فصل: باب: عتق المؤمنة في الظهار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: عتق المؤمنة في الظهار:

9555- إيمانُ الرقبة المعتَقة شرطٌ في جملة الكفارات، فلا تُجزىء رقبةٌ كافرة في كفارة.
9556- ولو نذر إعتاقَ رقبة، فإن عيَّن عبداً كافراً والتزم إعتاقه، جاز، وكذلك لو كان معيباً، فعيّن إعتاقَه في التزامه، جاز ولزمه الوفاء بنذره.
ولو أطلق ذكر عبدٍ، فقال: لله عليّ أن أعتق عبداً، فهل يخْرُج عن موجب نذره بإعتاق رقبة كافرة، أو معيبةٍ بعيب يمنع من الإجزاء في الكفارة؟ في المسألة قولان مبنيان على أن مطلق النذر يحمل على أقل إيجاب الله تعالى، أو على أقل ما يتقرب به إلى الله تعالى.
فإن حملناه على أقل درجات الإيجاب، لم يُجزىء الكافر والمعيب، وإن حملناه على أقل درجات التقرب إلى الله تعالى أجزأ؛ فإن التقرب إلى الله بإعتاق الكافر والمعيب سائغ، وعلى هذا الأصل تخرج مسائلُ ستأتي مشروحةً في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى.
9557- فإن قيل: لو نذر لله تعالى صوماً، فماذا يلزمه؟ قلنا: يلزمه صوم يوم.
فإن قيل: أقل وظيفة واجبة من الصيام في الشرع ثلاثة أيام، وهي كفارة اليمين، قلنا: كل يوم منه فرضٌ على حياله، والأيام الثلاثة تناظر ثلاثَ رقاب.
وخالف أبوحنيفة، فلم يشترط الإيمان في شيء من الرقاب المعتقةِ في الكفارات إلا كفارةَ القتل، والمسألة مشهورة.
9558- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن كانت أعجمية وصفت الإسلام... إلى آخره".
العبد الأعجمي إذا وصف الإسلام بلسان العرب، وعلمنا أنه كان يعلم معناه، فهو كالعربي، وإن كان لا يعلم معناه، فلا حكم لما صدر منه.
ثم ذكر الأصحاب بعد هذا تقسيمَ الإسلام وما يحصل الايمان به، وقسّموه إلى ما يحصُل إنشاءً وابتداء، وإلى ما يحصُل تبعاً.
والقول في جهات التبعيةِ، وفي الإسلام الحاصلِ به، والأحكام المتعلقة بذلك الإسلامِ مستقصىً في كتاب اللقيط على أحسن وجه وأبلغِه في البيان، فيه نصصنا على إعتاق الطفل المحكوم له بالإسلام تبعاً عن الكفارة، ثم ذكرنا إعرابه عن نفسه بالكفر بعد البلوغ، والتفصيل فيه، فلا نعيد هذا الفن.
والقسم الثاني هو الإسلام الحاصل إنشاء، أما العَقْدُ، فلا مطَلعَ عليه، وإنما يعرفه خالق الخلق، وكلامنا يتعلق بالظاهر، فنتكلم فيمن يُسلم وفيما هو الإسلام.
فأما المكلف، فيصح إسلامه ابتداء إذا اختار الإسلام، فإن اكره عليه وكان حربياً، فكذلك نحكم بإسلامه، والذّمّي إذا اكره، فأسلم، ففي المسألة وجهان.
وأما المجنون فلا عبارة له، والصبي لا يصح منه إسلامه بنفسه على ظاهر المذهب، وذكرت فيه خلاف الأصحاب من وجوهٍ في كتاب اللقيط، فلا أعيده.
9559- والذي أخّرناه إلى هذا الكتاب الكلامُ فيما يصح الإسلام به: لا خلاف أنا لا نشترط أن يُعرب من يحاول الإسلام عن جميع قواعد العقائد؛ حتى لا يغادر منها قاعدةً.
فالأصل الذي اعتمده الشرع وهو من أبدع البدائع، وأعجب الأمور، وقد ذهل عنها معظم العلماء الإتيانُ بالشهادتين، وهما على التحقيق يحويان القواعدَ جُمَع؛ إذ في التوحيد الاعتراف بالإله والوحدانية، وفيه التعرض لصفات الإلهية وتفويض الأمور إلى من لا إله غيره.
والشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم تصدّقه في جميع ما أتى به. وعن هذا قال عليه السلام لما سأله جبريل عليه السلام-في الحديث المعروف- عن الإسلام، فقال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".
ثم إذا تبين وظهر إشارة الشرع إلى الشهادتين، فللأصحاب طريقان في المسألة: منهم من قال: لا يحصل الإسلام إلا بالشهادتين، ورأى ذلك باباً من التعبد؛ حتى قال. المعطِّلُ إذا قال: لا إله إلا الله، لا نحكم بإسلامه ما لم يقل: محمد رسول الله.
وقال المحققون: من أتى بالشهادتين بما يخالف عقده حُكم له بالإسلام، فإذا قال المعطل: لا إله إلا الله، صار مسلماً، وعرض عليه شهادة النبوة، فإن أتى بها، وإلا كان مرتداً، وكذلك إذا قال الثنوي بإثبات الإله، فليس بمسلم، فإن وَحّد، حُكم له بالإسلام. وإذ قال اليهودي أو النصراني: محمد رسول الله، حكم بإسلامه وإن لم يوحّد؛ فإن النصراني يثلث، واليهودي يقول العزير ابن الله.
وحاصل هذه الطريقة أن من أتى من الشهادتين بما يوافق ملّته، فلا يصير مسلماً، ومن أتى من الشهادتين بما يخالف ملّته، حكم له بالإسلام، وإن لم يأت بالشهادتين جميعاًً. وهذا هو الذي قطع به معظم المحققين من الأصحاب ثم قالوا: في الناس من يعترف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يزعم أنه مبعوث إلى الأمة الأمّية، وهم العرب، فلا يقع الاكتفاء منهم بأن يقولوا محمد رسول الله.
9560- ونحن نفرع على الطريقتين: أما الطريقة الأخيرة، فإنا نقول عليها: لو اعترف يهودي أو نصراني بصلاة من الصلوات على موافقة ملتنا، أو بحكمٍ من الأحكام يختص بشريعتنا، فهل نحكم بإسلامه؟ فيه اختلاف: فمنهم من قال: ينبغي أن يكون ما يعترف به من الشهادتين، والذي إليه ميل المعظم من أهل التحقيق أن هذا إسلام.
وضبط القاضي هذا: بأن قال: كل ما إذا أنكره المسلم قيل: كفر لمّا جحده، فما يكفر بجحده يصير الكافر المخالف به مؤمناً بعقده.
ثم التصديق لا يتبعض، فإن صدق وراء ذلك بالجميع، فهو وافٍ بعقده، وإن كذب في غير ما صدق به، فهو مرتد.
ومَنْ شرط من أصحابنا الشهادتين اختلفوا في أنا هل نشترط التبرِّي من كل ملة تخالف ملة الإسلام، فمنهم من قال: لا يشترط ذلك، وهو الأصح الذي لا يسوغ غيره؛ فإن عماد الشرع الاكتفاء بالشهادتين، وعليه تدلّ الأخبار والآثار.
ومنهم من قال: يشترط التبري، وبضم هذه الكلمة إلى الشهادتين يصير الكلام جامعاً.
هذا بيان ما يظهر الإسلام.
9561- والأخرس يشير بالإسلام، فيحكم له به، والشاهد فيه الخبر، ثم النظر، أما الخبر فحديث الخرساء وهو مشهور.
والنظرُ: اعتبار الإسلام بسائر العقود؛ فإن إشارات الأخرس قائمة مقام عبارات الناطقين، وأبعد بعض أصحابنا؛ فشرط أن يضم إلى الإشارة إقامةَ صلاة، وهذا بعيد لا أصل له.
وقال بعض من يُحوِّم على التحقيق: إنما لا يحصل الإسلام بإشارة الأخرس؛ لأن الإشارة فيه تُناقِض ما يجب عقدُه في أوصاف الإلهية؛ إذ الإشارة لا تتم إلا بالإيماء إلى جهة، وما يُومأ إليه جسم، فإن قال قائل كيف تستجيزون ذكر هذا وحديث الخرساء في الصحيح؟ قلنا: ذاك حديث مؤوّل باتفاقِ من عليه معوّل؛ فإن فيه أنه قال لها: "أين الله" وكل حديث يقضي العقلُ بإزالة ظاهره، فلا حجة فيه.

.باب: ما يجزىء من الرقاب وما لا يجزىء وما يجزىء من الصيام وما لا يجزىء:

9562- ذكر في صدر الباب: أن من اشترى عبداً بشرط أن يعتقه، فهل يصح العقد، وإن صح، فهل يجب عتقه حقاً لله تعالى، وإذا فرض من المشتري الإعتاقُ، ونوى صرفَه إلى الكفارة هل ينصرف إليها؟، وهذا الفصل مما استقصيناه بما فيه في كتاب البيع.
ثم قال: "لا يجزىء فيها مكاتَب... إلى آخره".
9563- المكاتب كتابة صحيحة إذا أعتقه مولاه عن كفارته، نفذ العتق عن جهة الكتابة، ولم ينصرف إلى الكفارة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة.
وللأصحاب طرق في تعليل المذهب: منهم من قال: العتق يقع عن جهة الكتابة، وهو مستحَقٌّ فيها، فلا يقع عن جهة أخرى تستحق العتق فيها.
ومنهم من قال: المكاتب ناقص الرق؛ فضاهى المستولدة.
ومنهم من قال: إعتاقه ناقص؛ فإنه ليس إعتاقاً محضاً، وإنما هو إبراء؛ إذ لو كان إعتاقاً، لكان العتق يحصل معجلاً، فالذمة تبقى مشغولة بالعوض المسمى.
وإذا كان العبد مكاتباً كتابة فاسدة، فأعتقه مولاه عن كفارته، فهذا يترتب على أن السيد إذا أعتقه، فهل يستتبع اكسابَ والأولادَ، وفيه اختلاف وتردد، سيأتي، إن شاء الله في الكتابة.
فإن قلنا: إنه لا يستتبع، فالإعتاق فسخٌ للكتابة الفاسدة، فينفذ عن الكفارة إذا نواها المعتِق.
وإن قلنا: يستتبع المكاتبُ الأكسابَ والأولاد، فعلى هذا الوجه في انصرافه إلى الكفارة خلافٌ، مبني على المعاني التي قدمناها؛ فإن وقع التعويل في الكتابة الصحيحة على نقصان الرق، أو على نقصان العتق، فهذا العتق منصرف إلى الكفارة؛ فإن الرق كامل، والعتق لا يتضمن إبراء الذمة عن عوض واجب، وإن عولنا في الكتابة على وقوع العتق عن جهة الكتابة، فلا ينصرف العتق في الفاسدة إلى جهة الكفارة لوقوعها عن جهة الكتابة.
9564- ثم قال: "ولا تجزىء أمُّ ولد في قول من لا يبيعها... إلى آخره".
ظاهر هذا الكلام، يوهم تعليق القول في بيع أمهات الأولاد، وقد فهم المزني التعليق واختار منع البيع، ولم يحتجّ في اختياره إلا بنصوص للشافعي رحمه الله، قطع فيها بمنع البيع، وسكوتُه عن الاحتجاج بمعنىً ومسلكٍ في النظر من أصدق الشواهد على عظم قدره؛ فإنه لا يكاد يظهر معنىً في منع بيع المستولدة.
وقال بعض الأصحاب لم يردّد الشافعي قولَه، وإنما أشار إلى مذهب بعض السلف، وقد روي عن علي كرم الله وجهه في آخر العهد أنه قال ببيع أمهات الأولاد، وذكر في أثناء خطبة: "اجتمع رأيي ورأي عمر رضي الله عنه على أن أمهات الأولاد لا يُبَعْن، وأنا أرى الآن أن يبعن، فقام عبيدة السَّلماني، فقال: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك".
ومن أصحابنا من أجرى في بيعهن قولين على الإطلاق؛ بناء على أن الإجماع هل يشترط فيه انقراض أهل العصر، فإن وقع التفريع على القول البعيد، فإعتاقها جائز عن الكفارة، ولا حكم للاستيلاد، وكان رحمها ظرفاً احتوى على مولود، ثم نفضه، ولا تَعتِق بالموت.
وإن وقع التفريع على ما يجب القطع به، فإعتاقها لا يجزىء عن الكفارة، فإنها مستحقة العتاقة، وأبو حنيفة وافق في هذا، وإن أجاز إعتاق المكاتَب عن الكفارة.
9565- ثم قال: "وإن أعتق مرهوناً، أو جانياً، أو غائباً... إلى آخره".
قد مضى القول في إعتاق الراهن العبدَ المرهونَ، وحظُّ هذا الكتاب منه أنا إن نفذنا عتق الراهن، قضينا بانصرافه إلى كفارته، إذا نوى صرفَه إليها.
فإن قيل: أليس نقصان الملك يمنع صرفَ العتق إلى الكفارة، ونقصانُ الملك وكماله يمتحنان بالتصرفات نفوذاً ورداً، قلنا: الملك في المرهون كامل، فإذا فرّعنا على نفوذ العتق، فهذا يتضمّن فكّ الرهن، ولا مانع سوى استيثاق المرتهن، فإذا كان في تنفيذ العتق ردُّه، فيصادف العتقُ ملكاً مفكوكاً عن الرهن، وليس كذلك عتق المكاتب، فإنه يقع على حكم الكتابة.
وعتق الجاني يُخرَّج على هذا، وقد اختلف القول في بيعه، ثم اختلف القول-على منع البيع- في عتقه، فإن نفذنا العتقَ، جوّزنا صرفَه إلى الكفارة.
9566- ثم قال: "وإن أعتق عبداً له غائباً... إلى آخره".
يجوز إعتاق العبد الغائب عن الكفارة إذا لم تنقطع الأخبار، فإن انقطعت الأخبار انقطاعاً يُغلِّب على القلب أنه أصابته آفةٌ هلك فيها، وذلك بأن لا نجد حاجزاً للأخبار، فإذا أعتقه، ففي وقوعه عن الكفارة في الحال قولان، استقصيت القول فيه في كتاب زكاة الفطر، وأتيت فيه بالمسلك الحق، فليُطْلَب في موضعه.
وفائدة هذا الخلاف تظهر في كفارة الظهار: فإن حكمنا بالبناء على حياة العبد، فالإعتاق يُسلِّط على الوطء، وإن حكمنا بالبناء على وفاته واشتغال الذمة، فلا يتسلط المظاهر على الوطء، ولو منعناه، ثم تواصلت الأخبار بالحياة، تبيّنا أن الكفارة تأدّت، ووقع العتقُ موقعَه.
ولو أعتق المالك عبداً مغصوباً تحت يد ظالم لا يُغالَب، فقد قال القفال: إعتاقه عن الكفارة يجزىء وفي بعض التصانيف أن أبا حامد كان يقول: لا يجزىء لأن الغرض من الإعتاق تخليصُه من الأسر، وتمكينُه من التصرف، ولهذا لا يجزىء العبد الأقطع لنقصان عمله، فإذا كان المحبوس بَعَيْبه عن التصرف لا يجزىء، فكذلك لا يجزىء المغصوب.
وهذا رديءٌ وغيرُ معتد به، ولست أراه من المذهب، ولم أطلع عليه في كتب العراق.
9567- ثم قال: "لو اشترى من يَعْتِق عليه، لم يجزئه عن كفارته... إلى آخره".
من اشترى مَنْ يعتِق عليه، ونوى صرفَ العتق الحاصل فيه إلى كفارته، صح الشراء، ونفذ العتق، ولم ينصرف إلى الكفارة، خلافاً لأبي حنيفة، وهو يبني هذا على أن الشراء عقدُ عَتاقة، ووجه الرّد عليه بيّن مذكور في المسائل، ومذهب الأصحاب أن من اشترى من يعتِق عليه، فإنه يملكه، ثم يحصل العتق مرتَّباً على الملك، قال أبو إسحاق المروزي: يحصل الملك والعتق معاً، وعُدّ هذا من هفواته.
ولو اشترى العبدُ نفسَه من مولاه، وصححنا منه هذه المعاملة، فهل يملك نفسَه؛ حتى يترتب عتقه على ملك نفسه؟ فيه تردد معروف، وسيأتي شرحه، إن شاء الله في كتاب الكتابة، وعلى الخلاف ابتنى أمرُ الولاء، فمن قال: إنه يملك نفسَه يحكم بانقطاع الولاء، ومن قال: يترتب عتقه على ملك المولى، فالولاء للمولى، وهذا يأتي مشروحاً إن شاء الله عز وجل.
والفرق بين شراء الرجلِ من يعتِق عليه وبين شراء العبد نفسَه أن شراء من يعتِق عليه لا يُحيل حصولَ العتق في المشترَى، ولولا ورود الشرع، لدام الملك، وكون الإنسان مالكاً لنفسه محال من طريق التصور، ومعتمد المذهب وقوع العتق من جهة القرابة، وهو مستحَق مع حصول الملك واقعٌ لا محالة.
ثم إذا اشترى النصف ممن يعتِق عليه، وكان موسراً، سرى العتق إلى الباقي، وعلى المشتري الضمان، ولو ورث النصفَ ممن يعتق عليه، نفذ العتق، ولم يَسْرِ، والسبب فيه أنّا لو سرّينا العتق المرتّب على الملك المستفاد بالإرث، لأحْبطنا ملك الشريك إن سرّيناه، ولم يضمن الوارث، وإن سرَّيناه وضمّناه، كان محالاً؛ فإن تغريمه مالاً فيما لم يتسبّب إليه بوجه من وجوه الاختيار محالٌ، لا سبيل إليه، والمشتري متسبّبٌ وإن لم يكن مُعتِقاً، والضمان يتعلق بالأسباب، كما يتعلق بالمباشرات، ثم يختلف التسرية باليسار والإعسار إذا اشترى النصفَ ممن يعتق عليه، كما يختلف ذلك في إعتاق أحد الشريكين نصيبه.
فصل:
قال: "ولو أعتق عبداً بينه وبين آخر... إلى آخره".
9568- إذا أعتق نصفين من عبدين، ولم يَسْر عتقُه بسبب الإعسار، فحاصل المذهب ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنّ ذمته تبرأ؛ فإنّ ضمَّ شَطْر إلى شَطر يتضمن مساواة الإعتاق في العبد الكامل، والأنصاف والأشقاص في نُصُب الزكوات كالأشخاص، إذا فرض الضم فيها، فعلى مالك ثمانين نصفاً من الأغنام وشريكُه فيها ذمّي ما على مالك أربعين من الغنم من الزكاة، كما لو ملك أربعين خالصاً.
والوجه الثاني- أنه لا تبرأ ذمته عن الكفارة، فإنه متعبَّدٌ بإعتاق رقبة، وهو لم يعتق رقبة، وأيضاًً فالمقصود من الإعتاق حلّ رباط الرق والتخليص من أسر العبودية، وهذا المعنى لا يتحقق في إعتاق الشطرين؛ إذ كل واحدٍ منهما قد عتق نصفُه ونصفه في الأسر والحجر.
والوجه الثالث: أنه إن أعتق نصفين من شخصين نصف كل واحد منهما حُرّ ونصفه رقيق أجزأه ذلك، وبرئت ذمته، وإن أعتق نصفين من رقيقين ولم يسر عتقُه لم يُجزه، والفارق بينهما أنه في الشخصين اللذين كل واحد منهما نصفه حرّ تسبب إلى تكميل الإطلاق، وحلِّ الوثاق، وحصل بجمع النصفين ما يحصل بإعتاق الرقبة الكاملة.
9569- ولو كان بينه وبين شريكه عبد مشترك، فأعتق هو شِرْكه ونصيبَه، وكان موسراً، فاختلاف الأقوال-في أن العتق يحصل على الفور والبدار أم يتوقف على تأدية قيمة حصة الشريك، حتى يحصل عقيب الأداء، أم نحكم بالوقف والتبيّن- مشهور وسيأتي مستقصىً في كتاب العتق، إن شاء الله عز وجل.
فإذا فرضنا في الموسر، وفرعنا على الأصح، وهو تعجيل السراية باللفظ، فالعتق على الجملة يجري؛ لأنا نجعل معتق النصف معتقاً للجميع؛ فإن نصيب صاحبه ينتقل إلى ملكه في ألْطف زمانٍ ثم يعتق عليه، فيحصل جميعُ العتق في ملكه الخالص، ويكفيه النيةُ المقترنةُ بإعتاقه نصيبَ نفسه.
وقال القفال: أنا أُخرِّج وجهاً آخر: أنه إذا وَجَّه العتقَ على نصيب نفسه، لم يُجْزِه العتقُ في نصيب شريكه وإن وقع. واحتج في ذلك بأنه متعبَّدٌ بالإعتاق، وهو لا يسمَّى معتقاً للرقبة؛ إذ العتق في البعض يقع شرعاً من غير إيقاعه، ويحسن منه أن يقول: ما أعتقت العبد بكماله، وإنما أعتقت نصفه، وعَتَق الباقي عليَّ.
ونُقل عنه بناء الوجهين على ما لو توضأ لاستباحة صلاة بعينها، وفيه أوجه: أحدها: أن الطهارة لا تصح أصلاً.
والثاني: أنها تصحّ لتلك الصلاة بعينها دون غيرها، وهذا على نهاية الضعف، وما كنت أظن أن القفال يذكر هذا الوجهَ؛ فإنه فاحش بالغ في الفساد. والوجه الثالث: أن الطهارة تصح وتصلح لجميع الصلوات.
ووجه التخريج أنه في مسألتنا خص نصيبه بتوجيه العتق عليه، وإن حصل العتق في الباقي، وفي الطهارة خصص النية تخصيصاً لا يقف الشرع عنده.
والأصح في المسألتين أن التخصيص لا أثر له، والطهارة تصلح للصلوات، والعتق بجملته يقع عن الكفارة.
وفي هذا فضل بيانٍ سنذكره.
وإذا فرّعنا على أن العتق يحصل في نصيب الشريك عند أداء القيمة، فالجواب كما مضى، فإنه حيث يحصل يحصل بسبب إعتاقه السابق، ولا حكم للمتأخر.
9570- ولو قال من عليه الكفارة: إن دخلتَ الدار، فأنت حر عن كفارتي، فإذا دخل، عَتَق عن الكفارة. هذا ثابت في الأصل.
ولكن لو نوى صرف العتقِ في نصيبه إلى الكفارة، ثم نوى صرف العتق في نصيب شريكه عند أداء القيمة، فهذا لا يصح، وإن نوى عند إعتاق نصيبه صرفَ جميع العتق إلى كفارته، فأنتجز العتق في نصيبه، وتأخر في نصيب شريكه ثم حصلَ، فالنية السابقة هل تكفي؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنها كافية؛ فإنها ارتبطت بالعتق، ثم حصل العتق على ترتيب.
والثاني: أنه لا يجوز؛ فإن تقدم النية على نفوذ العتق فاسدٌ مع القدرة على الإتيان بها مقترنة بحصول العتق.
وقال الشيخ أبو حامد: ينبغي أن ينوي العتقَ كلَّه عند إعتاقه نصيب نفسه؛ فإن النية باللفظ أليق، حتى لو بعّض النية لم يجز، وهذا مما انفرد به.
ومما يجب التنبيه له أنه إذا أعتق نصيب نفسه، وفرعنا على تعجيل السريان، وعلى أن العبارة عن النصف صحيحة، والعتقَ في الكل منصرف إلى الكفارة، فهذا فيه إذا نوى صرفَ الكل إلى الكفارة، فأما إذا نوى صرف العتق في نصيبه إلى الكفارة فحسب؛ فلا يبرأ عن الكفارة وفاقاً، وهذا ظاهر لا يخفى دركه؛ فإن عماد انصراف العتق إلى الكفارة النية.
9571- ولو أعتق عبده الخالص، ونوى صرفَ نصف العتق إلى الكفارة، لم ينصرف إليها أكثرُ من النصف.
ولو أعتق عبدين خالصين، ونوى صرف نصفيهما إلى الكفارة، فهذا بمثابة ما لو أعتق نصفين من شخصين، النصف من كل واحد منهما حرّ.
فإن قيل: ألستم ذكرتم خلافاً في التبعيض في العبد المشترك؟ قلنا: ذلك الخلاف في اللفظ، فمن أصحابنا من قال: إذا أعتق نصفه ولم يتعرض للنصف الآخر بلفظه، ونوى صرفَ العتق كلّه إلى الكفارة يجزئه.
ومنهم من قال: لا يجزئه حتى يتلفظ بإعتاق الجميع، ويقول: أعتقت هذا العبدَ عن كفارتي. هذا موقع الخلاف.
وحكى العراقيون عن نص الشافعي رضي الله عنه أنه قال: "إذا لزمته كفارتان في كل كفارة رقبة، فقال: أعتقت هذين العبدين عن كفارتيّ نصفاً من كل عبد عن كل كفارة، فينفذ العتقان عن الكفارتين"، فلا شك أن هذا دالٌّ على جواز إعتاق شقصين من عبدين عن كفارة واحدة، فيعتضد إجراء الوجوه بالنص.
قالوا: ومن أصحابنا من جوز هذا، وإن منع التبعيض، فإن ثمرة اللفظ حصولُ عتقه في عبدين عن كفارتين، فلا نظر إلى تقدير التبعيض، وقالوا: لو قال: أعتقت هذين العبدين عن كفارتيّ، فينفذ العتقان عنهما.
واختلف أصحابنا في كيفية الوقوع: فمنهم من قال: يقع عن كل كفارة نصفا العبدين، ولا حاجة إلى هذا عندنا؛ فإن ظاهر إعتاق العبدين عن الكفارتين صرفُ عتق عبد كامل إلى كل كفارة، ولا معنى للحمل على التبعيض، واللفظ ليس يشعر به والإعتاق المطلق لا يفهم منه في العرف التبعيض والتشقيص.
فصل:
قال: "ولو أعتقه على أن يجعل له عشرةَ دنانير... إلى آخره".
إذا قال الرجل لسيد المستولدة: أعتقها بألف، فأعتقها، صح واستحق الألفَ على من استدعى العَتاقة، وكان العتق واقعاً عن الموْلَى، وسبيل استحقاق العوض التخليص، وهذا بمثابة ما لو استدعى الأجنبيُّ من الزوج تطليق زوجته بمال، فإذا طلق، استحق المالَ على المستدعي، على التفاصيل المقدمة في الخلع.
9572- ولو قال لمالك العبد الرقيق: أعتق عبدك عنّي بألف، فأعتقه عنه، نفذ العتق، ووقع عن المستدعي، واستحق المعتِقُ العوضَ المسمّى على الصحة.
ولو قال: أعتق عبدك عنّي، ولم يذكر عوضاً، فأسعفه وأعتقه عنه، وقع العتق عندنا كما لو ذكر عوضاً، خلافاً لأبي حنيفة.
ولو وهب المالك عبدَه من إنسان، ثم أذن للمتهب حتى يعتقه عن نفسه، فالإعتاق على هذا الوجه يكون بمثابة القبض في الهبة، فيفيد الملكَ، ويحصلُ العتقُ، وقال أبو حنيفة: لا يقع العتقُ قبل القبض الحسي قبضاً في الهبة، وإن صدر عن إذن الواهب.
9573- ثم إذا صرفنا العتق إلى المستدعي عند ذكر العوض أو من غير عوض، فقد أطبق أصحابنا على أن من ضرورة صرف العتق إلى المستدعي نقلَ الملك إليه؛ إذ من المحال أن يترتب عتق المعتِق علىَ مِلكِه، ثم يقع من غيره.
ثم أشكل على الأصحاب وجهُ نقل الملك ووقتُه.
قال القاضي: هذا إشكالٌ عظيم، ووجه الإشكال أنّا إن قلنا: الملك ينتقل قبل التلفظ بالإعتاق، كان ذلك تقديمَ الحكم الذي يوجبه اللفظ على اللفظ، وهذا محال. وإن نقلنا الملك بعد العتق، كان كلاماً متهافتاً، وإن قدرنا نقل الملك والعتق معاً، كان جمعاً بين النقيضين.
وقد ذكر العراقيون في حصول الملك للمستدعي أوجهاً: أحدها: أنه يتبين لنا أنه حصل له الملك مع قوله: أعتق عني.
والوجه الثاني- أنه يحصل الملك بشروع المعتق في لفظ الإعتاق، فكما شرع حصل الملك للمستدعي، فيتم اللفظ ويعتِق ملكَ المستدعي. وكل ذلك تبيُّنٌ يقع الحكم به بعد الفراغ من اللفظ؛ فإنه لو شرع في اللفظ، ثم بدا له، فلم يكمله؛ فلا يحصل نقل الملك.
والوجه الثالث:حكَوْه عن أبي إسحاق المروزي- أنه قال: يحصل الملك والعتق معاً عند الفراغ من اللفظ، وهذا ليس بدعاً منه، وقد حكينا من أصله هذا المذهبَ فيه إذا اشترى الرجل من يعتِق عليه، ومذهبه في شراء القريب أبدع وأبعد؛ فإن تقدير الملك للحكم بانعقاد العقد لا غموض فيه.
وحكَوْا وجهاً رابعاً عن الشيخ أبي حامد أنه قال: إذا فرغ من لفظ الإعتاق، حصل الملك بعده في لحظة لطيفة، ثم ينفذ العتق مترتباً عليه، وذلك في وقتين لا يُدرَك بالحسّ تفصيلُهما.
وذكر شيخي وجهاً خامساً، وغالب ظني أنه حكاه عن القفال، وهو أن الملك يحصل مع آخر اللفظ والعتقُ بعده.
9574- هذا كلامُ الأصحاب، وهو مشكلٌ كما قال القاضي، وسبب إشكاله أنه لم يقع تملّك ولا تمليك من طريق اللفظ، وإنما نُضطر إلى تحصيله ضمناً، ثم حصل ضمناً لنقيض الملك، ولا حصول إلا باللفظ، ولا حكم للفظ ما لم يتم، وكل من صار إلى تقديم الملك على اللفظ، فليس من الفقه على شيء، وليس هذا كقولنا: إذا تلف المبيع في يد البائع، تبينا انتقال الملك فيه إلى البائع وتلفَه على ملكه، فإن قال قائل: التلف هو الذي يوجب هذا، فكيف يقدّم الموجَب على الموجِب؟ قلنا: إن قُدّر مثلُ هذا في الواقعات التي لا ترجع إلى الألفاظ، لم يكن ذلك بدعاً في وضع الشرع، فأما ثبوت حكم اللفظ قبل اللفظ، فلا وجه له.
وكل ما ذكرناه قبلَ الوجه المحكي عن الشيخ أبي حامد فلا وجه له، وأما ما ذكره الشيخ أبو حامد، فإنه أثبتَ حكمَ اللفظ بعده، غيرَ أنه يدخل عليه أمر ضروري لا يندفع، وهو أن اللفظ لم يستعقب حصولَ العتق، بل استعقب انتقال الملك، ثم ترتب النفوذ عليه، وسببه أن هذا ليس إعتاقاً مطلقاً، إنما هو إعتاق عن الغير، ومعنى الإعتاق عن الغير إزالةُ الملك إليه، وإيقاعُ العتق بعده.
وأما ما ذكره شيخي فالذي يلوح فيه من اتجاهٍ لقربه من مذهب أبي حامد، وفسادُه من وقوعه في مذهب أبي إسحاق.
وبالجملة اختلف أئمتنا في أن من طلق أو أعتق، فحكم لفظه متى يثبت: فمنهم من قال: يثبت مع آخر جزء من اللفظ، وهو حسن؛ فإن التطليق والإعتاق إنما يحصل مع آخر جزء.
ومنهم من قال: يحصل حكم اللفظ بعده على الاتصال ويعاقبه معاقبة الضدّ.
فإن قلنا: الحكم يحصل مع آخر اللفظ، فيتجه ما حكاه الشيخ من حصول الملك مع آخر اللفظ واستئخار العتق عنه للضرورة، فيئول هذا إلى اختلاف الشيخين في أن حكم اللفظ متى يحصل. فإن قلنا: حكم اللفظ يحصل بعده، فالملك والعتق في وقتين بعد اللفظ. وإن قلنا: حكم اللفظ يحصل مع آخره، فالملك يحصل في أول حصول حكم اللفظ، والعتقُ يستأخِر للضرورة.
والذي ارتأيناه أن يكون التفريع على حصول الحكم بعد اللفظ، ثم يقع القضاء في هذه الصورة بأن الملك يحصل مع آخر اللفظ،. والعتق يحصل بعده، فيكون الملك على هذا الوجه قبل أوانه، ولا فرق بين أن يقع كذلك، وبين أن يقع عند الخوض في اللفظ كما صار إليه صائرون، أو قبل لفظ العتق كما ذكره ذاكرون.
هذا كله إذا قال لمالك العبد: أعتق عبدك عني.
9575- فأما إذا قال: أعتق عبدك عن نفسك، ولك علي عشرة، فإذا أسعفه، وأعتقه كما استدعاه، فالعتق ينفذ ولا مردّ له، وهل يستحق العوض المذكور على المستدعي؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يستحقه، كما لو استدعى منه إعتاق أم ولده، فإن العتق يقع عن المعتِق، وهو يستحق العوض المذكور. والوجه الثاني- أنه لا يستحق العوض؛ فإن إيقاع العتق عن المستدعي ممكن، وبذلُ العوض على الخلاص إنما يثبت للضرورة، فإذا أمكنت جهةٌ في العتق غيرُ التخليص، لم يصح بذل العوض على التلخيص.
ثم قال صاحب التقريب وضيخي: إن قلنا: لا يستحق العوض، فلا كلام، والعتق منصرف إلى المعتِق. وإن قلنا: يستحق العوض، فالعتق عمن يقع؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يقع عن المستدعي، وإن نفاه عن نفسه، وهذا على نهاية الفساد والسقوط؛ فإن صَرْفَ العتق إليه حيث يستدعيه لنفسه على خلافٍ، فكيف يُصرفُ العتقُ إليه وهو نفاه عن نفسه.
9576- ومن تمام الكلام في هذا الفصل: أنه لو قال: أعتق أم ولدك هذه عني، ولك عليّ كذا، فلا شك أن عتق أم الولد لا يتصوّر انصرافه إلى المستدعي، والعتق ينفذ، ولا مردّ له.
والكلام في أنه هل يستحق العوضَ على المستدعي؟ المذهب أنه لا يستحق؛ لأنه لم يعتقها عنه، واستحقاق العوض مقرون بحصول ذلك، وأبعد بعض أصحابنا، فأثبت العوض وألغى قوله عني.
ولو قال: طلّق امرأتك عني ولك ألف، فالوجه إثبات العوض وإلغاء قوله عني، وحمله على الصرف إلى استدعائه، فكأنه قال: طلقها لأجلي أو بسبب استدعائي، والله أعلم.
وعتق المستولدة وإن كان لا يقع عن المستدعي، فاعتقاد الانصراف إلى المستدعي منتظم إلى أن نحكم بفساده.
9577- ولو قال لمالك الرقيق: "أعتق عبدك ولك عليّ ألف"، ولم يقل: أعتقه عني، ولا عن نفسك، فهذا نفرعه على أنه لو قال: "أعتقه عن نفسك" هل يستحق العوض عليه إذا أعتقه؟ فإن قلنا: لا يستحق العوض عليه لو قال: أعتقه عن نفسك، فإذا أطلق استدعاء الإعتاق، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يُحمل على ما لو قال: "أعتقه عن نفسك"
والثاني: أنه يحمل على ما لو قال: "أعتقه عني"، إذ هذا المعنى متأكدٌ بالاستدعاء وبذل المال، فصار بمثابة التصريح من المستدعي بالإضافة إلى نفسه.
وإن فرعنا على أنه لو قال: "أعتقه عن نفسك" فالعوض مستحَق عليه، فإذا أطلق، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن العتق يقع عن المستدعي.
والثاني: أنه يقع عن المعتِق، وهدا ينبني على ما هو المذهب، وهو أن العتق إذا أضيف إلى المعتِق، فلا يقع عن المستدعي وإن فرعنا على استحقاق العوض.
وهدا حاصل التفريع في استدعاء العَتاقة على التفاصيل التي ذكرناها.
9578- ونعود الآن إلى موجب الكفارة: فإن قال لمالك العبد القن: "أعتق عبدك عن كفارتي ولك ألف"، أو قال ذلك من غير عوض، فالعتق ينصرف إلى كفارة المستدعي.
ولو قال: أعتق عبدك عن نفسك ولك كذا، فأعتقه عن كفارة نفسه، فإن قلنا: إنه يستحق العوض، فلا ينصرف العتق إلى كفارته؛ إذ من المستحيل أن يقع العتقُ في مقابلة عوض مستحَقاً عن تلك الجهة، ثم يقع قضاءً لحق الله تعالى.
وإن قلنا: إنه لا يستحق العوض إذا أعتق عن كفارته على استحقاق العوض، لم يقع العتق عن كفارته؛ وذلك أنه وإن لم يقع مستحقاً عن تعويض ثابت، فنيّته فاسدة؛ من جهة أنه لم يجردها لحق الله، والنية ركن في الكفارة وشرطها أن تخلُصَ ولا تتردد، هذا ذكره القاضي ولا وجه لتقدير خلافه.
فرع:
9579- ذكرنا من أصلنا أنه إذا قال: أعتق عبدك عني ولم يذكر عوضاً، فاعتق عبده، وقع العتق عن المستدعي، قال صاحب التقريب: هل يستحق المعتِق على المستدعي شيئاً؟ فعلى وجهين مبنيين على ما لو قال: اقضِ دَيْني، ولم يقل بشرط الرجوع عليّ، ثم إذا أثبتنا حق الرجوع، فالمعتق يرجع بقيمة العبد.
ولا ينبغي للفقيه أن يأخذ هذا من أن الهبة هل تقتضي العوض؟ حتى إذا أخذه من هذا الوجه ردّه إلى الخلاف في أن عوض الهبة ماذا؟ فإن هذا المأخذ يقع وراء الحاجة، ونحن قد صادفنا قبله أصلاً قريباً، فإن العتق حق على المستدعي، فإذا قال: أعتق عن كفارتي، كان كما لو قال: اقض ديني، نعم، لو لم يكن عليه عِتقٌ واستدعى الإعتاق عنه تبرعاً، فلا يمتنع أن يكون هذا كالهبة المطلقة، والعلم عند الله تعالى.
فرع:
9580- إذا قال: أعتق عبدك عني غداً بألف، فقد طوّل صاحب التقريب نَفَسه في هذا، ونحن نذكر المقصود منه، فنقول: إذا قال: قُل: "إذا جاء الغد فعبدي هذا حر عنك ولك عليّ ألف"، فإذا قال ذلك: فهذا يناظر تعليق الخلع، وقد مضى في كتابه، وإن ظن الفقيه أن هذه المسألة فيها تقدير نقل ملك؛ فيبعد عن التعليق قبل هذا التقدير ضمناً، فلا يختلف به ترتيب المذهب، والعتق يحصل منصرفاً إلى المستدعي، وفي صحة المسمى وفساده خلاف، كما مضى في الخلع.
ولو قال: أعتق عبدك عني على خمرٍ، فأعتقه عنه، قال صاحب التقريب: وقع عن المستدعَى وجهاً واحداً، وهذا قد يَجُرّ إشكالاً على الناظر في ابتداء نظره؛ من جهة أنه يعتقد حصول الملك بالعوض الفاسد، وليس الأمر كذلك؛ فإن الملك يحصل بالعوض الثابت شرعاً، وهو قيمة العبد، ولكن لم يفسد الملك؛ من حيث إنه لم يقع مقصوداً، وإنما وقع ضمناً، ولذلك قُبل التعليق، وإن كان نقل الملك لا يقبل التعليق، فكأن الأصل العتقُ، والعتقُ إذا قوبل بالعوض الفاسد إيجاباً وقبولاً، حصل حصول الطلاق، ثم إن تخلف شرط من شرائط الملك، فلا مبالاة به، لحصوله
ضمناً غيرَ ملفوظ به.
قال صاحب التقريب: إذا قال: أعتق عبدك عني غداً، ولك ألف، فصبر المالك حتى جاء الغد وأعتقه إنشاء لمّا جاء الغد، فيقع العتق عن المستدعي ويستحق الألفَ في هذه الصورة إذا لم يجر العتق على صفة التعليق، ثم قال صاحب التقريب: هذا ما ذكره الأصحاب، وفيه نظر.
والأمر على ما ذكر؛ فإن استدعاء العتق بالعوض قد يستدعي إجابة متصلة، فإذا انفصلت الإجابة، تطرّق الاحتمال. وهذه المسألة تؤخذ من نظيرتها من فصل تعليق الخلع.
فصل:
قال: "ولو أعتق عبدين عن ظهارين... إلى آخره".
9581- النية شرط في الكفارات، ولأنها عبادة، والعبادات مفتقرة إلى النيات، فلو أعتق رقبة، ولم ينو صرفَها إلى الكفارات، لم يُحسَب العتق عنها.
9582- وتعيين النية في الكفارات ليس شرطاً، حتى لو كانت عليه رقبةٌ واجبةٌ، لم يدر أنها عن ظهارٍ، أو يمين، أو وِقاعِ، أو قتلٍ، ونوى إعتاق الرقبة عن الواجب الذي عليه، كفاه ذلك، زاد القاضي، فقال: كذلك لو جوّز أن تكون الرقبة منذورة، فلا بأس عليه، ويجب تعيين النية في الصلوات المفروضة والصيام، وقد مضى حكم كل صنف في كتابه.
وقال الأصحاب: سبب ذلك أن العبادات البدنية تتمحّض عبادةً، فكان التعيين شرطاً فيها للإخلاص، والكفارة نازِعةٌ إلى الغرامات؛ إذ هي عبادات مالية، فاكتفي فيها بأصل النية.
9583- وهذا الكلام مُختلٌّ غير مستقل، والوجه عندنا في اعتماد إيجاب التعيين ونفيه أن نقول: العبادات البدنية لها مناصب ومراتب وبينها تفاضل يُعقَلُ سببه وقد لايُعقل سببُه فالذي يعقل ما يتعلق سببه بالنَّصَب والتعب المرتبط بالوقت، فإن صلاة الصبح أشق، وصلاة الظهر في القائلة صعبة، وصلاة المغرب مع التضييق وهي في منتهى سفح النهار واستقبال الليل، وصلاة العتمة وقد ظهرت دواعي الدَّعة في النفوس على أقدارٍ من النَّصَب مختلفة وأجناسٍ متفاوتة، وقد قال مبلّغ الشرع صلى الله عليه وسلم: «أجْرُك على قدر نَصَبك»، فلاقَ بها التعيين.
وكذلك القول في الصوم والعتق، لا تفاضل فيه باختلاف الأسباب الموجبة؛ إذ لا سبيل إلى الحكم بأن العتق عن كفارة اليمين دون العتق عن كفارة الظهار. نعم، قد يظن الفطن أن العتق في كفارة اليمين نازع إلى التطوع؛ لمكان التخيير بخلاف العتق في كفارة الظهار، وهذا لا ثبات له مع الحكم بأن الكفارة واجبةٌ.
وهذا الذي ذكرناه يجري في صوم الكفارات؛ فإن الصوم لا يفضُل الصومَ بتفاوت الأسباب.
وما حكيناه قبلُ يَرِد عليه الصوم في الكفارات؛ فإن الذي ذكرناه من نزوع الكفارة إلى الغرامات لا يتحقق في الصوم، ثم لا يجب في الزكاة تعيين مال عن مال للفقه الذي ذكرناه؛ فإن الزكوات لا تتفاوت مناصبها في الفضيلة باختلاف الأموال.
وقد يَرِدُ على هذا التباسُ النذر بالكفارة؛ فإن الكفارة إن كانت لا تستدعي تعييناً لإسنادها إلى جريمة أو إلى ما هو في معنى الجريمة، وتعيينُها ذكرُ أسبابها، وهذا قد لا يتحقق في النذر؛ فإن التزام القربة قربة، والدليل عليه أن من كان عليه نذرٌ، وصومٌ آخر مفروض عن قضاء، فإنه يتعرض للنذر.
وقد حكيت عن القاضي أنه قال: إذا التبس ما عليه من العتق بالنذر والكفارة، كفاه أن ينوي به العتق الواجب، فليتأمل الناظر هذا، والظن بالقاضي أن يطرد ذلك في الصوم المتردّد بين المنذور وبين الكفارة مع التباس الحال، فهذا فيه نوع تأمل على الناظر. ولو ذهب ذاهب إلى التزام التعيين لأجل النذر، فإنه يكتفي بإعتاق عبدين يجرّد نيته في أحدهما عن النذر ويبهم الآخر، والعلم عند الله.
ثم إذا رفعنا اشتراط التعيين في نية الكفارة، فلا فرق بين أن يتحد الجنس وبين أن يختلف، ولا فرق بين أن يكون الفرض صوماً، أو إعتاقاً، أو إطعاماً، فلو كان عليه كفارتان، فصام أربعة أشهر بنية الكفارتين أجزأه، وانصرف كل شهرين إلى كفارةٍ.
ولو صام شهرين شهراً عن هذه الكفارة وشهراً عن تلك، لم يجز، والسبب فيه أن التتابع شرط في الصيام، فإذا صام يوماً عن غير ما شَرَعَ فيه، فقد انقطع التتابع في ذلك المقدّم وهذا افتتاح كفارة أخرى.
ولو كان فرضه الإطعام وعليه كفارتان، فأطعم مائة وعشرين مسكيناً عن الكفارتين أجزأه. ولو كان ينوي بمُدٍّ كفارةً، وبمُدٍّ كفارةً أخرى واتخذ ذلك سجيَّة حتى أتى بما عليه، فلا بأس؛ إذ لا تتابع في الإطعام.
ولو اختلف ما يكفر به وذلك باختلاف أحوال الملتزِم بأن كان موسراً في كفارة، ومعسراً في أخرى، قادراً على صوم الشهرين، ومُفْنِداً عاجزاً في أخرى، فأعتق رقبة عن كفارة، وصام شهرين عن كفارة، أو أطعم مطلقاً كذلك، صح منه ما جاء به، وانصرف كل واجبٍ إلى جهةٍ.
9584- ومما ذكره الأصحاب في ذلك أَنْ قالوا: نحن وإن لم نوجب التعيين بالنية في الكفارات، فلو عيّن، فهو مؤاخذ بالإصابة، وبيان ذلك: أنه لو كان عليه كفارة القتل في علم الله تعالى وتقدس، فحَسِب أن عليه كفارة الظهار، فلو أعتق رقبة عن الكفارة أجزأه العتق، وإن لم يتعرّض للتعيين.
ولو أعتق رقبة عن كفارة الظهار؛ بناء على ظنه، ثم تبيّن أن الواجب عليه سببُه القتل، فالعتق نافذ، وذمته لا تبرأ عمّا عليه؛ فإنه صرف الإعتاق قصداً عما عليه، فانصرف عنه.
ونحن وإن كنا لا نوجب التعيين، فيشترط أن يكون الواجب مندرجاً تحت عموم النية ومقتضاها، فإذا انصرفت النية عن الجهة الثانية، لم يقع الاعتداد بالمؤدّى أصلاً، وقد ذكرنا نظائر ذلك في ربط نية الزكاة بمالٍ هو معدومٌ حالةَ إخراج الزكاة، وذكرنا تعيين الإمام الذي به الاقتداء والحاضرُ غير المنوي، وذكرنا في الصلاة على الجنازة التعيين مع الخطأ، وجمعنا هذه الفصول في أقسامٍ ضابطة في باب نية الطهارة.
فصل:
قال: "ولو ارتد قبل أن يكفّر... إلى آخره".
9585- من لزمته الكفارة فارتد قبل التكفير، ثم كفّر بالعتق، قال الأصحاب: أجزأه وبرئت ذمته، ولو أسلم، لم يكن مخاطباً بإعادة التكفير، وهذا ليس بدعاً، والمرتد على علائق ثابتة في الإسلام، وأصلُنا أن الكافر الأصلي يلتزم الكفارة، ويؤديها، والمرتدّ لا يصوم عن الكفارة في حالة ردته؛ فإن الصوم عبادة بدنية غيرُ نازعة إلى غرض آخر سوى الامتحان في البدن، والكفارات المالية تنزِع إلى الغرامات، وقد ذكرنا أن الزكاة تخرج من مال المرتد، وترددنا في وجوب الزكاة في ماله ابتداء، كما تفضل في كتاب الزكاة.
ثم قال الأصحاب: العبادات المالية يتعلق بها غرض الإرفاق، وسدّ الحاجات، والتقرّب إلى الله تعالى، والغرض الأظهر منها الإرفاق، وما نيط بسببين قد يستقل بأحدهما كالحدِّ يُمَحِّص ويزجر، ثم يثبت على الكافر زاجراً، وإن لم يكن ممحِّصاً.
وهذا يثبت على مراتب: فالزكاة يظهر قصد الإرفاق بها، ولكنها وظيفة وطريحةٌ للمحاويج على أغنياء المسلمين، فلا تطّرد على الكفار؛ فإنهم بالتزام الجزية، لم يتطوّقوا أن يسدّوا حاجات محاويج المسلمين؛ فلم يخاطَبوا بالزكاة، ولم يطوّقوا تحمّل كَلّ المسلمين، وليست الزكاة متعلقة بجريمة أو ما يجري مجرى الجريمة، بل هي محض حق المال، وهم بالذمة صانوا أموالهم عن مطالبات الشرع، والكفاراتُ ضاهت الحدود.
هذا وضع المذهب، وعلى الأصحاب تقريره.
ثم لا يصح من الكافر والمرتد إلا إخراج الأموال في الكفارات فحسب، والمرتد تميز عن الكافر الأصلي لما فيه من عُلقة الإسلام، ولهذا تَخْرجُ عن ماله الزكاةُ التي وجبت في الإسلام، على الرأي الظاهر، وقد نقول: تجب الزكاة في ماله إذا لم نحكم بزوال ملكه.
وهذا لا يتصوّر في حق الكافر الأصلي، وإن شملهما الكفر؛ فإن الكافر الأصلي لم يلتزم موجب شَرْعنا في الحقوق المالية، والمرتدُّ سبق منه الالتزام، وقد يطّرد عليه حكمُه، وهذا مع اختلافٍ قدمناه في المرتد في كتاب الزكاة.
9586- فأنتظم مما ذكرناه أن المرتد على ظاهر المذهب يُخرج الكفارة بالمال، فيُعتق ويُطعم ولا يصوم.
ثم قال جمهور الأصحاب: هذا تفريع على قولنا: إن الردة لا توجب زوال الملك، فإن قضينا بأنها توجب زواله، فلا يتصور من المرتد أن يكفر؛ إذ لا ملك له، ولا يصح منه الصوم.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنا وإن حكمنا بأن الردة تزيل الملك، فإذا كانت عليه كفارة فارتد، فما تتعلق الكفارة به يُستثنى من الحكم بزوال ملكه عنه، فيُعتق عبداً من عبيده أو يُحصّل عبداً بدراهمه، وإن كان بحيث يصح منه الإطعام، فيُخرج الإطعام، والحكمُ بزوال الملك يقع وراء ذلك.
وهذا اختاره صاحب التقريب، ورآه الأصحَّ، ولفظه في الكتاب: إن المذهب أن الأمر كذلك ولو حكمنا بزوال ملكه، واحتج على ذلك بالديون؛ فإن من ارتد وعليه ديون، أُديت الديون من ماله وإن حكمنا بزوال ملكه.
قال صاحب التقريب: هذا ما ذهب إليه الأصحاب أجمعون-يعني قضاء الديون- إلا الإصطخري، فإنه قال: إذا فرعنا على قول زوال الملك لا تُقضَى ديونُه، ويجعل كأن أمواله تلفت.
وهذا إن قاله في الديون التي وجبت في الإسلام، فهو سرف عظيم، وهو خروج عما عليه الناس، وإن كان هذا يليق بتصرفاته؛ فإن من شيمه الاستجراء، وترك المبالاة، وإن كان يريد به أن الديون التي توجد أسبابها في حالة الردة لا تؤدَّى ممّا كان مالاً له-على قولنا بزوال الملك- فهذا سديد، ولا يجب أن يخالَف فيه، ولا يصح استثناء هذا المذهب في معرض الاستبعاد.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أنه إذا ارتد لم يُخرَج من ماله إلا أدنى الدرجات، وظني أنه قال هذا في الكفارات المخيّرة، وهي كفارة اليمين.
فخرج مما ذكرناه أن الصوم لا يصح من المرتد، والتكفير بالمال يصح إذا قلنا ملكه لا يزول، وإن قلنا: يزول ملكه، فهل يُخرج الكفارةَ، فعلى الخلاف الذي ذكرناه.