فصل: باب: ما يجزىء من العيوب في الرقاب الواجبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يجزىء من العيوب في الرقاب الواجبة:

9587- أجمع العلماء المعتبرون على أن العيوب في الرقاب تنقسم: فمنها ما يمنع من الإجزاء، ومنها ما لا يمنع، وقال داود: ليس فيها ما يمنع، وتعلّق باسم الرقبة.
وقال الشافعي: "لم أعلم أحداً ممن مضى من أهل العلم، ولا ذُكر لي، ولا بقي أحدٌ إلاّ يقسّم العيوب... إلى آخره"، وهذا داود نشأ بعده، وعندي أنه لو عاصره، لما عدّه من العلماء.
فإذا تبين أن العيوب مُنقسمة، فمذهب الشافعي أن ما يَنقُص العمل نقصاناً بيّناً، ويضر به ضرراً ظاهراً، فهو يمنع من الإجزاء، وعقْدُ الباب تخليصُ مملوكٍ من أسْر الرق؛ حتى يستقلَّ، ثم الذي يليق بهذه القُربة أن يكون مستقلاً بما يُقيمه، منبسطاً في عمله؛ فيتخلصَ عن العمل لغيره، وإذا كان زَمِناً مثلاً، فالرق أجدى عليه؛ إذ عليه كافل يكفيه مُؤَنَه، فأقرب معنى في الاستنباط ما راعاه الشافعي رضي الله عنه، ولا يُنظر إلى العيوب المؤثرة في المالية؛ فإن العتق إزالةُ المالية، بخلاف العبد المأخوذ في غُرة الجنين؛ فإنه يُقْصد مالاً ويؤخَذ مالاً، فيراعى فيه المقاصدُ المالية، على ما سيأتي شرحها في باب الجنين، إن شاء الله عز وجل؛ فأحرى معتبرٍ في الباب ما ذكرناه من التأثير في العمل والإضرار الظاهر به.
وقد يزداد العقد وضوحاً بذكر مذهب يخالف المذهب المختار، قال أبو حنيفة كل عيب يفوّت جنساً من المنفعة أو معظمَها يمنع الإجزاء، وما لا فلا، فالذي سقطت أسنانه لا يجزىء عنده، وكذلك الأخرس، والأصم، ومقطوعُ اليد والرجل من الخلاف يجزىءُ، ومقطوعُ اليد والرجل من الوفاق لا يجزىء.
9588- فإذا تبين أصل مذهبنا، فإنا نفصله بالمسائل: فالأعمى لا يجزىء، ومن قطعت إحدى يديه أو إحدى رجليه لا يجزىء؛ فإن النقص يظهر والضرر يتبيّن، فإذا كنا نتكلم وظهر أن المرعي بالإعتاق الإطلاقُ عن الوِثاق، ففوات المقصود ليس شرطاً في تحقيق العيب، بل نقصانُه البيّنُ كافٍ، والعورُ لا يمنع بل يجزىء الأعور؛ فإن النقصان لا يبين، وهو بفَرْد عينٍ يعمل قريباً مما يعمله ذو العينين، وكذلك يجزىء الأحول والأعرج، إذا لم يكن قريباً من الزمانة، ولا يؤثر البَهَق والبَرَص والوكع والكوع والقرع، وضعفُ الرأي والخَرَق.
ولو قطعت إبهامُه، أو مُسبِّحتُه أو الوسطى من يده، لم يجز إعتاقه، وقطعُ الخنصر لا يَظهر أثرُه، وكذلك قطع البِنصر، ولو قطعت الخِنصر والبِنصر، فإن قطعتا من يد واحدة، مَنَعَ الإجزاءَ، وإن كان القطع من يدين فلا يمنع؛ فإن الضرر لا يظهر.
وقطعُ الأنملة لا يؤثر إلا إذا قطعت من الإبهام؛ فإن قطع أنملة منها بمثابة قطعها، وقطع أنملتين في كل إصبع بمثابة قطع ذلك الإصبع، هكذا قال العراقيون، واستهانتُهم بقطع أنملة واحدةٍ محتملةٌ من غير الإبهام، كما فصّلوا.
فأما إذا قطعت الأنامل العليا من الأصابع، فلعل هذا يحوج إلى مزيد نظر، والعلم عند الله.
وفقد أصابع الرجلين لا أثر له وفاقاً، هكذا ذكره القاضي وغيره.
والمجنون لا يجزىء إذا كان الجنون مطبقاً، والمريض يفصّل الأمرُ فيه، فإن كان المرض المانع من العمل مرجوّ الزوال، فلا مبالاة به، وهو كالصبي؛ فإن ابن اليوم يجزىء؛ لأنا على رجاءٍ من كبره، فليكن المرض كذلك، وإن كان المرض بحيث لا يرجى زواله، فهو مانع من الإجزاء.
9589- ثم لابد وراء ذلك من مزيد. فإذا أَعْتَقَ المريضَ الذي لا يُرجى برؤه، فتمادى المرض ومات، فلا إشكال أنه غير مجزىء، وإن استبلّ وأفاق، فهل نتبيّن أن العتق مجزىء أم نقول: برؤه حادثُ نعمةٍ بعد العتق، ولم يكن مقترناً بالإعتاق؟ الرأي الظاهر الإجزاء؛ لأنا كنا نبني المنع على أنه لا يبرأ، فإن برأ، فالحكم كذلك، والمسألة من طريق الترتيب والتلقيب لا من جهة الفقه تلتفت على المعضوب يَستأجِر على الحج ثم يبرأ.
وإذا أعتق مريضاً مرجوّاً؛ ثم تمادى المرض به ومات، فهذا فيه احتمال متردّد أيضاًً، والتنبيه فيه كافٍ، ولعل الأوجه الإجزاءُ؛ نظراً إلى الرجاء المقترن بحالة الإعتاق، وحملاً لما كان من الموت على حادثِ مرضٍ.
9590- واختلف نص الشافعي رضي الله عنه في الأخرس واضطرب الأصحاب، فأجرى بعضهم قولين: أصحهما- الإجزاء؛ لأن الخرس لا يظهر أثره في العمل.
والثاني: أنه لا يجزىء، فإن مناطقته عسرةٌ، وهذا يعسّر اختلاطه بالناس، وينعطف على تعذر عمله واكتسابه، وهذا تكلفٌ، والحق يناطق الفقيه بغيره.
ومن أصحابنا من نزّل النصين على حالين، فقال: حيث مَنَع أراد إذا كان لا يُفهِم بإشارته، وحيث أجاز أراد إذا كان يُفهِم بالإشارات.
وذكر بعض الأصحاب طريقة ثالثة، فقالوا البكم والصمم إذا اجتمعا منعا، وهذا يغلب في الذي يولد أصمّ؛ فإنه لا ينطق إذا لم يسمع ولا يَفهم ولا يُفهم.
ومن أجرى القولين في الأخرس طردوا القولين في الأصم الأصلخ، وهو بعيد، لا يليق بقاعدة الشافعي رضي الله عنه في مراعاة العمل.
ونص الشافعي على من كان يُجن ويُفيق فإعتاقه مجزىء، وهذا ظاهر إن قل زمان الجنون وكثر زمان الإفاقة، فأما إذا كان زمان الجنون أكثر، فما نرى الشافعيَّ يقول ذلك رضي الله عنه، وإن استوى الزمانان في النُّوَب، فظاهر النص الإجزاءُ، وفيه احتمالٌ من طريق المعنى.
9591- والذي نختم الباب به أن النقصان في العمل لم يُجْره الشافعي رضي الله عنه على قياس النقصان في المالية حيث تُرعى المالية، فإن النقصان وإن قل إذا أثر في المالية، كفى في كونه عيباً، وهاهنا شَرَطَ الظهورَ، كما شرط أبو حنيفةَ الظهورَ في عيب الصداق، والسبب فيما ذكره الشافعي أن الناس أنفسهم يتفاوتون في القوى، ثم لا يشترط أن يكون العبد المعتَق قويّاً ذا مِرّةً، فقد نجد ذا مرّة ضعيفَ الكسب، ونصادف ضعيفاً قويّ الكسب، وبالجملة لا ضبط، فلو اعتبرنا أدنى النقصان من العمل، لم يكن لائقاً، فهذا الأصل مما نبهنا عليه.
و أما المالية، فإنّ ضبطها هيّن، فاعتُبر ما ينقصها. نعم، النقصان الذي يُتغابن في مثله لا اعتبار به أيضاًً؛ من حيث إنه لا يظهر به المقصود، فالمرعيُّ ظهور الغرض في كل باب على حسب ما يليق به، والهَرِم الذي ظهر عجزه عن العمل، لا يجزىء، والصغر لا يمنع الإجزاء؛ فإنه إلى الزوال.
9592- ورأيت في كلام العراقيين ما يشير إلى تردد في أن إعتاق الحمل هل يجزىء، وهذا فيه إذا تحققنا وجوده مع انسلاك الروح فيه، وطريق استبانة ذلك بيّن، فلا شك أنا لا نحكم في الحال بحصول براءة الذمة، فلا يسلّط المظاهر على الغِشيان وإن قلنا الحمل يُعرف، هذا لا خلاف فيه؛ فإنا لا نتحقق الحياة إلا بتقدير الانفصال على حدٍّ يستند علمُنا معه بحياة الجنين إلى وقت الإعتاق.
والذي رأيت فحوى كلام الأئمة عليه في طرق المراوزة أن الحمل لا يجزىء وإن تحققنا بطريق الاستناد وجود حياته حالة الإعتاق، وهذا ما يجب التعويلُ عليه، وتركُ الاعتداد بما سواه، والله المعين.

.باب: من له الكفارة بالصيام:

قال الشافعي رحمه الله: "من كان له مسكن وخادم لا يملك غيره... إلى
آخره".
9593- لما ذكر الشافعي في الباب المقدّم العتقَ ومايتعلق به، ثم عقبه بصفة المعتق، وذكر انقسام العيوب إلى ما يمنع من الإجزاءِ، وإلى ما لا يمنع منه، وانتجز غرضُه في العتق، استفتح باب الصيام، فإنّ كفارة الظهار مبدوءةٌ بالعتق، فمن لم يتمكن، صامَ شهرين متتابعين، فجرى على مقتضى ترتيب الكفارة، وخاض في الصوم.
وأول ما يجب الاعتناء به بيانُ العجز الذي يسوغ لأجله الانتقالُ إلى الصوم، قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [المجادلة: 4] هذا يشعر بالإمكان ومقتضاه التضييق، حتى إذا كان للوجدان وجه، فلا سبيل إلى الحَيْدِ عن الرقبة والتعلّقِ بالصيام، ولكن اتفق الأصحاب على ضربٍ من الاتساع لا يلائم عندي ظاهرَ القرآن، ولكنا نطرد المذهب على وجهه نقلاً، ثم ننظر فيما نبهنا عليه.
9594- قال الشافعي رضي الله عنه: إذا ملك رقبة غيرَ أنها مستغرَقةٌ بحاجته بأن كان مريضاً زَمِناً لا يستطيع الاستقلال، فلا نكلفه أن يُعتقه، بل له الانتقال إلى الصوم، وكذلك لو كان قادراً على أن يقوم بحاجات نفسه، ويتبذلَ في تصرفاته، ولكن كان لا يليق ذلك بمنصبه، ولو انتشر بنفسه، لكان ذلك غضّاً من مروءته، فله أن يُمسك العبدَ قِواماً بهذه الأمور، فنزّل الأصحاب الحاجة الحاقّة في البدن، وما يؤدّي إلى غض المروءة منزلة عدم الرقبة في قول.
وأبو حنيفة خالف في هذا.
ولو ملك مسكناً فسيحاً وكان يكتفي ببعضه، فعليه إن أراد الخلاص من الكفارة أن يصرف البعضَ إلى الرقبة.
وإن كان لا يتأتى ذلك، والمسكنُ في نفسه على قدر الحاجة، فلا نكلفه بيعَه؛ إذ الحاجةُ إليه أمسُّ منه إلى العبد الخادم فيما يتعلق بحفظ المروءة.
ولو كان المسكن ضيقاً لا يمكنه بيعَ بعضه، ولكنه كان نفيساً، ولو باعه أمكنه أن يشتري ببعض الثمن عبداً، وبالبعض منه مسكناً في محِلّةٍ أخرى، فهل نكلفه ذلك؟ فعلى وجهين، قال القاضي: أظهرهما أنا لا نكلفه، ويسوغ له الانتقال إلى الصوم؛ فإن المسكن المألوف يصعب مفارقته، ويكون ضرباً من الجلاء.
والوجه الثاني- نكلفه ذلك؛ فإن ضرر الجلاء إنما يظهر في مفارقة البلدة وتخليف الأهلين والمعارف.
ولو ملك عبداً ثميناً، وكانت الحاجةُ تمَسُّ إلى اقتناء عبد، ولو باع هذا العبدَ لأمكنه أن يشتري ببعض ثمنه عبداً يُجزىء في الكفارة، ثم كان يتسع باقي الثمن لعبدٍ يخدمه، فهل نكلفه أن يبيع ذلك العبدَ ويفعل ما وصفناه؟ فعلى وجهين مأخوذين من بيع المسكن، والجامعُ الإلفُ.
ولو لم يكن ذلك العبد مألوفاً بل كان حصل له من عهد قريب، فعليه أن يفعل ما وصفناه، وكذلك القول في المسكن إذا لم يُؤْلف.
9595- فهذا ما ذكره الأئمة، وقياسهم هذا يقتضي ضرباً من التوسعة فيما نصفه، فلو كان في يد الرجل من المال ما يستقلّ به، ولو أُخذ بعضُه، لاسْتحق بالمسكنة، وصار بحيث يجوز صرف سهم المساكين إليه، فالذي يقتضيه قياس الأصحاب أنا لا نُلزمه هذا؛ فإن الانتقال من الاستقلال إلى اختلال الحال حتى يصير بحيث لا يفي دخلُه بخرْجه عظيمُ الوقع، وهو لا محالةَ فوق ترك المروءة ومخالفةِ المنصب، مع العلم بأن معظم ما يعدّه الناس من المروءات هو عند ذوي الألباب من رعونات الأنفس.
وكذلك لو كان مسكيناً، فلا نكلفه أن يشتري عبداً؛ فإنه يناله بما يخرجه ضررٌ بيّن، وهو أوقع من الانتقال من الاستقلال إلى أول حدّ المسكنة. هذا هو الذي تحققناه نقلاً واستنباطاً من قول الأصحاب.
ومما ذكره أنه لو كان له مال غائب، فأراد الانتقال إلى الصوم في الكفارة المرتبة، لم يكن له ذلك، وليس كالمسافر لا يصحبه من المال ما يشتري به ماءَ الوضوء، وكان له مال في الغيبة، فالوجه أن يتيمم، فإن الصلاة لا تقبل التأخير، وماله في الغيبة لا يُغني عنه شيئاً، وهذا لا يتحقق في الكفارة؛ فإنها تقبل التأخير، وليس وجوبُها على الفور.
قال العراقيون: لو كانت المسألة مفروضة في كفارة الظهار، فلا يكاد يخفى أن تحليله زوجته يتوقف على التكفير؛ فإذا كان ماله غائباً، ولم يجد من يقرضه، فلو كلفناه أن يؤخر التكفير، لاستمرّ التحريم، فماذا يصنع والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكروهما:
أحدهما: أنه يؤخر؛ طرداً للقياس.
والثاني: أنه ينتقل إلى الصيام، فإن الضرر قد يظهر عليه بترك الغِشيان، وقد يخاف الوقوع في الوقاع قبل التكفير.
ومما نُلحقه بما ذكرناه أن زكاة الفطر لم يُرْعَ فيها إلا ما يفضل من القوت، كما مضى مفصلاً في صدقة الفطر، وقد نُحوج إلى الفرق بين صدقة الفطر وبين ترتب البدل على المُبدَل في الكفارة، ويتجه أن نقول: صدقة الفطر قريبة المأخذ، قليلة المقدار، سهلة المحتمل، فلم يبعد نزعها إلى الوجوب، وهي تجب أيضاًً على الفور، وهذا يؤكدها ويوضح الفرق بينها وبين الكفارة، وهي أيضاًً شديدة الشبه بالنفقات، ولهذا تتبعها.
9596- وقد نجز الغرض في هذا المقام، وبقي ما أبديناه إشكالاً في أول المسألة؛ إذ نبهنا على الظاهر، وما فيه من الإشكال.
والممكنُ في دفع ذلك-والله أعلم- الالتفاتُ إلى ما يحِل محلَّ الإجماع: فإن الذين كفَّروا بالصيام كانوا أصحاب مساكن يأوون إليها، وهم يصومون عن الكفارة، ومن ادّعى أن أحداً لم يصم في كفارة إلا وهو خليٌّ عن ملك المسكن، فقد ادعى بعيداً.
وأيضاًً، فإن البدل والمبدل في الكفارات وجدناهما في مراتب الشرع قريبين، ولعل صوم الشهرين أوْقع من إعتاق عبد على أقل المراتب، سيّما في حق أصحاب النعم، وإذا كانت لا تتفاوت، فالترتب فيها يجب أن يُقرَّبَ أمرُه، وليس كترتب التيمم في الوضوء، فإن الوضوء يرفع الحدث، ويفيد النظافة، ولا معنىً للتيمم يقرُب دَرْكه بالعقل إلاّ استدامةُ تمرين النفس، فكان التيمم في حقّ الترك للوضوء، وفي الكفاراتِ يفيد كلُّ بدلٍ عينَ ما يفيده المبدلُ، فلا يبعد أن يَقْرُبَ الأمر في هذا، حتى يدار الأمر على العسر واليسر، والمشقة وعدمها.
فإذا تبين هذا، فالخوض بعده في بيان الصيام.
9597- قال الشافعي رحمه الله: "إن أفطر من عذرٍ أو غيره... إلى آخره".
صوم الشهرين مقيدٌ مشروطٌ بالوِلاء والتتابع في كفارة الظهار، وكفارةِ القتل، والوقاعِ في رمضان، فيجب رعايةُ التتابع، فلو أفطر في اليوم الأخير عمداً، فسد عليه الاعتداد بجميع ما قدمه.
وهل نحكم بفساد الصوم، أم نقضي بانقلابه نفلاً تبَيُّناً؟ فعلى قولين أجريناهما في نظائر ذلك، فكل من نوى عبادة مفروضة، وكان المفروض مفتقراً إلى شرط والنفلُ من قبيله ونوعه لا يفتقر إلى ذلك الشرط، فإذا تخلف الشرط، ففي حصول النفل قولين قدمناهما مقرّرين في كتاب الصلاة.
وكذلك لو ترك النية ناسياً في اليوم الأخير حتى أصبح، فلا سبيل إلى الصوم في هذا اليوم. عن جهة الكفارة، ثم يتبين خروج ما مضى من الاعتداد.
ولو أنشأ صومَ الشهرين في وقت يتخلله يومُ العيد، لم يصحّ صومه، وأول عقده لا ينعقد من غير حاجة إلى التبيّن، فإنه أنشاه في وقتٍ لا يتأتَّى فيه الوفاء بالتتابع، ويعود القولان في انعقاد الصوم نفلاً، كما قدمناهما.
وإن كانت المرأة تصوم الشهرين عن كفارة قتلٍ، فطريان الحيض لا يقطع تتابعهما؛ فإنّ هذا الزمان لا يخلو في الغالب عن طريان الحيض.
ولو طرى مرض يبيح مثلُه الفطرَ في رمضان، فأفطر لأجله، ففي انقطاع التتابع قولان مشهوران:
أحدهما: أنه لا ينقطع لظهور العذر، والتتابع في صوم الكفارة لا يزيد على أداء صوم رمضان في وقته؛ فإذا جاز الإفطار في رمضان بعذر المرض، وجب أن ينتهض عُذراً في ترك التتابع.
والقول الثاني- أن التتابع ينقطع؛ لأن من الممكن أن يصوم شهرين من غير قطع الوِلاء، وليس هذا بتجويز الإفطار، فإن المرض يقتضيه، ولو مَنَعْنا من الفطر، كان إرهاقاً عظيماً، والذي نحن فيه ليس من قبيل المنع والجواز، وإنما هو نظرٌ في الاعتداد والاحتساب، هذا قولنا في المرض.
فأما إذا سافر، وأفطر بعذر السفر، فقد ذكر أصحابنا في ذلك قولين مرتبين على القولين في المرض، وجعلوا الإفطار بعذر السفر لقطع التتابع أولى، والرأي الظاهر أن التتابع ينقطع؛ فإن تجويز الإفطار بعذر السفر رخصة لا تناط بمشقة ولا حاجة، فكيف يجوز أن يعدّى بمثل هذه الرخصة موضعها ومحلّها.
9598- ومما يجب التفطّن له أنا لو روجعنا، فقيل لنا: الخائض في صوم الشهرين هل يجوز له أن يتركه عازماً على أن يبتدىء صومَ شهرين بعد هذا، من غير عذر؛ فإنه يجوز له تأخير الكفارة قبل الخوض، فهل يخرّج اختيار قطع الوِلاء تعمّداً على تجويز تأخير الكفارة؟
هذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: له أن يفعل هذا بأنْ لا ينوي صومَ غده، فأما إذا خاض في صوم يومٍ، فيبعد أن يتسلط على إبطاله، فأما ترك الصوم في بقية الشهرين، فليس اعتراضاً منه على عبادة بالإفساد.
ويتجه أن يقال: ليس له ترك الوفاء بالتتابع؛ فإن ما قدمه يخرج عن الفرضية، فيكون معترضاً على فرضٍ بالرفع، ويقوَى هذا على قولنا ببطلان الصوم تبيناً.
ويجوز أن يجاب عنه بأن قطعَ التتابعِ لا يفسد الفرضيةَ، بل إذا انقطع التتابعُ، تبين أن الذي مضى لم يكن فرضاً، وليس يقطع عبادة شرع فيها؛ فإن القطع إفسادٌ لها بعد القطع بالانعقاد.
ويجوز أن يقال: ما مضى وقع حقاً عن الكفارة، ثم بطل وقوعُها عن الكفارة؛ فإن الذي ينوي الصوم عن الكفارة جازمٌ نيته، غيرَ أن ارتباط التتابع لابد من رعايته، فإذا قطعه، بطل ما تقدم عن جهة الكفارة بطلانَ الصلاة بعد انعقادها.
فإذا رأينا جوازَ تركِ الصيام؛ عزماً على افتتاح الشهرين من بعدُ، فلا كلام، وإن لم نجوّز، وقلنا: المرض لا يقطع التتابع، فيجوز الإفطار بسببه، وإن قلنا: المرض يقطع التتابع، فيجوز الفطر أيضاًَ بسببه، كما يجوز الفطر في رمضان على التزام القضاء من بعدُ، وكذلك يجوز الفطر بعذر السفر على التزام الاستئناف من بعدُ.
وهذه الأمور على وضوحها لا يضر التنبيه لها.
9599- ومما يليق بتمام القول في هذا أنا قدمنا أن من نسي النيةَ ليلاً، وأصبح غيرَ صائم، فهذا يقطع التتابع، ولا يبعد عن القياس إلحاق هذا بالمعاذير، وإن كان تَرْكُ المأمور به لا ينتهض عذراً، وإنما النسيان عذر في مظان النهي، ولكن إذا كان السفر عذراً على رأيٍ حتى لا ينقطع التتابع بالفطر فيه، فقد يقرب بعضُ القرب ما ذكرناه، والأظهر ما قطع به الأصحاب؛ فإن النسيان لا يقام عذراً في ترك المأمورات. ويشهد لهذا أن من نسي النية في رمضان وأصبح فيلزمه الإمساك على الرأي الأصح، وإن كان الإمساك في حكم التغليظ على من يترك صوماً مستحَقاً في رمضان، فألحقنا الناسي بالذي يتعمد إفطاراً من غير عذر.
9600- ومن تمام القول في التتابع اختلافُ الأصحاب في أن نيّة التتابع هل تشترط أم لا؟ فمنهم من قال: لا تجب نية التتابع؛ فإنه هيئةُ العبادة، ومن نوى العبادة، لم يلزمه التعرض لبيانها في نيتها.
ومن أصحابنا من أوجب نية التتابع، كما يوجب نية الجمع بين الصلوات، وهذا بعيد؛ فإن الأصل إقامة الصلوات في مواقيتها، ورخصة الجمع تخالف هذا الوضع، فاشترط الأكثرون من الأصحاب قصداً إلى ذلك.
ثم إن شرطنا نية التتابع، فهل يجب الإتيان بها كلَّ ليلة، أو يكفي الإتيان بها في الليلة الأولى؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون. والمسألة محتملة إن صح اشتراط نية التتابع، والخلاف في ذلك عندنا يقرب من الخلاف في اشتراط نية التمتع من حيث إن النسكين مجموعان على وجه مخصوص.
9601- ثم قال: "وإذا صام بالأهلّة... إلى آخره".
إذا ابتدأ الصوم في أول الهلال، صام شهرين بالأهلة، ووقع الاعتداد بما جاء به سواء نقص الشهران أو كملا، أو نقص أحدهما، وكمل الثاني.
وإن استفتح الصوم في أثناء شهرٍ، صام بقية ذلك الشهر، وصام الشهرَ الذي يليه بالهلال، ثم استكمل صومَ الشهر الأول ثلاثين يوماً، ولا فرق بين أن ينقص ذلك الشهر-أو يكمل- وقد ذكرنا هذا في مواضع.
وقال أبو حنيفة: إذا انكسر الشهر الأول، بطل اعتبار الأهلة بالكلية، واعتلّ بأَنْ قال: لو كملنا نقص الشهر الأول بأيام من الشهر الثالث، لكان ذلك مناقضاً لقاعدة التتابع، ولأدّى إلى تخلل الشهرِ بَيْنَ كسرِ الشهر الأول وتكملته في الشهر الثالث.
وهذا لا بأس به، وقد مال إليه بعض الأصحاب، وقد سبق منّا رمزٌ إليه في تعليق الطلاق بمضي الأشهر، والمذهب ما قدمناه، وهو النص، ولا اعتداد بما سواه.
9602- ثم قال: "ولو نوى صوم يوم فأُغمي عليه... إلى آخره".
أشار إلى الإغماء وحكمه، وقد سبق على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب الصوم، والذي يتعلق بهذا الكتاب أنه إذا حصل الفطر بعذر الإغماء، فهو كحصوله بسائر أنواع المعاذير، وفي انقطاع التتابع قولان، كما قدمناه.
فصل:
قال: "وإنما حكمه في الكفارات حين يكفر... إلى آخره".
9603- اختلف قول الشافعي في الحالة المعتبرة في صفة الكفارة المرتَّبة، فقال في قولٍ: الاعتبار بحالة الوجوب، فإن كان موسراً، كانت كفارته كفارة الموسرين، وإن أعسر من بعدُ، لم يجزه الصوم، وصار العتق دَيْناً في ذمته إلى أن يجد وفاءً به.
والقول الثاني- أن الاعتبار بحالة الأداء والإقدام على التكفير، فلو كان موسراً حالة الوجوب فأعسر، وأراد التكفير، فله أن يصوم؛ نظراً إلى حالة الأداء.
وفي المسألة قول ثالث أنا نراعي أغلظ الطرفين وأشدَّهما، فإن كان موسراً يوم الوجوب، ففرضه الإعتاق، وإن كان مُعسراً يوم الوجوب، وكان موسراً حالة الهم بالأداء، لم يُجْزه إلا الإعتاق.
توجيه الأقوال: من قال: الاعتبار بحالة الوجوب، قال: نوع تكفير يختلف بالرق والحرية، فالاعتبار فيه بحالة الوجوب كالحدود، والمعنى أنه إذا ثبت موجِب الكفارة، وجب القضاء بوجوب الكفارة، فإن الموجَب لا يستأخر عن الموجِب، وإذا قضينا بوجوب العتق، استحال الخروج عن الكفارة إلا به.
ومن قال بالقول الثاني احتج بأن الاعتبار في العبادات بوقت أدائها، قياساً على الصلاة؛ فإن من فاتته صلاة في حالة عجزه عن القيام، ثم أراد إقامتها في وقت القدرة، فإنه يقيمها قائماً، ولو كان الأمر على العكس، أقام الصلاة عاجزاً قاعداً، وإن كان التزمها قادراً على القيام.
قال القاضي: القولان مأخوذان من أن المغلَّب في الكفارة العبادةُ أو جهةُ العقوبة: فإن غلبنا جهةَ العبادة، شبهناها بالصلاة، فاقتضى ذلك اعتبارَ حالة الأداء، وإن غلبنا شَبَهَ العقوبات، اعتبرنا حالة الوجوب.
وهذا فيه نظر مع إيجابنا الكفارة على من لا نُؤثِّمُه، وقَطْعِنا بانقطاع العقوبة عمن هو في مثل حاله.
واعتبارُ الأغلظ والأشد ينزع إلى رعاية الاحتياط.
التفريع على الأقوال:
9604- إن قلنا: الاعتبار بحالة الوجوب، فلو كان معسراً في تلك الحالة، كفاه الصوم، ولو أيسر وأراد أن يعتق، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن له أن يعتق؛ فإن العتق هو الأصل، وهو في الرتبة العليا، والصوم دونه، فإن كان يُجزىء الأدنى فلأن يجزىء الأعلى أولى. وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه، وهو الرأي.
والثاني: لا يجزئه إلا الصوم؛ فإنه تعيّن في ذمته، وهذا وإن كان بعيداً في الحكاية، فإنه يقوى بالمعنى الذي أشرت إليه في صدر الباب، من أن المبدل والأبدال ليست متفاوتة في الرتب، وإنما قُدِّم بعضُها وأُخِّر وفاقاً تعبداً، فإذا وقع الحكم بالوجوب، فلا معدل عن الواجب.
ومعظم الأئمة قطعوا بإجزاء الإعتاق، وحكَوْا الوجهين فيه إذا كان ملتزمُ الكفارة عبداً، وكان الواجب عليه الصوم؛ تفريعاً على أنه لا يملك، فلو عَتَق وملك، فأراد أن يعتق، فهل يُجزئه العتقُ؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يُجزئه؛ فإن البدل إذا أجزاً، فالمبدل بالإجزاء أولى.
والثاني: لا يجزئه؛ فإنه التزم الصوم في وقتٍ لا يتأتى منه غيرُه، فكأنه لم يكن الصوم في حقه على حقائق الأبدال؛ فإذا تعين الصوم، فلا معدل عنه.
وذكر صاحب التقريب في الحرّ المعسر الوجهين، وهذا بعيد، والفرق أن العتق يتصوّر وقوعه من المعسر على الجملة، بخلاف العبد.
وإذا فرعنا على أن الاعتبار بحالة الأداء، فليس يخفى تفصيله: فمهما أقدم على التكفير، اعتبرت صفةُ حالة الأداء.
ومن راعى الأشد، فمعناه أنه إن كان موسراً وقت الوجوب، فلا يجزئه إلا الإعتاق، ولو فقد يساره صَبَرَ إلى الوجدان، وإن كان مُعسراً حالة الوجوب ثم أيسر، فأراد الصومَ نظراً إلى حالة الوجوب، لم يكن له ذلك.
هذا بيان الأقوال.
9605- وقد قال الأصحاب: لو شرع في صوم الشهرين ثم أيسر، وقلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فلا يقطع صومَ الشهرين بعد الخوض فيه، وإنما يعتبر الأداء إذا أيسر قبل الخوض في الصوم، هذا ما وجدته للأصحاب رضي الله عنهم.
وما يدور في الخَلَدِ من المسألة أنا إذا اعتبرنا الأشدّ والأغلظَ، فتعتبر الطرفين في الشدة، فلو كان معسراً حالة الوجوب، وكان معسراً حالة الأداء أيضاًً، ولكن تخلل بينهما حالةُ يسار، فلم أر أحداً من الأصحاب يعتبر تلك الحالةَ المتوسطةَ، وقد يظن الناظرُ ذلك محتملاً، ولكن المذهب على خلافه.
والسبب فيه أن الوجوب على الحقيقة يضاف إلى وقت وجوب الكفارة، ثم وقت الأداء منتظر، فلا يتبدل الوجوب من غير تقدير أداء؛ فإن اليسار لا يوجب شيئاً، بل إذا أدى الموسر، فينبغي أن يؤدي ما يليق بحاله.
هذا بيانُ الأقوال والتفريع عليها.
9606- وذهب أبو حنيفة والمزني إلى أنه لا حكم للشروع في الصوم؛ فلو شرع فيه ثم أيسر، وقلنا: الاعتبار بحالة الوجوب، لزمه أن ينتقل إلى الإعتاق، وهذا طرده المزني على أصله في وجود الماء في خلال الصلاة، حيث قطع بانقطاع التيمم وبطلانِ الصلاة، ونزّل وجدان الماءِ في الصلاة منزلةَ وجدانه قبل الشروع في الصلاة.
وقد سمعت شيخي غير مرّة يحكي عن بعض الأصحاب موافقةَ المزني في مذهبه.
وهذا له اتّجاه، وإن كان بعيداً في الحكاية.
ومما يجب التنبه له أنا إذا قلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فالتعبير عن الواجب قبل اتفاق الأداء قد يغمض؛ فإنا لو قلنا: الواجب ما يقتضيه الحالة التي عنها نُعبِّر أو حالة الوجوب. فتبديل الواجب بعيد. وإن قلنا: لا تجب الكفارة، كان خرقاً للإجماع.
وفي نقل مذاهب العلماء في هذه المسألة ما يدل على خلاف هذا؛ فإنهم قالوا: اختلفت المذاهب في أن الاعتبار بحالة الوجوب أم بحالة الأداء، فأثبتوا حالة الوجوب، فلا يتجه إذاً إلا مسلكان:
أحدهما: أن نقول: تجب الكفارة ولا يتعيّن صنفها، وإنما تتعين حالة الأداء، ولا يمتنع هذا النوع من الإبهام، وهو بمثابة إيجابنا كفارة اليمين على الموسر، مع أنا لا نعيّن خصلة من الخصال الثلاث، فإذا اتفق أداء بعضها فالمؤدّى هو الواجب. هذا مسلك.
ويجوز أن يقال: يجب ما يليق بحالة الوجوب، ثم إذا تبدل الحال، تبدل الواجب، وهذا ليس بدعاً، كالصلاة تجب على القادر، ثم يعجز، فتتبدل صفة الصلاة.