فصل: باب: الطلاق بالوقت وطلاق المكره:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الطلاق بالوقت وطلاق المكره:

قال الشافعي: "وأي أجلٍ طلّق إليه لم يلزمه قبل وقته... إلى آخره".
9038- إذا علق الرجل طلاق زوجته بأمرٍ في الاستقبال، تعلّق به، ولم يقع قبل تحققه، ولا فرق بين أن يكون ما علّق الطلاقَ به مما يأتي لا محالة، وبين أن يكون الظن متردداً فيه: قد يكون وقد لا يكون؛ فإذا قال: إن دخلت الدارَ، فأنت طالق، فهذا مما لا يقطع بكونه.
فإذا قال: إذا طلع الشمس، فأنتِ طالق، فهذا مما يكون لا محالة، والطلاق لا يقع في الموضعين قبل تحقق الصفة؛ خلافاً لمالك؛ فإنه قال: إذا علق الزوج الطلاق بما يكون لا محالة، انتجز الطلاق في الحال، وإنما يقف وقوفه على وجود الصفة إذا لم تكن مستيقنة الكون، قد تكون وقد لا تكون.
9039- ثم ذكر الشافعي مسائل في ذكر الأوقات التي تُفرض متعلقاً للطلاق والعتاق، والغرض منها بيان معاني الألفاظ المستعملة فيها، فقال: "لو قال في شهر كذا... إلى آخره".
إذا قال الزوج لزوجته: أنت طالق، في أول شهر رمضان، طلقت كما أهلّ الهلال.
ولو قال: أنت طالق في شهر رمضان، وقع الطلاق مع أوّل جزء منه، وكذا إذا قال: في أول شهر كذا، أو في غرّة شهر كذا، أو في أول غرة شهر كذا، فالطلاق في هذه المسائل يقع مع أول جزء من الهلال، والأصل المعتمد أن اسم الشهر إذا تحقق، فقد تحققت الصفة التي هي متعلق الطلاق، والطلاق ليس معلَّقاً بدوام الصفة، ولا بنجازها، فاقتضى ذلك الوقوع مع أول الاسم.
ومن دقيق الكلام في هذا أنه قد يظن الظان أن الوقت ظرفٌ للطلاق وشرط الطلاق الواقع فيه أن يحتوش بزمان سابق، وهذا تقدير محال، فالمعنيّ بالظرف الزماني انطباق فعلٍ على زمان، فأما اشتراط تقدم زمان أو تأخّر، فلا.
9040- وإذا قال: أنت طالق في يوم كذا، وقع الطلاق مع أول جزء من الفجر، وقال أبو حنيفة: يقف وقوع الطلاق على انتهاء ذلك اليوم بغروب الشمس، وهذا بناه على أصلٍ له في العبادات، وذلك أنه قال: "كل فعلٍ عُلِّق بوقتٍ موسّع، تعلّق بانتهاء ذلك الوقت" كمصيره إلى أن الصلاة تجب بآخر الوقت، وهذا جهل بموضوع البابين: أما الصلاة، فإن ربط وجوبها بآخر الوقت أخذاً من أن المؤخِّر لا يعصي، فهذا له وجهٌ على حال، وفي معارضته كلامُ أصحابنا. فأما مأخذ وقوع الطلاق المعلق، فمِن تَحقُّق الصفة، ولا وقوف بعد تحقق الصفة، وليس هذا مأخوذاً من وجوبٍ حتى ينظرَ الناظرُ في إثبات المعصية ونفيها.
9041- وإذا قال: أنت طالق في آخر شهر رمضان، ففي المسألة وجهان ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنها تطلق في آخر جزء من آخر الشهر؛ فإن ذلك الجزء هو الآخر حقاً.
والوجه الثاني- أنها تطلق مع أول جزء من ليلة السادس عشر؛ فإنه إذا مضى النصف الأول عُدَّ ما بعده آخراً، وهذا أول الآخر. وقد ذكرنا أن الطلاق يقع كما تحقق الاسم.
وإذا قال: أنت طالق في أول آخر الشهر، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنها تطلق في أول ليلة السادس عشر، فإنا أوضحنا أن النصف الأخير ينطلق عليه اسم الآخر، والجزء الأول من النصف الثاني أول الآخر، وهذا بناء على ما ذكرناه من أنه إذا قال: أنت طالق في آخر الشهر، يقع الطلاق في الجزء الأول من ليلة السادس عشر، وأولُ الاَخِر والآخرُ بمثابة، فإن الآخر، وإن كان مطلقاً، فنحن نكتفي بأوله.
هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني- أن الطلاق يقع كما طلع الفجر من اليوم الأخير من الشهر، وهذا بناء على قولنا: إذا قال لامرأته: أنت طالق آخر الشهر تطلق مع الجزء الأخير، فإذا ضَمَّ إلى الآخر أوّلاً مضافاً إليه، وقال: أنت طالق في أول آخر الشهر، طلبنا أقرب أولٍ إلى الآخر، فوجدناه اليوم الأخير.
والمسألة محتملة حسنة.
9042- ولو قال: أنت طالق في آخر أول الشهر، ففي المسألة أوجه ذكرها العراقيون وغيرهم: أحدها: أنها تطلّق مع آخر جزء من الليلة الأولى من الشهر؛ فإن هذا أقرب زمان يضاف فيه الآخر إلى الأول.
والوجه الثاني- أن الطلاق يقع مع آخر جزء من اليوم الأول، فنعتبر الليلة واليوم في الأولية، ثم نأخذ آخر هذا الزمان.
والوجه الثالث: أنا نحكم بوقوع الطلاق مع آخر جزء من اليوم الخامس عشر، فإن النصف الأول يعدّ أول الشهر، وآخر هذا الأول ما ذكرناه.
9043- ولو قال وهو في بياض نهار: إذا مضى اليوم فأنت طالق، طلقت بغروب شمس ذلك اليوم، وإن لم يبق من اليوم إلا لحظة، لأنه عَرَّف اليوم، فاقتضى التعريف ما ذكرناه.
ولو قال والحالة هذه: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فلا يقع الطلاق حتى ينتهي في الغد إلى الوقت الذي عقد اليمين فيه، لأنه نكّر اليوم، فالاسم المنكر يقتضي مسمّى كاملاً، وسبيلُ التكميل ما ذكرناه.
ولو قال بالليل: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فيقع الطلاق بغروب شمس الغد.
ثم لا يخفى أن الطلاق يقع مع الغروب، وهو أول جزء من الليلة المستقبلة، فلا يقع الطلاق مع آخر جزء من النهار؛ فإن الطلاق معلق بمضي النهار.
9044- ولو قال: أنت طالق في سَلْخ شهر رمضان، ففي ذلك أوجه: قال العراقيون: يقع الطلاق مع آخر جزء من الشهر؛ إذ به الانسلاخ.
وقال قائلون: يقع الطلاق كما يطلع الفجر من اليوم الأخير، وهذا ما ذكره القاضي.
ويحتمل أن يقال: يقع الطلاق مع أول جزء من اليوم الذي يبقى معه ثلاثة أيام إلى آخر الشهر؛ فإن السلخ يطلق على الثلاثة من آخر الشهر، كما أن الغُرة تطلق على الثلاثة من أول الشهر.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر- أنه إذا مضى من الشهر جزء، وقع الطلاق؛ فإن هذا أول الانسلاخ. وهذا على نهاية السقوط وليس مما يعتدّ به.
ولو قال: أنت طالق عند انسلاخ شهر رمضان، لم يتجه فيه إلا القطع بأنه يقع مع آخر جزء من الشهر، ووجهه لائح.
9045- ووصل الأصحاب بهذا أنه إذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، فأنت طالق، فإذا رأى الهلالَ غيرها، وهي لم تره، فالذي ذكره الأصحاب أن الطلاق يقع؛ فإن الرؤية تُطلَق والمراد بها العلم، ولو قال: أردت بالرؤية العيان، فلا شك أن هذا مقبول باطناً، إن كان صادقاً بينه وبين الله تعالى، وهل يقبل ذلك ظاهراً؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يقبل؛ لأن الرؤية المطلقة إذا أضيفت إلى الأهلّة عُني بها في الظاهر وقوع الهلال وثبوته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» وأراد العلم به.
والوجه الثاني: أنه يُقبل؛ فإن إرادة العيان بالرؤية ليس من الأمور البعيدة.
ولو قال: إذا رأيت فلاناً، فأنت طالق وكان غائباً، فقدم، فلم تره، فالظاهر حمل ذلك على العيان، وذلك أنا قلنا ما قلنا في الهلال لجريان الاعتياد فيه، وللألفاظ مجاري مختلفة باختلاف المحالّ؛ فإن الذي لم ير الهلال قد يقول-إذا غاب عن بلده-: ورأينا الهلال في الليلة الفلانية، ولا يقول: رأيت فلاناً وما رآه، والسبب فيه أن رؤية الأشخاص فيها أغراض، وليس في رؤية الهلال غرض، وينبغي للمحصل أن يعتقد أن مجاري العبارات التي يستعملها أرباب العقول لا تختلف إلا لأغراض مختلفة قد يظهر مُدركها، وقد يخفى.
وقال القفال: إذا ذكر الرؤية بالفارسية وأضافها إلى الهلال، فهي العيان، لا العلم، وهذا إنما قاله؛ من جهة أن الرؤية تطلق في العربية والمراد بها العلم، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45] وهذا الذي ذكره القفال فرقٌ متخيل بين اللغتين، لكن فيه خلل ناجع، وهو أنا لا ننكر أن المعنى الأظهر للرؤية العيانُ إذا لم يُعدَّ إلى مفعولين، فإذا قلت رأيت زيداً، كان ظاهره عاينت زيداً، وإذا عدّيته إلى مفعولين كان بمعنى الظن كقولك: رأيت زيداً عالماً، فإذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، كان هذا على معنى العيان في اللغة، وإنما حملنا ظاهره على العلم للعُرف واكتفاء الناس فيه برؤية الغير، وهذا يتحقق في لغة العجم، فلا فرق إذاً بين اللغتين.
فصل:
قال: "ولو قال إذا مضت سنة، فأنت طالق، وقد مضى من الهلال
خمسٌ... الفصل".
9046- إذا قال لامرأته: إذا مضت السنة، فأنت طالق، انصرفت إلى السنة العربية المفتتحة بالمحرم، فإذا كان في بقيةٍ من السنة، فانقضت، وقع الطلاق وإن كانت تلك البقية لحظة، كما ذكرناه في اليوم المعرّف.
ولو قال: إذا مضت سنة فأنت طالق، فلفظه يقتضي سنة كاملة؛ لما ذكرناه من أن الاسم المنكّر محمول على المسمى الكامل، والسنة الكاملة اثنا عشر شهراً بالأهلة، ولا معتبر بالشهور العجمية، وفي التواريخ شهور مختلفة يعرفها المقوّمون وفيها كبائس، ولا اعتبار بشيء منها في الآجال المطلقة في عقود الإسلام، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] ثم عمّ في عرف أهل الدين إطلاق السنة والأشهر على هذا المراد، فانضمّ إلى التعبد عمومُ العرف، فالسنة الكاملة اثنا عشر شهراً، فإن لم ينكسر الشهر الأول ومضت اثنا عشر شهراً بالأهلة، طُلِّقت، ولا يتصور ألا ينكسر الشهر الأول إلا بأن يعلق الطلاق على وجه يتأتى هذا الغرض فيه، وهو أن يقول: إذا مضت سنة من أول رمضان، فأنت طالق؛ فيتأتى اعتبار الأشهر بالأهلة.
9047- فأما إذا أنشأ وقال: إذا مضت سنة فأنت طالق، فقد يعسر تصوير عدم انكسار الشهر الأول؛ فإن قوله يقع في شهرٍ، والتنبيهُ في هذا كافٍ.
فإذا انكسر الشهر الأول، فهذا الشهر المنكسر لابد وأن يكمل ثلاثين يوماً، سواء خرج ذلك الشهر ناقصاً، أو كاملاً.
ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: نعدّ بعد مضي كسر هذا الشهر الأول أحدَ عشرَ شهراً بالأهلة، ثم نكمل ذلك الشهرَ الذي انكسر من الشهر الثالث عشر، حتى إذا كان مضى من الشهر الذي انكسر خمسٌ، ثم عددنا بعد هذا الشهر المنكسر أحد عشر بالأهلة من بين ناقص وكامل، فننظر الآن في حساب الشهر الأول المنكسر، فإن كان كمل ذلك الشهر ثلاثين، فقد مضى خمسة وعشرون، فنحسب من هذا الشهر خمسة أيام، فإن كان ذلك الشهر ناقصاً، فنحسب من ذلك الشهر أربعة وعشرين، ونحسب من الشهر الثالث عشر ستة أيام.
هذا معنى استكمال ذلك الشهر ثلاثين يوماً. وقال أبو حنيفة: مهما انكسر السْهر الأول، انكسر سائر الشهور، فإذا وجب اعتبار التكميل في الشهر الأول، وجب اعتبار التكميل في كل شهر، وقد قال بهذا بعض أصحابنا.
ووجهه أنه إذا انكسر الشهر الأول، فالوجه أن يكمل من الذي يليه؛ فإنّ السنة لا تنقطع أيامها، فيستحيل أن نحتسب منها شهوراً والشهر الأول معلق، لم يمض بعد، فإذا كان يجب أن يكمل الشهر الأول، فينكسر الثاني بالأول، ثم ينكسر الثالث بالثاني وهكذا إلى نجاز السنة، وهذا المذهب مطرود في العِدد والآجال الشرعية والأيْمان، وهو على ما فيه من الإخالة بعيدٌ؛ فإن اعتبار الأهلّة أصل غير منكر، وخروج اعتبار الأهلة في أحد عشر شهراً محال، وإذا كان كذلك، فلا وجه إلا ما ذكرناه أولاً.
فصل:
قال: "ولو قال لها: أنت طالق الشهرَ الماضي... إلى آخره".
9048- مضمون الفصل الكلام فيه إذا قال لامرأته: أنت طالق الشهر الماضي، والكلام في ذلك يقع على وجوه: أحدها: أن يُطلِق هذا اللفظَ، ولا يتعرض لقصد ونيةٍ، فالحكم أنه يقع الطلاق في الحال، ويلغو قوله الشهر الماضي. وسبب ذلك أن قوله: "أنت طالق" صريح في التنجيز، وقوله: "الشهر الماضي" لفظ ملتبسٌ متردّد بين جهات، كما سنذكرها، فإذا لم يقصد بلفظه شيئاً، سقط أثر المجمل منه، وعمل اللفظ المستقل. ولو أطلق اللفظ، فلم نتمكن من مراجعته، حتى مات أو جنّ، فيحكم بالوقوع في الحال؛ بناء على ما ذكرناه من استقلال اللفظ باقتضاء التنجيز.
9049- ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهر الماضي" أن يقع في الحال الطلاق، ولكن يترادّ إلى الشهر الماضي، ويستند إليه، ويتنجز في الحال وينعكس إلى ما مضى، فهذا الذي قاله كلام لا أثر له، والطلاق يتنجز في الحال، ولا ينعكس على ما تقدم؛ فإن التصرف في الزمان الماضي بأمرٍ ينشأ في الحال مستحيل، وقضايا الألفاظ لا تتقدم عليها قط.
وحكى بعض الأئمة عن الربيع أنه قال: لا يقع الطلاق؛ فإنه قصد طلاقاً يعتمد الانعكاس، وفي لفظه إشعارٌ به، والطلاق على هذا الوجه مستحيل، والمستحيل لا يقع، وقال الأئمة: هذا من تصرف الربيع وتخريجه، وتصرّفُه إذا لم يوافق قاعدة المذهب مردود، والمقبول منه منقولُه لا مقوله، واستدل الربيع على ما قال بان قال: إذا علّق الرجل الطلاق بمستحيل، لم يقع، مثل أن يقول: لامرأته إن طرْتِ أو صعدتِ السماء، فأنت طالق، فلا يقع الطلاق.
ومن أصحابنا من قال في مناكرة الربيع: إن قال: "إن طرتِ، فأنت طالق"، يقع الطلاق، وفي الوصف والتعليق تصرفٌ للأصحاب نذكره، ثم نوضح الصحيح فيه. قالوا: إذا وصف الطلاق بصفة مستحيلة لا يُنظم في الجدّ مثلُها، لغت الصفة ويقع الطلاق، مثل أن يقول: "أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك"، فقد وصف الطلاق بصفة مستحيلة، وهذه الصفة لا يتخيلها ذو عقلٍ وتحصيل، فقيل: الطلاق نافذ وحظّ الهزل منه مردود، وهو بمثابة ما لو قال: "أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً" فالثلاث واقعة والاستثناء المستغرق مردود، وإن وصف المطلِّق الطلاقَ بصفة مستحيلة حكماً، ولكن لا يبعد أن يتخيلها متخيل، وذلك كقول القائل: أنت طالق الشهر الماضي، فإذا أراد طلاقاً شابَه الانتجازُ في الحال، والانعكاس على ما مضى، فالطلاق واقع، والصفة باطلة؛ بناء على حكم الشرع، بإبطال تلك الصفة.
وقال الربيع: لا يقع الطلاق؛ فإن الذي أوقعه من الطلاق لا يتصور وقوعه على النعت الذي ذكره، وهو لم يوقع غيره.
وهذا مردود عليه؛ فإن اللفظ صريح في اقتضاء التنجيز، وهو لم ينف التنجيز في الحال، ولكنه ذكر وراء التنجيز أمراً محالاً، فوجب الحكم بالتنجيز أخذاً باللفظ والقصد، ووجب إلغاء الانعكاس؛ فإنه مستحيل، ثم الربيع جعل الوصف كالشرط، وقال: إذا ذكر الانعكاس، فكأنه قال: "إن انعكس الطلاق على الزمان الماضي، فأنت طالق الآن". وهذا كلام مستكره متكلَّف.
9050- ثم نعود بعده إلى تعليق الطلاق بالمستحيلات: فإذا قال: "إن صعدت السماء، أو إن طرتِ، أو إن أحييت ميتاً، فأنت طالق" فحاصل ما ذكره الأصحاب في هذه الفنون ثلاثة أوجه: أحدها: أن الطلاق يقع بقوله: أنت طالق ويلغو التعليق المحال؛ فإن التعليق إنما يثبت إذا أمكن، وجرى شرطاً يرتقب حصوله لتعلق المشروط به، فإذا لم يكن كذلك، كان خارجاً عن حقيقة التعليق، ويلزم إبطاله لخروجه عن وضعه، وإذا بطل، بقي التطليق من غير تعليق.
والوجه الثاني- وهو الذي قطع به معظم الأئمة أن الطلاق لا يقع؛ فإنه لم ينجزه فيتنجز، بل علقه، ثم إن كان التعليق في ممكن، فالوجه أن ينتظر و إذا كان التعليق في غير ممكن، فغرض الزوج أن يمتنع وقوع الطلاق حسب امتناع الصفة التي ذكرها.
والوجه الثالث: أنه إذا قال: إن طرتِ أو صعدت، لم يقع الطلاق، لأن الربّ تعالى موصوف بالاقتدار على إقدارها على الطيران، والترقي في السماء، فهو من الممكنات والمقدورات، فإذا قال: "إن أحييت ميتاً"، يقع الطلاق؛ لأن هذا من المستحيلات؛ لأن إحياء الموتى لا يتصف بالاقتدار عليها إلا الإله الأزليّ، فيتحقق التحاق هذا بالمستحيلات، فلا يبعد إلغاء التعليق فيه، هذا ما ذكره الأصحاب.
9051- والوجه عندنا القطعُ بمخالفة الربيع في الصفة، والقطع بأن التعليق في المستحيل وغير المستحيل يمنع انتجاز الطلاق؛ فإنا لو نجّزناه، لأوقعنا طلاقاً لم يوقعه، وليس يخرج على الانتظام تعليق الطلاق بما لا يكون على قصد أن الطلاق لا يقع، كما أن الصفة المذكورة لا تكون، وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فاقتضى ظاهر الخطاب من جهة الصيغة تعليقَ خروج الكفار من النار على أن يلج الجمل على هيئته في سم الخياط على ضيقه، وهذا مستحيل، والمقصود أنهم لا يخرجون أبداً، كذلك القول في تعليق الطلاق بالمحال.
9052- ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهرَ الماضي" أن الطلاق يصادف في وقوعه الشهرَ الماضي، وإن كان لفظ الإيقاع حاصلاً الآن. وهذا يتميز عن الصورة المتقدمة بشيءٍ، وهو أنه في الصورة المتقدمة قصد التنجيز في الحال مع العكس على ما مضى، فكان المذهب الحكم بالتنجيز، وإبطال قصد العكس، وهو في هذه الصورة يبغي ألا ينجّز في الحال طلاقاً، وإنما يعكسه على ما مضى ويقدّر وقوعه فيما سبق، ثم هو يسترسل على الزمان استرسال الطلاق، فإذا أراد ذلك، فلفظه غير بعيد عن الإشعار بهذا. وقد يتخيل بعض الناس إمكان ذلك، فيخرج ما أبداه عن الهزل الذي لا يخفى مُدركه، ففي هذه الصورة وجهان:
أحدهما: أن الطلاق لا يقع؛ لأنه لم يقصد تنجيزه، وقصْدُ الإيقاع على ما رَامَ غيرُ ممكن.
والوجه الثاني- أن الطلاق يقع؛ فإنه ليس يُنكَر انبساط الطلاق على الزمان الذي أنشأ اللفظ فيه، فهذا الزمان من مضمّنات قصده في الطلاق، فلينتجز في الوقت وليلغُ ما يزيد على ذلك. والشافعي ذكر في هذه الصورة لفظةً محتملة مترددة، فقال: "إيقاع الطلاق الآن في شهرٍ مضى محال" فمن أصحابنا من قال: لا يقع؛ لأنّ الشافعي أحاله، والمحال لا يقع، ومنهم من قال: يقع؛ لأنه نجَّز الطلاق، والإحالة في الصفة مُخْرَجة من البَيْن، فيجعل كأنه أطلق، ولم يصفه.
وكان شيخنا يقول: إذا قال: أردت إيقاع الطلاق في الحال ووقوعه في الشهر الماضي، فيقع في الحال، ولو قال: أردت إسنادَ الإيقاع والوقوعَ إلى الشهر الماضي، ففيه وجهان مشهوران، وفي لفظه تعقيد.
والأولى في التفصيل ما ذكرناه، فإن أراد الإيقاع في الحال على شرط الانعكاس، فهذه صورة الرّبيع، وإن أراد أن يسند وقوع الطلاق بإيقاعه ولفظه المسموع منه في الحال، فهذه صورة الوجهين، فأما إسناد الإيقاع والوقوع إلى ما مضى، فكلامٌ مضطرب، وقصد شيخنا ما ذكرناه، وإنما التعقيد راجع إلى العبارة.
9053- ومن تمام الكلام في المسألة أنه إذا قال: أردت بقولي: "أنتِ طالق الشهرَ الماضي" أنك قد طلقك زوج في الشهر الماضي، فأردت الإخبار عنه، قال الأصحاب: إن أقام بينة أن زوجاً طلقها في الشهر الماضي، قُبل منه ما يدعيه في معنى لفظه، ثمّ وإن اتهم مع ذلك، حُلِّف، وإن لم يمكنه أن يُثبت أن زوجاً طلقها في الشهر الماضي، فلا يقبل ذلك منه، ويحكم بانتجاز الطلاق. هكذا قال الأصحاب.
وفي القلب من هذا شيء؛ فإن اللفظ إذا كان محتملاً، وهو صاحب اللفظ والإرادة، فإذا فسر لفظَه بممكنٍ، فلا يبعد أن يقبل تفسيره، ثم يكذَّب في إخباره، وإذا كنا نجعل المسألة على وجهين فيه إذا فسر لفظه بمحال، وهو إسناد الوقوع إلى ما مضى، حتى نقول في وجهٍ: لا يقع الطلاق، فلا يبعد أن ينزل لفظه إذا فسره بالإقرار منزلة ما لو ابتدأ، فقال: قد طلّقكِ في الشهر الماضي زوجٌ غيري، وهذا لا يوجب وقوع الطلاق منه، وإن كان كاذباً؛ فإذاً هذا متجهٌ على ما ذكرناه، ولو كان قوله لا يحتمل الإقرار، لَما جاز الحملُ عليه، وإن أمكنه أن يثبت بالبينة طلاقاً من زوج.
ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهر الماضي" أني طلقتك في نكاحٍ في الشهر الماضي، ثم جددت عليك نكاحاً بعد البينونة، فهذا بمثابة ما لو فسر لفظه بطلاق صدر من زوجٍ غيره، والتفصيل فيه ما مضى.
9054- ولو قال الزوج: أردت بهذا أني طلقتك في الشهر الماضي طلقة رجعية، وأنتِ الآن في عدّة الرّجعة، فالذي ذكره المحققون أن هذا مقبول منه؛ فإن لفظه محتمل، وهو متضمنٌ ثبوتَ الطلاق في هذا النكاحِ إقراراً به، وإذا تردد لفظه بين الإقرار وبين الإنشاء والنكاحُ متّحد، فالوجه تصديقه من غير أن يُحْوَج إلى بيّنة، وغاية الأمر أن يُحَلَّف.
ونقل بعض النقلة عن القاضي أنه قال: إن صدّقته المرأة، قُبل ذلك منه، وحُمل قوله على الإقرار بالطلاق، وإن كذبته، فالقول قولها؛ لأن الظاهر منه إيقاع الطلاق في الحال، فنحكم إذاً بوقوع طلاقين:
أحدهما: إنشاء، والآخر- إقرار منه، وهذا كلام مضطرب، لا يجوز نسبةُ مثله إلى القاضي؛ فإنا إن قلنا: لا نقبل تفسيره بالإقرار، فقد يكون لهذا وجه؛ فإن صيغة الإيقاع أغلب، والدليل عليه أنه لو قال: "أنت طالق"، فهذا في ظاهره صفة، فلو قال: أردتُ أني طلقتك؛ فأنت الآن بحكم التطليق الماضي طالق، فهذا غير بعيد عن صيغة اللفظ، ولكنّه لا يقبل.
فلو قال قائل: لا يقبل حَمْلُ قوله: أنت طالقٌ الشهرَ الماضي على الإقرار أصلاً، لكان كلاماً، ويلزم منه ألا يُقبل إقرارُه إذا فسره بتطليق زوج غيره أو بتطليقه في نكاح آخر، وإن أقام بينة عليه؛ فإذ قُبل ذلك على الشرائط المقدّمة وقال هذا الناقل في هذه المسألة: لو صدَّقَتْه قُبل، ولا أثر لتصديقها؛ فإن الطلاق يتعلق بحق الله، فلو قال لامرأته: أنت طالق، وزعم أنه أراد طلاقها عن وِثاق، لم يقبل منه ظاهراً، ولو صدَّقته المرأة، فلا تعويل على تصديقها، فلا وجه لهذا التفصيل.
وينبغي أن يقال: تفسير الرجل قولَه بالإقرار، ويُحَلّف، ويُفْصل بين هذه الصورة وبين ما إذا حُمل لفظه على الطلاق من غيره، أو منه في نكاح آخر؛ لأن هذا إنكار منه للطلاق في هذا النكاح، فإن لم يُقْبل حَمْلُه اللفظَ على الإقرار، وجب ألا يؤثر تصديقُها، ووجب ألا يقبل حمل كلامه على طلاق غيره، وعلى طلاقه في نكاح آخر.
9055- فإن قيل: "لو قال الزوج: إذا مات فلان، فأنت طالق قبله بشهرٍ، فمات
قبل مُضيّ الشهر"، فالطلاق لا يقع في هذه الصورة، فهلا غلبتم الإيقاع في ظاهر الحال، كما لو قال: أنت طالق الشهرَ الماضي؟ قلنا: علق الطلاق بما لا يستحيل أن يُتصور: أن يبقى ذلك الشخص أشهراً، وهو الظاهر الذي عليه بناء الأمر، فإن اتفق استئخار موته، وقع الطلاق قبل موته بشهرٍ، وإن مات قبل مضيّ الشهر، فلفظه صريح في ترتيب الطلاق على هذا النسق، فإذا جرّ محالاً، لم نوقع الطلاق، وهذا قد يقوّي مذهب الربيع في الحكم بأن الطلاق لا يقع، إذا أراد إيقاع طلاقٍ في الحال على أن ينبسط منعكساً على ما مضى.
9056- ولو قال لامرأته: أنت طالق غَدَ أمس، أو أمس غدٍ: على الإضافة في الموضعين، فيقع الطلاق في اليوم؛ فإن اليوم غدُ أمسٍ، وأمسُ غدٍ.
ولو قال: أنت طالق غداً أمسِ من غير إضافةٍ، وقع الطلاق غداً، ولغا ذكر أمسِ، وكذلك لو قال: أنت طالق أمسِ غداً، لغا ذكر أمس، وطلقت غداً.
وهذا فيه نظر عندنا؛ فإنه إذا قال: أنت طالقٌ أمس، فهذا بمثابة قوله: أنت طالق الشهرَ الماضي، فلو أطلق هذا اللفظ، لانتجز الطلاق في الحال، فذكرُه غداً مع ذكره أمس لا يغيّر هذا المعنى، ولا يؤخر الطلاق في الحال. وهذا بيّن إذا تأملته.
9057- وممّا نذكره متصلاً بهذا الفصل أنه إذا قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق قبله بشهر، فقدم قبل مضي الشهر، لم يقع الطلاق؛ فإنا لو قضينا بوقوعه، لقدمناه على القدوم بشهر، ثم هذا يتضمن أن يتقدم وقوع الطلاق على لفظ المعلِّق وهذا محال.
وكذلك إذا قال: إن ضربتك، فأنت طالق قبله بشهر، فإذا ضربها قبل مضي شهرٍ، لم يقع الطلاق.
وإذا علق بالقدوم والضرب على ما صوّرنا، فقَدِم الشخص المذكور بعد شهرٍ، ووقع الضرب بعد شهرٍ، قضينا بوقوع الطلاق متقدماً على القدوم والضّرب بشهر، على نحو ما ذكره المعلّق.
وقال أبو حنيفة: إذا ذكر القدومَ أو غيرَه، ثم أسند الطلاق إلى شهر قبل الصفة المذكورة، فلا حكم للزمان المذكور، والطلاق يقع عند القدوم والضّرب، سواء تخلل شهر أو لم يتخلل، ووافق أنه إذا قال: إذا مَات فلان، فأنت طالق قبله بشهرٍ، فمات بعد شهرٍ. أن الطلاق يقع مستنداً، ولو قال: إن ضربتك، فأنت طالق قبل ضربي بشهر، ثم ضربها قبل شهر، فقد ذكر أن الطلاق لا يقع، ثم تنحلّ اليمين، بهذا الضرب حتى لو ضرب بعد ذلك بشهرٍ أو أشهر، لم يقع الطلاق أيضاً؛ فإن اليمين انحلت بالضرب الأوّل، ولم يمكن وقوع الطلاق.
ولو قال قائل: الضرب المعقود عليه هو ضرب يتصور أن يقع الطلاق قبله بشهر، فموجب هذا ألا تنحل اليمين بالضرب الأول، لما كان هذا بعيداً؛ تخريجاً على أن صفة اليمين إذا وجدت في حالة البينونة لا تنحل اليمين، قد ذكرنا هذا في أول الخلع محكيّاً عن الإصطخري، وسنعود إلى هذه الأجناس في فروع الطلاق، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو قال لها: أنت طالق إذا طلقتك... إلى آخره".
9058- هذا من أصول الكتاب، وهو كثير التدوار في المسائل، ومضمونه الكلامُ
في (إن)، و (إذا)، و (متى)، و متى ما إذا اتصلت بالإثبات، أو اتصلت بالنفي، وفيه بيان تعليق الطلاق على التطليق، وعلى وقوع الطلاق، والفرق بين الممسوسة وغير الممسوسة.
فإذا قال لامرأته: "إن طلقتك، فأنت طالق" أوقال: "إذا طلقتك، فأنت طالق، أو متى طلقتك، أو متى ما طلقتك"، فإن كانت مدخولاً بها فطلقها، طلقت بالتنجيز، وطلقت بالتعليق، فتلحقها طلقتان. ثم هذه الألفاظ لا تقتضي فوراً، فمهما طلقها، لحقها طلاقان: طلاقٌ بحكم التعليق الماضي، وانتجز ما نجزه.
ولو قال: (إن) طلقتك أو (إذا) أو (متى)، أو (متى ما) طلقتك، فأنت طالق. فهذه الألفاظ لا تقتضي قط بداراً، وكذلك إذا أضيفت إلى دخول الدار وغيرها من الصفات.
وإن أضيفت إلى ما يقتضي عوضاً، فإن و (إذا) يحملان على الفور، فإذا قال: (إن) أعطيتني ألفاً أو إذا أعطيتني ألفاً، فهذا يقتضي الفور، كما قدّمناه في أصول الخلع.
فأما (متى) و (متى ما) و (مهما)، فإنها لا تقتضي الفور، وإن قرنت بطلب العوض.
هذا أصل المذهب، وقد مهدناه في الخلع.
والفقهُ المتبع في هذه الأبواب أنّ (متى)، و (متى ما)، و (مهما) بمثابة قولك أيّ وقتٍ، وهذا تنصيص على إدخال الأزمنة كلها، فإذا قرنت بالعوض، فالنص لا يحال، والخلع يقبل التأخير والتعجيل.
وأما (إن) و (إذا)، فليسا ناصَّين على الأوقات وإدخالِ جميعِها تنصيصاً، فإذا اقترن بهما قصد التعويض، انتصب التعويض قرينةً في تخصيص (إن) و (إذا) بالزمان المتصل، هذا إذا كان في الكلام قصد تعويض.
فإن لم يجر ذكر العوض، (فإنْ) و (إذا) بمثابة (متى) و (متى ما) في التأخير، فإذا قال: إن دخلتِ الدار، فأنت طالق، لم يقتض ذلك فوراً في الدخول، وكذلك إذا قال: (إذا) دخلتِ الدار و (مهما) بمثابة ما لو قال: (متى) أو (متى ما) دخلتِ الدارَ فأنت طالق.
والمشيئة في الصفات مستثناة، فإذا قال: أنت طالق إن شئت، اقتضى ذلك فوراً، بخلاف قوله: إن دخلت، وإن كلمت زيداً، وما جرى هذا المجرى، والسبب فيه أن تفويض الطلاق إلى المشيئة يتضمن تمليكها نفسها، والتمليك يقتضي قبولاً أو ما في معنى القبول متصلاً بالتمليك، وسنذكر مسائل المشيئة، إن شاء الله عز وجل.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه أنّ (إن) و (إذا) محمولان على الفور عند ذكر العوض، و (متى) و (متى ما) يجريان على التأخير، و (إن) و (ومتى) و (متى ما) في الصفات كلها على التأخير إلا في المشيئة.
9059- ولو علق الطلاق بنفيٍ، نظر في هذه الأدوات، فإن قال: إن لم أطلقك إن لم أضربك، إن لم تدخلي الدار، أو ما جرى مجرى هذه الصفات، (فإنْ) في جميعها لا تقتضي فوراً، كما لو ربط بالإثبات. فقوله: إن لم تدخلي كقوله: إن دخلت في أن لا فور فيهما جميعاًً.
وإذا قال: إن لم أطلقك، فأنتِ طالق، فالأمر على التراخي والتمادي ما بقي الزوجان، وأمكن التطليق وتوقعه، فلو ماتت أيسنا حينئذ من التطليق، فنحكم بوقوع الطلاق قُبَيْل مَوتِها، فإنه كان قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق. وقد تحقق أنه لم يطلقها.
وإن مات الزوج، فقد تحقق اليأس بموته أيضاًً، فنتبين وقوعَ الطلاق قبيل موته، ولو جن الزوج، فلا يأس من التطليق، بل نتوقع الإفاقة، فلو اتصل الجنون بموت الزوج، فنتبين وقوعَ الطلاق قبيل الجنون، فإنا تحققنا بالأَخرة أن الطلاق تعذّر من وقت الجنون.
ولو قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، ثم بانت عنه بفسخٍ، وجدّد عليها نكاحاً، ففي عَوْد الحِنث قولان: فإن حكمنا بأن الحنث يعود، فكأنها لم تَبِنْ، ويعود استمرار توقع التطليق على الترتيب الذي ذكرناه.
وإن قلنا: الحِنث لا يعود، فهذا موقفٌ يجب التوقف عنده للوقوف على ما فيه، فإذا قال: إن لم أضربك، فأنت طالق، ثم بانت عنه بطلاق أو فسخٍ، فالضرب بعدُ غير مأيوس-وإن بانت عنه- فلو ضربها بعد البينونة أو بعد نكاحٍ، فالطلاق المعلق بعدم الضرب لا يتوقع له وقوع، فإنه قال: إن لم أضربك، فقد ضربها، ولو لم يضربها في النكاح الأول، فبانت، وماتت أو نكحها، وماتت في النكاح الثاني، فالطلاق المعلّق في النكاح الأول لا يقع في النكاح الثاني؛ فإنا نفرّع على منع العَوْد، وقد تحقق اليأس من الضرب، وعجزنا عن إيقاع الطلاق في النكاح الثاني.
9060- وإن صوّرنا في البائنة موتها من غير تجديد نكاح، فهذا يُغني عن التفريع على عود الحنث، فنقول: إذا تحقق اليأس من الضرب آخراً، وعسر الحكم بوقوع الطلاق قبيل موتها؛ فإنها بائنة، أو منكوحة نكاحاً جديداً لا يقع فيه الطلاق المعلق في النكاح الأول؛ فإذا كان كذلك، فهل نتبين أنها طلقت في النكاح الأول قبيل البينونة؟ هذا موضع النظر.
والوجه ألا نحكم بوقوع الطلاق؛ فإنا إنما نحكم بوقوع الطلاق عند تعليق الطلاق بالنفي متى تحقق اليأس، فوقْتُ وقوع الطلاق يتقدم على اليأس بلحظة، وقد صادفت هذه اللحظة بينونةً، أو نكاحاً جديداً، ولو ذهب ذاهب إلى ردّ الطلاق إلى النكاح الأول ليأسٍ بعده، استرسل هذا الكلام إلى أصل، لم يصر إليه أحد من الأصحاب، وهو أن نقول: إذا تحقق اليأس والنكاح واحد، فنتبيّن عند اليأس وقوع الطلاق من وقت اللفظ.
وهذا من دقيق الفقه، فتأمّلوه ترشدوا.
ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إسناد الطلاق إلى وقت اللفظ إذا تحقق اليأس، وهذا محتمل؛ من جهة أن المذهب الأصح أن المستطيع المستجمع لأسباب الاستمكان إذا لم يحج وقد تمادت سنون في الاستطاعة، فنحكم بأنه يموت عاصياً، وفي الأصحاب من يبسط المعصية على أول وقت الاستطاعة، ومنهم من يحصر التعصية في السنة الأخيرة، فليتنبه الناظر لما يُنَبّه له.
ولم نقل هذا ليكون وجهاً؛ فإن الأصحاب مجمعون على أن الطلاق لا يستند إلى وقت اللفظ، والزوج متسلط على الوطء إجماعاً، وإن كان بيده أن يضرب ويخلّص نفسه من هذا التوقع.
9061- ونعود بعد ذلك إلى ما كنا فيه، فنقول: إذا قال لامرأته: "إن لم أطلقك، فأنت طالق"، ثم انفسخ النكاح بسببٍ، وماتت على البينونة، فقد عسر التطليق بالانفساخ، ثم اتصلت البينونة بالموت، فهذا عندنا بمثابة الجنون إذا طرأ، وقد قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، فإذا جنّ، فالجنون لا يقطع توقع التطليق بتقدير الإفاقة، ولكن إذا اتصل بالموت أسندنا اليأس إلى أول الجنون، كذلك البينونة تنافي التطليق، ولا تنافي توقّعه، فإذا استمرت البينونة إلى الموت، كان بمثابة اتصال الجنون بالموت، فيلزم من هذا المساق إسناد اليأس إلى الفسخ، فليقع الطلاق قُبَيْله.
وليتصوّن المرء الآن من الوقوع في الدَّوْر؛ فإن الطلاق المعلق لو كان رجعياً، انتظم فيه تصوّر الفسخ، وإن كان بائناً، وقع في قاعدة الدَّور، فلا التفات إليها؛ فإنها بين أيدينا، وسنفري فيها فريّنا، والله المستعان.
9062- والغرض الآن الفرق بين أن يقول: إن لم أطلقك فأنتِ طالق، وبين أن يقول: إن لم أضربك، فأنت طالق، فإن اليأس عن التطليق يستند إلى أول البينونة؛ فإن البينونة تنافي التطليق، والبينونة لا تنافي الضرب، فاليأس من الضرب يقع قبيل الموت، ولا يصادف محلاً للطلاق.
ولو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فانفسخ النكاح بردةٍ أو غيرها، ثم جدد عليها نكاحاً، فالتطليق يتصوّر في النكاح الثاني، وإن منعنا عَوْد الحنث، فإن الذي يمتنع هو الطلاق المعلّق لا التطليق في صورته، وصورة التطليق في النكاح الثاني كالضرب، فلا يتحقق اليأس من التطليق قبيل الموت، ثم إذا منعنا عَوْد الحنث لا يتصوّر وقوع الحِنث في تلك اللحظة.
وهذه أصول بيّنةٌ للفطن ملتبسةٌ على من لا يردّ نظره إليه.
9063- وكل ما ذكرناه نفرّع على تعليق الطلاق بنفيٍ بكلمة (إن) التي هي أم باب الشرط، فلو علق الطلاق بنفيٍ واستعمل (إذا) أو (متى) أو (متى ما) أو (مهما) فقال: إذا لم أضربك أو إذا لم أطلقك فأنت طالق، فالقول في (متى) و (متى ما) كالقول في (إذا) فإذا مضى من الزمان ما يسع التطليقَ أو الضربَ أو صفةً أخرى علق الطلاق بها، ولم يأت بما ذكره، يقع الطلاق الذي علقه، وليس كما لو قال: إن لم أطلقك.
ولا يستقل بمعرفة الفرق بين (إن) و (إذا) من لم يفهم طرفاً يتعلق بهذا الفصل من العربية، فنقول: (إذا) ظرفُ زمان، وهو اسم مشعر بالزمان، وكذلك (متى) و (متى ما)، و (إن) حرف، وليس بظرف، وليس اسماً للزمان. فإذا قال القائل: إذا لم أطلقك، فمعناه أيُّ وقت لم أطلقك، فأنت طالق، فقد علق طلاقها بوقت لا يطلقها فيه، فإذا مضى وقت لم يطلقها فيه، فقد وُجدت الصّفة التي علق الطلاق بها، و (إن) ليس اسماً لوقتٍ، وإنما هو حرف مسترسلٌ على الاستقبال، لا إشعار فيه بزمان.
هذا هو الفرق ويترتب عليه أنّ (متى) و (متى ما) في معنى (إذا)؛ فإن معناهما أي وقتٍ لم أطلقك، وابتناؤهما على التأخير في مثل قوله: متى أعطيتني ألفاً، فأنت طالق، لا يغيّر غرضَنا في المقام الذي نحن فيه، فإن متى تنطلق على الزمان القريب انطلاقه على البعيد، والطلاق يقع بأول الاسم، فإذا تحقق الزمان الأول عريّاً عن التطليق، فقد وُجدت صفة الطلاق، ثم يتسق من هذا أن آثارها تقع على الفور، بخلاف ما إذا فرضت في إثبات الأعواض في مثل قول القائل: إذا أعطيتني مع قوله: متى أعطيتني، والسبب فيه ان متعلق الطلاق ثمَّ اعطاءٌ، فإن قرن بلفظ لا ينص على عموم الزمان، اقتضت قرينة العوضية تعجيلاً، وإن قرنت بلفظ ناصٍّ على عموم الأوقات، حمل على العموم، والطلاق بالإعطاء والزمان ظرفُه.
والمعتمد فيما نحن فيه تحقق زمان عارٍ عن الصفة.
وهذا بيّن لا إشكال فيه.
والذي ذكرناه قاعدة المذهب.
9064- والذي سنذكره بعدُ فيه غيرُ معدودٍ من متنه وأصله، ولذلك أخرته، ولا أجد بداً من ذكره؛ لأنّي وجدته في تصانيف الأئمة مسطوراً. قال العراقيون: من أصحابنا من لم يتضح له الفرق بين (إن) و (إذا) في النفي، فقال: أجعل المسألة فيهما على قولين نقلاً وتخريجاً:
أحدهما: أن الأمر يُحمل فيهما على الفور إذا كان متعلَّق الطلاق نفياً، فإذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فمضى أقل زمان إمكان الطلاق، وقع الطلاق، كما لو قال: إذا لم أطلقك.
والقول الثاني- أنّ (إن) و (إذا) بمثابةٍ واحدة، ولا يقع الطلاق منهما ما لم يتحقق اليأس من الطلاق كأنْ لو كانت الصفةُ إثباتاً؛ فإنَّ (إن) و (إذا) في الإثبات مستويان في قول القائل: إن دخلت الدار، وإذا دخلت الدار، وهذه الطريقة مزيفة، نقلها العراقيون وبالغوا في تزييفها، وذكرها الشيخ أبو علي على هذا النسق، وحكى عن صاحب التلخيص أنه قال: إذا قال: إذا لم أطلقك أو إن لم أطلقك، فكلاهما على التراخي، وهذا خطأ، وهو مذهب أبي حنيفة.
ومما نذكره بعد عقد المذهب أن صاحب التقريب، قال: إذا قال: إذا لم أطلقك فأنت طلاق، فهذا على الفور عند الإطلاق، فلو قال: أردتُ بذلك إن فاتني طلاقك فأنت طالق، فهل يقبل ذلك منه أم لا؟ ذَكَر وجهين وأجرى الكلامَ على أن (إذا) في الإطلاق مع النفي للفور، فإن حَمَل المطلقَ على التراخي بالتأويل الذي ذكرناه، ففي قبول ماجاء به في الظاهر وجهان. وهذا الذي قاله حسنٌ، ملتحق بمتن المذهب؛ لما فيه من الاحتمال.
ثم شبَّب في مساق كلامه بشيء، فقال: إذا قال الرجل لامرأته: إن أعطيتني ألفاً، فأنت طالق. ثم قال: أردت متى أعطيتني، فيحتمل أن يُقبل ذلك. وهذا عندنا يجب ألا يُتردد فيه؛ فإنه فيما يبديه موسّعٌ للطلاق، وكل ما يقبل التديين فيه، فإذا قاله الرجل وهو عليه فيقبل، ولكن يتطرق إليه أنه قد يقصد استحقاق العوض المتراخي؛ فيجب أن يقال: إن وافقته المرأة في تصديقه، استحقَّ العوض، وإن أبت وقد أتت بالعوض في زمانٍ متراخٍ، فهذا الآن محتمل.
وقد نجز الكلام على (إن) و (إذا) و (متى) و (متى ما) و (مهما) في النفي والإثبات، مع العوض ومن غير عوض. ويلتحق (بمتى) و (متى ما) و (مهما) قولك: أيّ وقتٍ، وأي حين، وأي زمانٍ، فهذه الألفاظ بمثابة قولك: (متى) في كل تفصيل.
وقد نجز بنجاز هذا ركنٌ واحد من مضمون الفصلِ المعقود، وقد بيّنا أن مضمونه ثلاثة أركان. وهذا الذي مضى ركن.
9065- الركن الثاني في تفصيل القول في المدخول بها وغير المدخول بها في الأغراض التي نُجريها، فإذا قال لامرأته المدخول بها: إن طلقتك، فأنت طالق، أو إذا طلقتك، أو متى، فإذا طلقها، انتجز ما نجزه، ووقع الطلاق الذي علَّقه بالتطليق؛ إذ قال: إن طلقتك، فأنت طالق.
9066- ثم هذه الألفاظ، وهي (إن) و (إذا) و (متى) و (متى ما) و (مهما) ليس فيها اقتضاء التكرار، وإنما فيها عموم الزمن، ثم اليمين تنحل بمرة واحدة، ولا أثر لهذا، والطلاق ثلاث، وإنما يظهر أثر ما نقول في العتاق، فإذا قال: "مهما أعتقت عبداً من عبيدي، فعبد آخر معه حرّ"، فإذا أعتق عبداً، عتق عبدٌ، ولو أعتق بعد ذلك عبداً لم يعتِق عبدٌ آخر بحكم التعليق المقدم، فإن اليمين انحلّت بالكرَّة الأولى.
والصّيغة المقتضية للتكرار في العربية قول القائل: "كلما ضربتك، فأنت طالق" فإذا ضربها، طلقت، ثم لو ضربها مرة أخرى، طُلّقت طلقة أخرى، وكذلك حتى تستوعب الطلقات، ولو كانت أعداد الطلاق أكثر من الثلاث، لاسترسلت كلمة (كلما) على جميعها.
9067- ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: إن طلقتك، أو إذا طلقتك، فأنت طالق، فإذا طلقها، انتجز ما نجّز، ولم تلحقها الطلقة المعلّقة، والسبب فيه أنها تبين بالطلاق المنجز، وإذا بانت، لم يلحقها طلاقٌ ثانٍ مع البينونة، وهذا متفق عليه، وتعليله بيّن.
وقد يتصل به سؤال وجواب عنه، وبهما يحصل الغرض.
فإن قيل: إذا قال الرجل لامرأته التي لم يدخل بها أو للمدخول بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، فالطلاق متى يقع؟ قال قائلون: الطلاق يترتب على دخول الدار؛ فإن الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، فليترتب الطلاق على الدخول، ونقول: دخولٌ والطلاق بعده، كما يترتب عتق القريب المشترَى على حصول الملك.
وقال المحققون: يقع الطلاق مع الدخول، لا قبله ولا بعده، وأما المصير إلى أن الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، فهذا لا ننكره من معناه، ولكنه ترتُّبُ اللفظ في هذا المقام، وليس الغرض تأخير وقوع الطلاق عن الدخول، وإنما الغرض تطبيق التطليق على الدخول، غير أن الفاء تُستعمل جزاءً والجزاء ينتظم كذلك، وإلا فلا يستريب ذو عقلٍ أن غرض الناطق تطبيق الطلاق على الدخول، حتى كأنّ الدخول علّته.
وإذا قال القائل: صيغة الجزاء تتضمن تعقيباً أيضاًً؛ فإن الرجل إذا قال: إن جئتني، فأنا أكرمك، تضمّن هذا ترتُّبَ الإكرام على المجيء.
قلنا: إذا كان الجزاء فعلاً ينشأ ويكون مربوطاً بالشرط، فمن ضرورة وقوع الفعل أن يترتب، وليس كذلك وقوع الطلاق؛ فإنه حكمٌ لا يمتنع تقدير حصوله على الاقتران، بل لا يمتنع تقدير حصوله متقدماً؛ فإنه لو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، قبْل دخولك بيوم، أمكن تقدير الوقوع كذلك، وهذا جزاءٌ متقدم على الشرط، غير أنّ وجه انتظام الجزاء فيه يرجع إلى نسق اللفظ، ثم الجزاء مرتبط بالشرط على معنى أنه لا يحصل دونه، فإن قُرن، اقترن، وإن قُدّم، تقدّم، وهذا منتظم من طريق اللفظ، ولكن شواهد الحكم في المذهب تدل على الوقت، وآية ذلك أن الرجل المريض إذا قال: إن أعتقت سالماً، فغانم حرّ، ثم أعتق سالماً في مرضه، فإن وفّى الثلث به فحسب، عَتَق سالم فحسب، وهذا يدل على ترتيب العتق في غانم على سالم.
ولو قال: أعتقتكما، ازدحما على الثلث، ومما يدل على الترتيب أنه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم طلقها، وقع ما نجّزه، ولم يلحقها الطقة المعلّقة، وهذا لا يخرّج إلا على أصل الترتيب؛ فإنا لو قدّرنا وقوع المعلّق مع وقوع المنجز، لم يبعد الحكم بوقوعهما، والمصير إلى أنها بانت بهما؛ فإن قيل: لا يلحقها الطلاق المعلّق، دل هذا على ترتب المعلق في وقوعه على المنجّز، وهذا يشعر بترتب كل طلقة على الصفة، وهذا بالغٌ في الإشكال؛ فإن الذي يقتضيه اللفظ ما ذكرناه من الجمع، والذي يقتضيه مذهب الفقهاء الترتيبُ، وما حكيته في ترتّب الوقوع على الدخول، وفي وقوعه معه نقلته من كلام الأصحاب.
ثم لم يختلفوا أن التي لم يدخل بها لا تطلق الطلقة المعلّقة على التطليق المنجز، وإن كان يظنّ ظانّ أن الترتب من آثار الفاء، قيل له: هذه المسائل لا تختلف أحكامها بأن تذكر الفاء فيها أو لا تذكر؛ فإن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك فأنت طالق، فحكم هذا ما قدمناه: من أنه إذا طلقها لم يلحقها الطلاق المعلّق، ولو قال: أنت طالق إذا طلقتك، فلا (فاء) والجواب كما مضى، فإذا طلقها انتجز ما نجّز، ولم يقع ما علّق، ولعلنا في الفروع نعود إلى مزيد مباحثةٍ في ذلك.
9068- والقدر الذي هو غرض الفصل أنه إذا قال للتي لم يدخل بها: إذا طلقتك، فأنتِ طالق، أو أنت طالق إذا طلقتك، فإذا طلقها وقع ما نجّز، ولم يلحقها ما علَّق.
وكذلك قال الشافعي: إذا قال لامرأته التي دخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم خالعها أو طلقها على مالٍ، نفذت بينونة الخلع، ولم يلحقها الطلقة المعلقة؛ فإن المختلعة لا يلحقها الطلاق عندنا كالبائنة قبل المسيس، فالبينونة بالخلع في منافاة لحوق الطلاق كالبينونة لعدم العدة في حق التي لم يدخل بها.
هذا بيان هذا الركن.
9069- والركن الثالث من مضمون الفصل متصل بما نجّزناه الآن، وهو القول في تعليق الطلاق وتسمية التعليق تطليقاً، فإذا قال لامرأته المدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق. فإذا دخلت الدار، طلقت بالدخول، وطلقت بالتعليق الأول على التطليق، والمقصود من ذلك أنه قال أولاً: إذا طلقتك، فأنت طالق، وقال بعد ذلك: إذا دخلت، فأنت طالق، فصار تعليق الطلاق بالدخول مع الدخول بمثابة تنجيز التطليق بعد التعليق الأول.
ولو قال لها أولاً: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال بعد ذلك: إذا طلقتك فأنت طالق، فدخلت الدار، فوقع الطلاق بوجود الصفة، فإنها لا تطلق بسبب قوله إذا طلقتك، فأنت طالق؛ فإنه لم يطلقها بعد هذا القول، ولم ينشىء التعليق بعد هذا القول أيضاً، بل جرى التعليق بالدخول متقدماً على قوله: إن طلقتك.
فانتظم من مجموع هذا أنه إذا قال: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم نجّز هذا بعد هذا، وقع ما نجّز وما علّق بالتطليق.
ولو أنشأ تعليقاً بعد قوله: إن طلقتك، فنفس التعليق لا يكون تطليقاً، ولكن إذا وجدت الصفة، وقد جرى التعليق بعد قوله: إن طلقتك، كان التعليق مع الوقوع بمثابة التطليق من بعدُ.
ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، فإذا دخلت الدار، طلقت بالدخول، وطلقت بتعليق الطلاق بالوقوع، فإنه علق لحوق الطلاق بوقوع الطلاق لا بالتطليق، وهذا بيّنٌ.
ومما نجريه متصلاً بهذا أنه إذا قال لها: إن أوقعت عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فدخلت الدار، لحقها طلاقان كما قدمنا.
وهو كما لو قال: إن طلقتك، فأنت طالق، ثم علق الطلاقَ من بعدُ.
9070- ووجدت للعراقيين أنهم قالوا: إذا قال للمرأة المدخول بها: إذا أوقعتُ
عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار، طُلّقت بدخول الدار، ولم تطلّق بسبب قوله السابق: "إن أوقعتُ عليك طلاقي" طلقة أخرى، وكأنهم قد رأَوْا أنه إذا علق طلاقها، فهذا لا يكون إيقاعَ طلاق عليها، وإنما يتحقق الإيقاع بالتنجّيز، من غير توسط سببٍ وتعليق وهذا مردود في قول المراوزة، باطلٌ قطعاً على قياسهم، وكنت أحسب هذا خللاً واقعاً في نسختي، ثم طالعت نسخاً ومجموعات وتعليقاتٍ معتمدةً، فوجدت الأمر مثبتاً على هذا النسق. فإن كانوا يقولون ما يقولون فيه إذا قال للمدخول بها: إن أوقعت عليك طلاقي ولا يقولونه فيه إذا قال: إذا طلقتك، فالفرق بين التطليق وإيقاع الطلاق عسرٌ.
وإن عمّمُوا هذا في الإيقاع والتطليق، فهو خروج عما عليه الفقهاء؛ فإن التعليق على الاختيار تطليقٌ في اللسان، فإذا قال الرّجل لامرأته: "إن قمت، فأنت طالق" فقامت وطُلِّقت، يقال: طلّق فلان زوجته، وهذا لا سبيل إلى إنكاره.
9071- ومما نذكره في هذا الفصل أنّ (كلّما) كلمة تتضمن التكرار في العربية بخلاف (متى ما) و (مهما) فإنهما يعمّان الأزمان ولا يقتضيان التكرار، فإذا قال لامرأته المدخول بها: كلما وقع عليك طلاقي، فأنتِ طالق، ثم طلقها طلقت ثلاثاًً؛ فإنه يقع عليها بالتنجيز طلاق، وبالتعليق السابق طلاق، ثم يتكرر، ولو زادت أعداد الطلاق على الثلاث لاستوعبتها الكلمة، وتضمنت وقوع جميعها.
9072- وذكر الأصحاب فرعين هذّبوا بهما أصلين:
أحدهما: معنى التكرار المتلقَّى من قول القائل كلّما.
والثاني: يتضمن تمهيد تأخر التعليق وتقدّمه، والفرق بينهما إذا قال: إن طلقتك
فأنت طالقٌ.
9073- فأمّا الفرع الموضِّح لمعنى التكرر، فإذا كان للرجل أربع نسوة وعبيد، فقال: كلما طلقت واحدةً منكن، فعبدٌ من عبيدي حرّ، وكلما طلقت ثنتين منكن، فعبدان من عبيدي حرّان، وكلما طلقت ثلاثاًً منكن، فثلاثة أعبدٍ من عبيدي أحرار، وكلّما طلقتُ أربعاً، فأربعة أعبدٍ من عبيدي أحرار.
فالمسلك الحقّ في هذه المسألة: أنه عَقَدَ أربعةً من العقود بكلمةِ (كلما) وهي للتكرار، فيتكرر العتق بتكرر كلّ عقد منها، ولكن ما حُسب في مرّة لا يحسب هو ولا شيء منه في عقدٍ مماثلٍ له، فإذا طلّق واحدة، حنث في يمين الواحدة، وعتَق عبدٌ، فإذا طلّق الثانية، حنث في يمينين يمين الواحدة، فإنها على التكرر، ويمين الاثنين؛ لأنه لما طلقها صار مطلقاً لواحدة أخرى سوى الأولى، وصار مطلقاً بتطليقها ثنتين، فيعتِق إذاً ثلاثةُ أعبدٍ سوى ما تقدم: عبدٌ بتطليقه الثانية وهي واحدة، وعبدان بسبب تحقق طلاقين على امرأتين، فقد عَتَقَ من العبيد أربعة.
فإذا طلق الثالثة، حنث في يمينين: يمين الواحدة ويمين الثلاث؛ لأنه بتطليقها صار مطلقاً واحدة أخرى، وكلمة (كلما) للتكرار، وصار محققاً تطليق الثلاث؛ لأن هذا مع الأوليين قبلها ثلاث، فيعتِق الآن أربعةُ أعبدٍ سوى ما تقدّم: واحد بالحنث الواقع بتطليق الواحدة، وثلاث بتطليق الثلاث؛ فيكمل العتق في ثمانية. ولا يحنث في يمين الاثنين مرة أخرى، لأن الثانية التي قبل الثالثة حسبت في يمين الثنتين مرة، فلا تحسب في يمين الثنتين مرة أخرى؛ فإن هذا يؤدي إلى تكرير الحنث مراراً، مع اتحاد صنف اليمين، ومحلّ اليمين. فإذا طلق الرابعة، حنث الآن في ثلاث الأيْمان: يمين الواحدة، ويمين الأربع؛ لأنه حقق طلاق الأربع، وحنث في يمين الثنتين مرةً أخرى، لأن الرابعة مع الثالثة ثنتان، فيعتق سبعة عبيدٍ، ويكمل الذين عتقوا خمسة عشر، ولا يحنث مرة أخرى في يمين الثلاث؛ لأن الثالثة والثانية حسبتا في يمين الثلاث، فلا يحسبان مرة أخرى في يمين الثلاث؛ لأن ما حسب في عقدٍ لا يحسب في عقد مثله.
وهذا كما لو قال لها: كلما دخلت الدار، فأنت طالق، فإذا دخلت الدار مرةً طلقت، فإذا دخلت ثانيةً طلقت طلقةً واحدةً، ولا يقال: تطلق طلقتين طلقة بهذه الدخلة وطلقة بالدخلة الأولى؛ لأن الدخلة الأولى حسبناها، فلا نحسبها في مثلها مرة أخرى.
وإذا طلق النسوة الأربع دفعة واحدة، عتق من العبيد خمسة عشر؛ إذ لا فرق بين أن نجمع تطاليقهن، وبين أن نُرتبه، فحكم اللفظ ومقتضى التكرار لا يختلف.
هذا هو المذهب الذي عليه التعويل.
ومن أصحابنا من قال: إذا طلق الثالثة يحنث في يمين الثنتين مرّة أخرى فيبلغ مجموع الذين يعتقون سبعة عشر.
وهذا غلط صريح، وإن كان مشهوراً؛ لأنا لو حنثناه بالثالثة في يمين الثنتين، لزم أن نحنثه أيضاً بالرابعة في يمين الثلاث، ونحكم عليه بعتق عشرين عبداً، وهذا لا قائل به.
9074- وكل ما ذكرناه إذا قال: كلما طلقت، فَعَقَد الأيْمان بكلمةِ (كلما)، فأما إذا قال: إن طلقت واحدةً من نسائي، فعبد من عبيدي حر، وإن طلقت ثنتين، فعبدان حرّان، وإن طلقت ثلاثاًً، فثلاثة من عبيدي أحرار، وإن طلقت أربعاً، فأربعة من عبيدي أحرار.
فإذا طلقهن ترتيباً أو جمعاً عَتَقَ من عبيده عشرة، فلا ننظر إلى عدد الأيمان ومعقود كل يمين، ولا يكرّر الحنث في واحدة منها، فعدد الأيمان أربعةٌ: يمين بواحدة، ويمين باثنتين، ويمين بثلاث، ويمين بأربع، فنأخذ مضمون الأيمان من غير تكرر، فيبلغ عشرة.
وفي بعض التصانيف ذكر صِيغَ هذه الأيمان بكلمة كلما، والجوابَ فيها أنه يعتِق عشرةٌ من العبيد؛ فهذا غلط صريح لم أذكره ليلحق بالوجوه البعيدة، ولكن سبب ذكره التنبيهُ على أن هذا من عثرات الكتّاب، وما ذكره جواب الأيمان المعقودة، (بإن) و (متى) و (متى ما)؛ فإن هذه الكلمة لا تتضمن التكرار.
فأما إذا كانت الكلمة متضمنة تكراراً، فلا تنحلّ اليمين بالواحدة بأن يطلّق واحدةً، وكذلك القول في الثتنتين.
9075- فخرج من مجموع ما ذكرناه أن معنى التكرار أن لا نحل يميناً بحنث في مثله، ولكن لا نحسب شيئاً واحداً مرتين في يمينين متماثلين.
وإذا اختلفت صيغ الأيمان، فحينئذ يحسب النسوة عن جهاتٍ في الأيمان المختلفة.
فهذا فرعٌ مهدّنا به أصل التكرار.
9076- فأما الفرع الثاني، فإنا نمهدّ به معنى تقدم التعليق وتأخره.
فإذا كان للرجل امرأتان حفصة وعمرة، فقال: مهما طلقت عمرة، فحفصةُ طالق، ثم قال: مهما طلقت حفصة فعمرةُ طالق، ثم إنه بدأ بحفصة وطلقها، فتطلق بالتنجيز وطلقت عمرة بالحنث؛ لأنه علّق طلاق عمرة بتطليق حفصة، وعادت طلقة على حفصة؛ لأنه علّق طلاق حفصة بطلاق عمرة في الابتداء، لما قال: مهما طلقت عَمرة فحفصة طالق، وقد طلق عمرة بعد هذا بأن علق طلاقها بتطليق حفصة، ثم نجّز تطليق حفصة.
وقد ذكرنا أن التعليق إذا اتصل به الوقوع، كان تطليقاً.
ولو بدأ بعمرة وطلقها، طُلِّقت بالإيقاع والتنجيز، وطلقت حفصة بالحنث؛ لأنه علّق طلاقها بطلاق عمرة ولا تعود طلقة على عمرة، وإن كان علق طلاقها بطلاق حفصة؛ لأن هذا وقع على حفصة بحكم تعليق طلاقها بطلاق عمرة، وهو سابق على يمين عمرة.
وليس في هذه المسألة غائلة، وإنما الذي فيها فهمُ التقدم والتأخر في التعليق، وسبب ما فيها من أدنى تعقيدٍ أن المبتدىء ينظر إليها، فيرى تطليقاً وتعليقاً، فيلتبس عليه معنى التعليق لذكره مع التطليق.
وبيان ذلك أنه إذا قال لعمرة: إذا طلقتك، فحفصة طالق، فهذا تعليق طلاق حفصة، وإن خوطبت عمرة بالتطليق. وإذا قال لحفصة: إذا طلقتك، فعمرة طالق، فهذا تعليق طلاق عمرة، وإن خاطب بالتطليق حفصة، فليفهم الفاهم التعليق، ولينظر إلى تقدّمه وتأخّره.
9077- ومما ذكره الأصحاب في اختتام هذا الفصل أنه إذا قال لامرأته: إن لم أطلقك، فأنت طالق، أو إن طلقتك، فأنت طالق. فهذا تعليل في موجب العربية، ومن ذكر لفظَ الطلاق وعلّله، وقع الطلاق، ولم ينظر إلى العلّة كانت أو لم تكن، وتقدير الكلام: أنت طالق لأن لم أطلّقك، ثم اللام تحذف وتستعمل، هذه الكلمة كذلك في اللغة الفصيحة، ولو استعمل هذا اللفظ من لا يَفْصِل بين أنَ وإنِ في العربيَّة، فهو محمول على التعليق، وسنذكر هذا الأصل في الفروع، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو قال لامرأته: أنت طالق إذا قدم فلان فقدم به ميتاً، أو مكرهاً... إلى آخره".
9078- غرض الفصل بيان الإكراه والاختيار والعمد والنسيان، ولكنه مفروض في صفة تجتمع فيها غوامض، وينفصل باتضاحها قطبٌ من الأقطاب. ونحن نقول في مفتتح الفصل:
9079- إذا قال القائل: والله لا أدخل الدار، فحُمل وأدخل الدار قهراً، لم يحنث؛ فإن هذا ليس بدخول، ولو أمَرَ حتى حُمل وأدخل الدار حَنِثَ؛ فإن هذا يسمى دخولاً، وركوبه الأكتافَ كركوبه دابّهً، وأَمْرُ الحاملين بالدخول به كإمالته العنان إلى صَوْب الدار، ولو حُمل وكان قادراً على الامتناع وأدخل الدار، فلم يأمر ولم يزجر، فهذا فيه تردد، سيأتي مشروحاً في كتاب الأيْمان، إن شاء الله تعالى.
ولو حلف بالله لا يدخل، فأكره حتى دخل بنفسه، ففي حصول الحنث قولان:
أحدهما: أنه يحنث؛ لأنه دخل الدار.
والثاني: لا يحنث؛ لأن فعل المكره كالمسلوب، واختياره فيه موجوداً كالمفقود.
ولو نسي يمينه، فدخل الدار، ففي حصول الحنث قولان، وللأصحاب مسلكان في ترتيب النسيان على الاستكراه، والاستكراه على النسيان، وسيأتي ذكرهما في الأيْمان.
والقدر الذي تمس حاجتنا إلى ذكره الآن أن سبب الخلاف في النسيان أن الناسي غير هاتكٍ لحرمة اليمين، وليس بهاجمٍ على المخالفة، هذا هو المرعي.
فأما المكره، فسبب الخلاف فيه قضاء الشرع بتضعيف اختياره، ويتحقق فيه أيضاًً عدم الانتساب إلى اعتماد الهتك.
ومن نسي صومه فأكلَ، لم يفطر، ومن أكره على الأكل، فأكل، ففي حصول الفطر قولان.
وهذه نبذة مست الحاجة إليها، فذكرناها واستقصاءُ أصولها وفصولها في كتاب الأيمان.
9085- ونبتدىء بعد ذلك الكلامَ في الطلاق، فنقول: إذا علق الرجل الطلاق بصفة، فلا يخلو إما أن يعلقه بصفةٍ تصدر منه، وإما أن يعلّقه بصفة تصدر من المرأة، وإما أن يعلقه بصفةٍ تصدر من أجنبي:
فإن علّق الطلاق بصفةٍ تصدر منه، فالمذهب الصحيح أنه يجري فيه الخلاف في الإكراه والنسيان، ولا خلاف أنه لو حُمل وأدخل كرهاً، لم يقع الطلاق، فلو نسي اليمين، فدخل أو اكره حتى دخل بنفسه، جرى في كل صورةٍ من النسيان والإكراه قولان.
وكان القفال يقول: إنما يختلف القول في الإكراه والنسيان إذا كانت اليمين بالله، فالتعويل في اليمين بالله على تعظيم اسم الله تعالى، والتعويل في تعليق الطلاق بالصفات على وجود الصفات على أي وجهٍ فرضت.
وهذا مختص بالقفال. والأصحاب على طرد الخلاف في الباب، والسبب فيه أن الغرض في اليمين بالطلاق الامتناع عن أمرٍ، فإذا كان قصد اليمين هذا، فقد يتوهم خروج النسيان والاستكراه عنه. وهذا يجري مطرداً في اليمين بالله تعالى، وفي اليمين بالطلاق والعتاق، والدليل عليه أن الإكراه على الطلاق بمثابة الإكراه على اليمين بالله.
وإذا فرض الإكراه في سبب الحنث، فوجه تضعيف الاختيار في سبب الحنث بالطلاق في الطلاق كوجه تضعيفه في سبب الحنث في اليمين بالله تعالى، والدليل عليه أن من حلف لا يدخل الدار، لم يعصِ بالدخول، ولم تؤثر اليمين عندنا في تحريم ما كان مباحاً قبل اليمين، فلا انتساب إذاً إلى هتك الحرمة والشرعُ لا يحظر المخالفة، فالذي ذكره القفال إنما يستدّ على مذهب أبي حنيفة في مصيره إلى أن اليمين يحرّم الحلال.
هذا إذا كانت اليمين بالطلاق ومعقودةٌ على فعل الزوج.
9081- فإن علّق الطلاق بفعل المرأة؛ فإن قال ذلك وهي لم تسمع، ولم يقصد الزوج إسماعها اليمين حتى تنزجر-بسبب الطلاق-من الصّفة المحلوف عليها-، فالمذهب الأصح أن الطلاق يقع إذا دخلت الدار مكرهةً على الدّخول، وذلك أنه لم يعلق الطلاق بقصدها، ولم يظهر من تعليقه منعُها من الدخول، حتى يحمل ذلك على العمد، فوجب الحملُ على صورة الدخول. نعم، لو حملت وأدخلت، فهذا لا يسمى دخولاً، فلا يقع الطلاق؛ لأن الصّفة لم توجد.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في دخولها مكرهة؛ لأن الإكراه على أحد القولين يضعف اختيارها، ويلحقها-وإن دخلت- بالمحمولة المُدخَلة. وهذا فقيه حسن، أورده القاضي واختاره، ولا يمكن فرض النسيان في هذه الصورة؛ فإن المسألة موضوعة فيه إذا لم يكن عندها علم عن اليمين، فإذا دخلت مختارة، ولا علم عندها، طلقت بلا خلافٍ.
هذا هو التفصيل فيه. إذا علق طلاقها، وهي لم تشعر.
9082- فأما إذا علّق طلاقها وهي تشعر، فيظهر أنه يقصد أن يكون الطلاق مانعها من الدخول، فإذا أُكرهت، فدخلت مكرهةً، كان إجراء القولين في هذه الصورة أظهر من إجرائهما في الصورة الأولى.
ولو نسيت يمين الزوج، جرى القولان على الأصح.
والقفال إذا كان لا يُجري القولين في فعل الحالف إذا نسي أو أكره، فلا شك أنه لا يجريهما فيه إذا كان المعقود عليه فعلَ المرأة.
9083- فأما إذا كان المعقود عليه فعلَ أجنبي، نظر: فإن جرى اليمين من حيث لا يشعر، فلا يتصور فرض النسيان فيه، ولكن إذا أكره ذلك الشخص، فوُجد منه متعلّق الطلاق مكرهاً، ففيه طريقان للأصحاب: أظهرهما عندنا- إجراء القولين لضعف الاختيار، وتخيّل التحاق فعل المكره بأحوال المحمول.
وإن شعر ذلك الأجنبي بيمين الحالف، لم يخلُ إما إن كان ممّن لا يُبالي بيمين الحالف ولا يزعه ذاك عن فعله، أو كان ممن يمتنع بسبب حلف الحالف، فإن كان ممّن لا يمتنع بسبب حلف الحالف، فلا يبالي ببرّه وحنثه، فمثل هذا الشخص إذا بلغه خبر اليمين، ثم نسيها، فلا أثر للنسيان منه؛ فإن الفرق بين الناسي والعامد إنما يظهر في حق من يمتنع في الذكر، فيجوز أن يُعذر إذا نسي.
فأما المكره، فالرأي عندنا طرد القولين فيه؛ لما ذكرناه من تأثير الإكراه في سلب حكم الاختيار.
وإن كان ذلك الأجنبي ممن يرتدع ويمتنع بسبب يمين الحالف، فإذا نسي، اختلف مسلك الأصحاب؛ من حيث لا تعلق للنكاح به، ويتجه عندنا طرد القولين في النسيان.
ولو حلف الحالف بمشهدٍ من زوجته، وعقد على فعل زوجته، ولم يقصد منعها، وإنما أراد تعليق الطلاق على الصفة مهما وجدت، فالوجه القطع بأن النسيان لا أثر له.
والضابط فيه أنه إن أسقط أثر النسيان بعدم العلم باليمين، أو بعدم مبالاة المحلوف عليه بحلف الحالف، أو يقصد الحالف التعليق على الصفة المجردة من غير قصد في المنع بسبب الطلاق، فلا وجه لذكر الخلاف في النسيان. والقولان في الاستكراه جاريان.
هذا بيان هذه التفاصيل على القواعد المحققة.
9084- ونعود إلى ترتيب (السواد) فنقول: إذا علق طلاق امرأته بقدوم زيد، فقدم مختاراً، قضينا بوقوع الطلاق.
وإن كان مكرهاً، فعلى القولين.
وإن كان غير عالم باليمين، ففيه التفصيل المقدّم.
ولو أدخل البلدة محمولاً، لم يقع الطلاق، ولو رد إلى البلدة ميتاً، لم يقع الطلاق.
وهذا المذكور في السواد قسم من الأقسام التي استوعبناها.
9085- ثم قال: "ولو قال: إذا رأيتُه، فرآه في تلك الحالة، حنث... إلى آخره"
إذا قال لامرأته: إذا رأيتِ فلاناً فأنتِ طالق، فرأته حياً أو ميتاً، وقع الطلاق، ولسنا لتعليل البيِّنات، وكذلك إذا رأته والمرئي نائمٌ أو سكران، ولو رأته في المنام، فهو حلم، لا يقع به طلاق، ولو رأته وهو في ماء، والماء بلطفه يحكيه، فالظاهر عندنا القطع بوقوع الطلاق، فإنه رؤي حقّاً، وصار الماء اللطيف بين الناظر والمنظور إليه بمثابة أجزاء الهواء.
وحكى من يُعتمد عن القاضي أن الطلاق لا يقع، وهذا لا اتجاه له؛ فإن ما ذكرناه رؤية في الإطلاق والعرف والحقيقة، وهو انكشافٌ في وضع الشريعة، ولهذا جعلنا الواقف في الماء اللطيف الذي يحكي العورة عارياً، وقضينا بأن صلاته لا تصح، فلا وجه إلا ما ذكرناه.
نعم، إذا نظر في المرآة وخَطَر من ورائه مَنْ حَلَف على رؤيته، فتراءى له ذلك الخاطر في المرآة، أو في الماء، فهذا فيه احتمال. وإن كان ذلك المرئيُّ في الحقيقة مرئيّاً، ولكن سبب التردد العرفُ وإطلاقُ أهله بأني لم أر فلاناً، ولكني رأيت مثاله في المرآة.
ولو قال لامرأته، وهي عمياء: إن رأيت فلاناً، فأنت طالق، فالمذهب أن هذا لغوٌ فيها؛ فإن الطلاق معلق بمستحيل، فلا يقع.
ومن أصحابنا من جعل قوله: إن رأيت فلاناً بمثابة قوله: إن رأيت الهلال، ثم رؤية الغير تقوم مقام رؤيتها، غير أنا نفعل هذا في مسألة الهلال؛ حملاً للرؤية على العلم، ومن سلك هذا المسلك في رؤية زيد وعمرٍو، لم يكتف بالعلم بوجود من علّقت اليمين به، ولكنه حمله على أن يحضر عنده، ويقرب منه، ويجلس منه مجلس المخاطبة، وهذا محمول على قول الضرير قد رأيت اليوم فلاناً، وأحطت بما عنده، والمراد أنِّي حضرته وشهدته.
ثم لو رأته وهي مجنونة أو سكرانة، وقع الطلاق؛ لأن رؤية السّكرانة والمجنونة
صحيحة.
9086- وألحق الأصحاب مسائل بهذا الفن منها: أنه لو قال لها: إن مسست فلاناً، فأنت طالق فمسته حياً كان أوميتاً، طُلِّقت، ولو كان بين البشرتين حائل، لم تطلق.
وقد ذكرنا تردداً في أن لمس شعر المرأة هل يوجب نقض الطهارة؟ وفي مسّ الشعر تردد لبعض الأصحاب؛ فإن مسألة الملامسة متلقاة من ظاهر الكتاب، والتصرف فيها متعلق بصيغ الألفاظ، والوجهُ عندنا القطعُ في اليمين بأن الحنث لا يحصل.
ولو قال: إن ضربتِ فلاناً فأنت طالق، فضربته حياً، وقع الطلاق، ثم الذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنا نشترط أَلَماً، وإن لم يكن مبرّحاً شديداً، وذهب طوائف من المحققين إلى أن الألم ليس بشرطٍ، والضَّربُ يحصل بصدمةٍ وإن كانت لا تؤلم، ورُبّ شخص يُضرب مجتمع اللحم منه بجُمعِ كفك، فيلتذّ به التذاذ المغموز بالغمز، وهذا ضرب، ولو وَضَع حجراً ثقيلاً على عضوٍ-من ذلك المعيّن- ضعيفٍ، فانطحن تحته، فهذا إيلام، وليس بضرب.
ولو ضربته ميتاً، لم تطلق؛ فإن الضرب المطلق في العرف لا يحمل على ضرب الميت.
والذي أطلقتُه من الصدمة لا ينبغي أن يعتمد الإنسان مُطلَقها؛ فإن من ضرب أنملةً على إنسان لا يتصور أن يقع بمثله إيلام، لم يتعلق بها بَرٌّ ولا حنث، فالمحكَّم إذاً ما يسمى ضرباً، وهو صدمٌ بما يفرض منه وقوع الألم، حصل الألم أو لم يحصل.
ولو قال: إن قذفتِ فلاناً، فأنت طالق، فقذفته حياً أو ميتاً، طُلقت؛ لأن قذف الميت كقذف الحي إطلاقاً، وحكماً.
ولو قال: إن قذفت فلاناً في المسجد، فأنت طالق، فالشرط في حصول الحنث أن تكون القاذفة في المسجد. هكذا قال الأصحاب.
ولو قال: إن قتلت فلاناً في المسجد، فالشرط أن يكون المقتول في المسجد، والفرق أن نفس القذف يُجتنبُ في المسجد، ولا يفهم من إضافة القذف في المسجد إلا كون القاذف في المسجد؛ فإن هتك حرمة المسجد بإنشاء القذف فيه. وإذا أضيف القتل إلى المسجد، فُهم من مُطلَقه إيقاعُه بالمقتول وهو في المسجد.
هذا ما ذكره الأصحاب. ولم يحملوا القتل في المسجد على كون القتل في المسجد بتأويل أن يرمى إلى ذلك المعيّن أو يناله برمح والقاتل في المسجد والمقتول خارج المسجد، والأمر على ما ذكروه، واللفظان مطلقان.
فأما إذا قال: أردت بالقذف في المسجد كَوْن المقذوف في المسجد، وأردت بالقتل في المسجد كون القاتل في المسجد، فهل يقبل ذلك منه ظاهراً؟ هذا فيه احتمال بيّن وتردُّدٌ ظاهر؛ من قِبل أن قوله في المسجد ظرفٌ متردد بين القاذف والمقذوف، والقاتل والمقتول، وهو في محض اللغة الفصحى صالحة لهما.
والذي ذكرناه في الإطلاق موجَب العرف تلِّقياً من الهتك، فإذا فسّر لفظةً بما يصح على اللسان، وينطبق على اللغة، وجب أن يكون في قبوله خلاف، وهذا من أصول الكتاب، فمن خالف اللغة إلى ما لا يبعد انسياغُه في العرف، كان في قبوله ظاهراً خلاف، ومن خالف العرف إلى ما يوافق اللغة ولا يبعد بعداً كليّاً عن العرف، ففى قبول تفسيره خلاف.
وإذا أكثرنا المسائل في الظاهر والباطن، وحصل الأُنس بها، هان ضبطها في الآخر.
9087- ثم قال: "ولو حلف لا تأخذ مالك عليّ... إلى آخره".
إذا قال: إن أخذتَ مالك عليّ، فامرأتي طالق، فإذا أخذه، وقع الطلاق، سواء أعطاه الحالف، فأخذه، أو أخذه قهراً من غير إعطاء منه، وكذلك لو أجبره السلطان فأعطى فأخذه مختاراً، أو أخذه السلطان من ماله وسلّمه إليه، فإذا أخذه على اختيارٍ، وقع الطلاق، والتعويل على أَخْذه كيف فرض.
ولو كان عليه دين، فقال من عليه الدّين: إن أخذتَ مالك عليّ، فأخذه قهراً- ولا امتناع ممن عليه الدّين- فلا يكون هذا آخذاً لماله رجعةً، فلا يقع الطلاق إلا حيث يكون راجعاً إلى حقه، وهو في الصورة التي ذكرناها غاصبٌ، واليمين معقودةٌ على أن يأخذ ماله.
ولو أجبره السلطان، فأخذ ماله-والأولى فرض ذلك فيه إذا كان عيناً من الأعيان- فإذا كان مجبراً على الأخذ، ففي وقوع الطلاق قولان مذكوران في المكره على ما تفصّل.
ولو قبض السلطان حقه قهراً، حيث يجوز للسلطان ذلك، فهذا يحل محل أخذه حكماً، ولكن لا يحصل الحنث؛ فإن التعويل في الأَيْمان على الأسماء والإطلاقات، لا على الأحكام.
ولو حلف لا تأخذ مني مالك عليّ، فإن أعطاه مختاراً، فأخذه حَنِثَ، ولو أخذ السلطان ماله وسلمه إلى مستحقه المحلوف عليه، فلا حِنْث؛ لأنه حلف لا تأخذ منّي، وهذا ليس أخذاً منه.
ولو أجبره السلطان على التسليم، ففي هذا نظر يبين بتقديم أمرٍ عليه، وهو أن مستحق الحق لو سلبه من الحالف، وقد حلف لا تأخذ مني، فالظاهر عندنا أن الطلاق يقع. وفي كلام القاضي ما يدل على أن الطلاق لا يقع، وفيه على حالٍ إخالةٌ واحتمال؛ فإن الإنسان إنما يقول: أخذت مني إذا كان عن طواعيةٍ من المعطي، وإن لم يكن، يقال: سلبت مني.
وهذا بعيدٌ والوجه ما قدمناه.
قال القاضي: لو أجبر السلطان الحالف على التسليم، فعلى قولين، وهذا بناه على اشتراط الاختيار في الإعطاء، ونحن لا نرى هذا أصلاً، والتعويل على أخذ المحلوف عليه من يد الحالف أَعْطَى أو لم يُعط، رضي أو كرِه.
ولو حلف لا يعطيه، فأعطاه مختاراً ذاكراً، حَنِث، ولو كان مكرهاً أو ناسياً، فعلى الخلاف، ولو أخذه السلطان وسلمه إلى صاحب الحق، فلا حنث.
ومن أحكم الأصول، هانت عليه المسائل.
9088- ثم قال: "ولو قال: إن كلمتِه، فأنت طالق... إلى آخره".
إذا قال لها: إن كلمتِ فلاناً، فأنت طالق، فكلمته بحيث يسمع، وسمع، وقع الطلاق. وإن لم يسمع لعارض لفظ، وذهول في المكلَّم، فقد قال الأصحاب: يقع الطلاق، وفي هذا نظر سننعكس عليه به، إن شاء الله.
ولو كان المكلَّم أصمَّ، فكلمته على وجه لا يسمعه الصم، ويسمعه من لا صمم به، فقد ذكر الأصحاب وجهين:
أحدهما: أن الطلاق يقع؛ فإن هذا يسمى تكليماً، وليست اليمين معقودة على الإسماع.
والوجه الثاني- أن الطلاق لا يقع؛ فإن ما جرى ليس تكليم الصمّ، فهو في حقه بمثابة همسٍ لا يسمعه السميع.
واللفظ الذي ذكرناه يتفصّل-بعد الإحاطة بفصل الأصمّ- فإن كان اللفظ بحيث لا يتصوّر أن يسمع معه وإن جرّد المكلّم قصده في الدّرْك والإصغاء، فهذا فيه احتمال مأخوذ من تكْليم الأصمّ، وإن كان اللفظ بحيث يتصوّر السّماع معه، لو فرضت الإصاخة والإصغاء، لأمكن الإسماع، فيجب القطع هاهنا بالحِنث؛ فإنه يقال: كلمته فلم يُصغِ.
وقد ينقدح في هذا نظر في تكليم الأصم إذا كان وجهه إليه، وهو أنه يعلم أنه يكلّمه، فالوجه هاهنا القطع بوقوع الطلاق، وكذلك القول في مثل هذه الحالة، والمانع اللفظ.
وإن كان كلمته على مسافة بعيدةٍ لا يحصل الإسماع في مثلها ولم يحصل، فلا يقع الطلاق، ولو اختطفت الريح كلامها وسحلته في أذني المكلَّم، فالظاهر أنه لا يقع الطلاق.
ولو كلمته ميتاً أو نائماً، لم يقع الطلاق، ولو هذت هي بالكلام، لم يقع الطلاق، وإن كان على صيغة تكليمه، لأن هذا لا يسمى تكليماً. وإن سمي كلاماً.
ولو جُنّت، فكلمته، قال القاضي: يقع الطلاق، وهذا يخرج على أنها لو أكرهت على التكليم هل يقع؟ فإنّ قصد المجنون أضعف من قصد المكره، وسنذكر في حصول الحِنث مع الجنون كلاماً بالغاً في كتاب الإيلاء، إن شاء الله.
ولو كلمته سكرانةً أنبني أمرَها على أنها كالصاحية أم لا؟ فإن جعلناها كالصاحية، وقع الطلاق، وإلا فهي كالمجنونة، ولو انتهت إلى السكر الطافح، فهذت، فهذيانها كهذيان النائم، وسيأتي على الاتصال بهذه الفصول أحكام السّكران.
فصل:
قال: "ولو قال للمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالقٌ... الفصل".
9089- إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقعت عليها طلقة وبانت، ولم تلحقها الثانية، والثالثة؛ فإن اللفظة الأولى مستقلة بإفادة الطلاق، وليس ما بعدها تفسيراً لها؛ فإن استقلت، ثبت حكمها، وحصلت البينونة.
9090- وإذا قال للمدخول بها أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وأتى بهذه الكلمات على الوِلاء، وقعت الطلقة الأولى، ونظرنا في الثانية والثالثة، فإن زعم أنه نوى بهما الإيقاع، حُملتا على الإيقاع، وطُلقت ثلاثاًً، وإن نوى باللفظة الثانية والثالثة تأكيد اللفظة الأولى، قُبل ذلك منه، ولم يقع إلا واحدة.
فإن قيل: لم كان كذلك، وكل لفظةٍ مستقلّة بنفسها في إفادة الطلاق والإشعار بمعناه، فالثانية كالأولى، والثالثة كالثانية، والتمسك باللفظ أولى من التمسك بقصدٍ يزيل فائدةَ اللفظ؟ قلنا: التأكيد من القواعد التي لا سبيل إلى إنكارها وجحدها، وهو من مذاهب الكلام، ثم أصل التأكيد عند أهل العربية ثلاثة أقسام: الدرجة العليا من التأكيد لتكرير اللفظ، وكأن الذي يكرره يبغي بتكريره شيئين:
أحدهما: التوثق بإيصال الكلام إلى فهم السامع عند تقدير ذهوله وغفلته.
والثاني: الإشعار بأن هذا اللفظ لم يسبق إلى لسانه؛ فإنه إذا كرّره قطع هذا الوهم، فهذا أمّ باب التأكيد، وهو ممثل بقول القائل: رأيت زيداً زيداً، ومررت بزيدٍ زيدٍ.
والمرتبة الثانية في التأكيد- تلي التكرار والإعادة، وهو كقول القائل: رأيت زيداً نفسه.
والمرتبة الثالثة في التأكيد- الإتيان بألفاظ تؤكّد معنى ما تقدم، وهو كقول من يريد التأكيد في عمومٍ، فيقول: رأيت القوم أجمعين، ثم قد يتبعون هذه الكلمة بكلمٍ لا يستقل مفرده ولا يشتق من معنىً وهو كقوله: جاءني القومُ أجمعون أَكْتعون أَبْصَعون. فهذا مراتب التأكيد وأصلها التكرير، كما ذكرنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تحقيق أمرٍ كرّره ثلاثاًً.
فإذا كان هذا أصلَ التأكيد، وكل لفظةٍ من الألفاظ التي ذكرها ليست مُفردةً في الذكر، فإذا فسَّرها بالتأكيد، والتأكيدُ أصلٌ في نفسه، والتكرير أصل التأكيد، لَزِمَ قبول ذلك منه.
ولو أطلق هذه الألفاظ، ولم يذكر أنه قصد الإيقاع أو التأكيد، بل قال: لم يكن لي قصد، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنها محمولة على تجديد الإيقاع، والثاني: أنها محمولة على التأكيد.
فمن حملها على الإيقاع، فتمسكه باستقلال كل لفظة لو أنفردت.
ومن حملها على التأكيد، احتج بما مهدّناه قبلُ من أنّ أصل التأكيد التكرير، ومن أراد التجديدَ، فالعباراتُ الجامعة للعدد معلومة، وقَصْدُ التجديد بتكرير الكلم ليس أصلاً، وقَصْدُ التأكيد بالتكرير أصل في بابه، والأصل أنا لا نوقع من الطلاق إلا ما نستيقن.
9091- ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق وطالق، لحقتها طلقتان، ولا مساغ لقصد التأكيد في ذلك؛ فإن المؤكِّد لا يعطف على المؤكَّد، وحكم كل معطوف أن يكون مجدّداً مستأنفاً حالاًّ محلّ المعطوف عليه في الفاصل والاستقلال.
ولو قال: أنت طالق وطالق ثم طالق، فالألفاظ متغايرة، والحكم وقوع الثلاث إذا كان مدخولاً بها، وذلك؛ لأن اللفظة الثانية معطوفة على الأولى، فلا تصلح لتأكيدها، واللفظة الثالثة متعلقة بصلة لم يسبق لها ذكر، حتى يفرض فيها التكرير، فاستقلت كُلّ لفظة.
9092- ولو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثم زعم أنه أراد بالثانية طلاقاً بائنا مجدّداً وأراد بالثالثة تأكيد الثانية، فهذا مقبول؛ فإن الثالثة على صيغة الثانية، وليس بينهما حائل يمنع من التأكيد، وهو متصل بالمؤكَّد. ولو قال: أردت إيقاع الأولى والثانية، وأردت بالثالثة تأكيدَ الأولى، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن التأكيد على هذا الوجه باطل غير مقبول، وإذا بطل التأكيد، حُمل اللفظ على التجديد، فيقع ثلاث طلقات؛ لأن من شأن ما يقع التأكيد به أن يكون متصلاً بالمؤكَّد، غيرَ منفصل عنه، وهو قد نوى باللفظة الثانية تجديد الطلاق، وهي فاصلة بين الأولى والثالثة، فامتنع من تخللها قصدُ التأكيد، وإذا بطل التأكيد تعيَّن التجديد.
والوجه الثاني- أن قوله مقبول؛ فإن الغرض أن يؤكّد الطلاق السابق، ولا يرجع التأكيد إلى اللفظ، وإنما يرجع إلى معناه، واللفظة الثالثة متصلة بوقوع الأولى، والأولى والثالثة متشابهتان لا تتميز إحداهما عن الأخرى، والأصح عند المحققين الوجه الأول.
9093- ولو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق، فيقع الطلقة الأولى والثانية وأما الثالثة، فإنها على صيغة الثانية، فإن أراد بالثالثة تأكيد الثانية، قبل منه.
وفي هذا أدنى غموض؛ لمكان واو العطف، وانفصال اللفظ به عن اللفظ، وقد
ذكرنا أن التأكيد ينافي الانفصال، ولكن لا خلاف أن قصده في التأكيد على ما ذكرناه مقبول، وسببه أن اللفظة الثالثة تكريرُ اللفظة الثانية، وقد ذكرنا أن أم التأكيد التكرير، والواو إذاً في الثالثة لا تكون عاطفةً، وإنما هي تكرير الواو الأولى، والكلمة بعدها تكرير الكلمة الثانية.
ولو أطلق ولم يقصد شيئاً، وقعت طلقتان معطوفة ومعطوف عليها، وفي الثالثة قولان، كما قدمناه. ولو قال: أردت بالثالثة تأكيد الأولى، لم يقبل منه وجهاً واحداً؛ فإنه مخالف للفظة الأولى باتصالها بالواو، فلا يصلح للتأكيد.
9094- ولو قال: أنت طالق طالق طالق، وزعم أنه قصد التأكيد، لم يقع إلا واحدة.
فإن قيل: الكلمة الثانية ليست مصدرةً بالضمير، وكذلك الثالثة، والأولى مصدرة بالضمير؟ قلنا: هذا لا أثر له؛ فإن التأكيد يتعلق بالطلاق، ولا فاصل بين الألفاظ.
ولو قال: "أنت طالق طالق أنت طالق"، فالتأكيد يتطرق إلى الثانية مع الأولى، واللفظة الثانية انفصلت عن الثالثة بإعادة الضمير، ولا معول على هذا الفصل، فإن هذا الضمير ليس عاطفاً، حتى يقال: العطف يقتضي استئنافاً، فأمر التأكيد متجه، وإعادة الضمير محمول على التنبيه للتأكيد.
9095- وحكى صاحب التقريب نصاً للشافعي يكاد يخرِم ما قدّمناه من الأصل، ونحن نحكيه على وجهه، ونذكر تصرفه فيه، ثم نعود إلى ترتيب الفصل ونستوعب أطرافه وبقاياه. قال: قال الشافعي: "لو قال: أنت طالق، وطالق، لا بل طالق، فيقع طلقتان بقوله: أنت طالق وطالق".
فلو قال: عَنيْت بقولي "لا بل طالق" تحقيقَ ما مضى وتأكيده، قال: قال: الشافعي يقبل ذلك منه. قال صاحب التقريب: جعل أصحابنا المسألة على قولين:
أحدهما: هذا، وهو بعيد عن القياس.
والثاني-وظاهر النص في المختصر- أنه يقع الثلاث، كما لو اختلفت الألفاظ من وجهٍ آخر، مثل أن يقول: أنت طالق، وطالق، ثم طالق، فإن الطلقات تتعدد إجماعاً.
ثم قال صاحب التقريب: هذا فيه إذا قال: لا بل طالق. فلو قال: "طالق وطالق بل طالق" من غير (لا)، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بوقوع الثلاث في هذه الصورة، ومنهم من جعل المسألة على قولين، كما قدمناه فيه إذا قال: لا بل طالق.
وهذا النص الذي حكاه صاحب التقريب حكاه العراقيون كذلك، وإذا بعد الشيء، استأنستُ بكثرة النقلة، ولا شك أن الذي يقتضيه القياس أن يُحمل اللفظ على التجديد وامتناع حمله على التأكيد، ولا ينبغي أن يُغيَّر أصلُ المذهب وقاعدتُه، بما يجري نادراً من حكايات النصوص.
والذي يمكن توجيه النص به: أنّ (بل) يتضمن استدراكاً في مخالفة ما مضى ومضادّته، حتى إن كان الكلام الأوّل نفياً، كان (بل) إثباتاً، وإن كان صَدْرُ الكلام إثباتاً، كان (بل) نفياً. هذا معنى الكلمة ووضعها، فإذا قال أولاً: أنت طالق، ثم قال آخراً: لا بل طالق، أو بل طالق، فهذه الكلمة ليست على وضعها في اقتضاء المخالفة فضعفت ووهت، وكانت كالساقطة المُطَّرحة، وهذا المعنى لا يتحقق في سائر التغايير الحاصلة بالصّلات المختلفة، وهذا لا بأس به.
على أنّ المذهب ما قدّمناه.
9096- ولو قال: "أنت طالق، وطالق، فطالق" وقعت الطلقات الثلاثة.
فإن قيل الفاء كالواو في معنى العطف، فهلاّ جوزتم أن يكون اللفظ الثالث تأكيداً للفظ الثاني؟
قلنا: الفاء عاطفة، والعطف ينافي التأكيد وليست الفاء تكريرَ الواو، فإذا امتنع التكرير في الفاء، وجب إجراؤه على حقيقة العطف، والعطفُ مقتضاه الاستئناف.
9097- وإذا أردنا نظمَ هذه المسائل المتفرّقة تحت ترجمةٍ، قلنا: إذا تغايرت الألفاظ بصلاتِ عواطفَ مختلفة، فهي على التجديد.
وإذا لم يتخللها عواطف، فهي بين التجديد والتاكيد: فإن قَصَد التأكيد، قُبل، وإن قَصَد التجديدَ، نَفَذ. وإن أطلق، فعلى الخلاف، فإذا تخلل بين لفظين ما يمنع من التأكيد، وقعت الثنتان، وفي الثالثة ما ذكرنا من التفصيل، فإن أكد بها الثالثة، قُبل، وإن أكد الأولى، فعلى وجهين قدمنا ذكرهما.
9098- ولو قال: أنت طالق طلقةً، فطلقة، نص على وقوع طلقتين، ونص على أنه لو قال: "عليَّ درهمٌ فدرهم" لم يلزمه إلا درهم واحد، فمن أصحابنا من جعل في المسألتين قولين: بالنقل والتخريج، وهذا بعيد.
ومنهم من أجراهما على الظاهر، وفرّق بأن الطلاق إيقاعٌ لا يَدْرأُ لفظَه إلا مَحْملُ التأكيد، والفاء تمنع من التأكيد، والإقرار إخبار والإخبارُ يحتمل من التأكيد والتكرار ما لا يحتمله الإيقاع، والدليل عليه أنه لو قال: أنت طالق طلقةً، بل طلقتين، فالمنصوص أنها تطلق ثلاثاًً، ولو قال: عليّ درهمٌ، بل درهمان، لزمه درهمان، ولو أعاد كلمة الطلاق على الهيئة الأولى في المجلس مع تخلل فصلٍ، وقعت طلقتان، ولو أعاد الإقرار على هيئته الأولى في مجلس أو مجلسين وأراد الإعادة، قُبل منه.
ولي في قوله: أنت طالق طلقة، بل طلقتين نظرٌ؛ فإنه ربما يبغي بهذا ضمَّ طلقةٍ إلى الأولى، فيتطرّق إمكان الإعادة على هذا التأويل، وهذا يتجه على النص الذي حكاه صاحب التقريب، بل هو أوجه منه.
ووجه ما ذكره الأصحاب أنه إذا قال: بل طلقتين، وجب حملهما على الإنشاء، وإذا ذكرنا احتمال الضم، كان التقرير ضم إنشاء إلى إقرار، كأنه يقول: تيك الطلقة الأولى واقعة، والأخرى أُنشئها، وحَمْلُ الألفاظ في الطلاق على الإقرار بعيد.
9099- ولو قال: أنت طالق طلاقاً، فهي واحدة إن لم ينو أكثر منها؛ فإن قوله: طلاقاً مصدر، والمصدر إذا أُكّدّ الكلام به، لم يقتض تعديداً، أو تجديداً، وهو كقول القائل ضربت زيداً ضرباً.
فهذا بيان الأصول في مضمون الفصل، ولا فصل إلا ويترتب عليه فروع، وأنا أرى تأخيرها حتى تقع الفروعُ نوعاً، والأصولُ نوعاً.
9100- والذي أختتم به هذا الفصل، وهو سرٌّ لطيف أنه إذا قال لامرأته: "أنت طالق، إن شاء الله" على الاتصال، فسنوضّح أن الطلاق لا يقع إذا أنشأ اللفظ على قصد الاستثناء، والشرطُ أن يكون الاستثناء متصلاً، والمنفصل منه لا يعمل، فهذا مما يراعى فيه الاتصال، ومما يعتبر فيه الاتصال أيضاًً الإيجاب والقبول، وما في اللفظ المحمول على التأكيد يشترط اتصاله بالمؤكَّد.
وأنا أقول: ليس اتصال المؤكِّد بالمؤكَّد والاستثناء بصدْر الكلام على مساق اتصال القبول بالإيجاب، بل يجب أن يكون اتصالُ كلام الشخص الواحد بكلامه أبلغ من اتصال القبول بالإيجاب، والمرعي في كل باب ما يليق به، فإذا انفصل القبول انفصالاً يُخرجه عن كونه جواباً، ويُشعر الفصلُ بإعراض القابل عن الجواب، فهذا هو القاطع، وبدون ذلك ينقطع الاستثناء عن صدر الكلام؛ فإنَّ تواصُلَ الكلام الواحد فوق اتصال جواب خطاب، ويشهد لهذا أن تخلل كلام بين الإيجاب والقبول لا يقطع على الرأي الأصح.
والذي أراه أن تخلل كلام بين الاستثناء والمستثنى عنه يقطع الاستثناء، حتى لو قال: أنت طالق-قم يا عبدُ- ثم قال: إن شاء الله، لم يعمل الاستثناء، وقياس التأكيد كقياس الاستثناء، وقد يرد على هذا أنه إذا قال: أنت طالق طالق أنت طالق، ثم قال: أردت التأكيد باللفظة الثالثة، فهذا مقبول، كما قدّمته، وقوله في اللفظة الثالثة: "أنت" كلام زائد، ولكنه في معناه التنبيه للتأكيد، وما كان كذلك لم يكن فاصلاً قاطعاً.
وإذا ذكرنا هذا تبين أن السكتات إذا تخللت واللفظ واحد، فينبغي أن تكون أقصر ما يُفرض بين الإيجاب والقبول، ولا يشترط أن يجمع المتكلم الكلام والاستثناء، والتأكيد والمؤكَّد في نفسٍ واحد. هذا نجاز ما أردناه.
فصل:
قال: "وكلّ مكرهٍ... إلى آخره".
9101- نذكر في هذا الفصل حكمَ الإكراه على الطلاق، والعتاق، والعقود، حتى إذا نجز وتفرّعت مسائله نختتم الفصل بالإكراه ومعناه، فنقول: طلاق المكره وعتاقه لا يقع إذا تحقق الإكراه، وأتى المكرَهُ بالطلاق على مقتضى الإكراه.
ولو جرى ما يكون إكراهاً، فطلق المكرَه على حسب الاستدعاء منه، وزعم أنه اختار إيقاع الطلاق، فيقع الطلاق و لا يمتنع أن يوافق قصدُه واختيارُه صورةَ الإكراه من المكرِه.
وإن أُجبر على أن يقول لامرأته: أنت طالق، فقال ما قال وهو مُجْبرٌ، ونوى تطليقها عن وِثاقٍ، لم يقع الطلاق.
وهذا نهاية التصوير في الإكراه؛ فإن اللاّفظ أتى بلفظه على مطابقة المجبِر للخلاص منه، ولم يأل جهداً في التغيير وصرف النية عن الفراق إلى غيره.
ولو أُجبر، فوافق، ولكنه لم ينو تطليقها عن وثاقٍ، وكان من الممكن أن ينوي ذلك، هل نحكم بوقوع الطلاق؟ ذكر القاضي وجهين:
أحدهما: وهو اختيار القفال أن الطلاق يقع؛ لأنه كان متمكناً من أن يورِّي، ويضمر ما ذكرناه، فيكون بقصده حائداً عن الفراق، فإذا لم يفعل، جرّ هذا إليه حكمَ المختارين؛ من حيث لم يستفرغ وُسعه في الحَيْد عن الطلاق، وكان يقول: لو نوى الطلاق عن الوِثاق في حالة الاختيار، لم يقع الطلاق بينه وبين الله تعالى، ولكنه لا يصدّق إذا ادعى ما أضمره؛ من حيث إن الظاهر يكذّبه؛ فإنّ ذا الجدِّ لا يطلق لفظ الطلاق ومراده حلّ الوثاق، فإذا كان مكرهاً وأضمر حلَّ الوثاق، كان مصدَّقاً؛ لاقتران الإجبار بظاهر قوله، وهو بمثابة الإقرار في الاختيار والإجبار، وإذا أقرّ بالطلاق كاذباً، لم يُحكم بوقوع الطلاق باطناًً، ولكن لو ادّعى أنه كان كاذباً في إقراره، لم يُصدّق، وإذا أكره على إقراره، ثم زعم أنه كان كاذباً، صُدّق؛ لأن ظهور الإجبار يُغلِّب على الظن صدقَه في دعوى الكذب في الإقرار. هذا أحد الوجهين وبيان اختيار القفال.
والوجه الثاني- أن الطلاق لا يقع، وإن لم يُوَرِّ؛ لأنّه أنشأ اللفظ مجبراً عليه، فسقط حكمه، ولم يأت بنيةٍ تُشعر باختياره.
هذا ما ذكره الأصحاب. وفي المسألة مزيد تفصيل عندي، فإن فرضت في غرٍّ غبيّ لا يفهم التورية، فلا ينبغي أن يكون في انتفاء طلاقه تردّدٌ، وإن كان المجبَر فقيهاً عالماً لمسألة التورية، ولم يفته ذكر هذه المسألة حالة الإجبار، فالأظهر عندنا أن الطلاق يقع، وللاحتمال مجالٌ بيِّن إذا لم يقصد ولم يختر، وهذا محلّ الوجهين.
ولو كان الرجل عالماً ولكن أذهله الوعيد وبهَرَهُ السَّيفُ المسلول، فهو كالغِرّ الغبي الذي لا يذكر ولا يشعر.
9102- ومما نذكره في ذلك أن الأصحاب قالوا: لو أكرهه المكرِه على طلقةٍ، فقال: هي طالق ثلاثاًً، وقعت الثلاث؛ لأنه لمّا زاد على الطلقة المطلوبة منه، ظهر بذلك اختياره وقصدُه وإرادتُه الطلاق.
وقال الأصحاب: لو أكرهه على أن يطلقها ثلاثاًً، فطلقها واحدةً، وقع الطلاق.
وطردوا في ذلك أصلاً وقالوا: مهما خالف المكرَهُ المكرِهَ بزيادة على ما طلبه أو بنقصان منه، نحكم بوقوع الطلاق؛ لأنه إذا خالفه، فقد أتى بغير ما طلبه، فكان كالمبتدىء بلفظه، وموجب ذلك الحكمُ بالوقوع.
وقالوا: لو أكرهه على أن يطلّق زوجته عَمْرة، فضمها إلى ضرّتها، وطلقهما، حُكم بوقوع الطلاق؛ بناء على ما ذكرناه من مخالفته إياه.
ولو أكرهه على تطليق امرأتين، فطلق إحداهما، قالوا: وقع الطلاق، كما لو أكرهه على ثلاث طلقات، فطلق واحدةً.
وقالوا أيضاًً: لو قال المكرِه: قُلْ: طلقتها، فقال: فارقتها، أو سرّحتها، حكم بوقوع الطلاق؛ طرداً للأصل الذي قدمناه، من أن المكرَه إذا خالف المكرِه المُجبِرَ، حكم بوقوع الطلاق؛ من جهة أن المخالفة تُصوِّر المكرَه بصورة المبتدىء المنشىء الذي لا ينبني كلامُه على استدعاء المجبِر.
ولي في هذه المسألة نظر: أما إذا أكرهه على طلاق عمرة، فطلّق عمرة وحفصة ففي تحقق الإكراه في عمرة وعدم وقوع الطلاق عليها احتمال بيّن ظاهرٌ؛ فإنه لا منافاة بين اختياره طلاقَ حفصةَ وبين كونه مجبراً على طلاق عمرة، فكأنه أتى بما استدعاه المجبر منه، وضمّ إليه ما كان في نفسه اختياره، والذي يحقق ذلك أنه لو كان على نيّة أن يطلق حفصة، فقال المجبر: طلق عمرة معها، فهذا ظاهر في تحقق الإكراه في طلاق عَمْرة.
وأما إذا أكرهه على تطليق عمرةَ وحفصة، وطلق عمرة، فقد يظهر أنه يبغي بهذا إجابة المجبر في بعض ما قال، وهو يرجو أن يكتفي بذلك، فهذا فيه احتمال من هذا الوجه أيضاًً، والاحتمال في الصورة الأولى أظهر؛ من جهة أنه يتخلص بما يفعله عن إرهاق من يجبره، ويتخلص عن الإكراه بتطليق واحدة، والمطلوب منه تطليق اثنتين.
ولو قال- وقد طلب منه طلاق اثنتين: أنت طالق وأنت طالق، فهذا مما يجب القطع به في كونه مكرهاً، فإنه ساعد المجبر على هذه الصيغة، فكان بمثابة ما لو جمع طلاقهما في صيغة التثنية.
فأما إذا أجبره على طلقة، فطلق ثلاثاًً، فلا شكّ في وقوع الثلاث؛ فإن الذي صدر منه يشعر بانشراح صدره للطلاق، ولا يتميز طلقة عن طلقة، وليس كامرأتين، يضم إحداهما إلى الأخرى. نعم، إذا أجبره على الثلاث، فطلق واحدةً، فهذا فيه من الاحتمال ما فيه إذا أجبره على تطليق نسوةٍ، فطلّق واحدةً.
9103- ثم قال الأئمة: الهازل بالطلاق يقع طلاقه، وهو الذي يقصد اللفظ دون المعنى، وليس هو الذي يقصد طلاقاً عن وِثاقٍ، فمطلَقُ اللفظ من الهازل يوقع الطلاق ظاهراً وباطناً، ولا يُلحقه بالذي ينوي طلاقاً عن وثاق، فإن نواه في هَزلِه باللفظ دُيّن، فإن الجادَّ يُدَيّن، فالهازل في معنى الجادِّ.
9104- وأما اللاغي، فلا يقع طلاقه، وهو الذي يبدُر منه لفظ الطلاق من غير قصدٍ، فلا يقع طلاقه.
وهذا في تصويره فقهٌ؛ فإن الرجل إذا سمعناه يتلفظ بالطلاق، ثم ادّعى أنه كان لاغياً، فقد لا يُقبل ذلك منه ظاهراً وإن كان مقبولاً باطناًً لو كان صادقاً، فصوّر الأصحاب اللّغوَ على نيته فقالوا: إذا كان اسم زوجته طاهرة، فقال: يا طالقة، وذكر أن هذا سبق إلى لسانه، وانقلب لسانه في بعض حروف اسمها، فقرينة الحال قد تصدّقه، فقال الأصحاب: إن ادعى اللّغوَ والحالة هذه، صُدِّق.
ولو اقترن بقوله: أنت طالق حَلُّ وِثاق، ثم زعم أنّه أراد بالطلاق أنها محلولة الوثاق، ففي قبول ذلك وجهان، والسبب فيه أن لفظ الطلاق مستنكر مع هذه الحالة، فإن العاقد لا يختار إطلاق هذا اللفظ، والمسألة مفروضة في اختيار اللفظ، فأما التفات اللسان في حرفٍ مع ظهور القرينة، فلا وجه إلا القطع بقبوله.
ووصل أصحابنا بهذا أن امرأته لو كان اسمها طالقة فقال: يا طالقة، وهو يقصد نداءها، لم يقع الطلاق، وكذلك لو كان اسم العبد حرّاً، فقال مولاه يا حرّ، وقصد النداء، لم يُقضَ بوقوع العَتاق، ولو قصد الطلاق، وقع الطلاق، ولو أطلق اللفظ ولا يقصد نداءً ولا إنشاءَ طلاق.
فحاصل ما ذكره الأصحاب في العَتاق والطلاق وجهان، والمسألة محتملة جداً شديدة الشبه بما إذا قال: أنت طالق طالق طالق، ولم يقصد تجديداً ولا تأكيداً.
والإكراه على تعليق الطلاق يمنع انعقادَه، كالإكراه على تنجيزه، وكذلك الإكراه على الأيْمان والنذور، والبيع والهبة، والأجارة، والنكاح، والعقود، جُمَع وكان شيخي يقول: الهازل بالبيع فيه احتمال: يجوز أن يقال: هو كالجادّ، وكالهازل بالطلاق والعتاق، ويجوز أن يقال: لا ينفذ البيع من الهازل به؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جدّهن جدٌ وهزلهنَّ جدٌّ: الطلاق والعَتاق والنكاح» وموجب الحديث التحاق النكاح بالطلاق.
وفيه إشكال؛ فإنه في معنى البيع؛ من حيث إنه لا يعلّق، ولا يصح باللفظ الفاسد، ولا يَشيع من الجزء إلى الكل، بخلاف الطلاق والعتاق.
9105- وأما الإكراه على الردة، فإنه يسلب حكمَها؛ قال الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106].
ومن فقهائنا من يقول: يجب التلفظ بالردة لابتغاء الخلاص، كما يجب شرب الخمر عند الإكراه عليه، وهذا خطأ عندنا، فلو أصرّ الأسير على الدّين الحق، واستقتل، جاز ذلك، بل هو الأولى، وسنذكر جُملاً من هذا في كتاب الجراح، إن شاء الله.
فإذا أكُره الحربيّ على الإسلام، فنطق بالشهادتين تحت السيف، حكم بكونه مسلماً؛ فإن هذا إكراه بحق، فلم يغير الحكم، اتفقت الطرق على هذا، مع ما فيه من الغموض من طريق المعنى، فإن كلمتي الشهادة نازلتان في الإعراب عن الضّمير منزلة الإقرار، والظاهرُ من المحمول عليها بالسيف أنه كاذب في إخباره.
ولو أكَره ذميّاً على الإسلام، فأسلم فقد ذكر أصحابنا وجهين في أنا هل نحكم بإسلامه؟ والمصير إلى الحكم بإسلامه بعيد، مع أن إكراهه عليه غير سائغ، فلئن استدّ ما ذكرناه في إكراه الحربيّ من جهة أنه إكراه بحقٍ، فلا ثبات لهذا المسلك والمكرَهُ ذميٌّ والإكراه ممنوع.
9106- ومما نلحقه بهذا الأصل أنّا ذكرنا قولين في الإكراه على الصفة الّتي علّق العتق بها، مثل أن يقول الزوج: إن دخلتُ الدار، فأنتِ طالق، فإذا أكره على الدخول ففي وقوع الطلاق قولان، والفرق بين الإكراه على صفة الطلاق وبين الإكراه على تنجيز الطلاق أو تعليقه أنا نبطل اختيار المكرَه في التنجيز والتعليقِ بالإكراه المقترن به، وهذا لا يتحقق في الصفة؛ فإن قول القائل: إن دخلتُ الدار متناول لما ينطلق عليه اسم الدخول سواء كان على صفة الاختيار، أو على صفة الإجبار، فكان الحكم بوقوع الطلاق مأخوذاً من تناول العقد لطَوْرَي الإكراه والاختيار، وعقدُ اليمين على ما يوجد من المكره ممكن، فإنه لو قال في اختياره: إن دخلتُ الدار مكرهاً، فأنت طالق، فأجبر على الدخول فدخل، وقع الطلاق وفاقاً. وقد نجز ما أردناه في هذا الفن.
9107- وبقي من الفصل الكلامُ فيما يكون إكراهاً، وفيما لا يكون إكراهاً، وهذا غائصٌ عويص، قلّ اعتناء الفقهاء به، ونحن نرى أن ننقل فيه ما بلغنا، ثم ننعطف عليه، ونتصرّف فيه بترتيب المباحثات.
أما العراقيون، فقد ذكروا فيما يكون إكراهاً على الطلاق أوجهاً: أحدها: أنه التخويف بالقتل مع غلبة الظن بوقوعه لو لم يساعِف المجبَر.
والثاني: أن الإكراه هو التخويف بالقتل أو القطع.
والوجه الثالث: أنه التخويف بالقتل أو القطع أو إتلاف المال، وكل ما يصعب احتماله، ويعدّ في العرف من أسباب الإلجاء.
ثم قالوا: ويختلف ذلك بأحوال ذوي المروءات.
فهذا منتهى كلامهم.
ونقل القاضي رضي الله عنه عن القفال طريقةً في حدّ الإكراه، وارتضى لنفسه مسلكاً، وحكى عن العراقيين مسلكاً:
أما ما حكاه عن القفال، فهو أنه قال: الإكراه أن يخوّفه بعقوبة تنال بدنَه عاجلاً، لا طاقة له بها، فلو قال: إن قتلتَ فلاناً وإلا قتلتُك، أو إن لم تقتله، لأقطعنّ طرفاً من أطرافك، أو لأضربنّك بالسياط أو لأجوّعنّك، أو لأعطشنّك، أو أخلِّدُ الحبسَ عليك، فهذا كله إكراه.
فإن قال: أفعل بك هذه الأشياء غداً، لم يكن إكراهاً.
وإن قال: لأتلفَنَّ مالك، أو لأقتلنَّ ولدك، لم يكن إكراهاً؛ لأنّ هذه عقوبةٌ لا تنال بدنه.
وقال: إن قال: لأصفعنّك في السوق، والمحمول من ذوي المروءات، فليس هذا بإكراه، فإن احتمال هذا يصعب على أصحاب المروءات، والمتمسكون بالدّين ربما يؤثرون المشي مع الحفاء وتحسر الرأس.
هذا ما حكاه عن شيخه القفال.
وقال رضي الله عنه: الإكراه عندي أن يخوّفه بعقوبة لو نالها من بدنه مبتدئاً، لوجب عليه القصاص، فعلى هذا إذا خوفه بتخليد السجن، لم يكن إكراهاً إلا أن يخوّفه بالتخليد في قعر بيتٍ يغلب الموت من الحبس فيه.
قال: وقال العراقيون: إنْ قال له: إن قتلتَ فلاناً وإلا قتلتك، أوقطعتُ طرفَك، كان إكراهاً، ولو قال: إن قتلته، وإلا أتلفت مالك، لم يكن إكراهاً، وإن قال: إن أتلفتَ مال فلان وإلا أتلفت مالك، يكون هذا إكراهاً.
قال القاضي: الإكراه لا يختلف باختلاف المحالّ، فلا فرق بين أن يكون المطلوب من المكره قتلاً، أو طلاقاً، أو عِتاقاً، أو بيعاً، أو عُقدة من العقود.
وفي بعض التصانيف: اختلف أصحابنا في صفة المكرَه: منهم من قال: إذا توعده بما لا تحتمله نفسه، والغالب أنه يحقق ما توعّد به، فهذا إكراه، ومنهم من قال: يختلف ذلك باختلاف عادة الناس، فالشريف إذا خُوّف بالصفعة الواحدة على ملأ من الأشهاد، فهو إكراه في حقه، وفي هذا الكتاب: وإن خُوف بإتلاف المال والولد، فهل يكون إكراهاً؟ فعلى وجهين.
وكان شيخنا أبو محمّد يقطع جوابه بأن الإكراه يختلف باختلاف المطلوب، والإكراهُ على الطلاق دون الإكراه على القتل، ثم كان يختار أنّ الرجوع فيما يكون إكراهاً إلى ما يؤثر العقلاءُ الطلاقَ عليه، وهذا يجري في الحبس الطويل، والضربِ المبرّح، والنقصِ الظاهر من المروءة.
فهذا مجموع ما ذكر في هذا الفصل.
9108- ونحن نقول: إذا كان التخويف يتعلق بالروح، وذلك بأن يكون التخويف بالقتل، أو القطع الذي لو فرض وقدّر سريانه إلى الهلاك، لكان موجباً للقصاص، فهذا إكراهٌ في جميع المواضع، لا يجب أن يكون فيه خلاف، وإن ردّد العراقيون فيما حكيته جوابهم في التخويف بقطع الطرف.
وإذا كان التخويف بضربٍ لو فُرض وقوعُهُ، لكان من موجبات القصاص إذا أفضى إلى التلف، فهو بمثابة التخويف بقطع الطرف، وهذا جارٍ في كل محل، يخالف فيه من يخالف في التخويف بقطع الطرف إلا أن يكون التخويف بضرب لا يتصوّر البقاء معه، فيكون بمثابة التخويف بالقتل.
فأما إذا كان التخويف بتخليد الحبس، أو إتلاف المال، أو قتل الولد، فهاهنا موقف يجب التنبه له: ذهب ذاهبون إلى أن المرعي في هذا المقام أن يكون المطلوب من المجبَر أقلَّ في نفسه ممَّا خُوّف به، وبنَوْا عليه أنه إذا كان كذلك، فإنه سيؤثر الطلاق في غالب الأمر، فيكون محمولاً على اختيار الطلاق، ومن كان محمولاً على اختياره، سقط اختيارُه؛ فإن الاختيار الحقيقي هو الذي لا يكون المرء محمولاً عليه.
وإن كان المطلوب منه أكبرَ في النفوس مما يخوَّف به، فلا يتحقق الإكراه حينئذٍ، وهذا المسلك يوجب الفرق بين المطلوب والمطلوب، فإن كان المطلوب قتلاً؛ فإن احتمال الحبس على انتظار الفرج هو أهون من الإقدام على قتل مسلم.
وإن كان المطلوب الطلاق والعتاق، لم يهن احتمال الحبس، وهذا يرجع إلى الجبلّة، وليس من أوزان الفقه وتصرفه في الفرق بين الخطير وما دونه، بل لا تحتمل النفس الحبس والمطلوبُ الطلاق، فيصير محمولاً على اختيار الطلاق، وليس الأمر كذلك في القتل.
وعليه يخرّج الفرق بين المناصب والمراتب، والنظر إلى ذوي المروءات، وسرّ هذا المسلك ردّ الأمر إلى كون الإنسان محمولاً على اختيار ما يطلب منه.
فقد لاح أن هذا السبيل يوجب الفرق بين المطلوب والمطلوب، وبين المطالَب والمطالَب.
9109- والطريق مبهمٌ بعدُ وسنذكر فيه الممكن من التفصيل بعد تمام البيان في التقعيد والتأصيل.
ومسلك المحققين أن الإكراه هو الذي يسلب الطاقة والإطاقة، ولا يُبقي في غالب الأمر للمرء خِيَرَة التقديم والتأخير، حتى يصير كأنه لا اختيار له، والمخوّف بالقتل والقطع كذلك، فلا يقع المطلوب منه لنظره وتخيره.
فأما الذي يؤثر الطلاق على الحبس، فإنما هو مفضّلٌ حالةً على حالة، ومرتاد عيشة على عيشةٍ، واختياره صحيح، فلا يتحقق الإكراه والحالة هذه.
والذي فرضه الأولون من الموازنات، والنظر في الأقدار مسلكٌ من مسلك الرأي والاستصواب، فقد يُرهق الزمانُ المرءَ إلى أمثاله، فيستصوب له أن يطلّق أو يبيع، وليس هذا من الإكراه الحقيقيّ في شيء، فينحصر الإكراه على هذا المسلك فيما يكاد يُعدِم الاختيار، حتى لا يبقى إلا ما يؤثره من يفر من الأسد في وطء الأرض المشوكة، فقد يتخطاها الفارّ وهو لا يحس بوخز الشوك.
وبين هذه الطريقة والطريقة الأولى تباين عظيم.
ثم لا نفرّق فيه بين أن يكون الإكراه على إتلاف مالٍ قلّ أو كثر، أو على بيع مال، أو طلاق، أو قتلٍ، ولا يعترض على هذا إلا شيء واحد، وهو أنه لو خُوّف بإيلامٍ عظيم لا يصابَر، وإن لم يكن مما يقصد به القتل، فقد يحصل بمثل هذا قريبٌ من سلب الطاقة، وفيه نظر.
وأنا أقول: التخويف به لا يكون إكراهاً، أما مفاتحته بالإيلام، ففيه الاختلاف، وليس هذا كالتخويف بالقتل؛ فإن وقوع الخوف أشد من وقوع هذا الإيلام.
هذا بيان تأصيل الطريقين.
9110- وعلينا بعد هذا أمران:
أحدهما: التفصيل والآخر- الإشارة إلى العثرات: أما التفصيل، فتأصيل الطريقة الأخيرة بفصلها، ولا يرد عليها إلا الألم المرهق الذي ذكرنا، ومسألةٌ أخرى وهي أن الأخرق لو خوّف، فما يحسبه مهلكاً ولم يكن كذلك، فقد ينتهي إلى سقوط الاختيار، وهذا يُخرَّج على ما إذا رأى سواداً ظنه عَدُوَّاً، فصلى صلاة الخوف، ثم لم يكن كما ظنّ.
فأما الطريقة الأولى، فمن ضرورتها الفصل بين المطلوب والمطلوب، فالإكراه على القتل فوق الإكراه على الطلاق وإتلافه المال. ثم الإكراه على القتل يقع بالتخويف بالقتل لا غير في وجهٍ، أو بالتخويف بالقطع الذي يكون مثله عمداً في قتل النفس، فأما ما عداه، فلا يكون إكراهاً على القتل؛ فليس التخويف بإتلاف المال والولد إكراهاً على القتل.
فأما الإكراه على الطلاق، فلا يشترط فيه القتل والقطع، ثم قال الأصحاب: يختلف الإكراه باختلاف درجة المكرَه، كما حكيناه.
وذكروا خلافاً فيما يتعلق بغير بدن المطالَب: كالإكراه بإتلاف المال وقتل الولد ومن في معناه.
فينتظم منه أن ما يتعلق ببدن المطالَب المكرَه، فإن كان عقوبةً وإيلاماً، أو حبساً يهون الطلاق في مقابلته، فهو إكراه، ثم الآلام تختلف بقوّة المكرَه وضعفه، فقد يحتمل القوي الضربَ العنيف، والضعيفُ لا يحتمله، فهذا مما يختلف باختلاف الأبدان لا محالة، وما يرجع إلى حط الجاه، والغضّ من المروءة كالصفع على رؤوس الأشهاد، وتكليف الإحفاء وتحسر الرأس في الأسواق، فهذا مختلف فيه: فمن أصحابنا من لا يراه إكراهاً، ومنهم من يراه إكراهاً في حق من يعظم وقعُه في حقه.
هذا فيما يتعلق بالمُطالَب.
فأما ما يتعلق بغيره، فهو التخويف بإتلاف المال، وقتل الولد، أو الوالد، فهذا فيه اختلاف: فمنهم من يجعله إكراهاً، ومنهم من لا يجعله إكراهاً، ففي كلام العراقيين ما يدل على أن التخويف بالمال في مقابلة المال إكراه، وليس التخويف بإتلاف المال في مقابلة الطلاق إكراهاً.
9111- هذا مجموع ما ذكروه. وهو خارج عن الضبط؛ فإن انتقاص المروءات والأقدار التي يصعب وقعها أو يهون احتمالها بالإضافة إلى الروح لا تنضبط، ويرجع الأمر فيه إلى النظر في آحاد الأشخاص؛ فإنهم على تفاوتٍ ظاهر، وإن كانوا يُعدّون داخلين تحت نوع أو جنسٍ.
وإذا جعلنا الإكراه بإتلاف المال إكراهاً، فالنظر ينتشر في هذا من وجه أنا إن سوّينا بين القليل والكثير، كان ذلك مردوداً، فلا خطر في إتلاف الدرهم فما دونه، وإن نظرنا إلى نصاب السرقة، عارضه المقدار الذي تغلظ اليمين فيه، ثم هما جميعاً توقيفان، والذي نحن فيه معنى معقول، وهو الإلجاء الغالب المؤثر في توهين الاختيار، فإحالة هذا على التوقيفات محال، وأخذ هذا الأصل من جواز الدفع عن المال قلّ أو كثر بعيدٌ؛ فإن معنى الإلجاء يبطل بالكلّية، وإن رجعنا إلى عزة المال في النفوس وضِنّتِها بها، عارضه تخرّق الأسخياء، وهذا نَشَرٌ لا مطمع في ضمّه أصلاً، ولا ينقدح فيه إلا النظر إلى حال كل شخصٍ، ثم لا مطلع عليه إلا من جهته، والكلام يخرج عن ضبط الفقه، فيجب ردّ الإكراه إلى التخويف بالقتل، أو التخويف بما يؤدي إلى القتل، كما ذكرناه.
هذا منتهى التفريع.
9112- فأما العثرات، فعَدُّ القفال الحبسَ إكراهاً على القتل عثرةٌ، ولا سبيل إلى اعتقادها؛ فإن الحبس لا يسلب الاختيار، وهو في مقابلة القتل قليلٌ في كل مسلك، والجمع بين سقوط الطاقة وبين المصير إلى أن الحبس إكراهٌ هفوةٌ.
والقطع بأن التخويف بقتل الولد ليس بإكراه والحبس إكراهٌ هفوةٌ.
وقد انتهى الغرض على أكمل وجه في البيان.
فصل:
قال: "ومغلوب على عقله خلا السّكران... إلى آخره".
9113- أما المغلوب على عقله بالنوم، أو الجنون، أو الإغماء، فلا يقع طلاقه، وأما السّكران، وهو مقصود الفصل، فنتكلم في حكمه، ثم نتعرض لبيان السكر، فنقول: طلاق السّكران واقع في ظاهر المذهب، ولا يُلفى للشافعي نصّ في أنه لا يقع طلاقه، ولكن نصّ في القديم على قولين في ظهاره، فمن أصحابنا من نقل من الظهار قولاً إلى الطلاق، وخرّج المسألتين على قولين.
ومعظم العلماء صائرون إلى وقوع طلاق السكران، وذهب عثمان وابن عباس وأبو يوسف والمزني وابن سُريج في أتباعٍ لهم إلى أن طلاق السكران لا يقع.
وأما سائر تصرفات السكران، فللأصحاب فيها طرق: منهم من قال: في جميعها قولان:
أحدهما: حكمه فيها حكم الصاحي.
والقول الثاني- حكمه فيها حكم المجنون. والقولان مُجْريان في أقواله وأفعاله فيما له وعليه.
ومن أصحابنا من قال: ما عليه ينفذ، وفيما له قولان.
ومنهم من قال: أفعاله كأفعال الصاحي، وفي أقواله قولان؛ وهذا لمكان قوة الأفعال.
هذه مسالك الأصحاب، وأشهرُها طرد القولين في الجميع، ولا خلاف أنه مأمور بقضاء الصلوات التي تمرّ عليه مواقيتها في حالة السّكر، وإن كان السكر بمثابة الإغماء، على معنى أنه لا يتصور إزالته بالتنبيه، كما يُزال النّوم به.
وكان شيخي يقول: من أُوجر خمراً، وانتهى إلى السكر الطافح، فمرت عليه مواقيت صلوات، لم يلزمه قضاؤها، كالمغمى عليه.
وتردد الأصحاب في أنا إذا جعلنا السّكران كالصاحي، فهل نجعل صورة السكر حَدَثاً ناقضاً للطهارة؛ فإنه على صورة الإغماء، وقد قدّمنا هذا في كتاب الطهارة.
فهذا قولنا في أحكام السكران.
وقد قال الشافعي: إذا ارتد السكران، ثبت حكم الردة، ولكنّه لا يستتاب حتى يُفيق، وعن هذا النص نشأ للأصحاب الفرق بين ما له وعليه، والأَوْلى حمل ذلك على رعاية مصلحته، وإلا فالإسلام يصح ممن تصحّ منه الردة.
9114- فأما حدّ السكر، فقد نقل عن الشافعي أنه قال: إذا اختلط كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم، فهو سكران.
وقال قائلون: إذا أخذ يهذي في الكلام ويتمايل في المشي، فقد انتهى إلى السكر.
وقال بعض الأصحاب: السكران من لا يعلم ما يقول، وهذا يعتضد بظاهر قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].
وهذه العبارات متقاربة، ولكنها ليست على الحدّ الذي أرتضيه في البيان، فأوّل السكر لا يسلب الكلامَ، ولا يُنهي السكران إلى الهذيان الذي يصدر مثله من النائم، ولكن السكران هو الذي يكون في كلامه وخطابه وجوابه وما يقوله ويفعله كالمجنون، وللمجنون مَيْزٌ وفهم، وهو يبني عليه الجوابَ والإصغاء وفهم الخطاب، فإذا انتهى السكران إلى مثل حاله، فهو في حد السكر.
ثم قد ينظم المجنون كلاماً وقد يخبطه، ولا تخفى تاراته في نظمه وخَبْطه، والمعنىُّ بكلام الشافعي إذا اختلط كلامه المنظوم أن يتطرق إلى كلامه الاختلاطُ الذي يتطرق إلى كلام المجانين.
ومن قال: السكران من يهذي ويتمايل، فالذي جاء به لا بيان فيه، والتمايل لا معنى له.
ومن قال: السكران من لا يعلم ما يقول، فعليه مراجعةٌ، لما ذكرنا من أن أصل العلم لا يمكن سلبُه من البهائم، فضلاً عن السكارى والمجانين، ومن أراد الإحاطة بهذا على التحقيق، فليجدّد عَهْده بمجموعاتنا في حقيقة العقل، ثم ليَبْنِ عليه أن السكران من لا يتصف بالعقل، وإن نجّزنا طرفاً منه: فمن لا عقل له، لا يتصوّر منه النظر العقلي، وإن ذكر من مباديه شيئاً، فهو عبارات الفقهاء، ولا يخفى عروُّه عن حقيقتها.
9115- فإذا دبّت الخمرة، انتشى الشارب وعَرتْه طَرِبَةٌ وهِزّةٌ، وهذا قد يَحُدّ العقل، فليس من السكر.
وبعد ذلك ما وصفناه من السكر، مع بقاء أفعال وأقوال.
ومنتهى السكر الاتصاف بصفة المغشي عليه.
ثم في هذا نظر.
فإن انتهى إلى حالة الإغماء وسقوط الاختيار بالكلية، فالوجه القطع بإلحاقه
بالمغمى عليه، حتى إذا بدرت منه كلمة الطلاق بُدورَها من النائم الهاذي، فلا حكم لها، وكذلك القول في أفعاله، فهي منزّلة منزلة ما يصدر من المغشي عليه.
وإنما التردد والكلامُ فيه إذا كان السكران على مضاهاة المجانين.
وأبعدَ بعض أصحابنا فألحق ما يصدر من ذي السكر الطافح بما يصدر منه، وهو يفعل ويقول ويتردد، وهذا إنما أخذه من إيجابنا عليه قضاء الصلوات وإن انتهى السكر إلى رتبة الإغماء.
ثم الفقه في الصّلاة يستدعي الإشارة إلى مسائل قدمناها في كتاب الصلاة، منها:
أنّ من ردّى نفسه من شاهقٍ، فانخلعت قدماه، وصلّى قاعداً، فإذا استبلّ وبرأ، فالأصح أنه لا يلزمه قضاء الصلوات التي أقامها قاعداً؛ من جهة أن الرخص والتخفيفات وإن كانت لا تثبت للعصاة، فالمعصية قد انقضت بالتَّرْدية، ودوامُ العجز كان بعد انقضائها.
ومن أصحابنا من أوجب القضاء تغليظاً على الذي عصى بترْدية نفسه. وإذا عاطت المرأة فأَجْهَضَتْ جنيناً، ونُفِست، فالمذهب القطع بأنها لا تقضي الصلوات التي تمر مواقيتها في النفاس، وفيه خلاف.
ثم من يُلزم القضاء في الضروب التي أشرنا إليها يستدل بالسّكران؛ فإن الشّرب هو الذي يتعلق الاختيار به كترْدية النفس، وكالسعي في الاستجهاض، والسكر لا يقع مختاراً.
وفصل المحققون بين السكر وبين الصّنوف التي قدمناها بأن قالوا: مطلوبُ من يشرب السُّكر، وإلا فالسَّكر في نفسه والمشروب مرٌّ بشعٌ، وليس مطلوباً، ومبنى الشرع على التغليظ على من يبغي ما لا يجوز ابتغاؤه، فلما كان السُّكر شوْفَ النفس، التحق عند حصوله بمعصية مختارة، وانخلاع القدم، واسترخاء النفاس ليس مطلوبَ النفوس، ثم السُّكر في عينه تركٌ للصلاة، أو سببٌ خاصٌّ فيه، فلم يُسقط قضاءَ الصلاة قولاً واحداً.
وأما الحكم بوقوع الطلاق، فمما يقع متفرعاً على السكر، وقد لا يتفرع، وكأن التردد فيه وفي أمثاله لما نبهنا عليه، والسُّكر بالإضافة إلى الصلاة عينُ الترك، أو سببٌ خاصّ في الترك.
9116- ومن تعاطى شيئاً يزيل العقل من غير حاجة عصى ربّه، ثم قال الأصحاب: حكمه إذ اختلط عقله كحكم السكران.
والذي أراه فيه أنه لا يُلحق بالسَّكران، والتحقيق فيه أن هذا النوع من زوال العقل إذا لم يكن مقصوداً، فهو عندنا في حكم الصّلاة كانخلاع القدم في حق من يردّي نفسه، وكالنفاس في حق المستجهضة.
وإذا كان الفقه المحض يقتضي إسقاط قضاء الصّلاة مع خلافٍ فيه، فالقطع بإلحاقه بالسكران لا وجه له، وكذلك إذا تسبب فجنّن نفسَه، ففي الأصحاب من ألحقه بالسكارى. وهذا غفلةٌ عن المعنى الذي نبهنا عليه.
ولما أراد المزنيّ نصرة مذهبه في أن طلاق السّكران لا يقع، احتج بالذي جنّن نفسه، ولم ير أنه يخالَف في وقوع طلاقه، وللأصحاب فيه التردد الذي حكيناه، وفي كلام القاضي ما يدل على القطع بإلحاقه بالسكارى، وهذا فيه خلل ظاهر لما نبَّهت عليه.
ولم يختلف أصحابنا في أنّ من أُوجر خمراً، فسكر، وطلّق، لم يقع طلاقه.
ومن تداوى ببَنْجٍ، أو غيره، فزال عقله، لم يقع طلاقه.
وإذا حرّمنا التداوي بالخمر، فالمتداوي بها عاصٍ بشربها، ولا يخفى الحكم وراء
ذلك.