فصل: باب: الحكمين في الشقاق بين الزوجين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الحكمين في الشقاق بين الزوجين:

8680- الأحوال الدائرة في هذه الفنون بين الزوجين تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يصدر العدوان من الرجل في إيذائها والإضرار بها، فإذا تحقق ذلك منه، منعناه من الإضرار، واستوفينا منه ما يمتنع عنه من الحقوق، وإن كان جسوراً لم نأمن أن يضربها ضرباً مبرِّحاً، وقد يفضي ذلك إلى هلاكها، فنحول بينها وبينه؛ فإنَّا إنْ ضربناه لضَرْبه إياها تعزيراً، فقد يضم لذلك حنقاً ويبلغ منها مبلغاً لا يستدرك.
ثم إذا استشعر الوالي ذلك وضَربَ الحيلولة، لم يردّها إليه حتى تلين عريكتُه، وتظهر عاطفته، وذلك لا يتبين بقوله، وإنما يتضح بأن يُختبرَ ويوكلَ به في السر من يبحث عن مكنون ضميره فيها، فإذا غلب على الظن أنه مأمون في حقها رُدَّت إليه، وهذا يُضاهي البحثَ عن الإعسار وغيره من الأمور الباطنة المتعلقة بالنفي، ويتصل به استبراؤنا الفاسقَ إذا تاب.
وإن لم يتحقق إيذاؤه إياها، بل ظننا ذلك ظناً، فالوجه أن يأمر الحاكم من يراقبهما في السر والعلن، ولا يشترط أن يتحقق ذلك، ولا يضرب القاضي حيلولة بينهما بمجرد الظن إذا لم تبدر منه بادرة، فإذا بدرت، فقد يديم الحيلولة إلى ظهور الظن بالأمر، وإذا تحققنا الإضرار بها، فليس إلاَّ الحيلولة، فأما إلزام الطلاق، فلا.
8681- وإن تحقق العدوان منها، فهو النشوز، وقد مضى فيه باب، وإن توهمنا نشوزاً، فلا يدَ للقاضي، ويدُ الزوجِ متسلطة عليها، فإن بلغ الأمرُ مبلغاً يُعجز الزوجَ، استعان بالسلطان.
8682- وإن نشبت خصومة بين الزوجين، وأشكل الأمر، فلم ندر من الظالم منهما؟ وكان الزوج لا يصفح، والمرأة لا تفتدي، واشتبه حال الزوجين، فهذا موضع بعثة الحكمين، فيبعث الإمامُ حكمين عدلين حَكَماً من أهله، وحَكَماً من أهلها، حتى يخلوَ كل واحد من الحَكَمين بصاحبه، فيستطلعَ رأيه، ويعرفَ مكنونَ غرضه، ورغبته في صاحبه أو عنه، ثم يلتقيان، ويُثبتُ كلُّ واحد ما عنده؛ وإنما استحببنا أن يكونا من الأهلين؛ لأن انبساطهم أكثر، واطلاعهم على حقائق الأمور أمكن.
فهذا تصوير بعثة الحكمين.
والأصل في الباب نص الكتاب لقوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، وفي الآية وجهان من التأويل. قيل: معناه إن يُرد الزوجان إصلاحاً، يوفق الله بينهما.
وقيل: معناه إن يُرد الحكمان إصلاحاً وجرَّدا قصدَهما في ذلك يوفق الله بين الزوجين ببركةِ قصدِهما. وهذا ما فهمه عمرُ من الآية، فروي أنه بعث حكمين فرجعا، وقالا: لم يتم الأمر بينهما، فَعَلاَهُمَا بالدِّرةِ وقال: "الله أصدقُ منكما، لو أردتما إصلاحاًً، لوفَّق الله"، فرجعا واعتقدا إصلاحاً، فلما بلغا مكانهما، كانا قد أغلقا الباب وتلاوما واصطلحا.
8683- ثم إن اتفق التئام الحال واصطلاح الزوجين، فذاك.
وإن رأيا الحال بينهما أبعد عن قبول الصلاح ورأيا الخصومة ناشبة لا تنفصل، وظنا أن الوجهَ التفريق بينهما، فهل ينفذ الفراق بينهما إذا رأياه؟ للشافعي قولان في أن التحكيم من الولي تولية أو هو توكيل من الزوجين، أحد القولين- أنهما وكيلان لا ينفذان أمراً إلا برضا الزوجين، فالذي هو من جانب الزوج وكيله لا يطلِّق ولا يخالع ولا يثبت أمراً بغير إذن الزوج، والذي من جانب المرأة لا يختلع عن المرأة بشيء من مالها إلا بإذنها.
وهذا أحد القولين، وهو اختيار المزني، ووجهه أن الطلاق للرجال، ولا يتعلق به تصرف متبرع دون الزوج، إلا في حق المولَّى كما سيأتي-إن شاء الله تعالى-. وهو في حكم المستثنى المخصوص الذي لا يقاس عليه، هذا في جانب الطلاق.
أما بذل مالها من غير إذنها بطلقة فعلى نهاية البعد عن قاعدة القياس.
8684- ومن قال بالقول الثاني قال: للحكمين أن يفرقا إن رأيا التفريق، وهو الذي نصّ عليه في أحكام القرآن، واحتج بأن الله تعالى سماهما في كتابه حكمين، والحكم هو الذي يحكم وينفذ ما يراه قهراً، ووكيلا الزوجين لا يسميان حكمين. فإن قيل: قيَّد اللهُ تنفيذَ الأمرِ بإرادتهما، قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35]، قلنا: إن حملناها على الحكمين، سقط السؤال، وإن حملنا قوله: {إِنْ يُرِيدَا} على الزوجين فالمعنى: إن لاحت إرادةُ الصلاح مِن الزوجين، وفّق الله بينهما.
وعن علي أنه بعث الحكمين بين الزوجين وقال: "أتدريان ما عليكما، ما عليكما إن رأيتما أنْ تُفَرِّقا أَنْ تُفرقا، وإن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي، فقال الزوج: أمَّا الطلاق فلا، فقال عليٌّ: كذبت حتى تقر بما أقرّت به". ووجه التعلق بقول علي: أتدريان...
الحديث، أنه فوض الفراق إلى رأي الحكمين ولما قال الزوج: أمَّا الطلاق فلا، رد عليٌّ عليه وقال: كذبت. فما معنى تكذيبه؟ لعله أبدى في الابتداء رضاً بما يستصوبه الحكمان، ثم رجع عنه، فكان ذلك منه خُلْفاً في الوعد فورد التكذيب عليه.
وإنْ تعلَّق ناصرُ هذا القول بأنَّ الضرر مدفوع، ولسنا نرى للخصومة الناشبة الملتبسة مدفعاً، وترك النزاع والشقاق يخالف مبنى الشرع، فهذا كلام كلي لا يتعلق به على السداد غرض جزئي في محل النزاع.
والذي يقتضيه القياس تقرير النكاح وضرْب الحيلولة بينهما؛ حتى لا يتنازعا.
ولا معتمد لهذا القول إلاَّ التمسك بظاهر القرآن والأثر.
التفريع على القولين:
8685- إن قلنا: الحكمان كالوكيلين، فسيأتي-إن شاء الله تعالى- تفريعُ القول في الوكالة في الخلع والطلاق، والفدر الذي ننجزه لإيضاح التفريع: أنَّا إذا جعلنا الحكمين في منزلة الوكيلين، فإذا لم يجر من الزوجين توكيل، فليس إليهما من الأمر شيء، إلاَّ التفقد والبحث عن محل اللبس، حتى يتبين للقاضي الظالمُ منهما من المظلوم، ثم مضى حكم الإنصاف والانتصاف.
ولو وكَّلاَ ثم عَزَلا، أو عزل أحدهما، انعزل المعزول، ولو جُنَّا أو جنَّ أحدهما، فمن جُنَّ ارتفع التوكيل في حقه، وإذا أفاق عن الجنون، فالتوكيل زائل، فإن أراد أن ينفذ أمراً، فليبتدىء توكيلاً.
8686- وإن فرَّعنا على القول الثاني، وجعلنا ابتعاث السلطان تحكيماً، فلهما أن ينفذا ما يريان الصلاحَ فيه، فإنْ رأيا الطلاقَ، طلَّقَا على السخط من الزوج.
وذكر الأئمة أنهما يختلعان المرأةَ بشيء من مالها، وإنْ لم ترض. وهذا متفق عليه في التفريع على هذا القول.
فإن أنكر مُنكر بذلَ مالِ مطلقة في الافتداء بغير إذنها، فهو كتطليق زوجة إنسان من غير إذنه، والأموال قد تدخل تحت الحجر، والطلاق لا يدخل تحت الحجر، فإذا احتكم الحَكَمُ في الطلاق، لم يبعد فرض الاحتكام على مال الزوجة في طلب الصلاح.
8687- ثم نتكلم وراء هذا في أمور مهمة بها تمام البيان، فنقول أولاً: نصُّ القرآن مشعر ببعثه الحكمين، وهذا فيه تأمل على الطالب، فإنَّا إن اعتقدنا التحكيم منهما في مرتبة الولاية، فالعدد يبعد اشتراطه في الوالي، وإن نزّلناهما منزلة الوكيلين، فالعدد ليس بشرط أيضاًً، وسنذكر في وكالة الخلع-إن شاء الله تعالى- أنَّ الشخصَ الواحدَ يجوز أن يكون وكيلاً في الخلع من الجانبين على أحد الوجهين، فإن كان يتجه رعاية العدد على قول التوكيل عند مسيس الحاجة إلى الخلع، فيلزم من مساق هذا الاكتفاءُ بوكيل من جانبه إذا كانت هي تختلع بنفسها.
فإذا جعلنا ذلك تحكيماً، ففي المسألة احتمال ظاهر، يجوز أن نتبع القرآن ولا نعقد لظاهره تأويلاً، ونشترط حكمين، ويجوز أنْ نحملَ العدد على الاستحباب، بدليل اتصاله بوصفٍ ليس مشروطاً، وهو قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِهِ}. {مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] وهذا مستحَب غيرُ مستحَق إجماعاً. وقد يشهد للاكتفاء بالحاكم الواحد حديثُ حبيبة بنت سهل، فإنَّ الرسول قطع النكاح بينهما بتّاً لما اطلع على أمرهما، كما سنذكر ذلك في صدر كتاب الخلع-إن شاء الله عز وجل-، ويقوى التمسك بتلك القصة في تنفيذ الطلاق حكماً وفي الاتحاد الذي أشرنا إليه، والله أعلم.
8688- ومما يجب النظر فيه أنَّ الحكمين ينبغي أن يكونا على عقلٍ ودراية واستقلال بالاطلاع على خفايا الأمور، هذا لابد منه.
والعدالة لا شك مشروطة، فلا ثقةَ بمن يخون نفسَه ودينه.
ثم لم يشترط أحدٌ من أصحابنا أن يكونا مجتهدين، وكيف سبيل اشتراط ذلك؟ وقد لا يتصدى للفتوى في سعةِ رقعة إقليم إلاَّ الشخص الواحد، فكيف نرقبُ مجتهداً من أهله ومجتهداً من أهلها.
ولكن لابد أن يكونا عالمين بحكم الواقعة، فالعقل يرشدهما إلى وجه الرأي والتحويم على الأسرار والخفايا، وحكم الواقعة تقريرٌ أو تفريقٌ على حسب الاستصواب.
وينشأ من هذا أنَّ الحاكم إذا ولّى حاكماً، وكان ما يتعلق به أمورٌ خارجة عن الضبط والنهاية، فلابد من كون مولاّه مجتهداً؛ فإنه بالإضافة إليه بمثابته بالإضافة إلى الإمام الأعظم، فأمَّا إذا كان الحاكم خاصاً، فلا يشترط الاجتهاد من المحكّم، ويشهد له الحكمان، وهذا رمز إلى مراتب الولاة، وسنأتي فيها بالعجائب والآيات في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل.
فالذي تَنَخَّلَ من مجموع ما ذكرناه القول في العدد وصفة الحَكَمَيْن.
8689- ثم قال الأئمة: لا يبعث الحكمين بمبادىء الشر والشقاق، حتى يظهر التشاتم والتواثبُ والأمورُ المستكرهةُ المنكرة، وتنشب الخصومة على التباسٍ لا يُفك ولا يُدرك في ظاهر الأمر.
ثم إذا كان رأي الحكمين أن يُفَرِّقا، فالتفريق يقف على استدعائهما، وإن كانت هي المعنة فهذا ما يجب الوقوف عليه.
ثم إنْ قدرناهما وكيلين، لم يقف نفوذ حكمهما على حضور الزوجين، قياساً على تصرف الوكلاء. وإذا جعلناهما حَكَمين وقد اطلعا على حقيقة الحال، فلو رأى الحكمان الطلاق، فغاب الزوجان، فهل ينفذ تطليقهما مع قطعهما بشكايتهما؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا يشترط هذا والمتبع الصواب الذي يريانه.
ومنهم من قال: لا قطع إلاَّ إذا كانا مكبين على الشكاية، ولا يشترط أحدٌ استدعاء الطلاق والاختلاع؛ فإن هذا لو شرط، فهو تنفيذ الفراق على حسب إذنهما، بل يكفي قيام الشكاية.
8690- ولو تراضيا وأظهرا الوفاق، فقال الحكمان: إنهما لا يفيئان، وسيرجعان إلى التنازع الذي ألفناه منهما مراراً، فلا تعويل على هذا، ولا سبيل إلى الفراق.
8691- فالأحوال إذاً ثلاثة: إحداها- إبداء الوفاق، فلا فراق معه. والثانية- في إدامة التلاوم والتخاصم، عند ذلك للحكمين أنْ يُطلّقا إذا رأيا.
والحالة الثالثة- أن يغيبا بعد الشكاية أو يسكتا مع الحضور، وفيه التردد، والمسألة فيه إذا راجعهما الحكمان فآثرا السكوت.
فصل:
قال: "ولو استكرهها على شيء أخذه منها... إلى آخره".
8692- هذا الفصل من مسائل الخلع، ولكنه اتصل بتنازع الزوجين بأخراه.
وصورة المسألة: أنَّ المرأةَ إذا قبلت الطلاقَ على مالٍ في ظاهرِ الحال، ثم ادعت على الزوج أنه يلزمه ردُّ ما أخذ منها؛ لأنها كانت مُكرهة على الاختلاع، والزوج ساكت، وأقامت بيِّنة على الإكراه، وإنما فرضنا سكوته لغرض يبين. قال: فالمال مردود عليها، والطلاق يُحكم بوقوعه رجعياً؛ لأنه لم يقر بطواعيتها.
ويمكن فرض المسألة فيه إذا كانت الدعوى على الوكيل من جهة الزوج، فأنكر الطواعية فالزوج لا يلزمه حكم إنكار الوكيل، وهذا فيه إذا قامت بيِّنةٌ على إكراهها على الخُلع قصداً.
فأمَّا إذا لم يكرهها على الخلع ولكن كان يُسيء العشرةَ معها، ويؤذيها بالمشاتمةِ والضرب، فلو اختلعت وزعمت أنها كانت تبغي الخلاصَ من أذى الزوج، فلا يكون هذا إكراهاً، وإن كان ما يجريه الزوج من الضرب لو خوَّف المرأةَ به، لكانت مُكرهةً، وهذا بيِّن. وستأتي حقيقة هذه المسألة في كتاب الخلع، إن شاء الله عز وجل.
.................................

.كتاب الخلع:

8693- الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب، فقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
فأباح الله تعالى الافتداء، ورَفَع الجُناحَ في أخذ المال عنه، ورفع الجُناح عنها في البذل، إذا استشعرا هَيْجَ الفتنة وقيام النزاع.
والأصل في الكتاب من جهة السنة؛ حديثُ حبيبةَ بنتِ سهل زوجة ثابتِ. بن قيس بن شماس، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم لصلاة الصبح، فرأى حبيبةَ على باب الحجرة، فقال: من هذه؟ فقالت حبيبة: لا أنا ولا ثابت.
واختلف في معنى قولها، فقيل: معناه: لا كنت ولا كان ثابت؛ إذ كنا سببَ شغل قلب رسول الله. وقيل معناه: لا أوافقه ولا يوافقني.
فلما دخل ثابت المسجد، قال له صلى الله عليه وسلم: «هذه حبيبة تذكر ما شاء الله أن تذكر». فقالت حبيبة: «كل ما أعطانيه عندي». فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ منها». فجلست في بيت أهلها إلى أن خالعها، وأخذ المال منها، وجلست تعتد في بيت أهلها.
والإجماع منعقد على أصل الخلع. وليس في حديث حبيبة رضا ثابت بالطلاق، ولا جريانٌ بلفظ المخالعة، ولا محملَ لقصة حبيبة إلا ما ذكرناه في الحَكَمين.
ثم قال الشافعي: آية الافتداء في كتاب الله تعالى مقيَّدة بخوف النزاع. وهذا التقييد لا مفهوم له؛ فإنه يخرج على الغالب في العادة؛ فإن الزوجين لا يتخالعان وكل واحد منهما راغب في صاحبه، وقد تكرر الكلام على مثل هذا في المسائل.
وهذه القصة تدل على أن ما يقدمه الزوج من ضرب لا يحمل على الإكراه على الخلع، وفي هذا سر يليق به، وهو: أن ضرب الزوج إياها يرغّبها في الخلاص منه، فتختار الاختلاع. والإكراهُ على نفس الخلع لا يحدث فيها رغبةً في الخلع، وإنما طلب الخلع منها قهراً، فأتت به قهراً.
فعرض المزني وبعضُ الأصحاب لكلام في أن الخلع لا يوصف بالسنة والبدعة.
ولا معنى للتّسرّع في ذلك، فإنه بين أيدينا، وسنذكره مستقصى في الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ورُوي عن ابن عباس أن الخلع ليس بطلاق... إلى آخره".
8694- اختلف قول الشافعي في أن الخلع فسخُ النكاح على تراضٍ، أو هو طلاق على مال؟
فالمنصوص عليه في الجديد: أنه طلاق. وهو مذهب أبي حنيفة واختيار المزني، وهو الصحيح، وبه الفتوى.
ونص في القديم على أن الخلع فسخٌ، ومذهب عمر وعثمان وعليٍّ أن الخلع طلاق، ومذهب ابن عباس أنه فسخ وتوجيه القولين مذكور في المسائل.
وأول ما نذكره-قبل استفتاح التفريع- أن من قال: "الخلع طلاق" من مذهبه أن النكاح لا يقبل الفسخ بالتراضي، بل جريان الفسخ فيه موقوف على دفع ضرار، وعلى صفةٍ تُضادّ دوامَ النكاح. وما يكون كذلك، فهو انفساخ، لا يتعلق بالقصد.
8695- فإذا تمهّد هذا، عُدنا إلى التفريع على القولين: فإذا جعلنا الخلع فسخاً، فهو صريحٌ باتفاق المفرّعين على هذا القول إذا جرى ذكرُ المال، فإن تخالعا من غير ذكر المال، فهذا يتفرع على قول الفسخ، ويتفرع على قول الطلاق.
ونحن نرى أن نؤخّر تفريعه على تفريع القولين، ثم نفرده، ونستقصي ما فيه.
فالخلع مع المال إذاً صريح في الفسخ، فإذا قالا: تفاسخنا على مالٍ ذكراه، فالمذهب الأصح: أن الفسخ صريح في إفادة المقصود.
وذكر العراقيون وغيرهم وجهاً أن الفسخ يكون كناية في هذا المقام؛ لأنه لا ذكر له في الشرع، ولا جريان له على الألسنة، والكنايات تتميز عن الصرائح بما ذكرناه.
وظهر اختلاف أصحابنا في المفاداة مع ذكر المال على قول الفسخ. فمنهم من قال: هي صريح كالمخالعة. ومنهم من قال: إنها كناية.
ويقرب الاختلاف في هذا من تردد الأصحاب في لفظ الإمساك إذا استعمل في الرجعة:
فمن أصحابنا من قال: إنه صريح.
ومنهم من قال: إنه كناية.
وكذلك اختلفوا في أن لفظ الفك هل يكون صريحاً في العتق؟ وإنما نشأ الاختلاف في هذه المسائل عن أصل نُنبّه عليه، وهو: أن من أئمتنا من نظر إلى شيوع المفاداة والإمساك والفك، في هذه الأغراض، والصريحُ ما يشيع في إرادة مقصدٍ. ومن أئمتنا من نظر إلى جريان هذه الألفاظ في الشرع.
كالمفاداة في قوله تعالى: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. والإمساك في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231]. والفك دي قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13].
وحاصل المذهب: أن ما جرى له ذكر في الشرع، وتكرر حتى صار مشهوراً في الشرع؛ فهو صريح، وإن لم يفرض فيه إشاعةٌ في العادة؛ فإنّ ما عُرف شرعاً، فهو المتّبَع، وعليه بنينا حملَ الدراهم في الأقارير على النُّقرة الخالصة، وإن كان قد يغلب العرف على خلاف ذلك، وعليه ألحق الشافعي السَّراح والفراق بصرائح الطلاق لمَّا ألفاهما متكررين.
فأما ما جرى في الشرع مرة واحدة، كالمفاداة، والإمساك، والفك، ولم يكن ذلك شائعاً؛ ففيه الوجهان.
وما شاع ولم يجرِ له ذكر في الشرع، فهل يلتحق بالصرائح؟ فعلى وجهين. ومنه قولْ القائل لامرأته: "أنت عليّ حرام"، في هذه البلاد.
وما ذكرناه مرامز، وسيأتي استقصاؤها في أول الطلاق، إن شاء الله تعالى.
8696- ومما يتفرع على هذا القول: أنا إذا جعلنا المخالعةَ صريحاً وقطعنا القول بذلك على الفسخ، ولا ذكرَ لها في الكتاب، فكيف خروج هذا على القاعدة التي ذكرناها؟ ولم يختلف أصحابنا أن المخالعة صريح في الفسخ-على قول الفسخ- وهذا في ظاهره يخرِم ما أصّلناه!
وسبيل الكلام عليه شيئان:
أحدهما: أن الخلع جرى في عُرف نَقَلةِ الشريعة، حتى كان حَمَلةُ الشريعة يحملون على التلفظ بها، والأزواج إذا نطقوا بالخلع رأَوْه الأصل.
وليس كذلك قول القائل لامرأته: أنتِ على حرام.
ويتجه فيه وجه آخر، وهو أن الخلع إذا استعمل فسخاً، فالفسخ يضاهي حلولَ العقود، ولا حصر لألفاظ حلول العقود، وهي محمولة على الأشاعة، متلقّاة منها لا غير، والطلاق تصرف؛ فإنه ليس فسخاً، وليس يُشعر بإزالة مِلكٍ، فتطرّق إليه التعبّد تطرّقَه إلى النكاح. وكأن المعتمد فيه ورود الشرع والتكرر فيه.
8697- إذا تبين ما ذكرناه؛ فلو ذكر الزوج المخالعة على مال، وقِبلَتْه المرأة، ونوى الزوج الطلاق؛ فالذي قطع به المحققون: أنه لا يصير طلاقاًً بالنيّة، فإنه صريح في الفسخ، واللفظ الصريح الموضوع في محلّه، إذا قَصد مطلِقُه مقصوداً آخر غيرَ ما يقتضيه محلُّه؛ فاللفظ لا ينتقل؛ ولهذا قلنا: إن الزوج إذا ذكر الطلاق، وزعم أنه نوى ظهاراً، أو ذكر الظهار، وزعم أنه نوى طلاقاً؛ فاللفظ ينفذ في موضوعه الصريح، ويلغو القصد في غيره.
وقد يرد على ذلك لفظ التحريم؛ فإنه صريح في اقتضاء الكفارة إذا قال الرجل لزوجته: أنتِ عليّ حرام، ولو نوى به طلاقاً كان طلاقاً، وسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
والذي ننجزه الآن، أن لفظ التحريم لا يختص حكمه في اقتضاء الكفارة بالزوجية، وأن السيد لو قال لأمته: أنتِ عليّ حرام، التزم الكفارة، وفي ذلك نزلت سورة التحريم، فلم يختص التحريمُ بالنكاح، فيجوز ألا يختصَّ في النكاح بمقصود، هذا هو المذهب.
8698- ومن أصحابنا من قال: الخلع يصير طلاقاً بالنية. وهذا ذكره شيخي وطائفة من العراقيين والوجه فيه: أن الفسخَ والطلاقَ متساويان في بتّ الملك ورفعِ النكاح، فلم يبعُد نقلُه من رفعٍ إلى رفع، وليس كذلك الطلاق والظهار.
وهذا خيال لا حاصل له؛ فإن تعطيل الصريح لا وجه له، وفي حمل الخلع على الطلاق تعطيلُه في الفسخ، ويستحيل أن ينفذ الفسخ به، مع وقوع الطلاق، هذا لا سبيل إليه.
فلو أجراه من لا بصيرة له حيث لم ير لردّ الفسخ أثراً، وقال: ينفذ الفسخ والطلاق، قيل له: الفسخ بَيْنٌ، والطلاق لا يقع مع البينونة. فهذا ما أردناه في ذلك.
فإن قيل: النكاح ينفسخ بلفظ الفسخ عند ثبوت الأسباب المقتضية للفسخ، ثم لو استعمل الزوج الفسخ، ونوى الطلاق وقع.
قلنا: لفظ الفسخ لا اختصاص له بالنكاح؛ فإنه يجري في كل عقد ينفسخ، ثم إنما ينفذ لفظ الفسخ إذا كان ثَمَّ موجِب له، فإن لم يكن، فلا نفاذ له، فلا يمتنع استعماله في الطلاق. فلو أطلق الزوج لفظ الفسخ، ونوى به الطلاق حيث يملك الفسخ، فالمسألة محتملة.
ويجوز أن يُقضى بوقوع الطلاق لصلاح اللفظ له وملكِه إياه، وهذا ما قطع به القاضي.
ويجوز أن يقال: ينفد الفسخ بصريح لفظه؛ إذ لا حاجة إلى قصده في الفسخ، ولا ينفذ الطلاق، كما ذكرناه في المخالعة، ولعل الفسخ أولى بالنفوذ إذا وُجد سببٌ له؛ فإن ما نُنفذه من الفسخ في الخلع يقتضي التراضي بالفسخ، فإذا لم يقصد الزوجُ الفسخَ، ولم يخطر له ببال، فالتراضي على الفسوخ مفقود، وهو سبب الفسخ.
فليتأمل الفقيه هذا المقام يجد له عوضاً.
8699- ومما نفرّعه على هذا القول: أنا إذا جعلنا الخلع فسخاً، فلا يصحّ من الأجنبي الاستقلالُ باختلاع المرأة على حكم الفسخ؛ فإن الفسخ المعقود بالتراضي شرطه أن يرتبط برضا الزوجين، فإن العقد يتعلق بهما، ولا يجوز أن يكون الأجنبي ركناً في فسخ التراضي.
فإن قيل: قد قطع الشافعي أجوبته بتصحيح خلع الأجنبي!
قلنا: سبب ذلك أنه فرّع على الجديد، ولم يُلفَ له تفريع على القديم. وكانت أجوبته محمولةً على أن الخلع طلاق. وإذا وقع التفريع عليه، فيصحّ من الأجنبي افتداءُ المرأة بالطلاق عن زوجها بمال يبذله، وينزل هذا بمنزلة افتداء الرجل المستولدة من مولاها بمال يبذله عن مقابلة إعتاقه إياها، والسبب في ذلك أن الطلاق فُرقة ينفرد الزوج بها كالعتق، فإذا علّقه بمال يلتزمه أجنبي على مذهب الافتداء، لم يبعد و الفسخ المنوط بالتراضي، يستحيل حصوله بين الزوج والأجنبي.
وقد بقي من التفريع على هذا القول مقدار صالح، ولكنا رأينا تأخيره لغرض لنا في الترتيب، ونعود الآن إلى التفريع على القول الآخر.
8700- فإذا قلنا: الخلع طلاق، فإذا ذكر معه المال، واتصل بالقبول؛ فظاهر المذهب أن اللفظ لا يعمل إلا بالنية.
ونص الشافعي في الأملاء على أن الخلع صريح في الطلاق أو كناية؛ اختلف الأئمة في مأخذ القولين، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن هذا الاختلاف مأخوذٌ من أن اللفظ إذا ساغ استعماله في الناس على قصد الطلاق، فهل يلتحق بالصرائح بسبب الشيوع وإن لم يتكرر في ألفاظ الشرع؟ وهذا لفظ مختلف فيه، وسنذكره ونستقصيه في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
فإذا؛ ظاهر المذهب: أن الصرائح منحصرة في الطلاق والفراق والسَّراح، ومعانيها بكل لسان.
وفي المسألة قول آخر: إن الخلع يلتحق بها لشيوعه في الاستعمال.
هذا مسلك لبعض الأصحاب، وهو الصحيح.
وذهب ذاهبون إلى أن سبب اختلاف القول ذكر المال، وهذا تمسكٌ بالقرينة.
ومذهب الشافعي أن الكنايات لا تلتحق بالصرائح بقرائن الأحوال: كالسؤال، والغضب، وما يظهر في مخايل الإنسان في قصد الطلاق. وسيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
فكان هؤلاء يستثبتون من جملة القرائن: المال؛ فإنه لا يُبذل هزلاً، ولا يستبطر إلا لتوطين النفس على المفاداة. ويظهر أثر هذا الاختلاف في مأخذ القولين فيه إذا جرى لفظ الخلع من غير ذكر المال، وقد وعدنا أن نذكر هذا مفرداً مفرّعاً على القولين.
ومن فوائد التفريع على هذا القول أن الرجل إذا خالع امرأته ثلاث مرات، لم تحلّ له إلا بعد زوج، بخلاف ما إذا جعلناه فسخاً؛ فإن تكرر الفسوخ-وإن بلغ عدداً كثيراً- لا يؤثر في إيجاب التحليل، وتحريم العقد ممدود إلى نكاح ووطءٍ فيه.
فهذا الذي ذكرناه؛ ذِكْرُ قواعد التفريع على القولين، ونحن نُلحق أموراً، أهمها: الكلام فيه إذا جرى الخلع من غير تعرّض لذكر المال.
فرع:
8701- إذا اختلع الزوجان، ولم يجرِ ذكر المال، فقال الزوج: خالعتك، فقالت: اختلعت نفسي، فهذا نفرّعه على قولنا: الخلع طلاق أوّلاً، ثم
نفرّعه على القول الآخر.
فإذا قلنا: إنه طلاق. قلنا: إنه صريح، فهذا ينبني على أن كونه صريحاً يُتلقى من ذكر المال أو من شيوع اللفظ؟ فإن تلقيناه من قرينة المال، فها هنا لا قرينة، فهو كناية، فيحتاج إلى النية.
ثم نفرّع أولاً على أن مأخذ القولين من الشيوع، وهذا ما صار إليه معظم الأصحاب.
فإن قلنا: اللفظ صريح. فإذا لم يتعرضا لذكر المال، فهل يجب المال؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن المال يجب وإن لم يذكراه؛ فإن اللفظ في العرف يقتضي المال.
والوجه الثاني- لا يثبت المال لعدم الذكر والتعرض له.
التفريع:
8702- إن قلنا: إن المال لا يثبت، فيقع طلقة رجعية، ثم هل يشترط القبول، أم يقع بمجرد قول الزوج؟ فعلى وجهين:
أحدهما: إنه يقع بمجرد قول الزوج؛ فإنه إذا نوى الطلاق، ولم يتعرض للمال، ولم يُثبت الشرعُ المالَ، فلا حاجة إلى قبولها، فكان ما جاء به طلاقاًً مجرداً في ممسوسةٍ من غير استيفاء عدد، فاقتضى ذلك جريانها في عدة الرجعة.
والوجه الثاني- أنه لابد من قبولها؛ فإن صيغة اللفظ مأخوذة من بناء المفاعلة.
ووضع باب المفاعلة على التعلق بشخصين، فإن كان مُشعراً بفعل كالمقاتلة والمضاربة، فذلك الفعل يدور بين شخصين، فإذا قال: خالعتك، اقتضى هذا في وضع اللسان قبولَها، فكأنه قال: إن قلتِ اختلعتُ، فأنت طالق.
وقد يتعلق الطلاق بالقبول، وإن كان المال لا يثبت.
والدليل عليه: أن الزوج إذا خالع زوجته السفيهة فقبلَتْ، وقع الطلاق رجعياً، ثم لا يثبت المال. ولو لم تقبل، لم يقع الطلاق، فلتكنَ المخالعة الخالية عن ذكر العوض بهذه المثابة.
والذي يقتضيه القياس في هذا، أنه لو قال: خلعت عنك، ولم يقل: خالعتك، ونوى الطلاق، فلا حاجة إلى قبولها؛ فإن لفظه لم يصدر عن باب المفاعلة.
فإذا تبيّن هذا مفرّعاً على أن اللفظ صريح، ففيه تفصيل عندنا، به يتم الكلام، وهو: أن الرجل إذا قال: خالعتك، ولم يقصد بذلك التماس الجواب منها، وإنما قال على الابتداء: خالعتك، وهي تنفي تنجيز الطلاق، فالوجه: القطع بأن الطلاق يقع، فان اللفظ يحتمل التنجيز من غير تعليق بالقبول، وهو كما لو قال: قاطعتك وبارأتك، فالكنايات يُكتفى بها بدون ما ذكرناه من الاحتمال.
ولو قال: خالعتك ونوى طلاقاًً، و هو يلتمس بذلك جوابها، فها هنا قد يتجه الخلاف في أن وقوع الطلاق هل يتوقف على قبولها؟ فالظاهر عندنا أنه إذا لم يثبت المال، لم يتوقف على قبولها؛ فإن الطلاق مما يتفرد الزوج به، وليس وقوعه مرتبطاً بمال يتوقف لزومه على التزامها، فلا وجه إلا تنفيذ الطلاق، وقصدُه التماسَ جوابِها لا أثر له بعد ما نوى الطلاق.
وسيأتي لذلك نظائر في مسائل التدبير من كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
والوجهان في أن المال هل يثبت بمطلق المخالعة يبتنيان على نظائر لهذه المسألة.
منها: أن الرجل إذا دفع إلى إنسان دراهم، وقال: قارضتك عليها حتى تتصرّف، ولم يسمِّ مقداراً من الربح، فهل يستحق أجرة المثل إذا عمل؟ فعلى وجهين.
وكذلك لو قال لمن استعمله على أشجار: ساقيتك، ولم يذكر له مقداراً من الثمر، فإذا عمل؛ فهل يستحق أجرة مثل عمله؟ فعلى وجهين. وقد تقدم في المعاملات في ذلك مثله.
وما أجريناه كله تفريع على أن الخلع صريح بطريق الشيوع.
8703- فأما إذا قلنا: إنه يلتحق بالصرائح بقرينة المال، فإذا لم يجرِ ذكرُ المال، فهو كناية، فتذكّر ذلك.
والتفريع على القول الصحيح-وهو أن الخلع كناية، وإن اشتمل على ذكر المال- فإذا قال: خالعتكِ، فقالت: اختلعتُ، فهذا ينبني على أن مطلق هذا اللفظ هل يقتضي المالية، أم لا؟
فإن حكمنا بأن مطلقه يقتضي المالية، فلا يخلو؛ إما أن ينوي الزوج الطلاق، وإما ألا ينوي، فإن نوى الزوج الطلاق، ونوت المرأة أيضاًًً طلب الطلاق؛ فالطلاق يقع بائناً، والرجوع إلى مهر المثل.
وإن نويا الطلاق، ولم يذكرا المال-والتفريع على أن مطلق اللفظ لا يقتضي المال- فلا يخلو؛ إما أن ينويا المال، وإما ألا يجري ذكر المال في ضميرها، كما لم يجرياه في لفظهما، فإن لم ينويا المال ولم يذكراه، وقلنا: اللفظ لا يقتضيه؛ فالطلاق يقع رجعياً.
فإن قيل: في هذا الكلام اضطراب؛ من جهة أن التفريع على أن الخلع كناية، فكيف ردّدتم الجواب في أن اللفظ هل يقتضي المال بنفسه؟
قلنا: وإن حكمنا بأن اللفظ كناية في اقتضاء الطلاق، فإنا نُجري الخلافَ في أنه هل يقتضي المال في وضعه أم لا؟ فكان التردد باقٍ في أن هذا اللفظ هل يقتضي المال أم لا يقتضيه، هذا وجه الكلام، وقد انتهى إلى قولنا: اللفظ كناية في الطلاق وليس صريحاً في اقتضاء المال.
فلو نويا المال مع نية الطلاق، فالنية هل تؤثِّر في المال؟ والتفريع على أن اللفظ بنفسه لا يقتضيه. اضطرب أصحابنا في المسألة.
فمنهم من قال: النية لا أثر لها في المال، فكأنها لم تكن. ومنتهى الجواب أن الطلاق يقع رجعياً، ويتجه هاهنا أن الطلاق لا يقع أصلاً؛ فإن الزوج نوى طلاقاًً بمالٍ، والتعويل على نيته، فإذا لم يحصل المال بنيته، ونيته في الطلاق متقيدة بالمال، فلا. يقع الطلاق، وهذا وجه فقيه.
ومن أصحابنا من قال: نية المال كذكر المال، فعلى هذا إذا نوى المال، ونوت المال، وثبتت نية الطلاق، فالطلاق يقع بائناً، وجهاً واحداً، تفريعاً على ما ذكرناه.
هذا تمام التفريع إذا قلنا: الخلع طلاق.
8704- فأما إذا فرعنا على أن الخلع فسخٌ، وقد جرى ذكر الخلع والقبول من غير مال- ونحن أوضحنا أن الخلع-على قول الفسخ- صريح في الفسخ؛ فالذي ذكره الأصحاب: أن هذا يُبنى على أن مطلق هذا اللفظ هل يقتضي المال؟ وجريان هذا الخلاف على نسق واحد.
فإن قلنا: اللفظ يقتضي المال بإطلاقه- وهو الذي اختاره القاضي وصححه.
ووجهه أن الخلع حلّ النكاح، فكان في معنى عقد النكاح، ثم عقد النكاح إذا عري عن المهر من غير تفويض صريح ممّن يملك المهر، يجب فيه مهر المثل. فليكن الفسخ كذلك.
والدليل على تساويهما أن النكاح على العوض الفاسد ينعقد على مهر المثل، أو على قيمة العوض المسمى إن كان مما يُتقوّم. والخلع على العوض الفاسد في هذا كالنكاح، فإذا استويا عند تسمية العوض الفاسد، وجب أن يستويا عند الإطلاق.
8705- فإن قيل: ما وجه من يقول: المخالعة المطلقة لا تقتضي مالاً، وما الفرق بينها وبين النكاح المطلق؟ وما الذي أوجب القطع في النكاح، والترديد في الفسخ؟ وليس التفريع على قول الفسخ على حكم التفريع على قول الطلاق؛ فإن أصل الطلاق أن يكون بغير عوض، فإذا عُلِّق بالعوض، كان العوض دخيلاً فيه، والفسخ تلو النكاح، فيقتضي من العوض ما يقتضيه النكاح، فما وجه التردد إذاً؟
قلنا: لا يمتنع تخيل فرق أولاً؛ فإن النكاح جلْبُ استباحة البضع، فلا يبعد أن يتأكد العوض فيه. والخلع متضمنه ارتداد البضع إليها، وهذا لا يستدعي العوض حسب استدعاء الجلب، فلا يمتنع أن يكون الخلع في ذلك دون العقد.
فإن قيل: جوّزوا تخلية الخلع عن العوض-لما ذكرتموه- إذا وقع التصريح به، وقد ذكرتم قولين في النكاح المعقود على التفويض الصحيح هل يقتضي ثبوت المهر؟ فهلا طردتم هذا في الخلع؟ قلنا: لا يتعرض الأصحاب لهذا، ولم يسمح بهذا التقريب أحد، والذي يقتضيه القياس الحقّ قبولُ ذلك، والقولُ بإمكأنه؛ فإن الفسخ لما كان يتأكد من العوض فيه، أو كان وضعه على ارتداد المسمى، فكان يقال: أمر العوض فيه قهري؛ فإنه بناء وليس بابتداء، وهذا وجه بيّن- لو كان مذهباً لذي مذهب، ولم يصر إلى هذا أحد.
فإذا انبنى الخلع على تسمية العوض، كما انبنى النكاح عليه، ثم تردد القول في أن العوض هل يثبت في نكاح التفويض-وأصح القولين أنه لا يثبت- فما المانع من مثل هذا في الخلع؟
ثم كان يجب على هذا التقدير أن يقال: إذا حكمنا بخلوّ نكاح التفويض عن المهر، فالمسيس فيه يثبته وينبني عليه المطالبة بالفرض، كما تفصّل، وليس في الفسخ شيء من هذا، وكان يجب أن ينفذ الفسخ عارياً إذا عري-إما على قطع، وإما على قول ظاهر- ولم يقل بهذا أحد من الأصحاب، ولست أحمل تركهم لهذا إلا على ضعف حرصهم في التفريع على القول الضعيف، وإلا فما ذكرناه واجب، وليس هو بأبعدَ من قول المحققين: إن الخلع مع الأجنبي مردود على قول الفسخ. ولم يصر إلى هذا أحد من الأئمة الماضين، ولكن المفرعين قالوا: جرت الأجوبة على قول الطلاق، وهذا منتهى الكلام.
8706- فإن قيل: هذا يضمّن الخلع-على قول الفسخ- ارتداد المسمى، كالفسوخ القهرية، حتى يكون الخلع في النكاح بمثابة الإقالة في البيع؟
قلنا: ليس من الحزم في طلب الغايات أن يذكر الإنسان الأقيسةَ الكلية
الجليّة، ويترك حق خاصية العقد الذي فيه الكلام. ومن خاصية النكاح أن المهر إذا تقرر، ولم يُنْقض العقد بخلل مقترنٍ بأصله، فالمسمى لا يسقط. ولذلك لم يسقط إذا ارتدت المرأة بعد المسيس على الرأي الظاهر، ثم في النكاح تقرُّران:
التقرُّر الأكبر بالمسيس، وقد يليه التقرر بالموت. والتقرّر الآخر هو تقرر لا يتشطر بالاختلال الواقع بالعقد. وهذه الخاصيّة لا توجد في سائر العقود، والخلع فسخُ تراض لا يستند إلى خلل في أصل العقد، فامتنع سقوط المسمى به بعد المسيس، وامتنع سقوط الشَّطر به قبل المسيس، فلما اختص بهذه الخاصية نزل على عوض مبتدأ، ثم كان في ذلك العوض، كالنكاح الوارد على الصداق، فهذا أقصى المضطرب في ذلك.
8757- فنعود بعد هذا إلى التفريع، فنقول:
إن حكمنا بأن مطلق الخلع يقتضي العوض، فتثبت البينونة بالفسخ، والرجوع إلى مهر المثل.
وإن قلنا: هذا اللفظ لا يقتضي المال، فيلغو الخلع، هكذا قال الأصحاب، من غاص منهم ومن قنع بالظاهر؛ إذ لا عوض، ولم يرَوْا خلعاً بلا عوض.
والذي أراه-على القياس الذي قدمناه- أن يثبت الفسخ ولا يثبت العوض، وهذا احتمال لا تعلق له بنقل.
وقد نجز التفريع على المخالعة المُطْلَقة العريّة عن العوض. والذي ذكره الأصحاب فيه، ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يلغو.
والثاني: أنه يقع طلاق رجعي.
والثالث: أن البينونة تقع، والمال يجب.
ثم هي على الطلاق طلاقٌ مُبِين، وعلى قول الفسخ فسخ.
هذا حاصل المنقول، وتحقيقه وتَنْسِبَتُه من القواعد على ما ذكرناه. وهذا الفرع لُباب التفريع على القولين، وبه يعتاص الفصل، فإنه نحا نحو كل قاعدة.
ثم إنا نذكر بعد هذا فروعاً مرسلة ونلحقها بالقواعد التي مهدناها.
فرع:
8708- إذا قالت المرأة: طلقني على كذا. فقال الزوج: خالعتك بكذا.
فإن فرعنا على أن الخلع فسخ، لغا قول الزوج، والنكاح قائم؛ فإن المرأة التمست الطلاق بألف، ولم يُجبها إلى ما التمست، بل فسخ، والفسخ دون الطلاق المبين؛ لأن الطلاق بالعوض يُبين، ويَنقُص العددَ، والفسخ لا ينقُص العدد، فقد سألت أعظم الفُرقتين، فأجابها إلَى أدناهما.
وإن قلنا: الخلع طلاق، وجعلناه صريحاً، أو نوى الطلاق، استحق العوض، ووقع الطلاق المبين، فإنه أجابها إلى ما التمست.
ولو قالت: خالعني بألف، فقال: طلقتك عليه، والتفريع على أن الخلع فسخ، فقد التمست الفسخ، وأجابها إلى الطلاق، ففي المسألة وجهان:
أحدهما- أنه لا يقع شيء، لأنهما لم يتفقا على شيء واحد.
والثاني: أنه يقع الطلاق ويثبت العوض؛ لأنها سألت فُرقةً لا تَنقُص العددَ، فحَصَّلَ الفرقةَ، وزادها نقصان العدد.
وحقائق هذه المسائل يتوقف انكشافها على تفصيل القول فيه إذا تخالع الزوجان، وجعلنا لفظ التخالع كناية أو تخاطباً بلفظ الكناية، ثم نفرض بينهما ريبة أحدهما.
وهذا نذكره في باب مخاطبة الرجل امرأته، ورمزتُ إلى هذا الوعد لعلمي بأن ما ذكرته يختلج في صدور الأكياس.
فصل:
قال: "ولو خالعها تطليقة بدينار على أن له الرجعة... إلى آخره".
8709- إذا قال الرجل: خالعتك تطليقة بدينار، على أن لي الرجعة، فقبلت، أو قال: طلقتك طلقة بدينار على أن لي الرجعة.
تصوير المسألة: تدور على تطليقٍ بمال بصريحٍ أو كناية، مع شرط الرجعة؛ فالذي نقله المزني: أن الطلاق واقع، والعوض المذكور ساقط، والرجعة ثابتة. لم ينقل المزني عن الشافعي إلا هذا، واختار أن الطلاق يقع بائناً، والرجوع إلى مهر المثل، وشرطُ الرجعة ساقط.
ونقل الربيع عن الشافعي ما اختاره المزني، ولم يصحح في النقل غيره، ثم قال: وفي المسألة قول آخر إن الرجعة ثابتة، والدينار مردود.
وقيل: اختار الربيع ثبوت الرجعة وسقوط العوض، فنقل ما اختاره المزني، واختار ما نقله، فحصل في المسألة قولان إذاً.
8710- توجيه القولين: من قال بوقوع البينونة، عوّل على تغليب الفراق، ورأى شرط الرجعة شرطاً فاسداً. فالشرائط الفاسدة لا تدرأ بينونة الخلع، قياساً على جملة الشروط الفاسدة.
وإذا أردنا كلاماًً جامعاً في ذلك، قلنا: إذا كان المخالع من أهل الطلاق، والمرأة من أهل التزام البدل، وقد تقابل الطلاق والبدل؛ فحكم ذلك البينونة، وما يناقضهما من الشروط مردود.
ومن نصر القول الثاني، احتج بأن الطلاق اقترن به ذكر المراجعة والمال، وهما متناقضان، فإذا عسر الجمع بينهما، واستحال انتفاؤهما، فينبغي أن نثبت أقواهما، وأقواهما: الرجعة؛ فإنها تثبت من غير إثبات.
ويجوز أن يُعضَّدَ هذا القول، فيقال: الرجعة تُناقض البينونة، ومقصود الخلع: البينونة فشرط الرجعة يناقض مقصود الخلع، فيدرؤه، وينزل منزلة عقد النكاح على شرط الانكفاف عن الوطء.
وقد يدخل على ذلك أن النكاح المؤقت، ومضافه إلى بعض المنكوحة فاسدٌ، ومؤقتُ الطلاق مؤبد، ومبعّضه مكمّل. ولا شك أن أقيس القولين ما اختاره المزني.
8711- ثم إنه في اختياره استشهد بمسائل، نقل فيها نصوصاً، فنذكرها، ونذكر أقوال الأصحاب فيها.
فمنها: أنه قال: قال الشافعي: "إذا خالع زوجته بطلاقٍ على مال، وقال: مهما بدا لكِ أن تستردي العوض، فاسترديه، ولي الرجعة، فالطلاق يقع بائناً، والرجوع إلى مهر المثل، ويثبت عليها لازماً لا يدرأ".
والذي صار إليه معظم الأصحاب موافقتُه، وطلبوا الجوابَ، والفرقَ بين هذه المسألة وبين صورة القولين. والذي تحصّل من الفرق أن البينونة في مسألة الاستشهاد ناجزةٌ ومقتضى الشرط استدراكها إذا أرادت المرأة استرداد العوض، وصورة القولين فيه إذا قرن شرط الرجعة بالمال.
والفرق يظهر بين التنجيز وشرط الاستدراك وبين اقتران نفي البينونة بالعقد.
وذكر صاحبُ التقريب والشيخُ أبو علي أن من أصحابنا من رأى نص الشافعي في المسألة التي استشهد بها المزني جواباً على أحد القولين، وقال: إذا نصرنا القول الثاني، حكمنا بأن البينونة لا تقع في مسألة الاستشهاد؛ فإنه لم يبتّها، بل ردّدها؛ فثبتت الرجعة، وانتفى المال على القول الذي ننصره على المزني.
8712- ومما تعلق به المزني لنصرة القول الذي اختاره: أن الرجل إذا قال لمالكِ العبدِ: أعتق عبدك عني بألف على أن لك الولاء، فإذا أعتقه على هذا الشرط، فكيف السبيل فيه؟
نقل أن العتق ينفذ بالمال على المستدعي، وله الولاء، وشرط الولاء باطل مردود.
ومن أصحابنا من قال: الشرط باطل، ولكن لا يرتدّ العتق به، ولكن يرتد به طريق الاستدعاء في محاولة نقل الملك أولاً، وبناء العتق عليه؛ إذ العتق إن كان لا يقبل الرد، فطريق الاستدعاء يمكن إبطاله حتى إذا بطل، نفذ العتق على المنشىء، وله الولاء، ولا عوض.
وتعلق المزني بمخالعة الرجل امرأته السفيهة المحجورة، فإن الشافعي نص على وقوع الطلاق، وانتفاء العوض، وثبوت الرجعة. ووجه استدلال المزني أن المال لم يثبت، بحيث لم تكن المرأة من أهل الالتزام. وهذه المسألة ستأتي بما فيها، إن شاء الله تعالى، ولسنا للإطناب في محاجة المزني. وذَكَر في أثناء الكلام اختلاعَ الأمة المزوّجة نفسها، وسيأتي حكم اختلاعها، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولا يلحق المختلعةَ الطلاقُ... إلى آخره".
8713- المختلعة لا يلحقها الطلاق في عدة البينونة؛ فإنها بائنة خارجة عن النكاح، والطلاق حلٌّ للنكاح، وخلاف أبي حنيفة- مشهور، والرجعية يلحقها الطلاق في عدة الرجعة، وفي صحة مخالعة الرجعية وجهان مشهوران:
أحدهما- أنها تصح، لأن الطلاق من غير عوض يلحقها، فيلحقها بالعوض، وأثر العوض اقتضاء البينونة، وليست الرجعية بائنة.
الثاني- أنها لا تبين، ولا يصح الخلع، لأن نص الشافعي دالّ على أن الزوج إذا وطىء الرجعية، التزم مهر مثلها. فيبعد أن يكون بحيث يلتزم الزوج المهر بوطئها ويُلزمها بالخلع العوضَ.
وسنذكر التفصيل في وطء الزوج الرجعية، وتفصيلُ القول في الظهار والإيلاء إذا وُجّها على الرجعية، سيأتي في كتاب الظهار والإيلاءَ إن شاء الله عز وجل.