فصل: كتاب الرجعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الرجعة:

9331- الأصل في الرجعة الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]، والرد: الرجعةُ باتفاق المفسرين، وقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] قيل: أراد بالإمساك الرجعة في العدة، وأراد بالتسريح أن يتركها حتى تنسرح بانقضاء العدة، وقيل: الإمساك في الآية ليس رجعة، والمراد مخاطبة الأزواج بأن يمسكوا بالمعروف، أو يسرحوا بالإحسان.
وذكر الشافعي في أول الكتاب آيتين إحداهما قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] والأخرى قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] ثم قال: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين، فالبلوغ في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} بمعنى مقاربة انقضاء العدة، لأن العدة إذا انقضت، فلا سبيل إلى الإمساك، ولا ينتظم التخيير بينه وبين التسريح، والبلوغُ في الآية الثانية بمعنى انقضاء العدة؛ فإن النهي عن العضل لا يتحقق إلا عند انقضاء العدة، أما البلوغ بمعنى الانقضاء، فبيّنٌ لا يحتاج فيه إلى تأويل، وأما البلوغ بمعنى المقاربة، ففيه ضَربٌ من التوسع، وهو على مذهب قول القائل: "بلغت البلدة" إذا قاربها ودنا منها.
والأصل في الرجعة من جهة السّنة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرَ في ابنه عبدِ الله "مُرْه فليراجعها" الحديث.
وأجمع المسلمون على ثبوت الرجعة، فمن يملك ثلاثَ طلقاتٍ يُتصوّر منه رجعتان إحداهما بعد الطلقة الأولى، والثانية بعد الثانية، والطلقة الثالثة تُحرِّم عقد النكاح تحريماً ممدوداً إلى التحليل والتخلّي من نكاح المحلِّل وعِدّته.
والعبد يملك طلقتين ورجعةً واحدةً، ثم الاعتبار عندنا في عدد الطلاق برق الزوج وحريته، فالحر يملك ثلاثَ طلقات، سواء كانت زوجته حرة أو رقيقة، والعبد يملك طلقتين سواء كانت زوجته حرةً أو رقيقةً، وأبو حنيفة اعتبر في عدد الطلاق رق الزوجة وحرّيتها، والمسألة مشهورة في الخلاف.
فصل:
قال: "والقولُ فيما يمكن فيه انقضاءُ العدة قولُها... إلى آخره"
9332- مقصود هذا الفصل يتعلق بالأصناف التي تتعلق العدة بها، فنذكر في كل صنف ادعاء المرأة انقضاء العدة، فإن كانت من ذوات الأشهر، بأن تكون آيسة متقاعدةً عن الحيض، فإذا ادعت انقضاء الأشهر وأنكر الزوج، فهذا الخلاف في التحقيق يرجع إلى وقت الطلاق، وإذا اختلف الزوجان في وقت الطلاق، فالقول قول الزوج مع اليمين لا محالة؛ إذ الرجوع إلى قوله في أصل الطلاق وعَدده، فالقول قوله في وقت الطلاق. وحقيقةُ هذا يرجع إلى نفي الطلاق وإثباته في الوقت المعيّن، فهي تدعي الطلاق فيه، والزوج ينكر.
فأما إذا كان انقضاء العدة بوضع الحمل، وهذا ينقسم ثلاثة أقسامٍ: أحدها: أن تدعي إسقاط سقطٍ ظهر فيه التخطيط والتخليق، فالقول قولها مع اليمين؛ إذ لا طريق إلى معرفة ذلك إلا من جهتها، فكان الرجوع إليها، كما لو ادعت الحيض، ولا يشترط أن تأتي بالسقط وتُريه الناس، وإن كان ذلك داخلاً في الإمكان؛ فإنها وإن فعلت ذلك، لم نتحقق أن السقط منها، فلا معنى لتكليفها ذلك.
ثم ذكر القاضي وبعضُ المصنفين أن إسقاط السقط إنما يكون في مائة وعشرين
يوماً، فإن ادعت ذلك في هذه المدة من يوم إمكان الوطء بعد النكاح، قُبل ذلك منها، وإن ادعت إسقاط السِّقْط لأقلَّ من ذلك من يوم النكاح، لم يقبل ذلك منها.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدء خلق أحدكم في بطن أمه أربعون يوماً نطفة، وأربعون يوماً علقة، وأربعون يوماً مضغة، ثم يبعث الله ملَكاً فينفخ فيه الروح، ويكتب أجله ورزقه، ويكتب أشقييٌّ هو أم سعيد».
ولو ادعت إسقاط لحم، لم يظهر فيه التخطيط ففي انقضاء العدة بوضعه قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب العِدد، إن شاء الله.
فإذا قلنا: لا تنقضي العدة بوضعه، فلا معنى لادعائها، وإن قلنا: تنقضي العدة به، فالقول فيه كالقول في القسم الأول، فيقبل قولها مع يمينها، ثم إن ادعته لثمانين يوماً من يوم النكاح، صُدِّقت وحُلِّفت، وإن ادعته لأقلَّ من ذلك من يوم النكاح، لم تصدق، وإذا كنا في أمثال هذه المدد والحُكم بالأقل منها والأكثر نرجع إلى الوجود- مع ما فيه من الخبط والاضطراب- فإذا وجدنا فيه مستمسكاً من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان أولى بالتعلق، وقد دل حديث ابن مسعود أن التخليق في المائة والعشرين، وانعقاد اللحم على تواصل والتئام في ثمانين يوماً.
ولو ادعت ولادة ولدٍ كاملِ الخلقة، فالقول فيه قولها في ظاهر المذهب، وقال أبو إسحاق: لا يقبل قولها؛ لأن الولادة تشهدها القوابل في الغالب بخلاف السِّقْط فإن سقوطه يفجأ، والولد التام يقدُم انفصالَه الطَّلْقُ، والولادة فيه على الجملة مشهودة، وهذا المذهب متروك على أبي إسحاق، والأصح تصديقها؛ فإن النساء مؤتمنات في أرحامهن.
9333- فأما إذا كانت عدتها بالأقراء، فادعت انقضاء العدة، فهذا من حقه أن يذكر في كتاب العِدد، ولكن توافَقَ الأصحابُ في المجموعات والمصنفات على ذكره في الرجعة؛ فإن الحاجة ماسة إلى ذلك في أمر الرجعة وبقائها وانقضائها، فالمرأة لا تخلو إما أن تكون مبتدأة، أو معتادة، فإن كانت معتادةً، فلا تخلو إما أن تكون عاداتها مختلفة، وإما أن تكون أدوارها مستقيمة، فإن كانت عاداتها مختلفة، أو كانت عادتها مستقيمة على الأقل في الطهر والحيض، نظر:
فإن طلقها في حالة الطهر، فأقل مدة تصدق فيها على انقضاء العدة اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان؛ لأنا نقدر وقوع الطلاق، وقد بقي من الطهر لحظة، فنحسبها قرءاً، ثم بعدها يوم وليلة حيضٌ، ثم خمسةَ عشرَطُهرٌ، ثم يوم وليلة حيضٌ، ثم خمسةَ عشرَ طهر، ثم تطعن في حيضة بلحظة، وهذه اللحظة للاستبانة محسوبةٌ من العدة. فإن ادعت انقضاء العدة في اثنين وثلاثين يوماً ولحظة واحدة، فهذا يخرج على قولٍ للشافعي في أن القرء وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض.
فعلى هذا إذا قال: أنت طالق في آخر جزءٍ من طهركِ، فيقع الطلاق في الجزء الأخير من الطهر، ويُحْسَب انتقالها إلى الحيض قرءاً، فيسقط لحظة، وعلى المشهور لابد من لحظة من الطهر بعد الطلاق، وقول الانتقال لا يتصور إلا إذا كان الطلاق معلقاً، بآخر جزء من الطهر؛ فإنه لا يمكن تنجيز طلاق مع درك مصادفته للجزء الأخير من الطهر، وإذا علق، وقع كذلك.
9334- وإن طلقها في حالة الحيض، فأقل مدة تُصدَّقُ فيه على انقضاء العدة سبعة وأربعون يوماً ولحظة؛ لأنا نقدر وقوع الطلاق في آخر جزء من الحيض بالتعليق، فيمضي خمسةَ عشرَ يوماً وهي طهر، ثم يوم وليلة حيض، ثم خمسةَ عشرَ يوماً، ثم يوم وليلة، ثم خمسةَ عشرَ، ثم تطعن بلحظة في الدم، وهذه اللحظة للاستبانة، وليست محسوبة من العدة، ولم نشترط في أول العدة أن تبقى من الحيض لحظة؛ لأن زمان الحيض لا يحتسب من العدة، بخلاف ما قدمناه في زمان الطهر؛ فإن اللحظة الأخيرة محسوبة من العدة معدودة قرءاً، والانتقال من الطهر إلى الحيض معدود قرءاً في قول بخلاف الانتقال من الحيض إلى الطهر.
فهذا بيان أقل زمان يفرض انقضاء العدة فيه، إذا صادف الطلاق الطهر أو الحيض، فإن ادعت الانقضاءَ في زمان ممكن، صُدِّقت مع اليمين.
وإذا ادعت الانقضاء في زمان أقلَّ مما ذُكر، فلا شك أنا لا نصدقها؛ فإنها ادعت ما لا يوافقه الإمكان، فلو مضى من الزمان ما انتهى به الأمد إلى حد الإمكان، فإن كذََّبت نفسَها فيما ادعته من قبل، وابتدأت عند مضي زمان الإمكان، فادعت الانقضاء الآن، صُدِّقت بلا خلاف.
وإن أصرّت على دعواها الأولى التي كذبناها فيها، ثم انقضى من الزمان ما يتصل به الإمكان، فهل نصدقها الآن؟ فظاهر المذهب أنا نصدقها، ولا معوّل على ما سبق منها، وإصرارُها على دعوى انقضاء العدة بمثابة ابتدائها الدعوى بعد تحقق الإمكان.
وهذا يناظر ما لو ادّعى المخروص عليه في الزكاة غلطاً متفاحشاً على الخارص لا يتفق وقوع مثله لخبيرٍ بالخرص، فقول المخروص عليه مردود في المقدار المتفاحش، وهل يقبل قوله في المقدار الذي يقع مثله للخارص المتدرب؟ المذهب أنه يقبل قوله في ذلك المقدار، وإن كانت دعواه متعلقة به وبالزائد عليه المنتهي إلى ما يندر وقوعه.
ومن أصحابنا من قال: إذا أصرت المرأة على دعواها الأولى، ولم تكذب نفسها فيما سبق منها، ولم تستفتح دعوى ممكنة، فلا يقبل قولها؛ فإن انقضاء العدة مما لا يتكرر، والذي ادعته مردود، ولم تدع دعوى أخرى، فتقبل والحالة هذه، وهذا الوجه له اتجاه في المعنى، وإن كان الأظهر غيرَه.
والقائل الأول يقول: إذا كنا لا نصدقها وهي مصرّة أدّى ذلك إلى أن ينقضي الزمن الأمد ولا نحكم بانقضاء عدتها بالبادرة التي صدرت منها.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت عادتها مضطربة أو كانت عادتها مستقيمة على الأقل في الحيض والطهر.
9335- فأما إذا كانت عادتها مستقيمة على الأغلب في الحيض والطهر مثلاً، فادعت انقضاء العدة في أقلَّ من ثلاثة أقراء معهودة في أدوارها، فهل يقبل قولها أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما:وهو الأصح- أنه يقبل؛ لأن العادة قد تتغير وتتبدل بالزيادة والنقصان، والتقدم والتأخر، والأصل تصديقها إذا أخبرت بمُمكن.
ومن أصحابنا من قال: لا تصدق؛ لأن العادة المستمرة تخالف ما تذكره، وهذا الوجه وإن كان مشهوراً في الحكاية، فهو بعيد في الاتجاه.
ثم اختلف الأئمة في أن العادة هل تثبت بالمرة الواحدة؟ والأصح ثبوتها بها كما قدمناه في كتاب الحيض.
وإذا فرعنا على الرجوع إلى عادتها فيما نحن فيه، فيبعد عندي التعويل على المرة، ويبعد أيضاًً التعويل على المرتين، ولست أرى لهذا الوجه ضبطاً نَنْتهي في التفريع إليه، والتفاريع محنة الأصول بها يبين فسادُها وسدادُها، ثم لا وجه عندنا مع ما نبهنا عليه من الإشكال إلا الرجوعُ إلى العادة المعتبرة في الحيض، ويجب طرد الخلاف في المرة الواحدة.
9336- وإن كانت المرأة مبتدأة، ففيما تصدق على انقضاء العدة؟
فيه وجهان مبنيان على أن القرء عبارة عن ماذا؟ فإن جعلناه عبارة عن الانقلاب؛ فإنها تصدق في اثنين وثلاثين يوماً ولحظة؛ فإنا نقدر وقوع الطلاق في اللحظة التي تعقبها الحيضة الأولى، وهذا القائل يقول: الصغيرة إذا حاضت بعد الطلاق، احتسب لها ما جرى قرءاً.
وإن لم نجعل الانقلاب إلى الحيض قرءاً وجعلنا القرء عبارة عن طهرٍ يحتَوِشُه دمان، فلا نعتد بما يتقدم على الحيضة الأولى طهراً، وتفصيل هذا على كمالِه يأتي في كتاب العدة، إن شاء الله؛ فإذاً لا تنقضي عدتها في أقلَّ من ثمانية وأربعين يوماً ولحظة تطعن بها في الدم؛ فإنه تمر عليها ثلاثة أطهار وثلاث حيض، والمسألة فيه إذا صادفها الطلاق قبيل الحيضة الأولى.
فهذا تمام المراد في ذلك، فإن أغفلنا البسطَ التام، فذاك لتعلقه بأصول العدد، وقد ذكرنا في هذا الموضع ما فيه كفاية لغرض الفصل.
فصل:
قال الشافعي: "وهي محرَّمةٌ عليه تحريمَ المبتوتة... إلى آخره".
9337- الطلاق الرجعي عندنا يحرم الوطءَ، وجميعَ الاستمتاعات من اللمس والنظر، وهي في التحريم كالبائنة، والشافعي شبهها بالمبتوتة في أصل التحريم، لا في صفته؛ فإن تحريم المبتوتة لا يدفعه إلا نكاحٌ مستجمع لشرائطِ الشرع، بخلاف الرجعية، ووطءُ المبتوتة مع العلم بالتحريم يوجب الحد، ووطءُ الرجعية لا يوجب الحد، وقد هَذَى بعض الناس بإيجابه في الرجعية، ولعله أخذه من القول القديم في وجوب الحد على من وطىء مملوكته المحرمة عليه بالرضاع، أو وطىء مملوكته وقد زوجها، وهذا على نهاية البعد؛ فإن الرجعية مستحلّةُ الوطء عند شَطر الأمة، فهذا إذاً غيرُ معتد به، ولا عود إليه.
ثم أطلق الأصحاب القول بأن الطلاق الرجعي يؤثِّر في الحل وإزالة الملك، ولكنه قابل للارتجاع والردّ، ورُبَّ ملك يزول مع إمكان التدارك فيه.
9338- ثم قال الأصحاب: انتظم من قواعد المذهب ثلاثةُ أقوال في أن الطلاق الرجعي هل يزيل الملك، قولان منها مأخوذان من أصولٍ ثلاثة للشافعي أحدها: مخالعة الرجعية، وفيها قولان: أظهرها- أنها جائزة، والثاني: الإشهاد على الرجعة، وفي وجوبه قولان.
والثالث- أن مدة أربع سنين تعتبر من وقت الطلاق أو من وقت انقضاء العدة، يعني عدة الرجعية، وفيه قولان.
وأما القول الثالث، فهو التوقف؛ فإن انسرحت تبينا زوال الملك بالطلاق، وإن روجعت، تبينا أنه لم يَزُل، وهذا القول مأخوذ من قول بعض أصحابنا: إن الرجعية إذا وطئها زوجها نظر: فإن راجعها في العدة، لم يلتزم المهر بوطئها، وإن تركها حتى انقضت عدتها، لزمه المهر، وسنذكر هذا مفصلاً على أثر ذلك، إن شاء الله.
فاستنبط الأصحاب عن هذه الأصول ثلاثةَ أقوال، وهي شبيهة بالأقوال في أن الملك في زمان الخيار في البيع لمن؟ والذي عندنا فيه أن المصير إلى زوال الملك خروجٌ عن المذهب، وقد قال الشافعي: الرجعية زوجة بخمس آيٍ من كتاب الله، وذكر الآيات المتعلقة بالأحكام التي استشهد بها، وكيف لا تكون زوجةً وهي وارثةٌ وموروثةٌ، والتوريث لا يقع من الجانبين إلا بالنكاح، والطلاق يلحقها، ولا تطلق إلا منكوحة، ولا ينكِحها مُطلِّقها، بل يرتجعها، فهي إذاً صائرة إلى البينونة لو لم يرتجعها زوجها.
وأما أخذ زوال الملك من وجوب الإشهاد، فساقط؛ فإنه مأخوذ من التعبد لا غير، ولو لم يكن كذلك، لاشترط رضاها والولي، وأما إفساد مخالعة الرجعية، فهو في الأصل غير متجه. ولو كان عليه معوّل، لكان امتناع الخلع لزوال الملك، ولامتنع التطليق من غير عوض أيضاً بناءً على هذا الأصل، وأما احتساب أكثر مدة الحمل من وقت الطلاق، فسببه أنها غير مستفرشة، ونحن لا نقنع بصورة النكاح في الإلحاق، حتى لو غاب الرجل عن المرأة مدة يُقطَع بأنهما ما التقيا فيها، فإنا لا ندخل تلك المدة في الإمكان المعتبر على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله.
وأما قول الوقف، فعلى نهاية السقوط؛ فإن مضمونه الحكمُ بالبينونة مستنداً إلى الطلاق، كما نفعل مثل ذلك في الردة الطارئة على النكاح.
9339- فإن قيل: لم حرمتم وطأها إن كانت منكوحة؛ ولم قضيتم بانقضاء عدتها؟ والعدة لا تنقضي عن الزوج في الزوجية؟ قلنا: هذا مثار الإشكال، فإن كنا ننشىء زوال الملك من أصلٍ، فهذا أولى بالذكر من التحويم على خيالات، ثم تحريم الوطء يستند إلى الآثار قبل الحقائق، والتحريمُ قد يحصُل بعوارضَ، والملك تامّ، فكيف إذا ظهر التحلل؟ وهذا مما نستخير الله فيه، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى إطلاق البينونة لا تحقُّقاً ولا استناداً، وإنما عبروا بالبينونة عن انبتات الملك على وجهٍ لا يُستدرك بالرجعة.
والحاصل عندنا مما قدمناه أن الزوجية باقية، ولكن الطلاق يُجريها-إذا كانت مدخولاً بها- إلى البينونة، وجريانُها إلى البينونة يوجب تحريمَها والاحتسابَ بعدّتها، هذا حكم الشرع فيها، ولا شك أنه خارج عن قياس الأقيسة الجلية، ولا يتخلص أبو حنيفة عن هذا الإشكال بإباحته وطأَها؛ فإنه وافق في شروعها في العدة، والعدةُ لا تمضي من الزوج في صلب النكاح، بدليل أن عدة التي آلى عنها زوجها لا تنقضي في الأربعة الأشهر، وإن كان الإيلاء طلاقاً عند أبي حنيفة.
فصل:
قال: "ولمّا لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام، فلا تكون رجعةٌ إلا بكلام... إلى آخره".
9340- قصد الشافعي الرد على أبي حنيفة في مصيره إلى أن الوطء رجعة، وأوضح من مذهبه أن الرجعة لا تحصل إلا بالكلام، وعند أبي حنيفةَ الوطءُ واللمسُ بالشهوة، والنظرُ إلى الفرج بالشهوة يُحصّل الرجعة، سواء جرى على قصدٍ إلى الرجعة أو لم يقصد الزوج الرجعةَ. وعن مالك أن الوطء يكون رجعةً إذا قصد الزوج به الرجعةَ.
فإذا تبين أن الرجعة لا تحصل إلا بلفظ أو إشارة من الأخرس قائمةٍ مقام اللفظ؛ فإن إشاراتِ الأخرس تقوم مقام ألفاظ الناطقين، فالكلام بعد ذلك في العبارات: فإذا قال الزوج: رددتك إليّ، فهذا صريح في الرجعة، وقد قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] ولو قال: "رددتك"، ولم يقل: "إليّ" فهل يكون ذلك صريحاً في الرجعة أم لا؟ ذكر الشيخ أبو علي والقاضي وغيرُهما وجهين.
ولو قال: راجعتك، كفى ذلك من غير صلةٍ؛ فإن هذه اللفظة مُجراةٌ في الاستعمال من غير صلة، وسبب التردد في قوله: "رددتك" أن مُطلِقه من غير صلةٍ بقوله: "إليّ" قد يُفهم منه الرد الذي هو نقيض القبول، وهذا المعنى لا يتحقق في قوله: "راجعتك" وارتجعتك. ولو قال: رَجعْتُك، فهذا مما يستعمل لازماً ومتعدياً، تقول: رجعت رجوعاً ورجعتُ المالَ من زيد رجعاً، فإذا قال: رجعتك، فقد عدى إلى الضمير، وهو الكاف، فالوجه تنزيله منزلة قوله: ارتجعتك.
ولو قال: أمسكتك، واقتصر على ذلك، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه صريح في الرجعة، وهذا القائل يتمسك بورود لفظ الإمساك في القرآن دالاً على إرادة الرجعة.
ومن أصحابنا من قال: ليس لفظ الإمساك صريحاً في الرجعة.
ثم اختلف المفرّعون على هذا الوجه، فذهب الشيخ والقاضي إلى أن قوله:
أمسكتك وإن لم يكن صريحاً في الرجعة، فهو كناية فيها، فإذا نوى الرجعة، صحت باللفظ والنية.
وذكر العراقيون وجهاً آخر أن الإمساك لا يصلح للرجعة، وإن اقترنت النية بها؛ لأن الإمساك معناه الاستدامة والاستصحاب، والرجعةُ ابتداء استحلال، فلا تحصل بما ليس فيه معنى الابتداء.
فتحصّل من مجموع ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه في لفظ الإمساك: أحدها: أنه صريح في الرجعة.
والثاني: أنه كناية مفتقرة إلى النية.
والثالث: أنه غير صالح للرجعة مع النية أيضاًً.
9341- ومما اختلف الأصحاب فيه الرجعةُ بلفظ النكاح والتزويج، فمن أصحابنا
من قال: تحصل الرجعة به؛ فإن اللفظ إذا كان صالحاً لابتداء العقد، وإثبات الاستحقاق؛ فلأن يصلح لتدارك ما وقع من الخرم أولى.
ومن أصحابنا من قال: لا تحصل الرجعة بلفظ التزويج والنكاح؛ فإن النكاح للابتداء وليس فيه إشعار بالتدارك.
وهذا الخلاف قرّبه الأصحاب من الخلاف إذا قال المُكري: بعتك منافع هذه الدار سنة، ففي انعقاد الإجارة بلفظ البيع وجهان، ووجهُ التقريب أن البيع موضوع لتمليك الرقبة، والإجارةُ موضوعةٌ لاستحقاق المنفعة، فتباعد المقتضيان.
ثم إن حكمنا بأن الرجعة تصح بلفظ النكاح، فقد ذهب القاضي إلى أنه كناية في الرجعة ولابد من النية. وقال قائلون: لا حاجة إلى النية، وهو من باب تحصيل الأضعف بالأقوى.
وللأصحاب تردُّدٌ في هذه المسألة من وجه آخر: فمنهم من قال: لا يصلح لفظ النكاح للرجعة وإن نوى به الرجعة، ومنهم من قال: تحصل الرجعة مع النية، والخلاف في أن مُطلَقه هل يفيد الرجعة؟
فينتظم من مجموع ما ذكرناه أوجه: أحدها: أن لفظ النكاح والتزويج يُحصّل الرجعة من غير نية.
والثاني: أنه لا يحصّلها مع النية.
والثالث: أنه كناية لا يعمل بنفسه، فإن اقترن بالنية، نفذ.
ووراء ما ذكرناه سرٌّ لابد من التنبه له، وهو أنا سنذكر تردداً في أن الإشهاد هل يشترط على الرجعة، فإن قلنا: لا يشترط الإشهاد، فلا يمتنع حصول الرجعة بالكناية، وإن قلنا: الإشهاد يشترط في صحة الرجعة، فعقْدُ الرجعة بالكناية بعيد؛ فإن الشهود لا يطلعون على النيات.
وقد يخطر للمنتهي إلى هذا الموضع أن الزوج إذا تلفظ بكناية في الطلاق، ثم رددنا اليمين على المرأة، فإنا نسمع منها اليمين على أن الزوج نوى الطلاق، ومعتمدها في ذلك التعلّقُ بمخايلِ الزوج، فإذا جاز هذا في اليمين، فلتجز الشهادة.
قلنا: لا يجوز تحمّلُ الشهادة بما يجوز الإقدامُ على اليمين به؛ فإنا قد نجوّز للرجل أن يحلف معتمداً على خط أبيه إذا كان موثوقاً به عنده، وسنصف مجال الأيْمان والبصائر المرعيّة في تحمل الشهادات في كتاب الدعاوى والبيّنات، إن شاء الله عز وجل.
وقد يجوز أن يقال: يشهد الشاهد على اللفظ، ويبقى التنازعُ في النية، وهذا بمثابة قولنا: المقصود من الشهود إثبات النكاح عند فرض الجحود، ثم لا يشترط الشهادة على رضا المرأة، وهو عماد النكاح؛ فإن الرجل لو جحد، لم يبق النكاح مع جحوده، فإذا جحدت المرأة، فالشهادة على عقد النكاح لا تغني شيئاً.
والوجه ما قدمناه من تنزيل الأمر في الصريح والكناية على الإشهاد.
9342- ومن أسرار هذا الفصل أن العراقيين صاروا إلى أن ألفاظ الرجعة محصورة شرعاً في (الرجعة) (والارتجاع) (والمراجعة) (والرد). وفي (الإمساك) (والنكاح) الخلافُ المقدم.
وقول الشيخ أبي علي دالٌّ على أن ألفاظ الرجعة لا تنحصر تعبداً، بخلاف النكاح، حتى لو قال الزوج: رفعتُ الحرمة بيننا، أو ما جرى هذا المجرى، كان صريحاًً، وسبب الاختلاف في الإمساك ما فيه من التردد، وسبب الخلاف في النكاح مشابهتُه البيعَ بالإضافة إلى الإجارة.
والعراقيون قالوا: سببُ الخلاف في الإمساك تردُّدُ المفسرين في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة:231] على ما قدمناه في صدر الكتاب، وسبب الخلاف في لفظ النكاح إقامةُ الأقوى مقام الأدنى.
وهذا المسلك قد يجري في مجال الحصر والتقيُّد. والمسألة محتملة؛ فإن الرجعة نازلة منزلة جَلْبٍ في البضع بلفظٍ، فكان قريبَ الشبه بالنكاح في هذا المعنى، وإذا اختلف الأصحاب في انحصار صرائح الطلاق، وأنها مبنية على التعبد، وهي على التحقيق إزالة، فهذا في لفظ الرجعة أمكن وأوجه.
9343- ومما ذكره الشيخ أبو علي أن الرجل إذا قال للرجعيّة: راجعتك للمحبة أو للإهانة، أو بالمحبة، أو بالإهانة، فإن قال: قصدت بذلك الرجعةَ الحقيقيةَ، وعلّلتها بالمحبة أو بالإهانة، فيقبلُ منه، وتثبت الرجعة.
وإن قال: أردت بذلك أني راجعتك في المحبة، ولكن لم أرْدُدك إلى استمرار النكاح، فلا تصح الرجعة.
وإن أطلق لفظَه في ذلك، ولم ينوِ شيئاً، فقد قال الشيخ: مُطلَقُه يقتضي الرجعةَ، وهذا ما رأيته للمشايخ، وفيه احتمال على بُعدٍ، وإجراؤه على ما ذكر الشيخ هو المتجه، وهو من الأقطاب والأصول؛ فإن قول القائل: "راجعتك" لو فرض الاقتصار عليه، فهو صريح، وفي الصلة الآتية بعده تردّد، فيؤثِّرُ هذا في قبول النية منه في وجهي التردد. وإذا فرض الإطلاقُ، بطلت الصلة، وبقيت اللفظة لو قدّرت مفردة، فينتظم منه قبول التبيين، والمصيُر عند الإطلاق إلى إعمال اللفظ وإلغاء الصلة، ووجه تطرّق الاحتمال أن قائلاً لو قال: كون اللفظ صريحاً يجرّده، وهذا ضعيف؛ فإن المراجعة إذا كانت ملتحقة بالصرائح، فقول الرجل: لم أنو شيئاً يرجع إلى نفي القصد عن الصلة، فينزل هذا منزلة ما لو نطق العربيُّ بصريح الطلاق ووصله بأعجمية لا يفهمها.
9344- ثم ذكر الشافعي أن الوطء لا يكون رجعة، وقد ذكرت مسلك هذه المسألة في (الأساليب) وأوضحت أن حقها أن تبنى على تحريم الوطء، فليتأمله طالبه في موضعه.
ثم إذا لم يكن الوطء رجعةً، فهل يتعلّق به وجوب مهر المثل؟ نصُّ الشافعي دال على وجوب مهر المثل، وقد قال في غير موضع من كتبه: يجب على الزوج المهرُ: راجعها أو لم يراجعها؛ فلم يختلف أئمة المذهب في أنه لو لم يراجعها ويتركها حتى انسرحت بانقضاء العدة، فيلزمه مهرُ المثل. ولو راجعها، فظاهر النص أنه يلزمه مهر المثل، وخرّج الأصحاب فيه قولاً أنه لا يجب، وهذا مشكل في التعليل جداً.
وأصدق آية على أن الطلاق يتضمن زوال الملك هذا الذي ذكرناه؛ فإنها لو كانت على حقيقة الزوجية، لاستحال أن يلتزم الزوج بوطئها مهراً وقد غَرِم مهرَ النكاح، فلما نص الشافعي على وجوب المهر، أشعر هذا بكونها غيرَ مُستَحَقةٍ بالنكاح.
والتحقيق فيه أنا إذا قلنا: زال الملك بالطلاق، فقد ملكت المرأة نفسها، ولكن للزوج عليها سُلطان الرّد، فإذا لم نجعل الوطء رداً، فقد وقع الوطء، وهي غير مملوكة للزوج. نعم، لو كنا نجعل الوطء رجعة، لكان الوطء من الزوج بمثابة وطء البائع الجاريةَ المبيعةَ في زمان الخيار، فالوطء فيه فسخ، فلا جرم لا يلتزم المهرَ بما هو فاسخ به، فإذا لم نجعل الزوج مرتجعاً، جعلنا وطأه إياها بمثابة ما لو وُطئت بشبهة، فيكون المهر لها لا محالة.
وقد يلتفت الفطن فيما ذكرناه على تفريعنا على قولنا: إن الملك في زمان الخيار للمشتري، فلو وُطئت الجارية ثم لم يتفق فسخ العقد، فالمهر للمشتري، هذا مسلك الكلام. ولكن تفريعه على أن الرجعية ليست بزوجة، ولا خروج له إلا على ذلك.
ولو تكلف متكلف، فقال: منافع بضع المرأة على حكمها، والدليل عليه أن الزوجة لو وطئت بشبهة في صلب النكاح، فالمهر لها، فإذا انعزلت عن زوجها في الاعتداد، ثم وطئها الزوج-وحُكم الانعزال مستمر عليها- فقد أتلف منفعةً هي بحكمها.
وهذا تلبيسٌ؛ فإن الزوج لو كان مستحق المنفعة، لكان بالوطء مستوفياً منفعةً هو مستحقها.
9345- ثم ذكر أصحابنا تصرفاً على النص فقالوا: قال الشافعي في الرجعية: إذا وطئها الزوج يلزمه المهر، راجعها، أو لم يراجعها. وقال: إذا ارتدت المرأة، فوطئها الزوج وكانت مدخولاً بها، فعادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، لم يلتزم مهرها، ولو أصرت على الردة حتى انقضت العدة، التزم مهرها؛ فقال الأئمة: أما إذا أصرت على الردة حتى انقضت العدة، فلا شك في لزوم المهر؛ فإن الوطء صادف البينونة.
وهذا لا يدرج في خيال الخلاف وإمكانه.
فأما إذا عادت إلى الإسلام، فمن أصحابنا من قال: ننقل جواب الرجعية إلى المرتدة، وجواب المرتدة إلى الرجعية، ونقول: في المسألتين قولان نقلاً وتخريجاً.
وهذا كلام مختلط لا ثبات له: أما المرتدة إذا عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، فقد تبينا بالأخرة أن الزوج وطئها، ولا انخرام في النكاح؛ فإن الأمرَ كان على التوقف، فإذا بان من الموقوف أحدُ طرفيه، التحق الحكم فيه بما لو كان مستحقاً في ابتداء الأمر، فلا وجه لذكر الخلاف هاهنا.
وأما وجوب المهر في الرجعية، فلا وجه إلا ما ذكرناه من اعتقاد زوال الملك على التدريج المقدّم.
9346- ثم يحيك في الصدر التوريثُ من الجانبين، وأقصى الإمكان فيه أن يقال:
لا يختص التوريث بحقيقة الزوجية، وكيف يختص بهذا والموت يُنهي النكاح، فوقع الاكتفاء بعُلقة فيها سلطنةُ الزوج، سواء كانت صلبَ النكاح أو تابعةً تستدعي قهر الزوج، فإذا ماتت تحت قهره، أو مات عنها وهي مقهورة، فالتوريث ثابت. هذا أقصى الإمكان.
وليت شعري ماذا نقول إذا قال الرجل: زوجاتي طوالق؟ فالرجعيات هل يندرجن تحت مطلق هذا اللفظ؟ كان شيخي يقطع بأنهن يدخلن، والوجه عندي تخريج هذا على تردد الأصحاب في أن الرجعية زوجة أم لا؟ وهذا أهون مُحتمَلاً من الأحكام المتناقضة التي ذكرناها.
وقد اختلف القول في أن من قال: عبيدي أحرار، فهل يدخل المكاتَبون تحت هذا اللفظ، أم لا؟ وقد يعترض للفقيه أن الكتابة تُوقِع حيلولةً لازمة بين المَوْلى وبين العبد، بخلاف الطلاق الرجعي، فإن الأمر في الطلاق وتدارك حرمته إلى الزوج، والمسألة على الجملة محتَمَلة.
9347- ومما يتصل بالقول في تحريم الرجعية أن الزوج إذا اشترى زوجته الأمة، نُظر: فإن اشتراها في صلب النكاح، فقد اختلف أصحابنا في أنها هل تحل له من غير استبراء، فقال قائلون: لابد من الاستبراء، لأنه استحدث ملكاً عليها، ومن القواعد الممهدة أن من ملك جارية لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها.
ومن أصحابنا من قال: له أن يستحلّها من غير استبراء، بخلاف ما إذا اشترى جارية ليست منكوحتَه؛ فإن من ملك جارية، فإنها إذا لم تكن مستحَلَّةً له من قبل، فإذا كان الملك المتجدد مترتباً على حظرٍ سابقٍ، فلا يمتنع إيجاب الاستبراء، وإذا اشترى منكوحته، فإنما نقلها من سبب حلٍّ إلى سبب حلٍّ، فلا معنى لتخلل الاستبراء بينهما.
ولو طلق زوجته الأمة طلاقاً رجعياً، ثم اشتراها في العدة، فقد قال الأصحاب: لا يحل له وطؤها حتى تنقضي بقيةُ العدة بعد الشراء، أو ينقضي الاستبراء، كما سنوضحه في التفريع، والسبب فيه أنه نقلها من حرمةٍ إلى الملك، وليس كما إذا اشترى زوجته، فإنه نقلها من حلٍّ إلى حل.
فإن قيل: أليس لو ارتجعها، استحل وطأها وكانت محرمة عليه؟ فاجعلوا طريان ملك اليمين بمثابة طريان الرجعة؟ قلنا: ملك اليمين يضادّ النكاح، ويتضمّن قطعَه وفسخَه، والرجعة تردّها إلى ماكانت عليه من قبلُ، فإذا اختلف ملك اليمين والنكاح، لم يكن أحدُهما مستدركاً لما وقع في الثاني من خلل.
فيجب إذاً أن نقول: من اشترى جاريةً وكانت محرمةً عليه من قبلُ، فلا يحل له ابتدارُ وطئها والتسارع إلى غشيانها من غير جريان ما هو استبراء.
9348- ثم إن كان بقي من العدة مقدار قليل والاستبراء يزيد عليه، أو كان الباقي
أكثرَ من الاستبراء، فقد قال معظم الأصحاب: يُكتفى بأقلِّ الأمرين، وقال آخرون:
لا بد من الاستبراء الكامل، وهذا قياس؛ فإنا لو نظرنا إلى ما سبق، لقلنا: إنها تحل؛ فإن عدتها تؤثر في تحريمها على الغير، وليست المعتدة عن الرجل محرمةً عليه للعدة، ولكن التحليل يستدعي شيئاً من رجعة أو نكاحٍ مجدد، وقد جرى سبب التحليل وهو الملك، فلو كنا ببقية العدة وبقية العدة ليست استبراء، لكانت العدة مؤثرة في تحليلها له.
وهذا غير سديد.
فانتظم ما ذكرناه أن بقية العدة إن كانت لا تزيد على الاستبراء، أو كانت تزيد، فالاستبراء كافٍ. وإن كانت بقية العدة أقلَّ من الاستبراء، ففي المسألة وجهان.
وفي الكلام نوع من الاختلاط؛ فإن الاستبراء بالحيض، والعدةُ بالأطهار، فكيف يترتب استواء البقية ومدة الاستبراء، فلا وجه إذاً لتصوير الاستواء، فإجراؤه في الكلام مجاز، والحيضة الكاملة لا تقع في العدة إلا وبعدها طهر يتبين انقضاؤه بالطعن في الحيضة الأخرى، فإذا كان كذلك، فيقع الاكتفاء بالحيضة، وإن بقي من العدة بقية طهر، فمن أصحابنا من يكتفي بها، ومنهم من يشترط حيضاًً.
وإن فرعنا على وجهٍ بعيد في أن الاستبراء بالطهر كالعدة، فينتظم على هذا الوجه البعيد تصوير الاستواء، ولكن إذا كان بقي من الطهر بقية، فهذه البقية استبراء كامل على هذا الوجه البعيد.
وما يتعلق بالاستبراء من هذا الفصل، فسيأتي استقصاء القول فيه في كتاب الاستبراء.
9349- ولو طلق زوجته ثلاثاًً وكانت مملوكة، فلو اشتراها، فالمذهب أنه لا يستحل وطأها ما لم تنكِح زوجاً على شرط التحليل؛ فإن الطلقات الثلاث تُثبت حرمةً ممدودةً إلى وطء المحلل، والتخلِّي منه.
ومن أصحابنا من قال: يحل له وطء المطلقِة ثلاثاًً بملك اليمين، وهذا غريب، ووجهه على بعده أن الطلقات الثلاث خاصّيتها تحريمُ عقد النكاح، وهو لم ينكحها، وإنما ملكها، فلو عَتَقت، فأراد أن ينكحها، لم ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره.
ولا ينبغي أن يُخطر الفقيهُ بباله أنا إذا فرّعنا على هذا الوجه الضعيف، فكأنا أسقطنا حكم الطلقات بالملك، فإذا زال الملك، كان له أن ينكحها؛ فإن هذا مصير إلى إقامة الملك مقام التحليل، وهذا لا يجوز، فالوجه ما قدمناه.
فصل:
قال: "ولو أشهد على رجعته... إلى آخره"
9350- الإشهاد على الرجعة مأمور به، والأصل فيه قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] والمنصوص عليه في الجديد، أنه لا يجب الإشهاد، ولكن يستحب، وسبب استحبابه مقابلة ما يتوقع من الجحود بشهادة الشهود، وقد ندب الله تعالى إلى الإشهاد على المداينات، ونصّ الشافعي في القديم على وجوب الإشهاد، وبه قال مالك.
توجيه القولين: من لم يوجب الإشهاد احتج بأن الرجعة في حكم استدامةٍ واستمرارٍ على النكاح السابق، ولذلك لم تفتقر إلى الرضا والولي، ولا يتصور أن يثبت بسببها مهر، وإن سُمِّي، فكان الإشهاد فيه مستحباً غيرَ مستحَق.
ومن نصر القول القديم، احتج بظاهر قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، ومالك رأى الإشهاد في الرجعة ركنَ الرجعة، ولم يشترط الإشهادَ في النكاح، ولكن اشترط الإعلان بأي جهةٍ تتفق، والرجعةُ على الجملة مردّدة في ظن الأصحاب بين النكاح وابتداء العقد، وبين الاستدامة والاستصحاب، ولما كان الظاهر أن الإشهاد لا يُشترط، خرّج القاضي عليه ما ذكره الأصحاب من أن المحرم يرتجع زوجته المطلّقة وإن كان لا ينكِح ابتداء.
وذهب شرذمة من الأصحاب إلى أن المُحْرِم لا يصح منه الرجعة.
قال القاضي: هذا الخلاف خارج على أن الإشهاد هل يشترط؟ فإن جعلنا الإشهاد شرطاً، فقد أحلَلْنا الرجعة محلَّ النكاح، فلا يمتنع أن لا تصح من المحرم، كما لا يصح منه ابتداء النكاح، وإن لم نشترط الإشهاد على الرجعة، فقد أحللناها محلّ الاستدامةَ. والإحرامُ لا ينافي استدامةَ النكاح.
9351- ومما ذكره تخريجاً على ذلك أن العبد إذا طلّق، فله المراجعةُ دون إذن السيد، قال القاضي: هذا إذا لم نشترط الإشهاد، فإن شرطنا الإشهاد على الرجعة، ونزَّلناها منزلةَ ابتداء النكاح، فلا يمتنع أن لا تصح الرجعةُ من العبد إلا بإذن السيد.
وهذا الذي ذكره على نهاية البُعد؛ فإنا لا نوجب الإشهاد لكون الرجعة بمثابة عقد النكاح، ولا معتمدَ في اشتراط الإشهاد إلا التعلّق بنص القرآن، ومن طمع في توجيه هذا القول بمسلك من مسالك المعاني، فقد أبعد، ولو كان كما ظن، لتردد الرأي في اشتراط إذنها وفي اشتراط الولي، فلما حصل الوفاق على أنهما لا يُشترطان، تبين أن الرجعةَ ليست عقداً، ووجوب الإشهاد في القول القديم مربوط بظاهر القرآن، كما قدمنا الاستدلال به.
وأما ما ذكره في فصل العبد، فمما لا أستجيز إلحاقَه بالمذهب، وهو قول مسبوق بإجماعٍ للأصحاب على خلافه. ولو كان يخرّج من قولِ وجوب الإشهاد قولٌ في أن العبد يحتاج إلى مراجعة سيده في الرجعة؛ من حيث شابهت الرجعةُ النكاحَ في اشتراط الإشهاد، لكان أقربُ تفريع على هذا أن يقال: لا تصح الرجعة ما لم ترضَ المرأة؛ فإن مدار النكاح على رضاها، فإذا لم يُشترط إذنُ المرأة، كان اشتراط إذن السيد بعيداً، بل الوجه القطع ببطلان ذلك.
9352- ومما نذكره على الاتصال بهذا أن الرجعة لا تقبل التعليق بالأعذار والأخطار، ولا بالصفات التي ستأتي لا محالة، بل لا صحة لها إلا من جهة التنجيز كالنكاح، والبيع، وغيرهما من العقود، فلو قال لامرأته: مهما طلقتك، فقد راجعتك، فإذا طلقها، لم تثبت الرجعة، لما بيّناه من امتناع تعليق الرجعة، ولو علق الطلاق بالرجعة، فقال لامرأته الجارية في عدة الرجعة: مهما راجعتك، فأنت طالق، فإذا راجعها، طلقت.
وقد ذهب شرذمة من أصحابنا إلى أن تعليق الطلاق بالرجعة لاغٍ؛ فإن المقصود من الرجعة الإحلال، فلا يجوز تعليق نقيضه به، وهذا غير معتد به ولولا أن القاضي حكاه، لما حكيته.
9353- ثم ذكر الأصحاب نوعاً من الاختلاف متصلاً بفصل الإشهاد، وهو قريب المُدرك، فنذكره على ما ذكره الأصحاب، ثم نعقد فصلاً يجمع بيان أحكام اختلاف الزوجين في الرجعة، وانقضاء العدة، فنقول:
إذا راجع امرأته وأشهد على ذلك، ثم إنها نكحت زوجاً، ولم تشعر بالرجعة، أو علمتها، ولم تبالِ بها، فنقول: إذا ادعى الزوج تقدم الرجعة على النكاح، فإن أقام بينةً تَبيَّن لنا أن النكاح مردود، والشافعي يُطلق في مثل هذا المقام الفسخَ، فيقول: "النكاح مفسوخ" ومراده بالمفسوخ المردود، كما ذكرناه. هذا إذا أقام الرجل بيّنة على الرجعة.
فإن لم يكن له بيّنة-وقد نكحت المرأة زوجاً- فإذا ادّعى المطلِّق الأول الرجعةَ، نُظر: فإن أقرت المرأة بالرجعة، لم يُقبل إقرارُها؛ لأنها تُبطل به حقَّ الغير، وهو حق الزوج الثاني، وإن أنكرت، فهل تحلّف؟ هذا مما تمهد في كتاب النكاح، والقدرُ المغني في نظم الكلام أنها لو أقرت بعد ما نكحت، فإقرارها مردود، ولكنها هل تغرَم للمطلِّق الذي ادعى الرجعةَ المهرَ، فعلى قولين، تمهّد أصلُهما، ووضح فرعهما في كتاب النكاح، فقال الأئمة: عرض اليمين عليها إذا أنكرت يخرِّج على القولين في أنها لو أقرت هل تغرَم للمقر له المهرَ فإن قلنا: إنها تغرم، فاليمين معروضة عليها فعساها تُقرّ أو تنكُل عن اليمين إذا عُرضت عليها، فيحلف المدير يمين الرد، ويغرّمُها.
وإن قلنا: إنها لا تغرَم، فلا فائدة في عرض اليمين.
ثم إن عرضنا اليمين، فجحدت ونكلت، وحلف الرجل يمين الرد، فالمذهب أن النكاح لا يُردُّ في حق الثاني.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: إذا حكمنا بأن يمين الرد بمثابة البينة المقامة، فالنكاح يبطل، وترتد هذه إلى النكاح الأوّل.
وقد ذكرت هذا الوجهَ وزيفته في النكاح، وبنيت عليه أنا إذا كنا نرى ردّ النكاح، فلا يتوقف عرضُ اليمين على مصيرنا إلى أنها تغرَم لو أقرت، بل نعرض اليمين ونحن نتوقع ارتداد النكاح الجديد، وهذا بعيدٌ لا تعويل عليه. ولا أثر عندنا لدخول الزوج الثاني بها خلافاً لمالك. وهذا مما قدمته أيضاً في كتاب النكاح.
9354- ولو أراد من يدّعي الرّجعة أن يوجه الدعوى على الزوج، فالمذهب أنه لا يجد إلى ذلك سبيلاً؛ لأنّه لا يد للزوج إلا على زوجته، فليدّع على الزوجة لا غير.
وذكر العراقيون وجهاً أنه لو أراد أن يدعي على الزوج، جاز لاستيلائه حكماً عليها، وهذا له غَوْرٌ وغائلةٌ، وسنستقصي أسراره في كتاب الدعاوى، فليس هذا من خواصِّ كتاب الرجعة.
9355- ومما يتعلق بهذا الفصل أن العدة إذا انقضت في ظاهر الحال، وادّعى الزوج أنه كان راجعها من قبلُ، فأنكرت المرأة الرّجعةَ-واقتضى ترتيب المذهب تصديقها مع يمينها، كما سنفصل صور اختلاف الزّوجين على أثر هذا، إن شاء الله تعالى- فلو أنها بعد ما أنكرت الرّجعة وصدقناها، عادت فأقرت بجريان الرجعةِ- وما كانت نكحت؛ حتى يؤدي إقرارُها إلى إبطال حق الزوج الثاني- فقد قال العلماء: إقرارها مقبول، وإن سبق منها إنكارٌ، وهذا قد يعترض فيه إشكال؛ من جهة أن قولها الأول، اقتضى تحريمها على ذلك المطلّق، وإذا سبق منها قول يدل على تحريمها، فقبول نقيض ذلك القول مشكلٌ.
وقد قال الأصحاب: إذا قالت المرأة: أنا أخت فلان من الرضاع أو النسب، ثم أنكرت ذلك، وكذّبت نفسها فيما سبق منها، فلا يُقبل قولُها الثاني، وقد سبق منها الاعتراف بما يوجب الحرمة، وهذا من مواقف الاستفراق؛ فقال الأصحاب: حرمة الرضاع مؤبّدةٌ مؤكّدة، بخلاف حرمة البينونة بانقضاء العدة.
وهذا لا يَشفي مع ثبوت الحرمة في الموضعين، والاستفراق في أصل الحرمتين.
وقال قائلون: الفرق أن الرضاع يتعلق بها وهي أحد الركنين فيه؛ فإقرارها به يكون على ثبتِ وتحقّقٍ، فلا يَقبل الرجوعَ، والرجعةُ تثبت وهي لا تشعر، فلا يمتنع أن تنكرها، ثمّ تذكّرَها وتعترفَ بها.
وهذا غير شافٍ أيضاًَ؛ فإن الرضاع يجري في الحولين، والمرتضِع لا يشعر به في الغالب، وإن شعر به في الحال نسيه، وذَهِلَ عنه في المآل، فلا خير في هذا الفرق.
فالوجه إذاً أن نقول: اعترافها بأخوّة الرضاع والنسب مستندٌ إلى ثبوت، فلم يقبل الرجوع فيه قياساً على الأقارير كلها، وجحدُها الرجعة-وإن صُدّقت- يستند إلى نفي ذلك، ولذلك لا تحلف على البتّ، بل تحلف على نفي العلم، ولا امتناع في أن تقول: لا أعلم، ثم تعلم.
ولو ادعت المرأة على الزوج أنه طلقها، فأنكر، ونكل عن اليمين، وحلفت المرأة، ثم كذَّبت نفسها، فلا معوّلَ على تكذيبها بعد ما ادّعت الطلاق، وإن كان كذبُها ممكناً، ولا يمتنع صدقُها في القول الثاني، ولكن إذا استند قولها إلى إثباتٍ، لم يقبل رجوعها.
ولو نكحت المرأة، فقالت: لم أرض-وكانت على صفةٍ يفتقر النكاح إلى رضاها- فإنا نصدقها مع يمينها، فلو قالت: تذكّرت أنّي رضيت، فهذا محتمل عندي، وإن كان نفياً؛ فإنه نفيٌ تتعلق اليمين الباتّة به، فيتجه ألا نصدقها، ويظهر أيضاًً أن نصدّقها.
9356- ويترتب مما ذكرناه ثلاث مراتب: إحداها- أن يتعلق الاعتراف بإثباتٍ، فلا يُقبل الرجوع عنه، إذا كان يتعلق بحق الغير، كحق الله في الطلاق.
وما يتعلق بنفي فعل الغير، فالرجوع عنه لا يَمتنع قبولُه إلا في حكمٍ واحد، وهو أن يتضمن قولُه الأول سقوطَ حقه: مثل أن يقول: "ما أتلف فلانٌ مالي" فإذا عاد وادعى الإتلاف. على مناقضة ذلك القول، لم يقبل منه؛ فإنه بنفي الفعل اعترف بانتفاء استحقاقه.
وإذا تعلق الاعتراف، أو القول الذي ليس اعترافاً بنفيٍ يتعلق بالنافي، كقول المرأة: لم أرض مع قولها من بعدُ: قد تذكرت أني كنت رضيت، فهذا فيه احتمال.
ولست أخوض في فصلٍ يتعلق بالتنازع إلاّ وأنا أستشعر منه وَجَلاً لعلمي بأنه لا يمكن الانتهاء إلى استقصاء أطرافه، وهو محالٌ على الدعاوى والبينات، وسنأتي فيها بالعجائب والآيات-إن شاء الله- وعندها تنكشف أسرار الخصومات.
فصل:
قال: "ولو قال: راجعتك قبل انقضاء العدة... إلى آخره".
9357- من أهم ما يجب الاعتناء به، وقد كثر تَرْدادُه في الكتب وتردُّدُ الاستشهاد به، والطرق مضطربة فيه غاية الاضطراب- القولُ في اختلاف الزوج والمرأة في الرجعة وانقضاء العدة، ورَأْيُنا في أمثال هذه الفصول، أن نأتي بجميع المنقول، على ما فيه من الاختلاف، ثم ننعطف عليه بالتنقيح والتصحيح، وهذا الفصل لا يحتمل هذا المسلك؛ فإن القول فيه يتكرر وينتشر، فالوجه أن نأتيَ بمضمون الفصل منقحاً على ما ينبغي، ونجمعَ اختلافَ الطرق، بعد تقرير البحث في النفس، وتعرية الكتاب عن طرق المطالب، فنقول:
9358- الكلام في هذا المقصود يتعلق بثلاثة فصول: أحدها: فيه إذا جرت الرجعة، وذكرت المرأة انقضاء العدة، وحصل الوفاق على الأمرين، ورجع النزاع إلى التقديم والتأخير، هذا فصلٌ، فنشتغل بما فيه، ثم نذكر بعده الفصلين، فنقول:
إذا توافق الزوجان على انقضاء العدة، وجريان لفظ الرجعة، وتنازعا في التقدم والتأخر، فالقول في ذلك يتعلق بمسائلَ: إحداها- أن يتفقا على وقت انقضاء العدّة ويختلفا في وقت الرّجعة: نحو أن يتفقا على أن العدة انقضت يوم الجمعة غيرَ أن الزوج زعم أنه ارتجع يوم الخميس المتقدّم على الجمعة، وزعمت المرأة أن الرجعة جرت يوم السبت.
قال المراوزة الآخذون عن القفال: شيخي، والقاضي، والشيخُ أبو علي، ومن صنف في طريقته: القولُ قول المرأة؛ واعتلّوا بأن انقضاء العدة متفق عليه، محكومٌ به، والزوج يدّعي رجعةً قبل الوقت المتفق عليه، والمرأة تنكر ذلك، والأصل عدم الرجعة، والمرأة مؤتمنة في انقضاء العدّة، وقد أجرى الزوج الرجعة في وقتٍ مضى زمنُ العدّة قبله، والعدةُ أوانُ الرجعة، ومضطرب سلطان الزوج، فيتنزّل هذا منزلة ما لو وَكَّل رجل رجلاً ببيع مالٍ، ثم إنه عزله على رؤوس الأشهاد، فادعى الوكيل أني كنت بعت المتاع قبل العزل، فلا يقبل قول الوكيل، كما لا يقبل قول الولي بعد زوال الولاية في تصرفٍ يُقرّ به مستنداً إلى حالة الولاية، كما لا يُقبل قول القاضي بعد الانعزال، بأني كنت حكمت لفلان بكذا، فكذلك إذا ادعى الزوج الرّجعة، فالسّبيل فيه ما ذكرناه.
9359- وذكر صاحب التقريب والعراقيون في هذه الصورة وجهاً آخر مضاداً لما ذكرناه عن المراوزة، وذلك أنّهم قالوا: إذا كان الوقت الزماني في العدة متفقاً عليه، فالقول قول الزوج في ادعاء الرجعة قبل ذلك.
ووجه هذا: أن المرأة، إنما تُصدّقُ في إخبارها عن طهر وحيض، وقد صُدّقت، فانتهى قولها، وبقي وراء ذلك ادعاء الزوج رجعةً يوم الخميس المتقدم على الجمعة المتفق عليها، الزوجُ يدعيها، ولو صُدِّق فيها، لما انقضت العدة، بل كانت تنقلب إلى صلب النكاح، وصدْقُ الزوج ممكن فيها، والزوجُ أعرف بالرجعة منها؛ إذ لا يشترط في الرجعة مخاطبتها، أو إعلامها، فنفيها الرجعةَ بعيد عن القبول.
وهذا يعتضد بمسألة اتفق الأصحاب عليها، وهي أن الزوج لو أقر بالعنّة، لمّا رَفَعت المرأةُ الأمرَ إلى القاضي، واقتضى ترتيب القضاء تأجيلَه سنة، فإذا انقضت، وادّعى الزوج أنه وطئها، وأنكرت المرأة الوطء، فالأصل عدم الوطء، وقد اعتضد ذلك بإقرار الزوج بالعجز والعنة، ثم جعلنا القولَ قولَ الزوج مع يمينه؛ تشوفاً إلى استبقاء الزواج، فليكن الأمر كذلك في الرجعة.
وهنا مزيد ترجيح، وهو أنها في الغالب تشعر بالوطء، وقد لا تشعر بالرجعة.
فإن أُلزم هذا القائلُ ادعاءَ الوكيل البيع بعد جريان العزل مع إسناده البيع إلى ما قبل العزل، فسبيل الجواب: أنا إنما نصدّق الوكيل في البيع؛ من جهة أنه قادر على إنشاء البيع، ومن الأصول الممهّدة أن من قدر على إنشاء شيء، فخبره عنه مقبول، هذا هو الذي يوجب تصديقَ الوكيل لا غيرُ، وإلا فلا يتحقق في الموكَّل بالبيع ما يتحقق في المودَع، والدليل عليه أن المودَع لو ادعى ردَّ الوديعة على غير المودِع بأمر المودِع، فقد لا يصدق، وبيع الوكيل يتعلق بثالث، فاستبان أنه ليس على قانون الودائع والأمانات، فإذا انقطع سلطانه ظاهراً، استحال قبول قوله، وأما جانب الزّوج؛ فإنه يعتضد بما جعلناه عُهدة الكلام من استبقاء النكاح والاستشهاد بالوطء.
وقد ينقدح لصاحب الوجه الآخر أن يقول: الطلاق قاطع للنكاح، والزوج يدعي استدراكاً، وفسخ المرأة بالعنة إنشاء قطع، فيتجه ثَمَّ الاستبقاء؛ فإن النكاح بعيد عن الفسخ، وهاهنا انثلم النكاح بالطلاق، وإن كان الزوج على سلطنته في التدارك، فهذا سرّ التوجيه.
9360- وذكر صاحب التقريب في هذه الصورة وجهاً ثالثاً، لا يكاد يفهم إلا بتقديم المعنى الذي يُنتجه، فنقول: تصديق الزوج في الرجعة أصلٌ على قياس الاستبقاء، وتصديقُ المرأة في انقضاء العدة أصلٌ، فهما متقابلان، فمن سبق إلى دعواه، فالحكم له.
فإن قال الزوج أولاً: قد راجعتك يوم الخميس، فقالت المرأة: انقضت عدتي يوم الجمعة، وما راجعتَ يوم الخميس، فالزوج هو المصدَّق مع اليمين؛ والسبب فيه أنّه أنشأ دعوى الرّجعة منتظماً مع تمادي العدة، فإذا ذكرت الانقضاءَ بعد هذا القول، قيل لها: وقع الحكم بالرجعة، ورؤيتُك الدمَ بعد هذا لا تكون انقضاء العدة، وإنما هو رؤية الحيض في صلب النكاح، ولا بدّ مع هذا من تحليف الزوج.
وإن سبقت المرأة وقالت: انقضت عدتي، وكان ذلك صحوة يوم الجمعة، فقال الزوج-بعد قولها-: قد راجعتك أمس، فالقول قول المرأة؛ فإنها لما ذكرت طَعْنَها في الحيض الرابع، فقد وقع الحكم بانقضاء العدة، فإذا أنشأ الزوج بعد هذا قولَه، لم يُقبل منه.
وهذا الوجه ارتضاه صاحب التقريب، واختاره العراقيون.
وفي الحالة الأخيرة سرٌّ ينبّه على الغرض: فإذا قلنا: المتبع قولها، فاليمين لا تسقط، فتحلف بالله لا تعلم أن الزوج راجعها أمس؛ فإنها بيمينها تنفي فعل الغير، والزوج إذا كان هو السابق المبتدر، فيحلف بالله أنه راجعها، فإنّ يمينه تتضمن إثبات قوله.
9361- فقد انتظمت ثلاثة أوجه في هذه الحالة: أحدها: تصديق الزوج كيف فرض الأمر.
والثاني: تصديق المرأة مطلقاً.
والثالث: النظر إلى من يبتدر، قال العراقيون: من ابتدر منهما، فالحكم لقوله بلا خلاف، وإن أنشآ قَوْلَيْهما معاً، فحينئذ وجهان:
أحدهما: أن القول قول المرأة، وهو فيما حكَوْه اختيار أبي العباس وأبي إسحاق.
والوجه الثاني-ذكره صاحب التقريب وغيرُه- أن القول قول الزوج.
التوجيه: من قال: القول قول المرأة إذا أنشآ قوليهما معاً، قال: المرأة مؤتمنة، وليست منشئةً أمراً، وإنما هي مخبرةٌ عما هي مصدّقة فيه، فلا اطلاع عليها إلاّ من جهتها، والزوج يدعي إنشاء رجعةٍ على اختيار منه، فكان أبعد عن التصديق.
ومن قال: القول قول الزوج، احتج بأن قال: المرأة لا تخبر عن انقضاء العدة، وإنما تخبر عن مَرِّ أطهارٍ وحِيَضٍ، والزوج يُخبر عما ملّكه الله من الرجعة، فكان قوله أوْلى بالقبول، وهذا إذا ضَمْمناه إلى ما تقدّم، انتظم من المجموع أوجهٌ، ونحن نرى إعادةَ جميعها:
فمن أصحابنا من صدّق المرأة مطلقاً.
ومنهم من صدق الرجلَ مطلقاً.
ومنهم من قال: المصدّق منهما من يبتدر، ثم من يدعي الابتدار يُفرِّعُ، ويقول: إن صدر القولان منهما معاً، فوجهان.
هذا مجموع ما ذكره الأصحاب في صورة تقدّم الرجعة على يوم الجمعة وتأخرها عنها.
9362- فأما إذا وقع الوفاق على أن الرجعة وقعت يوم الجمعة، وقالت المرأة: انقضت عدتي يوم الخميس، وقال الزوج: بل انقضت يوم السبت، فهذه الصّورة تجري فيها الوجوه المقدمة، ولا نتبرم بإعادتها لمزيدٍ فيها.
قال المراوزة القول قول الزوج؛ لأن الرجعة وقع الوفاق على جريانها، والمرأة ادعت انقضاء العدة والأصل بقاؤها.
وقال صاحب التقريب والعراقيون: القول قول المرأة؛ فإنها تقول: ما يقوله الزوج صورةً ولفظاً اتفقنا عليه، فانتهى قول الزّوج نهايته، وأنا ادعيت انقضاء العدة قبل هذا الوقت، فلزم تصديقي.
ومن أصحابنا من فَصَل بين أن تبتدر وتقولَ، أو يسبق الزوج فيقولَ، كما مضى، ثم التفريع على وجه الابتدار يجري على النسق المقدم.
والذي نَزيده في هذه الصورة أن قول الزوج: "قد راجعتك أمس" مع الوفاق على وقت انتهاء صور الأقراء، ادّعاءُ رجعةٍ فيما سبق، بعد ظهور انقطاع سلطانه بالوفاق على وقت انقضاء مدة العدة، فكان ذلك شبيهاً بدعوى الوكيل بعد العزل، أما إذا وقع الوفاق على لفظ الرجعة، ووقتِه، فقول المرأة: "قد كانت عدتي منقضيةً قبلُ"، ليس إنشاءَ أمرٍ منها ولا إخباراً بإنشاء أمرٍ فيما سبق، بل أخبرت عما رأت قبلُ، وهي مؤتمنة فيما تُخبر عنه؛ إذ لا مطّلع عليه إلا من جهتها، وهذا المعنى الموجب لتصديقها يستوي فيه الصور كلُّها، وهذا حسن بالغ، ومقتضاه أن نغلّب في الصورة الأولى تصديقَها كما مضى، ونغلبَ في هذه الصورة تصديقَها، وهذا بعينه هو الوجه الذي حكاه العراقيون عن أبي العباس بن سريج، وأي إسحاق، وما ذكرناه تنبيهٌ على وجه التوجيه فيه.
وقد نجزت مسألتان في هذا الفصل.
9363- المسألة الثالثة: ألا يقع التعرض لوقت الرّجعة، ولا لوقت انقضاء العدة، ولكن يقول الزوج: راجعتك قبل انقضاء العدة، وتقول المرأة: بل انقضت عدتي قبل الرّجعة. كان شيخي فيما سمعتُه، وبلّغنيه عنه بعضُ الأثبات يذكر وجهين في هذه الصورة:
أحدهما: أن القول قول الزوج؛ تغليباً لاستبقاء النكاح.
والثاني: أن القول قول المرأة؛ تغليباً لائتمانها وتصديقها فيما لا مطّلَع عليه إلا من جهتها، بخلاف الرّجعة؛ فإنه يُتصور الإشهاد عليها والإشعار بها.
قال ابن سريج: إذا تعارض أصلان، فالتحريم أغلب، وظهر هاهنا اعتبار المبادرة إلى الدعوى، فمن سبق، فهو المصدّق، ومن لا يعتبر المسابقة يفرض صدور اللفظين معاً، ويذكر الوجهين، كما قدّمنا.
وفي فصل المسابقة والتفريع عليه مزيد شرح لا يتأتى ذكره هاهنا، فإن اختلج في نفس الطالب شيء، فصبراً حتى ينتهي إليه.
وقد نجز فصلٌ واحد من الفصول الثلاثة الموعودة.
الفصل الثاني
9364- فيه إذا وقع الوفاق على الوقت الذي قالت المرأة فيه: "انقضت عدّتي"، فقال الزوج: "قد راجعتك قبل هذا"، وأنكرت المرأة قوله، وما اعترفت بارتجاعه أصلاً، والفصل الأول فيه إذا اعترفت بارتجاعه، وأنكرت التقدم على وقت انقضاء العدة، فأصل لفظه متفق عليه، والخلاف في وقته، وهاهنا أصل الارتجاع قد أنكرته المرأة.
قال صاحب التقريب: هاهنا القول قول المرأة بلا خلاف، من غير تفصيل.
وهذا عندي خطأ صريح؛ فإنها إذا اعترفت برجعةٍ بعد العدّة، فذلك الاعتراف لا حكم له؛ فإنها ما أقرّت برجعةٍ، وإنما أقرت بالتلفظ بصيغة الرجعة، وقال الزوج: لو أتيتُ بلفظ الرجعة في الوقت الذي اعترفت المرأة به، لكان لغواً غيرَ مفيدٍ، فإذاً التنازع يؤول إلى ما ادّعاه الزوج من الرجعة يومَ الخميس. هذا مثار الخلاف، والاعتراف بقوله يوم السبت باطل، فتعود المسائل الثلاث في ذلك بما أجرينا فيها من الأوجه. ولا ينبغي للفقيه أن يتمادى فيه.
الفصل الثالث
في تنازع الزوجين والعدة باقية
9365- فإذا قال الزوج: راجعتك أمس، وقالت المرأة ما راجعتني أصلاً، والعدّة باقية، وربما يجري هذا في صدر العدّة.
قال صاحب التقريب: المذهب أن القول قول الزوج؛ فإنه ادعى الرّجعةَ في وقت لو أراد إنشاءَ الرجعةِ فيه، لأمكنه، فقوي جانبه بذلك، وقُبل قوله فيه.
وحكى وجهاً غريباً أن القول قولُ المرأة في نفي الرجعة فيما سبق؛ فإن الأصل عدم الرجعة، وبقاءُ أثر الطلاق؛ فإن أراد الزوج تحقيق ما قال، فليبتدىء ارتجاعاً.
وهذا بعيد جداً، ويلزم على قياس ذلك أن يقال: إذا وكل وكيلاً ببيع شيء من ماله، فقال الوكيل: قد بعته، وأنكر الموكِّل بيعَه، ولم يعزله عن الوكالة، فالقول قول الوكيل؛ لأنّه ادّعى البيع في وقتٍ لو أنشأه، لنفذ منه، فإنْ طَردَ الخلاف في الوكيل، كان هاجماً على خرق الإجماع، وإن سلّمه، عَسُر الفرق بين رجعة الزوج وتصرف الوكيل. وهذا الوجه أراه غلطاً كالوجه الذي ذكره في الفصل الثاني، وقد ذكرته الآن.
9366- فإذا قطعنا بأن القول قول الزوج إذا كانت العدة باقيةً، فقد كان شيخي يحكي عن القفال أنّ الإقرار بالشيء في وقت إمكان إنشائه بمثابة إنشائه، وإن كان إقراراً على الحقيقة، وهذا لست أرى له وجهاً؛ فإن الإقرار نقيضُ الإنشاء، فيستحيل أن يفيده ويقوم مقامه، والإقرار يدخله الصّدق والكذب بخلاف الإنشاء، فإذا أقرّ كاذباً كيف نجعله منشئاً؛ فلا وجه لذلك.
وكان شيخي يطرد هذا الوجه في الطلاق، ويقول: الإقرار بالطلاق طلاقٌ عند هذا القائل.
وهذا خطأ؛ فإن الشافعي وأصحابَه نصّوا على أنّ من أقر بالطلاق كاذباً، فالزوجية قائمةٌ بينه وبين الله، ولو كان الإقرار الكاذب طلاقاً واقعاً ظاهراً وباطناًً، لما تُصوِّرت مسائل التديين، وقد قلنا: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، ونوى الطلاق عن وِثاق، لم يقع الطلاق باطناًً، ولم نعرف في هذا خلافاً، ومن يقول بوقوع الطلاق باطناًً إذا أقر كاذباً، وهو لا يبغي الإنشاء، بل صرح بإسناد الطلاق إلى ما مضى مخبراً غير موقع، فكيف يقع الطلاق باطناً.
فإن قيل: نصَّ الشافعيُّ على أنّ من نكح أَمةً، ثم أقرّ بأني كنت نكحتها وأنا غير خائف من العنت، فهذا طلاق. قلنا: هذا ضمُّ إشكال إلى إشكال؛ فإنّا نبُعد كونَ الإقرار بالطلاق إنشاء، وهذا النص يقتضي أن يكون الإقرار بفساد النكاح إنشاءَ طلاق، وهذا كلام متناقض؛ فإن فساد النكاح يمنع وقوعَ الطلاق، فلا وجه عندي إلا حمل هذا النص على خللٍ في النقل، وليس من الحزم تشويش أصول المذهب بمثل هذا.
9367- فإن قلنا: لا يكون الإقرار كالإنشاء، وصدقنا الزوج في دعوى الرجعة المضافة إلى أمس، فللمرأة أن تُحَلِّفه، فإن كل مصدَّق في الخصومات محلَّفٌ في أمثال ما نحن فيه.
وقد انتهت الفصول الثلاثة وبقيت وراءها مسألةٌ، نص الشافعي عليها في المختصر، ولم يقفْ عليها المزني، ونحن نذكرها، ونذكر لَحْن المزني فيها.
9368- قال الشافعي: ولو قال: "ارتجعتك اليوم، وقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك، صدّقتُها، إلا أن تُقرّ بعد ذلك، فتكون كمن جحد حقاً، ثم أقرّ به"، هذا لفظ الشافعي.
ونحن نقول بعدُ: هذه المسألة نصوّرها إنشاء ونصورها إخباراً، فإذا أنشأ، وقال: راجعتك، فقالت على الاتصال: انقضت عدتي، فالرجعة لا تصحّ، فإنا لو حكمنا بصحتها، لحصلت مع الفراغ من اللفظ، وهكذا سبيل كل ما يتعلق بالألفاظ، وقولُها إخبار، والمخبَر عنه لو صُدّقت يتقدّم على قولها؛ فإن العدة تنقضي ثم تُنشىء على الاتصال-إن ابتدرت- إخباراً عن انقضاءٍ سابق على أول الخبر، وقد ثبت أنها مصدَّقةٌ؛ فإذا قررنا الإنشاء في الرّجعة على حقّه، وصدقناها، وقع انقضاء العدة مع فراغ الزوج من لفظ الرّجعة، فيتبين أنها وقعت في وقتٍ صدّقنا المرأة في انقضاء العدة
فيه.
وحمل معظم الأصحاب قول الشافعي في رسم المسألة على إنشاء الرّجعة منه، وإخبارِها على الاتصال؛ إذ لا يتصوّر منها إنشاءُ أمر، والعدّة لا تنقضي بالقول حسب حصول الرجعة بالقول. وإذا كانت الرجعة توجب الحِلَّ، وانقضاءُ العدّة يوجب البينونة، فإذا انتفى الموجبان، وجب تغليب الحظر، فهذا حمل المسألة على إنشاء الرجعة.
فإن زعم الزوج أنّي لم أرد بقولي: "راجعتك" إنشاءَ الرجعة وإنما أردت الإخبار عن رجعةٍ سبقت مني، فإذا قالت المرأة على الاتصال: انقضت عدّتي، فهذه المسألة تنعطف على الصور التي تقدّمت، فيقع الحكم مثلاً بانقضاء زمن العدة بقولها، ونقول للزوج: متى راجعتَها؟ فإن زعم أنه راجعها قبل هذا بيوم مثلاً، فقوله: راجعتك في الحال لا يزاحم خبرَها عن انقضاء العدة، حتى يقالَ: ابتدر بالدعوى، بل قوله صالح للإنشاء، وهو صريح فيه. وقد ذكرنا أن صريح الإنشاء لا يزاحِم خبرها؛ فهي امرأة مبتدئة بدعوى انقضاء العدة، فإذا قال الزوج بعد ذلك: قد راجعتها قبل هذا الزمان، فهذا كلام مؤخَّر عن قولها، وقد سبق التفصيل فيه إذا ابتدرت، فادّعت انقضاء العدة، ثم ادعى الزوج بعد هذا رجعةً سابقةً.
هذا بيان المسألة إذا صُوِّرت إنشاءً، أو حُمل قولُ الزوج على الإخبار.
9369- ولمّا أورد المزني هذه المسألة جعل الزوج مبتدئاً بدعوى الرّجعة، وقدّر المرأة مستأخرة في دعوى الانقضاء، ورأى أن الزوج أولى بالتصديق.
والذي ذكره قد يتجه إذا تأخّر قولها ولم يتصل، وتقدّمت دعوى الرجل، فأما إذا قال الزوج: راجعتها، فقالت على الاتصال: انقضت عدتي، فلا يتجه إلا إبطالُ الرّجعة؛ فإنّ لفظه صريح في الإنشاء، والإنشاءُ باطل مع الخبر المتصل.
وإن حمله على الإخبار، فلفظه المطلق لا يصل لذلك، فيقع الحكم بالانقضاء، فإن أنشأ بعد ذلك تقديمَ دعوى، فهذا مزيد في تصوير المسألة وإتيانٌ بدعوى أخرى مستَفْتَحةٍ.
هذا بيان الأصول والصور في اختلاف الزوجين. والله أعلم.
فصل:
قال: "ولو دخل بها، ثم طلقها... إلى آخره".
9370- أراد الشافعي رضي الله عنه بقوله: "دخل بها" خلا بها، ثم تعرض للخلاف في ادّعاء الإصابة ونفيِها، وقد ذكرنا اختلاف القول في أن الخلوة هل تنزل منزلة الوطء في اقتضاء العدة وتقريرِ المهر؟ فإن نزّلنا الخلوة منزلة الوطء في إيجاب العدّة، فالرأي الظاهر الّذي يجب القطع به أن الرجعة تثبت ثبوتَها لو كانت موطوءة.
وقال أبو حنيفة: تثبت العدة، ولا تثبت الرجعة، وحكى الشيخ أبو علي وجهاً مثلَ مذهب أبي حنيفة.
وهذا لا اتجاه له في القياس؛ فإن العدة إذا ثبتت في مُطَلَّقة من غير عوض ولا استيفاءِ عدد، فلا معنى لنفي الرّجعة.
قال الشيخ: هذا يوجَّه بأن الرّجعة تستدعي عُلقة كاملة، فإذا لم يجر سبب العلوق، لم تتأكد العُلقة، ومقتضى الطلاق القطعُ وإزالةُ الملك.
ولا حاصل لهذا الكلام؛ فإن العدة تترتب على اشتغال الرحم، أو على جريان سبب الاشتغال، والعدة بهذا المعنى أخص من الرجعة، فإذا لم يبعد وجوب العدة على خلاف قياس موضوعها، لم يبعد ثبوت الرجعة.
وحكى الشيخ أيضاًً وجهين في أنا إذا أوجبنا العدة على المطلقة التي أتاها الزوج في دبرها، فهل تثبت الرجعة في مثل هذه العدة أم لا؟ أحدهما- تثبت الرجعة، وهو القياس.
والثاني: لا تثبت؛ فإن إيجاب العدة في حق المأتيّة في غير المأتَى مرتبط بضروبٍ من التغليظ، ويليق بالتغليظ نفيُ الرجعة، وهذا الوجه على ضعفه قد يستند إلى ما ذكره الشيخ من التغليظ. أما الوجه الذي حكاه في الخلوة، فلا وجه له أصلاً.
9371- ومما ذكره الشيخ متصلاً بهذا أنه لو قال لامرأته: مهما وطئتك، فأنت طالق، فإذا وطئها، وقع الطلاق، واستقبلت العدة بالأقراء إن لم تَعْلَق.
ثم لو وطئها ورأينا إيجاب المهر بوطء الرجعية، فتفصيل القول في المهر لو نزع أو استدام، أو نزع وأعاد، كتفصيل القول فيه إذا قال: إذا وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، أو نفرض الاستدامة والنزع والإعادة على جهالة. وقد تمهد هذا فيما سبق.
9372- وإذا حكمنا بأن الخلوة لا تقرّر المهرَ، ولا تحل محل الوطء، فلو ادعى الزوج الإصابة وأنكرتها المرأة، أو ادّعت المرأة الإصابة لتقرير المهر وأنكرها الرجل، ففي المسألة قولان قدمنا ذكرهما في كتاب الصّداق.
فصل:
قال: "ولو ارتدّت بعد طلاقه... إلى آخره".
9373- إذا طلق الرجل امرأته ثم ارتدّ، أو ارتدّت، فارتجعها في حال رِدّتها، أو ردة أحدهما قال الشافعي: الرجعة فاسدة؛ لأنها للإحلال والردة تنافي الإحلال، وقال المزني: إن دامت الردة حتى انقضت العدة، فنتبين أن الرجعة وقعت وراء البينونة؛ فإنا نتبين عند استمرار الردّة إلى انقضاء العدة أنها تضمنت قطع النكاح كما وقعت.
وإن زالت الرّدة في مدة العدة، فنتبيّن أن الرّجعة واقعةٌ صحيحةٌ لمصادفتها محلَّها تبيُّناً هذا ذكره المزني واختاره لنفسه، وله عبارات في اختياراته: تارةً يفرط ويسرف ويقول بعد النقل: "هذا ليس بشيء"، وما كان كذلك، فهو من مفرداته. وكلامُه مشعر بمجانبته مذهبَ الشافعي فيما نقله وأخْذِه في مأخذٍ آخر، فلا يعد مذهبُه تخريجاً.
وتارة يقول: قياس الشافعى خلافُ ما نقلته، فإذا قال ذلك، فالأوجه عدُّ ما يذكره قولاً مخرجاً للشافعي.
وإذا لم يتصرف على قياسه، وقال: الأشبه عندي، كان لفظه متردداً بين التصرف على قياس الشافعي مَصيراً إلى أن المعنيّ بقوله هذا أشبهُ: أي هذا أشبهُ بمذهب الشافعي، ويجوز أن يقال: "هذا أشبه" معناه أشبهُ بالحق ومسلك الظن، ولم أر أحداً من أصحابنا يَعُدّ اختيار المزنى في هذه المسألة قولاً معدوداً من المذهب مخرجاً.
وما ذكره متجه على القياس جداً؛ فإن الردة إذا زالت قبل انقضاء مدة العدة، تبيّنا أن النكاح لم ينخرم، وأن الملك لم يزُل أصلاً، وما مضى كنا نحسَبه من العدة، ثم تبينّا أنها لم تخض في العدة، بخلاف الرجعية إذا ارتجعها زوجها؛ فإن العدة تنقطع ولا نتبين أنها لم تخض في العدة، والإشكال يتأكد بأن الإحرام مع أنه يمنع من ابتداء النكاح لا يمنع من الرجعة على النص والمذهب المعتمد، فكان يتجه تخريج الرجعة على الوقف، وليست الرجعية بعيدة عن التفريع على الوقف فيما نحن فيه.
ولا خلاف أن المرتدة إذا طُلقت، ثم زالت الردة قبل انقضاء أمد العدة، فالطلاق واقع، وهذا متفق عليه.
9374- والذي يمكن توجيه النصّ به أن الرّدة إذا تمادت حتى انقضت العدة، وقعت البينونة تبيُّناً مع أول جزء من الردة، ووقع التمادي بعد البينونة، فلا يقع التمادي شرطاً في وقوع البينونة، فإن الشرط لا يتأخر عن المشروط، ويتحقق بذلك أن الردة تمنع الإقدام على الاستحلال ابتداء، ولو فرض زوالها، فهي محتَمَلةٌ في دوام النكاح، فأما أن تحتَمل في ابتداء تصحيح تحليل ينشأ، فلا. وينضم إليه ما يقتضيه الشرع من التغليظ على المرتد.
وأما المحرم، فلا مجال للمعنى فيه، والمتبع في امتناع نكاح المحرم خبرُ الرسول صلى الله عليه، والردة تنافي الاستحلال على معنىً معتبر، فلا معنى للتصحيح.
وأما الخروج على الوفف، فقد ذكرنا توجيهه على رأي المزني، ولكن لم يقل به أحدٌ من أئمة المذهب، ووجه ردّ الوقف أن الردّة التي وقعت لا نتبين آخراً أنها لم تقع، فاقترانها بابتداء الرجعة كاقتران مفسد بالعقد، وهو بمثابة ما لو وهب الخمر أو رهنها، ثم استحالت خلاً، فأقبضَ الخلَّ، فالشدّة المقترنة بالعقد تمنع انعقاد العقد، وقد تطرأ الشدة بعد الانعقاد، فيتوقف على الزوال، كما ذكرناه في مسائل الرّهون.
وأمّا وقوع الطلاق عند زوال الرّدّة في مدة العدة، فليس بدعاً؛ من جهة أن الطلاق تحريم كالرّدة، فلا منافاة، وقد تبيّن آخراً أن النكاح كان دائماً.
9375- وإذا أردنا تقييد المذهب بمراسم قلنا: الوقف الذي رجع إلى الجهالة، كالذي يبيع عبداً كان لأبيه في حالة ظنه بقاءه، فإذا تبين أن أباه كان ميّتاً والعبد انتقل إلى البائع إرثاً قبل البيع، فالضابط في هذا الفن أن ما لا يقبل التعليقَ إذا اقترن به جهلٌ على هذا النسق، نُظر: فإن لم يكن الجهل مستنداً إلى أصلٍ ماضٍ، فلا حكم له، وهو بمثابة ما لو باع عبداً حسِبه لغيره، ثم تبين له أن العبد كان له، فالبيع نافذ.
وإن استند الجهل إلى أصل متقدم، كبيع عبد الأب على ظن بقائه إذا تبين أن الأب كان ميتاً وقت البيع، ففي المسألة قولان، أما الطلاق؛ فإنه لا يندفع بالظنون سواء استندت إلى أصول أو لم تستند.
9376- ومما نذكر في ذلك أن الرجل إذا قال لأَمَته: إن قيّض الله بيننا نكاحاً، فأنت حرة قُبَيْله، فإذا نكحها، فقد قطع صاحب التقريب، ومعظم المحققين بصحة النكاح؛ فإن الإقدام عليه كان على ثبت.
وقال بعض الأصحاب: هذا يخرج على الوقف. وهذا لا أصل له.
ومن مراتب الكلام في الوقف ما دُفِعْنا إليه، فالمزني ألحق رجعة المرتد والمرتدة بالوقف، والشافعي رأى نفس اقتران الرّدة مفسداً للفظ الرجعة، وأجرى عدمَ الردّة شرطاً في الصحة، والتوقف الذي حسبه المزني ذاك في دوام النكاح لا في إنشاء ما ينشأ على الصحة، وينشأ على الفساد، فيفسد.
هذا منتهى القول في ذلك.