فصل: باب: المطلقة ثلاثاًً:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: المطلقة ثلاثاًً:

قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى في المطلقة الطلقة الثالثة... إلى آخره".
9377- إذا طلق الرجل الحرُّ امرأته ثلاثاًً، أو طلق العبد زوجته طلقتين، واستوفى كلُّ واحد منهما أقصى ما أُثبت له من الطلاق، فيحرُم عليه عقدُ النكاح عليها، حتى تنكِح زوجاً آخر نكاحاً صحيحاً، ثم يغشاها الزوج الثاني، وينبتُّ النكاح، وتُخلي عن العدّة؛ فإذ ذاك يحلّ للزوج المطلِّق تجديدُ النكاح، وسبيلها معه كسبيل أجنبيةٍ يبتغي ابتداء نكاحها، قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] والمعنى: فإن طلقها الطلقةَ الثالثةَ، فلا تحل له بنكاح حتى تتزوج زوجاً آخر.
وليس للإصابة ذكرٌ في القرآن، وإنما هي مستفادةٌ من السنة: روي أن رفاعة بن رافع طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجت من عبد الرحمن بن الزبير، ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكيةً، فقالت: يا رسول الله إن ما معه مثلُ هُدبة الثوب، فقال عبد الرحمن: كذبَتْ يا رسول الله، والله إني لأعرُكها عرْك الأديم العُكاظي، فقال صلى الله عليه وسلم: «تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؛ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»، فشرط الإصابة.
وقال بعض العلماء: جَمْعُ الطلاق مما لا يحبّه الله تعالى. والرجلُ إن لم يكن ممنوعاً عنه قولاً صريحاًً، فلعل الغرض من إثبات التحليل أن ينكف الرجل عن تطليق التي يضمر معاودتها ثلاثاًً، حَذَراً من التحليل الذي يشتد وقعه على كل ذي غَيْرة من الرجال.
9378- ثم الكلام يقع في فصول: أحدها: القول في الجهة التي يشترط حصول الوطء فيها، فنقول: إذا طلق الرجل زوجته الأمةَ ثلاثاًً، فوطئها مولاها بملك اليمين، لم يحصل التحليل به وفاقاً، والمرعيُّ حصول الوطء في الجهة الكاملة الموضوعة للوطء التي وقع الطلاق فيها.
ولو نكحت المطلَّقة ثلاثاً نكاح شبهةٍ، وحصل الوطء على ظن التحليل، ففي حصول التحليل قولان: أظهرهما- أنه لا يحصل؛ فإنه لم يقع في نكاح، ولا معوّل على الظن المخالف للحقيقة.
وهذا كما أن الإحصان لا يحصل بالوطء في النكاح الفاسد.
والقول الثاني: إن التحليل يحصل، لأن النكاح الفاسد ملحق بالصحيح في معظم الأحكام، والمعنى الذي ذكرناه فيه متعلِّقاً بالغَيْرة يحصل به، وليس التحليل كالإحصان؛ فإن الوطء في الإحصان ركنٌ في إفادة كمال التمتع يُنتج التعرض للعقوبة الكبرى، فلئن وُقف على التحقيق، لم يبعد.
ثم إذا فرعنا على القول الضعيف، فلو وُطئت تلك المرأة بشبهة، من غير فرض جريان صورة النكاح، فقد اختلف جواب الأئمة، فالذي اختاره المحققون أن التحليل لا يحصل به؛ فإنه لم يجر فيما يسمى نكاحاً.
ومن يُلحق النكاحَ الفاسدَ بالصحيح، فقد يتخيل اندراج النكاح تحت الاسم المطلق، مع ثبوت الأحكام، والمذكور في كتاب الله النكاحُ.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن وطء الشبهة بمثابة الوطء في النكاح الفاسد؛ فإن اسم النكاح على الإطلاق لا يتناول الفاسد عندنا، فليس في الوطء في النكاح الفاسد إلا ظنُّ الحِل، وهذا المعنى متحقق في وطء الشبهة.
التفريع:
9379- إن جرينا على أن وطء الشبهة لا يحلل، فلا كلام.
وإن جعلناه محللاً، فالوجه عندنا أن نفرض جريانه على ظن الزوجية، فلو ألم بها رجل وحسبها مملوكتَه، فحسبان الملك لا يزيد على نفس الملك، والوطء في نفس الملك لا يوجب التحليل، وسيكون لنا عودٌ إلى تفصيل وطء الشبهة واختلاف الظنون فيه، في أحكام الاستيلاد وحرية الولد، إن شاء الله.
ولو علمت المرأة فساد النكاح، وتعرضت لحد الزنا، وجهل الزوج، أو كان الأمر على العكس، فقد ذكرنا أوجهاً في أن تحريم المصاهرة هل يحصل مع الجهل في أحد الجانبين؟
والذي أراه القطع بأن التحليل لا يحصل ما لم يكن الجهل شاملاً لهما؛ فإن العلم إذا ألحق أحدَهما بالزنا، استحال تخيُّلُ التحليل مع هذا؛ ولهذا قطعنا القول أن الوطء في نكاح الشبهة يوجب حرمةَ المصاهرة، وقلنا: القول الأصح أن الوطء في نكاح الشبهة الشاملة للجانبين لا يقتضي التحليل.
فهذا تمام القول في الجهة التي يشترط حصول الوطء فيها.
9385- فأما الكلام في الوطء، فتغييب الحشفة-أو تغييبُ مقدارها إن كانت الحشفة مقطوعة- هو المعتبرُ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وأوضحنا أن الأحكام المنوطة بالوطء تحصل جملتُها بما نصصنا عليه.
والإتيان في الدّبر لا يفيد التحليل وفاقاً، فالذي هو المقصود في الفصل استدخال المرأةِ الفرجَ بالأصبع، ولابد من الاعتناء في ذلك بضبط المذهب، فإن حصل الانتشار ووقع الإيلاج مع الاستعانة بالأصبع، فهذا وطء. وإن كان العضو فاتراً لم يخل إما أن يكون ممن لا يتوقع منه في مثل حده انتشاراً، أو كان يتوقع منه انتشار، فإن كان ذلك ممن يتوقع منه انتشار، ولكن صادف الإدخال والاستدخال فتوراً أو عُنة فالذي أطلقه الأصحاب أن هذا يحصل به التحليل؛ فإن العضو مما يتوقع الإيلاج به، وقد حصل الوصول إلى الباطن، فلا نظر إلى وصوله بصفته وقوته، أو إلى وصوله بإدخال واستدخالٍ.
فأما إذا كان الزوج صبيّاً لا يتصور من مثله انتشار، كابن أيامٍ، فإذا استدخلت المرأة ذلك منه، وقد قُبل النكاح له، فالذي أطلقه الأصحاب أن التحليل لا يحصل بهذا؛ فإن ذلك إذا لم يكن في مظنة إمكان الوطء لا يسمى وطءاً، فلا اعتبار به.
وهذا مشكل عندنا، وقد وصل الفرج إلى داخل الفرج، ولا يجوز أن يكون في وجوب الغسل خلاف، وإن منع مانع هذا، كان مُبْعِداً، وإن سَلَّم أنه وطءٌ تام في الغسل، استحال تبعيضُ الأحكام، وإن التفت الأصحاب على أن المرعي في وطء المحلّل ما يُنتج انتعاشَ الغَيْرة، وهذا إنما يُفرض عند إمكان الوطء، فهذا أقرب ما يتمسك به.
وذكر شيخي قولاً غريباً: أن وطء الصبي لا يفيد التحليل وإن أولج.
وهذا لم أره إلاّ له وقد نقلته بعد تكرّر السماع عنه ومصادفتِه في التعاليق، وإن صح، فوجهه أنه لا يحرِّك الغيرة، ولست أعتد بهذا القول من المذهب، ولو ذكر هذا التردد في الإدخال من الصبي الذي لا يتصور من مثله الجماع، لكان حسناً، ولكنه ذكره في غير البالغ، وإن ناهز وأولج الفرجَ المنتشر، وهذا على نهاية البعد.
وذكر بعض الأصحاب في التخفيف من الغيرة تزويج المطلقة من عبدٍ صغير-إذا قلنا: يقبل السيد النكاح لعبده الصغير- ثم يولج القدر المرعيَّ، ويوهَب العبد منها، فينفسخ النكاح.
ولا شك أن وطء الخصي كوطء الفحل.
9381- ومما نذكره الكلامُ في حالاتِ مُحرّمةِ الوطء، مع دوام النكاح، فنقول: إذا أصابها الزوج صائمة، أو مُحْرمة، أو حائضاً، حلت بالإصابة، وإن كانت محرّمةً، خلافاً لمالك.
ومقصود الفصل أنه لو أصابها وهي مرتدة أو هو مرتد، أو أصابها وهي في عدّة الرجعة، ثم زالت الردّة، فكيف السبيل؟ وهل نقضي بأن التحليل يحصل؟ تكلم الشافعي رضي الله عنه فيما ذكرناه، وأنكر المزني تصوّرَ المسألة؛ فإن الردة من غير دخول تبتّ النكاح، والطلاق من غير مسيس يستعقب البينونةَ، فكيف تصوير المسألة؟ فقيل له: إذا استدخلت ماء الرجل تلتزم العدة ولا تحل لزوجها، والإتيان في الدبر يوجب العدة، ولا يتعلق به التحليل، كما قدمناه، والخلوة-في القول البعيد- توجب العدة، ولا تحلل، فهذا تصوير المسألة.
فأما الحكم، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: لا يحصل التحليل بالوطء في زمان الردة ولا بوطء الرجعية، فإن هذا وطءٌ في ملك مختل.
قال المحققون: إن حكمنا بأن الوطء في النكاح الفاسد يفيد التحليل، فلا شك أن الوطء في الردة ووطء الرجعية يفيد التحليل، وإن حكمنا بأن الوطء في نكاح الشبهة لا يفيد التحليل، فلا شك أن الردة لو دامت حتى انقضت العدة، لم يفد التحليل، وإن زالت الردة قبل انقضاء العدة، فالمسألة-حيث انتهينا إليه- محتملة أيضاًً، وليس الوطء في هذا كالرجعة مع الردة؛ فإن الرجعة في حكم عقد يَفْسُد ويصح، فيجوز أن يتخلّف عنه شرط الصحة، وأما الوطء، فقد بان جريانه في صلب النكاح، ولا يتطرق إليه وقفٌ وامتناعٌ بسببه؛ فإن ذلك يليق بالعقود. نعم، وطء الرجعية قد يفرض في محلّه ضعف، فإن الطلاق يزيل الملك على رأي الأصحاب.
والمذهب الذي عليه التعويل أن الوطء يوجب المهرَ، راجعها أو لم يراجعها، والرأي في ذلك أن يَتْبع ما نحن فيه المهرَ، فإن لم يراجعها، ثبت المهر ولا تحليل، وإن راجعها، ففي المهر خلافٌ، وفي التحليل احتمال.
وكل هذا إذا لم نجعل الوطء في نكاح الشبهة محللاً، ولكن إذا جعلنا الوطء في نكاح الشبهة محللاً فالوجه ألا نجعله محللاً في الردة إذا دامت، فإن المرتد على اعتقاد استدامته، والله أعلم.
وقد يرد على هذا أن الحد مدفوع عنه في الرأي الظاهر.
9382- ثم قال الشافعي: "ولو ذكرت أنها نكحت نكاحاً صحيحاً... إلى آخره".
إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاًً، فانسرحت ذاكرةً أنها تنكِح وتسعى في تحليل نفسها، فإذا عادت فذكرت أنها نكَحت ووُطئت وتخَلَّت وَحلّت، وكان لا يقترن بقولها ما يكذبها، قال الأصحاب: إن غلب على قلب الزوج صدقُها، فله التعويل على قولها. وإن شك، ولم يترجح له ظن، فالورعُ الاجتنابُ.
ولكن لو عوّل على قولها، ونكَحها، صح، ولو غلب على الظن كذبُها، وكان صدقُها ممكناً، فلو نكحها، فالذي قطع به الأصحاب صحةُ النكاح، مع انتهاء الأمر إلى الكراهية.
وفي بعض التصانيف أنه إذا ظنها كاذبة، وعوّل على قولها ونكَحها، لم تحل له.
وهذا غلط صريح، وهو من عثرات الكُتّاب. والذي قطع به الأمامُ وصاحبُ التقريب والشيخُ أبو علي والعراقيون أن النكاح ينعقد، وتحل في ظاهر الحكم، وإن غلب على الظن كذبها إذا كان الصدق ممكناً.
9383- وهذا المنقول وإن كان هو المذهب فقد يعترض للفقيه فيه إشكال؛ فإن إثبات النكاح بشهادة الشهود ممكن، وكيف لا ولا يصح النكاح إلا بمحضر عدلين، ولكن الجواب أن النكاح يُعنى للوطء وإثباتُه عسر، والزوج يمتنع عن قيام الشهود عليه، فهذا يُفضي إلى حسم الباب، ولا يُغني إثباتُ النكاح شيئاً، والعسرُ في المقصود قائم.
ثم إثباتُ النكاح-من غير جحد وخصومة- مقام الوطء متعذر، وكل ما لا يجوز إظهاره فهو هُتكة؛ فكان التعويل على قولها في الحكم اضطراراً.
والأجنبية تنكِح، والتعويل على قولها في أنها خليّةٌ عن الموانع، وهي في مقام بائعٍ لحماً: يجوز أن يكون من ذكيّ ومن ميتة، فالرجوع إلى قولها.
ولو قال الزوج الثاني ما وطئتها، فلا معول على قول الزوج؛ فإنا لو اعتمدناه لأَحْوجْنا المرأة إلى إثبات الوطء بالبينة، وفيه العُسْر الذي بنينا الفصلَ عليه.
فإن قيل: هلا أوجبتم تحليفها؟ قلنا: هذا قول من لم يربط الفقهُ قلبَه، فإن الحلف لا يُثبت يقيناً، وقد أوضحنا أن النكاح ينعقد مع الرَّيب، والله أعلم.

.كتاب الإيلاء:

قال الشافعي رحمه الله: "قال الله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226- 227]... إلى آخره".
9384- الأصل في الإيلاء قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226]، والإيلاء في اللسان الحلف والأليّة اليمين، ومنه قول القائل:
قليلُ الأَلاَيا حافظٌ ليمينه... وإن بدرت منه الأَلِيَّةُ برّت
والإيلاء في لسان الشرع اسمٌ لحلف الرجل على الامتناع من وطء امرأته، على تفاصيلَ ستأتي، إن شاء الله.
وأصل الإيلاء متفق عليه، وكان من طلاق الجاهلية، وصورته وحكمه على الجملة في الإسلام ما نذكره، فنقول: إذا حلف بالله أو حلف يميناًَ سَنصفها: "لا يطأ امرأته"، وأطلق، أو ذكر الامتناع مدّة تزيد على أربعة أشهر ولو بلحظة، فهذا هو المولي، ثم إن جامع في المدة، استمر النكاح كما كان، وسنذكر ما يلتزمه بالمخالفة.
وإن بقي على امتناعه حتى انقضت المدة، رفعته المرأة إن أرادت إلى مجلس القاضي، وطالبته بالفيئة، أو الطلاق، فإن فاء وجامع أو طلق، انقطعت الطَّلِبة، وإن أصرّ، فللشافعي قولان فيما يعامل به: أحد القولين- أنه يُحبس حتى يطلِّق.
والثاني: أن القاضي يطلِّق عليه زوجته، ثم يكفي في الطلاق أن يطلقها طلقة رجعية. وإن حكمنا بأن السلطان يطلّق، لم يطلِّق إلا طلقة واحدة، فإن صادفت محل الرجعة، فرجعيّة، وإن لم تكن محلاًّ للرجعة، فبائنة.
وأبو حنيفة يقول: إذا انقضت الأربعة أشهر، طُلقت طلقةً من غير حاجة إلى إنشاء الطلاق، والفيئةُ عنده تدفع الطلاق إذا وقعت في المدة، ثم الطلاق الواقع عند منقرض المدة بلفظ الإيلاء بائنٌ عنده.
9385- ومما نذكره في تأسيس الكتاب وطلب الإيناس بتصويره: أن الرجل إذا آلى أخذت المدة في الجريان من غير حاجة إلى ضربٍ من جهة القاضي، بخلاف مدة العُنّة، فإنها من يوم الترافع إلى القاضي؛ لأنها مجتهد فيها.
والمعنى الكلي الذي عنه صَدَرُ مسائل الكتاب أن الرجل إذا امتنع عن وطء امرأته من غير أَلِيّة؛ فإنها تُزجي الوقتَ بتوقّع الوقاع. وإذا آلى ألاّ يجامعها، فذلك يقطع توقّعَها، ويشتدّ ضِرارُها، وسنذكر قصة حفصةَ وعمرَ رضي الله عنهما، وهي تدلّ على أن للمدّة المنصوص عليها في القرآن أثراً ووقعاً في الإضرار.
ومن الأصول أن الأربعة الأشهر بجملتها فُسحةٌ ومهلةٌ من الله تعالى أثبتها للزوج، فلتقع الطَّلِبةُ بعدها، وهذا الأصل يقتضي أن تكون المدة التي ذكرها الزوج في يمينه زائدة على المهلة التي أثبتها الله له، ثم لا ضبط للزائد، فيقع الاكتفاء بأقل القليل.
ولو قال قائل: هلا راعيتم زماناً بعد الأربعة الأشهر يمكن في مثله فرض الطلب؟ قلنا: هذا لا يُرعى؛ فإن المدّة إنما تعتمد زمانَ الضِّرار، والمرأةُ تصبر على زوجها أربعةَ أشهر فحسب، وإن كانت الجِبِلات تختلف، فالأصل الكلي ما ذكرناه.
ولكن لو مضت تلك اللحظةُ الزائدةُ على الأربعة الأشهر المذكورة في اليمين، لم يلتزم شيئاً، فليس الرجل بعد المدة مولياً.
ولو حلف لا يطؤها خمسة أشهر، فلم ترفعه حتى انقضى الشهر الخامس، فقد انقضى الإيلاء، وصار الرجل بمثابة ما لم يولِ، وسيأتي كل ذلك مشروحاً.
فإن قيل: فأي فائدة في الحكم بكونه مولياً، ولا يُتصور توجيه الطلب عليه، ولا يقع الطلاق عندكم بمضي المدة؟ قلنا: لا أثر للإيلاء إلا انتسابُ الرجل إلى المأثم في الإضرار بها إذْ آيسها وقطع أملها عن الوطء، وهذا الأصل يعترض كثيراً في المسائل؛ فقدّمناه.
9386- ومما نرى تقديمه أن الرجل إذا قال لامرأته: والله لا أصبتك أربعة أشهر، فإذا انقضت، فوالله لا أصبتك أربعة أشهر، ثم هكذا، حتى نَظَم أيماناً، فالذي صار إليه الأئمة أن الرجل ليس مولياً. نعم، هو حالف، ولا يخفى حكم الحالفين. فإذا نفينا الإيلاء عَنَيْنا نفيَ خاصية هذا الكتاب من الإفضاء إلى الطلب كما مهدناه، وهذا مشكل معترض على المعنى الكلي الذي هو عماد الكتاب وهو قطع التوقع والإضرار.
وذكر الشيخ وجهاً غريباً أنه إذا ذكر يمينين مشتملين على مدّتين يزيد مجموعهما على أربعة أشهر، وكانتا متواصلتين، فهو مولٍ، وهذا وإن كان جارياً على المعنى الذي ذكرناه، فهو خارج عن قياس الأبواب؛ فإن لكل يمين حكمَها، وقد ذكر العراقيون هذا الوجه وزيفوه، وزيفه الشيخ أيضاًً.
وقد ذكرنا أن من حلف لا يجامع امرأته أربعة أشهر ولحظة، فهو مولٍ وإن كان الزمان لا يتسع للطَّلِبة، ورَدَدْنا فائدة الحكم بكونه مولياً إلى تأثيمه، فليت شعري هل يؤثّم المُولي من الأيمان المشتملة على المدد البالغة بمجموعها خمسة أشهر فصاعداً؟ فإن لم نؤثمه، بَعُدَ؛ وقد ظهر نَكَدُه وقصدُه في الإضرار، وإن أثّمناه وليس بيدنا في مسألة الأربعة الأشهر واللحظة إلا التأثيم، وقد قطعنا ثمّ بكونه مولياً، وبيّنا أن المذهب أن صاحب الأيمان المتوالية ليس بمولٍ، فكيف الكلام؟
أقصى الإمكان أن نقول: للتأثيم مأخذ؛ فالذي يحلف على الأربعة الأشهر واللحظة يأثم إثمَ المولين، والذي يوالي بين الأيمان إن كان يأثم، فالوجه ألا يأثم إثمَ المولين، ولا يمتنع أن يقال: الصدوق اللهجة إذا قال: "لا أجامعك" فقد يأثم، ولو قال قائل: القياس لا يأثم صاحب الأيمان المتوالية، لم يكن قوله بعيداَّ، وهذا يحصر الإثم في الإتيان بما نهى الرب تعالى عنه.
وهذه جمل في تصوير الإيلاء وتمهيد أصله.
فصل:
قال: "والمولي من حلف بيمين تلزمه بها كلفارة... إلى آخره".
9387- مضمون الفصل يتعلق بمقصودين:
أحدهما: فيما هو إيلاء من جملة الأيمان، والثاني: فيما يلتزمه المُولي إذا فاء وحنث.
فأما القول في الأيمان فهي ثلاثة أقسام: أحدها: اليمين بالله تعالى أو بصفة من صفاته الأزلية، كما سيأتي القول فيها-إن شاء الله تعالى- في أول كتاب الأَيْمَان، فإذا حلف بالله وأطلق، أو قيد بالتأبيد، أو ذكر مدّة تزيد على أربعة أشهر، فهذا مولٍ.
فهذا قِسْمٌ.
والقسم الثاني- أن يعلّق بالوطء حكماً يقع، كالطلاق والعتاق، فالمنصوص عليه في الجديد أنه مولٍ، وعلى هذا القول تفريع مسائل الكتاب. والقول الثاني- أنه ليس بمولٍ.
والقسم الثالث: ما لو علق بالوطء التزامَ أمرٍ يفرض لزومه بالنذر، مثل أن يقول: إن وطئتك، فلله عليّ صوم أو صلاة أو صدقة، أو لله عليّ أن أعتق عبداً، فالقول الجديد أنه مولٍ، وفي القديم قولٌ أنه ليس بمولٍ، ثم إذا جعلناه مولياً، فإذا خالف وفاء، فهو حانث في يمين اللجاج والغضب، وفيما يلزمه ثلاثة أقوال، سنشير إليها في مسائلِ الكتاب، ونستقصيها في كتاب النذور.
9388- وضابط المذهب في أقسام الأيْمان أن الحالف بالله تعالى على الشرائط التي ذكرناها في الإطلاق والتأقيت مولٍ.
ثم المنصوص في الجديد أنه إنما صار مولياً؛ لأنه عرّض نفسه لالتزام أمرٍ إذا جامع؛ فظهر الضِّرار بذلك، وبنى عليه إثباتَ الإيلاء بكل التزامٍ، وضمَّ إلى الالتزام ما يقع، كالطلاق والعَتاق يعلّقان؛ فإن الالتزام لا فقه فيه، وإنما الغرض ذكر أمرٍ محذور لو فرض الوقاع، وهذا يظهر الضّرار، واقعاً كان أو ملتزَماً. هذا مسلك القول الجديد.
وأما القول القديم، فإنه مبنيّ على اتباع الحلف بأعظمَ ما يحلف به، وفيه يظهر قصد الرجل في الامتناع، وقد يقلّ الملتَزم حتى يستهان به، فالمولي من يؤكد وعْدَ الامتناع بذكر أمر عظيم، وكانت العرب تولي، فتذكر اسم الله تعالى، وإن ذكرت بعض الأصنام اعتقدته إلهاً؛ فالإيلاء ينبغي أن يكون على النعت الذي عُهد في الجاهلية؛ فإنه طلاق جاهلي، فغُيّر بعضَ التغيير، فيبقى على اقتضاء الطلاق إذا كان على الصفة المعهودة، فإن لم يكن على تلك الصفة، كان يميناً من الأيمان، هذا توجيه القول القديم.
وإذا أردنا أن ننظم القول، قلنا: الحلف بالله على الامتناع عن الوقاع مطلقاً أو مقيداً بمدة زائدةٍ على الأربعة الأشهر إيلاء، ثم ذكر في العلة الجارية مجرى الضبط والحد مسلكان:
أحدهما: أنه مولٍ؛ لأنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، وهذا هو المسلك الجديد، ويخرّج عليه أن الحلف بالطلاق والعَتاق والتزامَ ما يلتزِم إيلاءٌ.
والمسلك القديم- أن المولي من يمتنع عن الوقاع بذكر الاسم المعظّم، اتباعاً لما عُهد فيه، فيخرجُ الحلف بغير الله وبغير صفاته عن كونه إيلاء.
والتفريعُ على الجديد.
وقد نجز أحد مقصودي الفصل.
9389- فأما المقصود الثاني، فهو بيان ما يلتزمه المولي إذا حلف بالله لا يجامع ثم جامع. المنصوصُ عليه في الجديد: لزمته كفارةُ اليمين، وقياسه بيّن.
والمنصوص عليه في القديم قولان:
أحدهما: ما ذكرناه في الجديد.
والثاني: أن الكفارة لا تلزم.
ووجه القول الجديد لائح واضح، ووجه القول القديم أن الأيلاء منتزَع عن حكم الأيْمان، لما فيه من اقتضاء الطلاق حملاً عليه عند الامتناع من الفيئة، فكأن اليمين مستعملة في اقتضاء هذا المعنى، مصروفةٌ عن وضع الأيمان. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "الإيلاء طلاق، غير أنه غُيّر في الإسلام".
والأصح القول الجديد، وفيه تبقية مُوجَب اليمين وإثباتُ حكم الطلاق عند الامتناع؛ من جهة إظهار الضرار، فلا تناقض بين الحكمين.
9390- وذكر القاضي رحمه الله في توجيه القول القديم التعلقَ بقوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] واستنبط منه أن المولي إذا فاء، أدركه صفح الشرع وعفوهُ، وهذا يشعر بانتفاء الغُرم، ثم تصرّف على موجب هذا الاستدلال، فقال: الفيئةُ مذكورة بعد مضي المدة، فيجري القولان في انتفاء الكفارة في الوطء الجاري بعد انقضاء المدة؛ فإنا نتبع النص في توجيه أحد القولين، حتى إذا فرضت الفيئة في الأربعة الأشهر قبل انقضائها، فالظاهر وجوب الكفارة؛ فإن هذه الفيئة لا ذكر لها في القرآن، ولا متعلق عنده في توجيه نفي الكفارة إلا ظاهر الآية، ثم استقر كلامه على أن نذكر في الفيئة بعد المدة قولين ونذكر في الفيئة دون المدة قولين، والصورة الأخيرة أولى بوجوب الكفارة.
وهذا ترتيب رآه، وبناه على التوجيه بظاهر القرآن، وليس بذاك، فليس في القرآن ما يوجب نفي الكفارة، وإنما المقصود من قوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] أن الفيئة لا تَحْرُم باليمين على الامتناع منها، وقد يخطر للمؤمن المعظِّم اعتقادُ تحريم الفيئة. وقد صار إلى ذلك أبو حنيفة، فالآية بظاهرها تدل على نفي الحرج والتحريم عن الفيئة، ثم لو صح ما تخيله القاضي ففي الفيئة في الأشهر قطع الضرار، فإذا كان يستحق المطالَب في التضييق عليه التخفيفَ، فابتداره تدارك الأمر في قطع الضرار أولى بذلك، فلا وجه لما ظنه كيف قدر الأمر.
نعم، من الجليات التي ننظمها أن من حلف لا يطأ زوجته أربعة أشهر، ثم جامع في الأشهر، لزمته الكفارة بلا خلاف، فإنه ليس بمولٍ، والضابط في ذلك أن اليمين إذا كانت لا تُفضي إلى توجيه الطلب بالفيئة أو الطلاق، فتعلقُ الحنث فيها الكفارةُ، وسبيلها كسبيل سائر الأيمان.
وإن تعلق باليمين خاصّية الإيلاء-وكانت يميناً بالله تعالى- فالفيئةُ ترفع حكم الإيلاء، فيختلف القول في وجوب الكفارة.
ومما ذكره القاضي رضي الله عنه، وكان شيخي يحكيه عن القفال أن القولين في انتفاء الكفارة والحلف بالله تعالى يقرب مأخذهما من أن الأيْمان بالطلاق والعتاق والالتزامات هل تكون إيلاء أم لا؟ فإن قلنا: المولي لا يلتزم بالفيئة الكفارة، فلا تعويل على الالتزام، ولا إيلاء إلا الحلف بالله تعالى.
وإن قلنا: الحالف بالله يلتزم الكفارة إذا فاء، فلا يبعد أن يكون كلُّ ملتزِمٍ في معناه.
وكان شيخنا يقول: هذا الترتيب قريب في مسلك المعنى، ولكنه لا ينتظم على ترتيب الجديد والقديم، وذلك أن قول الشافعي في القديم يختلف في أن المولي بالله هل يلتزم الكفارة، ولا يختلف مذهبه في القديم أن الحالف بغير الله ليس بمولٍ؛ فإن سلك سالك طريقة البناء، فلابد وأن نخرّج قولاً في القديم في أن الإيلاء يختص بالحلف بالله.
فصل:
قال: "ولا يلزمه الأيلاء حتى يصرح... إلى آخره".
9391- اختلفت الطرق في صرائح الألفاظ في الجماع، ونحن نذكر طريقة ضابطة جامعة، إن شاء الله، فنقول: انقسام الألفاظ إلى الكناية والصريح يأتي من ألفاظ القسم بالله وبصفاته، وهذا الفن ليس من غرضنا، وسيأتي مستقصىً في أول الأيْمان، إن شاء الله عز وجل، وغرض الفصل التعرضُ لانقسام الألفاظ إلى الصرائح والكنايات فيما يتعلق بالجماع.
وقد ذكر الشيخ أبو علي ثلاثة أقسام تحوي جميعِ المقصد، فقال: من الألفاظ عن هذا المقصد ما هو صريح، ولا يتطرق إليه تدْيينٌ وأمرٌ في الباطن يخالف الظاهر.
ومنها ما يتطرق التدْيين إليه.
ومنها ما هو كناية في الظاهر أيضاً.
فأما ما هو صريح ظاهراً ولا يُنَوّى فيه أصلاً، فمنه النيّك، فلو قال: لا أنيكك، ثم فسر ذلك بالضم والالتزام والقُبلة، فلا يقبل ذلك منه ظاهراً وباطناً؛ فإن التديين إنما يجري بأحد وجهين: إما أن يكون في اللفظ إشعارٌ به على بُعد كصرف (الطالق) إلى الطلاق عن الوِثاق. وإما ألا يكون اللفظُ مشعراً به، ولكن ينتظم وصل اللفظ به، مثل أن يقول: أنت طالق، ويُضمر (إن شاء الله تعالى)، وهذا فيه اختلافٌ قدمته.
فأما إذا قال: لا أنيكك، وحَمَل اللفظَ على القُبلة، فلا انتظام لهذا، ولا إشعارٌ به، وكذلك لو قال: لا أُدخل ذكري في فرجك، أو لا أولج.
ولو قال للبكر: والله لا أفتضك، فهذا صريح، فلو زعم أنه نوى به الضم والالتزام، فهل يُنوَّى فيه باطناً؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أصحهما- أنه لا يديّن؛ لأن الافتضاض لا يَحْتَمل ما نواه بزعمه.
وفيه وجه بعيد أنه يُنَوّى؛ فإنه ربما يستعار الافتضاض، في استفتاح الأمور، والتديينُ يُكتفى فيه بأدنى إمكانٍ في الاحتمال.
9392- فأما القسم الثاني، فهو ما يكون صريحاً ظاهراً، ويتطرق التديين إليه، وهذا ينقسم: فمنه ما يكون صريحاً قولاً واحداً، ومنه ما اختلف القول فيه، فأما ما لم يختلف القول فيه فقد اختلف فيه جواب الأئمة بعد الاتفاق على أن الجماع صريح قولاً واحداً، وكان شيخي لا يقطع القولَ إلا في الجماع، وقال صاحب التقريب: الجماع والوطء صريحاًن قولاً واحداً، وقال الشيخ أبو علي: الجماع والوطء والإصابة صرائح في ظاهر الحكم قولاً واحداً، وهذا ما ذكر العراقيون، والقطع في لفظ الإصابة بعيد، وإلحاق الوطء بالجماع غيرُ بعيد.
فهذا بيان الأجوبة فيما يتحد القول فيه.
فأما ما اختلف القول فيه، فالمباشرةُ، والملامسة، والمماسَّة، والمباضعة، فهذه الألفاظ-وما يصدرُ منها- فيها قولان:
أحدهما: أنها صرائح كالجماع.
والثاني: أنها كناياتٌ بخلاف الجماع؛ فإن لفظ الجماع شائع في الاستعمال، حتى لا يتمارى السامع في معناه. وهذه الألفاظ التي ذكرناها لا تُستعمل استعمال الجماع، ومن لم يؤثر ذكرَ الجماع، عدل إلى لفظةٍ من هذه الألفاظ، وهذا يوضح أنها ليست في منزلة الجماع.
قال صاحب التقريب: الألفاظ الدائرة في الشريعة التي اختلف المفسرون في معناها، فحملها بعضهم على الجسّ، وحملها آخرون على الجماع، اختلف القول فيها حسب اختلاف علماء التفسير.
وهذا الذي ذكره ليس بحدٍّ عليه معوّل، والأصل في الباب أن المعنى المطلوب في ذلك وضَعَ اللسانُ فيه الكنايةَ؛ فإن أرباب المروءات يأنفون من الألفاظ الموضوعة لهذا المعنى صريحاًً، فكان الوضع على المكاني، ولكن ظهر بعضها وشاع، فالتحق بالصريح الموضوع للمعنى، ولم يظهر بعضها ولم يَشِعْ، فتردد القول، وسبب التردد مع أنها مكاني الاعتناءُ بالمكاني في الباب، وأرى الوقاعَ في مرتبة الوطء وقد سبق التردد فيه.
9393- فأما ما يلتحق بالكنايات قولاً واحداً، فهو كقول القائل: لأبعدن عنكِ، لا يجمع رأسي ورأسَك وسادة، وألحق الأصحاب بهذا أن يقول: لأسوأَنّك، وهذا من أبعد الكنايات.
والقِرْبان والغِشيان فيهما ترددٌ: من الأصحاب مَنْ ألحقها بالكنايات التي ذكرناها آخراً، ومنهم من ألحقها بالمسّ والجسّ، ولعل هذا أقربُ؛ فإن لفظ القرب جرى في الكنايات على إرادة الوقاع، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ويجوز أن يكون الإتيان في معنى القِربان قال الله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]. ولا يبعد أن يقال: القِربان والغِشيان إذا استعملا مصدرين؛ فإنهما كالملامسة وما في درجتها مصدراً وفعلاً، فإن قال: لا أقربك، فيلتحق بالكنايات المحضة؛ فإن القِربان يشيع استعماله في الوقاع، والقرب يشبع في غير الوقاع من وجوه القرب المكاني، والفعل الصادر عن المصدرين كالقرب لا كالقربان.
وإذا مهدنا القواعد، ثم شذت لفظة لم نذكرها، لم يَخْفَ على الفقيه إلحاقُها بالأقسام المضبوطة التي ذكرناها.
ثم لو نوى بالجماع غير المعنى المطلوب، وزعم أنه أراد الاجتماع، فما ذكره محتمل، ولكن اللفظ شائع، فَيُنوَّى ويديّن باطناًً، ولا يقبل ما قاله ظاهراً.
وقد نجز الغرض في هذا الفن.
9394- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لو قال والله لا أجامعك في دبرك، فهو محسن... إلى آخره".
وهذا كما قال؛ لأنه عقد اليمين على ما هو ممنوع محرّم، فقد وافقت اليمين موجَب الشرع، وكذلك لو قال: والله لا أجامعك في حيضك أو نفاسك، فالذي صدر منه ليس إيلاء، لأنه حلف على الامتناع مما هو ممنوع شرعاً.
فصل:
قال: "ولو قال: والله لا أقربك خمسة... إلى آخره".
9395- فإذا قال: "والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم إذا مضت خمسةُ أشهر، فوالله لا أجامعك سنة"، فقد عقد يمينين على مدّتين مختلفتين متعاقبتين، فنتصرّف في المدة الأولى واليمينِ فيها، ونقول: إذا مضت أربعةُ أشهر، توجهت الطَّلِبة من المرأة بحكم اليمين الأولى. ثم لا يخلو الزوج إما أن يفيء أو يطلق، فإن فاء، انحلت اليمين الأولى، وفي لزوم الكفارة من اختلاف القَوْل ما ذكرناه.
ثم لا يحتسب الشهر الخامس؛ فإن اليمين قد انحلت فيه، بل نقول: إذا مضى الشهر الخامس، فيدخل مفتتحُ مدّة اليمين الثانية، فإنه كان قال: فإذا مضت خمسةُ أشهر، فوالله لا أجامعك سنة، فإذا مضت أربعةُ أشهر من أول مدة اليمين الثانية، وهي تقع لا محالة بعد انقضاء الشهر الخامس، فإذا انقضت الأربعة الأشهر بعد الخمسة، توجهت الطَّلِبةُ مرة أخرى، فإن فاء، انحلّت اليمين، وفي لزوم الكفارة ما قدمناه.
هذا إذا سلك طريق الفيئة.
9396- فأما إذا وجهنا عليه الطَّلبة في اليمين الأولى وطلّق، فالقول فيه إذا راجع، أو تركها حتى تبين ثم جدّد النكاح- يستدعي تقديمَ أصلٍ مقصود، فنقول:
إذا حلف الرجل لا يجامع امرأته وأطلق اليمين، ولم يقيّدها بمدّة، ثم لما طولب، طلّق، فإذا ردَّها، لم يخلُ: إما أن يردّها بالرجعة في العدة، أو يردّها بالنكاح بعد البينونة، فإن راجعها، فيعود حكم الإيلاء بعد انقطاع الطّلبة، والسبب فيه أن البينونة إذا لم تقع، فالنكاح في حكم الاتحاد والتواصل، فإذا راجعها، فهو على حال المولين؛ فإن المولي من يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر شيئاً، وهو بعد الرجعة بهذه المثابة، وللنكاح حكم الاتحاد، فسبيله كسبيل من يحلف على الابتداء؛ فإن دوام اليمين وتصوُّرَ الحنث كابتداء اليمين.
فهذا قولنا في اطراد حكم الإيلاء.
9397- ثم قال الأئمة: إذا كانت اليمين مُطْلَقة، وقد طلق لمّا طولب بعد المدة، فإذا راجع، فلا تتوجه عليه الطَّلِبة على الفور كما راجعها، وهذا من الجليات المتفق عليها، ولابد من التنبّه له؛ فمعظم غلطات الفقهاء في الجليات.
وكان ينقدح في القياس أن يقال: كما راجعها، عادت الطلبة؛ لأن النكاح له حكم الاتحاد، ولم تجر منه الفيئة، والضرارُ دائم، ولكن لما طلق، فقد أتى بأحد ما طولب به، فيؤثّر الطلاق-بإجماع الأصحاب- بقطع حكم الطَّلبة التي توجهت بانقضاء المدة، ثم جُعل في الرجعة كأنه آلى ابتداءً، ولقد كان من قبل مخيَّراً بين أمرين: الفيئة والطلاق، فخرج منه أن الفيئة تَحِل اليمين، وتدرأ الضرار، ويخرج الرجل عن كونه مولياً، والطلاق بعد المطالبة يقطع الطَّلِبةَ الحاقّةَ، ولسنا نعني انسداد باب الطلب؛ إذ لو كنا نعني ذلك، ونكتفي به، لعاد الطلب كما راجع، فكان سقوط الطلب محققاً، وكأنه وفّى بما أفضى إليه انقضاءُ المدة، ثم جعلناه كالمبتدىء؛ لأنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، فصار كما لو ارتجع وحلف، ثم أثّر اتحاد النكاح في هذا المعنى. وهذه قاعدة لابد من الوقوف عليها.
ولو طلق لما طولب، ثم تركها حتى بانت-واليمين مُطْلقة- ثم جدد النكاح عليها، فلا شك أن اليمين باقيةٌ في باب البرّ والحِنث،-ولو قال رجل لأجنبية واللهِ لا أجامعك، ثم زنا بها، حنِث- ولكن هل نجعله مولياً حتى إذا مضت أربعة أشهر نحكم بتوجيه الطلبة عليه؟ فعلى قولي عَوْد الحنث.
فإذاً حكم البر والحنث مستمر، والقولان في خاصّية الإيلاء من توجيه الطّلبة المردّدة بين الفيئة والطلاق.
هذا بيان الحكم في الأصل الذي قدمناه، ونحن نعود بعده إلى مسألة الكتاب.
9398- فإذا قال: "والله لا أجامعك خمسة أشهر؛ فإذا مضت، فوالله لا أجامعك سنة"، فإذا مضت أربعة أشهر من المدّة الأولى، وتوجهت الطلبة، فطلق، ثم راجع، فلا تتوجه الطلبة بحكم اليمين الأولى قط؛ فإنه لم يبق من مدتها إلا شهرٌ.
ولو كانت اليمين مُطلقة كنا نمهله أربعة أشهر، ثم نعرض الطلبةَ بعدها، فقد حَبِط أثرُ الإيلاء في اليمين الأولى. نعم، لو وطىء وهو غير مطالب به، وقد بقي من الشهر الخامس بقية، فيلزمه كفارة يمين.
9399- وهاهنا سؤال وجواب عنه: إن قيل: إذا فرّعنا على أن المولي لو فاء، لم يلتزم الكفارة، فإذا طلق في الصورة التي ذكرناها، ثم راجع ولا طَلِبةَ، فلو فاء، هل يلتزم الكفارة؟ الوجه عندنا أنه يلتزم، لأنه خرج عن كونه مولياً.
ولا يبعد أن يقال: لا يلتزم الكفارة؛ نظراً إلى ابتداء عقد اليمين؛ فإنها لم تعقد على التزام الكفارة والمولي الذي لا يلتزم الكفارة، بالوطء بعد المدة لو وطىء قبل انقضاءِ المدة لا يلتزم الكفارة، وإن لم يكن مطالباً بذلك الوطء.
وهذا تلبيس؛ فإن ذلك الوطء هو الذي يطالَب به بعد المدة، ولكنه في مَهَلٍ وأجل، والدليل عليه أن الطلب ينقطع بجريانه، فهذا مسلك الكلام.
والوجه عندنا ما قدمناه من أن الكفارة تجب في الشهر الخامس بعد الرجعة إذا انقطعت طَلِبةُ الإيلاء؛ فإن الدافع للكفارة ما كان في اليمين من شوب الطلاق، وإذا زال حُكم الطلاق، فاليمين مستمرة على صيغتها وحقيقتها.
ثم إذا مضى الشهر الخامس، ودخل أمد اليمين الثانية، فتحسب أربعة أشهر من أول الشهر السادس، ثم تتوجه الطلبة، فإن طلق، انقطع الطلب، فإن راجع، نُظر كم بقي من السنة؟ فإن كان تبقى من السنة أربعةُ أشهر أو أقل، فلا إيلاء، فإن المدة الباقية ليست زائدة على الأربعة الأشهر؛ فلا يفرض الإيلاء فيها، ولكن لو وطىء حنِث في يمينه؛ إذ لو وطئها في البينونة، لَحَنِث، فليتنبه الناظر لانقطاع حكم الإيلاء وبقاء اليمين في البر والحنث.
ولو كان الباقي من السنة بعد الخمسة الأشهر أكثرُ من أربعة أشهر، فالإيلاء يعودُ، على معنى أنه إذا انقضت أربعةُ أشهر بعد الرّجعة، توجهت الطلبة، ثم لا يخفى حكم الطلب وما يتعلق به.
وكل ذلك والطلاق رجعي، وقد ردها بالرجعة.
9400- فأما إذا تركها حتى بانت، ثم جدد النكاح فحيث لا يعود الإيلاء بالرجعة لقصر المدة لا يعود الإيلاء بعد النكاح.
وحيث يعود الإيلاء بعد الرجعة، فهل يعود بعد النكاح؟ فعلى قولي عود الحنث، وقد ذكرنا في تعليق الطلاق وعَوْد الحنث أقوالاً، ورأينا أنه إذا علق الطلاق، ثم نجّز ثلاثَ طلقات، ثم نكح بعد التحلل، فالأصح أن الحِنث لا يعود، فإنه نجّز ما علق؛ فاقتضى ذلك انحلالَ اليمين. وفيه قولٌ آخر، ذكرناه ووجّهناه بالممكن.
فإن قيل: كما فصلتم بين البينونة من غير استيفاء العَدد وبين استيفاء العدد في عَوْد الحنث في باب تعليق الطلاق، فهل تَفْصِلون في عَوْد حكم الإيلاء بين أن يتخلل استيفاء العدد وبين ألا يتخلل؟ قلنا: ينقدح الفصل هاهنا أيضاًً؛ فإن من آلى فحكم الإيلاء توجيه الطِّلِبة عليه بطلاق يملكه، فإذا استوفى الطلقات، فقد زال ملكه، فيظهر زوال المطالبة.
ويجوز أن يقال: لا يظهر الفرق؛ لأن المقصود بالطلب الفيئةُ، لا الطلاق، ووجه طلب الطلاق كونهُ مخلِّصاً من الضرار والفيئة توفيةٌ للحق.
وإذا نبهنا على تقابل الإمكان اهتدى من تهدَّى.
9401- ومما نذكره متصلاً بعود الحِنث أن الرجل إذا قال لأجنبية: والله لا أجامعك، ثم نكحها، فالحنث والبرّ يجريان لا محالة، ولكن لا يثبت حكم الإيلاء، فإن اليمين ما جرت في النكاح، والمطالبةُ بالطلاق من أحكام النكاح؛ فيستحيل أن يثبت اقتضاءُ الطلاق بيمينٍ سابقة على النكاح، وكذلك لو قال: إن نكحتك، فوالله لا أصيبك، فلا يثبت الإيلاء، ولا أثر للإضافة إلى النكاح.
9402- وكل ما ذكرناه فيه إذا ذكر يمينين مشتملتين على مدّتين متعاقبتين، فلو قال: والله لا أصيبك خمسة أشهر والله لا أصيبك سنة، فإذا مضت أربعة أشهر، وتوجهت الطَّلبة، ففاء، انحلت اليمينان.
فإذا فرّعنا على إيجاب الكفارة، أوجبنا كفارتين أو كفارة واحدة؟ فعلى وجهين يجريان في كل يمينين ينحلاّن بفعل واحد.
وإذا قال الرجل: والله لا آكل الخبز، والله لا آكل طعام زيد، ثم أكل الخبز من مال زيد، وانحلت اليمينان، ففي تعدد الكفارة وجهان:
أحدهما: التعدّد؛ فإن الحنث متعدّد، وهو المحلّل لا صورة الفعل، ولو قلنا: الفعلُ في حقيقته متعدد، لم يكن بعيداً؛ فإنه أكل رغيفاً، وأكل مالَ زيد.
ولو توجهت الطلبة، فطلق، ثم راجع، فكما راجع ابتدأنا في احتساب الأربعة الأشهر، ولا نصْبر إلى انقضاء الشهر الخامس؛ فإنه في اليمين الثانية عقد على سنةٍ يندرج تحتها الخمسةُ الأشهر التي حلف عليها أولاً، فإذا راجع، فهو في بقية اليمين الثانية.
والمسألة مفروضة فيه إذا بقيت من السنة أكثرُ من أربعة أشهر، لِما تقدم تمهيده.
ولا معنى بعد هذا لتكثير الصور، والذي تجدد في المسألة الثانية دخولُ خمسة أشهر تحت يمينين، وفرضُ انحلالهما جميعاًً بالوطء في الخمسة الأشهر.
وإن انقضت من غير وطء، تجرّدت يمين واحدة، ولا يكاد يخفى هذا، ولسنا نترك الصور في أمثال ذلك إلا بعد النظر فيها، والعلم بأنها لا تخفى على متأمل.
9403- ولو قال: والله لا أجامعك أربعة أشهر، فإذا مضت، فوالله لا أجامعك أربعة أشهر، فقد قدمنا أنه لا يكون مولياً، وذكرنا فيه الوجهَ الغريب، ولم نعدّه من المذهب، وقد شبه المحققون هذا بما لو اشترى الرجل بصفقاتٍ ألفَ وَسْقٍ في العرايا، وكل صفقة تشتمل على أربعة أوسق، فلا امتناع في ذلك، وإن كنا نمنع اشتمال صفقة واحدة على ستة أوسق، فان كان صاحبُ الوجه الغريب يسلّم هذا، ولا يشبّب فيه بتخريج، فهو لازم، وإن طرد فيه التخريج، لم نملك إلا الاستبعاد.
وقد يظهر فرق بين البابين؛ من جهة أن رعاية الضرار ظاهرة في الإيلاء، وهذا يعم الجبلاّت؛ فإن ندرت صورة، فالإيذاء باللسان وإظهار الزهد بيّن، وقد يثبت الإيلاء من المجبوب لما في لسانه من الإيذاء، وأما أمرُ الحاجة، فلا يكاد يظهر في بيع العرايا، ولهذا نصحح العريةَ من الغني صاحب البساتين، فتخيُّلُ الحاجة في العرية كتخيّل الحاجة في الإجارة؛ فينفصل من هذا الوجه البابُ عن الباب، وإذا تبين اعتبار الضرر، فالإضرار كائن في الأيمان المتوالية على وجه كونها في اليمين الواحدة.
ولا خلاف أنه لو قال: لا أجامعك أربعة أشهر، ثم مكث حتى انقضت، فقال مبتدئاً: والله لا أجامعك أربعة أشهر، فلا يكون مولياً، والوجه الضعيف إنما يُخرّج إذا صدرت منه الأيمان، وظهر منه قصدُ إطالة مدة الامتناع بالأيمان، وليس من الحزم التفريع على الوجوه البعيدة.
فصل:
قال: "ولو قال: إن قربتك، فلله علي صوم هذا الشهر... إلى آخره".
9404- إذا قال لامرأته: إن قربتك، فعليّ صوم شهر، فالذي جاء به يمين عُلّق- والتفريع على الجديد في أن الإيلاء لا يختص باليمين بالله-ثم التفريع لا محالة- على أن الحانث ملتزم، وإذا حَنِث في يمين اللجاج والغضب، ففيما يلزمه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزمه الوفاء بما التزم.
والثاني: أنه يلزمه كفارة اليمين.
والثالث: أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء.
وقد نص الشافعي على هذا القول في هذه المسألة من هذا الكتاب، ولم يُلْفَ هذا النص للشافعي إلا هاهنا.
وتوجيهُ الأقوال فيما يلتزمه الحانث من يمين اللجاج، والتفريعِ عليها يأتي في كتاب النذور.
وقدْرُ غرضنا منها أنه إذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم شهرٍ، فهو مولي؛ فإنه يلتزم بالجماع بعد أربعة أشهر أمراً.
وإذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فهو ليس بمولٍ؛ من جهة أن هذا الشهرَ إذا انقضى، انحلت اليمين؛ إذْ لو وطىء، فلا يتصور التزام الصوم على قول الوفاء؛ فإن الصوم إذا أضيف إلى أيام، اختصّ بها، ومن التزم بالنذر صوم يومٍ، تعيّن اليومُ الذي عينه-على الرأي الظاهر- فإذا انقضى الشهر، فالوفاء غير ممكن، وإذا لم يجب الوفاء على قول الوفاء، لم تجب الكفارة.
فإن قيل: الكفارة إنما تجري حيث يتصور الالتزام نذراً، فإذا تبيّن أن الحِنْث لا يتصور بعد الشهر الأول، فليس الرجل مولياً؛ فإن المولي من يلتزم بالجماع بعد أربعة أشهر أمراً، وقد أوضحنا أن الجماع لو فرض بعد الشهر الأول، لم يجب شيء، ولا نظر إلى إطلاق الامتناع عن الوطء عموماً، بل يجب مراعاة تقدير الالتزام بالوطء بعد أربعة أشهر، وهذا المعنى مفقود في هذه المسألة.
قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فليس بمولٍ، كما لو قال: إن أصبتك فلله عليّ صوم أمس"، وغرضه في الشبه بيّنٌ واضح، وإن كان مطلَقُه محوجاً إلى التأويل؛ فإن قول القائل: إن وطئتك، فلله عليّ صوم أمس، فهذا لغوٌ لا انعقاد له في وجه.
وإذا قال: إن وطئتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فاليمين منعقدة على الجملة؛ فإنه لو وطىء في ذلك الشهر، كان حانثاً، ملتزماً أمراً على الأقوال الثلاثة.
وإذا قال: فعليّ صوم أمس، فهذا لغوٌ لا يتعلق به التزامٌ أصلاً، وإنما شبه الشافعي رضي الله عنه هذه المسألة بالتزام صوم أمس؛ من حيث إنه لا يكون مولياً في المسألتين جميعاًً، فلا أثر لليمين بعد الأربعة الأشهر، فهذا وجه تشبيهه، وغرضُ الكلام في إثبات الإيلاء ونفيه.
فصل:
قال: "ولو قال: إن قربتك، فأنت طالق ثلاثاًً... إلى آخره".
9405- الشافعي رضي الله عنه أدار معظم مسائل الإيلاء على الألفاظ التي هي كناية في الجماع، كقوله: "إن قربتك". الأصحُّ أن هذا كناية، وإنما فعل الشافعي هذا لأنه مهّد القول في الصريح والكناية، ثم اللائق بحفظ المروءة الكنايةُ في هذه المعاني، فلم يُؤْثر ذكرَ الصريح، وعَلِم أن ذلك يستبان من غرضه.
فإذا قال الرجل لامرأته: إن جامعتك، فأنت طالق، فهو مولٍ؛ لأنه لو جامع بعد أربعة أشهر التزم بالجماع الطلاقَ، والمعنيُّ بالالتزام وقوعُه، وفواتُ حق النكاح به- والتفريع على الجديد- فإذا ثبت أنه مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، توجهت الطّلبة.
ثم لا يخلو إما أن يؤثر الفيئة، وإما أن يؤثر الطلاق، فإن فاء، فكما غيّب الحشفةَ، طُلقت ثلاثاًً؛ فإن اسم الوطء وحكمه يتحققان بتغييب الحشفة، ثم إن غيّب وكما غيب نزع من غير مُكث، لم يلزمه حدٌّ ولا مهر، فإن التغييب وقع في ملكه، ثم لم يعرِّج على أمرٍ إلا على الترك، وتركُ الشيء والانكفافُ عنه ليس في معنى الإقدام عليه؛ ولهذا قلنا: من أدرك أول الفجر، فقرن به النزعَ-وكان مخالطاً أهله- صح صومه.
9406- وإن استدام ومكث، أو أَوْعب ولم ينزع، فإن كانت جاهلة، فقد سكت الشافعي عن وجوب المهر، ونص في الصوم على أن من كان مخالطاً أهلَه، فطلع الفجر، فمكث ولم ينزع، قال: يلزمه الكفارة.
فمن أصحابنا من قال: في المسألتين قولان بنقل الجوابين:
أحدهما: يجب المهر والكفارة؛ لأنه بالمكث والاستدامة مجامع، والاستدامةُ استمتاعٌ حقه أن يُتقَوَّم، وهو مناقض للصوم أيضاًً، فلا وجه لاعتبار الابتداء مع العلم بأن صورة الفعل وجنسه هو المعنيُّ بالنهي.
والثاني: لا يلزمه المهر ولا الكفارة؛ لأنهما لم يتعلقا بأول الفعل والفعل متحد، فلا يتعلقان بدوامه.
ومن أصحابنا من لم يوجب المهر، وأوجب الكفارة في محلها، وفرّق بأن قال: إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاً، ثم وطئها، فأول الوطء يتعلق به مهر النكاح؛ فإن المهر المسمى في النكاح يقابل كل وَطْئِه، ولابد من هذا التقدير حتى لا تعرى وطأة عن مقابل، وإذا كان كذلك، امتنع وجوب المهر؛ لاستدامة الوطء، فإنا لو قلنا بذلك، لعلّقنا بأول الوطء مهرَ النكاح، ثم علقنا بدوامه مهراً مجدّداً، ولا سبيل إلى ذلك.
وأما الكفارة؛ فإنها لم تتعلق بأول الوطء الواقع في الليل، فإذا علقنا الكفارة بدوامه، لم يكن جامعاً بين كفارتين بوطء واحدٍ.
ثم إن لم نوجب مهراً بالاستدامة عند فرض الجهل، فلو علم تحريم الاستدامة، فالأصح أن الحدّ لا يجبُ؛ لأن أول الفعل واقعٌ في الملك.
ومن أصحابنا من ذكر وجهاً ضعيفاً في وجوب الحد، وهو مزيف لا تعويل عليه.
9407- ولو غيب الحشفة، وحكمنا بوقوع الثلاث، ثم إنه نزع وأعاد فالذي قطع به الأصحاب أن هذا ابتداء وطء، فإن كان مع الجهالة، لزم المهر، وإن كان مع العلم، تعلّق الحدّ به؛ فإنه ابتداء فعل وإنشاء وطء.
قال شيخي أبو محمد رضي الله عنه: إذا نزع ثم أعاد، فهو وطء مبتدأ لا محالة، وإن نزع ثم أعاد في أزمنة متواصلة قبل قضاء الوطر، فقد يقع مثله في الوطاة الواحدة في ترديدات الرهز، فهل يجب مهر بما فعل؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين في الاستدامة، ولا شك أن هذه الصورة أولى بلزوم المهر. ولم أر هذا إلا لشيخنا، وباقي الأصحاب قاطعون بأن الإيلاج بعد النزع وطء مبتدأ في كل حكم.
والممكن في توجيه ما ذكره ما أجريناه في التصوير، حيث قلنا: هذا يعدّ وطأة واحدة، ويمكن أن يشبّه باتحاد الرضعة، والصبيُّ قد يلتقم الثدي ثم يلفظه ويلهو ثم يعود ويلتقم، والكل رضعة، ولا تعويل على هذا الوجه، مع ما ذكرناه.
وحيث ذكرنا المهر، فلا شك أنه مفروض في جهلها، ولا أثر لعلمه في إسقاط المهر، ومن استكره أمرأة وزنى بها، التزم الحدّ بزناه، والمهرَ لكونها محترمة.
9408- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن من علق الطلاق الثلاث بالوطء-كما صورنا- فهل يحل له الإقدام على الوطء على أن يغيب الحشفة وينزع؟ قال العراقيون: يحل له الإقدام؛ فإنه إلى حصول التغييب متصرّفٌ في محل حقه وحِلّه، وإذا ابتدأ النزعَ متصلاً بحصول التغييب، فهذا تارك، ولا معصية على تاركٍ لفعله متردد بين الوقوع في محل الملك وبين الترك.
وحكَوْا عن ابن خَيْران أنه قال: لا يحل له تغييب الحشفة، فإنه لا يقدر على وَصْل أول النزع بآخر التغييب، حتى لا يقع بينهما فصل، فإذا كان يعلم على الجملة خروج هذا عن الإمكان، فلا يجوز الإقدام.
والأولون يبنون الأمر على أن يصل النزعَ بالتغييب، فالفقه صحيح في وضعه، ثم ما أطلقه من الوصل والفصل لا يتحدد بالزمان الذي لا يُحَس، وإنما تتعلق التكاليف نفياً وإثباتاً بما يدخل في الحس ويفرضُ دركه.
9409- هذا كله تفصيل الأحكام المتعلقة بالوطء إذا كان قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم حكم الطلب فيه أن الأربعة الأشهر إذا انقضت ورفعته الزوجة إلى القاضي، فإن وطىء، سقطت الطلبة والحكم ما ذكرناه، وإن طلق طلقة رجعية، انقطعت الطَّلِبة، ثم إن راجعها، فاليمين قائمةٌ، فنضرب مدة أخرى، فإذا انقضت، توجهت عليه الطلبة، فإن طلق، ثم راجع، ضربنا عليه مدة أخرى، ثم تعود الطلبة، فإما أن يطلّق فتحرم عليه، حتى تنكح غيره، وإما أن يطأ، فتقع الطلقة الثالثة، فلا محيص عن الطلاق ما أصرّت على الطلب إلا أن يطلقها طلقة، ويتركها حتى تنسرح بانقضاء العدة، فإذا جدد عليها نكاحاً، وقع التفريع في عَوْد الحِنْث، فقد نقول: لا تعود الطلبة، ولو وطئها في النكاح الثاني، لم تُطلَّق، تفريعاً على أن الحِنث لا يعود، فهذا هو المُخلِّصُ لا غيرُ.
9410- وإن قال ابتداء: إن وطئتك، فأنت طالق، فعلّق طلقة واحدة وما كان دخل بها، فهو مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، فإن فاء، انحلت اليمين، ووقعت طلقة رجعية، فإن المسيس، وإن لم يكن متقدِّماً على هذه الحالة، فالطلاق غيرُ متقدم على المسيس، وقد أشرنا فيما تقدم إلى مسلكين في أن الطلاق المعلّق بالصفة يقع مترتباً على الصفة أو مقترناً بها، وأوضحنا أن أقوال الأصحاب في المسائل دالّة على ترتب الطلاق على الصفة، ولو رُدِدْنا إلى الأخذ بصيغة اللفظ، لم يبعد أن نقول: يقع الطلاق مع الصفة، وهذا مما سبق تمهيده، والغرض من إعادته الآن أنا
إن جرينا على موجب الشواهد، فالطلاق يترتب على الوطء، والتغييبُ يقع في النكاح، فيكون الطلاق بعد الوطء، هذا معنى الترتب، وإن لطف الزمان، فيظهر الحكم بكون الطلاق رجعياً.
وإن ذهب ذاهب إلى أن الطلاق يقع مع الصفة، فالعدّة تجب مع التغييب، والوطء يقيّد النكاح عن البينونة، فيقع الطلاق على تقدير الاقتران مع المقيّد ومع العدّة، واتصال العدة على هذا الترتيب بالنكاح، وهذا واضح لاخفاء به.
9411- وليس يخفى الترتيب فيه إذا لم يُؤْثر الوطءَ لما طولب، واختار الطلاق.
وقد تقدم في ذلك ما فيه مقنع، وقد تطلّق ثلاثاًً بتكرر المطالبات عند تخلّل الرجعات والردّات، وهذا خلاف الرأي؛ فإنه كان لا يقع بالوطء إلا طلقة واحدة مع انحلال اليمين بها.
ويلتزم بالامتناع عنها ثلاث طلقات، وهذا لرغبته عن الوطء.
9412- ثم قال: "لو قال: أنت عليّ حرام... إلى آخره".
هذا مما ذكرناه في كتاب الطلاق ونعيد طرفاً منه لما يتعلق بغرض الكتاب، فإذا قال: أنت عليَّ حرام، ونوى الطلاق، كان طلاقاً، وإن نوى الظهار، كان ظهاراً، وإن نوى تحريمَها في نفسها، التزم كفارة اليمين، ولو نوى عقد يمينٍ في الامتناع عن وطئها، فظاهرُ المذهب أنه لا يكون حالفاً مولياً، وفي المسألة وجهٌ بعيد أنه يصير مولياً.
وهو نأيٌ عن التحقيق؛ فإنه لو قال لإحدى امرأتيه: والله لا أجامعك، ثم قال للأخرى: أنت شريكتُها، ونوى أن يصير مولياً عن الثانية كما أنه مولٍ عن الأولى، لم يصر مولياً عنها؛ لأنه لم يأت في حقها بلفظ اليمين، وذِكْرِ الاسم المقْسَم به، وهذا متفق عليه؛ فإذا قال: أنت علي حرام، ونوى القَسَم بعُد الحكمُ بتحصيله كما ذكرنا.
ومن أصحابنا من جعله مقسِماً، بخلاف ما لو قال: أشركتك مع التي آليتُ عنها؛ فإن التحريم مذكور في كتاب الله تعالى مع الاقتران بكفارة اليمين، فهو قريب من اليمين وإن لم يَكُنْها، فكان هذا تقريباً في وضع الشرع، ولا تعويل على ذلك ولا اعتداد به.
والمذهب أنه لا يصير مولياً بقوله: حرمتك، وأنت علي حرام. وإن نوى الإيلاء.
فصل:
قال: "ولو قال: إن قَرِبتُك، فغلامي حر عن ظهاري إن تظاهرت، لم يكن مولياً... إلى آخره".
9413- قد ذكرنا أن مسائل الكتاب نفرعها على القول الجديد، فنقول: المولي من التزم بالوطء بعد الأربعة الأشهر أمراً، وحرّرْنا المذهب فيه بما يضبطه، وقد ذكر الشافعي رضي الله عنه فصولاً متواليةً في تعليق العتق المصروف إلى الظهار المنجّز أو الظهار المعلّق، ونحن نقدم على الفصول أصلاً، فنقول:
إذا كان الرجل قد ظاهر عن امرأته، ثم قال لأخرى: إن وطئتك، فعبدي هذا حر عن ظهاري، فهو مولٍ عن هذه؛ فإنه لو وطىء، وقع العتق لا محالة، فهو ملتزم بالوطء بعد أربعة أشهر حصولَ العتاقة في العبد الذي عينه، ولولا هذا التعليق، لكان العتق لا يحصل فيه، ولا نظر الآن في أن العتق هل يقع عن كفارة الظهار أم لا؟ فإن المقدار المكتفى به وقوعُ العتق بعين هذا العبد، وهو متعلِّق بالوطء المقدر بعد الأشهر، ولئن كان العتق منصرفاً إلى الظهار، فوقوعه في هذا العبد بعينه من آثار اليمين.
ولو قال: إن جامعتُك، فلله عليّ أن أعتق عبدي عن ظهاري، وكان الظهار كائناً واقعاً بإحدى امرأتيه، فالقول في ذلك يستند إلى تمهيد أصلٍ، فنقول: إذا عين رجل يوماً لصوم منذور في ابتداء الالتزام، فقال: لله عليّ أن أصوم اليوم الفلاني، فالصوم يلزمه، والمذهب أنه يتعين له اليوم الذي عينه.
ولو قال: لله علي أن أتصدق بهذه الدراهم، لزمه الوفاء بنذره، إذا صححنا النذر- وكذلك إذا قال: لله علي أن أعتق هذا العبد-وصححنا النذر- فعليه الوفاء بتعيين ذلك العبد في الإعتاق. هذا إذا اقترن الالتزام والتعيين.
فأما إذا سبق لزومٌ في الذمة غيرُ مرتبط بتعيينٍ، ثم صرفه بالتزام مبتدأٍ إلى معيّن، فقال من عليه صومٌ من قضاءٍ، أو نذر، أو كفارة: لله علي أن أوقع الصومَ المفروض في يومٍ عيّنه، فلا يلزمه الوفاء بهذا التعيين، باتفاق الأصحاب، وكذلك لو التزم صرف دراهم عيّنها إلى زكاته، أو إلى نذرٍ سابق مستقر في ذمته، فلا يلزمه التعيين، فليس كما لو اقترن التعيين بالالتزام؛ فإن التعيين يقع لازماً، فلا يبعد أن يثبت، وينضم إلى ذلك أن لفظه يتضمن حصرَ اللزوم فيما عينه ونفْيَه عما عداه، فلو حكمنا بأنه لا يتعلق بما عينه، لاقتضى هذا أن نُلزمه ما لم يلتزمه، وهذا محال، وإحباطُ لفظه لا سبيل إليه وفاقاً.
وَيرِدُ على ذلك أنه لو عين مع التزام الصلاة وقتاً لها أو مكاناً، فالصلاة تلزمه، ولا يتعين الزمان والمكان. وهذا من مشكلات المذهب في قاعدة النذر؛ لما نبهت عليه من أن لفظه لا يتضمن التزاماً مطلقاً، فإن لم يصح التخصيص، فالوجه إبطال لفظه.
وعن هذا أخرج بعض الأصحاب قولاً في أن اليوم لا يتعين للصوم المنذور، وإن اقترن تعيينه بالالتزام، وسيأتي هذا في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى.
وإذا انتهينا إلى غائلة كتاب نحتاج في حلها إلى تمهيد أصل في ذلك الكتاب، فلا مطمع في الخوْض، وليكْتف الناظر بالإحالة عليه.
هذا في تعيين مالٍ بعد الوجوب أو تعيين يوم بعد لزوم الصوم.
9414- فأما إذا قال: لله علي أن أعتق هذا العبد عن العتق اللازم في ذمتي عن نذر أو كفارة، فالذي يقتضيه النص وعليه الأصحاب أنه إذا نذر ذلك، لزمه الوفاء بنذره، حيث يصح النذر، وفرّقوا بين هذا وبين تعيين اليوم بعد لزوم الصوم بأن قالوا: لا حَقَّ لليوم في الصوم، وكذلك القول فيما تعينّ من المال، وللعبد حق في العتاقة، ولهذا يدّعي العتقَ على مولاه، ويحلف يمين الرد إذا نكل المَوْلى عن اليمين، ففي هذا حق بيّنٌ للعبد وغرضٌ ظاهر، فيجوز أن يلتزم صرف الواجب السابق إليه.
وهذا مشكل؛ فإن الملتزَم بالنّذر قرباتٌ بأنفسها، أما تحصيل أغراض، فيبعد التزامه، وما يقتضيه قياس قول الأصحاب أنه لو نذر أن يصرف زكاته إلى أشخاصٍ من الأصناف يلزمه الوفاء، فإن طردوا القياس فيه، كان بعيداً، وإن سلّموا أنه لا يجب ذلك، فلا فرق بين تعيين العبد لعتاقةٍ مستحقةٍ قبلُ وبين تعيين أشخاص من أصنافِ الزكاة. وقد قال القاضي: إذا عين مساكين لصرف زكاته وصدقاته إليهم، لزمه الوفاء بذلك، قياساً على ما لو عيّن عبداً لصرف العتق المستحَق إليه.
والقولُ الكامل فيه أن التعيين ليس من القربات الملتزَمة المقصودة بالنذر، ولا قربة في تعيين سالم عن غانم.
قال المزني: الأشبه بقول الشافعي أنه لا يجب الوفاء بالتعيين، واستدلّ باليوم في الصوم، كما ذكرناه، وهذا الذي ذكرناه أورده على صيغة التخريج على المذهب، ويجب عندي عدُّ مثلَ ذلك من متن المذهب؛ فإن تخريجه على قياس الشافعي أولى من تخريج غيره.
هذا بيان المذهب نقلاً، وتخريجاً، وتنبيهاً على الإشكال، وهذا بيان الأصل الذي رأينا تقديمه.
9415- عاد بنا الكلام إلى مسائل الكتاب المتعلقة بالمقصود.
فإذا قال: إن قربتك، فعبدي حر عن ظهاري، وكان ثبت الظهار وتقدم، فهو مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، توجهت عليه الطَّلبة؛ فإن فاء، حصل العتق، وسنتكلم في وقوعه عن الظهار في آخر الفصل، عند نجاز غرض الإيلاء، وإنما جعلناه مولياً؛ لأن العتق يحصل بالوطء بعد أربعة أشهر، سواء انصرف إلى الظهار أو لم ينصرف.
ولو قال: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن تظاهرت، فهذه المسألة مفروضة فيه إذا لم يكن تظاهر من قبل، ونحن نجريها على المذهب الظاهر لينتظم الفصل، ثم نعيده بعد ذلك في فصل آخر لغرضٍ آخر، فإذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تَظَهَّرْتُ، فلو وطئها، لم يعتق العبد، فإنه علق عتقه بالوطء والتظهّر، والعتقُ المعلّق بصفتين لا يقع بإحداهما، وهو بمثابة ما لو قال لعبده: أنت حر إن دخلت الدار إن أكلت، فلا يحصل العتق بمجرد الدخول، ولو تظاهر، فلا شك أن العتق لا يحصل ما لم يطأ.
فيخرج من ذلك أنه قبل أن يتظهر لا يلتزم بالوطء شيئاً، فليس مولياً إذاً على ما نُجريه في هذا الفصل.
ولو كانت المسألة بحالها، فتظاهر عنها، فقد صار إلى حالةٍ لو وطئها الآن، لحصل العتق، فلا جرم يصير مولياً بعد الظهار.
فحصل مما ذكرناه أنه لا يكون مولياً في ابتداء أمره؛ لأن الوطء لا يحصّل العتق، فإذا ظاهر، فيصير مولياً؛ لأن الوطء يحصّل العتاقة بعد الظهار، هذا غرض الإيلاء من هذا الفصل.
وقد شبَّبْنا في أثناء الكلام بخلافٍ فيه إذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرت، وسنذكر أن من أصحابنا من يجعله مولياً قبل التظهر على أصلٍ سنشرحه من بعدُ، ولكن لما كان هذا الوجه ضعيفاً لم نَبْنِ الفصلَ عليه.
9416- ونحن نذكر التفصيل في أن العتق إذا حصل هل يقع عن الظهار؟ ونوضِّح في ذلك المذهب في الصورتين اللتين ذكرناهما، ونبدأ بالصورة الأخيرة.
فإذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرتُ، فإذا تظاهر، ثم وطىء، فالعتق يحصل لا محالة؛ فإنه علّقه بصفتين، وقد وُجدَتا، وأطبق الأصحاب على أن العتق لا يقع عن الظهار في هذه الصورة، وعلّل الأصحاب ذلك بعلّتين: إحداهما- أنه علق العتق قبل الظهار، ولو نجّز عتقاً عن الظهار قبل الظهار، ثم ظاهر، لم ينصرف العتق إلى الظهار يقيناً، فإذا امتنع التنجيز عن الظهار، امتنع التعليق عنه في الوقت الذي يمتنع التنجيز فيه؛ فإن صحة التعليق وفسادَه مرتبط عند الشافعي بصحة التنجيز وفسادِه.
هذا بيان إحدى العلتين.
ومن أصحابنا من علّل بأن قال: المولي جعل العتق موجب حنثه في اليمين، ويتخلص به، والحنث يقتضي حقاً على الحانث، فإذا كان يتأدى بالعتق حقُّ الحِنْث، فيستحيل أن ينصرف إلى الظهار؛ إذ لو كان كذلك، لتأدى حقّان بعتقٍ واحد.
فهذا تفصيل القول في ذلك.
9417- ولو كان قد ظاهر أوّلاً، ثم قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، ثم وطىء، فلا شك في حصول العتق، وهل ينصرف العتق إلى تلك الجهة وهي جهة الظهار؟ فعلى وجهين مشهورين بناهما الأصحاب على العلّتين المذكورتين في الصورة الأولى: فإن قلنا: العلة في تلك الصورة أن التعليق تقدم على الظهار، فالعتق في هذه الأخيرة يقع عن الظهار؛ فإن الظهار مقدم على التعليق.
وإن قلنا: العلة في الصورة الأولى أن العتق يقع عن جهة الحِنْث في اليمين، فلا يقع العتق في الصورة الأخيرة أيضاًً عن الظهار؛ فإنه تأدّى بالعتق حقُّ الحِنث في هذه الصورة.
ولو كان الرجل ظاهر عن امرأته، ثم قال لعبدٍ من عبيده: إن دخلت الدار، فأنت حر عن ظهاري، فإذا دخل الدار عَتَق، وفي انصرافه إلى الظهار الوجهان؛ إذ لا فرق بين أن يعلّق العتق عن الظهار على وطء أو دخول دارٍ.
ولكن الوجه عندنا القطعُ بانصراف العتق إلى الظهار إذا كان الظهار مقدماً على التعليق والإيلاء؛ فإن من يعلِّق عتقاً بصفة ليس يلتزم أمراً، وإنما يوقعه عند وجود الصفة، فإذا وُجد متعلَّق العتق، جُعل ذلك بمثابة إنشاء العتق عند وجود الصفة، فلا معنى لقول من يقول: تأدى بالعتق حقٌ غيرُ الكفارة؛ فإنه لا حق يُتخيل. نعم، قد يعترض بعد تزييف هذا الوجه أن الأمر إذا كان كذلك، فالمولي ليس يلتزم بالوطء شيئاً، والجواب عنه أنه التزم إيقاعَ ما عليه، أو تعجيلَ ما ليس متضيقاً، ولا يمتنع تعجيله، وإذا استدّ النظر في ذلك، تبين للناظر أن المعجّل هو المستحق في الكفارة، والتعجيل متعلّق الإيلاء، وإنما يمتنع انصراف العتق إلى الكفارة إذا كان في عينه استحقاقٌ من وجه، وهذا بمثابة تعليل الأصحاب امتناعَ صرف عتق المكاتب إلى الكفارة؛ فإنه مستحَقٌ للمكاتب على مقابلة عوض، فامتنع وقوعه على حكم الكتابة منصرفاً إلى الكفارة.
فإن قيل: هلا قلتم: يصح تعليق العتق فيه إذا قال: عبدي هذا حر عن ظهاري إن تظهرت؛ فإن التعليق صادف ملك المعلِّق، والعتق قابل للتعليق، فالوقوع مرتب على الوجوب، وهلا كان هذا كما لو قال للحائض: أنت طالق للسُّنة، وهو لا يملك الطلاق السني تنجيزاً، ولكن يكفي كونُه مالكاً للطلاق في تصحيح تعليق الطلاق السُّني؟ قلنا: السيد وإن كان مالكاً لعتق عبده، فليس يملك تأديةَ الكفارة، فوقع التعليق عن الظهار تصرُّفاً في تأدية ما لا يملك تأديته، ووقع من وجهٍ تصرفاً في الملك، فمن حيث كان تصرفاً في الملك، نفذ العتقُ، ومن حيث إنه تصرف في تأدية دينٍ لا يجب ولا يملك تأديته لم يقع عن تلك الجهة؛ فإن من لا يملك شيئاً لا يملك التصرف فيه.
فأما الطلاق السني والبدعي، فإنه يتعلق بالوقت والزمان، وقوله: أنت طالق للسنة بمثابة قوله: إذا طُهرتِ، فأنت طالق، فليست السُّنة جهةَ استحقاق حتى يتصرّف المالك فيها.
هذا تحقيق القول في هذا الفصل.
9418- ونحن نختتمه بصورة، فلو قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، واقتصر على هذا، قال الأصحاب: إن كان ظاهر، فقد مضى التفصيل فيه، وإن لم يكن قد ظاهر، جعلناه مقرّاً بالظهار، وفائدة ذلك في الظاهر أنا نجعله مولياً في الحال، ونجعله مظاهراً إن عين التي أضاف الظهار إليها، وأما أمر الباطن، فلا يخفى: لا نجعله مولياً باطناًً، ولا نجعله مظاهراً؛ فإن قوله هذا لا يصلح لإنشاء ظهار؛ إذ هو إخبار مصرّح به.
فإن قيل: فلو ظاهر هل يصير مولياً باطناً؟ وهل ينزل هذا منزلة ما لو قال: عبدي حر عن ظهاري إن تظهرت ثم تظهّر؟ قلنا: لا معنى لهذا السؤال في الباطن، فإن نوى ما ذكره السائل وجرّد القصد إليه، فيثبت، واللفظ صالح له وإن لم يكن مستقلاً بإفادة، وقد ذكرنا في مسائل الطلاق أن ما يقع في الباطن يكتفى فيه بعُلقة من الاحتمال. فإن لم يجرد قصده الباطن إلى تقدير ظهارٍ سيكون، لَمْ يثبت حكمه في حقه لا محققاً ولا معلقاً.
فصل:
قال: "ولو قال: إن قرِبتُك، فلله علي أن أعتق فلاناً عن ظهاري... إلى آخره".
9419- مضمون هذا الفصل مرتب على الأصل الذي مهدناه في مفتتح الفصل السابق الذي انتجز الآن.
وصورة المسألة في مقصود الفصل أنه إذا كان مظاهراً عن امرأة ثم قال لأخرى: إن وطئتك، فلله عليّ أن أعتق هذا عن ظهاري، فالظهار كائن، فإذا وطىء فهل يلزمه الوفاء بما قال؟ النصُّ وقول الأصحاب على أن هذا على الجملة مما يُلتزم، ومذهب المزني وتخريجه على قياس الشافعي أنه مما لا يُلتزم، وقد ذكرنا أن ما لا يلتزم بالنذر لا ينعقد به يمين اللجاج والغضب، فإن فرعنا على مذهب المزني، فكلام الزوج لغو، وليس بمولٍ؛ فإنه لم يُعلِّق بالوطء التزاماً.
وإن فرعنا على النص وقول الأصحاب، فقد عقد اليمينَ بما يُلتزم بالنذر الصحيح، فينعقد اليمين، وفيما يجب عند تقدير الحِنث الأقوال الثلاثة، ثم نجعله مولياً، وفيما يلزمه لو حنث ثلاثة أقوال: أحدها: الوفاء.
والثاني: كفارة اليمين.
والثالث: التخيير، وهذا مولٍ يلتزم بالوطء بعد أربعة أشهر أمراً، فنجعله مولياً.
وفي نقل المزني في هذا الفصل خلل ظاهر؛ فإنه نقل عن الشافعي أن تعيين العبد مما يُلتزم بالنذر، وإذا ذكر في اليمين، كانت اليمين المعقودة يميناً منعقدة، ثم نقل عن الشافعي أنه قال: "ليس بمولٍ" وهذا غلط صريح؛ والمنصوص عليه للشافعي في كتبه أنه مولٍ على الحقيقة.
9420- ثم إذا بان الخطأ وتقرر المذهب، فنفرِّع ونقول: إذا وطىء وحَنِث وفرعنا على وجوب الوفاء، فلو أعتق ذلك العبدَ عن ظهاره، فيحصل العتق ويخرج عن عهدة اليمين، وهل يقع العتق عن الظهار، فعلى وجهين، كما تقدّم ذكرهما: أصحهما-بل الذي لا يصح غيره- أن العتق ينصرف إلى الظهار.
والوجه الثاني- أنه لا ينصرف إليه؛ لأن حق الحنث قد تأدّى به، وهذا زللٌ عظيم؛ فإن الذي يعلق شيئاً ليس ملتزماً، وإنما هو في حكم الموقع عند الحنث، كما قدمناه.
ثم إذا قلنا: العتق لا ينصرف إلى الظهار؛ فإنه يحصل لا محالة، وكأنه نذر عتقاً مطلقاً في عبْد عيّنه، ولو صح هذا الاعتبار- وهو تنزيل ما قاله على النذر المطلق مع إبطال الجهة حتى كأنه قال: لو وطئتك فعليَّ أن أعتق هذا العبد، فيلزم على هذا المساق أن يقال: إذا قال: إن وطئتك فلله علي أن أصوم يوماً بعينه عن القضاء الذي هو عليّ يكون هذا بمثابة ما لو قال: إن وطئك، فلله علي أن أصوم ذلك اليوم بعينه بعد الأشهر. فإذا كان الأصحاب لا يجعلون تعيين اليوم لواجبٍ سابق بمثابة نذر صوم ذلك اليوم، فقد تخبط هذا الوجه على اشتهاره، ووجب الحكم بوقوع العبد عن الظهار لا محالة، وهذا تفريعٌ على وجوب الوفاء.
فإن أوجبنا كفارة اليمين فلو أعتق ذلك العبدَ المعيّن عن ظهاره، فكفارة اليمين باقية عليه، وإن وجد الوفاء، فلا شك أن العبد يقع عن الظهار؛ فإنه لم يتأدّ به حق الحِنْث، ولو أعتقه عن كفارة اليمين، فلا شك أن كفارة الظهار باقية عليه؛ فإن قيل: لو أخرج كفارةَ اليمين كُسوة أو طعاماً، فهل يتعين عليه إعتاق ذلك العبد المعيّن؟ قلنا: لا؛ فإنا نُفرِّع على أن موجب يمين اللجاج الكفارة، والعبد إنما يتعين إعتاقه عن الظهار إذا فرض نذره، وهذا الذي نحن فيه يمينٌ، وليس هذا مما يخفى، ولكن إذا طال الكلام لا يضرّ التنبيه على مثل هذا.
9421- ولو ابتدأ ناذراً وقال: "لله عليّ أن أعتق هذا العبدَ عن ظهاري"، وجرينا على النص، فإذا أعتقه عن الظهار هل يقع عن الظهار؟ وهل يخرّج ذلك الوجه الضعيف البعيد؟ قلنا: الوجه القطع بأنه يقع عن الظهار؛ فإنا نصحح هذا النذر على هذا الوجه، فإذا صححناه، أوقعناه، وإذا فرعنا على قول الوفاء، فأعتقه وفاءً، فقد ذكرنا الوجهين؛ لأن الوفاء وقع تَحِلَّةً للقسم، وتأديةً لحق الحِنث، وحق الحِنث يغاير الملتزَم، فإذا كان الفرض في نذر مجرد، فليس إلا تصحيحُ إيقاعه على وجه تصحيح التزامه.
فصل:
9422- إذا قال لإحدى امرأتيه: إن وطئتك، فصاحبتك هذه طالق، فهو مولٍ عن التي عينها على الجديد؛ فإنه يتعلق بالوطء طلاق ضرتها، ثم إذا توجهت الطَّلبة، ففاء، طلقت صاحبتها وانحلّت اليمين.
ولو طلّق التي آلى عنها، ثم راجعها، أو تركها حتى بانت، وجدّد النكاح عليها، فمهما وطئها، حكمنا بطلاق صاحبتها إذا كان النكاح مستمراً عليها؛ فإن طريان البينونة على التي آلى عنها لا يؤثر في طلاق التي حلف بطلاقها.
ولو أبان التي آلى عنها، وزنا بها، طلقت صاحبتها؛ فإنَّ طلاق صاحبتها معلّق بصورة وطء هذه، وهذا بيّن.
ولو كانت المسألة بحالها، فأبان صاحبتها التي علق طلاقها، ثم جدد النكاح عليها، فنقول أولاً: إذا أبانها، فقد صارت إلى حالة لا تطلق، فيرتفع الإيلاء وتقديرُ الطلب فيه، فإنه لو وطىء في اطراد البينونة على الصاحبة، لما تعلق بالوطء شيء، وإذا انتهى المولي إلى حالةٍ لو فرض منه الوطء، لما التزم شيئاً؛ فإنه يخرج بالانتهاء إليها عن اطراد حكم الإيلاء.
فإذا عادت الصاحبة، وفرعنا على أن الحِنْث لا يعود، فقد زال الإيلاء بالكلية، وإن قلنا: يعود الحنث عليها حتى يلحقها الطلاق المعلق، فيعود الإيلاء وحكمه وتوجيه الطّلبة به.
9423- والذي يجب التنبّه له في هذا المقام أن من آلى عن امرأته، ثم طلقها لما طولب بعد المدّة، فإذا راجعها، استفتحنا مدةً بعد المراجعة-كما أوضحنا فيما سبق- فإذا علق طلاق صاحبتها بوطئها، ثم أبان المحلوفَ بطلاقها، ثم نكحها، وحكمنا بعَوْد الحنث فيها وعَوْد الإيلاء في التي آلى عنها فهل نستفتح مدةً، ونفرض بعدها طلباً، كما قدمناه فيه إذا طلق التي آلى عنها ثم راجعها أو جدد عليها نكاحاً؟
الظاهر عندنا أنا لا نبتدىء ضرب مدة؛ فإنَّ طلاق التي آلى عنها من وجهٍ وفاءٌ بالطّلبة، وإن لم يكن فيئةً ورجوعاً إلى حقها في المستمتع، وكان طلبها يتعلق بالاستمتاع، وهو الأصل، أو بتخليصها، فإذا طلقها، كان هذا سعياً في التخليص، فإذا تجدد حقها، أمكن أن يؤثر الطلاق السابقُ في استحداث مدة جديدة سوى المدة الماضية أوَّلاً، وهذا المعنى لا يتحقق بانقطاع أثر الإيلاء بسبب إبانة الصاحبة المحلوف بطلاقها؛ فإنه ليس في إبانتها إسعافُ التي آلى عنها بوجهٍ من وجوه الطّلبة، وبمقصودٍ من مقاصدها.
وقد يتجه المصير إلى استفتاح مدة؛ فإن الزوج بإبانتها رفع المانع من الوطء، فكان هذا سبباً لقطع الضرار وتسهيلاً للإقدام على الوطء.
وسيأتي فصلٌ جامع في قواطع المدة؛ وما يقتضي ابتداؤها، ونعيد طرفاً مما ذكرناه، وعند ذلك يحصل شفاء الصدور.
9424- وإذا قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي هذا حرّ، فهو مولٍ على الجديد، فلو باع ذلك العبد، انقطع أثر الإيلاء، فلو عاد إلى ملكه، ففي عود الحنث قولان، وفي عَوْد الإيلاء قولان مأخوذان من ذلك، والتفصيل في العتق كالتفصيل في الطلاق.
فصل:
قال: "ولو آلى، ثم قال لأخرى: قد أشركتك معها في الأيلاء... إلى آخره".
9425- إذا طلق الرجل إحدى امرأتيه ثم قال للأخرى: أنت شريكتها ونوى بذلك تطليقها، طلقت.
ولو آلى عن إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أنت شريكتها وزعم أنه أراد بذلك الإيلاءَ عنها، وتنزيلَها منزلةَ الأولى، لم يصر مولياً بهذا اللفظ، وغرض الفصل أن الإيلاء يمينٌ، فلا يحصل بالكناية على هذا الوجه؛ فإن عماد اليمين ذكر محلوفٍ به، وليس في لفظة الإشراك ذلك، فخاصّية اليمين زائلة، والنية بمجردها لا تعويل عليها.
فإن قيل: ألستم قضيتم بأن قول الزوج: والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادةٌ كناية في الأيلاء؟ قلنا: الممتنع من الحصول بالمكاني المقسم به، فأما الألفاظ التي تتعلق بمقصود اليمين، فلا يمتنع تطرق الكنايات إليها.
ولو ظاهر عن إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، وقصد إحلالها محل الأولى في الظهار فهل يحصل الظهار بهذا اللفظ مع النية؟ فعلى وجهين مبنيين على أن المغلَّب في الظهار أحكامُ الطلاق أو أحكام اليمين: فإن غَلّبنا شَبَه الطلاق صيرناه مظاهراً، وإن غلبنا شبه اليمين لم نجعله مظاهراً، وسيأتي شرح هذا الأصل في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
ولو قال لإحدى امرأتيه: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، فهذا مما ذكرناه في فروع الطلاق، وفيه مقنع، فلا نعيده.
ثم قال: "ولو قال: إن قَرِبْتُك، فأنت زانية... إلى آخره".
9426- إذا قال: إن جامعتك فأنت زانية، فلا يكون مولياً؛ فإنه لا يلتزم بجماعها أمراً؛ إذ لو وطئها لم يَصِرْ قاذفاً، والقذف لا يقبل التعليق؛ فإنه خبر صفتُه أن يكون جازماً، وعلى هذا الوجه يقدح في العِرض، فإذا تعلق خرج عن وضعه.
فصل:
قال: "ولو قال: والله لا أصبتك في السنة إلا مرة، لم يكن مولياً... إلى آخره".
9427- هذا الفصل يستدعي تقديم أصلٍ: فنقول: أوضحنا أن التفريع على أن المولي من يلتزم بالوقاع أمراً بعد أربعة أشهر، ثم قسمنا وجوه الالتزام: فلو كان لا يلتزم بالوقاع بعد الأشهر أمراً غيرَ أنه كان يقرُب بسببه من الحِنْث في يمين، فهل نجعله مولياً؟ وهل نجعل القرب من الحنث في معنى التزام أمر؛ حتى نقول:
يتعلق بالوطء التزامٌ، فنجعله مولياً؟ في المسألة قولان: أصحهما- أنا لا نجعله مولياً؛ فإن الوطء ليس يستعقب لزومَ أمر، والقرب ليس حكماً ثابتاً، ولا أمراً لازماً، وحاصله دنوّ توقّعٍ في لازم.
والقول الثاني- أنه مولٍ، فإنه بسبب الوطء يقرب من اللزوم، وهو مما يُحاذَر، فينتصب في مقابلة الوطء أمرٌ محذور، وهو عماد الإيلاء.
ونحن نفرض للقولين صورة، ثم نتبعها بصورٍ يتقرر بها الغرض: فإذا كان للرجل أربع نسوة فقال: والله لا أجامعكن. فلو جامع واحدة، لم يلتزم أمراً، وكذلك إذا وطىء الثانية والثالثة؛ فإن الحنث يحصل بوطئهن كلهن، ولكنه بوطء الأولى يقرب من الحنث، فهل نجعله مُولياً؟ فعلى ما ذكرناه من القولين. فإن جعلنا الوطء المقرّب كالوطء المحنّث، فالطلبة تتوجه والإيلاء يثبت، وإن لم نجعل الوطء المقرب كالوطء المحنث، فلا نجعله مولياً حتى يطأ ثلاثاً منهن، فإذ ذاك يصير مولياً عن الرابعة، فنُجري ابتداءَ المدة بعد وطء الثالثة، والحِنْث يتعلق بوطء الرابعة.
فهذا من صور القولين.
9428- ومما يجري القولان فيه صورة مسألة الكتاب، وهي: إذا قال لامرأته: "والله لا أصبتك في السنة إلا مرة"، فالأصح المنصوص عليه في الجديد أنا لا نجعله مولياً قبل أن يطأ، فالوطء الأول لا يلتزم به شيئاً، وإن وطىء مرة، نظرنا إلى ما بقي من السنة، فإن كان الباقي منها أربعة أشهر أو أقل، فلا يكون مولياً؛ فإن المدة قاصرة.
وإن كان الباقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، جعلناه مولياً، فإنه بعد الوطأة المستثناة، صار إلى حالةٍ لو فُرض منه الوطء بعد أربعة أشهر، لالتزم الكفارة، وهذا أصح القولين.
والقول الثاني- أنه مولٍ من أول السنة؛ فإن الوطء المستئنى وإن كان لا يحنِّث، فإنه يقرّب من الحنث، فتتوجه الطلبة إذاً بعد أربعة أشهر، فإن فاء، خرج عن عهدةِ الطلب في هذه الكرة، ثم إذا مضت أربعة أشهر فلو وطىء، التزم الكفارة، فيتوجه الطلبة، والوطء الأول لا يحل اليمين؛ فإنه كان مستثنى، والحِنْث يحصل بالوطأة الثانية.
ولو استثنى عن اليمين المعقودة على السنة وطآت كثيرة، فالقولان جاريان، ولا فرق بين الوطأة الواحدة المستثناة وبين الوطآت؛ فإن التقريب يحصل بكل وطء.
9429- ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فوالله لا أطؤك، فهذا تعليق منه للإيلاء بالوطأة الأولى، وللأصحاب طريقان منهم من قطع بانه لا يكون مولياً في الحال بخلاف الصورة المقدّمة في عقد اليمين على السنة، واستثناء ما أراد، وهاهنا علّق ابتداء العقد بالوطأة الأولى، فلا يمين قبل الوطأة الأولى، ويستحيل أن نحكم بكونه مولياً في وقتٍ لا يكون فيه حالفاً.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في هذه المسألة، وقال: إن لم يكن حالفاً بالله في حالِه، فهو في حكم الحالف بالله تعالى، فكان الوطءُ مقرِّباً من الحنث، فهو يجري بعد يمين، كما ذكرت.
9430- ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فأنت طالق إن دخلت الدار، فقد نقل بعض الأثبات عن القاضي أنه قال: نجعله مولياً في هذه الصورة قولاً واحداً، ولو قال: إن وطئتك، فأنت عليّ كظهر أمي إن دخلت الدار، فيكون مولياً قولاً واحداً، واعتلّ بأنه التزم بالوطء تعليق الطلاق والظهار، والمولي من يلتزم بالوطء شيئاً، على ما ذكرناه.
وهذا غير سديد، وقطع شيخي بتخريج تعليق الطلاق والظهار على قولين، والسبب فيه أن الوطء لا يوجب وقوع الطلاق والظهار، بل يوجب انعقاد تعليقهما، فهو كما لو قال: إن أصبتك فوالله لا أصيبك، وأي فرق بين تعليق عقد اليمين بالطلاق والظهار بالوطء، وبين تعليق عقد اليمين بالله تعالى بالوطء، فلا وجه للفرق بينهما.
ولعل الذي تخيّله الفارق أن الإيلاء المعهود هو الحلف بالله على الامتناع من الوطء، فلما كان ذلك معلّقاً بالإصابة الأولى، انتظم لهذا القائل أن الإيلاء موعود معلق، وليس منجزاً، وإن كان المعلق بالإصابة الأولى طلاقاً أو ظهاراً، فليس ذلك التعليق إيلاءً في نفسه، فَحَسِبه أمراً ملتزماً، وحسِب التزامه إيلاءً، وهذا ذهول عن دقيقة نبهنا عليها وهي أن من قال: إن أصبتك، فوالله لا أصيبك، فهذا حلف بالحَلف، كما أنه إذا قال: إن أصبتك فأنت طالق إن دخلت الدار، فهذا حلف بتعليق الطلاق؛ فلا وجه إذاً للفرق.
9431- ومما نذكره متصلاً بهذا الذي انتهينا إليه، أن الرجل إذا قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرت، فقد كنا وعدنا في ذلك ذكرَ خلاف، وها نحن نقول: الوطء قبل الظهار لا يُلزم أمراً، فكان ظاهر المذهب ألا نجعله مولياً، فإن قلنا: القرب من الحِنث يثبت الإيلاء، فإذا وطىء، فقد قرب حصول العتق، فمن أصحابنا من ألحق هذا بمحالّ القولين في القرب من الحنث، وجعله مولياً قبل الظهار على أحد القولين.
ومنهم من قطع القول بأنه لا يكون مولياً، ولا يكاد يتضح الفرق. والأصح أن القرب من الحِنْث لا يثبت موجَب الإيلاء.
9432- ومما ذكره الأصحاب في بعض مسائل الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: والله لا أصبتك إلا مرة واحدة، فلو وطئها، ثم نزع في الأثناء وأعاد، فلا يحنث بالإيلاج الأول، وإذا نزع وأعاد، حَنِث؛ فإنه وطءٌ مجدّد، وقد حكيتُ في هذا خلافاً فيما تقدّم، وأوردته فيه إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم أولج، ونزع وأعاد قبل قضاء الوطر، فالمذهب المبتوت وجوبُ المهر إذا جرى على جهلٍ، فإن هذا وطء مبتدأ، فمن أصحابنا من عدّ النزع والإعادة في حكم استدامة الوطأة الواحدة، وهذا بعيد، وإن كان يتوجه، فهو في اليمين أقرب؛ فإن وجوب المهر يتلقى من مأخذ الأحكام، وأما إذا تعرض لذكر الوطأة بالاستثناء في اليمين المعقودة، فقد يظهر الرجوع فيما هذا سبيله إلى العرف، ولو قال: والله لا آكل إلا أكلة واحدة، فقد يحمل ذلك في الأيمان على أكلة تحويها جلسة على الاعتياد، والغرض بإعادة ما ذكرناه حكايةُ قول الأصحاب في هذا المقام.
فصل:
قال: "ولو قال: والله لا أقربك إلى يوم القيامة... إلى آخره".
9433- غرض الفصل تقاسيم الأيمان فيما يتعلق بامتداد المُدَد في الحلف على الانكفاف عن الوطء.
فنقول: الأيمان، في غرض الفصل تقع على أقسامٍ: أحدها: يمين مُطْلقة في الامتناع، لا تعرّض فيها لتعليق بوقتٍ أو أمرٍ منتظر، وسبيل هذا اللفظ الاسترسال على الأزمنة والانعقاد عليها، ولو قُيِّدت بالتأبيد، لكان التقييد بالتأبيد تأكيداً، وحكمُ هذا القسم احتسابُ مدّة الإيلاء من وقت اللفظ.
9434- ومن الأقسام تقييد اللفظ بالوقت، وهذا مما تقدم شرحه، فإن كانت المدة أربعةَ أشهر، أو أقلَّ، فلا إيلاء، وإنما الذي جاء به يمين لا يتعلق بها حكمُ طَلِبة الإيلاء، ولا يخفى موجَبُ البر والحِنْث، وإن ذَكَر زماناً زائداً على الأربعة الأشهر، انعقد الإيلاءُ، فالأربعة الأشهر مَهَلٌ، واشترط المزيد بسبب فرض توجيه الطلب؛ فإن الإيلاء عندنا لا يتضمن وقوع الطلاق بنفسه، وقد روي أن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه قال لحفصة: "أتصبر المرأة عن زوجها شهراً، فقالت: نعم، فقال: أتصبر ثلاثةَ أشهر فقالت: نعم، فقال: أتصبر أربعة أشهر، فسكتت، فبعث
عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد، وأمرهم أن يردوا الرجال إلى أهليهم في الأربعة الأشهر"، فكان ابتناء مُدَّةِ الإيلاء على ما جرت الإشارة إليه من إمكان الصبر، وظهور الضرار.
9435- ومن أقسام الأيمان ما يشتمل على مدة الامتناع عن الوطء إلى أمرٍ منتظر في الاستقبال، وهذا ينقسم أقساماً، فمنه ما يعلم قطعاً أنه لا يقع إلا بعد أربعة أشهر، وذلك مثل أن يقول لامرأته: والله لا أجامعك إلى إدراك الرطب، وكان إنشاء اليمين في الشتاء، والإدراكُ يقع بعد الأربعة الأشهر لا محالة، فيثبت حكم الإيلاء وفاقاً.
ولو علق بما يُعدّ وقوعُه مستبعداً كخروج الدّجال ونزول عيسى، وما أشبههما من أشراط الساعة، فيثبت الإيلاء، وإذا مضت الأشهر، توجهت الطَّلِبة.
ولو ذكر ما لا يبعد حصوله قبل الأربعة الأشهر، مثل أن يقول: لا أجامعك حتى يقدَمَ فلان، وكان قدومه متوقعاً قبل الأربعة، فلا نحكم بكونه مولياً في الحال، فلو مضت أربعةُ أشهر، ولم يتفق القدوم، فهل نقول: إنا نتبيّن الآن أنه كان مولياً؛ حتى تتوجه الطلبة بعد انقضاء الأشهر؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنا نتبين ذلك، وتتوجه الطلبة؛ فإنا كنا نتوقف لظهور توقع السبب المذكور قبل الأربعة الأشهر، والآن إذا بان بأَخَرةٍ، تبينا امتدادَ الامتناع واليمين أربعةَ أشهر.
والقول الثاني- أنا نحكم بالإيلاء، فإن السبب الذي ذكره إذا كان ممكن الوجود غيرَ مستبعد الكَوْن، فلا نتحقق إظهار المضادة لموجمب اليمين، ولَوْ لم يكن يمينٌ، فامتنع الرجل عن الوقاع، لم يثبت لها طلب؛ لأنها تزجي زمانها على التوقع، فلا تعويل إذاً على وقوع الامتناع أربعة أشهر، وإنما التعويل على إظهار الضرار، وتأكيده باليمين.
وهذا القول أفقه.
والذي يحقق الغرض في ذلك أنه إذا آلى مطلقاً، فلا طلبة في الحال، وإذا انقضت الأشهر طولب، فكأن صاحب القول الأول يثبت الإيلاء، والذي يحقق هذا أنه لو قال: لا أجامعك ما عشتُ، فلو مات قبل أربعة أشهر، فقد تبين أنه لم يكن مولياً، فإذا كان التبيّن يتطرق والمذكور سببٌ مستبعد، كما يتطرق والسبب قريب، فلا يبقى فرقٌ عند ذكر الأسباب، والأمر في الكل على التبيّن، ويجب لَوْ صح هذا القياس القولُ بالإيلاء، وإحالة ارتفاع الإيلاء على وقوع السبب قبل الأشهر.
ولعل ناصرَ القول الأول يردّ ذلك القولَ إلى أمر في العبارة، يقول: إن كان السبب مستبعداً، أطلقنا القول بثبوت الإيلاء، فإن جرى السبب المستبعد على ندورٍ قبل أربعة أشهر، رددنا التبيُّن إلى أن الإيلاء لم يكن، وإن كان السبب المذكور غيرَ مستبعد، لم نطلق القول بحصول الإيلاء إن سئلنا عنه، فإن استأخر السبب، تبيّنا أنه كان مولياً.
والقول في ذلك قريب.
9436- ولو قال: لا أجامعك إلى أن تموتي، أو إلى أن أموت، فالإيلاء ثابت، ولو قال: لا أجامعك إلى أن يموت فلان، فالذي ذكره القاضي، وأصحابُ القفال أن الإيلاء ثابت، وموت ذلك الشخص من المستبعدات، وقال المزني: ذِكْرُ موت شخص غير الزوجين بمثابة ذكرِ قدومٍ متوقع؛ إذ ليس الموت ببعيد في الوقوع، وما لم يبعد وقوعه، لم يبعد توقعه.
وذكر العراقيون مذهب المزني، واختاروه، ولم يعرفوا غيره، ونزّلوا موت الثالث بمثابة القدوم وغيره من المتوقعات، فقد حصل وجهان من الطرق:
أحدهما: أن موت الثالث من المستبعدات، فيرتب فيه المذهب على حسب ما مضى من المستبعدات.
والوجه الثاني- وهو اختيار العراقيين أنه لا يلتحق بالمستبعدات.
9437- وفي لفظ (السّواد) إشكالٌ ونحن ننقله على وجهه، فقال: "حتى يخرج الدّجال أو حتى ينزل عيسى بنُ مريم، أو حتى يقدَم فلان، أو يموت أو تموتي، أو تفطمي ابنك"، جمع الشافعي رضي الله عنه بين هذه الأسباب وهي مختلفة: فمنها مستبعد، ومنها مستقرب، وقرن بين موت فلان وقدومِه، فلا تعلّق (بالسواد) من حيث إنه جمع بين الأسباب المختلفة.
ثم تصرف المزني، وقال: "حتى يقدَمَ فلان أو يموت سواء في القياس" وأبان أنهما متوقعان على نسق واحد، فهذا بيان لفظ (السواد) وميلُ النص إلى أنه إذا مضت أربعة أشهر، ولم يتفق السبب المذكور، توجهت الطّلبة؛ فإنه قال بعد الأسباب المختلفة: فإذا مضت أربعة أشهر قبل أن يكون شيء مما حلف عليه، كان مولياً.
وقال في موضع آخر- وهذا لفظ السواد:- "حتى تفطمي ولدك، لا يكون مولياً، لأنها قد تفطمه قبل أربعة أشهر" وأما قوله: حتى تموتي أو حتى أموت، فالإيلاء محكوم به ظاهراً في الحال، ولا يؤخذ هذا من توقع الموت واستبعاده، وإنما يؤخذ من قطع رجائها عن استمتاعه ما بقيت طالبة راجية.
9438- وحاصل جميع ما ذكرناه يرجع إلى أن السبب الذي جعله المنتهى إن كان مستبعداً، فالضرار كائن، وإن كان السبب متوقعاً، فلا نحكم بالإيلاء، فإن استأخر وقوعُ ما كنا لا نستبعده عن الأشهر، فقولان منصوصان في السواد، وفي موت الثالث من بين الأسباب نظرٌ في أنه من المستبعدات؛ أم لا، ولعل الأظهر أنه من المستبعدات؛ فإن الناس كذلك يَحْسَبون، ومدار الإيلاء على الإضرار المُظهَر باللسان.
والمسألة محتملةٌ على حال.
وإذا قال: حتى تفطمي، فإن أراد وقوع الفطام، وكان متوقع الكون قبل الأربعة الأشهر، فهو ملتحق بما لا يُستبعد، وقد مضى تفصيله. وإن كان أراد انقضاء مدة الرضاع وهي الحولان، نظرنا فيما بقي من المدة، وخرّجناه على التفاصيل المذكورة في المدد.
وإن قال: لا أجامعك حتى تحبَلَ فلانة، فهذا من الأسباب المتوقعة على القرب، إلا أن تكون صغيرة أو آيسة، ولا يكاد يخفى ترديد النظر بعد تمهيد الأصول.
ولو ذكر قدوم شخص، وكان على مسافة شاسعة ولا يتوقع رجوعه منها وقدومُه في الأربعة الأشهر، فهذا ملحق بالمستبعدات، ولو كان قدومه مستبعداً، وزعم الزوج أنه ظنه متوقعاً، فهذا فيه نظر إذا ادّعى الزوج ظنّاً بقرب موضعه: يجوز أن يقال: يُبنى الأمر على ظنه، فإن نوزع فيه حُلّف، ويجوز أن يقال: يبنى الأمر على حقيقة الحال، ولا التفات إلى ما يدعيه من الظن.
فصل:
إذا قال: "والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس، فهو مولٍ... إلى آخره".
9439- إذا قال: والله لا أقربك إن شئت، فهذا تعليق الإيلاء بمشيئتها على صيغةٍ تقتضي تخير الجواب، والإيلاء قابلٌ للتعليق كالطلاق؛ إذ لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فوالله لا أجامعك إن شئت، فالقول في اشتراط اتّصال لفظها على ما مضى في الطلاق.
وحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثُ طرق: إحداها- اشتراط التلفظ بالمشيئة على الاتصال الزماني، كما يشترط ذلك بين الإيجاب والقبول، وهذا ظاهر المذهب.
والطريقة الثانية- أنا لا نشترط الاتصال في ذلك، ومتى شاءت، انعقد الإيلاء، وقوله: إن شئتِ، كقوله: إن دخلت الدار، وهذا منقاس.
وتوجيه الطريقة الأولى يُحْوِج إلى تكلفٍ في التقدير، ولكن الطريقة الثانية بعيدة في الحكاية، ذكرها الشيخ أبو علي في الشرح.
والوجه الثالث- أن المشيئة تتقيد بالمجلس وإن طال، وهذا أبعد الطرق، ولست أعرف له توجيهاً، وإنما أخذ بعضُ الأصحاب هذا الوجهَ من لفظ الشافعي؛ فأنه قال: "وشاءت في المجلس" وذكر هذا اللفظ أيضاً في تعليق الطلاق بالمشيئة على هذه الصيغة، فظن ظانون أنه أراد المجلس حقاً، وإنما عبر رضي الله عنه عن قرب الزمان بذكر المجلس، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى اعتبار المجلس في القبول والإيجاب، وقد اعتبره أبو حنيفة فيهما.
وقال مالك: إذا قال: لا أجامعك إن شئت، فهو ليس بمولٍ، وإن شاءت؛ فإن المولي من يَجزِمُ الامتناعَ إضراراً بها، فإذا علق بمشيئتها، فقد خرج عن كونه مضارّاً، وهذا الذي ذكره غيرُ بعيد من مأخذ الفقه.
واعترض عليه الشافعي بأن قال: إذا كان الإيلاء جازماً، فأظهرت الرضا به، لم ينقطع الإيلاء، ولم تنقطع المدة، وإذا رضيت بعد المدة، لم نستفتح ضرب مدّة، فدلّ أنا وإن كنا نعتبر المضارة اعتباراً كلياً، فلسنا نبني الأمر عليها؛ فإن الأمور بعد ما رسخت لا تزول بفرْض أمثال ذلك، وهذا كابتناء الإجارة على الحاجة، ثم لا تتقيد بها، ولو كانت المرأة فاركة زوجَها مُناها أن يهاجرها، فالإيلاء في حقها كالإيلاء في حق الوامقة، والتي لا أرَب لها في الرجال كالمتشوفة.
فهذا بيان الأصل.
9440- ولو قال: "لا أصبتك متى شئتِ". قال الإمام: هذه اللفظة محتملة، ويُرجع فيها إلى قوله: فإن قال: أردت بذلك تعليق اليمين على مشيئتها، حتى إذا شاءت، انعقدت اليمين والإيلاء، فالأمر كذلك، والفرق بين قوله: إن شئتِ وبين قوله متى شئتِ أن قوله: إن شئتِ يستدعي جوابها على الفور على ظاهر المذهب، وقوله متى شئت يقبل التأخير، كما قدمناه في مسائل الطلاق.
فإن قال الزوج: أردت بقولي: "لا أجامعك متى شئتِ" أني إنما أجامعك إذا أردتُ لا إذا أردتِ، فهذا ليس بالإيلاء وإنما هو إعراب عن موجَب الشرع ومقتضاه، وحلف عليه.
ولو أطلق الزوج هذا اللفظ، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه من الكنايات؛ فإنه متردد بين الوجهين الذين ذكرناهما، فإذا لم يكن نية، فاللفظ لاغٍ.
ومن أصحابنا من قال: هو في الإطلاق محمول على تعليق عقد الإيلاء بالمشيئة، حتى إذا شاءت، ثبت الإيلاء، وإن كنا نصدق الزوجَ في حمله على المحمل الآخر، وقد ذكرنا نظائر هذا في الألفاظ المطلقة والمتأوَّلة في مسائل الطلاق.
ولو علق فعل الوطء بمشيئتها وأراد أنها مهما أبت أن يطأها، فلا يطؤها، فليس بمولٍ، وفي هذا المقام ينقدح مسلكُ مالك؛ فإنه علق اليمين على اتباع مشيئتها في الوطء إقداماً وامتناعاً، فإذا قال: والله لا أجامعك إن شئت، فليس يعلق الوطء على مشيئتها، وإنما يعلق عقد اليمين على مشيئتها، ثم إذا انعقدت اليمين، فلا أثر بعد ذلك لمشيئتها.
9441- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "والإيلاء في الغضب والرضا سواء" وقصد بذلك الرد على مالك، فإنه يقول: انعقاد الإيلاء يختص بحالة الغضب؛ فإنَّ قصد المضارّة إنما يتحقق في حالة الغضب.
وهذا من ظنونه التي ينبني على أمثالها مذهبُه، وهو بمثابة تخصيص الخلع بحالة المشاقّة، ومذهبُه في الخلع أقربُ؛ لأنه يتمسك في إثباته بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا...} [البقرة: 229] والإيلاء غير مقيد بشيء من ذلك، وليس في القرآن فصلٌ.
9442- ثم قال الشافعي: "وإن قال والله لا أقربك حتى أُخرجَك من البلد... إلى آخره".
هذا يتحقق بالأسباب القريبة، فإن الإخراج من البلد ممكن غيرُ مستبعد، فكأنه قال: "والله لا أجامعك في البلدة"، فإن مضت أربعة أشهر، فهل نجعله مولياً؟ فيه القولان المقدمان: فإن قلنا: يصير مولياً، وتتوجه الطلبة، فإن أراد الزوج الخلاص، فالوجه أن يخرجها من البلد، وإذا أخرجها، انقطعت الطّلبة؛ فإن اليمين لم يتناول هذه الحالة، ولو وطىء، لم يلزمه الكفارة، وإذا انتهى إلى حالة لو وطىء، لم يلتزم الكفارة، فقد خرج في ذلك الوقت عن مطالبة الإيلاء، وهذا مستبين لا غموض فيه.
فرع:
9443- لو قال: إن جامعتك، فعبدي حر، فهو مولٍ على الجديد، ولو قال: إن جامعتك، فعبدي حر قبل مجامعتي إياك بشهر، قال الأصحاب: ابتداء المدة يقع بعد شهر؛ فإنه لو فرض الجماع قبل الشهر، لم يعتِق العبد؛ إذ لو قدّرنا العتق، للزم أن يتقدم على الوقاع بشهر، ولو تقدم، لكان العتق واقعاً قبل اللفظ، وقد ذكرنا استحالة هذا. وإذا مضت أربعة أشهر من وقت اللفظ، فلو قدّرنا توجيه الطلبة، لم يكن على قاعدة الإيلاء؛ فهانه لا يلتزم بالوقاع-لو واقع- العتق بعد أربعة أشهر، بل لو فُرض الوقاع، لوقع العتق بعد الأربعة الأشهر.
ولو باع العبد بعد انتصاف الشهر الخامس، فالطَّلِبة تتوجه بعد الشهر الخامس؛ فإنا لو فرضنا وقاعاً بعد الشهر الخامس، لاقتضى تقدّمَ العتق بشهر، ولو تقدمَ العتق بشهر، لتبيّنا بطلان البيع، ويحصل بما ذكرناه شرط الإيلاء وعماده.
ولو باع العبدَ و لم تتفق مطالبة الزوج والمسألة بحالها حتى مضى شهر كامل، فلا وجه للمطالبة، وقد انقطع أثر الإيلاء، فإنه لو فرض الوطء، لم ينعكس العتق على البيع، ولم يُفضِ إلى بطلانه، ولو اشترى العبدَ بعد البيع، فيعود التفريع في عَوْد الحنث، وبحسبه يعود التفصيل في الإيلاء، وقد تمهد هذا فيما تقدم.