فصل: باب: ما يحل من الحرائر ولا يتسرى العبد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يحل من الحرائر ولا يتسرى العبد:

قال الشافعي: "انتهى الله عز وجل بالحرائر إلى أربع... إلى آخره".
7983- كان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيد على الأربع. واختلف أصحابنا في أنه هل كان يجوز له الزيادة على التسع؟ وقد تقدم ذكر ذلك في خصائصه.
فأما من سواه؛ فللحر أربع من الحرائر بلا مزيد، والعبد ينكح اثنتين، وذهب بعض الشيعة إلى إحلال التسع لكل أحد، ولا مبالاة بخلافهم، والدليلُ على انحصار المستحلات في أربع: حديث غَيْلان ونوفل، كما سيأتي ذكره في نكاح المشركات، إن شاء الله عز وجل، وما أظهره هؤلاء من الخلاف مسبوق بالإجماع المنعقد قبلهم.
ثم قال الشافعي: "والآية تدل على أنها على الأحرار... إلى آخره".
7983/م- قصد بذلك الرد على مالك؛ فإنه جوّز للعبد أن ينكح أربعاً، كالحر، والشافعي قال: الآية الدالة على الحصر واردة في الأحرار، بدليل قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 3]، وهذا في الأحرار، وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء: 3] وكل ذلك يليق بالأحرار. وقال عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوه} [النساء: 4]. وذهب الخلفاء الراشدون إلى مثل ما ذهبنا إليه، وهو مذهب عبد الرحمن بن عوف، وقال الليث بن سعد: "قال الحكم: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا ينكح إلا اثنتين".
7984- ثم قال: "وإذا فارق الأربع تزوج مكانهن... إلى آخره".
وقصد بذلك الرد على أبي حنيفة، فمذهبنا أن من أبان امرأة؛ إما بأن خالعها، أو طلقها ثلاثاً، وجرت في العدة، حل للزوج أن ينكح أختها، وأربعاً سواها، ولا أثر لبقائها في العدة، خلافاً لأبي حنيفة.
ولو طلق امرأته طلقة رجعية، لم ينكح أختها ما دامت في العدة، ولا أربعاً سواها. وهذا صحيح؛ فإن الرجعية زوجة. وستعود هذه المسألة بأطرافها وحقائقها، إن شاء الله عز وجل.
7985- قال: "ولو قتل المولى أمته، أو قتلت نفسها، فلا مهر لها... إلى آخره".
الأمة المنكوحة إذا قتلها سيدها قبل التسليم إلى الزوج، وقبل إلمام الزوج بها؛ فالترتيب المشهور في المذهب ما نطرده أولاً، ثم نذكر بعده قولَ بعض الأصحاب، وحقيقةَ الفصل، فنقول: إذا قتل السيد أمته قبل التسليم، فظاهر المذهب-وهو المنصوص عليه- أنه يسقط مهرها في هذه الصورة، ثم ذكر أصحابنا في ذلك علّتين، تجريان مجرى حدّين، ينشأ عنهما الوفاق والخلاف.
فمنهم من قال: إنما يسقط المهر؛ لأن المقصود بالعقد قد فات قبل التسليم، فأشبه فواتَ المبيع قبل القبض.
ومنهم من قال: علة السقوط الفواتُ قبل التسليم، كما ذكرناه- مع خصلة أخرى، وهي: أن الساعي في تفويتها مستحق المهر؛ فعلى هذا لو قتلت الأمة نفسها أو ماتت حتف أنفها، أو قتلها أجنبي قبل التسليم فإن عللنا بالعلة الأولى، فيسقط المهر، وإن قيّدنا بصدور التفويت من المستحق، فالمهر لا يسقط في هذه الصورة.
فأما الحرة المنكوحة إذا ماتت أو قتلها أجنبي؛ فيستقر مهرها وفاقاً؛ وذلك أنها كالمسلّمة بنفس العقد، بخلاف الأمة، ولم يصدر منها انتساب إلى التفويت.
فأما إذا قتلت الحرة نفسها قبل التسليم؛ ففي سقوط مهرها حينئذ وجهان، من جهة انتسابها إلى التفويت. هذا هو الترتيب المشهور.
وفي أصل المسألة قول آخر، وهو: أن الأمة وإن قتلها سيدها، لم يسقط مهرها، وهذا وإن كان مخالفاً للنص، فهو قول منقاس، جارٍ على موجب نكاح يقبله المحقِّقون، ولم يرَوْا بين الحرة والأمة فصلاً.
7986- وقد حان أن نذكر حقيقة الفصل، فنقول: القياس الكلي الجاري على القواعد، أن فوات المستَمتَع من المنكوحة يتضمن سقوطَ المهر كيف فُرض الفوات.
وهذا تستوي فيه الحرة والأمة، قياساً على فوات المبيع قبل القبض، وقياساً على انعدام الدار قبل مضي المدة المضروبة.
ولكن اتفق المسلمون على أن النكاح في الحرة ينتهي نهايتَه بموتها، ولهذا يتعلق به الميراث. وهذا القياس يوجب الحكم بقرار المهر، ولا نظر إلى صورة الاستمتاع بعد ما ذكرناه من تصرّم العمر، وهو منتهى النكاح، وليس في النكاح ماليّة معتبرة في جانب المنكوحة، حتى يفرض فوات، وهذا في حكم النكاح يحتكم على العلة الكلية؛ فإن ما ينشأ من خاصية العقد، أولى بالاعتبار، فهذا هو المعنيّ بقول الأصحاب: الحرة المنكوحة مسلَّمة بنفس العقد. وليس للحرة بهذا حقيقة التسليم؛ فإن لها أن تمنع نفسها حتى يتوفر عليها صداقها، كما يحبس البائع المبيع- على قولٍ- حتى يتوفر عليه الثمن كَمَلاً، ولكن المراد بما ذكروه: إذا ماتت أو قتلت، فهذا بمثابة التسليم التام فيما يراعَى التسليمُ فيه. هذا قولنا في الحرة.
فأما الأمة، فظاهر القياس فيها أنها كالحرة؛ فإن النكاح فيها مربوط بالعمر كنكاح الحرة.
وذهب ذاهبون إلى الفرق بين الأمة والحرة؛ من جهة أن يد السيد ثابتة على الأمة، ولهذا يقدَّم السيدُ بحق الانتفاع، فإذا انتجز حقه، ودخل وقت الدَّعة، فإذ ذاك لا يُمنع الزوج منها، فلا تمتنع والحالة هذه، وقد ضعف حق الزوج؛ إذ الحد الذي وصفناه، أن يقال: نكاح الأمة لا يصيّرها مسلّمةً بنفس العقد، بل الأمر موقوف فيها على ما يبين من تسليم السيد ومنعه. وهذا لسنا نرى الإطناب فيه؛ فإنه ليس مفضياً إلى تحقيق، مع ما ذكرناه من استواء النكاحين في الحرة والأمة، في أن كل واحد منهما معقودٌ للعُمر لا غير.
ثم المصير إلى أن الحرة لو قتلت نفسها قبل إلمام الزوج بها، فسقوط مهرها مختلف فيه في نهاية الضعف؛ فإن الأمة إذا كان يتحقق فيها ما ذكرناه؛ فلا يتحقق في الحرة شيء منه، ولا حاصل لتسبّبها إذا كانت حرة؛ فإن العمر إذا انقضى، فلا تكون الحرة بإهلاكها نفسها متسبِّبةً إلى منع المعقود عليه في النكاح؛ فإن المعقود عليه مدة العمر، طالت أم قصرت.
فيخرج من مجموع ما ذكرناه: أن القياس إيجاب المهر كيف فرض الموت في الحرة والأمة، وهذا موافق قولاً ذكره الأصحاب، ولكن النص الظاهر على مخالفته.
فإن رأينا الفرق بين الحرة والأمة جرياً على النص، تكلفنا الفرق بين الحرة والأمة، كما سبقت الإشارة إليه، فأما الفرق بين أن تموت الحرة وبين أن تقتل نفسها، فلا سبيل إلى احتماله أصلاً.
فصل:
قال: "وإن باعها حيث لا يقدر عليها، فلا مهر لها حتى يدفعها إليه... إلى آخره".
7987- فنقول أولاً: إذا زوّج الرجل أمته، وصحّ النكاح على حكم الشرع، ثم إنه باع الأمة، فالبيع نافذ، والزوجية قائمة.
وقال ابن عباس: "بيعُها طلاقها"، ولعله أخذ ذلك من تجدد الملك على رقبة المزوّجة، وشبّه ذلك بما إذا سُبيت الزوجة، وجرى الرق عليها. والدليل على بقاء النكاح: حديث بريرة؛ فإن عائشة اشترتها وأعتقتها، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل أن النكاح لم يبطل ببيعها، والفرق بين السبي والشراء ظاهر؛ فإن السبي يغير صفة الزوجة ويقلبها من الحرية إلى الرق، وصفةُ المزوَّجة إذا بيعت لم تتبدّل، وإنما تبدل عليها الملاك.
7988- فإذا بان بقاء النكاح، فنقول بعده: إذا باع السيد الأمة المزوجة، وكان النكاح مشتملاً على مسمّىً صحيح؛ فهو للأول- يعني البائع، وإن كان الدخول بها حصل في ملك المشتري؛ لأن وجوب المهر مستند إلى العقد.
ولو صح النكاح وفسدت التسمية في المهر، واقتضى الأمر الرجوع إلى مهر المثل، فهو أيضاًً للبائع؛ فإن مهر المثل ثبت صحيحاً بالعقد، ولا نظر إلى فساد التسمية.
ولو كان زوّج أمته وفوّض بضعها، وعرّى النكاح عن المهر أصلاً، وباعها، فوطىء الزوج في ملك المشتري، فالمهر يجب، واختلَف القول في أنه يجب بالعقد، أو يجب بالمسيس؟ على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
فإن حكمنا بأن المهر يجب بالعقد؛ فهو للبائع، كما لو كان أصدقها خمراً أو خنزيراً، وإن حكمنا بأن المهر لا يجب في نكاح التفويض بالعقد، وإنما يجب بالمسيس؛ فالمهر على هذا للمشتري؛ فإن المسيس جرى في ملكه.
7988/م- ومما يتفرع على ذلك: أنا إذا أثبتنا المهر للبائع؛ فليس له بعد البيع حقُّ منع الجارية عن زوجها حتى يتوفر الصداق عليه؛ فإن ملكه قد زال عن رقبة الأمة، فلم يبق له متعلق، والمشتري ليس له منعها أيضاًً؛ فإن المهر ليس له، فيستفيد الزوج بتبدّل الملك الإلمامَ بالأمة من غير حبسٍ ومنع، وهذا إذا قلنا: المهرُ للبائع في صورة التفويض.
وإن حكمنا بأن المهر للمشتري إذا وطئت عنده؛ فله أن يمنعها من زوجها حتى يفرض لها صداقها، ثم إذا فرض لها، فله أن يمنعها حتى يوفّر المفروض على المشتري.
وإذا فرّعنا على أن نكاح التفويض لا يوجب المهر بنفسه، فلو أراد المالك الأول أن يطالب بفرض مهر، كان له ذلك، على ظاهر المذهب، ثم كان يتوصل إلى منعها بهذه الجهة، فلو طلب الأول الفرض قبل البيع، فأجيب إلى ما طلبه؛ فيكون المفروض ملكاً للبائع؛ فإنه ملتحق بالمهر المسمى على الصحة في النكاح، ثم من موجب هذه الحالة أن المشتري لا يملك منعها؛ فإن المهر ليس له، ولا يملك البائع منعها، فإن ملكه قد زال، كما تقدم تقريره.
7989- ولو زوّج الرجل أمته، ثم أعتقها؛ فطريان العتق عليها ينزل منزلة طريان الشراء، فحيث نجعل المهر للبائع؛ فهو للمعتِق، وحيث نجعل المهر في صورة التفويض للمشتري؛ فهو للمعتَقة، فطريان العتق في التفاصيل التي قدمناها كطريان الشراء. وهذا منتهى المراد في ذلك.
7990- ونحن الآن نذكر على أثر نجاز هذا المقصود، تفصيلَ المذهب في تجدد الملك على العبد الناكح، فنقول: إذا تزوج العبد بإذن مولاه؛ فقد ذكرنا أن المهر يتعلق بكسبه، فلو وفّى المهرَ من كسبه، ثم باعه سيده، وطلّق المرأة قبل المسيس، وحكمنا بتشطر الصداق، فالمذهب: أن شطر الصداق يرتد إلى البائع؛ من جهة أنه أدى المهر من ملك البائع؛ إذ كسب العبد ملكُه، فيرتد نصف الصداق إلى من خرج من ملكه.
ولو زوّج الأب من ابنه الطفل، وساق صداقها من ملك نفسه-متبرعاً على طفله- فإذا بلغ الطفل، وطلق زوجته، فنصف الصداق يرتد إلى الزوج المطلِّق؛ والسبب فيه أن الأب لما تبرع، وساق الصداق، فمن ضرورة وقوع ذلك الصداق المَوْقع، تقدير دخوله في ملك الزوج أولاً، وإذا كان كذلك، فقد تقدم ملك الطفل له، فإذا طلق، رجع الشطر إلى ملكه، ولا يتحقق مثل هذا في العبد؛ فإن المهر وإن تعلق بكسبه، فلسنا نقدّر دخول كسب العبد تحت ملك العبد أولاً، حتى يتوفر الصداق من ملكه.
قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قال: إذا طلق العبد زوجته قبل المسيس، فشطر المهر يكون للمشتري؛ فإن الطلاق هو الذي يوجب رجوع شطر الصداق، وقد جرى الطلاق الموجبُ لذلك في ملك المشتري؛ فإذا كان الموجِب في ملكه، كان الموجَب له. وهذا وجه حكاه الشيخ وزيّفه، وهو لعمري مزيّفٌ.
7991- ومما يتعلق بأطراف الكلام مما ذكرناه: أنا استشهدنا بتبرع الأب على ابنه بسوق الصداق من ماله، وقلنا: إذا طلق الابن بعد البلوغ، فشطر الصداق يرجع إلى الابن، وخرّجنا هذا على أن الملك يحصل للزوج أولاً، ثم ينتقل منه.
ويجوز أن يقال: لا يتضمن سَوْقُ الصداق تمليكَ الابن، وهذا يوضحه ذكر مسألة مقصودة في نفسها، فنقول: إذا نكح الرجل المطْلَقُ امرأة على مال، ثم جاء أجنبي، وتبرع بأداء المهر عن الزوج، فيستحيل أن نقضي باقتضاء هذا الأداء تمليكَ هذا الرجل المُطْلَق من غير مراجعته، بل يقع الأداء افتداءً، فإذا فرضنا من الزوج طلاقاً قبل المسيس، واقتضى ذلك تشطر الصداق، فالوجه أن يقال: يرتد شطر الصداق إلى الأجنبي المتبرع بالأداء؛ فإنه عن ملكه خرج، فيعود إلى ملكه، إلا على الوجه الضعيف الذي حكيناه في أن الاعتبار بوقت الطلاق.
7992- فإذا تمهد هذا عُدنا بعده إلى تبرع الأب على طفله، وقلنا: ظاهر كلام الأصحاب أن التبرع يتضمن تمليكَه؛ فإن الأب يتملك تمليك طفله بحق الولاية، فيُحمل ما جرى على ذلك، ثم يتجه رجوع شطر الصداق إلى الزوج، كما تبين من قول الأصحاب.
ويجوز أن يقال: تبرع الأب على ابنه لا يتضمن تمليكه؛ فإن الأجنبي إذا كان يملك الافتداء بطريق الأداء من غير أن يملّك، فليملك الأب ذلك في حق طفله.
وينتظم من هذا سَوْقُ أحوالٍ: أحدها: أن الأب لو قصد الفداء، ولم يقصد تمليك طفله؛ فيجب ألا يدخل الصداق في ملك الطفل، كما ذكرناه في الأجنبي، ثم موجب هذا: ألا يرتد شطر الصداق إلى الزوج إذا بلغ وطلّق، وفرّعنا على الصحيح.
وإن قصد بالتبرع تمليك طفله؛ فيجوز أن يقال: يدخل في ملك الطفل، كما ذكره الشيخ.
وإن أطلق الأب الأداء، ولم ينْوِ فداءً ولا تمليكاً، فهذه مسألة محتملة مترددة بين قصد الفداء وقصد التمليك. فهذا ما لابد من تفصيله كذلك.
7993- ومما يتفرع على هذا المنتهى؛ أن من تبرع بأداء دين أجنبي، فلمستحق الدين أن يمتنع عن قبوله، وإن كان الأداء من الأب، وزعم أنه يقصد الافتداء، فيجوز أن يقال: للمرأة أن تمتنع عن قبوله، طرداً للقياس الذي ذكرناه في الأجنبي.
فهذه أمور انتهى الكلام فيها، فلم نجد بداً من التنبيه عليها.
7994- ويعود بنا الكلام إلى سَمْت المسألة: فإذا وفّى العبد الصداق في ملك البائع، ثم جرى البيع والطلاق؛ فشطر الصداق على ظاهر المذهب يرتد إلى البائع.
وإن لم يوفِّ العبد الصداق، حتى بيع، ثم إنه اكتسب في ملك المشتري، وأدّى الصداق؛ فأول مذكور في ذلك: أن المشتري ليس له منفعة غير الاكتساب؛ من جهة أن كسبه مستحَق الصرف إلى هذه الجهة، ثم إذا أدى الصداق مما اكتسبه في ملك المشتري، ثم طلق قبل المسيس، فهذا تنبيه على ما إذا اكتسب في ملك البائع، وأدى الصداق. فإن قلنا: الصداق إذا تشطر بالطلاق، فالشطر للمشتري، نظراً إلى وقت الطلاق، فلا شك في حصول الشطر للمشتري فيه إذا اكتسب في ملك المشتري.
فأما إذا قلنا: شطر المهر يرجع إلى البائع إذا اكتسبه في ملكه، فإذا اكتسب في ملك المشتري؛ ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن شطر الصداق يرجع إلى المشتري، فإنه وفّاه مما اكتسبه في ملك المشتري.
والوجه الثاني- أنه يرجع الشطر إلى ملك البائع؛ فإنه وإن اكتسب في ملك المشتري، فذلك القدر كان في حكم المستحَق من كسبه، وكأنه كان مستثنى عن ملك المشتري، مفروضاً في ملك البائع.
فإذا تقرر ما ذكرناه في البيع، فلو جرى بدل البيع إعتاقٌ، فنقول: إن كان اكتسب قبل العتق، وأدى المهر، ثم عتق وطَلّق قبل المسيس؛ فالنصف يرجع إلى المالك المعتِق، على المذهب الصحيح. ومن اعتبر وقت الطلاق، قال: يرجع نصف الصداق إلى العتيق، نظراً إلى وقت الطلاق.
ولو عتق قبل توفية الصداق، واكتسب بعد الحرية، وأدى الصداق، ثم طلّق قبل المسيس؛ ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن نصف الصداق يرجع إلى الزوج، نظراً إلى حالة الاكتساب.
والثاني: أنه يرجع إلى المعتِق؛ لأن ما بقي بالصداق مستحق على المعتق من كسبه، فكأنه في حكم المستثنى.
وهذا الوجه ضعيف عندي، لا ثبات له؛ فإن حق المهر إنما يثبت للزوجة، وقد توفر الكسب بكماله على السيد في زمن الرق، فتقديم حق له في الكسب حتى يفرض مستثنى بعد الإعتاق والانطلاق عن الرق، غير معقول؛ بل الأمر على العكس من هذا الخيال؛ فإن العبد كان يملك أن يؤدي ما التزمه من الصداق من كسب رقه، فلم يتفق. وبقيت ذمته مرتهنة بدينه، حتى عَتَق واستقل، فإذا اكتسب وأدى ما عليه، فرجوع شيء عند الطلاق إلى السيد لا وجه له. ولكن الشيخ أبا علي ذكر هذا الوجه في الشرح، ولم يطنب في الرد عليه، وما ذكرناه من التزييف فيما يكتسبه بعد الإعتاق يجري فيما يكسبه بعد البيع.
فصل:
قال: "ولو وطىء رجل جارية ابنه وأولدها... إلى آخره".
الأب إذا وطىء جارية ابنه، فلا تخلو الجارية، إما أن كانت موطوءة الابن، أو لم تكن. فإن لم تكن موطوءة الابن، فوطئها الأب، لم يخلُ: إما أن يحبلها، وإما ألا يحبلها.
فإن لم تعلق منه، فالكلام يتعلق بانتفاء الحدود، ووجوب المهر، وتحريم الموطوءة على الابن.
فأما الحد، فلا يجب أصلاً، لما للأب من الشبهة في مال الابن، فيما يتعلق بالإعفاف، وهذا بمثابة درء حد القطع عن الأب والابن إذا سرق أحدهما من مال صاحبه؛ وسبب اندفاع "حق" القطع من الجانبين عموم ثبوت النفقة في أوانها من الطرفين جميعاً، ولما اختص الأب باستحقاق الإعفاف على ابنه، اختص جانبه بانتفاء الحد عنه في هذا القبيل. وإذا كان الأب لا يقتل بقتل ولده، فيبعد أن يرجم بوطء جارية ابنه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك». فهذا ما ذكره الأصحاب في انتفاء الحد.
فأما المهر، فالذي قطع به المحققون: وجوب المهر؛ فإن الوطء وطء شبهة.
وما أوجب درء الحد حرمة الوطء في هذا المحل.
وذكر العراقيون تفصيلاً في المهر، فقالوا: إن كانت جارية الابن مكرهة؛ وجب المهر، وإن كانت مطاوعة؛ ففي وجوب المهر وجهان. وهذا غلط صريح؛ فإنهم قطعوا أقوالهم بانتفاء الحد؛ فلا معنى مع ذلك التفصيل الذي ذكروه، وإنما يستدُّ هذا التفصيل في الجارية المغصوبة إذا زنا بها الغاصب- كرهاً أو طوعاً.
ثم تصير الجارية محرمة على الابن؛ فإنها موطوءة الأب وطئاً محترماً.
فلو قال الابن: اغرم لي قيمة الجارية، وخذها، لأنك حرمتها عليّ، لم يكن له ذلك؛ لأن الوطء ليس بمقصود في ملك اليمين؛ فيستحيل أن يتعلق بتفويته وجوب القيمة.
ولو أرضعت امرأة الرجل جارية له؛ فليس له أن يغرّمها قيمة الجارية، فلو اشترت امرأةُ الرجل رضيعةً من زوجها، وأرضعتها، حرمت على الزوج، ثم اطلعت على عيب قديم بها، لم يمتنع ردها بالعيب القديم، ولم يكن للمردود عليه أن يقول: كانت مباحة لي، فطرأ التحريم في يدك، فلا ترديها وقد طرأ التحريم فيها.
هذا كله إذا وطىء جارية الابن ولم يحبلها.
7995- فأما إذا أحبلها؛ فالحد منتف، والمهر واجب، والتحريم واقع، كما تقدم في الوطء العريّ عن الإعلاق. وأبو حنيفة لم يوجب المهر، لمّا اعتقد ثبوت الاستيلاد، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى، ورأى أن المهر يندرج تحت القيمة، وعندنا المهر يتقدم وجوبه على ثبوت العلوق بعد تغييب الحشفة، ويقع الكلام في ثبوت الاستيلاد، والمسألة مشهورة في الخلاف؛ لذلك لم نطنب في إيضاح علة المذهب.
7996- ثم إنا نتكلم وراء ذلك في ثلاثة أحكام: أحدها: النسب.
والثاني-حرية الولد.
والثالث: الاستيلاد.
أما النسب: فإنه يثبت لحرمة الوطء، ولأجلها دفعنا الحد، وأوجبنا المهر.
وأما الحرية: فالولد يعلق حراً. ولو وطىء رجل جارية غيره بشبهة، فحبلت؛ فالولد يعلق على الحرية.
وأما القول في ثبوت الاستيلاد؛ فالمنصوص عليه للشافعي أن الاستيلاد يثبت، وهو مذهب أبي حنيفة.
واختار المزني أنها لا تصير أم ولد. وهذا هو القياس، وللشافعي ما يدل على ذلك؛ لأنه قال: "إذا ملك جارية وابنتَها، فوطىء الجارية، حرمت البنت عليه، فلو وطىء البنتَ؛ فهل تصير أم ولد؟ فعلى قولين. وكذلك إذا وطىء جارية ابنه". هذا لفظ الشافعي.
فمن أصحابنا من ذكر قولاً مطلقاً للشافعي في أن الاستيلاد لا يثبت. ونحن نقول: هذا القول إن كان مخرّجاً، فهو منقاسٌ حسن؛ فإن جارية الابن ملكُه الخالص، لا شرك للأب فيها، ولو فرضنا شركاً، لما حلت للابن.
وإن كان هذا القول مأخوذاً من نص الشافعي-الذي نقلنا لفظه- فهو بعيد؛ فإن الشافعي ذكر احتمال البنت المملوكة، بعد ما حرمت على الأبد بوطء أمها، وكان ذلك ترديد القول في محرمةٍ على التأبيد، ثم عطف، فقال: "كذلك الأب إذا وطىء جارية ابنه". وظاهر هذا دليل على أن صور وطء الأب في موطوءة الابن حتى تكون محرمة على الأبد كما أن البنت محرمة على الأب بوطء الأم.
فحصل مما ذكرناه؛ أن ظاهر المذهب ثبوت الاستيلاد.
ومن أصحابنا من ذكر قولاً آخر: أن الاستيلاد لا يثبت. وهو مذهب المزني.
وحكى الأئمة عن صاحب التقريب قولاً ثالثاً وهو: أنه يفصل بين أن يكون الأب موسراً إذا وفَّى بقيمة الجارية، وبين أن يكون مُعسراً.
توجيه الأقوال: من نفى الاستيلاد، فقياسه ومتعلّقه بيّن، ومن أثبته، تعلق بما ذكرناه من الشبهة، وأوقعُ متعلَّقٍ انتفاء الحد، مع العلم بحقيقة الحال، ولا وجه لدفع الحد إذا وقع الفرض في العلم بالتحريم، مع انتفاء الريب والخلاف، إلا شبهة تقتضي الاستيلاد، إذا أفضى الوطء إليه.
ومن فرّق بين الموسر والمعسر؛ فوجه قوله: التشبيه بسريان العتق؛ فإن الشريك إذا أعتق حصته من عبد، وكان موسراً، سرى العتق إلى نصيب شريكه. وإن كان معسراً، لم يَسْر، وعَتَق منه ما عتق ورَقّ ما رق.
وهذا القول ضعيف، وليس يُشبه ثبوتُ الاستيلاد في حق الأب تسريةَ العتق؛ فإن المرعي في منع التسرية إذا كان المعتق معسراً حقُّ الشريك؛ فإنا لو سرّيْنا العتق، لأبطلنا حق الشريك ناجزاً، وأحلناه على ذمة معسر، والمتبَع في ثبوت الاستيلاد، أحد أمرين: إما حرمة الأبوة، حتى لا تبقى أم ولده رقيقة، وإما شبهة الملك.
فإن راعينا حرمة الأبوة، فهذا يعم الموسر والمعسر، وإن راعينا شبهة الملك، فليس ملك الشبهة جزءاً مملوكاً منها، حتى يقصر الاستيلاد عليه. نعم، قد يخرّج قولُ الفرق بين الموسر والمعسر في إعتاق الراهن العبدَ المرهون؛ فإن المتبع في رد عتقه تركُ الإضراب بالمرتهِن، والتوقِّي من تنجيز إبطال حقه من الوثيقة. وهذا يجوز أن يختلف باليسار والإعسار.
7997- وهذا النوع من النظر يفصله ذكر ثلاث مراتب: إحداها- في إعتاق حصة من عبد مشترك. هذا ينقدح فيه الفرق بين اليسار والإعسار، لورود الخبر فيه بالفصل بين الموسر والمعسر، وهو أولى متبع.
وفيه طرف من المعنى، وهو: أن مقدار ملك المعتِق من الشريكين منفصل عن حصة الثاني، ولا حق له في نصيب صاحبه، ولا يمتنع أن يتوقف تسرية العتق إلى نصيب الشريكين على بذْل العوض-في قولٍ- أو على إمكان بذله.
المرتبة الثانية- في إعتاق الراهن. وظاهر المذهب إجراء القولين في تنفيذ عتقه، أو ردّه، من غير فصل بين أن يكون موسراً أو معسراً. والفرق بين هذه المرتبة وبين الأولى أن ملك الراهن ثابت في جميع المرهون، وثبوته أقوى من ثبوت حق الوثيقة؛ فلم يكن للنظر إلى الإعسار واليسار معنى، و علّة نفوذ العتق صدوره من أهله في محل ملكه.
ومن خرّج قولاً في الفصل بين الموسر والمعسر؛ فوجهه مراعاة حق المرتهن، وهو مختارٌ في إعتاقه.
والمرتبة الثالثة: استيلاد الأب جارية ابنه، وهذه المرتبة بعيدة عن اعتبار اليسار والإعسار فيها؛ لأن المتبع حرمةُ الأبوة؛ فلا سبيل إلى إسقاطها في المعسر. فإن عورضنا بأن الراهن المعسر مالكٌ أيضاًً، قلنا: لا يمتنع الحجر على المالك، وأين يقع تنفيذ تصرف المحجور عليه من حرمة الأبوة؟
فهذا بيان هذه المنازل.
وقد رأيت لصاحب التقريب القول الثالث في الفرق بين الموسر والمعسر في إعتاق الراهن، ورأيتُ هذا القول لغيره في الرهن، فأما الفصل بين الموسر والمعسر في ثبوت الاستيلاد في جارية الابن، فلم أره لصاحب التقريب مع اعتنائي بالبحث عن كتابه، ولم ينقل أصحابنا هذا القول إلا عنه. فهو قول مُخيل تعليلاً ونقلاً.
ويتفرع عليه أمر لابد من إلزامه، وهو: أن الأب إذا كان موسراً؛ وجب أن تخرّج الأقوال الثلاثة في تعجيل الاستيلاد، أو تأخير الحكم به إلى بذل القيمة، أو الوقف، كما سنذكره-إن شاء الله عز وجل- في تسرية العتق من نصيب إلى نصيب.
ويجب أن يقال: إذا كان الأب مُعسراً حالة العلوق، ثم أيسر من بعدُ، لم يؤثّر طريان اليسار، وتكون الجارية فيه تباع، وإن كان الأب يبذل قيمتها بيساره الطارىء. كل ذلك لابد منه إذا فرّعنا على الفرق بين الموسر والمعسر. وهذا منتهى الكلام في هذا القول، فلا عود إليه.
وكذلك؛ إن قلنا: لا يثبت الاستيلاد أصلاً، على ما اختاره المزني؛ فالجارية رقيقة، والولد حرّ نسيب، وسنتكلم في قيمته، إن شاء الله تعالى، والمهر واجب، والحد منتف.
وإن فرعنا على ظاهر المذهب، وهو: أن الاستيلاد يثبت؛ فيلزم الأبَ المهرُ وقيمةُ الجارية. والولد يعلق حراً، كما تقدم.
7998- والقول الآن في قيمة الولد، فنقول: إن فرّعنا على أن الاستيلاد لا يثبت؛ فتجب قيمة الولد وقت انفصاله بتقديره رقيقاً، ثم إنما يجب ذلك إذا انفصل حيّاً، وسيأتي شرح ذلك في باب الغرر، إن شاء الله عز وجل.
7999- ولو ملك الأب هذه الجارية يوماً من الدهر، فهل تصير أم ولد له؟ فعلى قولين مشهورين، سيأتي ذكرهما في أمهات الأولاد، إن شاء الله تعالى، وهما جاريان فيما لو وطىء جارية أجنبي بشبهة، وعلقت منه بمولود، وحكمنا بحرية الولد، ونفينا الاستيلاد في الحال؛ فلو ملكها الواطىء يوماً؛ فهل تصير أم ولد؟ فعلى القولين.
8000- وإن حكمنا بأن الجارية تصير أم ولد للأب؛ فهل يلتزم قيمة الولد مع قيمة الأم؛ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أنه يلتزمها، كما يلتزمها الواطىء بالشبهة.
والثاني: لا يلتزمها؛ فإنه التزم قيمة الجارية والولد جزء منها؛ فاندرج الجزء تحت الكل، وليس كالمهر؛ فإنه يجب على مقابلة إتلاف المنفعة؛ وليست المنفعة جزءاً من الجارية، ولا ينقدح توجيه الوجهين، والوجهُ بناؤهما على أن الملك متى ينتقل إلى الأب في الجارية؟ وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: ينتقل الملك إليه مع العلوق، لا يتقدم عليه، ومقتضى هذا إيجاب القيمة للولد؛ فإن العلوق يحصل مع النقل، وليس يتعلق أحدهما بالثاني.
ومن أصحابنا من قال: الملك ينتقل في الجارية قبيل العلوق؛ فعلى هذا لا يلتزم الأب قيمة الولد. وهذا الوجه معلوم؛ ومسلكه من طريق التعليل اللائق بهذا الفن مفهوم وكأنا نبغي في تعظيم حرمة الأب أن نقدِّم مسقط مائه ونطفته ملكاً له.
وهذا ليس بعيداً إذا أُثبت أصل الاستيلاد؛ فإن الإشكال في الأصل، وما ذكرناه بعد ثبوت الأصل قريب محتمل.
وأما المصير إلى أن العلوق ونقل الملك يحصلان معاً، فهذا متجه حسن، ولكنه لا يثمر إيجاب قيمة الولد؛ فإن نقل الملك إذا قارن العلوق؛ فقد صادف العلوقُ الملكَ؛ فلا أثر لتقدم الملك بلحظة، فكيف يستفاد من هذا إيجاب قيمة الولد وقد تحصلت بعد هذا البحث على مسلكين، أوقعهما وأفقههما أن نبني لزوم قيمة الولد على ثبوت الاستيلاد ونفيه؛ فإن أثبتنا الاستيلاد، لم نوجب قيمة الولد.
وذكرنا للأصحاب خلافاً في أن الملك متى ينتقل في الجارية؟ يجوز أن يقال: يتقدم بلحظة على العلوق، ليُشْرِف ورود الماء على ملك عتيد.
ويجوز أن يقال: يحصل العلوق والنقل معاً، وهذا هو الصحيح، والتقدير الأول ليس بمتين. ولو تناهيت في تقريره، وقعت في مذهب أبي حنيفة، فإنه قال: ينقل الملك مع أول الوطء أو قُبيله. وهذا التردد على حال قريبٌ بعد ألا تُتلقى منه قيمة الولد وجوباً ونفياً، وإنما تُتلقى قيمة الولد من إثبات الاستيلاد ونفيه كما ذكرناه هذا مسلك، وهو الذي لا معدل عنه.
والمسلك الثاني- أن من أصحابنا من قال: يحصل نقل الملك مع العلوق؛ فعلى هذا تجب قيمة الولد وقيمة الجارية. وهذا البناء متجه، ولكن نقل الملك بعد العلوق ليس بشيء؛ فإن المعلول لا يستأخر عن العلة إذا صادفت العلة محلها.
فإن قيل: إذا ملك الرجل من يعتق عليه، أليس يحصل الملك ثم يترتب العتق عليه؟ والقرابة كانت مقترنة بالملك في الحالة الأولى، ثم تأخر أثرها إلى الحالة الثانية.
وفي هذا تخبّط شيخنا أبو إسحاق المروزي، حيث قال: يحصل العتق والملك في الحالة الأولى، فزعم أن جمع النقيضين في الحكم غير ممتنع، وإنما يمتنع اجتماع النقيضين حسّاً، وهذا من عثرات ذلك الشيخ.
والجواب عندنا أن العتق مشروط بحصول الملك، ومن ضرورة حصوله أن يفرض تقدّمه بلحظة واستعقابه العتقَ، وليس من الممكن أن يُقدّر إلا كذلك، ولا استحالة في الجمع بين حصول الملك في الجارية ووقوع العلوق حسّاً.
فليفهم الطالب أمثال ذلك، وليتثبت في زَلَق الأقدام.
فإذا تحقق ما ذكرناه، انتظم منه أن الذي يجب القطع به: حصول النقل والعلوق معاً، وتقديم الملك وتأخيره لا أصل له، على أن تقديمه يليق بحكم الفقه، وتأخيره لا وجه له، ثم كيف قُدر الأمر؛ فالوجه: بناء قيمة الولد على الاستيلاد، كما قد ذكرنا.
وقد أكرر معنى في فصل مراراً، ولا أبغي التطويل، ولكني أروم تنبيه الناظر، وقد يتخطى الفكر معنى ولا يفهمه، فإذا كُرّر عليه، ثبت فيه، والله المستعان.
8001- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك، أنا لو فرضنا نزول الماء مع تغييب الحشفة، فهذا تصوير العلوق مقترناً بموجب المهر، وقد ذكرنا أن الصحيح أن الملك ينتقل مع العلوق؛ هذا لم يتعرض له الأصحاب، بل أطلقوا القول بوجوب المهر، ولم يتعرضوا لهذا التفصيل.
والأظهر عندي: أنهم بنَوْا الأمر على الاعتياد، والغالب أن الإنزال يحصل بعد وجوب المهر، ولو صوّر الأئمة ما ذكرناه، لنزّلوا المهر منزلة قيمة الولد، هذا ما نراه، والله أعلم.
8002- ومما يليق بهذا المنتهى؛ أنا إذا لم نثبت الاستيلاد، وحكمنا بأن الجارية رقيقة؛ فهي حامل بولد حر، والصحيح أن بيع الجارية الحامل بالولد الحر غير صحيح، فلو قال الابن: قد حِلتَ بيني وبين التصرف في الجارية، فاغرم لي قيمتها؛ فهل له أن يغرّمه؟ فعلى وجهين. وهذا لا يختص بالأب والابن، بل لو وطىء رجل جارية أجنبي بشبهة، وعلقت منه بمولود؛ فهل لمالك الجارية أن يغرّمه القيمة؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين.
توجيههما: من قال: تجب القيمة، احتج بما ذكرناه من الحيلولة، ومن قال: لا تجب، احتج بأن يد المالك مستمرة على الجارية، وهو يتمكن من الانتفاع بها، فلا تتحقق الحيلولة باستئخار البيع في أيام.
8003- وكل ما ذكرناه كلام في قسم واحد، وهو إذا وطىء الأب جارية الابن، ولم تكن الجارية موطوءة الابن أما إذا وطئها وهي موطوءة الابن، فلا شك أنها محرمة على التأبيد على الأب، فأول ما نذكره أنه هل يلزم الأبَ الحدُّ أم لا؟
المنصوص عليه في الجديد: أنه لا يلتزم الحد لحرمة الأبوة.
والقول الثاني- نص عليه في القديم: أن الحد يجب، وهذا القول يجري في كل وطء محرم لا اشتباه في تحريمه، ولا لبس على الواطىء. حتى لو وطىء جاريته المملوكة وهي أخته، فالحد في هذا يجب ولا يدرؤه الملك القائم، وكذلك إذا كانت مملوكة محرمة برضاع أو مصاهرة، وكذلك لو كانت مزوّجة. ومحل هذا القول وطء محرم لم يختلف العلماء في تحريمه، ولم يلتبس تحريمه على الواطىء، وكان شيخي لا يطرد هذا القول في وطء الحائض، ويقول: المحرّم من وطئها ملابسة الأذى، كما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]، ويجب على قياس القول القديم إيجاب الحد على أحد الشريكين إذا وطىء الجارية المشتركة، لما ذكرناه.
فإذا تمهد هذا؛ رجعنا إلى غرضنا من الفصل.
8004- فإذا وطىء الأب جارية الابن، وكانت موطوءة الابن، فإن فرعنا على الجديد، فلا حد، والقول في وجوب المهر، وثبوت حرية الولد إن ثبت العلوق، وفي الاستيلاد، كما تقدم في الجارية التي ليست موطوءة الابن.
ولكن إذا لم تكن موطوءة الابن، وثبت الاستيلاد على ظاهر المذهب؛ فتصير الجارية مستحلّة للأب، وإذا كانت موطوءة الابن، فهي محرمة على الأب على التأبيد، وإن حكمنا بثبوت الاستيلاد، فإن التحريم المؤبد لا يزول بشيء.
وإن فرّعنا على القديم، وجب الحد على الأب، كما لو وطىء أخته المملوكة.
وهاهنا موقف على الناظر؛ وذلك أنا إن طردنا القول القديم في وطء السيد جاريته المزوّجة وإن لم تكن محرمة على التأبيد؛ فيترتب على الأب أن جارية الابن وإن لم تكن موطوءة الابن، فهي محرمة على الأب قطعاً بشبهة، ويجب أن يخرّج في وطء الأب جارية الابن قولٌ في وجوب الحد عليه وإن لم تكن موطوءة الابن، وإنما لم نذكره فيما تقدم؛ حتى يجري المذهب على ترتيبه، ثم نُلحق به ما ينبغي أن نُلحق به، ولا شك في خروج هذا القول، وإن ذكره المرتبون في الجارية الموطوءة.
فأما القول في المهر، مع المصير إلى إيجاب الحد، فقد قال الأئمة: هذا بمثابة وطء الغاصب الجارية المغصوبة، فإن كانت مستكرهة، وجب المهر، وإن كانت مطاوعة، ففي وجوب المهر وجهان، وهذا التفريع مستقيم هاهنا، لا حيد فيه.
8005- وإذا أفضى الوطء إلى الإعلاق، فهذا سرّ هذا الفصل ولُبابه، فالذي ذهب إليه المحققون: أن الوطء الموجب للحد زناً لا حرمة له، وإذا أنزل الواطىء، فلا حرمة لمائه؛ فيترتب عليه انتفاء النسب، ثم الولد لا حرمة له، ولا حرمة لماء الزاني، ومن طرد هذه الطريقة على حقها، لزمه أن يقول: إذا وطىء الرجل جاريته المملوكة، وكانت محرمة عليه بنسب، أو رضاع، أو صهر، وعلقت منه بمولود؛ فلا تصير أم ولدٍ له؛ من قِبل أن الماء لا يُنسب إلى الزاني، وهو كالمفقود في حقه، وإنما تثبت أمية الولد إذا ثبت نسب الولد؛ فإن أم ولد الإنسان منسوبة إلى ولده المنسوب إليه، فإذا لم يُثبت الشرع له ولداً، فكيف تثبت أمية الولد؟ وهذا مسلك لا ينساغ اعتقاد خلافه.
وارتاع بعض الأصحاب من ذلك، وعظم عنده أن يطأ الرجل مملوكته، وتحبل منه، ولا تصير أم ولد! فقال: إن أوجبنا الحد، فلنثبت النسب، ثم إذا ثبت النسب ترتب عليه أمية الولد، ثم طرد بعض المصنفين ثبوت الاستيلاد مع وجوب الحد في الأب إذا وطىء جارية ابنه الموطوءة.
ومن نفى الاستيلاد؛ فإنه يلقى في جريانه مسلكاً وعراً، وتلقاه مسألة لا يجترىء على طرد نفي الاستيلاد فيها إلا جسور، وهي: أن الجارية المشتركة إذا أحبلها أحد الشريكين؛ فقد أطلق الأئمة أقوالهم بأن الاستيلاد يثبت في حصته، وتردَّدوا في إثباته في حصة الشريك عاجلاً، ولم يختلفوا في أنه يسري إلى حصة الشريك، وإنما ترددهم في وقت النفوذ والسريان.
وقد ذكرنا أن الحد يجب في القديم على من يطأ الجارية المشتركة بينه وبين شريكه، ونحن بعون الله وتوفيقه نذكر تحقيق القول في ذلك.
8006- فأما الجارية المشتركة؛ فيجوز أن يقال فيها: الوطء يصادف ملك الواطىء وملك شريكه، وينزل عليهما جميعاً، فلا يتمحض تحريمه، ولكن لا يتأتى تبعيضه، فنطلق تحريمه على معنى النهي عن الإقدام عليه؛ من جهة أن من ضرورة الاستمتاع بملك الواطىء مصادفته ملك غيره، فكان ذلك مشبَّهاً بطعام جاورته نجاسة أو سم، فالطعام ليس محرماً، ولكن لا يجوز الإقدام على تناوله؛ من جهة أنه لا يتأتى تعاطي شيء منه إلا مع جزء مما هو محرم، وقد ينفصل وطء المشتركة عن هذا، بأن الطعام والسم متجاوران، ولنا أن نقول: من أكله فقد أكل حلالاً وحراماً، ولا يتأتى مثل ذلك في الملك الشائع.
فيخرج بعد هذا التنبيه أنا لو لم نُجر القول القديم في الحد في الجارية المشتركة، لكان متجهاً؛ فإذا لم يجب الحد، اتّسق وانتظم ثبوت التسبّب إلى المنع من المحرم المحض، ويكون هذا بمثابة إتيان مالك الغلام مملوكَه، فالحد يجب؛ فلا أثر للملك. وكذلك لو شرب الرجل الخمر التي لا تراق-وهي خمر الخلّ- حُدّ. وإن كان له حق الاختصاص بها؛ فعلى هذا يتميز الحد في حكمه ومجراه عن قياس النسب والاستيلاد.
فينتظم مما ذكرناه أن الوجه القطعُ بثبوت الاستيلاد في الجارية المشتركة، ثم يخرّج هذا على تقديرين:
أحدهما: نفي الحد، وإن فرّعنا على القديم.
والثاني: تمييز مسلك الحدّ عن مسلك الاستيلاد، ومهما حكمنا بالاستيلاد في البعض أو الكل، فمن ضرورته الحكم بالنسب. هذا ما لابد منه.
وأما إحبال الرجل أختَه المملوكة؛ فقول الحد فيها منصوص، لا يمكن إنكاره، فلا تردد في الحد على القديم، ويبقى التردد في الاستيلاد، وثبوت النسب. وهذه الصورة قابلة للاحتمال، بخلاف الجارية المشتركة؛ فإن الأخوة قائمة لازمة لا تحول ولا تزول؛ فلا يمكن تقدير انفصالها عن الملك، ولكن قد يتجه إثبات النسب وأمية الولد بسبب الملك، مع إثبات الحد وصرفه إلى التحريم المطلق، كما ذكرناه في إتيان الغلام المملوك وتعاطي الخمرة المحرّمة.
فأما وطء الأب جارية الابن- إذا أوجبنا عليه الحد، فالظاهر: أنه لا يثبت الاستيلاد؛ فإنه ليس بين الأب والابن إلا حرمة قائمة، فإذا أوجبنا الحد، زالت، ثم لا نجد أصلاً نحيل عليه أمية الولد.
8007- فانتظم مما ذكرناه ثلانة منازل: المنزلة الأولى- في الجارية المشتركة، والقطع فيها بثبوت الاستيلاد، ووجوب الحد على قياس القول القديم متردد، كما نبهت عليه.
والمنزلة الثانية- في وطء الأخت المملوكة: أما الحد، فمنصوص عليه، وفي الاستيلاد تردد لمكان الملك.
والمنزلة الثالثة- في وطء الأب جارية الابن إذا كانت موطوءة الابن: أما الحدّ، فيثبت، والأصح أنه لا يثبت النسب ولا الاستيلاد إذا أثبتنا الحد. وهذا ما ذكره الصيدلاني.
ومن أصحابنا من أثبت النسب والاستيلاد وإليه أشار بعض المصنفين، ثم إن لم نثبت الاستيلاد؛ فالمهر يفصّل أمره ويفرق بين أن تكون الجارية مستكرهة أو مطاوعة، كما تقدم.
وإن قلنا: يثبت الاستيلاد مع وجوب الحد؛ ففي المهر طريقان: منهم من قطع بإيجابه كالاستيلاد، ومنهم من فصل بين أن تكون الجارية مستكرهة أو مطاوعة، فإن الوطء ساقط الحرمة. ولسقوطها وجب الحد بها، والاستيلاد وراء الوطء.
وهذا منتهى تحقيق الفصل.