بحكم الولاية.
هذا ما ذكره الشيخ على قياس ابن الحداد. ولم يُبعد أن يكون ذلك مذهباً له. ولو سلّم ابنُ الحداد الحكم بنفوذ تصرفات المتهب في الحال، لم يجد فرقاً بين ما يسلمه وبين النكاح الذي منعه. وإن طرد الخلاف في هذه المسائل-وهو الظن به- فلا شك أن مذهبه يقع مخالفاً لنص الشافعي.
التفريع:
7895- إن حكمنا بصحة النكاح في صورة ابن الحداد، فهو حكم على الظاهر، وحقيقة الأمر موقوفة على ما سيبين في ثاني الحال، فإن بان نفوذ العتق، بأن يصح هذا المريض، أو بأن يستفيد مالاً يفي ثُلثُه بقيمة الجارية، ويموت على هذه الحالة، فنتحقق نفوذَ النكاح على الصحة. وإن مات على ما عهدناه حالة الإعتاق، بقي النظر في إجازة الوارث وردّه، فإن رد الوارث العتق الزائد على الثلث، عَتَقَ ثلثها. وتبين فساد النكاح على الشبهة، ثم لا يخفى تفصيل ذلك.
وإن أجاز الوارث، خرجت الإجازة على قولين؛ في أن الإجازة من الورثة ابتداء تبرع منهم أم تنفيذ للوصية؟ فإن حكمنا بأنه ابتداءُ تبرع، فالنكاح مجرىً على الفساد؛ فإن العتق كان متبعضاً حالة النكاح. وإنما أنشأ الوارث الإتمامَ من بعدُ، وإن حكمنا بأن الإجازة تنفيذ، فيبين صحة النكاح.
وهذا القائل يجب أن يقول: إذا ثبت نفوذ العتق؛ بأن يصح المعتِق، فالحكم في النكاح على الصحة تنجيزاً وتبيّناً؛ فإنا تبينا الحكم صحة النكاح ظاهراً حال حياته، فإذا صح من مرضه، فقد اطرد ما بنينا صحةَ العقد عليه.
فأما إذا كان نفوذ العتق بسبب استفادة مال زائد، ثم تمادى المرض إلى الموت، أو كان سبب النفوذ إجازة الوارث، وقد جرى أمر جديدٌ سوى ما بنينا عليه نفوذ النكاح؛ فيحتمل أن يلتحق هذا بما لو زوج الإنسانُ جارية أبيه في غيبة أبيه، ثم تبين أن الأب كان ميتاً حالة التزويج، ويحتمل أن نحكم بالصحة في مسألة المريض في صورة استفادة المال و في التفريع على أن إجازة الوارث تنفيذ؛ فإن ما يتجدد فهو موافق لما تقتضيه الحياة من تنفيذ التصرفات. وهذا بيّن.
وفيما مهدناه من تصوير وجوه الوقف في كتاب البيع ما يقرر هذا.
وإن فرعنا على مذهب ابن الحداد؛ فلو أعتق المريض الجارية، وفي يده مال يفي ثلثُه بقيمة المعتَقة حالة الإعتاق، وجرى تزويج الأخ على هذه الحال، ثم طرأت آفةٌ قللت ماله، وردّت ثلثه إلى مبلغٍ ما يفي بقيمة الجارية؛ ففي قياس ابن الحداد تردّدٌ في هذه الصورة: يجوز أن يقال: النكاح محمول على الصحة في الحال بناءً على كثرة المال، ويجوز أن يقال: لا يحمل النكاح على الصحة لنقصان تصرف المريض، والأموال عرضة الآفات. فهذا مجموع القول فيما فزعه ابن الحداد.
7896- وقد ذكر الشيخ أبو علي في أثناء الشرح تفريعاً على وجه ابن الحداد- شيئاً، فقال: فحوى كلام ابن الحدّاد يدل على أن السيد لو أعتقها-كما صورنا، فزوجها بنفسه- نفذ ذلك منه؛ فإنها إن رقّت، فهو سيدها، وإن عَتَقَتْ، فله ولاؤها.
كذا قال الشيخ.
وهذا مشكل؛ فإنا لو قدرنا نفوذ العتق، فالمعتِق لا يملك التزويج بالولاء إذا كان للمعتَقة أخ من أهل الولاية؛ فإن الأخ أولى بتزويج الحرة من المولى. ولعل الشيخ أبا علي إنما قال ما قال؛ من جهة أن التصرف الذي يصدر من المريض فهو محمول على النفوذ في نفسه، وإنما التوقف في تصرف غيره إذا بني على تصرفه.
وهذا ليس بشيء؛ فإنا إذا حكمنا بنفوذ عتقه على ألاّ تنكح مع الأب، فهذا التفريع إذاً مردود.
وقد انتهى الكلام في ترتيب الولاة وتزويجهم بحكم الولاية، وسيأتي تفصيل القول في تزويج الملاّك لإمائهم.
فصل:
قال: "فإن زوّجها أحدهم دون أسنّهم وأفضلهم كفئاً، جاز... إلى آخره".
7897- لما ذكر الشافعي ترتيب الولاة والمنازل التي يترتبون فيها، صوّر بعدها اجتماع الولاة في درجة واحدة.
فإن كان للمرأة إخوةٌ أولياء لا ترتب فيهم، فطلبت المرأة التزويج؛ فإن امتنع الأولياء عن التزويج وعضلوا، فالسلطان يزوجها.
ويتفرع في هذه الحالة أنهم لو تطابقوا على العضل، انتسبوا إلى المعصية، كما أوضحنا ذلك في صدر الكتاب.
وإن دعت واحداً من أوليائها إلى التزويج، وكان من الممكن أن يزوجها غيرُ هذا المدعو؛ فهل لهذا المدعوّ أن يمتنع، ويكل التزويج إلى أصحابه؟ فيه اختلاف؛ ينبني على أن الجماعة إذا تحملوا شهادة، فدعا صاحب الحق اثنين منهم إلى إقامة الشهادة، فهل يتعين عليهما أن يقيما ما تحملاه؟ فيه اختلاف مشهور، وسيأتي ذكره في كتاب الشهادة، إن شاء الله عز وجل. هذا إذا امتنعوا.
7898- فأما إذا تنازعوا في التزويج، فكان يطلب كل واحد منهم أن يكون هو المزوج، نظر: فإن خصصت المرأة واحداً منهم بالإذن والتفويض، فهو المزوج لا غير؛ فإن الأولياء في حقها بمثابة الأجانب في حق من يريد أن يوكل واحداً منهم بالتصرف، وستزداد المسألة وضوحاً في فصول الوكالة من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
وإن أذنت لجميع الأولياء، ولم تخصص بإذنها واحداً منهم، فإذا تنازعوا-كما صورنا- فإن كان فيهم من هو أسن وأفضل؛ فالأولى للأولياء أن يسلموا ذلك إلى أسنهم وأفضلهم. وهذا استحباب لا تنتهي مخالفته إلى حد الكراهة؛ من جهة أن تعاطي التزويج حق لكل واحد من الأولياء، ولا ينتهي نَدْبُنا الإنسانَ إلى ترك حظه إلى حدّ الكراهة.
فإن استمروا على النزاع، فالأولى أن يقرع بينهم، ويفوض التزويج إلى من خرجت له القرعة.
فلو خرجت القرعة لواحدٍ، فابتدر غيرُه وزوج، نفذ التزويج، إذا كانت المرأة مستمرة على الإذن للجميع، كما صورنا.
والذي أراه الآن أيضاًً أن تزويج المبتدِر لا ينتهي إلى حد الكراهية؛ لما حقَّقتُه، إلا أن يكون الإقراع من سلطان، فيتجه أن نقول حينئذ: استباق السلطان مكروه. والقول في ذلك محتمل.
وفي بعض التصانيف أنه إذا زوّج من لم تخرج له القرعة، لم ينفذ تزويجه.
وهذا بعيد غير معتد به. ولست أدري أن هذا القائل يخصص هذا الوجه البعيدَ بقُرعة ينشئها السلطان، أو يطرده في القرعة التي ينشئها الأولياء من غير ارتفاع إلى مجلس الحكم؟
7899- ثم إنما ينفذ التزويج ممن يزوج إذا كان زوّجها من كفئها. فأما إن زوجها بإذنها بمن لا يكافئها، ولم يرض سائر الأولياء؛ فللذين لم يرضَوْا حقُّ الاعتراض على عقده.
ثم اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأن النكاح لا ينعقد إذا لم يكن صدَرُه عن إذن كافة الأولياء؛ فإنا لو حكمنا بانعقاده، لكان مخالفاً لموجب الشرع؛ فإن التزويج من غير الكفء يُلحق عاراً بالنسب وأهله، وهذا لو صح، لكان متضمناً تنجيزَ ضرارٍ لا يزول، بأن نثبت للباقين حق الفسخ؛ فإن العار اللاحق لا ينغسل بتقدير الفسخ؛ إذ في تقدير نفوذ النكاح تسليط الزوج عليها. وهذا مما نقمناه من مذهب أبي حنيفة لمّا قال: إذا زوجت المرأة نفسها من لا يكافئها، فالنكاح ينعقد، والزوج يتسلط، وللأولياء حق الاعتراض. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: في انعقاد النكاح قولان:
أحدهما: الانعقاد؛ فإن العاقد من أهل العقد، وقد أذنت المرأة، فينزل هذا منزلة ما لو اشترى الرجل شقصاً مشفوعاً وقبضه، ثم باعه، فبيعه نافذ، وإن كان للشفيع أن ينقضه.
والثاني: أنه لا ينعقد. وقد سبق توجيهه. وقطع الشيخ أبو حامد بالانعقاد.
فاجتمعت ثلاث طرق. وسبب التردد-أخذاً من النص- أن الشافعي قال: إذا زوجها أحدهم ممن لا يكافئها، فالنكاح مفسوخ، ففهم الأصحاب من الفسخ رفع نكاح منعقد.
فصل:
قال: "وليس نكاح غير الكفء بمحرّم فأردّه... إلى آخره".
7900- منع تزويج غير الكفء من حق المرأة والأولياء، فإذا رضيت المرأة بمن لا يكافئها، وأبى الأولياء، امتنع حصول مرادها؛ فإنّ رضاها بمن لا يكافئها يعيّر النسب، وإذا تعيّر ضرر أهل النسب بما يلحق النسب من عار وشنار. فكان لهم حق دفع العار. وقد قال الشافعي: "إن للولي في بضع المرأة شركاً" وأراد بذلك ما ذكرناه، ولم يرد أنهم يستحقون منها أمراً، فإذا رضي الأولياء ورضيت المرأة وهي من أهل الرضا بأن تزوَّج ممن ليس كفئاً لها، نفذ التزويج. والحق لا يعدوهم.
ولا تعبّد في الشرع بعد رضاهم بإسقاط حقوقهم.
وقد خالف في هذا الشيعة. وتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بناته من عثمان وعلي وأبي العاص بن الربيع-وما كان أحد كفئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم- دليلٌ عليهم.
قال الشافعي: كيف يكافىء علي فاطمةَ وأبوه كافر وأبوها سيد البشر. فإن أشاروا أن أبا طالب كفءٌ لعبد الله، والد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قلنا: إن ارتقيتم إلى هذه المرتبة؛ فالناس أولاد آدم. وأمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس-وهي قرشية- بأن تنكح أسامة بن زيد. وزيد كان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهمّ عمرُ بأن يزوج ابنته من سلمان الفارسي، فشق ذلك على ابنه عبد الله، وشكا إلى عمرو بن العاص. فقال عمرو: أنا أكفيك ذلك. فلما لقي سلمانَ، قال: هنيئاً لك، قد تواضع لك أمير المؤمنين! فقال سلمان: ألمثلي يقال هذا؟ والله لا أنكحها أبداً.
ومما يتعلق بهذا الفصل؛ أن المرأة إذا لم يكن لها ولي خاص وكان يزوجها السلطان أو من يأمره السلطان؛ فإذا دعت المرأة إلى تزويجها ممن لا يكافئها؛ فالذي نقله الصيدلاني أن السلطان لا يُجيبها إلى ذلك؛ فإنه يزوج ناظراً لعامّة المسلمين فلا يدعُ النظر لهم.
وكان شيخي أبو محمد يقطع بأنه يزوّجها؛ فإنه لا يرجع إلى عامة المسلمين عارٌ من تزويجها، والحق لا يعدوها.
فإن قيل: فلتزوج نفسها إذا لم يكن لها وليّ خاص، قلنا: هي مسلوبة العبارة ووليها السلطان، والدليل على بطلان هذا التعلق، أن وليها الخاص لو رضي بأن تزوج المرأة نفسها، لم يصح. والتحقيق في ذلك، أن سلب العبارة تعبُّدٌ بالشرع وليس يستقيم فيه معنى ورعاية الكفاءة تتعلق بحقوقٍ تسقط بالإسقاط.
7901- ثم قال الشافعي: "وليس نقص المهر نقصاً في النسب"، والمراد بذلك أن الحق في المهر للمرأة. فلو رضيت بأن تزوج ممن يكافئها بأقلَّ من مهر مثلها، فعلى الولي أن يسعفها إذا كانت من أهل الطلب. وأبو حنيفة أثبت للولي الاعتراض لأجل نقصان المهر.
وكان يليق بهذا المنتهى الكلام في الكفاءة ومعناها، ولكن المزني نقله بعد هذا، فلنلتزم الجريان على ترتيب (السواد).
فصل:
قال: "ولا ولاية لأحد وثَمَّ أولى منه... إلى آخره".
7902- هذا الأصل يجمع بيانَ ما يُخرج الولي عن الولاية وذكْرَ ما لا يخرجه عنها، ولكن يقطع نظره، وينوب عنه السلطان، وذكْرَ ما لا يؤثّر أصلاً في قطع الولاية، ولا في إثبات نيابة السلطان.
فأما ما يخرجه عن الولاية، فكالصغر، والجنون المطبِق، والسفه، ويلتحق به سقوط الرأي؛ إما لغَميزةٍ في غريزة العقل يَحْمُق بها صاحبه، وإن كان ذا ضبطٍ في المال وصلاحٍ بالبدن، أو إذا بُلي الرجل بأسقام مزمنة وآلام، فقد يضعف رأيه بها ويتبلّد من العجز والضجر، ولا يتحمل فكراً في أمر. ومثل هذا لا يكون وليّاً. نص عليه الشافعي.
ومما يُخرج عن الولاية اختلاف الدين إسلاماً وكفراً. وقطع أصحابنا بأن اليهودي مع النصرانية بمثابة المجتمعين في كفر واحد، ولا يؤثر اختلاف أديان الكفار في الولايات، كما لا يؤثر في قطع الميراث. وهذه أصول متفق عليها.
ونذكر على معارضتها السَّفر.
ثم نُردِّد النظرَ في خصالٍ لابد من النظر فيها. فنقول:
7903- إذا سافر الولي القريب، فالسفروإن طال، لا يخرجه عن الولاية، وآية ذلك أن البعيد لا يلي التزويج في غيبة القريب، ولو كانت الغيبة تُخرج الغائب عن الولاية، لانتقلت الولاية إلى البعيد. ولو غاب الأب وزوّج في الغيبة ابنته البكر، نفذ تزويجها، لأنه وليها.
ويتصل بذلك أمر؛ وهو أن البكر إذا كانت بالغة، وقد غاب الأب-كما صورنا- وكان لا يبعد من الأب الغائب تزويجها، فإذا جاءت إلى السلطان تطلب التزويج، ولم يُبعد السلطان أن يزوّجها، وهي مزوَّجة الأب، فكيف السبيل؟
نبنيه على نص الشافعي وتردُّدِ الأصحاب فيه. قال الشافعي: "إذا جاءت المرأة إلى السلطان تبغي منه أن يزوجها، لم يزوجها السلطان، حتى يشهد شاهدان أنه ليس لها وليٌّ حاضر، وليست في زوجية ولا عدة" فاختلف أصحابنا في ذلك. فمنهم من قال: هذا احتياط من جهته على طريق الرأي والاستصواب، ولا يتحتم مراعاة ذلك، ومن أصحابنا من قال: يتحتم مراعاة هذا.
التوجيهُ: من أوجب ما ذكره الشافعي من الاحتياط، احتج بما تبتني أحكام الأبضاع عليه من نظر الشرع واحتياطه، ومن أصدق الشواهد فيه توقف انعقاد النكاح على حضور شاهدين عدلين. والذي يعضد هذا من قاعدة الإيالة أن أمور السلطان يجب أن تكون مرتبطة بالنظر، ولا يليق بمنصبه أن يبتدر إلى تزويج امرأة لا يدريها، ولا يحيط بحقيقة حالها. وأحق تصرف بالنظر تصرف السلطان.
ومن قال: يجوز التعويل على قولها، بنى ذلك على رجوعنا في العقود إلى قول أصحابها. فإذا صادفنا شيئاً في يد أمين ثم إنه باعه، لم يتعرض القاضي للبحث عن حقيقة ملكه. وهذا قد ينفصل عنه بما يختص البضع به من الاحتياط، ويرد عليه تزويج صاحب اليد على الجارية.
ومما يغمض وقعه في هذا المنتهى أنا إن أوجبنا على السلطان البحث، فالقول فيه يقرب مأخذه من احتياط السلطان في الإحاطة بأن لا وارث للميت سوى هذا الحاضر، ومن هذا القبيل حكمه بالإعسار.
ثم يتعلق بهذا الفن أنه لا يشهد للمرأة الطالبة للتزويج إلا من يطلع على بواطن أمرها، كما ذكرناه في الشهادة على الإعسار، والشهادةِ على ألا وارث سوى من حضر، وفيه تفصيل ذلك. وإذا أحلنا حكماً على حكمٍ ولم نستبن فرقاً بينهما، فليُعتقد مساواة التفريع للتفريع، كما استوى الأصلان.
وإن حكمنا بأن النظر مستحبٌّ، فلو ابتدر السلطان، نفذ تزويجه، وكان مسيئاً.
ويتجه على هذا أن المرأة لو ألحّت وطلبت التزويج ناجزاً، وقالت: إجابتي ممكنة، والإجابةُ الممكنة واجبة، والتأخير احتياط يجوز تركه، ولا يجوز تأخير واجبٍ لاحتياطٍ يجوز تركه. وهذا لا ينتهي إليه كلام الفقهاء وهو من محض أحكام الإيالة.
وقد اختلف أرباب الأصول فيه، فذهب قدوتنا في الأصول إلى أنها لو ألحّت كذلك أجيبت، وأقصى ما يتمكن منه السلطان أن يستمهلها، فإن أبت أجابها.
وذكر القاضي أبو بكر أن القاضي لا يجيبها إن رأى ذلك رأياً، ويقول: لا يجب عليّ إجابتك ما لم أحتط.
وهذا لا يتضح بهذا المقدار، ولعلنا نجمع كلاماً شافياً في أحكام الأئمّة والولاة، إن شاء الله عز وجل.
7904- عدنا إلى مقصودنا: إذا غاب الأب وخلّف ابنته البكر البالغة، ولم يبعد أنه في غيبته قد زوّجها، فهذا يخرّج على التردد الذي ذكرناه في حكم احتياط السلطان واستشهاده على نفي الزوجية قبل تزويجه نائباً عن الوكيل الغائب.
وكل ذلك ينبني على اختلاف القول في أن الدعوى هل تسمع مطلقةً على النكاح، أم لابد من تقييدها بذكر شرائط الصحة؟ وهذا سيأتي مشروحاً في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
فإن قيل: أليس للسلطان أن يبيع مال الغائب إذا أشرف على الضياع مع جواز أنه باعه بنفسه؟ قلنا: نحن وإن جوّزنا ذلك، فلا أينخرم نظرُ القاضي، ويتصرف على حكم المصلحة على كل مالكٍ يُفرض. فيجري هذا في ملك من نقدِّره مالكاً، وفي ملك من نقدِّره مشترياً منه. وهذا المعنى لا يتحقق في النكاح.
ومما يتصل بتمام القول في ذلك أن الولي إذا غاب، وانقطعت الغيبة، وعسر البحث بأسباب توجب تفسيرها، فالظاهر أن المرأة تجاب والحالة هذه. ثم إن بان أمرٌ يتضمن فساد النكاح، جرينا على موجبه، ولم يخف طريق التدارك.
وهذا الذي ذكرناه إنما يظهر إذا كان الولي الغائب مُجبِراً، فإن لم يكن مجبراً، فلا يتأتى تصوير انفراده بتزويجها. وإذا قالت: لم آذن له في تزويجي في الغيبة، صُدّقت. وإن أراد السلطان أن يحلّفها، فعل. وكلُّ تحليفٍ لا يتعلق بدعوى مدَّعٍ بل يرتبط باحتياط-يتعرض له خلافٌ: أنه استحبابٌ أم استحقاقٌ؟ وقد تقدم لهذا نظائر، وتمام البيان في هذا يظهر في أثناء الفصل.
وكل ما ذكرناه في الغيبة البعيدة، وهي عند أصحابنا الغيبة إلى مسافة القصر فصاعداً.
7905- ولو طلق الرجل امرأته ثلاثاً، فعادت وزعمت أن عدتها قد انقضت، وأنها نكحت وأصيبت، وطُلّقت واعتدت، وكان صدقُها ممكناً؛ فللرجل أن يعوّل على قولها. ولم يصر أحد من أصحابنا إلى إيجاب الاحتياط، وإنما ذلك التردد فيما يتعلق بالولي؛ فإن عماد أمره النظر، وسنذكر هذا الفصل الأخير مستقصىً في فروع النكاح إن شاء الله عز وجل.
7906- وإن غاب الولي الأقرب غيبة تقصر عن مسافة القصر، فإن كانت على مسافة العَدْوى-وهي مسافة يبتدىء الإنسان قطعها في صبيحة يوم ويؤوب إلى منزله، فيرجع قبل أن يَجُنَّ الليل- فإن كانت المسافة على هذا الحد، لم يزوّجها السلطان، بل يراجعُ الوليَّ.
وإن كانت المسافة فوق ذلك، ودون مسافة القصر، ففي المسألة وجهان:
أحدهما- أنه يراجع الولي، فإن السفر قصير.
والثاني: لا يراجعه؛ فإنا نُدبنا في الشرع إلى الابتدار إلى تزويج النساء من الأكفاء، وحقها واجب، وليس من حق الواجب أن يؤخر مع الطالب المستحِق.
وعلى هذا الوجه اختلف أصحابنا في مثل هذا في سماع شهادة الفروع مع غيبة الأصول إلى ما فوق المسافة التي وصفناها دون مسافة القصر. وكذلك اختلفوا في الاستعداء على الخصم على مثل هذه المسافة، ولا مطمع في كشف أحكام الشهادة والاستعداء هاهنا؛ فإن الكلام فيهما منتشرٌ، وسيأتي تفصيلهما في أدب القضاء والشهادات، إن شاء الله عز وجل.
فهذا بيان ما أردناه في السفر.
7907- وقد قدمنا ذكر المعاني التي تنافي أصلَ الولاية وفاقاً. فإذا اتصف بها الأقربون، وخرجوا عن منصب الولاية، فحكم خروجهم أن تثبت الولاية للبعيد، وكل ما لا ينافي أصل الولاية، ولكن يؤخر النظر، فهو معتبر بالسفر، ثم طول السفر يُثبت للسلطان حقَّ النيابة في التزويج، وإن أردنا سمينا نيابته ولاية؛ من حيث إنها تثبت قهرية، كما تقدم شرح ذلك عند ذكرنا قواعد الولايات، ولا تنتقل الولاية إلى البعيد، فإنها ثابتة للغائب، والسلطان نائب عنه.
وما لا يضاهي السفر الطويل ولا ينتهض مانعاً من النظر التام، فقد يكون كالسفر القصير، وفيه الخلاف والتفصيل الذي ذكرناه.
وهذه الجملة توضحها مسائل، نذكرها ونخرجها عليها.
7908- منها: أن الولي القريب إذا أغمي عليه، فإن كان غشيته من هَيْج المِرّة الصفراء، وكانت مدتها لا تدوم، فلا مبالاة بها، وستنجلي على قرب، ومن جملة ذلك الصَّرَع.
وإن كان الإغماء بحيث يدوم يوماً ويومين، فقد اختلف أئمتنا؛ فذهب المحققون منهم إلى أنه لا ينافي أصل الولاية؛ فإنه إلى زوال، أو إلى الإفضاء إلى الموت، وليس له أمدٌ يتمادى، بخلاف الجنون.
وذهب بعض الأصحاب إلى أن هذا ينزل منزلة الجنون، وهذا بعيد لا وجه له إلا ما سنشير إليه-إن شاء الله تعالى- عند ذكر تقطع الجنون والإفاقة.
فإن حكمنا بأن هذا الضرب من الإغماء ينافي الولاية، انتقلت الولاية إلى البعيد المستجمع للشرائط المرعية في الولاية.
وإن قلنا: إنه لا يزيل الولاية، فينبغي أن يُعتبر بطويل السفر وقصيره، فإن كانت مدته تبلغ مدة خروج من يخرج إلى الولي، لو قدّر غائباً في مسافة القصر ويعود على اعتياد واقتصاد في النهوض والعَوْد، فهذا على حد السفر الطويل، فلا يزوِّج البعيدُ، ويزوِّج القاضي، وإن كانت مدة الإغماء دون المدة التي ذكرناها في قطع مسافة القصر ذهاباً وإياباً، فالمعتبر فيه مسافة العدْوَى وما فوقها، ولا يخفى مع هذا التنبيه دَرْكُ محل الوفاق والخلاف.
وقد يعترض في هذا النظرِ أن الرجوع في مدة الإغماء إلى من؟ وهذا الاعتبار قبل انقضاء المدة، فلا وجه إلا الرجوع إلى قول أهل الخبرة، وذلك يختلف عندهم بنوع الإغماء والشخص المُغْمى عليه، وإنما تطول المدد في إغماء المُبَرْسم؛ فإن سبب اختلال العقل ورمٌ في الدماغ، والعقلُ يبقى على خبله ما بقي الورم، وقد يتمادى اليومين والثلاثة، هذا حُكم الإغماء.
7909- ومما يتصل بذلك الجنون إذا تقطّع، فكان الشخص يجن يوماً ويُفيق يوماً، أو كانت النوب أكثر من ذلك أو أقل، فشرح هذا يأتي في كتاب الجزية، إن شاء الله عز وجل، وفيه نجمع جملة ما ذكره الأصحاب في الطرق، ولكنا نذكر هاهنا ما فيه مقنع.
اختلف أصحابنا في نوبة الجنون: فذهب ذاهبون إلى أن الولاية تزول فيها، وتنتقل إلى البعيد، ومنهم من قال: إنها لا تؤثر في إزالة الولاية؛ فإن الجنون الحقيقي هو الذي يُطبق حتى لا يرجى زواله إلا على بُعد، فأما ما يطرأ ويزول على قرب أو على نُوَبٍ مضبوطة، فهو من فنّ الإغماء، وقد يُفضي الإغماء بالمغمى عليه إلى سقوط النطق والانتهاء إلى الهذيان. وذلك الذي وعدناه في الإغماء هذا أوان بيانه، فمن لم ير الجنون مزيلاً لأصل الولاية شبهه بالإغماء على ظاهر المذهب، ومن رأى الإغماء مزيلاً لأصل الولاية شبهه بالجنون المتقطع على ظاهر المذهب، فكل واحد من النوعين يحمل على الثاني.
وينتظم من جمعها أوجه: أحدها: أنهما يزيلان الولاية.
والثاني: أنهما لا يزيلانها.
والثالث: أن الجنون يزيل والإغماء لا يزيل، وهذا هو الصحيح.
ثم إن قلنا: الجنون لا يزيل الولاية، فهو كالغيبة، فلنقس مدته بمدّتها وفاقاً بوفاق وخلافاً بخلاف.
ويتفرع على هذا المنتهى أن زمان الإفاقة زمانُ الولاية، وهو بمثابة إياب المسافر، وزوال الغيبة.
وإن قلنا الجنون في غيبته مزيل الولاية، نظرنا في زمان الإفاقة، فإن لم يكن فيها شائبة من خبل، ومن ضرورة البقاء الذي وصفناه طول المدة، فتعود الولاية، وتنقطع عن البعيد بعد الانتقال إليه.
وإن كان في زمان الإفاقة آثار من الخبل يحتمل مثلها فيمن لا يعتريه الجنون، ويحمل على حدّةٍ وسوءِ خلق، فهل تعود الولاية والحالة هذه؟ أم تلتحق هذه المدة بالجنون؟ فيه اختلافٌ بين الأصحاب.
وحقيقة التردد أنّ من الأصحاب من لم يجعل ما سميناه جنوناً على الحقيقة، ومنهم من أثبته جنوناً، وأتبعه زمن الإفاقة في الصورة التي ذكرناها، ومنهم من أثبت الجنون في نوبته، وأثبت الإفاقة في نوبتها. وإن قلّت مدة الإفاقة، بحيث قد يتماسك في مثلها من يسمى مجنوناً مطبقاً مطلقاً، فذلك جنون، وإن قل زمان الهَيْج بحيث قد يطرأ مثله على اللبيب إذا تلظَّى غضباً، فذاك ليس بجنون، وهذه مرامز.
وسيأتي استقصاؤها في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى.
7910- فإن قيل: إذا لم تجعلوا الإغماء مزيلاً للولاية، وألحقتموه بالسفر، أوْ وَقَع الفرضُ في السفر وقصرت مدته؛ بحيث تزعمون أن الولي يراجَع، فلو ألحّت المرأة وقالت: التزويج حقِّي، فلا أرضى بتأخيره ساعةً من نهار، ونظرك أيها القاضي قائم مقام النظر المنقطع، فلا تؤخر تزويجي، فهل يجيبها إلى مرادها؟
قلنا: لا يجيبها إلى مرادها؛ فإن القاضي يقول: ليس لك إرهاقي إلى هذا الحد، لو لم يكن لك ولي أصلاً، إلى أن أفهم ما تقولين وأنظر فيما تطلبين.
والمدة التي قطع الأصحاب فيها بالتأخير لمراجعة الولي لو أخر في مثلها القاضي حيث لا ولي لها- لم يبعد؛ لنظرٍ وترديد رأي، فقد ذكرنا وجوهاً من الاحتياط غيرَ هذا، فإذا كانت لا تملك الإرهاق، حُملت على الصبر إلى المراجعة في التفصيل الذي ذكرناه.
فإن قيل: حيث يزوّج القاضي في غيبة القريب، فهلا قلتم: لو زوج القريب لم ينفذ منه، لاختلال نظره بسبب الغيبة؟ ولو قيل بهذا، لكان آمناً من ازدحام نكاحين! قلنا: هذا يفرض في الأب المُجْبر إذا غاب، وقوة شفقته مع غيبته تعادل نظرَ القاضي إن لم تزد عليه، فليس المصير إلى أن الولي لا يزوج لينفذ تزويج القاضي ما ولي من عكس ذلك، فليجر كلُّ شيء على أصله.
ثم إن فرض نكاحان لم يخف أمرهما، وقد تمهد طريق الاحتياط في صدر الفصل، فإنه إذا وكّل الأب من يزوج ابنته ولم يعيّن كفئاً، وصححنا التوكيل على هذا الوجه على ما سيأتي شرحه-إن شاء الله تعالى- من بعدُ، فلو غاب الوكيل غيبة بعيدة، فالمذهب أنه على الوكالة، وإن لم يكن ذا قرابة تثير شفقة؛ فإذاً الأصول لا تخرم ولا تصدم بالخيالات البعيدة.
7911- ومما يتعلق بمسائل الفصل؛ إحرام الولي، وسنذكر أن المحرم لا يَنكِح ولا يُنكِح، فإذا أحرم الولي بالحج أو العمرة، امتنع عليه الأنكاح والتزويج.
ثم ظهر اختلاف أصحابنا في أن الإحرام هل يُخرج الولي عن الولاية أصلاً؟ فمنهم من قال: يخرج بالإحرام عن كونه ولياً، كما لو جن؛ فإن الإحرام يمنع شرعاً من تعاطي التزويج مع كمال المحرم في عقله واستجماعه شرائط الاستقلال، ولفظ النكاح يتفق صدَرُه عنه، ولو فرض ذلك، لم يتعلق به حكم، فدل أن الشرع في زمن الإحرام أخرجه عن رتبة المزوِّجين بالكلية، فاقتضى ذلك انتقالَ الولاية إلى البعيد. وإذا قيل لهذا الإنسان: إن كان الإحرام بالحج قد يتطاول زمانه، فالإحرام بالعمرة ينتجز في لحظة، وهو إلى اختيار المحرم، فكيف يتجه خروجه عن كونه ولياً؟ فإذا ثبت كون الإحرام منافياً للتزويج بالكلية، وثبت أن المحرم مسلوب العبارة كالصبي، فلا نظر إلى قصر الزمان وطوله. والدليل عليه أن الصبي المميِّز لو بقي إلى أمد بلوغه ساعة، فليس هو وليّاً، وإن كان الباقي من أمد صباه لحظة، هذا وجه.
والوجه الثاني- أن الإحرام لا يخرجه عن أصل الولاية؛ لأنه لم يسلبه عقله ورشده ونظره، غير أنه لا يتأتى منه إنشاء العقد، وهذا القائل يجعل الإحرام بمثابة الغيبة، وقد تمهد تفصيلها، فنجعل طول الزمان في الإحرام كطول المسافة، ثم نطبّق الخلاف على الخلاف والوفاق على الوفاق.
7912- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أنا وإن حكمنا بأن المحرم ولي، ولا يصحّ منه التزويج، كما لا يزوّج بنفسه لا يوكّل وكيلاً، فلو وكل وكيلاً بالتزويج، لم يصحّ، ولم ينفذ إنكاح وكيله. فإنا ذكرنا أن المحرم مسلوب العبارة في عقد لم يتأت منه الاستنابة فيه.
ولو كان وكَّل وكيلاً بالتزويج، ثم أحرم الموكّل؛ فقد قال الأئمة: ينعزل وكيله بالإحرام، حتى إذا تحلل من إحرامه، لم يصح من الوكيل التزويج بحكم التوكيل المتقدم على الإحرام، وإذا أحرم الوكيل، لم يزوِّج في حالة إحرامه ويُقضَى بانعزاله، فإذا تحلل، فليس وكيلاً.
ونحن إذا جعلنا الإحرام غير منافٍ لأصل الولاية، فكأنا ألحقنا الإحرام بالإغماء، وقد ذكرنا في كتاب الوكالة تردد الأصحاب في أن الإغماء إذا طرأ على الموكِّل أو على الوكيل، فهل يضمن انقطاعَ الوكالة وانعزالَ الوكيل؟ فلا يبعد خروج الإحرام على ذلك الخلاف في جانب الموكّل والوكيل جميعاً.
وقد ذكر الصيدلاني في مجموعه وجهين محكيين عن الأصحاب؛ في أن طريان الإحرام في الموكل والوكيل، هل يوجب الانعزال؟ ثم قال: إذا أحرم الموكِّل، وقلنا: لا ينعزل الوكيل، فإنه لا يزوج ما دام موكِّله محرماً؛ فإنه يستحيل أن يتصرف الوكيل عن موكله، ولكن إذا حلَّ الموكل، فيزوِّج الوكيل حينئذ.
7913- ومما نذكره في مقاصد الفصل السكر إذا طرأ. فإن قلنا: الفاسق ليس وليّاً، فإذا فسق بالشرب، خرج عن كونه وليّاً. وإن قلنا: الفاسقُ وليّ، رجع النظر إلى تصرفات السكران في حالة سكره؛ قال الأصحاب: إن قلنا: السكران كالصاحي والفسق لا ينافي، فقد أطلق الأصحاب أنه يصح منه التزويج.
وذكر شيخي فيه مستدرَكاً حسناً، فقال: السُّكر إن لم ينافِ التصرفَ، فهو ينافي الرأي والنظر، وتصرف الولي مربوط بالنظر، فيستحيل أن ينفذ تصرفه على حكم النظر ولا نظر له. وهذا يضاهي مذهباً لبعض الأصحاب في أن المرتد إذا سكر، فلا يُقبل عوْده إلى الإسلام في حالة سكره؛ فإنه لا يعقِل ما يقول. وهذا فيه نظر على حال، كما سيأتي شرحه في موضعه، إن شاء الله تعالى.
فأما نظره وهو في سكره الطافح غير متصور، وهذا إذا قلنا: تصرف السكران نافذ. فأما إذا قلنا: لا ينفذ تصرفه، فالسكر إغماء، وقد مضى تفصيل القول في الإغماء بما فيه مقنع وبلاغ.
فقد بانت المسائل، واتضح خروجها على الأصول التي مهّدناها، وتميّز ما يقطع الولايةَ عما يقطع النظر، وبان أن ما يقطع الولاية ينقلها إلى البعيد، وما يقطع النظر ينقسم القول فيه إلى ما يطول، وإلى ما يقصر، وقد انتهى الغرض من الفصل تأصيلاً وتفصيلاً.
فصل:
قال: "ووكيل الولي يقوم مقامه... إلى آخره".
7914- مضمون الفصل: القول في توكيل الولي، وما يصح من ذلك، وما يفسد منه، و القول في صفة إذن المرأة، وبيان صحيحه وفاسده، وذكر مقتضاه.
فأما التوكيل، فالولي لا يخلو إما أن يكون مجبِراً، وإما أن يكون غير مجبِر، فأما الولي المجبر، فهو الأب والجد، فلا خلاف أنه يصحّ أن يوكِّل غيره بالتزويج، فإنه ذو ولاية على التحقيق، يثبت له الاستقلال، فصار كالمالك المتصرف في حق نفسه، وقد تقدم القول فيمن يصلح للوكالة وفيمن لا يصلح لها، في الأصل المشتمل على أن الفسق هل ينافي الولاية؟ ثم هل يجوز للولي أن يطلق الوكالة ويفوّضها إلى الوكيل من غير أن يعيّن زوجاً، أم لابد وأن يختار الوليُّ الزوجَ، فيعيّنه للوكيل؟ في المسألة قولان:
أحدهما: وهو الذي نص عليه في تحريم الجمع أن التوكيل يصح مع الإطلاق، قياساً على التوكيل في المعاملات. فإنه لا يفتقر إلى ذكر مقدار الثمن، ولا إلى تعيين من يعامله الوكيل، ولكن تصرف الوكيل ينفذ بالغبطة ورعاية النظر، فليكن الأمر كذلك في التوكيل بالنكاح.
والقول الثاني- أنه لا يصح التوكيل من غير تعيين الخاطب، نصّ عليه في الإملاء.
ووجهه؛ أن الغرض الأظهر في تعيين الخاطب، وهذا مفوض شرعاً إلى الولي المتصف بكمال الشفقة. فلا يجوز أن يُحِلّ فيه أجنبياً محل نفسه، ويفوض إليه ما هو منوط بشفقة الولاة، بل حقه أن ينظر ويعيّن الخاطب، وينيب الوكيلَ مناب نفسه في العبارة عن العقد فحسب، وليس ذلك كالتوكيل بالبيع؛ فإن الغرض المطلوب منه البيع بثمن المثل، وليس يخفى درْك مقداره، ولهذا يستفاد التصرف في المال بالوصاية، ولا يستفاد بها التصرف في البضع.
هذا إذا كان الولي مجبِراً على النكاح.
7915- فأما إذا لم يكن مجبِراً، وكان يفتقر إنكاحُه المرأةَ إلى استئذانها؛ فنقول: إذا أذنت المرأة وعيّنت كفئاً، صحّ إذنها. وإن أطلقت الإذن، وفوّضت طلبَ الكفء إلى الولي؛ ففي صحة الإذن على هذا الوجه، وجهان مرتبان على القولين في توكيل الولي المجبِر. فإن قلنا: يصح التوكيل مع الإطلاق، فلأن يصح الإذن مع الإطلاق أولى، والفرق أن المرأة وإن أطلقت الإذن، فهي مفوِّضة أمرها إلى وليها، وهو على حظٍّ صالح من القرابة ذابٌّ عن نفسه في طلب تبرئة النسب والحسب عما يَشينه، وليس كذلك التفويض إلى الأجنبي.
ثم إذا جوّزنا الإذن المطلق؛ فإذا قالت لوليها: "زوّجني"، تقيّد ذلك بالتزويج من الكفء، كما إذا وكل مالكُ المتاع إنساناً، فالتوكيل المطلق يتقيّد برعاية المصلحة في البيع بثمن المثل نقداً.
وإن قالت المرأة لوليها: زوّجني ممن شئت، كفئاً كان أو غير كفء؛ فيتخيّر الوليّ حينئذ؛ فإن التزويج من غير كفء جائزٌ شرعاً، والحق في ذلك لا يعدو المرأةَ والوليَّ. وهذا فيه إذا كان الولي واحداً. فإن كان الأولياء جمعاً، وقد استجيزوا، فقد سبق التفصيل فيه.
ولو قالت: "زوّجني من شئت" ولم تتعرض لذكر الكفاءة ونقيضها، هل يجوز للولي-والحالة هذه- أن يزوّجها من غير كفء؟ فعلى وجهين: أظهرهما- أنه يجوز؛ فإن ظاهر قولها "ممن شئت" مشعر بهذا. وهو كما لو قال للوكيل بالبيع: "بع متاعي هذا بما شئت"، فللوكيل-إذا جرى التوكيل كذلك- أن يبيع بما عزّ وهان.
والوجه الثاني- أن الولي لا يضعها في غير كفء، إذا لم تقيد إذنها بتزويج ترك الكفاءة؛ فإن قولها "ممن شئت" يحتمل التفويض المطلق ويحتمل التفويض مع رعاية الكفاءة، فقولها "ممن شئت" نحمله على تفويض تخيّر الزوج. وهذا من أهم ما يراعى في باب النكاح، وقول الرجل لوكيله "بما شئت" لا يحتمل إلا تفويضه مقدارَ الثمن فحسب، وقد يدخل تحته البيع بالعُروض. وإذا وجدنا في الإذن في النكاح محملاً يحمل عليه التفويض رعاية الكفاءة، فيتعين الحمل عليه رعايةً للاحتياط في الأبضاع.
ومن لطيف القول في ذلك أنها لو عيّنت زوجاً، ولم يكن كفئاً، ورضي الولي بالحطيطة؛ فقد ذكرنا أن النكاح يصح، وإذا فوضت إلى الولي، وتعرضت لتجويز ترك الكفاءة صريحاً، فلو حملنا قولها "ممن شئت" على ذلك، فهاهنا نظر على المتأمل، وذلك أنا ذكرنا وجهين في أنه هل يشترط في الإذن تعيين الخاطب؟ فليت شعري! ماذا نقول إذا فوّضت تفويضاً يقتضي إسقاط الكفاءة؟ ظاهر ما نقله الأصحاب؛ طرد الخلاف في اشتراط تعيين الخاطب، كما تقدم، وإن رضيت المرأة بترك الكفاءة. والقياسُ عندنا أن الخلاف إنما يجري حيث يجب رعاية الكفاءة، فأما إذا رضيت بمن يكون، وأسقطت اعتبار الكفاءة؛ فالوجه-والحالة هذه- أن يسقط اعتبار التعيين أيضاًً؛ فإنها بإذنها رفعت طلب الحظ، وإنما يليق التعيين والقول به بالمحل الذي يجب فيه طلب الحظ في الآجل.
ثم يقع الكلام وراءه في تعيين الكفء، وما ذكرناه وإن كان يظهر بعض الظهور، فإجراء الخلاف في اشتراط الحظ محتمل، والعلم عند الله تعالى. هذا كله تفصيل القول في إذنها المطلق والمقيد.
7916- والكلام بعده في التوكيل، فإذا أذنت لوليها في التزويج، وأذنت له في أن يوكّل، فيصح من الولي التوكيل، فإن الاستنابة جائزة في هذه القاعدة. وقد اجتمع عليها المرأة والولي، وهو بمثابة ما لو وكّل الرجل وكيلاً بالبيع، وأذن له أن يوكل إن أراد التوكيل، فيسوغ التوكيل وفاقاً.
ولو أذنت المرأة لوليها في التزويج، ولم تتعرض للتوكيل أمراً أو نهياً، وإثباتاً أو نفياً، ففي جواز التوكيل-والأمر كذلك- وجهان مشهوران، أحدهما- أنه لا يجوز، كما لو وكل من يبيع متاعه، فإن ذلك الوكيل لو أراد أن يوكل من غير إذنٍ من الموكل، لم يجز له ذلك، إذا تعين التصرف. والولي إذا كان يحتاج إلى إذن المرأة، ولا يستقل بالتصرف، نازلٌ منزلة الوكيل، فإذا لم يجز للوكيل أن يوكل في التصرف المعيّن، فليكن الولي بمثابته.
والوجه الثاني- أنه يجوز للولي أن يوكل، بخلاف الوكيل، فإن الوكيل يتصرف بالإذن المجرد والأمر المحض، لا معتمد لتصرفه غيرُه. فإذا تعلق الإذن على الاختصاص، لم يكن له أن يقيم غيره مقام نفسه. والوليّ وإن كان يفتقر إلى إذن المرأة، فمعتمد تصرفه كونه وليّاً، وله في تعاطي العقد حظٌّ، فساغ له التوكيل، كما يسوغ للمالك التوكيل، فينبغي أن يصير عند الإذن بمثابة الولي المجبِر، وقد تقدم أن الولي المجبر يوكِّل.
ولا خلاف أن المرأة لو أذنت بالتزويج لوليها، وصرحت بالنهي عن التوكيل، لم يكن له أن يوكل. والسبب فيه: أنا كما نرعى إذنَها في أصل التزويج، نرعى إطلاقها وتقييدها، فإذا نهت عن التوكيل، فإذنها مختص بتعاطي الولي، فيثبت على هذا الوجه لا غير.
ولو قالت للولي: أذنت لك أن توكل بتزويجي، وليس لك في نفسك أن تتعاطى التزويج؛ فالذي ذهب إليه الأئمة أن الإذن على هذا الوجه لا يصح، فإنها منعت الوليّ من التزويج، وردّت التزويج إلى الوكيل الأجنبي، فكان ذلك بمثابة ما لو فوضت تزويجها ابتداء إلى أجنبي، فوكَّله. وهذا لا مساغ له.
ثم إذا وكّل الولي بأذن المرأة وبغير إذنها، فهل يشترط تعيين الخاطب؟ هذا ينبني على الإذن للولي؛ فإن شرطنا فيه التقيّد، بتعيين الزوج، فالتوكيل مطلقاً لا يصح، وكذلك إن لم نشترط تقييد الإذن، ولكن اتفق منها التقييد بالتعيين، فيتعين ذكرُ ذلك المعيَّن للوكيل؛ فإن التوكيل لو وقع مطلقاً، فلا يهتدي الوكيل إلى الشخص المطلوب المعين.
ولو جرى التوكيل مطلقاً، وقد عيّنت المرأة الزوج، فإن زوّج الوكيل غير ذلك المعيّن، لم يصحّ.
وإن اتفق منه التزويج منه؛ فالأظهر عندنا: أن تزويج الوكيل لا يصحّ على هذا الوجه؛ فإنه وإن صادف المعيَّن وفاقاً، فصيغة التفويض فاسدة في وضعها؛ فإن التفويض المطلق والمطلوب معين فاسد، وإذا فسد التفويض، لم يترتب عليه صحة التصرف.
وهذا بمثابة ما لو قال وليّ الطفل للوكيل: بع هذا العبد من مال الطفل بما عزّ وهان، فالتوكيل باطل على هذا الوجه. ولكن لو اتفق منه البيع على وفق الغبطة؛ فالظاهر عندنا أن البيع لا يصح، لما أشرنا إليه من فساد صيغة التوكيل. والله أعلم.
7917- ثم إن الأصحاب تكلموا بعد بيان ما ذكرناه في أحكامٍ تتعلق بالوكالة في النكاح، فقالوا: إذا كان الوكيل من جانب القابل الخاطب، فهو جائز، كما يجوز التوكيل في جانب الولي المزوِّج. ثم إذا أراد الولي التزويج والقابل وكيلٌ، فلا مخاطبة بينه وبين الوكيل أصلاً. وسبيله أن يقول: زوجت فلانة من فلان بكذا، فيذكر الخاطبَ الحاضرَ أو الغائبَ، ولا يقول للوكيل: زوّجت فلانة منك؛ فإنه لو قال ذلك كان مزوجاً هذا القابل، ولو قبل المخاطب-والأمر على ما وصفناه- انعقد النكاح له.
ولو قال: نويت بالعقد الذي قبلتُه موكِّلي؛ فلا تعويل على النية في الباب، وليس كما لو وكّل الرجل وكيلاً حتى يشتري له شيئاً، فإن صاحب المتاع يخاطب الوكيل، ويقول: بعت منك. والوكيل يقول: اشتريتُ، وينوي موكِّله، فينصرف الشراء إليه بالنية، والفرق بين البابين في ذلك أن المشتَرَى قابلٌ للنقل بعد تقدير حصول الملك فيه؛ فإن من ملك شيئاً أمكنه أن يقيم غيره مقام نفسه بجهة من الجهات، ومن تزوج امرأة لم يتصور منه أن يُحِلَّ غيرَه محل نفسه، فإذا كان الملك في المشترَى-على الجملة- قابلاً للنقل، وقول الوكيل: اشتريت، صالحٌ ليحمل على إضافة صورة العقد إلى النفس، وصرف مقصوده إلى الموكِّل، والعقد عقد عهدة، وموجب تعليق العهدة بمن يتعاطى القبول، وشرط ذلك أن يكون للعقد إضافة إلى الملتزم، فينتظم من مجموع ذلك جواز إضافة العقد إلى الوكيل، وامتناعُ ذلك في النكاح.
وقد ذكرنا في كتاب الوكالة أن البيع لو عقد مضافاً إلى الموكِّل بالشراء على صيغته، وعلى النحو الذي شرطناه في النكاح، فكيف السبيل فيه؛ فلا حاجة إلى إعادته الآن.
7918- ومما يليق بغرضنا في النكاح؛ أن المزوّج إذا أضاف نكاح المرأة إلى الخاطب الموكِّل كما يجب، فقال وكيل الخاطب: "قبلت"، ولم يُضف قبولَه إلى موكِّله، ولم يزد على قوله "قبلت"؛ فهذا يترتب على أصلٍ سنذكره في ألفاظ عقد النكاح، إن شاء الله عز وجل.
وهو أن الرجل إذا خاطب الخاطب بالتزويج، فقال: زوّجتك ابنتي فلانة، فقال الخاطب: "قبلتُ"، ولم يقل: "قبلتُها" ولا "قبلت نكاحها"، فقد نقول: لا ينعقد النكاح، ما لم يتعرض القابل لذكر النكاح، وذكر المنكوحة. وقد نقول يصح النكاح. والتعويل في توجيه ذلك على ابتناء القول على الإيجاب، من حيث إنه جواب له. ومن رتّب جوابه على خطاب من خاطبه، كان الخطاب في حكم المعاد في الجواب. وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل.
فنقول في الوكيل: إذا قال: "قبلت"، وقد قال الموجِب: "زوجت فلانةً فلاناً"، وذكر الخاطبَ؛ إن قلنا: لو جرى العقد بين الزوج والخاطب، لم ينعقد النكاح بقول الخاطب "قبلت"، فلا شك أنه لا ينعقد بقول الوكيل على هذا الوجه أيضاًً. وإن قلنا: إذا قال الخاطب: "قبلت"، كفى، فلو قال الوكيل: "قبلت"؛ ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن النكاح يصح للموكل، تمسكاً بتنزيل الجواب على حسب الخطاب، وقد أضاف المزوِّج إلى الموكِّل، فكفت إضافته، وابتنى قبول الوكيل عليه، وتُرك على موجب الإضافة.
والوجه الثاني- أن النكاح لا يصحّ؛ فإن القابل ليس مخاطَباً حتى يكون قبوله مبنياً على حسبه، وإنما المسمَّى في النكاح الموكِّل، فليكن كلامُ الوكيل مستقلاً على ما تقتضيه سفارة النكاح. فإذا لم يكن مستقلاً، لم يصح العقد. وبهذا ينفصل قبول الخاطِب بنفسه عن المزوِّج، فإنهما متخاطبان، ولا يمتنع أن يبتني جواب المجيب منهما على خطاب المخاطب.
7919- وبنى أئمتنا على ما ذكرناه من وجوب إضافة النكاح إلى الموكِّل الخاطب مسألةً في الأيمان، لم يقصدوها بعينها، وإنما راموا بإيرادها ما يثبت الغرض الحُكمي فيما نحن فيه، فقالوا: إذا حلف الرجل لا يزوج ابنته فلاناً، وسمى الوكيل من جهة الخاطب، ثم جرى العقد على صيغة السفارة، كما تقتضيه قضية النكاح، فلا يحنث المزوِّج؛ فإنه حلف لا يزوج الوكيل، ولم يزوجه، ولا خاطبه، وإنما تعرض لموكِّله وسماه في إضافة النكاح إليه.
وبمثله لو قال: والله لا أبيع عبدي من زيد، ثم إن زيداً توكل عن عمرو في ذلك البيع، على صيغة التخاطب من غير إضافة إلى الموكِّل، فيحنث الحالف؛ لأنه كان حلف لا يبيع من زيد، فقد باع منه؛ إذ قال: "بعت منك". وقال زيد: "اشتريت" أو "قبلت". والوكيل بالتزويج يقول: "زوجت فلانة منك"، إن كان يخاطب الخاطب، ولا حاجة به إلى إضافة التزويج إلى استفادته من الموكل، بل يصحّ أن يقول: "زوجت فلانة منك"؛ فإنّ ذكر الجهات التي منها استفادة التصرف لا حاجة إليه؛ إذ لو احتاج الوكيل إلى إضافة تزويجه إلى جهة الوكالة، لاحتاج الولي إلى إضافته إلى جهة الولاية، ولاحتاج المالك إلى إضافته إلى جهة الملك، ولا حاجة إلى شيء من هذا.
ولو قال الوكيل بالتزويج: زوّجَ موكلي فلانٌ ابنته منك؛ كان ذلك خَلْفاً من الكلام غيرَ منتظم. فالوكيل في جانب التزويج سفير، مضيف إلى الموكل، فلا جَرَم نقول: لو حلف الرجل لا يزوِّج امرأة ثم زوّجها وكيلاً، حنث.
ولو قال الخاطب: والله لا أتزوج من فلان، فتزوج وفلان وكيل بالتزويج، فإنه يحنث؛ فإن الوكيل في جانب التزويج مزوِّجٌ لى الحقيقة، والوكيل في جانب التزوج ليس متزوجاً على التحقيق، ولكنه معرب عن الغير، مضيف إليه، سفير عنه. ولو قال: والله لا أتزوج، فانتهض وكيلاً في التزوج لغيره، لم يحنث، ولو قال: والله لا أتزوج لفلان، فتزوج له وكيلاً عنه، حنث. فإن هذا معنى التزوج له.
فصل:
قال: "وولي الكافرة كافر... إلى آخره".
7920- الكافر يلي الكافرة بالقرابة والولاء، هذا هو المذهب المبتوت، والنص مصرِّحٌ به. وذهب بعض أئمة الخلاف إلى أن الكافر لا يزوج الكافرة، وإنما ارتكب هؤلاء ذلك من عسر الفرق عليهم بين الشهادة والولاية، وهذا ليس معدوداً من المذهب، ولم يصر إليه أحد من المعتبرين في المذهب، إلا الحليمي. وهو رجل عظيم القدر، لا يحيط بكنه علمه إلا غوّاص. والنص عنده محمول على ترك التعرّض للكفار إذا زوّجوا بناتهم بين أظهرهم.
ثم يقول الحليمي: إذا أراد المسلم التزوج بيهودية أو نصرانية؛ فلا سبيل له إلى قبول النكاح من أبيها، وإنما يقبل نكاحها من السلطان؛ فإن الولاية العامة تشمل المسلمين والكفار، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
ويلزمه أن يقول: إذا زوّج الكافر ابنته من كافر، ثم ارتفع الزوجان إلينا متنازعَيْن في نفقة أو مهر، فإنا لا نقضي بموجب النكاح بينهما، كما لا نقضي لمن يتلف خمراً منهم على صاحبه بقيمتها، ولا بمثلها، وإن كنا لا نتعرض لهم إذا تعاملوا عليها، وهذا خرمٌ عظيم يقرِّب صاحبه من التهجم على الإجماع، وتضطرب به أصول نكاح المشركات. فلا وجه إذن إلا القطع بأن الكافر يزوج الكافرة.
والمشكل فيه أنا إذا قلنا: الفاسق يلي التزويج، فينتظم الغرض في الكافر. وإذا قلنا لا يلي الفاسق التزويج؛ فلو كان الكافر فاسقاً في دينه، لم يزوِّج ولا يتبين أنه عدلٌ في دينه-مع أنا لا نطّلع على شرائعهم- إلا من جهتهم. ونحن لا نثق بإخبارهم عن قواعد شرائعهم، فيغمض مُدرَك هذا، ويعسر بسببه تزويج الكافر، إلا أن يكون فينا مطلعٌ على شرعهم، أو كان قد أسلم منهم من هو عدل رضاً فينا، وهو خبير بشرع الكفار.
فإن لم نجد شيئاًً من ذلك، ومنعنا تزويج الفاسق، لم يخرّج تزويج الكافر المشكل الحال إلا على قاعدة؛ وهي: أن المستور يجوز أن يكون وليّاً، وتصرفاته تنفذ من غير بحث عن عدالته. وهذا متفق عليه بين الأصحاب، ويشهد له إطباق الخلق قاطبة على معاملة أولياء الأطفال، وإن لم تظهر عدالتهم في مقام التزكية، وإن كان ادعاء الوفاق في تزويج الفاسق يُحوج مدّعيه إلى تقريب، فما ذكرناه في المستور لا يأباه إلا جحود. فينبني نكاح الكافر على أنه مستور في دينه، ويخرج منه أنه لا يتبين فسقه في دينه إلا بقوله وإقراره على نفسه.
7921- والكافر لا يزوج ابنته المسلمة؛ فإن اختلاف الدين يقطع العصمة والموالاة، وكذلك المسلم لا يزوج ابنته الكافرة، والسلطان يزوج الكوافر والمسلمات في منازل تزويج السلاطين.
ولو أراد المسلم أن يتزوج كافرة، ولم يكن لها ولي خاص، ولم يكن بذلك القطر والٍ من المسلمين، فهل يجوز قبول نكاحها من حاكم الكفار وقاضيهم؟ ما كان يقطع به شيخي: أنه لا يَقبل نكاحها من قاضيهم؛ فإن قاضيهم لا ينفذُ شيء من أحكامه لنا ولا علينا، ولا نقبل كتابه في الحكومات قبولَنا كتُب القضاة.
وفي كلام صاحب التقريب إشارة إلى أنا نقبل النكاح من قاضيهم. وهذا كلام مضطرب لا تعويل عليه. وسيأتي شرح القول في أحكامهم في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل.
7922- والمسلم لو أراد أن يزوج أمته الكافرة؛ فالقول في ذلك يبتني على أن الكافر هل يستبيح نكاح الأمة الكافرة، حتى نقضي له باستباحتها؟ والعبد المسلم هل يحل له نكاح الأمة الكتابية؟ فيه خلاف، سيأتي مشروحاً من بعد، إن شاء الله تعالى. ولكنا نكتفي الآن بحكاية تبين الغرض.
ظاهر النص أن الأمة الكتابية لا يحل نكاحها لأحدٍ، وحُكي عن أبي الحسن الماسَرْجِسي أنه قال: كنت عند أبي علي بن أبي هريرة، فقال: الأمة الكافرة يحل للمسلم إنكاحها، وذكر هذا الفصل من المختصر. فقلت: كيف يزوّجها، وهي لا تحل لمسلم؟ ومن لا تحل للمسلمين لكفرها، لم تحل للكافر، كالمرتدة والوثنية، فقال: أتستدرك على المختصر ما لم يستدركه أحد قبلك؟ فقلت: إني أرى من يفعل ذلك: أُعرِّض به، فسكتَ. ثم خرج من الغد، فقال: وجدت للشافعي أنها تحل للكافر، فقلت: كيف الوجه؟ قال: نجعل في المسألة قولين، في أنها هل تحل للكافر؟
وألحق أصحابنا العبدَ المسلم بالحر الكافر، وأجرَوْا الخلاف في أنها هل تحل للعبد المسلم؟ وسأذكر أصل القولين والوجهين، إذا انتهينا إلى نكاح الإماء، ومقدار غرضنا الآن ذكر الخلاف.
فإن قلنا: الأمة الكافرة لا تحل لكافر ولا لعبد مسلم، فلا يتصور من سيدها المسلم تزويجها.
وإن قلنا: إنها تحل للحر الكافر والعبد المسلم، فالسيد هل يزوج أمته الكافرة على ذلك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يزوجها لاختلاف الدين، كما لا يزوج الأب المسلم ابنته الكافرة.
والثاني: أنه يزوج الأمة الكافرة، لأن تزويجه مستفاد من ملكه، وحق الملك يسلِّط المالك على التصرف في المملوك. والقائل الأول يتلقى منعَ التزويج من تشبيه تزويج أمته بتزويج الأولياء، وعلى هذا يخرج اختلاف الأصحاب في أن السيد الفاسق، هل يزوج أمته؟ إذا فرّعنا على أن الفاسق لا يلي التزويج، فهذا التردد مأخوذ من أصلٍ سيأتي، إن شاء الله عز وجل وهو أن الأمَة هل يثبت لها حقٌّ في التزويج؟ وقد أشرنا إلى طرف من هذا المنتهى؛ إذ حكينا الخلاف في أنها هل تجبر مولاها على التزويج؟ وسنذكر حقيقة ذلك في نكاح الأمَة، إن شاء الله تعالى.
7923- ولو ملك الرجل أمَة مجوسية، فلا شك أنه لا يستبيح وطأها بملك اليمين، فإذا جوزنا تزويجها من حر مجوسي، فهل للمسلم تزويجها منه؟ فعلى وجهين مترتبين على الوجهين المقدّمين في تزويج الأمة الكتابية؟ وهذه الصورة الأخيرة رآها الأصحاب أولى بالمنع، واعتلّوا بأن السيد لا يستحل وطأها، فقد اجتمع فيها مخالفة دين السيد، وكونُها محرمة عليه. وهذا الترجيح لا فقه فيه؛ فإنا إنما نجوز للسيد تزويج أمته بحق الملك، وهو مالك لبضع الأمة المجوسية، ولا حاصل للتعلّق بتحريمها عليه؛ فإن جواز الإنكاح لا يتلقى من إحلال المنْكِح غيرَه محل نفسه في الحِلّ؛ إذ الأصل على مناقضة هذا. والزوج المستحل لزوجته لا يُحلها لغيره بعقد نكاح، كما يكري الدار المكتراة.
وكان شيخي يقول: من ملك أخته من الرضاع أو النسب، ملك تزويجها، وجهاً واحداً. وإن كان لا يستحل وطأها. وهذا حسن متجه. وقد رأيت لبعض الأصحاب تشبيباً بمنع ذلك. وهذا لا يعتد به.
7924- والكافر إذا ملك أمةً مسلمة، حيث يتصور ذلك؛ فلو أراد تزويجها، كان تزويج الكافر المسلمة بمثابة تزويج المسلم الأمة المجوسية إذا جوّزنا نكاحها للمجوسي؛ فإن المسلمة لا تحل للكافر، كما لا تحل المجوسية للمسلم.
7925- وإذا ملك المسلم عبداً كافراً، ورأينا للسيد أن يجبر عبده على النكاح، فهل يُجبر المسلم عبده الكافر؟ فعلى الوجهين المتقدمين في أن اختلاف الدين هل يمنع التزويج بملك اليمين؟ وإن لم نر الإجبار، فليس للعبد أن ينفرد بنفسه في التزويج.
وهل يتزوج بإذن المولى؟ والتفريع على أن اختلاف الدين يمنع حق التزويج بملك اليمين، الذي يقتضيه الرأي عندنا أنه يتزوج بإذنه، ويحمل ذلك على أنه بإذنه أسقط حق نفسه، فاستقل العبد ناكحاً. فليتأمل الناظر ذلك.
وهذا يعضده استشهاد مقصود في نفسه، وهو شاهد صدق فيما نحن فيه، وذلك أن المرأة لو ملكت عبداً، فله أن يتزوّج بإذنها، وإن لم تكن من أهل ولاية التزويج.
ولا نقول: عليه أن يستأذن وليها، وإن كنا نرى أن تزويج إمائها مفوّض إلى أوليائها، فدل ذلك على أن تزوج العبد بإذنٍ مبني على أن النكاح حق العبد على التمحض، وإذن السيد تصرف في محض الملك، فليُفهم ذلك؛ فإنه لطيف.
فصل:
قال: "ولو قالت: أذنتُ في فلان، فأيّ وُلاتي زوّجني... إلى آخره".
7926- فهذه مسألة منعوتة في المذهب، تواصفها نقلتها، وما رأوه مشكلاً منها لا إشكال فيه؛ وإنما الغموض فيما أغفلوه لوضوحه عندهم، أو لإعراضهم.
ونحن نسرد مقالات الأصحاب في أركان المسألة، ونعقب كل ركن بما يحل مشكله، ويبين معضلَه؛ فنصور المسألة فيه.
7927- إذا كان للمرأة مثلاً وليّان في درجة واحدة، وكانت المرأة مستأذَنة؛ فإنه لا يتصوّر اجتماع مجبِرَيْن، إذ لا مجبر إلا الأب والجد، وإذا اجتمعا؛ فالولي منهما أقربهما، وليقع التفريع على أنه يصح من المرأة الإذن في التزويج من غير أن تعيق زوجاً، فإذا قالت لوليَّيْها: يزوجني من شاء منكما كفئاً أو غير كفءٍ فإذا ثبت الإذن في حق كل واحد منهما، فاتفق أنهما زوّجاها من زوجين، ولم يشعر أحدهما بصنيع الآخر؛ فالركن الأول في المسألة-بعد تصويرها- في بيان الحكم في التقاسيم، وذلك ينقسم إلى ما يشكل، وإلى ما لا يشكل. فأما إذا لم تشكل الواقعة، فلا يخلو؛ إما أن يقع العقدان معاً، أو يتقدم أحدهما، فإن وقعا معاً، لم ينعقد واحد منهما؛ إذ لا سبيل إلى اجتماع العقدين، وليس أحدهما أولى بالصحة أو الفساد، فالوجه أن يتدافعا. وهذه بمثابة قبول نكاح أختين في عُقدةٍ.
فأما إذا تقدم أحد العقدين والكلام مفروض فيه إذا تعيّن ولم يشكل، فالصحيح العقد المتقدم. فلو اتفق من الزوج الثاني دخولٌ، وكان على ظن أنه المتقدم، أو لا عقد إلا عقده، فالوطء الجاري وطء شبهة. والصحيح العقد المتقدم. وقد قصد الشافعي بذكر ذلك-على وضوحه- الردّ على مالك؛ فإنه يقول: إذا جرى الوطء في النكاح الثاني، على نحو ما صورناه، فهو الصحيح.
هذا قولنا فيه إذا جرى العقدان، ولم يلتبس الحال.
7928- فأما إذا أشكل الأمر؛ فالإشكال يقع من وجهين؛ أحدهما- أن لا يعهد الإشكال إلا قائماً من أول الأمر.
والثاني: أن يكون الأمر بيّناً أولاً، ثم يطرأ الأشكال من بعدُ.
فأما إذا اقترن الأشكال؛ فإنه يقع من وجهين:
أحدهما: ألاّ ندري أن العقدين وقعا معاً، أو تقدم أحدهما على الثاني؟ فإن كان الإشكال على هذا الوجه، قال الشيخ القفال-فيما حكاه الصيدلاني-: النكاحان مفسوخان. قال الصيدلاني: الوجه عندي أن يقال: لا ينفسخ حتى يفسخ القاضي، لاحتمال أن أحدهما صحيح سابق، وإنما نعلم ارتفاع النكاح إذا فسخ القاضي.
وحقيقة هذا الفصل يستدعي أمرين، أحدهما- التأنق في التصوير، فليقع هذا الإشكال حيث يوءس من البيان فيه، فإذا تحقق اليأس من التبيين، ففيه ما ذكره الأصحاب.
وإن كان التبيين مأمولاً، فيجب البحث، وهذه المسألة تنتفي عن الشارع، فإن الغرض في هذا الركن بيان الحكم مع الاعتراف بحقيقة الحال، فهذا وجه التصوير.
أما الحكم؛ فقد اختلف أصحابنا في المسألة. فقال بعضهم: إذا تحقق الإشكال، ارتفع العقد، والأمر مفوض إلى علم الله تعالى. فإن وقع في علمه وقوعُ العقدين معاً، فلا عقد، حتى يحتاج إلى فرض قطعه. وإن ترتبا في علم الله تعالى، واطرد الإشكال في حقنا، بين وقوعهما معاً وبين ترتبهما، فالعقد الأول يرتفع إذا تحقق اليأس من التبيّن فيه، ولا حاجة إلى إنشاء فسخ، وهذا يوجّه بأن إمضاء العقد غير ممكن. وإنما تمس الحاجة إلى إنشاء فسخ إذا كان تعذر إمضاؤه، وكان يمكن تيسّره بوجه من الوجوه؛ فإذ ذاك يُفرض إنشاء فسخ فيه، على ما يوجبه الشرع ويقتضيه.
وذهب آخرون إلى أنه لابد من إنشاء الفسخ؛ فإن العقد يجوز أن يكون منعقداً إذا فرض الترتيب، فلا خلاص على التحقيق إلا بإنشاء الفسخ. وهذا التردد يضاهي من وجه تحالفَ المتبايعين، فإن أئمتنا بعد التحالف، اختلفوا؛ فمنهم من قال: ينفسخ العقد. ثم القول فيمن يفسخ العقد، قد استقصيناه في موضعه من كتاب البيع.
فإن قلنا: في مسألتنا يرتفع العقد من غير حاجة إلى رفع، فلا كلام. وإن قلنا: لابد من إنشاء الفسخ؛ فمن ينشئه؟ هذا فيه فضل نظر. فإن رفعوا الأمر إلى السلطان، وفوضوا إلى رأيه، ففسخ، نَفَذ، ولا كلام.
وإن طلق الزوجان، انبتَّ ما كنا نقدره من عقد إن كان، ولكن يُعقب هذا إشكالاً في المهر، سنذكره، إن شاء الله تعالى.
وإن لم يطلقها، وأراد كل واحد منهما أن يفسخ من غير رفع إلى مجلس الحكم، وإنما يؤثران الفسخ حتى يسقط المهر إذ ثبت، فكيف السبيل فيه؟ والمرأة بنفسها لو أرادت الفسخ، فإنها المطلوبة بالعقد المسترقة به، فكيف السبيل؟ من أصحابنا من قال: لا ينشىء الفسخ إلا الحاكم أو محكّم إن رأينا التحكيم؛ فإن هذا تعيين لمكان إشكال في مظنة لَبْس، والواقعة حَرِيَّةٌ بالاحتياج إلى مجتهد ناظر، ولأمثالها انتصب القضاة فياصلَ في الخصومات، هذا وجه. وإليه ميل الصيدلاني في مجموعه.
ومن أصحابنا من قال: للمرأة أن تفسخ من غير حاجةٍ إلى الرفع إلى السلطان؛ فإنها تفسخ النكاح بتعذر الاستمتاع بالجَبّ. وإن كان يبقى نوع من التمتع في المجبوب، فلأن نُثبت لها الفسخ بالإشكال الذي لا رفع له أولى.
ومن أصحابنا من قال: لها الفسخ كما ذكرنا.
وللزوجين أن يفسخا أيضاًً، كما يفسخان برقها؛ فإن الإشكال شمل جماعة، فانتظم من هذا خلاف: من الأصحاب من قال: الفسخ إلى القاضي لا غير.
ومنهم من قال: للمرأة أن تفسخ، وليس للزوجين الفسخ.
ومنهم من أثبت لها وللزوجين الفسخ، ولم يشترط أحد اجتماعهم، فيكون فسخَ تراضٍ. هذا منتهى القول في صورة واحدةٍ من القسم الذي نحن فيه، وهو إذا اقترن الإشكال ولم يطرأ على بيان.
7929- فأما الصورة الثانية؛ فهي: أن نعلم أن أحد العقدين تقدّم، ولكن لم يتعين لنا المتقدم منهما قط، وتحقق اليأس من البيان؛ ففي المسألة قولان:
أحدهما: إن هذا بمثابة الصورة الأولى، وهي: إذا أشكل الأمر، فلم ندر أوقع العقدان معاً، أو ترتب أحدهما على الثاني. وقد سبق التفصيل فيه.
والقول الثاني- أنا نتوقف، ويقف العقد بينهما أبداً حتى يطلقاها.
توجيه القولين: من ألحق هذه الصورة بالأولى، احتج بوقوع الإشكال وتعذّر إمضاء العقد، واستيقان التقدم لا يغني شيئاً مع اللبس في المتقدم. وإذا كنا نتسبَّب إلى رفع العقدين مع إمكان وقوع أحدهما، فينبغي أن نفعل ذلك مع تحقق التقدم.
ومن نصر القول الثاني، فصل بين الصورتين، وقال: إذا تحققنا صحة عقد في الصورة الثانية، فالهجوم على رفعه أو الحكم بارتفاعه لا معنى له، إلا بطريقٍ شرعي، وحكمُ الشرع أن نثبت ما نتبيّنه، ونتوقف فيما يُشكل، فإن ترتب على صورة الإشكال ضرر، فكم من ضرر يحتمل إذا لم يوجد في الشرع له رافع، وإذا كنا لا نستبعد على الرأي الأصح أنه تحبس المعتدة التي تباعدت حيضتها إلى سن اليأس، مع أداء هذا إلى أن يبطل شبابها من مراهقتها وإعصارها إلى انتهائها إلى أقصى أسنان الياس في بنات أعصارها، وهذا هو العذاب الحاقّ، ولكن لم نجد له دافعاً شرعياً؛ فألزمناه، وليس هذا كالصورة الأولى؛ فإنا لم نتحقق فيها وقوع عقد، فتسامحنا في الحكم بالارتفاع لو وقع، وهذا الفرق يتجه على طريقة القفال؛ فإنه يحكم بارتفاع العقد لو وقع في الصورة الأولى من غير حاجة إلى إنشاء رفع.
فلو قال قائل: لِم قال القفال في الصورة الأولى بتقدير ارتفاع العقد؟ وهلا قال:
الأصل عدمه؟ قلنا: ليس ما قاله القفال قولاً جازماً، ولكنه قال: لو قدرنا وقوعه، ارتفع.
ومن قال: ننشىء الرفع، قد يتوجه عليه السؤال الذي ذكرناه؛ فإنه أوجب رفعاً-على ما فصلناه- فيقال له: هلا أخذت بعدم العقد؟ وجوابه: إن العقد واقع، فإنا إن أشرنا إلى هذا، فقد جرى معه صورة العقد، وكذلك إن نظرنا إلى الآخر، وعدم الانعقاد أمر محال على تقدير وقوع العقدين معاً، وقد يتجه استبعاد تصور هذا، فلا يمكن البناء على أن لا عقد، وليس كما لو أشكل على المرأة أنها هل نكحت أم لا؛ فإن الأصل في هذا المقام أن لا عقد، فلا يجب التسبب إلى رفعٍ في هذه الصورة على تقدير وقوع العقد.
وكل ما ذكرناه فيه إذا اقترن الإشكال، ولم يطرأ على بيان.
7930- فأما إذا تقدم أحد العقدين، وتعيّن، ثم أشكل ما تعيّن وأيس من التبيّن فيه؛ فالذي قطع به الأئمة أنا نقف العقد، ولا نوجب التسبب إلى رفعه، بخلاف ما إذا اقترن الإشكال، وليس يخفى الفرق على من يحاوله.
وسمعت شيخي-في آخر العهد به- يحكي عن بعض الأصحاب إجراء القولين في هذه الصورة-وإن طرأ الإشكال- إذا تحقق اليأس من الخلاص منه. وهذا غريب!
وذكر الأئمة نظير هذه الصور في الجمعتين إذا عقدتا في بلدة لا تحتمل إلا جمعة واحدة. وقد ذكرت تلك التقاسيم في مواضعها، ولا أذكر منها هاهنا إلا ما ينبه على فائدة.
قال المحققون: إذا تيقنا تقدم جمعة ولم تتعين لنا، فهذه الصورة الأوْلى بأن يؤخذ فيها بصحة جمعة، وحكم الأخذ بذلك أن نوجب على أهل البلدة إقامة الظهر، ونمنعهم عن إقامة جمعة أخرى. فإذا تقدم أحد النكاحين، وأشكل، يتجه رفع النكاحين، والفرق أن الجمعة بعد ما صحت لا تفسخ، والنكاح بعد انعقاده يتصور فسخه بأسباب. فإذا اعتقد المعتقد كون الإشكال من أسباب الفسخ، لم يكن مبعداً.
وهذا في الجمعة بعيد، فينتظم من ذلك أن الوجه القطع بأن إحدى الجمعتين إذا تقدمت، فلا سبيل إلى عقد جمعة أخرى، وعلى الناس إقامة الظهر، فإن أحداً منهم ليس عالماً بأنه أقام الفرض الذي عليه. هذا وجه القياس، وإن كان طريق القولين في الجمعة مشهورة.
وقد انتجز ركن واحد من أركان المسألة، وهو بيان حكم الإشكال، عند تقدير الاعتراف به، من غير فرض نزاع.
7931- ولم يبق في هذا الركن إلا الكلام في النفقة، وإذا انتهى التصوير إلى حالة لا يُحكم فيها بالانفساخ ولا يثبت فيها حق الفسخ إنشاءً، فتبقى المرأة محتسبة في نكاح، ولسنا ندري أن الصحيح نكاحُ هذا، أم نكاحُ ذاك؟ وقد اعترفوا بالإشكال، وإذا رفعت الواقعة على هذه الصورة إلى الحاكم، وقع الاعتراف في موضعه بالإشكال، فعلى من يقع القضاء بالنفقة؟
قال الأئمة: إذا طلق الرجل إحدى امرأتيه، وأشكل عليه المطلقة منهما، فيلزمه أن ينفق عليهما جميعاً، فإن كل واحدة محتسبة عليه، وإن أخذ آخذٌ حكمَ النفقة من هذه المسألة، قيل له: كانت كل واحدة منهما مستحِقة للنفقة، ولم يتحقق في حق كل واحدة انقطاع النكاح، وزوال السبب الموجِب للنفقة، فلكل واحدة أن تطلب نفقتها. وينضم إلى هذا أن الزوج هو الذي طلق، فكان هو السبب في جرّ هذا الإبهام.
وقد يعترض للفقيه الالتفات إلى النشوز؛ فإنه إذا تعذر الاستمتاع بها، سقطت النفقة، والاستمتاع متعذر على الزوج في المسألة. وإن طلب طالب الفرق، وقال: الناشز عاصية بنشوزها، عورض بجنون المرأة إذا كان يمتنع بسببه الاستمتاع بها، فإن النفقة تسقط، وإن لم تنتسب المرأة إلى معصية.
فهذا الذي ذكرناه وجوه التنبيه على الطلب، والممكنُ بعد ذلك وجهان:
أحدهما: أن النفقة واجبة عليهما؛ إذ جرى في حق كل واحد منهما صورةُ عقد، ولم يوجد من جهتها امتناع ولا صفة ذاتية يعزى إليها الامتناع، ويستحيل أن نوجب نفقتين، وليس أحدهما أولى بالالتزام من الثاني، فلا وجه إلا فضُّ النفقة عليهما. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: لا نفقة أصلاً؛ فإن كل واحدٍ منهما يقول: إن نكحت وألزمتموني حكم نكاحي فمكّنوني من مستمتَع، ثم أَلْزموني النفقة، فإذا تعذر المستمتَع من كل وجه، فلا معنى لإيجاب النفقةَ.
والظاهرُ بعد هذه المباحثات الحكمُ بسقوط النفقة عن كل واحد منهما؛ فإن المرأة لا تستيقن استحقاق النفقة على واحد منهما، وكل واحد منهما ليس يستيقن وجوب النفقة عليه، والأصل براءة الذمة.
فإن قيل: قد جرى في حق كل واحد منهما صورة عقد، وهي موجبة النفقة على الجملة، فهذا ثابت في حقه، وطريان الشك من جهة عقد جرى مع آخر، ينبغي ألا يسقط حق النكاح عنه؟ فالجواب عن ذلك: أنه ليس من الإنصاف النظر إلى صورة العقد في كل واحد منهما، ولكن ينبغي أن يشمل النظر الواقعة بكمالها، ولا يكون العقد ملزماً مع عقد في مقابلته، هذه صورة الواقعة.
وهذا يناظر أصلاً سبق تمهيده؛ وهو أنا إذا فرّعنا على أن النجاسة وإن غلبت على الظن، فلا حكم لها ما لم تستيقن، فلو كان مع الرجل إناءان، أحدهما فيه ماء طاهر، والثاني فيه ماء نجس، وأشكل الطاهر منهما؛ فلو أفردنا استعمال إناء أخْذاً بأن هذا في نفسه غيرُ مستيقن النجاسة، لم يجز، ولكن يثبت الحكم من تقابل الإنائين، فصورة الواقعة إناء في مقابلة إناء، ويجوز أن يقال: إذا كان يثبت حكم النجاسة بسبب مقابلة نجس طاهراً، فينبغي أن يثبت حكم اللزوم بسبب مقابلة عقد صحيح عقداً فاسداً، ولكن هذا-على ما فيه من التخييل- فيه تلبيس؛ فإن المحكوم عليه شخص واحد، والإناءان محل الحكم، وهاهنا المحكوم عليه شخصان، كل واحد منهما متميز عن الثاني، فالوجه: إسقاط النفقة، ويترتب عليه أمر المهر، فالمرأة لا تعلم يقيناً استحقاق المهر على واحد منهما بعينه، وكل واحد منهما لا يعلم أن المهر يلزمه، والواقعة مشكلة، والاعتراف بالإشكال واقع، ولا سبيل إلى التزام مهرين، ولا إلى قسمة مهر، والنشوز لا مدخل له في المسألة، فالوجه: أن واحداً منهما لا يطالَب بشيء، مع القطع بأن مهراً واحداً وجب على أحدهما. فهذا ما لا ينقدح على قياس الأصول غيره.
ولا حاجة مع هذا إلى الاستشهاد بمسألة الطائر إذا طار، فقال زيد: إن كان هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق، فلا نحكم بوقوع الطلاق، مع العلم بوقوعه في علم الله تعالى على زوجة أحدهما. وإنما لم نؤثر الاستشهاد بهذه المسألة مع موافقة الحكم؛ لأن قول كل واحد منهما على صورة، لو استقلت وانفردت، لأوجبت المهر والنفقة، فهذا الفرق يقع بين المسألتين، والفقه المعتمد في نفي المهر والنفقة وراء ذلك، والأولى اعتماده والاكتفاء به.
وقد تم ركن واحد.
7932- فأمّا الركن الثاني: وهو حريٌ بالاعتناء به- وهو القول في التداعي والتنازع، والذي قدمناه فيه إذا اعترف الجميع بالإشكال؛ فإذا كان يدّعي كل واحد من المتزوجَيْن أنه السابق؛ فأول ما تساهل الأصحاب فيه تحقيق القول فيمن توجه الدعوى عليه، وهذا سر الفصل ومنشأ الإشكال، وفيه اختبطت الطرق، ونحن نجري على طريقتنا في نقل ما ذكره الأصحاب، وذكر ما فهمناه من فحوى كلامهم، حتى إذا نجز، أتبعناه البحثَ وطلبَ التحقيق.
قال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: إذا ادعى المتزوجان السبق، وكان كل واحد منهما يدعيه، ودار هذا التفاوض بينهما، ولم يعلّقا دعوييهما بالمرأة؛ فالقاضي يحلّفهما على ما سنصف كيفية التحليف. صرح بهذا في مجموعه وفرّع عليه.
وقال غيره: إذا تفاوض المتزوجان ولم يعلّقا دعوييهما بمحل. فلا يلتفت إليهما، ولا تسمع دعواهما؛ فإن وضع الدعوى في الشريعة يقتضي ارتباطاً بالمستحَق عليه، ثم يقدَّرُ من المستحق عليه إقرارٌ أو إنكار، وتطّرد الخصومة على نظامها، وليس واحد من المتزوجين مدعياً استحقاقاً على صاحبه، وليس في يد واحد منهما ما يدعيه صاحبه، وهذا منقدح حسن على قياس الدعاوى وقواعد الأصول.
7933- ثم استتم هؤلاء هذا المسلك، وقالوا: إن وقعت الدعوى على المرأة، سمعت، كما سيأتي تفصيلها.
وإن وقعت الدعوى على الولي المزوِّج، نُظر: فإن لم يكن الولي مجبراً، لم تسمع الدعوى، وإن كان الولي مجبراً؛ ففي سماع الدعوى عليه وجهان:
أحدهما: أنها لا تسمع؛ فإن الولي ليس مستحقاً عليه، وإنما المدعى عليه قولٌ، لو ثبت، لم يتعلق بالقائل استحقاق. وهذا هو القياس.
ومنهم من قال: تسمع الدعوى؛ فإن المدعى عليه لو أقر قُبل إقراره، إذ هو مجبِر، ومن يملك عقداً يملك الإقرار. والغرض من عرض الأَيْمان تحصيل الإقرار؛ فإن ذا الدِّين قد يرعوي عن اليمين، ولا يُقدم على اليمين الكاذبة. فإذا كان المجبِر مقبول الإقرار، ونحن نرعى أن نحمله على الإقرار بسبب التحليف، ساغ تحليفه.
وهذا الاختلاف لا يختص بمسألتنا في فرض عقدين، ولكن من ادعى على إنسان أنه زوّج ابنته البكر، ففي سماع الدعوى الخلاف الذي ذكرناه. فهذا ما ذكره الأصحاب.
7934- ونحن نقول: طريقة الصيدلاني بعيدة عن قياس الأصول.
والذي أراه فيها أنهما إذا كان كل واحد منهما يدعي على المرأة ويعتقد ذلك، وكان الرجوع إليه ممكناً، فلا يسوغ لذي تحصيل، أن يقدر هاهنا تفاوضاً وتحالفاً من غير مراجعة.
فأما إذا اعترفا بأن الأمر مشكل عليها، فلا يتأتى منهما ربط دعوَيْهما بها، فإذا تفاوضا بينهما قُدِّرت المرأةُ كالشيء المدعى الذي لا يقر ولا ينكر، ففي هذا المقام قد يتعلق فكر الفقيه بالتحليف. وإن كانت اليد لا تثبت لواحد منهما عليها، ولكنهما إذا ارتفعا إلى مجلس القاضي، واعترفا بالتباس الحال على المرأة، وادعى كل واحد منهما السبق، فلو لم يحلّفهما، لتعطل حقاهما. فهذا في الصورة التي ذكرناها محتمل. يجوز أن يقال: يحلفهما القاضي، ويجوز أن يقال: لا يحلفهما، فإنه لا مرتبط لدعوييهما بمن يجب ربط الدعوى به، فهذا هو التحصيل في متعلق الدعوى، والله أعلم.
ثم إن جرينا على التحليف في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه يحلّفهما، وينقدح في البداية تخير القاضي والإقراع؛ إذ لا مزية لأحدهما على الثاني، فإن حلفا أو نكلا، فقد أشكل الأمر، وعاد التفصيل إلى ما ذكرناه من اعترافهم بالإشكال. وإن حلف أحدهما ونكل الثاني، قضينا للحالف بالزوجية.
هذا تفريع تحليفهما إذا لم يعلِّقا دعوييهما بالمرأة وعلمها بالسبق.
7935- فأما إذا علقا دعوييهما بالمرأة وادعى كل واحد منهما علمها؛ فللدعوى صيغتان: إحداهما- أن يتعرضا للعقد، والعلم بالسبق فيه.
والثانية- ألا يتعرضا، ولكن يدّعي كل واحد منهما عليها الزوجية المطلقة.
فأمّا إذا ادّعى كل واحد منهما علمَها بالعقد السابق، فهي لا تخلو: إما أن تقر إذا ادعى أحدهما، أو تنكر، فإن أقرت-وليقع التفريع على قبول إقرارها- فإذا أقرت لمن ادعى عليها ابتداء، نفد إقرارها، وحكم بأنها زوجة المقَرّ له.
وهل للثاني أن يحلفها؟ قال الأئمة: هذا يبتنى على أنها لو أقرت للثاني ورجعت عن إقرارها للأول، فلا يقبل رجوعها، ولكنها هل تغرَم للثاني شيئاً أم لا؟ فعلى قولين، مبنيين على ما لو قال صاحب اليد في الدار: غصبت هذه الدار من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلّمة إلى الأول، وهل يغرَم للثاني قيمة الدار، بسبب انتسابه إلى إيقاع الحيلولة بين الثاني وبين الدار؟ فعلى قولين، تمهد ذكرهما تأسيساً وتفريعاً في كتاب الغصوب وغيره.
فإن قيل: لو شهد شهود على الطلاق المُبين ونفذ القضاء بشهادتهم، ثم إنهم رجعوا عن شهادتهم، فما قولكم في تغريمهم؟ قلنا: نغرِّمهم، قولاً واحداً؛ فإن التفويت الذي حصل بسبب شهادتهم لا مستدرك له، وليس كذلك الإقرار بالغصب؛ فإن المقَرَّ له الأول يُتصوَّر أن يصدِّق المقَرَّ له الثاني، فيسلِّم الدار له، وقد يفرض قيام بينة على وفق مراد الثاني، فلما تُصوّر مستدركٌ؛ اختلف القول.
فإن قيل: لم ألحقتم الإقرار بالزوجية بصورة القولين؟ قلنا: لأن الأول يتصور أن يصدق الثاني.
فإن قيل: فلو اتفق ذلك، فلم تصدق المرأة؟ وقد سبق منها ما يدل على تحريمها على الثاني، فهلا قلتم: إن هذا بمثابة ما لو ادعت المرأة رضاعاً محرِّماً، ثم كذّبت نفسها، وأرادت أن تنكح من زعمت أنها محرَّمةٌ عليه، فإن ذلك لا يقبل منها؟ قلنا: إذا ذكرت رضاعاً، فقد أقرت بحرمة ثابتة، والإنكار والإقرار في مسألتنا يتواردان على كل ممكن. فإذا أقرت بعد الإنكار، سمع ذلك منها.
ولو ادعى رجل زوجية امرأة، فأنكرت، ثم أقرت، سمع إقرارها مع أنها نفت حِلاًّ، ثم اعترفت به. وكانت كمن ينكر حقاً، ثم يعترف به. وستأتي أمثال ذلك مشروحة، إن شاء الله عز وجل.
وإن حكمنا بأنها تغرم للثاني لو أقرت له، ففي المقدار الذي تغرمه قولان، وترتيب مذهب. والقول الوجيز الكافي هاهنا؛ أن مقدار ما تغرمه هاهنا، كمقدار ما نغرِّمه للشهود على الطلاق، إذا رجعوا بعد نفوذ القضاء.
7936- ونعود إلى غرضنا فنقول: إن قلنا: إنها لا تغرم للثاني لو أقرت له، فلا نحلفها للثاني، لأنه لا يستفيد بتحليفها، لا زوجية ولا غيرها، ولا معنى للتحليف الذي لا يفيد.
وإن قلنا: إنها تغرم للثاني؛ فله أن يحلِّفوها رجاء أن تقر أو تنكل عن اليمين، فتردّ اليمين على الثاني، ويستحق عليها غرماً.
فإن قلنا: الثاني يحلِّفها، فلا يخلو؛ إما أن تحلف أو تنكل عن اليمين، فإن حلفت، انفصلت الخصومة، وثبتت الزوجية للأول، وانقطعت خصومة الثاني، وإن نكلت عن اليمين، ردت اليمين على الثاني، فإن نكل عن اليمين، كان نكوله بمثابة حلفها. وإن حلف يمين الرد؛ فقد حكى الصيدلاني قولين في نكاح الأول، هل ينفسخ ويثبت للثاني، أم لا ينفسخ، ولكنها تغرم للثاني؟ أحدهما-وهو محكي عن القديم- أن نكاح الأول ينفسخ، ويثبت النكاح في حق الثاني.
والقول الثاني- مخرج على القياس الجديد، وليس منصوصاً عليه، وهو أن النكاح لا ينفسخ أصلاً، ولكن فائدة يمين الرد، ثبوت الغرم.
ثم بنى أصحابنا هذين القولين، على أن يمين الرد كالبيّنة أو كالإقرار؛ قالوا: إن جعلناها كالبينة، ارتفع النكاح الأول، وثبت الثاني، كما لو قامت بينة على موافقة دعوى الثاني.
وإن قلنا: يمين الرد كالإقرار، فلو أقرت للثاني، لم يفد إقرارها ارتفاعَ النكاح الأول، ولكنه يفيد تغريمها.
قال الشيخ أبو بكر: الصحيح ما خُرّج في الجديد؛ لأنا وإن جعلنا يمين الرد كالبينة؛ فذاك في حق الناكلِ والحالفِ لا يعدوهما، فأما تنزيل يمين الرد منزلة البينة في حق ثالث سواهما، فلا سبيل إليه.
وتحقيق ذلك: أن الثاني لا يحلف يمين الرد إلا بسبب نكولها عن اليمين، فلو قضينا بيمين الرد على المقر له، لكان ذلك قضاء عليه بسبب قول المقرة؛ فإن عماد يمين الرد نكولها، ولا نأمن أن تواطئه، فيحلف وتنكل، ولا يلزمها من النكول شيء، فيحلف الثاني، وتثبت له الزوجية.
وإن ثبتت الزوجية للثاني أن يقول: اليمين حجة في الخصومة، والخصومة واحدة، والمتنازع زوجية واحدة، فلا يمتنع أن تكون يمين أحد الخصمين أولى وأقوى من إقرار المدعى عليه لأحدهما.
فهذا منتهى ما ذكره الأصحاب. وهو متجه حسن.
والذي يردّده الأئمة من ذكر انفساخ النكاح الأول، كلام متجوَّزٌ به. ومعناه: أنا نتبين أن النكاح الأول منتف من أصله، وأن الصحيح هو النكاح الثاني.
7937- والذي ينقدح في تتمة هذا الكلام؛ أنا إذا فرعنا على القديم، وحكمنا بأن النكاح في حق الأول ينتفي، ويثبت في حق الثاني، فلا يمتنع أن نقول: إنها تحلّف في حق الثاني، وإن قلنا: لا غرم عليها؛ فإنا نبغي بالتحليف فائدةَ ثبوت النكاح في حق الثاني إذا كان ممكناً، فهو أظهر في الفائدة من تقدير غرم، وكأن إقرارها الأول لا يستقر ما لم تحلف للثاني؛ فإن يمين الثاني أقوى من إقرارها للأول.
وإنما يتجرد الإقرار نافعاً إذا لم يزدحم عليها خصمان، وقد جرى في حق كل واحد منهما عقد، هذا منتهى الكلام.
ثم قال الأئمة: إن كان الدعوى عليها في العقد والسبقِ فيه، فلا تنتظم الدعوى ما لم تربط بعلمها، وهذا جار على قياس ممهد، وهو أنها لا تتعرض-لو أنكرت العلم- لنفي فعل الغير، ولا يتأتى نفي فعل الغير بتّاً، وإنما الممكن منه نفي العلم به. وهذا بيِّنٌ وكل ما ذكرناه إذا أقرت للأول.
فأما إذا أنكرت العلم في حق الأول، فتحلف؛ فإن حلفت، انفصلت بالخصومة مع الأول. ثم إذا قالت في يمينها: "بالله لا أعلم السابق بالعقد، ولا علم لي بتاريخ العقدين". فإذا جاء الثاني، وأراد أن يحلفها مرة أخرى، نُظر: فإن حضرا مجلس الحكم، ووقع تراضيهما على أن يحلفها أحدهما، فتعرضت في يمينها لنفي علمها بتاريخ العقدين، كفى ذلك؛ فلا تحلف مرة أخرى، ثم يؤول الأمر إليهما، وقد سبق الكلام في أنهما يتحالفان، وكيف السبيل في تحالفهما.
والذي نجدده أنا ذكرنا تردد الطرق في أن الرجلين لو تفاوضا بينهما ولم يعلقا دعوييهما بالمرأة، وأرادا أن يتحالفا؛ فهل يسوغ ذلك؟ وإذا علقا دعوييهما في الصورة التي انتهينا إليها بالمرأة، ثم حلفت، فيظهر في هذه الصورة أن يتحالفا بينهما؛ من جهة أن تحالفهما يقع بعد ارتباط الدعوى بالمرأة، والذي كنا نذكره أن يبتديا بالتحالف من غير تعرض لها، وفي كلام بعض الأئمة إشارة إلى أنها إذا حلفت، ونفت علمها؛ فالرجلان لا يتحالفان، وقد أفضى الأمر إلى الإشكال.
وهذا زلل عندي؛ فإن الحكم بانفصال الخصومة بمجرد يمينها لا معنى له، وقد قامت الخصومة أولاً معها، ولم تنكر جريان أحد العقدين على الصحة، فلا وجه لقطع تعلقهما بأيمان الإثبات بسبب حلفها على نفي العلم، هذا كلام فيه إذا اجتمعا، ورضيا بأن تحلف يميناً واحدة.
فأما إذا حضر أحدهما، وادعى علمها، فحلفت، ثم حضر الثاني، وأراد أن يحلفها في حق نفسه مرة أخرى؛ فإن حكمه متميز عن حكم الأول، ويتصور أن يرضى أحدهما بالمتاركة والإعراض، ويريد الثاني الرفع إلى القضاء، وهذا يجري في كل خصمين يدعيان على شخص شيئاًً.
ومن أصحابنا من قال: إذا حلفت أولاً- على أنه لا علم لها بتاريخ العقدين، فالذي مضى كافٍ، وليس للثاني أن يحلفها مرة أخرى؛ فإن الخصمين وإن تعددا فالواقعة لها حكم الاتحاد ونفيها علمها يشمل العقدين والخصمين جميعاً، فلا معنى لتكرير التحليف.
والذي يحقق ذلك: أنها لو حلفت في حق الثاني، لكان يمينها مع الثاني على صيغة يمينها مع الأول. هذا إذا حلفت مع الأول.
فأما إذا نكلت لمَّا حلفها الأول؛ فالوجه أن يحلِف من يدعي عليها، ثم لابد وأن يحلف أنه السابق بالعقد. والذي ذهب إليه المحقون: أن ذلك يكفيه، ولا حاجة إلى التعرض لإثبات علمها بذلك؛ فإنه إنما ربط دعواه بعلمها أولاً؛ من جهة أنه لا يتأتى تحليفها إلا على هذا الوجه، فكانت اليمين على صيغة الدعوى، والدعوى على موافقة اليمين، فإذا نكلت وانتهت الخصومة إلى تحليف المدعي يمين الرد، فينبغي أن يتعرض في يمينه لإثبات مقصوده.
ويتصل بهذا الطرف: أنهما لو كانا حاضرين، ووقع الرضا بأن تحلف لهما يميناً واحدة على نفي الدراية والعلم؛ فإذا نكلت، عاد الكلام في تحالفهما إلى ما ذكرناه فيه إذا حلفت.
فإن قيل: قد استوى أثر حلفها ونكولها؛ فإنهما في الصورتين يتحالفان؟ قلنا: نعم هو كذلك؛ فإن الأمر لا ينفصل بجهلها وإنما الغرض بربط الدعوى بها، توقع إقرارها لأحدهما، فإذا لم تقر، وأصرت على عدم العلم، رجع الكلام إلى تحالفهما لا محالة.
ولو أنها- لما ادعى أحدهما عليها العلم بالسبق، صرحت بالإنكار، وقالت للمبتدي منهما: لستَ السابق بالعقد؛ فهذا يكون إقرار للثاني بالسبق لا محالة، فيعود الترتيب إلى إقرارها لأحدهما، وقد سبق في ذلك قول كاف.
وكل ما ذكرناه فيها إذا توجهت الدعوى متعلقة بما جرى من العقد، وترتب عليه التعرض لنفي العلم، كما تقدم.
7938- فأما إذا ادعى كل واحد منهما عليها زوجية مطلقة، دعوى باتّة، فهذا القسم يستدعي تقديم أصل، وهو: أن من يدعي عقد نكاح على امرأة؛ فقد اختلف قول الشافعي في أنه هل يجب على المدعي تفصيل الدعوى، وذكر الشرائط المرعية في صحة العقد؟ وسيأتي بيان ما يجب فيه تفصيل الدعوى وما يجوز إطلاق الدعوى فيه، وقدرُ غرضنا الآن إشارة إلى الخلاف.
ولو لم يتعرض المدعي للعقد ولكنه ادعى على المرأة أنها زوجته؛ فقد اختلف أئمتنا في ذلك: فقطع بعضهم بأن الدعوى مسموعة مطلقة على هذه الصيغة، ولا نكلف المدعي ذكر الزوجية وتفصيلها واستقصاء شرائط الصحة.
وذهب آخرون إلى أن المدعي يُكلَّف إسنادَ الزوجية التي يدعيها إلى عقد، ثم يؤمر-على أحد القولين- بذكر شرائط الصحة، كما تقدم. وقد ذكرنا في صدر الكتاب أن المرأة إذا أقرت بأنها زوجة فلان، فهل يقبل إقرارها مجملاً، أم لابد من أن تذكر صفة العقد في إقرارها؟ فإن شرطنا في الإقرار التفصيل وذكر العقد، فإنا نشترط على حسب ذلك التفصيل في دعوى الزوجية مطلقة. والمسألة مفروضة في الواقعة التي نحن فيها، فلا نكتفي من المرأة بأن تنفي علمها، بل عليها أن تجيب جواباً باتّاً.
ثم قال الأئمة: إذا كانت لا تدري، فلها أن تثبت قولها وتقول في جواب المدعي: "لست زوجتك"، ثم لها أن تحلف على حسب ذلك. وهذا من لطائف أحكام الدعوى؛ فإن الشرع يسوّغ القطع والبتّ في الجواب ممن لا يدري حقيقة الحال، والضابط في هذا الجنس: أنه إذا أمكن ربط الدعوى متعلقة بعلم المرأة، فغيّر المدعي صيغة الدعوى وجزمها، وأتى بها مطلقة، فتغيير المدعي صيغةَ الدعوى من ادعاء العلم إلى الجزم لا يغير حكمها.
وهذا يناظر ما لو ادعى الرجل على وارث: أن مورّثك أتلف على مالاً، وعليك أن تغرم قيمته من التركة، فيحلف الوارث أنه لا يعلم أن أباه أتلف عليه، فإن لم يتعرض المدعي لذلك، وادعى على الوارث أنه يلزمه تسليم ألف من التركة إليه، فللوارث أن يحلف على البتّ؛ لا يلزمه تسليمُ ما يدعيه إليه.
وإن فرعنا على أن دعوى الزوجية لا تسمع مطلقة، فإذا أسندت إلى عقد، فيعود التفريع إلى أنه لابد من دعوى علمها، وقد مضى القول في ذلك مفصلاً، وبان ما يفضي إليه الخصام آخراً.
وهذا نجاز الفصل، فإن نحن لم نذكر بعض الصور، فهو لدلالة ما ذكرناه عليه.
والله المستعان.
فصل:
قال: "ولو زوجها الولي من نفسه بأمرها، لم يجز... إلى آخره".
إذا أراد الولي أن يتزوج وليته، وذلك يفرض في بني الأعمام من القرابة، وفي المعتِق والمعتَقة؛ فمذهبنا: أنه إذا أراد ذلك، ورضيت المرأة به زوجاً، فليس له أن يتولى طرفي العقد، فيزوّجها ويتزوجها. ولو وكل وكيلاً بتزويجها منه، فرام بذلك تصوير الإيجاب والقبول بين شخصين، أحدهما وكيله، والثاني هو؛ فهذا لا يسوغ عندنا أيضاً؛ فإن عبارة وكيله بمثابة عبارته، وعبارة الوكيل مستعادة في حق الموكِّل، فلا فرق بين أن يأتي هو بالعبارتين، وبين أن يفوّض لفظ الإيجاب إلى وكيله، فلا وجه إذا أراد التزوج؛ إلا أحد أمرين- أن يكون في درجته ولي إن كانت المسألة مفروضة في تزويج القرابات، أو في ورثة المعتقين، فيزوجها الولي الذي في درجته. هذا وجه.
والثاني في الإمكان-إن لم يكن في درجته ولي- أن يرفع الأمر إلى السلطان؛ حتى يزوجها منه. وهذا من منازل ولاية السلطان.
قال أبو حنيفة: للولي أن يتولى طرفي العقد. ثم له ولأصحابه تردد يتعلق بمقتضى الألفاظ. قال أبو حنيفة: إذا قالت المرأة: "زوجني"، فله أن يتزوجها وإن لم تصرح في إذنها بذلك. وقال بعض أصحابه: لا يزوجها من نفسه ما لم تقل "تزوجني" أو "زوجني من نفسك".
وإذا جوّزنا التوكيل بالتزويج على ما مضى، فلو أذن الولي والمرأة للوكيل حتى يتزوجها ويزوجها من نفسه، فهذا ممتنع عندنا؛ فإن التزويج إذا كان يقع من الولي، فهو أقوى، فإذا امتنع تولي الطرفين من الولي، فلأن يمتنع من الوكيل أولى.
ومعتمد المذهب، الذي عليه مدار التفاصيل: أن وضع العقد على أن يتعلق بالإيجاب والقبول، وهما تخاطبٌ بين شخصين، وتولّي الرجل طرفي العقد في حكم مخاطبته لنفسه، وهذا غير منتظم.
7939- ولكن استثنى الشرع من ذلك تصرف الأب في مال الطفل؛ فيجوز للأب أن يبيع مال نفسه من طفله، ويقبل العقد له، ويجوز أن يبيع مال الطفل من نفسه، ويجوز أن يبيع مال الطفل من طفل آخر له، ويقبل العقد، فهذا مسوَّغٌ لكمال شفقته، والحاجة أيضاًً قد تمس إلى ذلك، ويعسر حمل الأب على مراجعة الوالي فيما يجِلّ ويدِقّ من تصرفات الأموال؛ فاقتضى مجموعُ ذلك اختصاصَ الأب لما ذكرناه، والإجماع يغني عن تكلف ما ذكرناه. والجد أبو الأب عند عدم الأب ينزّل منزلة الأب فيما ذكرناه.
ثم اختلف أصحابنا في أن الأب أو الجد إذا أراد أن يتولى العقد على-ما وصفناه- فهل عليه أن يأتي بشقّي العَقد، أم يكفيه الإتيان بأحدهما- بأن يقول: "اشتريت هذا من مال طفلي"، أو "بعت هذا من طفلي"؟ فمنهم من قال: لابد من الإتيان بالعبارتين؛ فإنهما صورة، فلا يسوغ تغييرها. وإنما يختص الأب بأنه يتولاهما معاً. فأما إسقاط أحد الشقين؛ فإنه تغيير صيغة العقد بالكلية.
ومن أصحابنا من قال: يكفيه الإتيان بأحد الشقين. ووجه ذلك أن قول القائل: "بعت" من جهة الصيغة مستقل بنقل الملك، وقول القائل "اشتريت" مستقل في فحواه بإفادة التملك، وإنما شرطنا لفظين بين المتعاقدين؛ من جهة أن أحدهما لا يقدر على إلزام الثاني ما يريده، فأقام الشرع تخاطبهما مشعراً بتراضيهما على موجب العقد.
فإذا كان الأب يستقل بنفسه في إيقاع العقد؛ فإيجابه قبول، وابتياعه بيع.
ويجوز أن يعترض على هذا، فيقال: لو صح هذا؛ للزم أن يقال: إذا قال الطالب لمالك المتاع: "رضيت بأن تبيع مني". فقال: "بعت"، وجب أن يكفي ذلك، وإن لم توجد صورة القبول، وينقدح في الجواب عنه؛ أنا على هذا بنينا صحة العقد بالاستدعاء والإسعاف على قول، فإذا قال الطالب: "بع مني عبدك هذا بألف" فقال: "بعت" ففيه الخلاف المعروف، وسيأتي مشروحاً في باب ألفاظ النكاح، فإن جعلنا الاستدعاء والإسعاف عقداً، فقوله: "رضيت بأن تبيع مني" لا يبعد أن يكون كقوله: "بع مني". وسنذكر هذا وأمثاله من بعدُ، إن شاء الله تعالى.
7940- فإذا تمهّد هذا؛ قلنا بعده: إذا أراد الولي أن يتزوج امرأة، نُظر: فإن لم يكن الإمامَ الأعظم، فلا سبيل أن يتولى الطرفين، ولكن إن لم يكن للمرأة ولي خاص، يرفع أمره إلى والٍ آخر يملك التزويج.
وإن أراد الإمام الأعظم أن يتزوج امرأة بحكم الولاية، فهل له أن يتولى طرفي العقد؟
فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما:وهو القياس- أنه ليس له ذلك؛ فإن ولايته ليست على رتبة ولاية الأب، وكذلك لا يملك الإجبار إلا في محل الضرورة، كما ذكرناه في المجنونة، بل ولايته مؤخرةٌ عن ولاية عصبات النسب الذين يقعون حاشيةً منه.
والوجه الثاني- أنه يملك تولي الطرفين؛ من جهة أنه والي الولاة. والناس قاطبة رعيته، من يلي منهم ومن يُولَى، وليس فوقه منصب حتى يفرض فيه وال، ويُقدر هو مَوْليًّا عليه، وليس كذلك الولاة الذين هم دونه؛ فإن فوق كل واحد منهم والٍ، والإمام والي الجميع، وإليه المنتهى.
فإن قيل: إذا أراد قاضٍ من القضاة أن يتزوج، فكيف سبيله؟ قلنا: لا يكفي أن يوكّل وكيلاً؛ فإن عبارة وكيله بمثابة عبارته، ولكن إن لم يكن في القطر حاكم غيره؛ فالوجه: أن ينصب حاكماً في ذلك.
ثم القول في أن الحاكم؛ هل يجوز أن يكون محكّماً في عقد خاص، أم يجب تفويض نوع إليه؟ يأتي مستقصى في أدب القضاء، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: هلا أوجبتم عليه رفع الأمر إلى من فوقه، على القياس الذي أشرتم إليه في الوالي الأعظم؟ قلنا: إذا نصب الحاكم حاكماً، فليس ذلك الحاكم منصوبه، وإنما هو منصوب الإمام الذي فوَّض إليه أن يلي ويولِّي. وإذا كان كذلك؛ فذلك المولَّى منصبه أعلى في الواقعة التي فيها الحاجة؛ فإنه محتكم. وليس كذلك الإمام؛ فإنه إذا نصب حاكماً، كان ذلك الحاكم مستنداً إليه.
وهذا غير سديد؛ فإنا لم نختلف في أن الإمام يرفعه آحاد الناس إلى الحكام، ويقيمون عليه البينة، ويحلّفونه. وقد دُفع عليٌّ إلى مجلس شريح القاضي، فقضى شريح على علي. فقال علي: قضيت عليّ أيها العبد!
وينقدح أن يقال: إذا ولّى الإمام شخصاً، وكان المسلمون ولَّوْه، فإنه مُولَّى من جهتهم، فمولاه مولَّى من جهتهم أيضاًً. وليس يتجه التعلق بإعتاق رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية ونكاحه إياها؛ من جهة أن خصائصه غالبة في المناكح، وقد لا نرى التعلق بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تظهر فيه خصائصه.
7941- والجد لو أراد أن يزوج بنت ابنه من ابن ابن له في أسلوب آخر، وكانا يقعان أولاد عمومة، والجد بينهما، فهل يتولى طرفي النكاح؟ فيه وجهان مشهوران. أحدهما- أنه يتولى الطرفين كما يتولاهما؛ من جهة أن النكاح مخصوص بتعبد شرعي في ألفاظه، ولهذا لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج عندنا. فكما يجب اتباع اللفظ في ذلك دون المعنى، فكذلك يجب اتباع صورة العقد، وصورة العقد تستدعي لفظين في الإيجاب والقبول.
فإن قلنا: الجد لا يتولى الطرفين، فلو وكّل وكيلاً في أحد الطرفين؛ فعلى وجهين. ذكرهما الشيخ أبو علي في شرح التلخيص؛ أحدهما- أن ذلك لا يكفي.
فإن عبارة الوكيل عبارة الموكّل، كما مهدناه، فليرفع الأمر إلى الوالي حتى يتولى طرفاً، ويتولى هو طرفاً آخر.
ثم يتفرع على ذلك أمر بديع؛ وهو: أن السلطان يتولى طرف التزويج، أو طرف التزوج، أو يتخير، أو الأمر موقوف على ما يفوِّض إليه، ويستدعي منه؟ يحتمل أن يقال: الأمر إلى السلطان في تولّي أي طرف شاء، ويحتمل أن يفعل ما يستدعَى منه، ولا ينقدح تعيين شيء بمسلك من المسالك. واللائق بمراعاة منصب الولاة التفويض؛ فإن الأمر لا يختلف والاحتكام على الوالي لا وجه له. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني- أن للجد أن يوكّل في أحد الطرفين؛ فإن الولاية تامة لا قصور فيها، وإنما منعنا التولي لتعبد راجع إلى صورة اللفظ. وهذا يحصل بتعدد العبارة من جهة الجد والوكيل، وهذا لطيف حسن.
وإن قلنا: الجد يتولى طرفي العقد، فقد ذكرنا خلافاً في أن الأب أو الجد إذا كان يتولى طرفي عقد من عقود الأموال، فهل يأتي بشقّي العقد، أم يكفيه أحدهما؟ فإذا فرض القول في النكاح، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: فيه وجهان كالوجهين في عقد المال.
ومنهم من قال: يقطع هاهنا بوجوب الإتيان بالعبارتين، لما حققناه من التعبد الراجع إلى لفظ النكاح.
7942- ولو وكل خاطب المرأة وكيلاً في التزوج، فوكّله ولي المرأة في التزويج، فصار موكّلاً من الجانبين، فهل يجوز ذلك، حتى يتولى طرفي النكاح بحكم التوكيل من الجانبين؟ في بعض التصانيف في ذلك وجهان:
أحدهما: أنه لا يجوز، وهو الظاهر؛ فإنما يحتمل مثل ذلك من وليٍّ تشمل ولايته الشقين جميعاً، كما ذكرناه في الجد والحافدين، والوكالة ضعيفة. وهذا ما كان يقطع به شيخي. والوجه الثاني- أن ذلك يصح، كما نص الشافعي عليه في التوكيل في الخلع؛ فإنه جوّز أن يكون الشخص الواحد وكيلاً من جهة الزوج في المخالعة، ومن جهة الزوجة في الاختلاع، على ما سيأتي ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. وهذا الوجه في نهاية الضعف.
والذي يُهوِّن الأمرَ في رده قليلاً؛ أن شِق القبول في الوكالة ضعيف. وهو سفارة محضة، وكأنه يكتفى فيه بإخبار وإعراب عن حقيقة حال، فلا يكون الوكيل مخاطباً نفسه في التزويج، وإنما المحذور في قاعدة الفصل أن يكون الرجل خاطِباً مجيباً. وعلى هذا يمتنع التوكيل في جانب البيع والشراء جميعاً، فإنه لو سوغّ، لكان الوكيل ملزماً نفسه ملتزماً، وذلك غير منتظم. وأبو حنيفة وإن جوّز أن يتولى الوكيل في النكاح الطرفين، لم يجوز هذا في البيع. وقد يعترض للفقيه شيء من مسألة التوكيل في الخلع، وإذا انتهينا إلى تلك المسألة، أعدنا وكالة البيع، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ويزوج الأب أو الجد البنت التي قد أيس من عقلها؛ لأن لها فيه عفافاً... إلى آخره".
7943- وقد قدمنا في مراتب تصرف الولاة قولاً بالغاً في تزويج المجنونة، ونذكر في هذا الفصل تمامَ الغرض مشروحاً؛ فإن الذي تقدم في حكم التوطئة والتمهيد، والتفاصيل أحلناها على المسائل، فالوجه أن نذكر في تزويج المجنونة صوراً، ونوضح في كل صورة ما يليق بها.
فنقول: نفرض أولاً بنتاً مجنونة بلغت على الجنون، قال الأصحاب: إذا كان لها أبٌ أو جدٌّ، انفرد بتزويجها، ولم يراجع السلطان، وهذا التفصيل فيه نظر على المتأمل؛ وذلك أن الأب في حق الثيب العاقلة بمثابة الأخ؛ فإنه لا يجبرها، كما لا يجبرها الأخ. ثم إذا فرض الجنون، وجب ألا يختلف أمر النكاح والتزويج، ويكون الأخ والأب بمثابة واحدة، ومساق هذا يوجب أن يراجع السلطان كما يراجع الأخ السلطان، كما تقدم تفصيل ذلك، وظاهر النص يدل على أن الأب ينفرد بتزويج المجنونة إذا بلغت كذلك، من غير فرق بين أن تكون بكراً أو ثيباً، ولفظه في المختصر: "وسواء كانت بكراً أو ثيباً"، ولا خلاف أن الأب يكون أولى بمالها إذا بلغت مجنونة، ولا أثر للثيابة والبكارة في ولاية المال، وظهر اختلاف الأصحاب فيه إذا بلغت عاقلة ثم جنت، فمن أصحابنا من قال: ولاية المال للأب. ومنهم من أثبتها للسلطان.
وحاصل المذهب بعد هذا التنبيه: أن المجنونة البالغة إذا لم يكن لها أبٌ أو جدٌّ، فحكم تزويجها بين السلطان والأخ على ما مضى من غير مزيد.
وإن كان لها أب، نُظر: فإن بلغت مجنونة، تفصل الأمر، وانقسم إلى كونها بكراً أو ثيباً، فإن كانت بكراً، فلا يخفى أن الأب يتولى تزويجها؛ فإنه يزوجها وهي عاقلة إذا كانت بكراً إجباراً وقهراً، فكيف يخفى تزويجه إياها وهي مجنونة؟ وإن كانت ثيباً، وقد بلغت على الجنون؛ فظاهر النص أن الأب أولى، والتفويض إليه، وليس عليه مراجعة السلطان.
وذهب طوائف من محققينا إلى أن الأب في هذا المقام كالأخ، وهذا ما اختاره الصيدلاني. ووجهه: ما ذكرناه من أن الأب والأخ بمثابة واحدة في تزويج الثيب.
وآية ذلك: أن الأب لا يزوج الثيب الصغيرة، صهان كان يلي مالها- كما لا يزوجها أخوها. فالأب في التزويج يتميز عن الاخ في حق الأبكار فحسب، هذا وجه هذه الطريقة.
ومن تمسك بالنص؛ احتج بفقه أعْوَص مما ذكرناه، وهو: أن تزويج المجنونة البالغة ممكن، أو واجب إذا مست الحاجةُ إليه، ونحن إنما نُدير التزويج في حق المجنونة بين الأخ والسلطان، لقصور شفقة الأخ، وامتناع الطلب من المجنونة.
ولا بد في الولاية القهرية من شفقة كاملة تستحث صاحبَها على طلب الغبطة والنظرِ؛ فإذا صادفنا الأبَ، فشفقته كاملة، وتزويج البالغة العاقلة يُبعد أن يُراجَع في تزويج المجنونة.
ومن لطيف الكلام في هذا المنتهى، أن الأئمة قالوا: إذا بلغت عاقلة ثم جُنت، ففي عود ولاية الأب على المال خلاف. ويظهر مما ذكرناه إجراء عود ولاية الأب على المال؛ فإنه أولى من غيره. ثم إن قلنا: ولاية المال للسلطان، فيظهر عندنا أن نقول: الأب ينفرد بالتزويج، لما نبهنا عليه من انفراده بتزويج البكر البالغة العاقلة، وإن كان ولاية المال إليها.
وعلى الجملة نظر السلطان قاصر في التزويج، والولاية لا تُفضي إليه إلا عند انقطاع الجهات كلها، أو قيام الحاجة الحاقّة، النازلة منزلة الضرورة؛ ولهذا- لم يملك السلطان تزويج الصغيرة البكر، والأب يملكه، نظراً واستصلاحاً. هذا منتهى القول في ذلك.
7944- ونحن نبتدىء الآن أمراً مهماً، يجب الاعتناء به، ولا يُلفى مجموعاً للأصحاب، ولكني لقطته من كلامهم صريحاً وفحوى، وقواعد المذهب إنما تغمض على طالبيها بتفرق الكلام في أمثال ما سنذكره الآن، إن شاء الله عز وجل.
فليعلم الطالب أن النكاح تعلق بسببين:
أحدهما: النظر في الأصلح، من غير اعتبار حاجة.
والثاني: الحاجة الحاقة، فنذكر لكل قسم مثالاً، ثم نلحق به مواقع اللبس.
فالأب يزوج الصغيرة البكر استصلاحاً، من غير حاجة حاقّة، وكذلك يزوج البكر البالغة، وهي راغمة مبديةً إباءها وسخطها. ويزوج من ابنه الطفل استصلاحاً ونظراً، وإن لم تتحقق حاجة حاقّة إلى التمتع في حالة الصغر. وبناءُ الأمر على أن الحاجة وإن لم تكن، فالأب يتوقع كونها عند البلوغ، ويرى رأيه في الحال والاستقبال، ويرى له نظره لنفسه، ولا يخصص تصرفه بما ينتجز، بل ينظر في مغبّات الأمور على حكم الاستصلاح هذا مثالٌ في قسم.
ومثال القسم الثاني: أن الابن البالغ المجنون الذي طبق الجنون عليه، لا يزوج منه أبوه، إلا لحاجة داعية إلى التزويج، ناجزة في الحال، وهي التشوف أو طلب الشفاء، على ما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
والفرق أن الابن الصغير تمتُّعه استصواباً واستصلاحاً، مأمول عند بلوغه، فكان التزويج فيه مبنياً على ذلك، والابن البالغ المجنون لا منتهى لجنونه، والتزويج منه لا يقع موقع استصلاح، إلا إذا كان لدرء حاجة؛ على أن التزويج يلزمه مؤنة دارَّةٌ وغرماً في المهر متنجزاً؛ فكان هذا النوع من التزويج مبنياً على الحاجة.
7945- فإذا تبين القسمان، ألحقنا بهما ما نريد، فنقول: أما المجنونة البالغة إن كان يزوجها الأب، لم يعتبر في تزويجها تحقق الحاجة، بل يزوجها للمصلحة، كما يزوج الصغيرة للمصلحة؛ فإن في تزويجها كفاية مؤونتها، وإعفافها عما يتوقع من تشوفٍ إن كان.
وأما تزويج السلطان للمجنونة؛ فقد تردد الأصحاب فيه: منهم من لم ير له تزويجها مع الأخ إلا للحاجة؛ فإن نظره يقصر عما يتعلق به نظر الشفيق الذي هو على كمال الشفقة، ولذلك لم يل تزويج الصغيرة.
ومن أصحابنا من قال: يزوجها السلطان بما يزوج الأب به- وهو منهاج الاستصلاح.
ويبتني على هذه القواعد أمور، منها: أن الأصحاب اختلفوا في أن الأب هل يزوج الثيب الصغيرة المجنونة؟ وقد ذكرنا الآن التردد في تزويج الثيب المجنونة البالغة على الاستقلال، والسبب فيه أن الثيابة وإن كانت لا تَقْصُرُ شفقة الأب؛ فإنها تحط ولايته وتُثبت للمرأة استقلالاً، إن كانت بالغة عاقلة، وتثبت لها وجوب انتظار استقلالها إن كانت صغيرة؛ فمن هذه الجهة قَصُرَت ولاية الأب مع كمال شفقته.
وهذا يبتني على قاعدة مهدناها في الأساليب. وهو: أن النكاح من الأمور الجبلّية التي حقها أن يراجع فيها أصحاب الجبلات، فلا تُفوَّت حظوظهم فيها عليهم؛ فإذا كانت الثيب مجنونة، فلا استقلال لها ولا منتهى يُرْبَط به توقع استقلالها. وإذا كانت بالغة، فهي في مظنة الحاجة، وإن كانت صغيرة، فلا حاجة في الحالة الراهنة؛ فكان اختلاف الأصحاب في الثيب الصغيرة المجنونة لذلك.
وكنت أود لو استنبط مستنبط من الخلاف في تزويج الأب الثيب الصغيرة المجنونة خلافاً، في أنه هل يراعي حاجتها بعد البلوغ، ويزوجها للمصلحة؟ ولكن اتفق الأصحاب على أنه يزوجها للمصلحة. فليتأمل الناظر هذه الغوائل.
7946- ومما ينبني على قاعدة الحاجة والمصلحة؛ القول في عدد الزوجات. قال الأصحاب: لا يزوج الأب من ابنه المجنون إلا زوجة واحدة، بناء على أن التزويج منه مبني على الحاجة، والحاجة تنسدّ بواحدة، فليس من النظر له تكثير المؤن عليه مع الاكتفاء بالواحدة. وظاهر المذهب أنه يزوج من ابنه الصغير المميز أربعاً، إن رأى ذلك صلاحاً؛ فإن التزويج من الصغير مبني على الصلاح، لا على الحاجة.
وأبعد بعض أصحابنا، فمنع الزيادة على الواحدة، اجتناباً من ثقل المؤنة.
7947- والتزويج عند طلب السفيه؛ مما ظهر فيه الاختلاف بين الأصحاب.
فمنهم من راعى فيه الحاجة، كالمجنون البالغ؛ فإن السفه لا منتهى له يُرْقَب زواله، ومنهم من بنى التزويج على المصلحة؛ فإن من كانت له غريزة العقل، فيتوقع أن تحنكه التجارب ويرشد بعد الغي، وليس كذلك المجنون؛ فإن إفاقته بعيدة.
ثم قد يبتني على هذا الخلاف الزيادة على واحدة، ولكن السفيه يختص بأمر؛ وهو أنه لا يزوَّج ما لم يطلب، لما مهدناه في فصل المحجور. وقد قال الشافعي: "لو كان السفيه مطلاقاً، لم أزوج منه، وملّكته جارية يتسراها، ثم لا ينفذ إعتاقها".
فهذا منتهى الفصل.
7948- ونحن نختتمه بشيء، وهو أن الابن المجنون الصغير يجب أن يقطع بأنه لا يُزَوَّجُ منه؛ فإن التزويج من المجنون محمول على الحاجة، ولا حاجة في حق الصغير. وقد ذكرت في التزويج من الابن الصغير وجهاً لبعض الأصحاب، فإني ضممتُ الثيب الصغيرة المجنونة إلى الابن الصغير المجنون، ونظمتُ فيهما ثلاثةَ أوجه، كما تقدم. فلو كان على التزويج من الصغير المجنون معوّل، لاستنبطت منه أن التزويج من الابن البالغ المجنون مصلحة، ولكن لا أصل لذلك الوجه، وليس هو مما يعتد به، ولا يُلفى في الطرق إلا رمزاً. ومن صرح به زيّفه.
ولا ينتفع بأمثال هذا الفصل-مع ما فيه من تعارض الأصول الملْتَفَّة- من لم يأنس بكلامنا في مآخذ الشريعة، والله ولي التوفيق وتعميم النفع بهذا المجموع.
7949- ونحن نختم هذا الفصل بأمر كلي، فنقول: إن علقنا التزويج بالحاجة، فإن كان لصاحب الحاجة عبارة؛ رجعنا إليها، كالسفيه، وإن لم تكن له عبارة، كالمجنون، فالنظر إلى مخايل تشوفه وتوقانه.
وإن كان التزويج مبنياً على المصلحة، فذاك مربوطٌ بنظر الناظر، فلو زوّج المحكَّمُ في المصلحة على خلاف المصلحة، فقد أساء، وفي نفوذ تصرفه كلام، سأذكره في تزويج الأب ابنته ممن لا يكافئها.
وقد نجزت المسائل بما فيها.
7950- ثم إن المزني نقل فصولاً من كتبٍ لا تليق بهذا المجموع. ولو أردنا تقريرها، لم نتمكن منه في غير مواضعها، فلست أرى الزيادة على تراجم الفصول.
فمما ذكره: أن أب المجنون لا يخالع زوجته، ولا يضرب لامرأته أجل العنين، ولا يختلع ابنته المجنونة، وذكر أن نفقة المجنونة تسقط إذا امتنع على الزوج وقاعها بسبب جنونها، وذكر قذف الزوج زوجته المجنونة، وانتفاءه من ولدها باللعان، وما ذكره أصول الكتب، فكيف نخوض فيها؟
فصل:
قال: "وليس له أن يزوج ابنته الصغيرة عبداً ولا غير كفء... إلى آخره".
7951- هذا من أصول المذهب، وفيه نشرح الكفاءة ومعناها، والصفاتِ المرعية فيها، والمحالّ التي يجب رعاية الكفاءة فيها، فنقول، والله المستعان:
الكفاءة-على الجملة- تتعلق بمناقبَ وفضائل لا يأباها الدين، ثم الفضائل لا نهاية لها، واعتبارُ جميعها عسير، وليس معنا توقيف ناصّ على المعتبر منها دون ما لا يعتبر، فالوجه في ربطها تقريباً، أن نقول: الصفات المرعية ثلاثة أقسام: أحدها: يتعلق بالبرء عن العيوب التي تُثبت حقَّ فسخ النكاح، والحريةُ ملحقة بها، كما أن الرق ملحق بالعيوب.
والقسم الثاني- ما يجرّ شَيْناً، لو كان، وإن كان لا يتعلق به فسخ النكاح.
والقسم الثالث: ما يَشِين أصحابَ الفضائل على طريق النسبة والإضافة.
وبيان القسمين الآخرين بالمثال: أن الفسق يقدح في الكفاءة، وهو شيْن في حق الناس كافة، على اختلاف طبقاتهم.
ومثال القسم الثالث: النسب للقريب المتوسط؛ فإنه لا يعد شيناً، ولكن ذو النسب الرفيع يتعيّر بالاتصال بذي النسب الوضيع، فهذه القواعد الكلية.
ويجمعها تقسيم آخر أَوَّليّ، فنقول: هي منقسمة إلى ما يجر ضراراً أثبت مثلُه فسخاً، وإلى ما يجر عاراً وشناراً، لا يأبى الشرع التوقِّي منه.
ثم عدّ الفقهاء الصفاتِ المرعية، فقالوا: إنها خمسٌ، وفي السادسة خلاف: البراءة من العيوب، والحرية، والنسب، والحرف الدنيئة ونقيضها، والصلاح في الدين.
واختلف الأصحاب في اليسار والغنى، فمنهم من اعتبره في الكفاءة- وهذا ضعيفٌ، لا أصل له، ومنهم من لا يعتبره. والصحيح عندنا تنزيل هذا الخلاف على المسكنة ومِلْكِ بلاغٍ.
و لم يعتبر أحد من الأصحاب الجمالَ، ونقيضه في الكفاءة.
7952- والمناقبُ والمثالب، والفضائل والرذائل، لا نهاية لها. ولو أخذنا في اعتبار جميعها، لم ننته فيها إلى ضابطٍ؛ فالوجه النظر إلى ما قدمناه في التقاسيم.
ثم من أصول هذا الصنف؛ أن تكون مقتضية لحق الفسخ، وإن وُجِد معها من ضروب الفضائل ما وجد.
وهذا أصدق شاهد في أن الانتقاص بها لا يجبره شيء من الفضائل.
وكذلك نقص الرق لا يقابله فضيلة.
وأما القول في النسب؛ فلا اعتبار فيه بما يعتدُّ به بنو الدنيا، وإنما شرف النسب يثبت من ثلاث جهات: أحدها: الانتماء إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، و الاعتزاء إلى أرومته.
والثانية- الانتماء إلى العلماء؛ فإنهم ورثة الأنبياء.
والثالثة- الانتساب إلى أهل الصلاح والتقوى. واعتبارُ هذه الجهات الثلاث بشواهد الشرع وموجب العادات.
فأما الاعتزاء إلى القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خفاء باعتباره، وعليه بنى أمير المؤمنين عمرُ ديوانه في المرتزقة. والانتسابُ إلى العلماء يقرب من ذلك؛ فإنهم عصام الدين، وقوام الشريعة، وقد ربط الله عز وجل بهم حفظَ الملة، كما ربط بالأنبياء أصلها.
وأما الانتساب إلى الصالحين؛ فقد شهد له كتاب الله عز وجل، إذ قال عز من قائل في قصة موسى والخضر عليهما السلام: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].
فأما الانتساب إلى عظماء الدنيا-وجماهيرُهم ظلمة استولَوْا على الرقاب- فهم يُعَظَّمون رغبة ورهبة، والشرع بائحٌ بحط مراتبهم في الدين، فلا تعويل إذاً على أنسابهم، وإن كانوا قد يتفاخرون بها.
7953- وأما الحرف؛ فمنها الذي تدل ملابستُه على سقوط النفس، وحطيطةِ المروءة، والمعتبر في مثله العادات، ويختبر قدر الذي منها بملابسة القاذورات، وليس يحتمل هذا الموضع شرح ذلك، وسنستقصيه بما فيه كفاية، إن شاء الله عز وجل، ولا يمتنع أن تؤثر هذه الحرف في الأنساب؛ فإنها وإن كانت في الآباء، فهي تؤثر في أحساب الأبناء.
وإن قال قائل: لا خيار ولا اختيار فيها للأولاد، قلنا: هذا يعم جميع أبواب الأنساب، وأولى الصفات بالاعتبار العيوب والتبري منها، وليس منها للمتصفين بها اختيار.
وممَّا راعيناه في الباب التقوى والصلاح، والمعتبر فيه ما يقتضي التفسيق وما لا يقتضيه، ثم يعتبر ذلك نسباً، ويعتبر اتصاف الشخص به في نفسه. وإذا لم يكن تفسيق؛ فلا نظر إلى التفاضل في أسباب الصلاح؛ فإن سرها التقوى، ولا يطلع عليها إلا الله تعالى. وقد تكلمنا في اليسار ووجه الخلاف فيه.
7954- فإذا تمهدت هذه الأصول، رجعنا بعدها إلى الكلام في تقابلها، والنظر في جبران بعضها ببعض، فأما العيوب؛ فقد ذكرنا أنها لا تقابل بفضيلة، فلا يزوج الرجل ابنته ممن به أحد العيوب المثبتة للخيار، على ما سيأتي شرحها في بابها، إن شاء الله عز وجل، وإن كان الموصوف بشيء منها أكملَ البرية عقلاً وفضلاً ونبلاً ونسباً.
وكذلك لا يزوج ابنته من رقيق، وإن كان على فضائلَ جمة.
وأما شرف النسب؛ ففيه فضل نظر؛ إذ لا يعارض الانتسابُ إلى العلماء والصلحاء، الانتسابَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشجرته، والصالحون هم المرموقون بالصلاح المشهورون به، بحيث ينتصبون أعلاماً في التفرد ولا يُنسَوْن إلى تناسخ الدهر، فهؤلاء هم الذين يشرفون بالاعتزاء لهم. فأما الذين لا يبلغون هذا المبلغ، فلا تتأثر الأنساب بالانتماء إليهم. نعم، ما اعتبرناه في نفس الإنسان من رشاد وغيّ، وصلاح وفساد؛ فالمعتبر فيه التفسيق ونقيضُه، كما تقدم ذكره، حتى إذا انتهى نظر الناظر إلى المفاضلة بين المستور وبين المذكور بالعدالة، تبينا أن نظره خارج عن قاعدة الفصل، فلم نر قبل اليوم مراجعة المزكّين في تعديل من يعبتر خلافه في الكفاءة، وإنما اعتبرنا الاشتهار في جهة الانتساب، لما قدمنا ذكره من أن الإنسان يشرف محله وينبل قدره بان ينتسب إلى مرموق في التقوى والدين.
وهل تُجبر حطيطةٌ إن كانت في النسب بالصلاح الحاصل في الخاطب؟ هذا مما تردّد فيه الأئمة: فمنهم من رأى الجبر بذلك، وتعلق فيه بآثار منها: ما روي أن عبد الملك بن مروان خطب ابنةً لابن عمر، وأرسل إليه في مفاوضة بذلك رجلاً صالحاً من الموالي، فدخل المسجد، وصلى ركعتين، وأحسن أداء أركانها وبنيانها، ثم افتتح الخِطبة وأدى الرسالة، فقال ابن عمر: لا رغبة لي في عبد الملك، فإن أردتها لنفسك فخذها، فقد أحسنت أداء أمانة الله، ونظائر ذلك كثيرة.
وقد روي أن عمر بن الخطاب همّ أن يزوج ابنته سلمان الفارسي، فتداخل عبد الله من ذلك شيءٌ، على ما قدمنا ذكر ذلك. ثم الصلاح الذي يعارض النسب، صلاح ظاهر يثبت للموصوف به حكم التميز من الأضراب؛ إذ لو لم يكن كذلك، لما عارض نسباً معتبراً.
ومن أئمتنا من لم ير جبر النسب بالتفاوت في الصلاح؛ فإن النسب من أصل الكفاءة، حتى إذا ذكرت الكفاءة، لم تبتدر الأفهام إلا إلى الأنساب؛ ولهذا يثبت حق الاعتراض للمولَّيْن بالأنساب.
وأما الحرف الدنيئة ونقائضُها؛ فإنها تعارض الصلاح وفاقاً، ولا أثر لها في معارضة الأنساب إجماعاً بين الأصحاب؛ فإن الأمر فيها قريب، ومعتمدها عادةٌ محضة، حتى إذا اطّردت، دلّت ملابستها على سقوط النفس، وإلا فالكلام مفروض في حِرف تحل ملابستها، ولو ضربنا حجراً على من يلابسها، لاحتاج إلى معاناتها كثير من الخلق، وقد امتن الله تعالى على عباده بأن نزّلهم على منازل متفاوتة وقنّع كلاً بمنصبه، وما هو بصدده، فقال عز من قائل: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] وقال الحليمي في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: «اختلاف أمتي رحمة» قال: أراد بذلك اختلافهم في الدرجات والمراتب والمناصب.
نجز القول في الحِرف وما يتعلق بالمروءات.
وأما اليسار؛ إن اعتبرناه، فيعارضه كل خصلة معتبرة في خصال الكفاءة.
وقد انتجز هذا الفن.
7955- ونحن نأخذ الآن في ركن آخر من الفصل، فنقول: هذه الصفات المعتبرة في الكفاءة تنقسم؛ فمنها ما يعتبر في جانب الزوج والزوجة جميعاً، وهي العيوب والرق؛ فكما لا يزوّج الرجل ابنته من أبرصَ ومجنون ومجذوم ومجبوب، كذلك لا يزوج من ابنه مجذومة ولا مجنونة ولا برصاء ولا قرناء ولا رتقاء؛ فإن هذه العيوب تُثبت حق الفسخ من الجانبين، فكانت معتبرة فيهما.
ولو زوّج مَنْ بها عيب من هذه العيوب، ممن به عيب منها: نُظر؛ فإن اختلف جنس العيب، لم يختلف أصحابنا في المنع، وهذا كتزويج برصاء من مجنون أو مجبوب. وإن اتفق جنس العيب، فزوّج برصاء من أبرص؛ ففي جواز ذلك وجهان: وقد اختلف أصحابنا في ثبوت الخيار في مثله، كما سيأتي موضحاً في باب العيوب، إن شاء الله عز وجل.
والتزويج من الرقيق لا يحتمل أيضاًً، وتزويج الرقيقة من الطفل لا يجوز أيضاًً؛ فإن نكاح الأمة مشروط بخوف العنت، والطفل لا يتصف بذلك.
وأما ما يعتبر في أحد الجانبين؛ فهو ما عدا العيوب والرق، فليس للرجل أن يزوج ابنته قهراً، ويحتمل فيها خسة في نسب الخاطب، أو خصلة أخرى معتبرة.
ولو أراد أن يزوج من ابنه الطفل-وهو على شرفٍ من النسب، وكريم من الحسب- خسيسةً؛ فالذي صرح به الأئمة أن ذلك جائز؛ فإن الذي عليه التعويل في الباب العار والتنقي منه. والكريمة تتضع ويخس نسبها إذا تزوجها خسيس، ولا عار على الكريم بنكاح خسيسة؛ فإن المنكوحة مفترشة، في حكم المُهانة بالافتراش، فلا عيب على المفترِش من نقصانها. نعم، ما ذكرناه في العيوب من باب الضِّرار، لا من باب العار.
وذكر شيخي أن من أصحابنا من اعتبر هذه الصفات من جانبها أيضاًً، ومنع أن يزوج الرجل خسيسة من ابنه الكريم واعتل بأن الإنسان قد يتعير بخسة خليله، وقد ينظر لأولاده إن كانوا، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخيروا لنطفكم» وهذا يمكن توجيهه على حال، ولكنه بعيد في النقل. ولولا أني وجدت في نص الشافعي في تفريع الغرور بالنسب شاهداً على اعتبار النسب من الجانبين، كما سيأتي ذكر ذلك، لما عددت هذا من المذهب.
7956- فإذا ظهر بما ذكرناه القواعد المرعيّة في الكفاءة، ابتدأنا بعد ذلك صنفاً من الكلام، وقلنا:
إذا زوج الرجل ابنته السليمة ممن به عيب من العيوب، فالأصح الذي كان يقطع به شيخي: أن النكاح باطل؛ فإنَّ تصرّف الأب في حق ولده الطفل مقيد بشرط النظر؛ وإذا كان تصرفه في ماله مردود بعلة الغبن، فلأن يُرَدَّ في نفسه على خلاف النظر أولى.
وذكر العراقيون وغيرهم من الأئمة قولاً آخر، أن التزويج يصح وينفذ، وفرضوا القولين في تزويج السليمة من المعيب، وإذا جرى القولان في ذلك، لم يشك الفقيه في جريانهما في سائر خصال الكفاءة.
أما وجه المنع؛ فلائح، وأما وجه التزويج، فالممكن فيه على خفائه، أن الغرض من التزويج أمور خفية لا تضبط، فليكن الأمر فيه موكولاً إلى الأب الشفيق، الذي هو من أهل النظر. وهذا مذهب أبي حنيفة.
ثم قال العراقيون: إن قلنا: لا يصح النكاح، وهو المذهب الأصح، فلا كلام.
وإن قلنا: يصح، فهل للأب أن يتلافى عقده، فيفسخَه، إذا كان زوّج ابنته السليمة من معيب؟ فعلى قولين، وكذلك إذا زوّج من ابنه الصغير السليم امرأة بها أحد العيوب، هذا ما ذكروه. وللنظر في هذا مجال، فيجوز أن يقال: التردد في خيار الأب، فيه إذا فعل من غير علم منه بحقيقة الحال، فأما إذا أقدم على العقد عالماً بالعيب، فلا خيار له ولا مستدرك.
ويجوز أن يقال: له حق التلافي، وإن أنشأ العقد على علم، فإنه يتلافى لغيره، وإنما كنا نلزمه حكم علمه لو كان عاقداً لنفسه، فالتفريع على الأصل البعيد يحمل على النأي عن مدارك المذهب؛ فإن هذا يؤدي إلى ثبوت نكاح مع استمرار الخيار فيه، وما عندي أن ذلك يحتمل. فالوجه القطع بتخصيص حق التدارك بحالة الجهل، وإنما ردَّدت قولي في ذلك لفحوى كلام العراقيين.
7957- ثم ما يتفرع على هذا، أنا إذا صححنا النكاح على خلاف النظر من الأب، فإذا بلغت المرأة، فهل لها حق الفسخ؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا خيار لها، وعقد الأب يلزمها، ويلزمها الرضا بموجبه. وهذا مذهب أبي حنيفة.
ومن أصحابنا من قال: لها الخيار وإن حكمنا بانعقاد العقد حتى تستدرك ما يلحقها من الضرار.
ولو اشترى الأب عبداً معيباً بثمن مثله لطفله، ثم بلغ الطفل، واطلع على العيب، لم يثبت له حق الخيار؛ فإن حظ المالية ثابت لا نقصان فيه.
وما ذكره الأصحاب في العيب، لم يذكروه في حطيطة النسب، والقول فيها يحتمل؛ من جهة أن ما يكون عيباً، ليس مما يُثبت حق الفسخ على الجملة. والوجه عندي؛ أن نضم العيوب إلى غيرها من خصال الكفاءة، ونطرد فيها أوجهاً:
أحدها: نفي الخيار عموماً.
والثاني: إثباته.
والثالث: الفرق بين العيوب وبين غيرها من الخصال المعتبرة، فإن الأب لم ينظر لها، وهذا يضاهي ثبوت الخيار بسبب التغرير بشرف النسب، مع اختلاف الشرط فيه على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
ولو اكتفينا بما هو أصل المذهب، ومنعنا انعقاد النكاح، لاستغنينا عن هذه الوجوه البعيدة.
7958- ومما يليق بهذا المنتهى-وهو من أسرار المذهب- أنا منعنا التزويج من غير كفء، فلو اتفق ذلك من الأب على علم، فالعقد باطل، وإن لم يعلم الأب حقيقة الحال، ثم بان أن عقده لم يصادف كفئاً، أو جرى مشتملاً على عيب مثبتٍ حقَّ الفسخ؛ فالذي نرى القطع به: أنا إذا أثبتنا ذلك، بنينا عليه تَبيُّنَ فساد العقد؛ فإن الظنون لا تغير شرائطَ العقود؛ فإذا كنا نشترط في عقد الأب موافقةَ النظر، وظننا أنه وافقه، ثم بان لنا خلافه، فنتبين فساد ما كنا نظن صحته؛ فإنا لم نَبْن الحكمَ بالصحة إلا على ظن حصول الكفاءة، ظناً مشروطاً.
وهذا يناظر ما لو باع الوكيل ما وُكِّل ببيعه مطلقاً بما حسبه ثمنَ المثل، فإذا تبين أنه لم يكن ثمن المثل، بأن فساد العقد. وكذلك الولي المتصرف في المال، إذا ثبت منه عقدٌ على نحو ما ذكرناه، فالجواب ما قدمناه.
و لو اشترى الوكيل لموكله شيئاً، ثم فرض الاطلاع على عيب، فكان المشترَى يساوي الثمن المبذول مع ما به من العيب، فالملك يقع للموكل، وله حق الخيار في الفسخ والإجازة؛ فإنا نجعل شراء الوكيل في هذا المقام كشراء الإنسان لنفسه.
ومن عجيب ما يجري في هذه المسالك؛ أن الإنسان إذا اشترى شيئاًً، وبان كونه مغبوناً فيه، لم يثبت له حق الفسخ بالاطلاع على الغبن. ولو كان مغبوطاً، وكان المبيع يساوي أضعاف الثمن، ولكنه اطلع على عيب قديم، فله حق الفسخ.
والوكيل إذا اشترى لموكله بغبن، لم يصح عن الموكل، وإذا اشترى من غير غبن لموكله معيباً، وقع الملك للموكل، وله الخيار. وسنُجري سر ذلك-إن شاء الله تعالى- في أثناء الكلام.
7959- وإذا كان التزويج موقوفاً على إذن المرأة، فأذنت لوليها في أن يزوجها من كفء، وجوزنا الإذن من غير تعيين الخاطب؛ فإذا زوجها ممن لا يكافئها؛ فالنكاح باطل؛ فإن الإخلال بالكفاءة في النكاح يضاهي العقد على غبن في المعاملات؛ فإن هذه الخصال المرعية بمثابة اعتبار المالية في البيع.
ولو عيّنت لوليها زوجاً، وقالت: زوّجني منه، فزوّجها، وكانت على ظن الكفاءة، ثم بان عيبٌ بالزواج يُثبت الخيار، فنحكم بانعقاب النكاح الآن؛ فإن النكاح اعتمد تعيين المرأة، فانعقد، ثم إن فسخت، فذاك. وإن رضيت، فهل للولي حق الفسخ؟ هذا فيه كلام، وخبط عظيم، سيأتي مشروحاً في باب الغرور، إن شاء الله تعالى.
ولو بان أن المعيّن ليس كفئاً في النسب، ولم يثبت عيب من العيوب؛ فالمذهب الذي عليه التعويل: أنه لا يثبت حق الخيار، وفيه شيء سنذكره في باب الغرور، إن شاء الله عز وجل.
7960- وقد نص الشافعي على أن من نكح امرأة، حسبها حرة، فبانت رقيقة؛ فلا خيار له. ولو نكح امرأة ظنها مسلمة، فبانت كتابية، قال: له الخيار. وللأصحاب تصرفٌ في النصين؛ وإنما ذكرت هذا القدر تنبيهاً على أن ما نحن فيه محل التصرف، والاستقصاءُ محال على باب الغرور؛ إن شاء الله عز وجل.
7961- ومن لطائف المذهب؛ أن الموكل بالبيع مطلقاً، إذا باع بغبن، عالماً به أو جاهلاً؛ فالبيع فاسد لا خيار في إجازته، والموكل بالشراء إذا اشترى الشيء بأكثر من ثمن المثل؛ فالمذهب أن الملك لا يقع للموكل، وإن رضي به، بناء على القاعدة التي ذكرناها، ورأيت لبعض الأصحاب وجهاً في أنه لو رضي به، جاز على شرط الخيار، ولست واثقاً بهذا الوجه، ولو صح، فالمعتمد فيها: أن الأمر بالشراء مطلق، وهو متناول للشراء بالغبن والغبطة في وضع اللسان، غير أنا خصَّصْنا مُطلق اللفظ بالعادة، كما قررناه في الأساليب، ثم مما لا ينكر في العادة رضا الموكل حملاً على حكم العموم، فهذا توجيه هذا الوجه، إن صح النقل فيه.
والولي إذا اشترى أو باع بغبن، فلا جواز له؛ فإن الغبينة لا تحتمل في تصرفات الأولياء؛ فإن المعقود له ليس من أهل الخيار حتى يوقف العقد على رضاه، وليست عقود الولي متلقاة من لفظ يعم أو يخص.
فصل:
قال: "ويُنكح أمةَ المرأة وليُّها بإذنها... إلى آخره".
7962- نصدر هذا الفصل ببقية من أحكام الكفاءة في حق الإماء، فنقول: ليس للسيد أن يزوّج أمته ممن به عيب من العيوب المثبتة للخيار، إلا أن ترضى إذا كانت من أهل الرضا، فإن لم ترض أو كانت صغيرة، لم ينعقد النكاح، فإن حظ الأمة يُرعى في النكاح، ويثبت لها حق القَسْم، ويسقط-بإسقاطها- حقُّها من القَسْم، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
فإن رضيت بمعيّن، فزوّجها سيدها منه، ثم اطلعت على عيب، فلها الخيار، فإن أجازت العقد، لم يثبت للسيد معترض.
ولو باع أمته ممن به العيوب، فالبيع نافذ، فإنه لا يُرعى في البيع حظها، ولهذا لا يثبت لمملوكةٍ حظٌّ في قَسْم.
وإذا حكمنا بصحة العقد، فهل لها الامتناع من تمكين السيد المعيب؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: ليس لها ذلك، فإنها مقتهرة بالملك والرق، وإذا لم يثبت لها حق، فلا يثبت لها منصب التخيّر والامتناع.
والوجه الثاني- أن لها أن تمتنع؛ فإن المثبت لحق الفسخ ما يفضي إليه العيب من العيافة والضرار الذي يداخل الجبلات والنفوس، وهذا المعنى يتحقق في الأمة تحققه في الحرة، على أن الوطء في ملك اليمين نزل منزلة النكاح نفسه.
وذكر بعض أئمة الخلاف أن الأمة مجبرة على التزويج ممن به العيوب، ولا خيار لها، وهذا وإن أجريناه في مسائل الخلاف- لا نرى عدّه من المذهب؛ فالأصل الذي دل عليه النص، واتفق عليه حملة المذهب، ما قدمناه من وجوب رعاية حقها في العيوب، والله أعلم.
7963- ثم إن كان للمرأة أمة؛ فلا شك أنها لا تتولى تزويجها، ولكن يزوج أمتها من يزوجها، والمرعي إذنُ المالكة، كما تقدم ذكره.
وذكر صاحب التلخيص أن ولي المرأة لا يزوّج أمتها؛ فإنه لا يملكها ولا يليها، وليس بينه وبينها نسب ولا سبب، ثم قال: إذا أرادت المالكة تزويج الأمة، رفعت الأمة إلى السلطان، فيزوجها بإذن المالكة، وعدّ هذا من منازل تزويج السلطان، وقد اتفق الأصحاب على تغليطه فيما ذكر، وأجمعوا على أنه يزوج أمتها وليُّها.
وقياس ما قال صاحب التلخيص أن يطّرد هذا في معتقة المرأة، ويقال: لا يزوجها إلا السلطان؛ فإن الولاء إنما يثبت للمرأة المعتَقَة، ولا يثبت التصرف لأوليائها في حياتها ما دامت حية، وهذا لا سبيل إلى عدّه من المذهب.
7964- ومما يتعلق بذلك؛ أن الولي على الطفل أو السفيه، لو أراد أن يزوج جاريته، أو يزوج من عبده، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن ذلك يجوز؛ إذ قد يُفضي نظرُ المصلحة إليه، ولهذا يلي تزويجَ ابنته والتزويجَ من ابنه.
والوجه الثاني- أنه لا يزوج الأمة، ولا يزوج من العبد؛ لأن تزويجها ينقص قيمتها، والتزويج من العبد يشغل عن كسبه، ويعرضه لنزف القوة؛ فليس التزويج منهما من مصالح الملك؛ وإنما هو مصلحتهما في أبدانهما؛ وحق الولي أن يرعى في مال الطفل مصلحةَ المال، لا مصلحة أبدان العبيد والإماء.
والوجه الثالث: أنه يزوج الأمة ولا يزوج من العبد؛ لأن في تزويج الأمة إسقاط مؤنتها، وفي التزويج من العبد شَغْل عن كسبه.
ثم إن جوزنا للولي أن يزوج جارية الطفل؛ فإنه يزوج جارية الثيب الصغيرة وإن كان لا يزوجها؛ فإن تزويج الأمة-إذا قيل به- تصرفٌ بحق ولاية المال، والولي يلي مال الثيب الصغيرة، وإن كان لا يلي بضعها.
ولا يزوج الأب جارية البكر البالغة قهراً، وإن كان يجبر المالكة؛ لأنه لا يلى مالها، وإن كان يلي نفسها، ولكن لو أذنت لأبيها في التزويج، زوّجها حينئذ.
7965- واختلف أصحابنا في أن أخ البكر إذا كان يزوّجها، هل يكتفى بصُماتها عند المراجعة؟ ولم يختلفوا أنه لا يكتفى بصمتها في تزويج أمتها؛ فإن سبيل تزويج الأمة سبيلُ التصرفات المالية في الوجوه كلها.
والسلطان إذا كان يلي مال الصغيرة، فالذي يقتضيه هذا القياس، أنه يزوج أمتها بحق النظر في المال؛ طرداً للقياس الذي مهدناه. فهذا ما يتعلق بالغرض في هذا الفصل.
7966- وقد انتظم من مجموع هذه المسائل أنه يجتمع في الأمة تزويجُها من جهة حُكم التصرف في الأملاك، ورعايةُ حظّها في التزويج: أما حكم الملك، فبيّن؛ فان تزويجها يصادف مملوكاً منها، ولذلك تُجبر ولا تراجع، أما رعاية حظها، فيشهد لذلك امتناع تزويجها ممن به أحد العيوب المؤثرة، ثم ثبوت الحق لها في النكاح يشهد لذلك.
والذي يقتضيه الفقه تمحيض حق السيد في تزويجها؛ فإنها مملوكة، والمتصرف فيها بالملك متسلط تسلط الملاك، ولكن لا يجوز الإضرار بها في تزويجها، ومن الإضرار بها أن تزوج ممن به أحد العيوب؛ وعن هذا قال بعض أصحابنا: لها أن تمتنع عن مالكها المعيب بالبرص والجذام، أو ما في معناهما.
وأما تزويجها، فيقع بمحض الملك من المالك، وبحق التصرف في المال ممن يلي المال ولا يلي البضع. وقد يقع التزويج من غير ملك، وذاك فيه ثبوت ولاية؛ فإن ولي المرأة يزوج أمتها بإذن المالكة، وإن لم يكن وليَّها في مالها، ولكنه يزوجها بحق ولايته على نفس المالكة، وفي هذا المقام قال صاحب التلخيص: إنه لا يزوجها؛ إذ لا ملك له عليها ولا ولاية؛ ويزوجها السلطان بحكم الحاجة.
ولو قال قائل: ولايته في التزويج في محل تحقق الحاجة، لكان قوله سديداً؛ ولذلك يلي حيث لا ولي، وهو المعني بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «السلطان ولي من لا ولي له». وفحوى الحديث دال على أن تزويجه ليس على حقيقة الولاية؛ ولذلك يزوج بالنيابة القهرية في العضل والغَيْبة، فتزويج الأمة ومالكتها مُطْلَقَةٌ-عندي- ينزل منزلة الحرة المجنونة، والعقد دائر بين أخيها والسلطان؛ فإن الأخ يبعد أن يزوج مُجبِراً، والسلطان يبعد أن يلي مع الأخ. ولكن يقع تزويجها بحكم الحاجة، وتردد الأصحابُ في أن الولي، السلطان أم الأخ؟ فهذا منتهى القول في ذلك.
ولتردد تزويج الأمة بين الولاية والملك التفت بعض أصحابنا إلى اشتراط صفات الأولياء في المالك المطلق المزوّج لأمته، حتى قال: الفاسق لا يزوج أمته، إذا قلنا لا يلي الفاسق، وهذا غلط صريح؛ فإن تزويج السيد أمته بمحض الملك، وإنما يتردد الرأي في تزويج ولي المرأة أمتها. نعم، إن ظن ظان ذلك؛ من ثبوت الحظ للأمة في التزويج، فله وُجَيْهٌ على البعد؛ فإنا أوضحنا أن حظ الأمة اندفاع الضرار عنها.
7967- ومما أريد استتمام الفصل به؛ أن من نكح الأمة ثبت له حق استحلالها عموماً، ولكنه مزحوم بحق الموْلى في المنفعة، وليس الحِلّ منقسماً على الزمان، وإنما هو عام، ولكن السيد مقدم بحق المنفعة، فلو ترك السيد حقه من المنفعة، فحق الزوج في الاستحلال مطّرد، ولو انتهز الزوج فرصته في أثناء مدة انتفاع السيد واستمتع على وجهٍ لا ينقُص حقَّ الانتفاع، فلا بأس، وقد صادف مستمتَعاً مباحاً.
ولو كان انتفاع السيد بحرفة الأمة، وكان يتأتى منها الاحتراف بها في دار الزوج، فالذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أن السيد لا يكلَّفُ تسليمها إلى الزوج ليلاً ونهاراً، لتحترف عنده.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه أوجب تسليم الأمة إلى زوجها، إذا كانت على الصفة التي ذكرناها، وزعم أنا لو فعلنا ذلك كنا جامعين بين حق الزوج وبين حق الولي، وذكر أصحابنا نظير ذلك في الرهن، فقالوا: إذا رهن المالك عبده، وكانت منفعته في حرفة، فهل يجب تسليمه دائماً إلى المرتهن، ليحترف في يده، أم للسيد أن يرده إلى يد نفسه، ليحترف في يده؟ فيه الخلاف الذي ذكره.
والذي ذكره أبو إسحاق فيه إذا أراد السيد المزوِّج حمل الجارية على الاحتراف؛ وأراد الراهن حمل العبد المرهون على الاكتساب بحرفته، فأما إذا أراد السيد أن يستخدمها في وجهٍ آخر، فلا يمنع منه. والذي ذكره الأصحاب في الرهن أوجَه مما ذكره أبو إسحاق في الزوجية؛ إذ لا خلاف أن الراهن لو أراد المسافرة بالعبد المرهون بحق انتفاعه، لم يكن له ذلك، وللسيد المسافرة بالأمة المزوّجة. وذلك لمعنىً؛ وهو أن اليد ركنٌ في الرهن، ولا ينكره منصف؛ إذ الغرض من الرهن التوثق، وهذا المعنى إنما يحصل باختصاص المرتهن باليد في متعلّق الوثيقة، وليست اليد متأصلة في الزوجية أصلاً.
7968- ومما يتم به غرض الفصل؛ أنا قدمنا أن السيد لو كان لا يسلم الأمة في مدة الفراغ من العمل، ويقول للزوج: أُمَوِّلُك موضعاً من داري، فاستَخْلِ بها فيه، واستوف حقك منها، وأبى الزوج إلا أن تسلّم إليه في نوبة الفراغ، فمَن المجاب منهما؛ فيه اختلافٌ قدمته. وهذا يشير إلى أن حق السيد يبقى في اليد، وإن انتجز حقه في الانتفاع. والذي ذكرناه الآن يشير إلى تسليم الجارية في نوبة العمل، حتى تحترف في يد الزوج، وهذا يتضمن طرد اليد للزوج في زمن الانتفاع أيضاًً.
وإن أردنا الجمع بين الطرق، كان الوجه فيه أن نقول: اختلف الأصحاب في وجوب تسليمها إلى الزوج في مدة الفراغ، فإن لم نوجب تسليمها إليه في مدة الفراغ، فهل نوجب تسليمها إليه في مدة العمل، إذا كان ذلك لا يؤدي إلى تعطيل حق السيد من المنفعة؟ فعلى وجهين. هذا ترتيب الكلام.
فإن قيل: إن كان للمرتهن غرضٌ في استمرار يده في مدة اكتساب العبد بحرفته، وهو دوام التوثيق، فأي غرض للزوج في استدامة يده على الزوجة، وهي دائبة في العمل، على وجه لا يتصور للزوج في تلك المدة مستمتَع؟ قلنا: قد تُفرض فرصة، ثم لا يَكرهُ مستمتِعٌ النظرَ والمؤانسة، وآية ذلك أن التعويل في القَسْم على المؤانسة وإمكان الوقاع؛ لا على صدوره.
فصل:
قال: "وأمة العبد المأذون له في التجارة... إلى آخره".
7969- القول في تصرف السيد في المال المسلّم إلى المأذون سبق مستقصىً في مسائل المأذون، والمقدار المتعلق بهذا الموضع تزويجُ الأمة في يد المأذون.
فالقول الوجيز فيه؛ أن التزويج تنقيصٌ، وهو في ترتيب المذهب نازل منزلة التبرع بجزء من المال، أما العبد؛ فلا يملك الاستقلال به؛ لأنه مأذون له في التجارة، وأما السيد؛ فتزويجه نافذ إن لم يركب العبد دينٌ، وإن ركبه دين وحجر عليه لمكانه، لم ينفذ تزويج السيد بعد اطّراد الحجر على المال الكائن في يد المأذون، فإن لم يُحجر عليه؛ فالتزويج من السيد ينفذ بإذن العبد والغريم وفاقاً؛ إذ لا حجر. والحق لا يعدوهم.
وإن زوج بإذن العبد دون الغريم، ففي المسألة وجهان بسبب انتفاء الحجر، والتصرف يتعلق بالعبد والسيد، فيصيران بمجموعهما كحر، في يده مال وعليه ديون، فإنَّ تصرفه ينفذ في ماله قبل اطراد الحجر عليه. ومن منع؛ أشار إلى كون المال متعلقاً للدين على الاختصاص، ومال: الحرُّ ليس متعلَّقاً للدين. هذا إذا كان التزويج من السيد بإذن العبد.
فلو وقع التزويج من السيد بإذن الغريم من غير مراجعة العبد، فهل يصح التزويج؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يصح؛ إذ لا ملك للعبد، وأصحاب الحقوق رضوا بالنقص الذي جرى.
والثاني: لا يصح، وهو الذي اختاره القفال؛ لأن العبد يقول: إذا بقي دين أو شيء منه، كنت المطالَب به إذا عَتقت، والاحتكام على ذمتي، وإنما التزمت من الدين ما التزمته تعويلاً على أدائه، ممّا سلّمه إليّ. ومأخذ هذا الخلاف الأول، النظر إلى عدم الحجر، والتشبيه بالحر المعسر، على ما مضى، وهما مأخذان مختلفان لا تعلق لأحدها بالثاني.
7970- ثم ذكر الشافعي فصلاً في شرائط النسب في النكاح مع اختلاف الشرط، والقول في هذا يتعلق بالغرور. وبين أيدينا باب معقود فيه، فرأيت تأخير هذا الفصل إلى ذلك الباب؛ حتى تُلْفَى قضايا الغرور منتظمة في مكان واحد.
وعقد الشافعي باباً مضمونه في أن المرأة ليست لها عبارة النكاح. وتكلم في الباب على أثرٍ لعائشة، وليس شرط هذا المجموع التعرض له.