فصل: باب: ما يقع من الطلاق وما لا يقع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يقع من الطلاق وما لا يقع:

قال الشافعي: "ذكر الله الطلاق في كتابه بثلاثة أسماء... إلى آخره".
8974- هذا الفصل مشتمل على بيان صرائح الطلاق وكناياته، فنقول: الألفاظ التي تستعمل في الطلاق تنقسم إلى الصريح والكناية، فالصريح ما يَعْمل من غير افتقارٍ إلى النية، وهو مُنحصر في ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأخذ الشافعي الصرائح من التكرر في ألفاظ الكتاب، قال الله: {فَارِقُوهُنّ} [الطلاق: 2]، وقال: {سَرِّحُوهُنّ} [البقرة: 231] وقال: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وتكرُّرُ لفظ الطلاق في الكتاب ظاهرٌ، وأشهر هذه الألفاظ وأظهرها الطلاق، فهذا الذي جرى في الجاهلية والإسلام، وأطبق عليه معظم طبقات الخلق، ولم يختلف في كونه صريحاً العلماء، ومذهب أبي حنيفة أن الصريح هو الطلاق لا غير، وقد حكى العراقيون قولاً قديماً للشافعي موافقاً لمذهب أبي حنيفة في أن الصريح لفظ الطلاق لا غير، والفراقُ والسراحُ ملتحقان بأقسام الكنايات.
ثم الألفاظ الصادرة عن الطلاق صرائحُ: جرت أسماء، أو أفعالاً، فإذا قال: أنت طالق، أو طلقتك، أو أنت مطلَّقة، وقع الطلاق.
وإذا جرينا على الأصح، وقضينا بأن الفراق والسراح صريحان، فلو قال: فارقتك أو سرحتك، فالذي جاء به صريحٌ.
ولو قال: أنت مفارَقة أو مسرَّحة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن اللفظ صريح، كما لو قال: أنت مطلقة.
والثاني: أن اللفظ كناية؛ فإن الفراق والسراح ما ظهرا وما اشتهرا اشتهار الطلاق، ومعتمد الشافعي في إلحاقهما بالصريح جريانهما في الكتاب، ثم لم يجر ذكرهما إلا على صيغ الأفعال، فأما المفارقة والمسرَّحة، فلا ذكر لهما، والمطلقة مذكورة في القرآن مع شيوع لفظ الطلاق.
ولو قال لامرأته: أنت الطلاق، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إنه ليس بصريح؛ فإنه غير معتادٍ، وليس جارياً على قياس اللسان، أيضاً، وكان كالمعدول عن الوضع والعرف.
ومن أصحابنا من قال: إنه صريح، لأن لفظ الطلاق، لا يطلق-كيف فرض الأمر- إلا على قصد الفراق، فإن جرى لفظٌ على خلاف ما يعرف ويؤلف، فالاعتبار بأصل الكلمة.
ولو قال لامرأته: أطلقتك، أو أنت مُطْلَقة، واستعمل صيغة الفعل أو الاسم، من الإطلاق، فهذا لم يتعرض له الأصحاب، وفيه تردد بيّن؛ فإن الإطلاق شائع في حلّ الوثاق وإطلاق الدواب عن رباطها، وإطلاق الأسرى والمحبوسين، وإخراج اللفظ عن كونه صريحاً أقربُ وأظهر عندنا في هذا منه إذا قال: أنت الطلاق؛ فإن الطلاق لا معنى له في الاستعمال إلا الفراق، بخلافه.
ومن أسرار الصرائح أن يظهر اللفظ على غرض، ويعد استعماله في غيره نادراً وإذا كان الاستعمال في غير جهة الطلب شائعاً، أشعر هذا بالخروج عن الصرائح في الجهة المطلوبة، على ما سنذكر التحقيق في آخر الفصل، عند نجاز المنقولات.
8975- وممّا يتعلق بذلك أن الأصحاب قالوا: معنى الطلاق بالعجميّة صريح، وزعموا أن معناه: "توهشته اي". وحكى بعض المصنفين عن الأصطخري أنه لا صريح بغير لسان العرب، وهذا غريب لا أصل له، وإنما اشتهر الخلاف عن الأصطخري في النكاح، كما قدمنا ذكره في الألفاظ المشتملة على ألفاظ النكاح.
ثم كان شيخي أبو محمد يقول: كل لفظةٍ معدودة من الصرائح في العربية إذا ذكر معناها الخاص بلسان آخر، فهو صريح؛ فمعنى قول القائل: أنت طالق "توهشته اي" ومعنى قوله: طلقتك "دشت بازْداشْتَم"، ومعنى فارقتك: "از تو جُدَا كَرْدَم، ومعنى سرحتك: "تُراكسيل كردم".
وقال القاضي: الصريح من هذه الألفاظ "توهشته اي"، فأما قوله: "دستت باز داشتم" فليس بصريح.
وهذا غير سديد؛ فإن قول القائل: "دشت بازداشتم" هو تفسير قوله طلقتك، وإذا كان قوله: "توهشته اي" صريحاً؛ من حيث إنه معنى قوله: "أنت طالق" فقوله: "دشت بازداشتم" هو معنى قول القائل: "طلقتك" فلا معنى لإبداء المراء في هذا. أما معنى فارقتك وسرحتك، فالظاهر أنه ليس بصريح؛ فإنا في المفارقة والتسريح على تردد، كما نبهنا عليه. وإذا اختلف الأصحاب في المفارقة والمسرَّحة مع اتحاد اللغة، فهذا في معنى المفارَقة والتسريح أظهر.
فهذا ما رأينا نقلَه، ولابد الآن من الكلام في مأخذ الصرائح.
8976- الذي يقتضيه الفقه أن الصريح إذا لم يتعلق به توقيف وتعبد، يؤخذ من الشيوع، ومحاولةِ أهل العرف حصرَ اللفظ في مقصودٍ، فإذا اجتمع هذان المعنيان، ترتب عليهما ابتدار المعنى إلى الأفهام؛ فإن التردد ينبت من إشكال اللفظ في نفسه، ومن جريانه في معانٍ، فإذا ظهر لفظٌ على إرادة معنى واحد، فهو يُفهِمه ويُعلِمه، وحكمنا في مساق الفقه أن من صدر منه لفظ يبتدر فهمُ الناس معناه، فإذا زعم أنه أراد خلاف ما تبتدره الأفهام، كان ما أضمره خلافَ ما أظهره، وعند ذلك تترتب مسائل التَّديين؛ فإنّ ما يُدَيّن المرء فيه يتعلق بمقتضى اللفظ، ولكنه خلاف ما يظهر منه، ويندر من ذي الجدّ أن يطلقه على خلاف معناه المستفيض إلا أن يريد إلغازاً أو تعقيداً، ثم حُكمنا أنا لا نقبل في الظاهر خلاف الظاهر، ولا نصدِّق من يبدي إضماراً على خلاف ما أظهره، هذا معنى الصريح.
وقد يثبت في النكاح تعبّد قررناه في بابه، فلا ينبغي أن يكون على ذلك الباب التفات.
وقد أطبق الفقهاء قاطبة على أن المعتبر في الأقارير والمعاملات إشاعة الألفاظ وما يفهم منها في العرف المطرد، والعباراتُ عن العقود تُعنَى لمعانيها، وألفاظ الطلاق عبارات عن مقاصد، فكانت بمثابتها، وموجب هذه الطريقة أن لفظة أخرى لو شاعت في قُطْرٍ وقومٍ شيوع الطلاق-كما قدمنا معنى الشيوع- فهو صريح، وعلى هذا الأصل قول القائل لامرأته: أنت عليّ حرام، أو حلال الله عليّ حرام، ملتحق في قُطرنا وعصرنا بالصرائح.
8977- وذهب ذاهبون من الأصحاب إلى أنا لا نزيد على الألفاظ الثلاثة: الطلاق، والفراق، والسراح. ولا نظر إلى الظهور والشيوع، وهذا القائل اعتقد أن مأخذ الصرائح يتعلق بالتعبدات والتلقِّي من لفظ الكتاب وتوقيف الشارع، وقد يعتضد في ذلك بإلحاق الشافعي الفراق والسراح بالصرائح، وليست أكثر اختصاصاً من البائن، والبتة، والبَتْلَة، والخليّة، في لسان العرب فإذا خصّصها الشافعي بالإلحاق وبالصرائح، أشعر هذا برجوعه إلى مورد الشرع.
وهذا يتطرق إليه نوعان من النظر:
أحدهما: أنا لا نُبعد شيوع الفراق والسراح في العرب في بلادها، وهذا فيه بعض النظر، فإن الشافعي تعلق بالقرآن. والوجه الآخر من النظر- أنه ليس في إلحاق الفراق والسراح بالصّرائح ما ينفي التعلق بالإشاعة؛ إذ لا يمتنع أن يقول القائل: للصرائح مأخذان:
أحدهما: الجريان في ألفاظ الشرع.
والثاني: الشيوع في الاستعمال، كما سبق تفسيره.
وفي النفس شيء من الفراق والسراح؛ فإنه لم يظهر لنا من الخطاب قصد بيان لفظ التسريح والمفارقة، ولكن جرى معنى ترك النسوة وحل ربقة النكاح في مقابلة ذكر الإمساك، فإنه قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] ففهم المخاطبون أن الزوج مأمور بأن يمسك المرأة أو يخلّي سبيلها، فالغرض الذي سيق الخطاب له ترديد الزوج بين هذين المقصودين، وليس من الغرض الظاهر أن يقول لها: سرحتك، وهو بمثابة قول القائل: أكرم هذا السائل، أو سرحه. ليس المراد بهذا: قُلْ له: انسرح. وكذلك القول في فارقوهن. وأما الطلاق، فقد اشتملت الآي على الاعتناء بألفاظها وعددها، ويقوى على هذا المسلكِ القولُ القديمُ الموافق لمذهب أبي حنيفة في حصر الصريح في لفظ الطلاق.
وتحصَّل من مجموع ما ذكرناه تردّدُ الأصحاب في مأخذ الصريح، كما أوضحناه.
8978- وحكى القاضي عن شيخه القفال أنه كان يقول في لفظ التحريم: إذا قال الرجل: حلال الله عليّ حرام، ونوى طعاماً صُدّق، وإن أطلقه وكان أَنِساً بالفقه عالماً بأن الكناية لا تعمل إلا مع النية، فإذا أطلق اللفظ ولم ينو، لم يقع الطلاق، فإن كان عاميّاً، سألناه عما سبق إلى فهمه من إطلاق عامّي آخر لهذه الكلمة، فإن زعم أنه يسبق إلى فهمه الطلاق قيل له: لفظك محمول على فهمك لو كان اللافظ غيرك.
وهذا توسط بين الصريح والكناية وضربٌ من التحكم.
8979- ونحن نبُدي في هذا أصلاً ضابطاً ونقول: اللفظ الصريح المتفق عليه الشائع في طبقات الخلق هو الطلاق، فحكمه أن يعمل مطلَقُهُ ممن صدر منه، ومن أبدى فيما زعم عقداً ونيّة بخلاف موجب اللفظ، التحق بباب التديين.
هذا قسم.
ويعارضه الكناية التي سنصفها، وهي لفظة محتملة غير شائعة في الطلاق، فسبيل هذا القسم ألا يعمل اللفظ إلا مع النية، ومطلَقُه لاغٍ، والرجوع إلى قصد المطلِق.
ويتخلل بين الصريح الّذي قدمناه وبين الكناية قسم ثالث يعمل مطلَقه عند الأصحاب من غير نيّة، فإذا زعم صاحب اللفظ أنه قصد خلاف الظاهر، فقد يقبل ذلك منه ظاهراً، ويكون في قبوله خلافٌ.
وبيان ذلك بالمثال أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أحسن الطلاق، فمطلَق هذا محمول على الطلاق السُّني، وإن لم ينو الزوج الطلاق السّني، ولو زعم أنه أراد بالأحسن تعجيل الطلاق في زمن الحيض، فهو مقبول منه، فهذا يحمل مُطلَقه على محملٍ، ويجوز العدول عنه بالقصد. وسيأتي لهذا نظائر.
ثم تنقسم المسائل: فقد يتفق الأصحاب على إعمال اللفظ على جهةٍ عند الإطلاق، ويختلفون في أن تلك الجهة هل تتغير بالقصد المخالف لها، وقد يتفق الأصحاب على إعمال القصد على وجه ويختلفون في الإطلاق، وهو مثل قول القائل: أنت طالق طالق طالق، فلو زعم أنه أراد التأكيد، قبل منه، ولم يقع إلا طلقة واحدة، ولو قال: لم أقصد التأكيد، ولكن أطلقت هذه الألفاظ، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنا نحكم بوقوع الثلاث إذا كانت المرأة مدخولاً بها.
والقول الثاني- أنه لا يقع إلا واحدة.
ولكل أصلٍ من هذه الأصول ضابطٌ سيأتي مشروحاً-إن شاء الله- وإنما ذكرنا هذا المقدارَ لغرضٍ، فنقول: الطلاق لا يصرفه عن معناه إلا هازل، أو منفردٌ بقصد إلغازٍ، ولفظ التحريم قد يجرى استعماله مصروفاً عن قصد الطلاق، فإذا أُطلق، فهو شائع في قصد الطلاق، فينقدح فيما هذا سبيله أن يصدّق في الظاهر من زعم أنه نوى غير الطلاق. وإن قال: لم أنو شيئاً، انقدح فيه الحمل على موجب الألفاظ.
وانتظم من هذا أن ما استمرت الاستفاضة فيه كلفظ الطلاق، فلا معدل عنه إلا على حكم التديين، وما شاع شيوعاً بيّناً، ولكن قد يعتاد بعض الناس استعماله على قصدٍ آخر، فما كان كذلك، وهو زائد على الألفاظ الثلاثة، فهو محلّ تردد الأصحاب: فمنهم من لم يلحقه بالصرائح، ولم يُعمل مطلَقه، ومنهم من ألحقه بالصرائح، وجعله كلفظ الطلاق. ومنهم من فصَّل بين أن يقصد غير الطلاق، وبين أن يُطلقه، كما حكيناه عن القفال رضي الله عنه، ثم على رأيه إن صار لفظ التحريم في الشيوع كالطلاق، التحق بالطلاق، فهذا وجه في الصرائح.
8985- فأمّا الكنايات فقد وصفناها ومن ضرورتها أن تكون مشعرة بمعنى الطلاق، ولكن لا تكون شائعة على التفسير المقدم، فما كان كذلك، افتقر إلى النية ولغا مطلَقُه، وهذا كالخليّة، والبرية، والبائنة، وما يشبهها وقد قسمها الأصحاب إلى الجلية وإلى الخفية، فالجلية منها ما ظهر معناها، وقد يجري استعمالها جرياناً ينحط عن الاستفاضة والحصر في معنى الطلاق، وما ذكرناه من الألفاظ من الجليّات ومنها: الخلية، والبريّة.
والخفيةُ كقول القائل لامرأته: اعتدي، واستبرئي رحمك، والحقي بأهلك، وحبلُكِ على غاربكِ، ولا أَنْدَه سرْبَك، واغربي، واذهبي، وتجرّعي وتجردي، وما في معناها، مما يشتمل على تقديرٍ أو استعارةٍ. والتقدير في مثل قولك: اعتدّي: معناه طلقتُ، فاعتدي، والاستعارة في مثل قولك: تجرّعي، أي معناه: تجرعي مرارة الفراق، وكذلك حبلك على غاربك، وما في معناه.
وإذا ذكر لفظة ليس فيها إشعارٌ بمعنى الطلاق، وزعم أنه نوى الطلاق، لم يقع شيء؛ لأن اللفظ غير مشعرٍ، والنية المجردة لا تتضمن وقوع الطلاق، وقد يتردد الأصحاب في بعض الألفاظ، فإذا قال لها: كلي، أو تنعمي، فهذه الألفاظ لا إشعار فيها، ولو قدّر مقدر فيها معنى الطلاق على بُعدٍ، عُدَّ ذلك من التعقيد الذي لا يتعلق بأصناف البيانا، ودرجاتِ الألفاظ المستعملة في المقاصد.
ولو قال: اشربي، فالظاهر أنه لا يقع الطلاق وإن نواه. ومن أصحابنا من قضى بوقوع الطلاق حملاً على تقدير: اشربي كأس الفراق، وهذا بعيد.
فهذا بيان مراتب الألفاظ في عقد الباب.
ولو قال لامرأته: لستِ لي بزوجة، فهذا إقرار صريح بنفي الزوجية، كما سنفصله في فروع الطلاق. ولو قصد به إنشاء الطلاق، فالمذهب أنه يقع، لإشعار اللفظ بذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق؛ فإن اللفظ صريح في الإقرار والإخبار، وهذا ليس بشيء.
8981- فإذا تبين أن الكنايات لا تعمل بأنفسها، فمذهب الشافعي أنها لا تعمل مع القرائن أيضاً من غير نيّة، والرجوعُ في النية إلى الزوج، فإذا سألت الطلاق، فقال: "أنت بائن"، وظهر من مخايله أنه قصد إسعافها، فلا تعويل على ذلك عند الشافعي، وإذا قال: لم أقصد الطلاق، فالقول قوله مع يمينه، وكذلك الكلام فيه إذا أجرى الزوج بعض هذه الألفاظ في حالة الغضب، وقد ظهرت على مخايله التبرم بالمرأة، ومحاولة الخلاص منها، فالرجوع مع ذلك كلِّه إلى نيته.
وخالف أبو حنيفة على تفصيل له في الألفاظ، فأعمل قرائن الأحوال، وقرينة السؤّال.
فإن قال قائل: قد ذكرتم في مأخذ الأصول أن قرائن الأحوال تثير العلوم الضرورية، فإذا اقترنت تلك القرائن بألفاظ الزوج، فكيف ترون الرجوع إلى نيَّة الزوج، وقد علمتم قصده بقرائن الحال؟ قلنا: لا ينتهي الأمر في قرائن الأحوال في مأخذ الفقه إلى هذا المنتهى، وهي متفاوتة جداً، وليس من قواعد الفقه فتح أمثال هذه الأبواب؛ فإن مُدركَ قرائن الأحوال في القصود عسرٌ جداً، فحسمنا هذا الباب حسماً.
وقد تُعتمد القرائن في تحمل الشهادات مع ابتناء أمرها على طلب التحقيق، فالذي يشاهد صبياً يمتص ثدياً فيه لبنٌ قد يشهد على ارتضاعه، ولا تعويل على القرائن فيما نحن فيه، وسبب ذلك أن الصبي لا تردد فيه إذا كان يمتص ثدياً فيه لبن، ومخاطِب زوجته لا ينتهي إلى منتهى يحكم على قصده قطعاً، وقد يشهد بذلك اختياره كنايةً مع إمكان التلفظ الصريح. فهذا ما يجب التنبيه فيه.
8982- ثم إذا بان أن النية لابد منها، فلو قدّم النيةَ، ولما تلفظ، لم يكن ناوياً مع اللفظ، لم يقع شيء؛ فإن النية منقطعة عن اللفظ، واللفظُ متأخر عن النية، ولو قدّم اللفظ، ثم نوى، فالجواب كذلك.
ولو استفتح النية مع اللفظ وتمت نيته، وبقي من لفظه شيء، فظاهر المذهمب وقوعُ الطلاق. ومن أصحابنا من قضى بأنه لا يقع.
ولو استفتح اللفظ عريّاً عن قصد الطلاق، ثم أتى بالنية في أثناء اللفظ، وانطبق آخر النية على انتجاز اللفظ، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: أن الطلاق يقع؛ نظراً إلى وقت انتجاز اللفظ.
والثاني: أن الطلاق لا يقع؛ لأنه لم ينشىء اللفظ على قصد الطلاق، فقد مضى صدرٌ منه عرياً عن قصد الطلاق، وباقي اللفظ لا يستقل بنفسه فتجرّدت النية عن اللفظ.
ولو فرضنا إنشاء النية واللفظ، ثم انتجز اللفظ وما تمت النية بعدُ، لم يقع الطلاق.
وقد ذكرنا أمثال هذه الصور في نية الصّلاة مع تكبيرة الإحرام، وبين الأصلين فرق يتنبه له الفقيه، وهو أن نية الصلاة ليست قصداً إلى معنى التكبير، ونيةُ الطلاق قصدٌ مختص بمعنى اللفظ واللفظ دونه لا يستقل، والنية وتكبيرة الإحرام ركنان في الصلاة وليست النية قصداً إلى خاص معنى التكبير. ثم سرُّ النية القصدُ، والقصد لا يطول، وقد يفرض فيه تردد إلى التجرُّد، ومن كان هذا على ذُكره استغنى عن كثير من تطويلات الفقهاء، ثم القصد خصلةٌ، فلا يتصور انبساطها، واللفظ منبسط، فحق الاقتران أن يُقرن اللافظ القصدَ بأول اللفظ، ثم يُديم ذكرَ القصد لا عينَه، والذكر العلمُ، وكذلك الحفظ.
8983- وإذا أطلق الزوج لفظاً في الكناية، وزعم أنه لم ينو الطلاق، فالقول قوله، وللمرأة تحليفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، فلها أن تحلف، فإذا حلفت يمينَ الرد، قُضي بوقوع الطلاق، فإن قيل: على ماذا يُحمل يمينها ولا اطلاع لها على قصد الزوج؟ قلنا: معتمد يمينها قرائن الأحوال والمخايل الدالة على القصود، فلها أن تعتمد أمثال ذلك، وتبني يمينها عليه، وسنوضح في الدعاوى والبينات أن الأيمان تعتمد ذلك.
فصل:
قال: "ولو قال: أنت طالق من وثاقٍ... إلى آخره".
8984- كل ما لو ادعى الزوج القصدَ فيه،؛ دُيّن، ولم يُقبل في الظاهر، فإذا وصله بلفظٍ حُمل أول اللفظ عليه، فإذا قال: أنت طالق عن وِثاقٍ، لم نقضِ بوقوع الطلاق، بهذا اللفظ؛ فإن الكلام منتظم، وأول النطق مربوط بآخره، وهذا يضاهي أصلَ الاستثناء، وحكمنَا بتصحيحه، كما سيأتي، وكذلك إذا قال: فارقتك إلى المسجد، أو سرحتك إلى أهلك، حتى تتنزهي وتعودي، فكل ذلك مقبول.
ومما ذكره الفقهاء أن الرجل إذا أطلق لفظةً صريحةً ونوى ما لا يقبل، فهو لا يقبل ظاهراً، ولكن يُديَّن الزوج فيه، فلو ادعى الزوج شيئاً من هذا، لم يقبل قوله، ولو قال لامرأته: أنت تعلمين ذلك مني، فهو لغو؛ فإنها وإن صدّقته فيما ادعاه، فالطلاق لا يندفع رعايةً لحق الله تعالى، فلا مساغ للتحليف في هذا المجال؛ فإن الغرض من عرض الأيمان أن يرعوي المستحلَف أو يقرّ، وقد ذكرنا أن إقرار المرأة لا أثر له، فلا معنى لتحليفها.
فصل:
قال: "ولو قال لها: أنت حرة يريد الطلاق... إلى آخره".
8985- غرض الفصل أن لفظ الإعتاق كنايةٌ في الطلاق، ولفظ الطلاق كناية في الإعتاق، وأبو حنيفة يمنع إعمال الطلاق في الاعتاق، ومعتمد المذهب أن الكناية تتطرّق إلى البابين جميعاً، ومعنى الكناية لفظٌ محتمل مشعرٌ كما قدمناه، وجملة كنايات الطلاق والعتاق مشتركة في البابين.
8986- والذي يستثنى من الإشعار أن الرجل إذا قال لامرأته: "أنت طالق" وزعم أنه نوى ظهاراً، فالطلاق مشعرٌ بمعنى الظهار، وإذا قال لها: أنت عليَّ كظهر أمّي، ونوى بذلك الطلاق، فاللفظ مشعر بمعنى الطلاق، ولا يعمل واحد من اللفظين في مقصود الثاني.
والضابط فيه: أن اللفظ إذا كان صريحاً في بابه، ووجد نفاذاً، فلا سبيل إلى ردّه عن العمل فيما هو صريح فيه، وإذا كان يعمل لا محالة فيما هو صريح فيه، فيستحيل أن يكون صريحاً نافذاً في أصله ووضعه، ويكون كناية منويَّة في وجه آخر.
فإن قيل: إن كان يبعد صرف الصريح عن معناه، فأيُّ بعدٍ في الجمع بين المعنيين؟ قلنا: اللفظة الواحدة إذا كانت تصلح لمعنيين، فصلاحها ليس يقتضي اجتماع المعنيين، وكذلك القول في كل لفظ مشترك سبيل صلاحه للمعاني أن يصلح لكل واحد منهما على البدل، فأما أن تكون مجتمعة اجتماع المسميات تحت صيغة الجمع، أو تحت لفظٍ عام، فلا. فإذا تعين إجراء اللفظ صريحاً، امتنع إجراؤه في معنى آخر، فإذا استعمل الطلاق في العتاق، فليس الطلاق صريحاً واجداً محلّه حتى ينفذ، وكذلك العتاق، إذا استعمل في الطلاق.
8987- ولو قال لعبده: اعتدَّ واستبرِ رحمك، وزعم أنه نوى العتق، لم ينفذ؛ فإن هذا اللفظ في حكم المستحيل في حقه، وقد ذكرنا أن الكنايات لابد وأن تكون مشعرةً بالمعنى المقصود.
وإذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: اعتدي واستبرئي رحمك، وزعم. أنه نوى الطلاق، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يقع الطلاق؛ لأنها إذا لم تكن ممسوسة، فليست من أهل العدّة. والأظهر- وقوع الطلاق؛ فإنها محل العدة على الجملة، إذا توافت شرائطها، والإشعار كافٍ، وهو بيّنٌ.
ولو قال لأمته: اعتدي واستبرئي رحمك، فلا شك أنه إذا نوى العتق، عَتَقت. ولو قال لأَمَته: أنت عليّ كظهر أمي، ونوى العتق، فالظاهر أنها تَعتِق، وذكر القاضي وجهاً- أنها لا تعتق؛ فإن هذا اللفظ بعيد عن الإشعار بالعتق.
وهذا لا أصل له، والوجه القطع بوقوع العتق؛ تعويلاً على الأصول التي مهدناها.
8988- وقد يعترض على مضمون هذا الفصل أن الرجل إذا قال لأمته: أنت علي حرام، فمطلق هذا صريح في اقتضاء كفارة اليمين، كما سيأتي التفصيل فيه، إن شاء الله تعالى، ثم لو نوى به العتق، نفذ العتقُ، وهذا يَرِدُ على قولنا: الصريحُ إذا وَجَد نفاذاً، لم ينتقل عنه، وسأقرّر هذا على وجهه في فصل التحريم، إن شاء الله تعالى، وهو بين أيدينا.
فصل:
قال: "ولو قال: أنت طالق واحدةً بائناً... إلى آخره".
8989- مضمون هذا الفصل أن البينونة الباتّة لملك النكاح منوطةٌ عندنا بوقوع الطلاق مع انتفاء العدة، أو بوقوع الطلاق مع العوض، وإذا فرض استيفاء العَدد، انضم إلى زوال ملك النكاح تحريم عقد النكاح، حتى يجري التحليل، فأما وقوع الطلاق مع قيام العدة من غير عوض، ولا استيفاء عَددٍ؛ فإنه يستعقب سلطان الرجعة لا محالة، ولو أراد الزوج أن ينفي الرجعة من غير عوض ولا استيفاء عدد، لم يكن لذلك معنى مع قيام العدة، وكان كمن يريد تحريم عقد النكاح من غير استيفاء عدد، وما ذكرناه مكرراً من العدة إشارة إلى شيئين:
أحدهما: أن الطلاق إذا لحق التي ليست مدخولاً بها، فلا عِدَّةَ، فلا جرم كان الطلاق مُبيناً، وكذلك إذا صادف الطلاقُ ممسوسة، وجرت في العدة، فهي رجعية، فإذا لم يرتجعها زوجها حتى انقضت العدة، بانت، والسبب فيه انتفاء العدّة والرجعة مع بقاء الطلاق.
وأبو حنيفة ينفي الرجعة بمسلكين:
أحدهما: أن يطلّق الزوج ممسوسة من غير عوض، ويشترط قطع الرجعة، فالرجعة تنقطع عنده بشرط القطع.
والمسلك الثاني- أن يقع الطلاق بكناية من الكنايات تُشعر بالبينونة، فإذا نوى الطلاق بها، كان الطلاق مُبيناً لا محالة، وإن لم يقصد الزوجُ قطعَ الرجعة.
فانتظم من مذهبنا أن الرجعة لا تنقطع بالقطع، ولا بلفظة، وإنما تنقطع بالعوض، وعدم العدة، واستيفاء العَدد.
فصل:
8990- المرأة إذا ادّعت على الزوج أصلَ الطلاق، فأنكره أو ادّعت عليه نية الطلاق، فدعواها مسموعة واليمين معروضة، ومردودة، ولو لم تدّع، فشهد شاهدان حسبةً على الطلاق، سُمعت شهادتهما؛ فإن حق الله تعالى غالب في الطلاق، وآيةُ غلبته أن الواقع لا ينتفي بتراضي الزوجين.
فلو ادعى واحدٌ من الناس على رجل أنه طلق امرأته، فهذا ليس بدعوى، فإن كانت عنده شهادةٌ، فليقمها من غير دعوى، والمرأة لو أرادت أن تَشهد على طلاق الزوج، لم تجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن الحظ يرجع إليها من الخلاص، ولها مقام الدعوى.
ولو طلقها زوجُها طلقةً رجعيةً، ثم زعمت المرأة أنه طلقها طلقة أخرى، فإن راجعها، فلها أن تدعي حينئذٍ، وإن أرادت أن تدعي وهي جارية في عدة الرجعة، فظاهر المذهب أن دعواها مسموعة؛ فإن الرجعية زوجة، ومن أصحابنا من قال: لا تسمع دعواها؛ فإنه ليس لها غرض صحيح في الحال؛ إذ الحيلولة ناجزة، والرجعة لا تنقطع بالطلقة الثانية. والأصحُّ الأول.
فصل:
قال: "ولو كتب بطلاقها، فلا يكون طلاقاً إلا أن ينويه... إلى آخره".
8991- نقول في صدر الفصل: الأخرس يقيم إشاراته المُفْهمة مقام عبارات الناطق، فيقع بإشارته طلاقُه وعتاقه، ويصح بيعُه وشراؤه وسائرُ عقوده، وحلوله وردوده، ثم يقع طلاقه بإشارةٍ لها رتبة الصّريح، ويقع بإشارة ونيّة لها رتبة الكناية، وتصح أقاريره ودعاويه، ولا تطويل؛ فإشارة الأخرس كعبارة الناطق.
ولم يختلف أصحابنا إلا في الشهادة، فمنهم من صحح شهادة الأخرس، ومنهم من أباها، ولعله الأصحُّ.
وممّا يتعلق بتحقيق ذلك أن الأخرس إذا أبلغ في الإشارة، فالصّريح منها ما يفهم منها الطلاق، ولا يختص بفهمه أصحاب الفطنة والدرْك، بل يعمّ دركُ المقصود منه، فهذا يُلحق إشارته بالصريح الذي يفهم منه الطلاق على شيوع، فإن ترددت إشارته، وكانت صالحةً للطلاق ولغيره، أو كان يختص بدَرْكه الفطن، فهذا يلحق بالكناية.
وإذا أبلغ الأخرس في الإشارة، ثم زعم أنه لم ينو الطلاق، فالذي يظهر عندي أن هذا يلتحق بالقسم المتوسط بين الصريح والكناية حتى يتردّد فيه، كما لو استعمل اللفظ الشائع في الطلاق، وقال: قصدت غير الطلاق، وليس كلفظ الطلاق في حق الناطق، فهذا، غائصٌ فقيه، فليتأمله الناظر.
8992- ومما وقع في الوقائع أن الأخرس إذا أشار في الصلاة بالطلاق أو بغيره من العقود والحلول، فلا شك أنا نُنفّذ منه مقتضى إشاراته، وإذا نفَّذناها، ففي القضاء ببطلان الصلاة تردّد، والظاهر أنها لا تبطل، وقد قدمنا ذكر ذلك فيما تقدّم.
وإذا كتب الأخرس بالطلاق، نفذ الطلاق منه؛ فإن الكِتْبة أوقع في البيان من الإشارة، ولو قدر على الكِتْبة، فأشار، نفذت إشارته؛ فإن الكتابة في مرتبة الإشارة، فليفهم الناظر هذا، وإن كانت الكتابة منتظمة والإشارات لا نظم لها.
8993- فإذا ثبتت هذه المقدمات، استفتحنا بعدها القول في كتابة الناطق، فنقول: القادر على النطق إذا كتب الصّيغة الجازمة بالطلاق، قال الأئمة: إن كتب، وقرأ، ونوى، وقع الطلاق.
فإن قيل: إذا قرأ، فقد صرّح ونطق، فأيّ حاجةٍ إلى النيّة؟ قلت: نعم، هو كذلك، ولكن القراءة مع النظر في المكتوبات يتأتى حملها على محمل الحكاية، فيتنزل هذا عندنا-وإن كان اللفظ صريحاً- منزلة ما لو قال: في حالِ حَلّ قيدها: أنت طالق، ثم زعم أنه أراد تطليقها عن وثاق، وفيه التردد الذي قدمناه. وإن صرح وقال: إنما أريد أن أحكي، فهذا كما لو قال: أنت طالق عن وِثاق.
وإن كتب ولم يقرأ، ونوى الطلاق، فقد نص هاهنا على الوقوع، ونصَّ في الإملاء على أنه إذا كتب بطلاق زوجته ونوى، لم يقع طلاقه، وقال في كتاب الرجعة: ولا يكون رجعة إلا بكلام، كما لا يكون نكاح ولا طلاق إلا بكلام.
فاختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: أن الطلاق لا يقع؛ فإن الكاتب قادر على العبارة، فليعبر عن غرضه؛ فإن العبارة أصل البيان، والكتابةُ فعلٌ.
والقول الثاني- أن الطلاق يقع؛ فإن الكتابة مما يتفاهم بها العقلاء، وهي أحد البيانين.
ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق بالكتابة مع النية قولاً واحداً، وما ذكره في الرجعة قصد به الردَّ على أبي حنيفة في مصيره إلى أن الوطء رجعة، ثم استمر في كلامه كما وصفناه، ونصُّ الإملاء عند هذا القائل محمول على الأخرس، أو على الغائب، كما سنبين التفصيل فيه.
ثم فرّع الأئمة الحاضر وجعلوه أولى بأن لا يقع طلاقه بالكتابة؛ من جهة اقتداره على الإفهام بالنطق والكلام، والغُيَّبُ يعسر عليهم المناطقة، فتصير الكتابة في حقهم بمثابتها في حق الأخرس.
والذي تحصّل من كلام الأصحاب طريقان في الحاضر، وطريقان في الغائب على العكس، فأما الطريقان في الغائب، فمن أصحابنا من قطع بوقوع الطلاق، ومنهم من ذكر قولين.
وفي الحاضر طريقان على العكس: منهم من قطع بأن طلاقه لا يقع بالكتابة، ومنهم من قال: قولان.
وينتظم من الغائب والحاضر ثلاثة أقوال.
8994- ثم إذا تمهد الأصل، فالكلام وراء ذلك في أمور: منها تفصيل القول فيما يتعلق بالكِتْبة من الأحكام سوى الطلاق، ومنها ما يكتب عليه، ومنها اتباع الألفاظ المُثْبتة في الكتب وبيان صيغتها.
فأما القول فيما يتعلق بالكتابة، فترتيب المذهب فيه أن الأحكام المتعلقة بالألفاظ تنقسم إلى ما لا يفتقر إلى القبول، وإلى ما يفتقر إلى القبول، فأما ما لا يفتقر إلى القبول، فهو كالطلاق والعتاق والإبراء والعفو عن الدّم، فهذه الأشياء هل تحصل بالكِتبة؟ فيها التفاصيل التي قدمناها في الطلاق، ثم المذهب المقطوع به أن الكِتْبة بمجردها، لا تتضمن وقوع الطلاق، حتى تنضم إليها النية، ولا يحصل بها الإبراء والعفو والعتق كذلك، حتى يقترن بها نيات هذه الأشياء، وحكى الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً غريباً أن صيغة الكِتبة إذا كانت صريحاً لو فرض النطق بها، وقع الطلاق من غير نيّة، وهذا بعيد، لم أره لغيره.
8995- والتحق بهذا المنتهى أن الناطق لو أشار إشارة الأخرس، فهل يقع الطلاق بإشارته، قال شيخي: كان القفال يُجري إشارة الناطق بمثابة كتابته، وكان ميله إلى أن الإشارة من الناطق أولى بالإحباط من الكتابة؛ فإن الكتابة مألوفة من الناطقين على اطراد، سيما في حالة الغيبة بخلاف الإشارة، فإنها لا تصدر على قصد الإفهام إلا على ندورٍ، أو في حالة هزء، ثم إذا صدر من الناطق-على قولنا بإعمال إشارته- ما لو صدر من الأخرس، لكان صريحاً، فكيف سبيلها؟ الوجه القطع بأنها كناية عن الناطق كالكتابة، وإن كانت صريحاً من الأخرس.
وكان شيخي يقطع بأن الكتابة صريحٌ من الأخرس. ولي في هذا نظر؛ فإن كتابة الكاتب، قد تقع لنظم حروف وامتحان قلم، ومحاكاة خط، فإن انضمّ إلى الكِتبة قصدُ الإفهام بها، فلا ريب حينئذ في أن الكتابة مع مخايل قصد الافهام كالإشارة لو أبلغ فيها. فهذا قولنا فيما لا يفتقر إلى القبول.
8996- فأما ما يفتقر إلى القبول، فينقسم إلى النكاح وغيرِه: فأما غير النكاح.
كالبيع والإجارة والهبة وما في معناها، نفرضها مع الغَيْبة، ثم نذكر حكمَها مع الحضور:
فأما إذا جرت الكتابة بالبيع في الغيبة، فمن ضرورة ذلك انقطاع كتابة من يبتدىء عن قبول من يَرِدُ الكتابُ عليه، فيجتمع في ذلك إقامة الكتابة مقام اللفظ، وفيه التردد الذي ذكرناه في الطلاق والعتاق وما في معناهما مما لا يشترط القبول فيه، وتأخُّرُ أحد شقي العقد عن الثاني، وهذا لا يقتضي تأكيداً في المنع لا محالة، فينتظم منه ترتيب القولين في البيع على القولين في الطلاق، والبيعُ أولى بالمنع.
فإن قيل: ما وجه الجواز، وقد انفصل أحد الشقين عن الثاني؟ قلنا: في ذلك وجهان:
أحدهما: أن نجعل ورود الكتاب بمثابة افتتاح الإيجاب، ويتبعه القبول على الاتصال. والوجه الثاني- أن القبول إنما يشترط اتصاله بالإيجاب لأن الموجِب أنشأ كلامه على وجه يقتضي جواباً متصلاً، وإذا كتب الكاتب، فكتابته تقتضي الموافقة على حسب ما يليق بالعرف في مثل ذلك، وهذا حسن، ولكن يلزم على مساقه أن يقال: إذا أوجب في الحضور إيجاباً مقترناً بجواز تأخّر القبول، وجب تجويزه، ولا صائر إلى هذا إلا أبو حنيفة، فإنه جعل مدّة المجلس وإن طالت فُسحةً في ذلك، ونحن لا نقول به، فينضم إلى ما ذكرناه مسيسُ الحاجة في التكاتب، وهذا لا يتحقق في التخاطب. ويتصل بذلك أنه إذا ورد الكتاب، فهل يشترط اتصال القبول بالاطلاع على الكتاب أم لا؟ الوجه القطع باشتراطه على المعنيين؛ إذ لا حاجة بعد الاطلاع، وقد جعلنا الاطلاع كإنشاء الإيجاب.
ولو قال الغائب: بعت داري هذه من فلان، وأُشهد عليه، فإذا بلغ الخبر مَنْ هو في مقام المشتري، فهي كالكتابة، بل هذا أولى بالصحة لوجود اللفظ.
هذا بيان البيع وما في معناه.
8997- فأما النكاح، فهو أولاً يترتب على البيع إذا فرض بالكتابة في حالة الغيبة، فليرتب على البيع، والفرقُ ما في النكاح من التعبد والتضييق في العبارات، ثم يتفرع على النكاح افتقاره إلى الشهادة. فإن صححنا النكاح وقد جرى من الغائب لفظُه، وشهد عليه عدلان، وشهدا على قبول من يبلغه الخبر، فقد ثبت ركن الشهادة، وإن شهد على قول الزوج عدلان، وشهد على قبول القابل عدلان آخران، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أن النكاح لا ينعقد؛ لأن واحداً منهم لم يشهد على عقد تامٍ.
ومن أصحابنا من قال: يصح النكاح؛ لأن العقد لو جُحد أمكن إثباته بهم، وهو المقصود. وهذا فيه إذا لَفَظَ الموجِب والقابلُ بالإيجاب والقبول. فأما إذا كتب، ولم يتلفظ، فالإشهاد على الكتابة ممكن، ولكن الكتابة كناية، ولا اطلاع على نية الكاتب، وإن زعم أنه نوى بعد الكتابة، فهذا إشهاد على الإقرار، ولا يقع الاكتفاء بالإشهاد على الإقرار، فالذي يقتضيه قياس الشافعي القطعُ بأن هذا لا يصح. ولكن أجرى كثير من الأصحاب القولين في الكتابة في النكاح، ولعلهم رأَوْا هذا محتملاً لضرورة الغيبة، وهذا بمثابة احتمال انقطاع الإيجاب عن القبول بسبب حاجة الغيبة.
هذا منتهى الكلام في هذه القاعدة.
8998- ويتفرع عليه الكتابة في الحضور، وقد قدمنا أن الكتابة في الحضور أبعد عن الجواز؛ لانتفاء حاجة الغيبة، فإن منعنا، فلا كلام. وإن جوزنا، فقد يمكن فرض اتصال الكتابة بالقبول في الشهود والحضور، فإن كان كذلك، لم يبق إلا إقامة الكتابة من غير حاجةٍ مقام العبارة. وإن انقطع الإيجاب عن القبول في الشهود والحضور، فنقطع بالمنع، وهو بيّن.
8999- ثم يتفرع على هذه القواعد مسائل سهلة المأخذ، فإذا كتب إلى إنسان بأنّي وكلتك في بيع مالي وعتْقِ عبدي، فهذا يترتب على أنه لو شافهه بهذا هل يفتقر إلى القبول؟ فإن قلنا: لا حاجة إلى القبول مع المشافهة، فالقول في ذلك كالقول في الكتابة في الطلاق والعتاق. وإن شرطنا القبول في ذلك، التحق بالقسم الذي يفتقر إلى الإيجاب والقبول، وقد ذكرنا حكم الكتابة في هذا القسم.
وهذا نجاز الكلام في حكم الكتابة في هذه الأقسام.
9000- فأما القول فيما يُكتب عليه، فالكتابة على الرَّق، والقرطاس، والألواح، والنقر في الأحجار والخشب، كلها بمثابة واحدة. ولو خط على الأرض خطوطاً وأفهم، فالجواب كما ذكرناه. وإذا فهم الفاهم ما كتبه وبلّغه، كان كما لو بلّغ كتابه.
ولو رسم الأسطر على الماء أو على الهواء، فلا حكم لهذه الكتابة؛ فإن الكتابة حقها أن تقع بياناً، ولا انتظام لها على الهواء أو الماء. نعم، لا يمتنع أن يلتحق هذا بالإشارات؛ فإن هذه الحركات قد يُفهم منها شكلُ الحروف، فتتنزل منزلة الإشارات المفهمة.
9001- فأما الكلام في صيغ الكتابة ومقتضياتها، وما يطرأ على الكُتب من التغايير، فهذا خاصية الفصل وينبسط فيه الكلام بعض الانبساط، فإذا كان في الكتاب: "أما بعد فأنت طالق". فإذا وقع الحكم بالكتابة تبيّنا وقوع الطلاق من وقت الكتابة؛ فإنه لم يعلّق الطلاق ببلوغ الكتاب ووصوله، بل نجّزه؛ إذ قال: "أما بعد، فأنت طالق".
وإذا قال: إذا بلغك كتابي، فأنتِ طالق، فلا يقع الطلاق ما لم يبلغها، وإذا قال: إذا قرأتِ كتابي فأنت طالق، فلا يقع الطلاق بنفس البلوغ ما لم تقرأ أو يُقرأ عليها، كما سنفصل هذا في آخر الفصل، إن شاء الله.
9002- وإذا انمحى الكتاب، فإن بقيت رقوم يُفهم منها الغرض، وقع الطلاق المعلق ببلوغ الكتاب، وإن انمحى ودرس، ولم يبق ما يُفهم منه مضمون الكتاب، فالذي قطع به الأصحاب أن الطلاق لا يقع إذا كان معلقاً ببلوغ الكتاب؛ فإن هذا خرج عن كونه كتاباً بالانمحاء، والدّليل عليه أن الكاتب لو كان كتب: إن بلغك كتابي، ثم محا بنفسه، فاتفق بلوغ ذلك القرطاس، فلا إشكال في أن الطلاق لا يقع، فإذا انمحى كان كما لو محاه الكاتب بنفسه.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن الطلاق يقع؛ فإن هذا وإن انمحى يسمى كتاباً، ويقال: "أتاني كتاب فلان"، وإن انمحى.
وهذا الذي ذكره بعيدٌ؛ فإنه إنما يسمى كتاباً بتأويل أنه كان كتاباً، ووضوح ذلك مغْنٍ عن بسطه.
9002/م- والكلام يتعلق بعد ذلك بسقوط بعض الكتاب ووصول بعضه، ونحن نتكلم فيه إذا وصل أسطرُ الطلاق وسقط غيرها، ثم نتكلم في سقوط الأسطر التي فيها الطلاق. والتقسيمُ الجاري في ذلك أن نقول: الكلام في أربع مسائل: إحداها- في سقوط أسطر الطلاق من الكتاب.
والثانية- في سقوط الأسطر التي هي من مقاصد الكتاب، لكنها غير الطلاق.
والثالثة- في سقوط أسطر فيها التسمية والتصدير، أو الحمد والصلاة في آخر الكتاب.
والرابعة- في سقوط البياض من طرفي الكتاب أو حواشيه.
فأما إذا سقطت أسطر الطلاق، وكان في الكتاب: إذا بلغك كتابي، فأنت طالق، فحاصل ما ذكره الأصحاب في هذه الصورة ثلاثة أوجه: أحدها: أن الطلاق لا يقع؛ فإنه علّقه ببلوغ الكتاب، والكتاب عبارة عن مجموعِه، وقد سقط مقصود الكتاب، فكأن الكتاب لم يصل.
والوجه الثاني- أن الطلاق يقع؛ إذ يقال: وصل الكتاب، وإن كان سقط منه
شيء.
والوجه الثالث: أنه يفصّل: فيقال: إن قال: إن جاءكِ كتابي هذا، لم يقع؛ لأن
الإشارة تحوي جميعَ الأجزاء. وإن كتب: إن جاءكِ كتابي، ولم يشر، وقع؛ لأنه
جاءها ما ينطلق عليه اسم الكتاب.
المسألة الثانية- إذا سقط غير الطلاق، ولكن كان من متضمنات الكتاب، كعُذرٍ
مُقدَّمٍ على الطلاق، أو ذكرِ حالٍ منها يتضمن توبيخاً، وهو معقَّبٌ بالطلاق، فإذا سقط
ما يشتمل على هذه الفنون، وكانت الأسطر المحتوية على الطلاق باقية، فتعود الأوجه، ولكن هذه الصورة أولى بوقوع الطلاق؛ فإنه فصّل الطلاق، وهو الغرض والمنتهى.
المسألة الثالثة- إذا سقط من الكتاب محلّ التصدير والحمد، ففيه الخلاف، والأظهر وقوع الطلاق؛ فإن الساقط لم يَفُت بسقوطه شيء من مقاصد الكتاب، وإنما
سقطت مراسم ليست معنيّة.
والمسألة الرابعة- في سقوط البياض، فالذي قطع به أئمة المذهب أن الطلاق يقع؛
لأن الكتاب محل الأسطر، والحواشي متصلةٌ وليست مقصودة أصلاً. وأشار بعض
الأصحاب إلى إبداء احتمال في هذا؛ فإنّ حواشي الكتاب تُعدُّ من الكتاب، ويحرم
على المحدث مس حواشي المصحف، كما يحرم عليه مس الأسطر.
وكنت أحب لو أجرينا في هذه المسائل-أعني المسائل الثلاث الأُوَل- الفرقَ بين
أن يبقى معظم الكتاب، أو يسقط معظمه؛ فإن للمعظم أثراً ظاهراً في بقاء الاسم.
ولو قال: إذا بلغك طلاق، فانت طالق، فبلغ الكتاب إلا الأسطر التي فيها ذكر
الطلاق، لم يقع وفاقاً، وكذلك إذا بلغ تلك الأسطر التي فيها ذكر الطلاق من غير
تفصيل. وإذا بنينا على أن الانمحاء يُخرج الكتاب عن كونه كتاباً، فالانمحاء بمثابة
السقوط في البعض.
فهذا تفصيل القول فيما يلحق الكتاب من التغايير.
9003- وإذا قال: إذا قرأتِ كتابي، فأنت طالق، فلم تقرأ، ولم يُقرأ عليها، لم يقع الطلاق، ولو قال: إذا قرأتِ كتابي، فأنت طالق، فكانت قارئةً، فقرىء عليها، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أن الطلاق لا يقع؛ فإنها لم تقرأ.
والثاني: يقع؛ لأن هذا يراد به الاطلاع على مضمون الكتاب، لا صورة القراءة. وهذا يحصل بأن يُقرأ عليها، كما يحصل بأن تقرأ بنفسها.
ولم يختلف علماؤنا في أنها لو طالعت الكتاب، وفهمت ما فيه، ولم تلفظ بكلمةٍ، وقع الطلاق وإن لم يوجد قراءة؛ وهذا يؤكّد أن قراءة الكتاب محمولة على الاطلاع على ما فيه.
ولو كانت أُمِّيَّة، فالذي قطع به الأصحاب أن الطلاق يقع إذا قرىء الكتاب عليها؛ فإن القراءة في حقها محمولة على الاطلاع لا غير.
وأبعد بعض من لا احتفال به، فجعل تعليق الطلاق بالقراءة في حق الأمية بمثابة تعليق الطلاق على محال، وهو كما لو قال: إن صعدت السماء، فأنت طالق، فالطلاق لا يقع، لعدم الصعود، وإن كان محالاً.
وإذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، فأنت طالق، فلم تره، ورأى غيرها، فسنذكر أن الطلاق يقع، وإن كانت الرؤية ممكنة منها، بخلاف ما لو قال: إذا قرأت كتابي وكانت قارئة، فلم تقرأ، وقُرىء عليها، والفرق أن قراءة غيرها ليست قراءتها، والرؤية قد يراد بها العلم، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45] معناه: ألم تعلم ربك، وسيأتي هذا الفرع بما فيه، إن شاء الله.
ومما فرعه صاحب التقريب: أنه إذا قال: إذا بلغك نصف كتابي، فأنت طالق، فبلغها الكتاب كله، فهل نقضي بوقوع الطلاق؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يقع؛ فإن الكتاب يشتمل على نصفين، ففي بلوغه بلوغ نصفه.
والثاني: لا يقع؛ فإنّ النصف في هذا المقام إنما يُطلق لغرض التبعيض، فإذا لم يتحقق التبعيض، لم تتحقق الصفة.
وقد انتهى ما يتعلق بفصل الكتاب؛ فقهاً، وإيضاحاً لموجب صيغ الألفاظ.
فصل:
قال: "ولو قال لامرأته: اختاري، أو أمرك بيدك... إلى آخره".
9004- مقصود الفصل الكلام فيه إذا فوّض الزوج الطلاق إلى زوجته، ونحن نقول: تفويض الطلاق إلى أجنبي توكيلٌ على التحقيق، ثم الأصحاب ربما يفصلون بين التوكيل وبين الأمر كما تقدم استقصاؤه في كتاب الوكالة، وبيانه أن الرجل إذا قال لصاحبٍ له: وكلتك ببيع عبدي أو إعتاقه، أو طلاق زوجتي، فهذا توكيل على الحقيقة.
واختلف الأصحاب في أنه هل يشترط القبول فيه أم لا؟ كما مضى.
وإن قال: بع عبدي، من أئمتنا من قال: هذا أمرٌ غيرُ مفتقر إلى القبول وجهاً واحداً، وإنما المطلوب عنده الامتثال والارتسام فحسب، ومنهم من قال: هو توكيل على صيغة الأمر، ويجري فيه الخلاف في القبول، كما يجري فيه إذا قال: وكلتك.
ثم إن لم نشترط القبول، لم يتقيد إيقاع المطلوب بزمانٍ إذا لم يكن التوكيل مقيداً بمراعاة زمان، بل إن امتثل الوكيل أو المأمور على الفور أو بعد زمان، جاز ونفذ.
وإن قضينا بأن القبول لابد منه، فالاتصال مرعيٌ في القبول لا محالة، ثم الكلام في تنفيذ المقصود لا يشترط فيه تعجيلٌ ولا اتصالٌ إذا لم يشترط الآمر والموكّل تعجيلاً.
9005- فأمّا إذا فوض الزوج الطلاق إلى زوجه، فقال لها: طلقي نفسك، فقد اختلف قول الشافعي بأن هذا تمليك، أو توكيل بالطلاق، فأحد القولين أنه توكيل، أو أمرٌ كما قدمته، والقول الثاني أنه تمليك.
التوجيه: من جعله توكيلاً، اعتبر المرأة بالأجنبي، فإن مالك الطلاق الزوج، ومن يطلّق بأمره مأمور من جهته، فلا فرق بين أن يتصل الأمر بالزوجة أو بأجنبي.
ومن قال بالقول الثاني، احتجّ بأن التفويض إليها يتضمن تمكينها من أن تملك نفسها، وهذا الأثر يرجع إليها، ويتصل بها، فكان قوله طلقي نفسك خارجاً عن محض التوكيل.
التفريع:
9006- إن جعلنا التفويض إليها توكيلاً، فلا فور عليها، فإن طلقت على الاتصال نفسَها، فذاك. وإن طلقت نفسَها بعد زمان متطاول، وبعد مفارقة ذلك المجلس، جاز، وهل يشترط قبولها أم لا؟ فعلى ما ذكرناه من تردد الأصحاب في أن الآمر هل يفتقر إلى القبول. والمسألة فيه إذا قال لها: طلقي نفسك.
وإن حكمنا بأن التفويض تمليك، فالجواب يقتضي الفورَ، وهو بمثابة قبول العَقْد مع إيجابه، فإن خلّلت زماناً متطاولاً ينقطع بمثله الإيجاب عن القبول، فلا تملك أن تطلق نفسها بحكم التفويض الأوّل، كما لا يملك المخاطب بالإيجاب القبول بعد تطاول الزمان. هذا مسلكُ الأصحاب في التفريع.
ومما فرَّعوه على قول التمليك أن الزوج لو رجع عن تفويضه على الفور قبل أن تطلّق نفسها، انقطع ملْكها التطليق، ولم ينفذ الطلاق إن طلّقت نفسها؛ لأنا إذا جعلناها مملكة فهي بمثابة القابلة للخلع إذا خاطبها الزوج بالإيجاب فيه، وهذا يقبل الرجوع.
وقال ابن خيران: "إذا فرعنا على قول التمليك، فليس للزوج الرجوع بعد التفويض، ولو رجع، لغا رجوعه، ونفذ تطليقها نفسَها، على الاتصال". واعتل بأن قال: كأن الزوج قال لها: إذا تلفظت بتطليق نفسك، فأنت طالق.
وهذا وجه مردود لا أصل له، والعجب أن شيخي كان لا يحكي في التفريع على قول التمليك غيرَه، وكان يعبر عنه، ويقول: "هو تمليك مضمّن بتعليق" مشيراً إلى أن الرجوع غير ممكن بتضمّن التمليك التعليق.
هذا نظم المذهب.
9007- وسلك القاضي مسلكاً آخر، فقال: نرسم القولين في أن التفويض تمليك أو توكيل، ونقول: الأصح أنه تمليك، وهو المنصوص عليه في معظم الكتب.
والقول الثاني- أنه توكيل، ولا يُرى للشافعي منصوصاً إلا في الأمالي المتفرقة.
فإن حكمنا بأنه تمليك، فالفور لابد منه.
ثم غلط هاهنا بعض أصحابنا، فقال: يمتد جوابها امتداد المجلس، كخيار المكان، وهذا غلط غير معتدّ به، وإنما غلطُ هذا القائل من قول الشافعي "ولا أعلم خلافاً، أنها إن طلقت نفسها قبل أن يتفرقا من المجلس أو تُحدثَ قطعاً لذلك أن الطلاق يقع عليها". والشافعي كثيراً ما يطلق المجلس ويريد به مجلس الإيجاب والقبول، والمعنى رعاية التواصل الزماني، كما قدّمنا ذكره.
وقد يطلق مثل هذا في الخلع، ولم يجسر أحدٌ من أصحابنا على حمل ذلك على المجلس الذي يناط بمنتهاه انقطاع خيار المجلس.
قال: وإذا فرعنا على أن هذا توكيل، فيحتمل أن نقول: تطليقها ينبغي أن يكون على الفور أيضاً؛ فإن توكيل الزوج المرأة يشعر بتمليكها لفظاً، والتمليك اللفظي يقتضي جواباً عاجلاً، ولهذا قلنا: إذا قال لزوجته: "أنت طالق إن شئتِ"، اقتضى ذلك فوراً في المشيئة، بخلاف ما لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فيتضمن قوله طلِّقي نفسك جواباً عاجلاً والتماسَ تنفيذٍ أو إعراضٍ، ثم قال: وهذا إذا قال لها: طلقي نفسك.
ولو قال: وكلتك أن تطلقي نفسكِ، وصرّح بلفظ التوكيل، قال القاضي: يحتمل أن يقال أيضاً في هذه المسألة: يختص بالمجلس، كما وصفناه، وإن صرّح بالتوكيل؛ لأنه يشوبه شُعبة من التمليك، فعلى الطريقين يكون جوابها على الفور سواء لَفَظَ بالتوكيل، أو لم يلفظ به.
وهذا الذي ذكره فقيهٌ حسن، ولكنه منفرد به من بين الأصحاب.
9008- والمقدار الذي رمز إليه المحققون أنا إن قلنا: هذا توكيل، فحكمها حكم الوكيل، وإن قلنا: هذا تمليك، فهل يصح من الزوج توكيلها أم كل تفويض منه إليها يتضمن تمليكاً؟ فعلى ترددٍ وخلاف، وهذا محتمل، وإيراده على هذا الوجه أمثل.
ولو قال على قول التوكيل: طلقي نفسك متى شئت، أو متى ما شئت، فهذا لا يقتضي فوراً أصلاً؛ فإن معتمد القاضي مسألة التعليق بالمشيئة. ولو قال: مهما شئت، فأنت طالق، فلا فور، بل مهما شاءت، طلَّقت، فإذا كانت المشيئة تقبل التأخير، إذا قيّدت بالتأخير، فليكن الأمر كذلك في التوكيل.
ومما يهجس في النفس أن من قال: التفويض توكيل، ولا يقتضي تطليقاً منها نافذاً في الحال، فكيف وجه القطع باقتضاء قول الرجل: "أنت طالق إن شئت فوراً"؟ فإن مسألة المشيئة عندي تتوجه بتمليكها الأمر، والتمليك مضاهٍ للإيجاب المستعقب للقبول، وإلا فلا فرق في العربية بين قول القائل لامرأته: أنت طالق إن شئت، وقوله: أنت طالق إن كلمت زيداً، والمستعمل في المسألتين أداة الشرط، وأُمُّ بابه، وحكم الشرط ألا يتخصّص بزمان، بل يسترسل على الأزمان المبهمة.
فليتأمل الناظر هذا فإنه عويصٌ. وسنعود في الفروع إلى مسألة المشيئة، إن شاء الله.
وكل ما ذكرناه فيه إذا فوّض الطلاق إليها بلفظٍ صريح، وطلّقت نفسها بلفظ صريح.
9009- فأما إذا فوّض إليها في ظاهر الأمر بكناية، فأجابت بكناية، أو اختلف الجانبان في ذلك، فالتفصيل فيه إذا قال لها: أمرك بيدك، أو فوضت أمرك إليك، أو ملكتك أمرك، أو قال: اختاري نفسك، فهذه الألفاظ كنايات منه، فإذا أجابت بكناية، فقالت: اخترت نفسي، أو أبنت نفسي، فيتعين الرجوع إليهما، فإن زعما أنهما نويا الطلاق تفويضاً وإيقاعاً، وقع رجعياً إذا كانت بمحل الرجعية.
ولو لم ينو الزوج، لم يقع وإن نوت، ولو نوى تفويض الطلاق إليها ولم تنوِ المرأة إيقاع الطلاق، لم يقع الطلاق، فإنها الموقعة المطلِّقة، فينقسم لفظها إلى الصريح وإلى الكناية.
وقال أبو حنيفة: يقع الطلاق، وإن لم تنوِ إذا نوى الزوج، وكأنّ كلام المفوِّض معادٌ في جوابها، وهذا ساقطٌ لا أصل له. وهذه المسألة مشهورة في أصحاب رسول الله عليه السلام وهي ملتطم خلافهم، والمسألة مشهورة بالتخيير والاختيار، فإذا قال الزوج: اختاري، فقالت: اخترت نفسي، فقد ذهب عمرُ وابنُ عمرَ وابنُ مسعودٍ وابنُ عباسٍ وعائشة إلى أنها لو اختارت نفسها، وقعت طلقة رجعية، ولو اختارت زوجها، لم يقع شيء، وحيث حكموا بالوقوع أرادوا إذا وجدت النية من الجانبين، وروي عن علي أنها لو اختارت نفسها وقعت طلقة بائنة، وإن اختارت
زوجها وقعت طلقةً رجعيةً، وبه قال زيد، وروي عن عائشة لما بلغها عن علي أنها لو
اختارت زوجها وقعت طلقة رجعية اشتدّ إنكارها عليه، وقالت: خيّر رسول الله
صلى الله عليه وسلم نساءه أترى كان ذلك طلاقاً؟ ومما يتعلق بالفصل أن الزوج لو أنكر نية الطلاق، فالقول قوله مع يمينه. والمرأة لو قالت: نويت الطلاق كما نويتَ، فقال الزوج: ما نويتِ أنت، فقد ذكر القاضي وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أن القول قولها؛ فإن المرأة هي الناوية، وإليها الرجوع، ولا مطّلع على النية إلا من جهتها. نعم، إن أراد تحليفها، كان له ذلك.
ومن أصحابنا من قال: القول قول الزوج، وهذا ضعيف لا أصل له، ووجهه- على بعده- أن الأصل بقاء النكاح، وعدم وقوع الطلاق، وهي تزعم أن الطلاق وقع بنيتها المنضمّة إلى لفظتها.
9010- ولو ذكر الزوج في التفويض كناية، فقال: اختاري، أو أبيني نفسك، أو بتِّي نفسك، فقالت: طلقت نفسي، فالمذهب الظاهر أن الطلاق يقع إذا اشتمل جانب الكناية على النية.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق. حكاه العراقيون عن ابن خَيْران، وهذا القائل يقول: ينبغي أن يكون جوابها على صيغة التفويض إليها.
قال القاضي: وهذا الخلاف يجري في التوكيل، فلو قال لأجنبي: طلق زوجتي، فقال: أبنتها، ونوى الطلاق. ولو قال: أبن زوجتي أو خلّها ونوى الطلاق، فقال الوكيل: "طلقتها". أو "هي طالق"، فيخرّج الخلاف.
ولو قال لزوجته: أبيني نفسك، فقالت: خلّيت نفسي، وَوُجِدت نية الطلاق من الجانبين، فلا يخفى تخريج هذا على ظاهر المذهب، والطلاق واقع.
فأما إذا قلنا: اختلافُ الشقين صريحاً وكناية يمنع وقوعَ الطلاق، فإذا جرت الكناية من الجانبين، ولكن اختلفت الصيغتان، ففي المسألة تردد على هذا الوجه الضعيف. ولعلّ الأوجه الوقوع تعويلاً على النية؛ فإن اللفظ لا استقلال له في الجانبين.
فصل:
قال: "وسواء قالت طلقتك أو طلقت نفسي... إلى آخره".
9011- إذا قال الرجل لامرأته: أنا منك طالق، قال الأصحاب: إن نوى إيقاع الطلاق عليها، وقع الطلاق، وإن لم ينو إيقاع الطلاق عليها، لم يقع، وزعموا أن قوله: أنا منك طالق صريح في بنيته وصيغته، ولكنه أضيف إلى الرجل، فهو بمثابة الكنايات؛ فإن المرأة محل الطلاق، فإذا أضيف الطلاق إلى الرجل، كان على تأويل إضافته إليها، من حيث إنه منها على سبب منتظم بينهما. وكذلك إذا قال الرجل: أنا منك بائن، قال الأصحاب: لابد من نيتين إحداهما نيّة أصل الطلاق، والثانية نية الإيقاع عليها.
9012- وأصل هذه المسألة مقرر في (الأساليب)، ولا نجد بداً من ذكر طرفٍ مما ذكرناه فيها أوّلاً: ذهب ذاهبون من أصحابنا إلى أن الرجل معقود عليه في حقها، كما أنها معقود عليها في حقه، وأكثروا في هذا سؤالاً وانفصالاً.
ونحن لم نرتضِ هذا المسلكَ؛ فإن المرأة لا تستحق من بدن زوجها ومنفعة زوجها شيئاً، فلا معنى لكونه معقوداَّ عَليه لها وفي حقها، وإنما المستحِق هو الزوج ومنافعها أو حِلُّها مستحَق له، فلا وجه إلا القطع بأنّ مورد العقد محل الاستحقاق.
ولكن إذا قال الزوج: أنا منك طالق، انقدح في هذا وجهان:
أحدهما: أن على الزوج حجْراً من جهتها، وإن لم يكن معقوداً عليه؛ فإنه لا ينكح أختها، ولا أربعاً سواها، فإذا أضاف الطلاق إلى نفسه، أمكن حمل ذلك تقريراً على حَلّ السبب المقتضي لهذا الحَجْر.
والوجه الثاني- أن المرأة مقيدة، والزوج في حكم القيد، وقد يقال: حُلّ القيد، كما يقال: حُل المقيّد، فإضافة الطلاق إلى الزوج تتجه من غير أن يفرض معقوداً عليه.
ثم إذا قصد الزّوج الطلاق، ولم يضف الطلاق إليها، فالذي صار إليه جمهور الأصحاب أن الطلاق لا يقع، كما قدمنا ذكر ذلك.
وذهب طوائف من المحققين إلى أن قصد الطلاق كافٍ، وإن لم يضفه لفظاً وعقداً إليها. وهذا اختيار القاضي، وهو القياس تحقيقاً، فإن الطلاق نقيضُ العقد، وإذا ارتفع العقد، فلا حاجة إلى التنصيص على محلٍّ نطقاً أو نية وقصداً.
وهذا الكلام فيه إبهام بعدُ، فإن الرجل لو قال: أنا منك طالق، وقصد الطلاق، ولم يقصد تطليق نفسه، فالأمر على ما ذكرناه.
وإن قال: أنا منك طالق، ونوى تطليق نفسه، فكيف السبيل؟ وعلى ماذا يحمل هذا القصد؟ وهل نقول: الطلاق صريح ولا حاجة فيه إلى التعرض للمحلّ؟
أما مذهب الجمهور، فبيّن، وأما المذهب الآخر، فقد بان منه أنه إن لم يقصد إلا الطلاق على الإطلاق، كفى، وإن جرّد قصده إلى تطليق نفسه، فالوجه عندنا ألا يقع، لأن كونه محلاً لإضافة الطلاق-و ليس محلاً للعقد، ولا استحقاق للمرأة فيه- بعيدٌ فهذا كلام لا يستد مطلَقُه، حتى يصرف بتأويل إلى مصرفٍ صحيح.
ثم الجمهور قالوا: ينصرف إليها، وقال آخرون: يكفي أن يقطع عن تخصيصه بنفسه، فأما تنفيذه مع تجريده القصد في إضافة الطلاق إلى نفسه فبعيدٌ جداً.
وقد ذكر بعض الخلافيين أن اللفظ صريح، وإن قصد تطليق نفسه، وهذا لا احتفال به. وشبّه مشبهون هذا بما لو قال لامرأته: أنت الطلاق، من حيث إن لفظ الطلاق جرى على صيغة مستبشعة حائدةٍ عن جهة العرف في الاستعمال.
هذا تمام البيان في ذلك، ويترتب عليه فصل متصل بما تقدم من تفويض الطلاق إليها.
9013- فلو قال لها: طلقي نفسك، فقالت: طلقتك، فخاطبته، فقال الأصحاب: إن قصدت تطليق نفسها وقع، وقال المحققون: يكفي قصدها الطلاق، وفي تخصيصها الطلاق بالزوج على قصد وعمدٍ الكلامُ الذي ذكرناه.
والمسألة ليست خاليةً عن تردّد الأصحاب في أن الرّجل إذا فوّض إليها صريح الطلاق، فأتت بالكناية، فهل يحكم بوقوع الطلاق؟ فإن قولها: طلقتك على مخاطبة الزوج كناية كما قدّمنا.
9014- ولو قال السيد لعبده: أنا منك حُرّ، فهذا مما اشتهر فيه خلاف الأصحاب: فمنهم من قال: يحصل العتق إذا نواه، كالطلاق. ثم الترتيب في تنزيله على العبد، وفي إطلاقه، على ما مضى.
ومن أصحابنا من قال: لا يحصل العتق أصلاً؛ فإن الملك لا يوجب حجراً على المالك، والنكاح يوجب حجراً على الناكح.
ولو قال الرّجل لامرأته: أعتدُّ منك واستبرىء رحمي، ونوى الطلاق، فهذا مما اشتهر فيه ذكر وجهين: والوجه- إلغاء اللفظ؛ لأنه غير منتظم في نفسه، والكناية لفظة يظهر انتظامها في معنى، ولكن لا تتعين لذلك المعنى، فإذا كان الكلام في نفسه مثبَّجاً معدوداً لغواً، فلا معول عليه.
فصل:
قال: "ولو جعل لها أن تطلق نفسها... إلى آخره".
9015- نصدّر هذا الفصل بكلام في نية العدد: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً، أو طلقتك ثلاثاًً، فلا شك في وقوع الثلاث، سواء كانت المرأة مدخولاً بها، أو غير مدخولٍ بها، وقول الزوج ثلاثاًً لا يُقطع عن صدر كلامه؛ فإنّه منعطف عليه تبييناً وشرحاً وإيضاحاً، وليس في حكم كلام مبتدأ.
ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق، وطالق، فإنها تبين بالطلقة الأولى، ولا تلحقها الثانية؛ فإن المعطوف عليه مستقلٌّ بنفسه، وليس المعطوف بياناً له، ولا كشفاً لمعناه، فإذا استقل الكلام الأول بعد موجبه، فتبين المرأة.
ثم قال الفقهاء: قول الرجل: أنت طالق ثلاثاًً مشتمل على مفسَّر وتفسير، وزعموا أن قوله ثلاثاًً ينتصب على التفسير، وهذا جهل بالعربية، وذَهاب عن وضع اللسان، وبابُ التفسير والتمييز مشهور بين النحاة، وليس هذا منه، بل قول الزوج ثلاثاًً نعتُ مصدرٍ محذوف والتقدير: أنت طالق طلاقاً ثلاثاًً، وهو كقول القائل: ضربت زيداً شديداً، والتقدير ضرباً شديدأ.
9016- ثم معتمد المذهب، والقطبُ الذي عليه تدور المسائل أن الفعل من الطلاق والاسمَ المشتق يُشعران بالمصدر لا محالة، والمصدر يصلح للواحد والجنس، فتَطرَّق إمكانُ العدد، فإنْ لَفَظَ الزوج به، فذاك، وإن قال: أنت طالق، ونوى عدداً، وقع العدد الذي نواه، خلافاً لأبي حنيفة، فاستبان أن الفعل من لفظ الطلاق والاسمَ صريحان في أصل الطلاق، صالحان للعدد على التردّد، والنيةُ شأنها تعيين وجهٍ من وجوه التردد.
ولو قال لامرأته: أنت طالق واحدة، ونوى الثلاث، أو ثنتين، فهذا ينقسم قسمين:
أحدهما: أن ينصب قوله واحدةً نصبه قوله ثلاثاًً، والآخر أن يقول واحدةٌ بالرفع، فأمّا إذا نصبَ قوله واحدةً، فهذا يستدعي ذكر مقدمة، ستأتي مشروحةً في موضعها، إن شاء الله، ونحن نذكر مقدار غرضنا منها.
فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، ولم يخطر له إلى استتمام اللفظ الاستثناءُ، ثم لمّا تم لفظ الطلاق، خطر له أن يقول على الاتصال: إن شاء الله؛ تداركاً لما تقدّم، فقال: إن شاء الله متصلاً، فقد قال أبو بكر الفارسي- في كتابه المترجم مسائل الإجماع: يقع الطلاق في هذه المسألة إجماعاً، ووافقه معظم الأصحاب في دعوى الإجماع، وتعليلُه: أن لفظ الطلاق تم، ثم حاول استدراكه من بعدُ، فكان قصده في الاستدراك مردوداً.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق؛ فإن شرط وقوعه ألاّ يُجري على الاتصال به لفظاً ما يكون استدراكاً. وهذا الوجه على اشتهاره مزيّفٌ، لا تحصيل له، وسنعود إلى ذلك في مسائل الاستثناء، إن شاء الله.
9017- فنقول الآن: إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة، ثم زعم أنه قصد بجميع كلامه ثلاث طلقات، وبسط قصده على أوّل كلامه وآخره، فهل يقع الثلاث؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: لا يقع الثلاث؛ لأن لفظه يناقض قصدَه، والقصد بمجرده لا يعمل ولا ينفذ في الثلاث واللفظ على مناقضته، كنية الطلاق عند ذكرٍ من الأذكار عند قراءة القرآن. هذا إذا نوى الثلاث بجميع اللفظ.
ولو نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، ثم خطر له أن يقول واحدة، فعلى طريقة الفارسي يقع الثلاث؛ فإنه طبق نية الثلاث على لفظ محتملٍ لها، ثم أتى بعد ذلك بلفظٍ يناقض ما تقدّم، فلا حكم له.
وإن جرينا على الوجه الضعيف وأعملنا الاستثناء الذي وصله لفظاً، وإن قصده بعد نجاز اللفظ، فيخرّج على ذلك الوجهان المذكوران فيه إذا نوى بجملة اللفظ الثلاث.
وإذا ضممنا هذه الصورة إلى الصورة الأولى، انتظم فيها أوجهٌ: أحدها: أن الثلاث تقع، والثاني: أنها لا تقع. والثالث: أنه إن نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، تقع، وإن نوى الثلاث بمجموع اللفظ، لا تقع.
ولو قال: أنت طالق واحدةً، وزعم أنّي أردت طلقةً واحدةً ملفّقاً من ثلاث طلقات، وقعت ثلاث طلقات، فإنّ ما قاله ممكن، والطلاق الواحد الملفق حكمه ما ذكرناه.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً أن الثلاث لا تقع؛ لأن لفظ الواحد ينافي العدد، وتقدير التلفيق بعيد عن الدّرْك، والنياتُ إنما تعمل إذا كانت تطابق وجهاً مفهوماً من صيغة اللفظ.
والخلاف في هذا يقرب من تردد الأصحاب في ألفاظٍ اختلفوا في إلحاقها بالكنايات، كما سنصفها من بعدُ، إن شاء الله.
9018- ولو قال لامرأته: أنت واحدةٌ، ونوى الثلاث، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أنها تقع على تأويل حمل الواحدة على التوحّد والتفرد عن الزوج، والمرأة قد تنفرد عن زوجها بطلقة، وقد تنفرد عنه بثلاث طلقاتٍ، وذكر القاضي هذا، وصححه، وحكى معه وجهاً آخر: أن الثلاث لا تقع، لمنافاة لفظة الواحدة لها.
وهذا فيه نظرٌ دقيق عندي، فأقول: إن خطر له التوحّد وربطَ الطلاق به، على التفصيل الذي ذكرناه، فلا يجب أن يكون في هذا خلاف. وإن نوى الثلاث، ولم يخطر له وجهُ حمل الواحدة عليها، فهذا فيه احتمال، وينبغي أن يكون هذا المسلك على ذُكر الفقيه في مسائل ستأتي على القرب.
9019- ومما وصله الأصحاب بهذا المنتهى أنه لو قال لامرأته: أنت طالق واحدةٌ-بالرفع في واحدة- فهذا يُبنى على ما لو قال لها: أنت واحدةٌ، وقد ذكرنا أن الأصح أنه إن نوى الثلاث، وقع. فلو قال: أنت طالق واحدةٌ يُحمل هذا في العربية على إتباع الصفةِ الصفةَ، وكأنه قال: أنت طالقٌ أنتِ واحدةٌ.
ثم الكلام-في إفراد الواحدة بالذكر- ما ذكرناه.
وقد يعترض في هذه المسألة وفيه إذا قال: واحدةً بالنصب الفرقُ بين أن يكون صاحب اللفظ معرباً أم غيرَ معرِبٍ، وهذا فنٌ سيأتي، ولسنا نخوض فيه الآن، والتنبيهُ عليه كافٍ.
9020- ولو قال لامرأته: أنت طالق، فماتت، فقال: ثلاثاً، ووقع موتُها مع قوله ثلاثاًً، ففي المسألة أوجه: أحدها: أن الثلاث تقع، لأن الموقَع هو الطلاق، وقد صادف حالة الحياة والثلاث منعطفة على الطلاق، فلا يضر وقوع اللفظ الثاني في حالة الموت.
والوجه الثاني- أنه لا يقع شيء؛ لأن جميع الكلام في حكم المقصود الواحد، فإذا وقع بعضه في حالةٍ تنافي وقوعَ الطلاق، لم يقع الطلاق، كما لو قال لامرأته: "أنت طالق"، فوقع اللام والقاف في حالة موتها.
والوجه الثالث: أنه يقع طلقة واحدة؛ فإن قوله: "طالق" مستقل بإفادة الطلاق، وهذا صادف الحياة، فوجب إعمال هذا، وإحباط ما يقع بعد الموت.
ولو قال: أنت طالق، وكان على عزم الاقتصار عليه، فماتت، فقال: ثلاثاً، فلا شك أن الثلاث لا تقع في هذه الصورة، وينتفي الوجه الثاني أيضاً، فلا يبقى إلا الحكم بوقوع الواحدة.
وهذا يلتفت على مسألة الفارسي إذا قال: أنت طالق، ثم بدا له أن يقول: إن شاء الله، وقد ذكرنا أن المذهب إلغاء الاستثناء، وفيه وجةٌ أن الاستثناء لا يلغو، ويبعد أن نقول في التفريع عليه: إنه لا يقع شيء على وجهٍ؛ فإنه أتى بما لو قصده ابتداء، لما وقع شيء في وجهٍ.
ولو قال: إن شاء الله بعد موتها، والتفريع على الوجه الضعيف، فيجب القطع بأن الاسثتناء لا يعمل- والله أعلم.
ولو كان قصد أن يقول: إن شاء الله، فلما قال: أنت طالق، قال: إن شاء الله مع موتها، هذا محتمل لمصادفة الاستثناء حالة الموت.
وسنعود إلى هذا في فروع الاستثناء، إن شاء الله.
9021- وإذا قال لامرأته: أنت بائن، ونوى ثنتين، وقعتا، كما إذا نوى واحدةً أو ثلاثاًً، وقال أبو حنيفة: يقع الثلاث إذا نواها، وتقع الواحدة، ولا يقع الثنتان، وله في ذلك مسلك اشتملت الأساليب على ذكره والردّ عليه.
وكل ما ذكرناه في تأسيس المذهب في احتمال اللفظ للعدد إذا كان منشىء الطلاق هو الزوج.
9022- ونحن نعود وراء ذلك إلى مسائل تتعلق بتفويض الطلاق؛ فإذا قال الرجل: لامرأته: طلقي نفسك واحدةً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، وقعت الواحدة، ولغا الزائد.
ولو قال: طلقي نفسك ثلاثاًً، فطلقت نفسها واحدةً، وقعت الواحدة. وقال أبو حنيفة: إن فوّض إليها ثلاثاًً، فطلقت واحدة، وقعت الواحدة، كما ذكرنا، وإن فوض إليها واحدة، وطلّقت نفسها ثلاثاً، لم يقع شيء.
ولو قال لامرأته: طلقي نفسك، ونوى تفويض الثلاث إليها، فقالت: طلقت نفسي، ونوت الثلاث، وقعت الثلاث؛ فإن التفويض بالنية في العدد بمثابة التفويض بالكنايات، مع العلم بأن التعويل فيها على النية.
فإذا قال: أبيني، فقالت: أبنت نفسي، فلابد من النية في الجانبين، فالقول في النية المتعلقة بعدد الطلاق كالقول في النية المتعلقة بأصل الطلاق.
ولو قال لها: طلقي نفسَك، ونوى الثلاث، فقالت: طلقت نفسي، ولم تتعرض للنية، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يقع إلا طلقةٌ واحدة؛ فإنها لم تنو العدد، فنفذ اللفظ فيما هو صريح فيه من غير مزيد، وهو كما لو قال لها: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: طلقت نفسي واحدة.
وذهب بعض الأصحاب إلى أن الزوج إذا نوى الثلاث ولم تتعرض المرأة للنية، وقد جرى النطق بالصريح من الجانبين، فيقع الثلاث؛ تعويلاً على نيته؛ فإنه فوض إليها لفظ الطلاق، وهو تَولَّى قصدَ العدد.
وهذا ضعيفٌ جداً؛ إذ لا خلاف أنه لو قال: أبيني نفسك، ونوى، فقالت: أبنت نفسي، لم يقع الطلاق تعويلاً على نيته، فليكن الأمر كذلك في العدد؛ فإن الصريح كناية في العدد.
9023- ولو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: "طلقت نفسي"، أو قالت: "طلّقتُ"، ولم تتلفظ بعدد ولم تنوِه، فقد قال القاضي: يقع الثلاث؛ فإن قولها جرى جواباً، والإيجاب في حكم المعاد في الجواب، وقد يجري القبول على وجهٍ لا يفهم لو قدر منفرداً، ولكنه ينتظم مع ابتداء الخطاب بسبب البناء عليه، ثم قال: ليس هذا كما لو قال: طلقي نفسك، ونوى الثلاث، ولم يتلفظ بها، فقالت: طلقت نفسي ولم تنو الثلاث، وذلك أن العدد في جانب الزوج مربوط بالنية، فلا يمكن بناء كلامها على النية، فإن التخاطب لا يقع إلا بالنية وهي على الجملة لا تحل محل الصّريح.
هذا كلامه.
وقد ذكرنا خلافاً فيه إذا نوى الزوج العدد، ولم تنو المرأة، ومن تمسك بالوجه الضعيف، وحكم بأنّ الثلاث تقع، فله أن يعتضد بما إذا قال الزوج صريحاً: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: طلقت نفسي.
ولنا تفصيلٌ ونظر في تصريح الزوج بتفويض الثلاث مع اقتصارها على الطلاق من غير ذكر عددٍ، فنقول: إن كان التفريع على أن تفويض الطلاق تمليكٌ، وجوابها بمثابة القبول في مقابلة الإيجاب، فيتجه ما ذكره من بناء كلامها على كلامه؛ فإن قولها على قول التمليك بمثابة القبول مع الإيجاب.
فأما إذا جعلنا التفويض توكيلاً، فالوجه أن لا يقع الثلاث؛ فإنّ تصرف الوكيل لا ينبني على التوكيل، وإنما هو افتتاح تصرّف، ولو كان مبنياً على التوكيل، لشُرط اتصاله به.
ومن قال: يشترط على قول التوكيل اتصالُ كلامها بالتفويض، فقد يخطر له ما ذكره القاضي أيضاً.
ويجوز للفقيه أن يقلب هذا الترتيب، فيقول: إن جعلنا التفويض توكيلاً، فلا نبني كلامها على كلامه، وإن جعلناه تمليكاً، فالمسألة محتملة: يجوز أن يسلك فيه مسلك البناء، كما ذكره القاضي، ويجوز أن يقال: لا يبنى قولها على قوله؛ فإنها متصرفة على الابتداء تصرفاً له صيغة التمام، وليس كالقبول الذي لا يقع إلا شقّاً، والدليل عليه أنه لو قال: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلقت نفسي واحدة، وقعت الواحدة، ولو قال: طلقي نفسك واحدة، فطلقت نفسها ثلاثاًً وقع من الثلاث واحدة، ولو كان تطليقها مع تفويضه كالإيجاب والقبول، لما وقع الطلاق مع الاختلاف؛ فإن الرجل لو قال لمن يخاطبه: بعت منك عبدي هذا بألف، فقال: اشتريته بألفين، لم ينعقد العقد، ولم نقل: ينعقد بالألف ويلغو الألف الزائد، وهذا النوع ينفذ من الوكيل.
هذا منتهى القول في تفويض العدد مع تصوير موافقتها ومخالفتها لفظاً وقصداً.
9024- ثم قال الشافعي: "ولو طلق بلسانه واستثنى بقلبه... " وهذا طرف من أطراف التديين، وقد استقصيناه فيما تقدم.
فصل:
قال: "ولو قال: أنت عليَّ حرام يريد تحريمها بلا طلاق... إلى آخره".
9025- هذا الفصل نفرضه حيث لا نحكم بأن لفظ التحريم صريح في الطلاق، ثم نذكر مقصود الفصل، حيث نحكم بكونه صريحاً في الطلاق.
9026- فإذا لم نجعله صريحاً في الطلاق وقد قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أو قال: حرّمتك، أو أنت محرّمة، فقد قال الأصحاب: إن نوى بما قال طلاقاً، فهو طلاق.
وإن نوى الظهار، فهو ظهار.
وإن نوى تحريم ذاتها على نفسه، تلزمه كفارة اليمين بنفس اللفظ، ولم يتوقف لزومها على إلمامه بها.
وإن أطلق اللفظ، ولم يقصد شيئاً، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها: أن اللفظ صريح في إيجاب الكفارة.
والثاني: أنه كناية بحيث لا يجب بمُطْلَقه من غير نيةٍ شيءٌ.
والثالث: أنه كناية في حقّ الحرة، صريحٌ في حقّ الأمة إذا خاطبها به، وهذا الوجه ذكره العراقيون.
9027- التوجيه: من جعله صريحاً في إيجاب الكفارة، تعلق بظاهر قوله تعالى في مخاطبة النبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [الآيات التحريم:1-3]، والصحيح في سبب نزولها أنه عليه السلام خلا بمارية القبطية في نوبة حفصة، فاطلعت عليه، وقالت: أفي بيتي؟ وفي يومي؟ فاسترضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلبها، وحرّم مارية على نفسه، فنزلت الآية وقال تعالى في مساقها: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}، ثم مقتضى القرآن إيجاب الكفارة بنفس اللفظ من غير تعرّض لقصد،.................................
وهذا بمثابة ذكر الظهار وكفارته في آيات الظهار.
ومن قال: مطلق التحريم لا يكون صريحاً في اقتضاء الكفارة، احتج بأنّ الزوج لو نوى به الطلاق، لكان طلاقاً، ولو كان صريحاً في اقتضاء الكفارة، لما جاز نقله عما هو موضوع فيه، كالطلاق إذا نوى الزوج به ظهاراً، وكالظهار إذا نوى به طلاقاً.
ومن قال بالوجه الثالث، اعتمد القرآن وسببَ نزوله، وقال: المعتمد في هذا الأصل الكتاب، وهو وارد في المملوكة، والحرّةُ مشبَّهةٌ بالمملوكة، فلا يمتنع أن يكون اللفظ صريحاً في موضوعه.
9028- ثم مذهب الشافعي أن التحريم حيث يوجب الكفارة لا يتنزّل منزلة اليمين، حتى يقال: يتوقف وجوب الكفارة على مخالفة التحريم بالإقدام والاستمتاع، وأبو حنيفة جعل لفظ التحريم يميناً بمثابة قوله: "والله لا أطؤك" ثم أقامه إيلاءً في النكاح، وحلفاً في ملك اليمين، ثم لم يخصص أصله بالفروج، بل قضى بأن تحريم الأطعمة والأشربة وغيرها من المستحلاّت بمثابة اليمين المعقودة على الامتناع منها. فإن خالف اليمين، وجبت الكفارة.
وما ذكرناه من اقتضاء التحريم الكفارةَ يختص بفرج الحرّة والأمة ولا يتعداهما إلى ما عداهما من المستحلات، وسنذكر حقيقة هذا في أول كتاب الأَيْمان، إن شاء الله.
9029- ولو قال لزوجته أو أمته: أنت عليّ حرام، ثم زعم أنه أراد الحلف على الامتناع من الوطء، ففي قبول ذلك منه وجهان:
أحدهما: أن اليمين لا تنعقد، وهو الذي صححه أئمة المذهب؛ فإن عماد اليمين ذكرُ اسمٍ معظَّم أُمرنا بالإقسام به إذا أردنا القسم، ولفظ التحريم ليس صريحاً فيه ولا كناية، وإنما لفظ التحريم ذكر المقسَم فأين القسم والاسم المقسَم به؟
ومن أصحابنا من قال: يثبت القسم إذا نواه؛ فإن موجب القسم عند الحنث يضاهي موجب التحريم، وقد قال أهل اللسان: "قول القائل: "لأدخلنّ الدار" قسمٌ، واللام لام قسم" فليس يبعد تحصيل اليمين بالنية إذا جرى مقصود اليمين بعبارة مؤكدة.
وهذا غير مرضي؛ فإنا لا نعرف خلافاً أن الرّجل إذا قال: لأدخلن الدار، ونوى القسم، لم يكن مقسماً، وأحكام الشرع لا تؤخذ من تقديرات العربية، واليمينُ منها منوطةٌ تعبداً باسم الله، أو بذكر صفةٍ من صفاته الأزلية.
ثم من جعل التحريم بالنية يميناً تردَّدُوا في لفظ التحريم في سائر المستحلاّت كالمطاعم والملابس وما في معناها، فقال القيّاسون من هؤلاء المفرّعين: التحريم يصير يميناً بالنية في جميع هذه الأشياء.
وقال آخرون: التحريم إنما يصير يميناً في المنكوحات والإماء.
ومما يجب الإحاطة به أن هذا الخلاف الذي ذكرناه آخراً إنما نشأ من لفظة الشافعي، وهي أنه قال: "إذا حرم زوجته، يقال له: أصب وكفّر"، فظن ظانون أنه رضي الله عنه أوجب الكفارة بالإصابة على تقدير اليمين، وليس الأمر كذلك، بل أراد أن التحريم لا يحرّم وطأها بخلاف الظهار، فإنه يثبت تحريماً ممدوداً إلى التكفير، فأبان الشافعي أن التحريم لا يوجب حجراً أو حظراً في الوطء.
فإن قيل: هلا كان التحريم كالظهار؟ قلنا: لو كان كالظهار، لكان ظهاراً، فهو إذاً لا يقتضي التحريم، ولكن يقتضي وجوب الكفارة، وهو نازع من وجهٍ إلى اليمين، وليس يميناً ويشبه في ظاهره الظهارَ، وليس ظهاراً ولا في معناه.
9030- ولو قال لنسوة: حرمتكن وقصد تحريم أنفسهن، فيلزمه كفارة واحدة أم كفارات بعددهن؟ فعلى قولين ذكرهما صاحب التقريب والقاضي، وكان شيخي وطوائف من أئمة المذهب يقطعون بأن الكفارة تتّحد، فمن ذكر القولين قرّب التحريم المضاف إلى النسوة في هذا المقام من الظهار، فلو قال الزوج لنسوةٍ: أنتنّ عليّ كظهر أمّي، ففي تعدد الكفارة قولان، سيأتي ذكرهما.
ومن قطع باتحاد الكفارة، فوجهه أن الظهار يُثبت التحريم في النسوة، ويشابه الطلاق من هذا الوجه، والتحريم لا يثبت في ذواتهن ويشابه اليمين من هذا الوجه، ويشابهها أيضاً في صفة الكفارة.
ومن سلك طريقة القولين قال: وجوب الكفارة في التحريم لا يتوقف على المخالفة، فكان حريّاً بأن يشبّه بالظهار، ولو خاطب إماء وحرمهن بكلمة، فهو كما لو حرّم نسوة بكلمة.
ثم إن قضينا باتحاد الكفارة إذا خاطب النسوة أو خاطب الإماء، فلو قال لنسوته وإمائه أنتن محرمات عليّ، أو حرمتكن، فمن أصحابنا من قال: لا تجب إلا كفارة واحدة تفريعاً على اتحاد الكفارات إذا خاطب نسوةً مجردات أو إماء منفردات، وهذا ظاهر القياس.
ومن أصحابنا من قال: هاهنا تتعدد الكفارة لتعدد الجهة نكاحاً وملكاً.
وهذا خيالٌ لا أصل له، وإن كان مشهوراً، حكاه الصيدلاني وغيره، ثم صاحب الوجه الضعيف حيث انتهى التفريع إليه لا يوجب إلا كفارتين؛ نظراً إلى تعدد الملك والنكاح، وهذا كلام مضطرب، والوجه تنشئة الخلاف من عدد المحرمات منكوحات كنّ، أو إماء، أو مختلطات.
9031- وكل ما ذكرناه مفروض فيه إذا لم يكن لفظ التحريم صريحاً في الطلاق.
فإن كان صريحاً في الطلاق لاستفاضته وشيوعه، وتفريعنا على أن مأخذ الصرائح الشيوع، فإذا أطلق التحريم، فهذا نفرّعه على أن التحريم في اقتضاء الكفارة صريح أم كناية؟ وتحقيق القول فيه أنا إن حكمنا بأن مأخذ الصرائح الشيوع، فلا يتصور كون لفظ التحريم صريحاً في البابين؛ فإن المعنيّ بالشيوع أن لا يستعمل في اطراد العادة إلا في معنىً، ولا يقع الحكم للفظ بكونه صريحاً إلا بشرطين:
أحدهما: الاستفاضة، والآخر- أن لا يستعمل إلا في معنى المطلوب.
وإذا بان أنا نضم إلى الشيوع الحصر، فلا يتصور أن يشيع لفظ على الحد الذي ذكرناه في معنيين مع اتحاد الزمان والمكان، وهذا بمثابة إطلاق الغلبة في النقود، فالغالب هو الذي يندر التعامل على غيره، ويستحيل تقدير الغلبة في نوعين؛ فإنّ قصارى هذا التقدير يجرّ تناقضاً، وهو أن كل واحدٍ منهما أغلب من الثاني، فيلزم منه إثبات شيئين كلّ واحدٍ أغلب مما هو أغلب منه. فإذا شاع اللفظ في مسألتنا في أحد المعنيين، كان صريحاً فيه كناية في الثاني.
9032- وإن جوزنا أن يكون للصريح مأخذان:
أحدهما: ورود الشرع، والآخر- الشيوع على النعت المقدّم، واعتمادُ الشرع في باب الصرائح يشهد له نصُّ الشافعي على أن الفراق والسراح صريحان، وإن عرفنا قطعاً أنهما ما شاعا شيوعاً يتميزان به عن الخليّة، والبريّة، والبائن.
فلو فرض شيوع التحريم في الطلاق وفرعنا على أن الصرائح تؤخذ من مأخذ الشرع أيضاً، فهل ينتهي التفريع إلى كون التحريم صريحاًً في البابين؟ وكيف السبيل في ذلك؟ هذا فيه نظر يجب الاهتمام به، ولا يتجه فيه إن أثبتنا المأخذين إلا أمران:
أحدهما: أن نسلك مسلك التغليب إذا جرى اللفظ مطلقاً، ونعتقد أن الطلاق أغلب مثلاً لوجوه لا تكاد تخفى، واللفظ يطابق المعنى إذا كان طلاقاً؛ فإن الطلاق يحرم النفس، والتحريمُ الموجب للكفارة لا يحرم النفس. هذا مسلكٌ.
وإن انقدح للفقيه استواء الوجهين، فلا مطمع في تحصيل معنيين بلفظ واحدٍ، هذا ما لا سبيل إليه وإن جرّد القاصد قصده إليهما جميعاًً؛ لأن اللفظ الواحد لا يصلح لمعنيين جميعاً إذا لم يوضع في وضع اللسان للجمع، فلا يتجه إذاً إن لم ينقدح وجهٌ في الترجيح إلا أنه يخرج عن كونه صريحاًً في البابين جميعاًً، لتعارض العرف والشرع، واستحالة الجمع، وامتناع تخصيص أحد الجانبين، فلا يعمل اللفظ إذاً في أحد المعنيين إلا بالقصد.
هذا منتهى النظر.
9033- ومن لطيف الكلام في هذا أن الصريح الذي هو على الدّرجة العليا.
كالطلاق، فإنه لا يُعدَل عن ظاهره إلا على مسلك التديين، ويلتحق الظهار به أيضاً لاستوائهما في الجريان في الجاهلية والإسلام، وكل ما يلتحق بالصرائح لعموم عرفٍ متجدّدٍ-فالعرف لا ثبات له- فقد يعرض استعقاب العرف عرفاً آخر، وقد مهدنا في قاعدة الصرائح أن من الألفاظ ما يعمل مطلَقُه، وتنصرف النية فيه، وهذا من ذاك، فالتحريم إذا شاع على الحدّ الذي نعهده، فلا يكاد يبلغ مبلغ شيوع الطلاق في كل زمانٍ ومكانٍ، ولا يعد مستعمل التحريم في غير مقصود الطلاق آتياَّ بَشاذًّ نادرٍ، بخلاف من يستعمل الطلاق ويبغي غير معناه، ومن أحاط بهذه المرتبة من الصرائح، بنى عليه ما ذكرناه، من أن التحريم وإن كان صريحاً في اقتضاء الكفارة، فيصير طلاقاً بالنية.
هذا تحصيل القول في ذلك، وتبليغه المرتبة الأقصى في البيان.
9034- ومما يتعلق بتمام الكلام في فصل التحريم أنه لو قال لأمته التي هي أخته من الرضاع أو النسب: حرّمتك، أو أنت عليّ حرام، وزعم أنه أراد تحريمها في ذاتها، فلا تلزمه بهذا القول كفارةٌ، لأنه وصفها بما هي متصفة به من التحريم، وإنما يُلزم لفظُ التحريم الكفارةَ إذا خاطب به مستحلّه، فيناقض لفظُه موجَبَ الشرع، فيعدّ ما جاء به كلاماً مخالفاً للشرع، ثم تعبّد الشرعُ فيه بكفارة.
وإذا قال لأمته المعتدة، أو المرتدة، أو المزوّجة، أو الوثنية، أو المجوسية: أنت عليّ حرام، وأراد تحريمها في ذاتها، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لايلزمه شيء لأنه وصفها بالتحريم في حالةٍ كانت فيها محرّمة، فلا تناقض، ولا حلف.
والثاني: يلزمه لأنها بمحل أن يستبيحها بتغاييرَ تلحق.
وإذا خاطب بالتحريم امرأته المُحْرِمة، ففيه وجهان، كما ذكرناه.
وأطبق المحققون على أنه لو خاطب الرجعية، لم يلتزم شيئاً، لأنها مُحرَّمة خالية عن الحلّ، وفيها احتمال من طريق المعنى، وإن لم نجد فيه نقلاً.
وإذا خاطب بالتحريم الصائمة والحائض، التزم الكفارة؛ فإن تلك العوارض لا حكم لها، والتحريم لا يعم أيضاً جميع وجوه الاستمتاع، ولفظ التحريم عام من جهة الوضع.
فإذا قال لامرأته: أنت عليّ كالميْتة، أو الدم، أو الخمر، أو الخنزير، فهو كما لو خاطبها بلفظ التحريم، ويمكن أن يقال: إن جعلنا التحريم صريحاً لمورد القرآن، فهذه الألفاظ لا تكون صرائح، والعلم عند الله. وقد انتجز قولنا في قاعدة التحريم.
فصل:
قال: "فأما ما لا يشبه الطلاق مثل قوله: بارك الله فيك... إلى آخره".
9035- غرض الفصل أنّ شرط ما يوصف بكونه كناية أن يكون مشعراً بالمقصود، ثم إن ظهر إشعاره، لم يخف كونه كنايةً، وإن خفي، فقد يُثيرُ خفاؤهُ خلافاً. فلو قال لامرأته: تجرّعي أو تردّدي أو ذوقي، فهذه الألفاظ كنايات، فإنها من طريق الاستعارة تشعر بالفراق، ولو قال: اشربي، وزعم أنه نوى الطلاق، فوجهان، قدمنا ذكرهما، ومن جعله كناية قدّر فيه اشربي كأس الفراق.
وكان شيخي يقطع بأن قوله: "كلي" ليس بكنايةٍ، وألحق القاضي والعراقيون كلي بقولهِ: "اشربي" وهذا فيه بعد ولو قال: بارك الله فيك، أو اسقيني، أو أطعميني، أو ردّديني، أو ما أشبه ذاك، فليس بطلاق، لأن هذه الألفاظ غيرُ مشعرةٍ بالفراق.
وإن حملها حامل على معنىً بعيد، عُدَّ متكلفاً، آتياً بما يلتحق بقسم التعقيد والإلغاز.
ولو قال: "أغناكِ الله"، ونوى الطلاق، فقد ذكر العراقيون وجهين، ومأخذ أحدهما من قوله عزّ وجل: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] فكأنَّه قال لها: فارقيني يغنك الله. وهذا بعيد، ولا يجوز أن يحمل على ذلك قوله: "بارك الله فيكِ"، وإن أمكن على بعدٍ أن يقول: أردت أغناك الله؛ فلا تنتهي التقديرات في الكنايات إلى هذا المنتهى.
فليقس القائس على محل الوفاق والخلاف ما لم نذكره.
فصل:
9036- ثم قال الشافعي: "ولو قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاًً للسُّنة وقعن معاً... إلى آخره".
9037- مقصود الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاً وقعت الثلاث عند الشافعي وأصحابه، وهو مذهب عامة العلماء.
وذهب بعض السلف إلى أنه لا يقع إلا واحدة، وهذا إنما قاله بسبب أن قول الرجل: "أنت طالق" مستقلٌّ بنفسه، فينبغي أن تبين المرأة، به فإذا بانت، لم يلحقها إلا واحدة. ومعتمد مذاهب العلماء أنّ آخر الكلام منعطفٌ على أوّله، كما أنّ أوّله مربوط بآخره، وقوله: "ثلاثاً" من تمام قوله: "طالق".
ولو قال للّتي لم يدخل بها: "أنت طالق وطالق" بانت بالأولى، ولم تلحقها الثانية وستأتي هذه المسائل بما فيها موضحة إن شاء الله تعالى.