فصل: فصل: يشتمل على القول في الإعفاف وتزوّج الأب بجارية الابن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يشتمل على القول في الإعفاف وتزوّج الأب بجارية الابن:

8008- فعلى الابن الموسر أن يُعف أباه المحتاج. هذا هو المذهب.
وقال أبو حنيفة: لا يجب على الابن إعفاف أبيه، ولا خلاف أنه لا يجب على الأب إعفاف ابنه، واختار المزني نفيَ وجوب الإعفاف، وذكر ابن خَيْران قولاً في المسألة، مثلَ مذهب المزني، فأجرى العراقيون والمراوزة ما ذكره قولاً؛ من جهة أنه لا يستدّ في إيجاب الإعفاف خبرٌ، ولا مسلكٌ من القياس، وغاية الإمكان فيه التعلق بثبوت الاستيلاد. هذا هو المذهب.
ولا ينفصل جانب الابن عن جانب الأب في ثبوت الاستيلاد ونفيه إلا بالفرق بينهما بوجوب الإعفاف على أحدهما ونفيه عن الثاني.
وهذا لا ينفع مع المزني مع مصيره إلى أن جارية الابن لا تصير مستولدة الأب.
ثم إذا فرّعنا على ظاهر المذهب، فلا شك أن الأب المستغني بثروته لا يستحق على ابنه أن يعفه، وإنما يستحق ذلك على الابن الأبُ المحتاج. ثم سيأتي في النفقات-إن شاء الله تعالى- أن الأب الفقير يستحق النفقة على ابنه الموسر، إذا كان زمِناً غير كسوب مع فقره، فإن لم يكن زَمِناً، وكان يتأتى منه أن يكتسب ما يقوته؛ ففي وجوب النفقة قولان، سيأتي أصلهما وفرعهما، إن شاء الله تعالى.
8009- ثم اختلف أصحابنا في المسألة على طرق: فمنهم من قال: الإعفاف يتبع النفقة ثبوتاً وانتفاء، وفاقاً وخلافاً، فمهما استحق الأبُ الإنفاق على ابنه، لم يبعد أن يستحق عليه أن يُعفه، وإذا لم يكن بحيث يستحق النفقة، فلا يستحق الإعفاف.
فمن أصحابنا من قال: إن وجبت النفقة، وجب الإعفاف، وإن لم تجب النفقة-على أحد القولين- بسبب كون الأب قويّاً سويّاً؛ فهل يجب إعفافه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يجب.
والثاني: يجب؛ فإن الإعفاف في غالب الحال يليق بحال السويّ، والحاجة في هذا الفن تطابق حالة قوة من المحتاج.
وذكر الشيخ أبو علي طريقة ثالثة على العكس من ذلك، فقال: إذا أوجبنا النفقة قولاً واحداً، فلا يبعد أن نوجب الإعفاف، وإن جعلنا المسألة على قولين- في وجوب النفقة في بعض الصور، رتبنا الإعفاف عليه، وقلنا: إن لم نوجب النفقة، لم نوجب الإعفاف، وإن أوجبنا النفقة، ففي وجوب الإعفاف وجهان؛ فإن الحاجة في النفقة تُفضي إلى الضرورة، والحاجة في الإعفاف لا تُفضي إلى حكم الضرورة؛ ولهذا يجب على الإمام أن ينفق على المحتاجين إذا لم يكن لهم من يختص بهم وينفق عليهم، ولا يجب على الإمام أن يُعف من بيت المال أحداً؛ فدل ذلك على أن الأمر في الإعفاف دون وجوب الإنفاق.
فهذا ما ذكره الشيخ أبو علي، ولا يحصل بما ذكرناه بيان؛ فإنا نقول: النفقة وإن كانت واجبة، فإذا كان الأب لا يحتاج إلى الإعفاف أصلاً، فلا يجب الإعفاف، فلابد إذن مع وجوب النفقة من اعتبار الحاجة.
8010- ثم لم أر له في ذلك ضبطاً، فينقدح أن نقول: يعتبر فيه خوف العنت، وسأصف ذلك-إن شاء الله عز وجل- بما يضم نشره ويقرّبه من الضبط، والإحالة هاهنا كافية. ويجوز أن يقال: لا يشترط خوف العنت، وهذا ما يدل عليه ظاهر كلام الأصحاب.
ثم أشاروا إلى مسلكين:
أحدهما: أن الحاجة الحاقة وإن كان لا ينضم إليها ظن الوقوع في السفاح، وشرط هذه الحاجة أن يتضرّر صاحبها بالتعزّب، ولا تعويل على الشهوة المحضة؛ فمعظم من يشتهي الوقاع يضره الاستمتاع، ثم هذه الحاجة لا تتميز عن حاجة صاحب العنت، إلا أن خوف العنت يفرض فيمن لا تكمل مُنّته في التقْوَى، وما ذكرناه في التردد يرجع إلى هذا وجوداً وعدماً.
وذكر معظم الأصحاب أنا لا نعتبر الحاجة، ولكنا نُتبع وجوبَ الإعفاف وجوبَ النفقة؛ فمهما طلب الأب المستحقُ النفقةَ الإعفافَ، لزم إسعافه وإعفافه، وظاهر هذا الكلام لا يكشف الحق، فلا يجوز للأب أن يطلب الإعفاف وهو لا يحتاج إليه، هذا لا يسوغ أصلاً، ولكن التردد في معنى الحاجة، كما تقدم. ثم يجب تصديق الأب فيه؛ فإنه لا يُعرف تحقق الحاجة إلا من جهته، ولا يليق بمنصبه أن يُحلّف؛ فرجع حاصل الكلام إلى التردد في خوف العنت، والقطع بتصديق الأب، إذا أخبر عن نفسه.
ثم إن كان الأب لا يحتاج إلى النفقة، وكان معه بلاغ على قدر النفقة من غير فضل، وكان يحتاج إلى الإعفاف؛ ففي كلام الأصحاب تردد ظاهر في ذلك.
قال قائلون: لا يستحق الإعفاف إذا كان لا يستحق النفقة، والقياس عندنا أنه يستحق الإعفاف إذا احتاج إليه، وكانت يده لا تصل إلى ما يكفيه في ذلك؛ فإن المتبع هو الحاجة، وليس هذا كالفِطرة؛ فإن النفقة إذا سقطت، سقطت الفطرة، وإن كان لا يفضل من قوت القريب ما يخرجه فطرةً؛ والسبب فيه أن وجوب الفطرة لم يُنَط بحاجةٍ واقعةٍ في الجبلّة، والإعفاف منوط بحاجة، فإذا وقعت؛ فلا أثر لسقوط النفقة ووجوبها، ولو سقط وجوب النفقة أياماً، لاستغنى الأب عنه لسقوط شهوته، وكان يحتاج إلى الإعفاف، فلا يجوز أن يكون هاهنا في وجوب الإعفاف خلاف.
وقد اشتمل ما ذكرناه على أصل إيجاب الإعفاف، وعلى من يستحق ذلك، وعلى من يستحق عليه، وعلى الحالات المرعية في ذلك.
8011- واتفق أصحابنا على أن الجد-أبا الأب- يستحق من الإعفاف ما يستحقه الأب، وكذلك الجد أب الأم، وليس ذلك كتردد الأصحاب في أن الرجوع في الهبة هل يختص بأبِ الدِّنية؟ وذلك أن الرجوع في الهبة لا يجري فيه معنىً أصلاً، وإنما ورد الرجوع في الخبر في حق الأب؛ فأما الإعفاف؛ فتَدْاورُه على المعنى وسد الحاجة، فهو يجري مجرى النفقة في جهتها.
ولو اجتمع أب وجد، وكان ذاتُ يد الابن لا تفي إلا بإعفاف أحدهما، فالأب مقدم.
ولو كان في المسألة أب أب، وأب أم؛ فقد قطع العراقيون ومعظم المراوزة بتقديم أب الأب؛ فإنه مع أب الأم مستويان في القرب، وأب الأب يختص بمزيد القوة في جهة قرابته.
وذكر الشيخ أبو علي في ذلك وجهين:
أحدهما: ما ذكره الأصحاب.
والثاني: أنهم سواء، نظراً إلى القرب المحض، وهذا بعيد، لم أره إلا له.
نعم، قال العراقيون: إذا اجتمع أب أب الأب، وأب أم؛ ففي أحدهما قوة وبُعد، وفي الثاني ضعف وقرب، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن القرب أولى.
والثاني: أن القرب ومزيد القوة يعتدلان، ومقتضى ذلك الاستواء؛ وكان ينقدح تقديم الأقوى، كما أنا في قول- نقدّم ابن الأخ في عصوبة الولاء على الجد. من جهة اعتقادنا أن الإدلاء بطريق البنوة أقوى في استفادة العصوبة.
ثم حيث نحكم بالاستواء، فمؤنة الإعفاف لا يمكن قسمتها على الرجلين؛ فإنا لو فعلنا ذلك، لم ينتفع واحد منهما بما يخصه، ولم يتبلغ به إلى غرضه في الإعفاف؛ فلا وجه إلا تخصيص أحدهما.
وما طريق التخصيص، وهما مستويان؟
بعض أصحابنا أشار إلى القرعة، وذكر الشيخ أبو علي أن القاضي يجتهد، فيقدم من يرى منهما، والوجه فيه: أنهما إذا ادعيا الحاجة، فمن رأى ردَّ الأمر إلى الحاكم، قال: الحاكم ينظر في صفاتهما، وما يغلب على الظن من ظهور الحاجة من أحدهما، ثم يُقدم على هذا الوجه من يراه أولى. ولا شك أن الحاكم لا يحكم، فإن استوى الأمران عنده، فلا يتجه حينئذ-مع التنافس والظن الغالب في الاستواء- إلا القرعة.
وحاصل المذهب في هذا الطرف خلافٌ في أن القرعة هي المحكّمة إذا استويا في دعوى الحاجة، أم نظر السلطان؟ فإن حكّمنا القرعة، لم نرفع الأمر إلى السلطان، وإن لم نُحكّم القرعة، رفعنا الأمر إلى السلطان، فإن اجتهد، اتبعنا اجتهاده، وإن استويا في ظنه، فلا رجوع إلا إلى القرعة. وهذا بمثابة ما لو ازدحم رجلان إلى فوّهة معدن، وكان يعسر قسمة الحاصل فيه، وليس أحدهما بأن يخصص به أولى من الثاني، والحاجة ماسة في الحال، فقد نقول: يقرع بينهما، كما مضى.
8012- ثم يجب على الابن أن يعف أباه بما حصل به الغرض، فلو زوّجه عجوزاً لا تشتهى، أو امرأة شوهاء فلا يسقط الفرض بذلك، كما إذا جاء في النفقات بطعام فاسد لا ينساغ ولا يسد مسداً، والرجوع في ذلك إلى ما يعدّ في العرف سِداداً وكفاء.
ثم الابن لو أراد أن يشتري لأبيه جارية حتى يتسراها؛ جاز، ويسقط بذلك فرض الإعفاف، ولو زوّج منه حرة كتابية، فيها مستمتع، جاز.
ولو أراد أن يزوّج منه أمة، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: لا يجوز؛ فإن الأب مستغنٍ بمال ابنه في باب الإعفاف. فإذا كان نكاح الحرة ممكناً من مال ابنه، وجب ألا يجوز للأب نكاح الأمة، كما لو كان في ملكه طَوْل حرة؛ فإنه لا ينكح الأمة، ومالُه بمثابة مال ابنه في هذا الأصل.
ومن أصحابنا من قال: للأب أن ينكح أمة من مال ابنه، وللابن أن يكتفي بهذا القدر في حق أبيه. ووجه ذلك: أن هذا النكاح موقوف على الحاجة، فينبغي ألا يجب على الابن إلا أقل ما يسد به الحاجة، على ما سيأتي ذلك مشروحاً بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل.
8013- ولو كان الأب مطلاقاً؛ فإذا تكرر ذلك منه مراراً، بحيث يُعدّ مطلاقاً عرفاً؛ فنقول في ذلك: إن أعف أباه بزوجة في ذلك، فماتت، فالذي ذهب إليه المراوزة أنه يجب على الابن أن يعفّه مرة أخرى.
وذكر العراقيون هذا ووجها آخر معه، وهو: أنه لا يجب الإعفاف إلا مرة واحدة في العمر، فإن اتفق موت الزوجة، لم نَعُدْ إلى إلزام الابن إعفافاً مرة أخرى؛ فإن ذلك وظيفة العمر وطريحته، وهو مما لا يتكرر مراراً.
ولم يفرقوا في ذكر هذا الوجه بين أن يتفق إلمام الأب بها وبين ألا يتفق.
وهذا الوجه لا أصل له؛ من قِبل أن وجوب الإعفاف يستند إلى اعتبار حاجة الأب. فإذا ماتت الزوجة وقامت، فيتعين على الابن كفايتها.
ولو سلّم النفقة إلى من يجب عليه الإنفاق عليه، فتلف ذلك الطعام في يده، فعلى المنفق أن يبذل ما فيه الكفاية مرة أخرى، فبان أن الذي عليه التعويل؛ تكرير إيجاب الإعفاف إذا ماتت الزوجة، ثم لا موقف ينتهي إليه، ويقف كلامنا عليه، حتى لو فرض الإعفاف مراراً وكان الغرض يفوت؛ فيتجدد الأمر بتكرير الإعفاف إذا دامت الحاجة إليه.
8014- ولو طلّق الزوج زوجته؛ فهل يجب على ابنه أن يُعفّه بأخرى؟ فإن قلنا: لا يتكرر الإعفاف إذا ماتت الزوجة، فلا شك أنه لا يتكرر إذا بانت بالطلاق.
وإن قلنا: يتكرر الإعفاف إذا انتهى النكاح بموت الزوجة؛ ففي الطلاق وجهان:
أحدهما: أنه يجب، تعلّقاً بالحاجة.
والثاني: لا يجب؛ فإن الأب قصد قطع النكاح.
وقال علماؤنا: لو فسخ الأب النكاح، بمعنىً يوجب الفسخ؛ فهذا بمثابة ما لو ماتت الزوجة، ولو طلّق لغرضٍ صحيح، مثل أن يبدو له منها ما يريبه، ففي هذا ترددٌ: منهم من ألحقه بالفسخ بما يوجبه، ومنهم من خرّج هذا على الخلاف.
ثم لم يختلف أصحابنا في الطرق أن الطلاق إذا تكرر منه، بحيث انتسب عرفاً إلى كونه مَلولاً مِطلاقاً، فلا يلتزم الإبدال.
وهذا ليس خالياً عن احتمال، تخريجاً على ما لو سلّم النفقة إليه، فأتلفها، ثم كرّر التسليم مرة أخرى؛ فإنا قد نقول: يجب تكرير الإنفاق، على ما سيأتي ذلك في النفقات، إن شاء الله تعالى، وهذا احتمال، والمذهب المبتوت ما قدمناه.
8015- ثم ما أوجبناه على الابن، فهو مهر زوجة، إن أراد الإعفاف بهذه الجهة، ثم إنه يلتزم مؤنة النكاح في مستقبل الزمان: وله الخيار؛ إن شاء سلّم الصداق إلى الأب، حتى يتزوج، وإن شاء سلّطه على التزويج، ثم ساق الصداق بعد النكاح.
وإن أراد أن يملّكه جارية، حتى يتسرى بها، فله ذلك، وليس إلى الأب تعيين إحدى الجهتين.
ولو عيّن الأب زوجة رفيعة المهر؛ كان للابن ألا يرضى بذلك، ولا يبذل إلا مهر امرأة فيها كفاف وإعفاف، ثم إذا بان المقدار الذي يبذله؛ فلا خيار إلى الابن في تعيين زوجة، بل يتخير الأب زوجة، والمرعي فيما يبذله الابن مقداراً لائقاً بالاقتصاد. فهذا إتمام المراد في ذلك.
8016- ولم يختلف علماؤنا في أنه لا يجب على الأب أن يُعفّ ابنه.
وأما إعفافُ الأم، فليس يتصور؛ إذ لا مؤونة عليها ابتداء ودواماً، حتى يجب على الابن بذلها.
وقد ذكرنا معنى وجوب الإعفاف.
8017- فإذا انتجز ذلك، عدنا بعده إلى حكمٍ مقصود، مترتب على ما قدمناه، وهو: القول في أن الأب، هل يجوز له أن ينكح أمة ابنه؟ وقد اختلف طرق أصحابنا في ذلك: فذهب بعضهم إلى أنه لا يحل له نكاحها، وعلّل بأن قال: مِنْ شَرْط نكاح الأمة، العجزُ عن طَوْل الحرة، فإذا كان الابن قادراً على أن يُعفّ أباه بحرة، وجب عليه ذلك، وإذا تعيّن الإعفاف بحرّة، لم يحلّ نكاح الأمة، وهذا خرّجه هذا القائل على أحد الوجهين، في أن الإعفاف بالأمة لا يجوز من الابن القادر على الإعفاف بالحرّة.
فإن قلنا: يجوز للابن أن يُعفّ أباه بأمةٍ، أو كان يملك الابن جارية مستغرقة بخدمته، وكانت ذاتُ يده لا تتسع لطَوْل حرة، فسقط اعتبار هذا المجنى، فهل يجوز-والحالة هذه- للأب أن ينكح تلك الأمة؟ فعلى وجهين مبنيين على أن جارية الابن، هل تصير أم ولد إذا وطئها، وعلقت منه بمولود؟ فإن حكمنا بأن الاستيلاد يثبت- وهو ظاهر المذهب، لم يجز للأب أن ينكح أمة ابنه.
وإن قلنا: لا يثبت الاستيلاد، فله أن ينكح أمة ابنه.
8018- ولو كان الأب عبداً، فأراد أن يتزوج بإذن مولاه بأمةٍ لابنه الموسر أو المعسر، يصح ذلك منه على الطرق كلها؛ فإن نكاح الأمة للعبد جائزٌ، كيف فرض الأمر، وليس في هذا النكاح-إذا جوزناه- توقع الاستيلاد؛ فإن العبد لا يثبت في حقه استيلادٌ أصلاً؛ من جهة أنه لا يثبت له ملك، ومن ضرورة الحكم بالاستيلاد، انتقال الملك في الرقبة.
ولا يتفرع ثبوت الاستيلاد في مثل هذه الصورة على القول القديم-في أن العبد يملك بالتمليك؛ فإن ذلك فيه إذا ملّكه مولاه شيئاًً، فقد نقول: إنه يملكه- على ما سنوضح ذلك في شراء العبد-إن شاء الله عز وجل- على إثر هذا الفصل.
8019- ومن أسرار هذا الفصل أن الأب إذا تزوج بجارية الأجنبي-عند جواز ذلك- ووقع الحكم بانعقاد النكاح، ثم إن الابن ملك تلك الجارية، فقد قال الأئمة في الطرق: طريان الملك للابن على زوجة أبيه لا يوجب انقطاع النكاح، وإن كنا نمنعه من ابتداء نكاح أمة الابن، وذاك أنا بنينا منع النكاح على أحد أصلين، المنع من نكاح الأمة عند التمكن من طَوْل الحُرة، وقد وقع النكاح في أمة الأجنبي، مفروضاً على موافقة شرط الشرع، فما يطرأ في الأثناء، فلا حكم له، كما سيأتي شرح ذلك في نكاح الإماء، إن شاء الله عز وجل.
ومما اعتبرناه في نكاح أمة الابن ما للأب من الحق في مال الابن، وليس هذا الحكم بإثبات حقيقة الملك للأب في جارية الابن، وإنما القاطع للنكاح طريان ملك حقيقي للزوج على زوجته، وهذا بمثابة حُكمنا بأن زوج المرأة لو كان مكاتَباً لموروثها، فمات الموروث، وورثته؛ فينقطع النكاح؛ لأنها ملكت رقبة زوجها إرثاً، فلما كان ذاك حقيقة الملك، قطع طارئُه النكاح، وليس الأمر كذلك في حق الأب إذا طرأ ملكُ ابنه على زوجته.
8020- ثم السرّ الذي وعدناه في ذلك أن الشيخ أبا علي قال: إذا طرأ ملك الابن على ما فرضناه، وحكمنا ببقاء النكاح، فلو علقت بمولود عن الأب، في النكاح الذي حكمنا بدوامه، وذلك بعد ثبوت الملك للابن عليها- قال: لا تصير أم ولد للأب، وإن فرّعنا على أن الأب إذا استولد جارية ابنه ابتداء، أنها تصير أم ولد له، واعتل بأن قال: الوطء في النكاح ليس مما يوجب الاستيلاد، وإذا نكح الأجنبي جارية الغير وأولدها، لم نحكم بحرية الولد، والاستيلادُ تبعٌ للحكم بحرية الولد أولاً، هذا ما ذكره.
وكان شيخي يقطع بأن الأب إذا أولد زوجته بعد ما ملكها الابن؛ تصير أم ولد له. وهذا الذي ذكره قد يظهر؛ فإنا إذا منعنا الأب من التزوج بجارية الابن، وبنينا على أنها عرضة لأمية ولده، والنكاح قد يقصد به ابتغاء الولد، وطلب النسل؛ فيؤدي تجويز النكاح إلى إفضائه بمقصوده إلى ما يتضمن دفعه؛ فهذا وجه التعويل في منع نكاح أمة الابن، بناء على مصيرها أم ولد.
ولو صح ما ذكره الشيخ أبو علي، لبطل اعتماد هذا المعنى، ولقيل: لا يثبت الاستيلاد في النكاح، ولا يمتنع بسببه على الأب نكاح أمة الابن، وكان يرجع القول في منع نكاح جارية الابن إلى الوجهين؛ في أنه هل يجب على الابن إعفاف أبيه بحرة، أم له أن يعفه بنكاح أمة؟ وهذا التردد إنما يجري عند يسار الابن، واقتداره على أن يُعف بالحرة، فإن لم يقتدر على ذلك؛ وجب القطع بجواز إعفافه بنكاح أمة.
ثم يجب في هذه الصورة القطع بأن للأب أن ينكح أمة ابنه. هذا التفريع لابد منه، وفي كلام الشيخ أبي علي التزام هذا. وهو بعيد عن مذهبنا- إذا فرّعنا على أن جارية الابن تصير أم ولد للأب إذا حبلت منه في النكاح، فهذا كنا نعرفه مذهباً لأبي حنيفة، أو لبعض أصحابه.
فإذا تمهد المراد في ذلك، وبان من مذهب شيخنا وغيره أن النكاح لا يمنع نفوذ الاستيلاد، فلو طرأ ملك الابن على زوجة الأب-فنقول: لو علقت منه بمولود، صارت أم ولد؛ ثم يترتب عليه انفساخ النكاح إذا وقع؛ فعلى هذا، لو قيل لنا: هلا حكمتم بانقطاع النكاح- لمصيره إلى المعنى المحذور، وهو تعرض النكاح للزوال بما هو من مقاصده، وهذا قد اعتمدناه في منع ابتداء النكاح؟ قلنا: الذي رأيناه للأصحاب: أن دوام النكاح لا ينقطع؛ فإن الملك الطارىء ليس للزوج، ولا يبعد الفرق بين الدوام والابتداء.
وسمعت شيخي-في مسألة ميراث الزوجة وملكها رقبةَ زوجها المكاتَب- يقول-وقد أُلزم طريان ملك الابن على زوجة الأب- فقال: قد أقول بانفساخ النكاح.
وقد رأيت هذا لبعض أئمة الخلاف، ولست أعده من المذهب؛ فإني لم أره لموثوق به في نقل المذهب، ولم يذكره شيخنا في سياق المذهب، ولعل ما ذكره كان جرياناً منه على طريقة الخلافيين.
8021- ويتصل بهذا المنتهى، القول في نكاح أمة المكاتِب. فنقول أولاً: إذا وطىء سيد المكاتَب جارية المكاتَب، وعلقت منه بمولود، فإنها تصير أم ولد للسيد- لما له فيها من حق الملك.
وعندي أن هذا أجراه الأصحاب على ظاهر المذهب في أن جارية الابن تصير مستولدة الأب، فإن قلنا: لا تصير مستولدة له، فليس يبعد أن نقول: يبقى الاستيلاد في جاربة المكاتب.
وقد رأيت للشيخ أبي علي رمزاً إلى ذلك؛ فإن جارية المكاتب ملك المكاتب، وإن كان في ملكه بعض الضعف، وهذا ليس نقلاً، فلا أعتمده.
فإذا تبين أن الاستيلاد يثبت؛ فلو كان نكح السيد جاريةً، فملكها مكاتَبُه؛ ففي انفساخ النكاح بطريان ملك المكاتَب وجهان. سنذكرهما في الكتابة، إن شاء الله عز وجل، فلا يبعد تنزيل طريان ملك الابن على زوجة الأب هذه المنزلة، والله أعلم.
وقد انتجز الغرض في الفصل.
فصل:
قال الشافعي: "قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} [المؤمنون: 5]... إلى آخره".
8022- غرض الفصل: الكلامُ في تسرّي العبد. وهذا يبتني على القول في أنه هل يملك العبدُ إذا ملّكه مولاه؟ وفيه قولان، تقدم ذكرهما.
فإن قلنا: إنه لا يملك، لم يُتصور منه التسري. وإن قلنا: إنه يملك إذا ملّكه المولى؛ فنفس تمليكه إياه جارية لا يسلّطه على وطئها، كما لا يسلّطه على سائر جهات التصرفات، فإن أذن له في التسرّي، فالذي عليه الجريان، وبه قطع الأئمة: أن له أن يتسرى بإذن مولاه، وقد روي أن ابن عمر كان يسرّي عبيده جواريَه.
وكان شيخي يحكي عن الأستاذ أبي إسحاق أن العبد لا يتسرى، وإن أذن له مولاه؛ لضعف ملكه، وتعرضه للانتزاع والوطء يستدعي ملكاً قوياً، واحتج على ذلك بما روي عن ابن عمر أنه قال: لا يطأ الرجل إلا وليدة، إن شاء باعها، وإن شاء وهبها، وإن شاء صنع بها ما شاء. والعبد المملّك لا يملك البيع والهبة، وقد حمل أصحابنا هذا-من قول ابن عمر- على النهي عن الوطء في زمان الخيار؛ فإنه لم يتعرض في قوله هذا للعبد، ولم يجر ذكره.
ثم إذا جوّزنا للعبد أن يتسرى بإذن المولى، فلو علقت منه بمولود؛ لم يثبت الاستيلاد؛ فإن حرية الولد غير متوقعة، والاستيلاد يتبع حرية الولد، إذا صادف ملكاً أو حقَّ ملك؛ فولده إذن قن، والجارية عرضة الاسترداد، وإنما يثبت حق العبد على اللزوم في النكاح-إذا صح له- بإذن المولى.
8023- ثم قال الشافعي: نكاح الزانية جائز على كراهة.
مذهبنا: أن نكاح الزانية صحيح، ولكنا نكره ذلك، ولا خفاء بوجه الكراهية.
وعن الحسن أن نكاح الزانية باطل، وقد تعلق بقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَان} [النور: 3]، وقد قيل: الآية منسوخة، وقيل: أراد بالنكاح الوطء من غير حل، وقيل: أراد الزجر عن اقترابهن، وقد تجري في الزجر مبالغات. فإن كان المراد به الكراهية، فالزنا لا يوجب العدة على المزنيّ بها.
والحامل من الزنا يحل نكاحها؛ فإن الحمل من الزنا لا حرمة له.
وإذا صححنا النكاح وهي حامل، فقد اشتهر خلاف الأصحاب في أنه هل يحل وطؤها في زمان الحمل؟ فذكر ابن الحداد أنه لا يحل وطؤها ما دامت حاملاً.
والأصح أنه لا يحرم، ولفظ الشافعي دال على نفي التحريم؛ فأنه قال: "وأُحب أن يمسك عنها حتى تضع". وليس لتحريم القِربان وجهٌ أصلاً، مع الحكم بانعقاد النكاح، وقد ظهر أن ماء الزاني لا حرمة له، والكراهية: يدل عليها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تسقِ بمائك زرع غيرك». وقد حمل أصحابنا هذا على ما ذكرناه.
8024- ثم عقد الشافعي باباً في نكاح العبد وطلاقه. وذكر فيه أنه ينكح اثنتين، ويملك طلقتين، وقد تقدم النكاح، وسيأتي الطلاق، إن شاء الله تعالى، وأجرى في الباب نكاح العبد بغير إذن السيد، وقد أشبعنا القول فيه بما يغني عن الإعادة.