فصل: باب: ما يكون قذفاًً وما لا يكون قذفاً:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يكون قذفاًً وما لا يكون قذفاً:

قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو ولدت امرأته ولداً... إلى آخره".
9685- إذا قال الزوج وقد ولدت امرأته ولداً: هذا ليس مني، أو هذا ليس بابني، فنذكر أولاً ما في كلامه من جهات الاحتمال، ثم نبني عليها الحُكمَ، فقوله المذكور يحتمل خمسة أوجه: أحدها: أن هذا لا يشبهني خلْقاً وخلُقاً.
والثاني: أن يريد نسبته إلى الزنا.
والثالث: أن يريد نسبته إلى شبهة.
والرابع- أن يريد نسبته إلى زوجٍ قبله.
والخامس- أن يقول: ما ولدتُ هذا الوليدَ أصلاً.
والاحتمالات المتقدمة مفروضة فيه إذا سلّم ولادتها لو ثبتت ولادتُها بطريق من الطرق، ثم يقول ما يقول.
ونحن نذكر الآن الاحتمالات مع تسليم الولادة في الفراش، لزمانٍ يُحتمَلُ أن يكون العلوق به حاصلاً في الفراش، ثم نذكر إنكار الزوج الولادة.
فأما ما يقع مع تسليم الولادة، فيستثنى منها أنه لو فسر ما قاله بنسبتها إلى الزنا، فالذي جاء به قذفٌ؛ فإن القذف يتطرق إليه الصريح والكناية، فإذا أتى الإنسان بكنايةٍ وفسرها بالزنا، استوجب ما يستوجب المصرِّح، ومالك يجعل كل ما يحتمل القذف احتمالاً ظاهراً بمثابة القذف الصريح، ويجعل معتمدَ الباب في إيجاب الحد الإيذاءَ، ويزعم أن المكاني لا تقْصُرُ في الإيذاء عن الألفاظ المصرّح بها.
وذهب بعض العلماء إلى أن الكناية لا تكون قذفاًً مع النية؛ فإن النية لا تتضمن إيذاء.
والشافعي قسم القذف إلى الصريح والكناية، وفيه سرٌّ، وهو أن الكناية إنما تلتحق بالقذف الصريح إذا فسرها بالقذف الصريح، ثم لا يتأتى منه تفسيرها به إلا بأن يعرب عن قصده، فهذا معنى القصد.
وإن قال قائل: الحدُّ هل يجب بينه وبين الله؟ قيل هو كاذب، ولكن لا يبين كذبُه في حق المقذوف ما لم يفسَّر، ولو روجعنا، فقيل لنا: يجوز أن يترك التفسير أم عليه أن يفسر ليستوجب الحد؟ كان الظاهر عندنا أنه لا يلزمه أن يفسر لو تُرك ولم يُرهَق إلى البيان بالتحليف، ثم إذا لم يبيِّن، فليس بدعاً أن نقول: لا يستوجب الحد بينه وبين الله تعالى، وإن حُمل على البيان وعُرضت عليه اليمين، فلا رخصة في يمين الغموس، فإن نكل، لم يَخْفَ إجراءُ الخصومة إلى منتهاها.
فحاصل القول: أن الكناية التي تُوقع حكماً مع النية كالطلاق، وتنزل منزلة الصريح باطناً، والحدُّ يجب زجراً للكاذب، والكاني بالقذف مُؤذٍ وإيذاؤه يسلّط المقذوفَ عليه، حتى يكون أحدَ رجلين: إما أن يصرح فَيُحدَّ، وإما أن ينكل. ثم يَرجعُ النظر إلى تورعّ المردود عليه عن اليمين أو إقدامه عليها.
هذا مأخذ الشريعة عندنا.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن الحد يجب باطناً، وليس للكاني أن يكتمه، كما ليس لمستوجب القصاص أن يكتم القصاص الواجب عليه، وهذا مشكل؛ من جهة أن القذفَ ليس إتلافاً، ولا إنشاءَ حكم، وإنما هو إيذاءٌ بالنسبة إلى فاحشة، وهذا إن كان يحصل بالكناية، فينبغي أن يوجب الحدّ من غير مراجعة، وإن كان لا يحصل بالكناية، فالقصد لا يؤثر في مزيد الإيذاء.
وقد انتهى غاية ما نحاوله.
ثم إذا حلف أنه لم يقصد القذف، فالتعزير يثبت بالكناية، ولا يخلو ما جاء به عن نوعٍ من العقوبة الرادعة.
9686- فإذا تمهد هذا الأصلُ، فليخرج من الاحتمالات تفسيرُ اللفظ الذي نحن فيه بالزنا؛ فإنه إن جرى ذلك، كان ما ذكره قذفاً، ويتعلق به أحكام قذف الأزواج.
9687- فإن زعم أنه ما أراد نفيَ النسب، وإنما أراد أن الولد ليس يشبهني خلْقاً وخلُقاً، فظاهر النص هاهنا أن هذا التفسير مقبول منه، وإن نازعت، فسنذكر كيفيةَ فصل الخصومة.
وقال الشافعي رضوان الله عليه بعد هذا: "إذا قال رجل لإنسان لست ابنَ فلان، فنفاه عن أبيه المشهور، ثم زعم أنه أراد بذلك أنك لا تشبهه شيمةً وسجيّةً وكرماً وخيراً، فلا يقبل هذا التفسير منه، ويجعلُ قذفاًً صريحاً، فاختلف أصحابنا في قول الزوج وقول الأجنبي على طريقين: فمنهم من قال: فيهما قولان نقلاً وتخريجاً:
أحدهما: أن اللفظ صريح في القذف، ووجهه جريانُ العرف على الاطّراد بإرادة القذف بهذا اللفظ، والنسبُ لا ينفى صريحاً إلا والمراد به النسبةُ إلى الغيّ ونقيض الرشد، والصرائح إنما تؤخذ من الشيوعِ وعمومِ القذف؛ إذا لم يكن للشرع تعبد في حصر الألفاظ.
والقول الثاني- أن هذا اللفظ ليس بصريح؛ فإنه ليس فيه تعرّض للزنا، ولا لغيره، واللفظة مؤوّلة في نفسها.
وهذا هو الأصح.
ومن أصحابنا من أقر النصين قرارَهما، وقال: إن كان القائل أباً، فهذا محتمل منه بتأويل تأديب الابن والتنديد عليه، وإن كان القائل أجنبياً، ولم يكن أباً، فالمحمل الأظهر-وليس الأجنبي في محل التأديب- القذفُ الصريح.
هذا بيان تردد الأصحاب في ذلك.
واختيار المزني طرد القولين، وهذه عادته؛ فإنه يتشوف إلى تخريج القولين مهما اشتمل الكلام على نوعٍ من التردد.
9688- ونحن نستتم الآن هذا الفصل فنقول: إن لم نجعل هذا اللفظ صريحاً من الأب، فإذا فسره بما ذكرناه من أن هذا المولود لا يشبهني خَلْقاً وخُلُقاً، فلو قالت المرأة: أردتَ به القذفَ، فلها أن تحلّفه، فإن حلف أنه لم يرد به القذفَ والنسبةَ إلى الزنا، وإنما أراد ما أشرنا إليه، برىء من الحد، وإن عرضنا عليه اليمين، فنكل عن اليمين، رُدت على المدّعية، فإن نكلت، كان نكولها كيمين الزوج، وإن حلفت يثبت القذفُ والحدّ.
قال الأصحاب: للزوج أن يلتعن، ولم يتعرضوا لتجديد قذفٍ، والمذهبُ فيه أن الزوج إذا جدد قذفاًً بُني اللعان عليه، وانتفى الحد عنه، وإن لم يجدد قذفاًً، وأراد الاكتفاء بما مضى، فقد ذكرنا أصل هذا فيه إذا ادعت المرأة على زوجها أنك قذفتني، فأنكر الزوج، وأقامت المرأة البينة على أنه قذفها، فهل يلاعن من غير قذف جديد؛ فيه تفصيل قدمناه.
ويتجدد في هذه المسألة أصلٌ آخر لابد من التنبه له، وهو أن الزوج إذا كنى وثبتت الكناية بيمينه، فقد ذكرنا أن الكناية توجب التعزير؛ من حيث إنها تؤذي، وإنما يختص بالصريح وبالكناية مع النية الحدُّ، فأما التعزير، فإنه يتعلق بدون ما نحن فيه.
ثم إذا كان يَثْبتُ التعزيرُ، فهل له أن يدفع عن نفسه التعزيرَ الذي قُدّر ثبوته باللعان؟ الوجه أنه ليس له دفعه باللعان؛ فإن المدفوع باللعان عقوبةٌ تجب بالنسبة إلى الزنا، سواء كانت حداً أو تعزيراً. فأما إذا أثبت الزوج أنه لم ينسِب إلى الزنا، فاللعان لا يتعلق بكل إيذاء.
فيخرج منه أنه إذا ادعى أولاً أنه كنى وما قذف، ثم ثبت بيمين الرد كونُه قاذفاً، فهو كما لو أنكر أصل القذف، وأقامت المرأة بينة على أنه قذف، فإن أراد أن يلتعن، فقد تصرّم القول فيه، والذي ذكرناه من إلحاق الكلام في هذا المنتهى، فذلك بيّن لا إشكال فيه.
9689- ولو قال: أردت نفي النسب مع الإقرار بالولادة، ولكني رُمت نسبة هذا الولد إلى وطء شبهة أو إلى زوجٍ قبلي، فإن أراد فيما زعم النسبةَ إلى وطء الشبهة، فالقول قوله مع يمينه، ثم كيفية إدارة الخصومة كما تقدم، فإن أراد نسبة الولد إلى زوج زعم أنه كان قبله، نُظر: فإن عُهد لها زوجٌ قبله، فتفسيره مقبول مع يمينه، وسياقة الخصومة على نحو ما مضى، فإن لم يعهد لها زوج قبله، فلا يقبل قوله.
9690- وحقيقة هذا القسم ترجع إلى نفي ولادتها على فراشه، وهذا نقرره الآن في القسم الثاني، فنقول:
إذا قال الزوج لزوجته: ما ولدتِ هذا الولد، بل استعرتيه أو التقطتيه، فالقول قول الزوج في نفي الولادة؛ فإن الأصل عدمُها، ولئن كنا نُلحق الولد المولود على الفراش بالفراش لقوّته، فلا نحكم بأن الفراش يقتضي وقوعَ الولادة، فالقول إذا قول الزوج.
فإن أقامت المرأة بيّنةً: أربعَ نسوة ثقاتٍ على أنها ولدت هذا الولد على الفراش، فيثبت النسب إلى أن يتكلم في نفيه، وإن لم يكن لها بيّنة، فجاءت بقائف يُلحقه بها بالشبه، فهل ينزل منزلةَ البينة على ثبوت الولادة؟ فعلى وجهين ذكرهما بعض المصنفين: أصحهما- أن الولادة لا تثبت بهذا؛ فإنها أمر محسوس يمكن إثباته بطريق العِيان، والقيافة إنما أُثبتت شرعاً عند الالتباس وانحسام المسلك.
وهذا قريب من الاختلاف في أن المولود إذا تداعى ولادتَه امرأتان، فهل يحكم القائفُ في الإلحاق بحداهما، مع إمكان إثبات الولادة بالمشاهدة على الجملة؟ وعليه ينبني أن المرأة هل لها دعوى؛ فإنها على الجملة متمكنة من إثبات الولادة؟ ولهذا قلنا: الأصح أن الزوج إذا علّق الطلاق بولادتها، فذكرت أنها ولدت، فلا يقبل قولها إلا على رأي ابن الحداد، كما قدمناه في الفروع، ولو كان التعليق على حيضها، ثبت الحيض بقولها؛ إذ لا مُطَّلَع عليه إلا من جهتها.
9691- ونعود بعد ذلك إلى ترتيب الخصومة: فإن لم تقم بينة، ولم نجد قائفاً، أو قلنا: لا حكم للقيافة في هذا المقام، فالقول قول الزوج؛ فإن حلف، انتفت الولادةُ والنسب، وهل يَلحق المولودُ بالأم؟ فوجهان، بناءً على أن المرأة هل لها دعوى، وفيه جوابان أشرنا إليهما.
فإن نكل الرجل عن اليمين، فقد نص الشافعي هاهنا على أن اليمين تردّ عليها، فتحلف، ويثبت النسب، ونص في كتاب العدة على أن المعتدة لو أتت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم طلاق الزوج، وادّعت أنه راجعها أو وطئها بالشبهة، فالقول قول الزوج، فإن نكل لا ترد اليمين عليها في دعوى المراجعة والوطء بالشبهة.
واختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسالتين قولان بالنقل والتخريج:
أحدهما- أن اليمين غيرُ مردودة على المرأة في دعوى الاستعارة ودعوى الرجعة؛ فإن النسب ليس حقَّها، فيستحيل ردّ اليمين عليها.
والقول الثاني- أن اليمين ترد عليها لتغسل العار عن نفسها؛ إذ نُسبت إلى الكذب في دعوى الولادة، وللأم على الجملة حق ولاية على الولد، ولهذا جوز الشافعي لها أن تأخذ نفقة ولدها سراً، كما دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف".
فإن حكمنا بأن اليمين لا ترد عليها، فتصبر إلى أن يبلغ الطفل، فتُرد اليمين عليه.
وإن قلنا: ترد اليمين عليها، فإن حلفت، ثبتت الولادة، وترتب عليها ثبوت النسب، والنسبُ لا يثبت قصداً بشهادة النسوة ولا بيمين الرد، ولكن الولادة تثبت، ثم الولد للفراش، هذا إذا حلفت.
فأما إذا نكلت عن اليمين، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه يوقف الأمر إلى أن يبلغ المولود ويحلف؛ لأن الحق له.
والثاني: ليس للمولود أن يحلف بعد البلوغ؛ لأن يمين الرد لا ترد بهذا.
9692- ولهذا نظائر سيأتي ذكرها في كتاب الدعاوى إن شاء الله تعالى: منها أنه لو أقرّ الراهن بأن العبد المرهون قد جنى قبل الرهن، وقلنا: لا يُقبل قوله، وجعلنا القول قول المرتهن، فإذا نكل عن اليمين ورددنا على الراهن، فلو نكل عن يمين الرد، ففي ردها على المجني عليه قولان، وإذا أقام الوارث شاهداً واحداً بدينٍ لأبيه، وامتنع عن الحلف معه، فقال غرماء المتوفى: نحن نحلف مع الشاهد فهل لهم ذلك؟ ولعلنا نُحْوَج إلى ذكر هذا الفصل مستقصىً في القسامة، إن شاء الله.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: في مسألة الاستعارة والنكاحُ قائم: اليمينُ مردودة على الزوجة، فإذا كان النزاع في الرجعة أو وطء الشبهة بعد الطلاق، فلا ترد اليمين كما اقتضاه النصان، والفرق أن النكاح إذا كان قائماً، فادعى الزوج الاستعارة فجانبها متقويّة بالفراش الدائم، فصدقناها. وفي المسألة الأخرى صارت تدعي رجعةً ووطء شبهة والأصل عدمُ ما تدعيه، ودوام الفراش قد يدل على الغِشيان المفضي إلى العلوق.
هذا منتهى الكلام في المسألة، وقد أجرينا في أثناء الفصل نسبةَ الولد إلى وطء الشبهة، ونحن نعقد الآن في هذا فصلاً جامعاً؛ فإنه من غوائل الكتاب من وجه، وهو أيضاًً من الأصول الظاهرة التي يبتدرُ السائل ويستفصل فيها، ونحن بعون الله نأتي به موضحاً مصححاً.
فصل:
9693- اللعان لا يجري إلا بعد أن تُنسبَ المرأةُ إلى وطء محرَّمٍ في النكاح، وإن أحْبَبْنا، قلنا: إلى وطٍ؛ لا نحكم بتحليله حتى لا يمنعَ وطءُ الشبهة عن الدخول تحت موجَب الكلام، فإذا أتت المرأة بولدٍ في النكاح لمدة يُحتَمل أن يكون العلوق به في النكاح، وتثبت الولادة بلا نزاع، فأراد الرجل أن ينفيه، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يملك نفيَه ما لم ينسبه إلى وطءٍ غيرِ حلال، فلو ذكر زنا ونسب الولدَ والمرأةَ إليه، فهذا أصل كتاب اللعان، فليلتعن.
وإن نسبها إلى وطءٍ غيرِ مُحلَّلٍ ولا مباحٍ، فحاصل القول فيه وجهان على الترتيب المرضي:
أحدهما: أنه لا يصح اللعان إلا بقذفٍ صريح، حتى لو نسبها إلى وطء شبهة أو وطء استكراه، فلا سبيل إلى اللعان.
وهذا الوجه ضعيف، ولكن معتمده التعلُّقُ بظاهر القرآن فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، والرمي في مرتبة الصريح، ثم هو مؤكد بالتعرّض لعدم الشهود، وهذا إنما يليق بالقذف الصريح.
والوجه الثاني-وهو الأصح- أنه لو نسبها إلى وطءٍ غيرِ مباح، وأضاف الولد إليه؛ فإنه يلاعن، كما لو صرح بالقذف. والوجهان ذكرهما المراوزة.
قال الشيخ أبو علي في التفريع عليهما: إذا قلنا: لابد من القذف الصريح، فلا يُظنّ أنا نشترط قذفاًً يتعلق بالنسبة إليه وجوب الحد، ولكن يكتفى بأن يكون القذف في نفسه صريحاً، ثم لا يضر لو سقط الحد، بمعنىً من المعاني، فلو قذف زوجته الأمة أو الكتابية، فله اللعان ونفي الولد، وإن لم يستوجب حداً، كما إذا نسبها إلى وطء استكراه، مثل أن يقول: أكرهك فلان، ووطئك، وهذا الولد من ذلك الوطء، ففي المسألة وجهان؛ فإنه وإن قذف الواطىء يقذفها، والنظرُ في قذفها إلى جانبه.
وهذا الترتيب ساقه صاحب التقريب، وهو حسن.
9694- وأما العراقيون، فقد ذكروا في ذلك تفصيلاً: أنا ذاكره، إن شاء الله تعالى، وذلك أنهم قالوا: إذا نسب الولدَ إلى وطء شبهة، فإن قلأرَ الواطىءَ واطئاً بشبهة وقدَّرها ممكِّنةً بشبهة، أو عالمةً زانية، فلا لعان. هكذا قالوا؛ لأنه إذا وصف الواطىء بالشبهة، فالولد يلحقه، فقد أسند الولدَ إلى شخصٍ في جهةٍ يلحق النسب فيها، وإنما يثبت اللعان إذا نَفى نسبَ الولدِ عن نفسه.
وعللوا هذا بأن قالوا: إذا نسب الولد إلى وطء شبهة، فهذا مكان القيافة؛ إذ المنكوحة إذا وطئت بالشبهة في صلب النكاح، ثم تردد الولد بين الواطىء بالشبهة وبين الزوج، فالحكم أنا نُري الولدَ القائفَ، وكان من الممكن لو أريناه القائف أن ينفيه عن الزوج، وإذا أمكن نفيٌ سوى اللعان، لم يجز اللعان؛ فإن اللعان حجةُ ضرورة.
وقالوا على هذا القياس: لو نسبها إلى الزنا بأن قال: كنتِ عالمة بما يجري، وإنما الواطىء بالشبهة هو الذي اشتبه عليه الأمر، قالوا: فلا تلاعن في هذه الصورة؛ ذلك لأن النسب ثابت في هذه الصورة.
وحاصل كلامهم أن الزوج إذا نسب الولد إلى جهةٍ يثبت النسب فيها، فلا لعان.
ولو قال لها: زنى بك فلان، واستكرهك على الزنا، فأتيتِ بهذا الولد عن هذه الجهة، فهل يلاعن؟ قالوا: في المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا يلاعن؛ لأنه لم ينسبها إلى زنا هو زناً من الجانبين، فصار كما لو كان الواطىء بالشبهة.
فانتظم من كلامهم: أنه إذا نسبها إلى ما هو زنا محض وأضاف الولد إلى تلك الجهة، فعند ذلك يلاعن قطعاً، فإذا أضاف الولد إلى جهة يثبت نسبه فيها من الأب، فلا لعان؛ فإن الجهة التي ذكرها جهةُ نسب.
وبمثله لو نسبها إلى الاستكراه، ولم ينسبها إلى الزنا، وذكَرَ الزنا في جانب الواطىء، ففي المسألة وجهان.
9695- فإذا جمعتَ ما ذكرناه عن صاحب التقريب إلى ما ذكره العراقيون، كان مجموعُ ذلك أن الولد إذا نُسب إلى الزنا المحض، لاعن بلا خلاف.
وإن نسبه إلى وطء الشبهة، والشبهة شاملة للجانبين جميعاً، فالذي ذكره العراقيون القطعُ بأن اللعان لا يجري.
وفي طريق صاحب التقريب تردُّدٌ وإشارةٌ إلى خلاف، ووجه الخلاف أنا في مسلكٍ نقول: لا يلاعن أصلاً؛ فإنه لم يُضفها إلى الزنا، والإضافة إلى الزنا مشروطة في كتاب الله تعالى.
والوجه الثاني- أنه يكفي في نفي الولد أن يقطعَه عن نفسه وينسبَه إلى جهة أخرى، ولا معنى لاشتراط كون تلك الجهة زنا، والذي ذكره من أن القيافة ممكنة، لا حاصل له؛ فإن القيافة إنما تجري إذا اعترف الواطىء بالشبهة، ووُجد التداعي بين الزوج وبين الواطىء بالشبهة؛ فإذ ذاك نري الولدَ القائفَ، فلا معنى للتعليل بما ذكروه والأولى التمسك بالكتاب والدعاء إلى اتباع مقتضاه.
وأما فرق العراقيين بين أن ينسبها إلى الاستكراه والواطىء زانٍ وبين أن يكون الواطىء بشبهة، فحسنٌ.
والأَوْلى في الترتيب أن نقول: إذا نسب الولد إلى وطء شبهة والشبهة تشمل الجانبين جميعاً، فوجهان:
أحدهما: أنه يلاعن.
والثاني: لا يلاعن، وهو الذي قطع به العراقيون.
فإذا نسبها إلى الاستكراه والرجل زانٍ، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الأولى، وهذه الصورة أولى بجريان اللعان.
فأما إذا قال: هذا الولد ليس مني، فإنما هو من غيري، ولم يتعرض للزنا والشبهة، فهذه صورة لم يتعرض لها العراقيون، وإنما ذكرها صاحب التقريب وحكى فيها خلافاً، وهي مردّدة بين النسبة إلى الوطء بالشبهة وبين صورة الاستكراه.
قال: "ولو نفينا عنه ولدها باللعان، ثم جاءت بعده بولد... إلى آخره".
فصل:
9696- إذا نفى نسبَ مولودٍ، فلا يخلو: إما أن يقع ذلك في النكاح، وإما أن يقع بعد البينونة، فإن وقع ذلك في النكاح، فإذا نفى الولدَ الموجودَ في النكاح باللعان، ثم أتت بعد ذلك بولد لأقلّ من ستة أشهر، فقد تبين أن الولدين جميعاً من حمل واحد، فإنهما توأمان، فنقول له: إن لاعنت مرة أخرى ونفيت الثاني، انتفى عنك الولدان، وإن أبيت يلتحق بك الأول والثاني.
والجملة أن التوأمين لا يتبعض أمرهما، فإذا نفى الأول، لم يكف نفيُه، ولو قال: إذا نفيتُ الأول، فقد نفيتُ الثاني أيضاً، قيل له: لا، بل إذا امتنعت عن اللعان عن الثاني، فكأنك امتنعت عن اللعان عن الأول، ولم تتعرض في لعانك لغير الأول، ولا سبيل إلى التبعّض.
ولو جرى اللعان الأول في النكاح، كما صورناه، ولكن كان بين الولدين ستةُ أشهر، فنعلم أن الولد الثاني تجدد العلوق به بعد انفصال الولد الأول، فإذا نَفَى الأولَ، انتفى عنه، وهو رأس أمره في الولد الثاني، فإن نفاه بلعانٍ مجدد، انتفى عنه، وهذا اللعان، وإن كان مُنْشأً في حالة البينونة، فهو يتعلق بنسب متعرِّض للثبوت، والعلوقُ بالولد ممكن في حالة النكاح، فإنه وإن نفى الولد الأول، فلعله وطىء بعد انفصال الولد وقبل إنشاء اللعان، فحصل العلوق بالولد الثاني، ثم إنه ابتدأ فنفى الأول باللعان الأول.
وكل ما ذكرناه فيه إذا نفى الولدَ الأولَ بعد انفصالٍ، ثم تخلل بين الولدين أقلُّ من ستة أشهر أو ستة أشهر فصاعداً، وقد وقع التعرض للولد.
فأما إذا نفى الحملَ باللعان، ثم انفصل ولدان بينهما أقلُّ من ستة أشهر، فهما جميعاً منفيان عنه، ولو أتت بأكثرَ من ذلك عن بطن واحدة، فاللعان الأول كافٍ؛ فإنه تعرض فيه لنفي الحمل، واسمُ الحمل ينطلق على ما اشتمل الرحم عليه واحداً كان أو أكثر.
ولو نفى الحملَ كما ذكرناه، فأتت بولدين بينهما ستة أشهر فصاعداً، فنقول: ينتفي باللعان الولدُ الأول، ولا ينتفي الولد الثاني باللعان، بل ينتفي بلا لعان، والسبب فيه أن الفرقة وقعت باللعان، فلما أتت بالولد الأول، انقضت عدتها بوضع ذلك، فلا يحتمل وقوع العلوق بالولد الثاني في النكاح، وإن كان كذلك، فنسبه منتفٍ بلا لعان.
هذا كله تفصيل القول فيه إذا جرى إنشاء اللعان في النكاح، ثم أتت بتوأمين عن بطني واحد، أو أتت بولدين عن بطنين.
9697- فأما إذا أبانها بالطلاق، ثم أتت بولد، فنفاه باللعان، فأتت بولدٍ آخر لأقلَّ من ستة أشهر، قلنا له: إن نفيته بلعانٍ آخر، فذاك، وإن أبيت، لحقك الثاني، وإذا لحقك الثاني يلحقك الأول؛ فإن الحمل الواحد لا يتبعض، فلا يجوز فرضه من شخصين، وقد ذكرنا أنه لا ينتفي باللعان إلا من نفاه.
وقد تكلف أئمتُنا في هذا كلاماً لا حاجة إليه، فقالوا: في التوأمين نفيٌ ولحوق، فالحمل الواحد لا يتبغض، فإذا اجتمع النفيُ واللحوقُ وجب تغليبُ الأقوى، واللحوق أقوى من النفي في الأولاد الذين استند العلوق بهم إلى الفراش تحقيقاً أو إمكاناً.
والدليل عليه شيئان:
أحدهما: أن الولد يلحق من غير استلحاقٍ إذا كان على النعت الذي ذكرناه، ولا ينتفي من غير نفي، والدليل على ذلك أيضاًً أن الولد الذي نفاه الملاعن باللعان لو استلحقه بعد النفي، لحقه، فإذا استلحق مولوداً، ثم أراد نفيه باللعان، لم يجد إليه سبيلاً.
فظهر من ذلك أن اللحوق أقوى، فإذا تعارض اللحوق والنفيُ في التوأمين، وجب تغليب اللحوق.
وهذا الكلام مستفاد، ولكن لا حاجة إليه في تعليل ما ذكرناه في التوأمين، وذلك أن الحمل الواحد لا يتبعض، وصورةُ ثبوت ولدين فيه إذا كثرت مادّة الزرع، فَيُخلَقُ منها ولدان، ولا يفرض اشتمال الرحم على ولد، ثم يفرض علوق بعده بولدٍ آخر؛ فإن الرحم إذا اشتمل انسد فوهةُ الرحم، فاشتغل بتقدير الإله بتربيته، فلا يتأتى منه قبول منيٍّ آخر، فإذا كان كذلك، وقد نفى الملاعن أحد التوأمين، فلا ينتفي الثاني؛ فإنه لم ينفه، فإذا لم ينتف واستحال التبعض، لزم اللحوق، وهذا القدر كافٍ.
والدليل عليه أن اللحوق والنفيَ لو كانا متكافئين في القوة، لكان الجواب كذلك.
هذا إذا أنشأ اللعان بعد البينونة، وتعرض لنفي المولود المنفصل، ثم بان توأمان.
فأمّا إذا تعرض لنفي الحمل، انتفى الولدان الكائنان من بطن واحد، لما قررناه قبلُ.
ولو نفى الولدَ المنفصلَ بعد البينونة، فأتت بالولد الثاني لستة أشهر فصاعداً، انتفى الولد الثاني بلا لعان؛ فإن الأول تعرض للثبوت لإمكان وقوع العلوق به في النكاح، والولد الثاني تحقق العلوق به بعد ولادة الولد الأول، وهذا بيّنٌ.
9698- وإذا نفى الرجل في النكاح أو بعد البينونة توأمين، إما أن يتعرض للحمل وإما أن يلاعن مرتين، فلا شك أن التوأمين أخوان من الأم، فإن اللعان لا يتضمن قطعَ أحكام الولادة من جانب الأم، وولد الزنا من أمه الزانية كالولد النسيب، فكل قرابةٍ تترتب على الأمومة، فهي ثابتة لا شك فيهما.
ونسبهما ينقطع عن الملاعن، فليس أباهما حكماً، وليسا ولديه.
وهل يثبت بينهما أخوة الأب؛ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه لا تثبت ولعله الأصح؛ فإن الأخوة من الأب مترتبة على ثبوت الأبوة والبنوة، فإذا لم تثبت الأبوة بَعُدَ أن يثبت فرعها.
والوجه الثاني- أنهما يتوارثان بأخوة الأب؛ فإن الأب إنما يقْطَعُ باللعان الذي بينه وبينهما، فأما ما يثبت بينهما، فلا يؤثر اللعان في قطعه.
وهذا ضعيف لا اتجاه له.
9699- ثم قال: "ولو مات أحدهما ثم التعن نَفَى عنه الحيَّ والميتَ... إلى آخره".
إذا ولدت المرأة توأمين، ومات أحدهما أو ماتا جميعاً، فأراد الزوج نفيهما بعد الموت، أو نفي الميت منهما والحيَّ، جاز له ذلك فإذا وُلدا معاً أو بينهما أقلُّ من ستة أشهر فيكفي فيهما لعان واحد.
ولو أراد الزوج أن ينفي أولاداً أتت بهم امرأته عن بطن واحد أو بطون مختلفة بلعان واحد، فله ذلك، ولا نكلفه أن يخصص كل مولود باللعان.
ولو عدد قذفها ونسبها إلى زنيات، وأضاف كل مولود إلى زنية منها، ثم أراد اللعان، كفاه لعان واحد يشتمل على تسمية الأولاد، وسيأتي طرف من هذا بعد ذلك، وغرضنا الآن تامٌّ في المقدار الذي أوردناه.
9700- ومن أصول المذهب أن المولودَ الميتَ يلحقه النفي والاستلحاق جميعاً؛ فإن الموت لا يقطع النسب ولا يغير أحكامَ النفي وجريانِه.
فلو أتت امرأة بولدٍ ومات، فله نفيه بعد الموت، ولو لاعن عنه في الحياة، ثم استلحقه بعد الموت، لحقه، ويترتب عليه ثبوت الإرث، ولا نظر إلى ما تخيله أبو حنيفة من ردّ الاستلحاق بسبب التهمة في خبطٍ له طويل.
ولو نفى النسبَ بعد الموت، وقُسِّم ميراثُ الميت، ثم أراد الاستلحاقَ، فله ذلك، وتَنتقِضُ القسمةُ وتعود وراثتُه تبيناً، وقد يحجُب الذين مَضَوْا، أو يزاحم.
وهذا خَرْمٌ عظيم لأحكام الأقارير، فإنه إذا نفاه، فقد اعترف بأنه لا يستحق تركته، فإذا عاد واستلحق، فهذا يناقض قولَه الأول، وكنتُ أود لو قلنا: إذا نفاه في الحياة ثم استلحقه بعد الموت يلحقُه، فإنه لما نفاه لم يكن ثمَّ استحقاقُ مال تقديراً، فإذا وجد النفي بعد الموت، فقد قطع استحقاق نفسه عن التركة حين ثبوت الاستحقاق للورثة، فإذا أراد العَوْد، لم يكن له ذلك.
وقد وجدت في كلام الأصحاب رمزاً إلى هذا، فأنا أنظم بعدُ هذا التنبيهَ، فأقول: إذا نفاه حياً واستلحقه حياً، أو نفاه حياً واستلحقه ميتاً، فالاستلحاق ثابت، فإذا نفاه ميتاً واستحلقه ميتاً، فالنسب يلحق، وهل يثبت الإرث؟ فعلى التردد والاختلاف: يجوز أن يقال: لا يثبت؛ لما أشرنا إليه من أنه قطع حقه عن التركة، فلا يعود حقَّه إليها.
ويجوز أن يقال: يثبت حقه؛ لأنه لم يتعرض للتركة أولاً وآخراً، وإنما تعرض لاستلحاق النسب، والنسب يلحق، ثم يترتب عليه حكمه.
والدليل عليه أن من مات وخلف ابنين، وزعم أحدهما أن هذا الغلام ابنُ أبينا وأنكر الثاني، فظاهر المذهب أن المقَرَّ به لا يستحق من الميراث شيئاً وإن تضمن إقرارُ المقِر إثباتَ استحقاقٍ له فيما في يده، ولكن لما كان ذلك الاستحقاق مترتباً على النسب، والنسب لم يثبت، فلم يثبت ما يترتب عليه فالتعويل إذاً على ثبوت النسب في النفي والإثبات.
فصل:
قال: "ولو قال لامرأته: يا زانية فقالت: زنيت بك... إلى آخره".
9701- إذا قال لامرأته: يا زانية، أو قال: زنيتِ، فقالت: زنيتُ بك، فلكلامها جهاتٌ في الاحتمالات: أحدها: أن تريد نفي الزنا، وقد يعتاد مثل هذا، فكأنها قالت: لم أزن، وهو بمثابة قول القائل- وقد قال له صاحبه: يا سارق: سرقتُ معك، والمراد لم أسرق كما لم تسرق.
قال الأصحاب في مسألة الكتاب: إن أرادتْ ذلك، قُبل قولُها مع يمينها، فإن حلفتْ، فلا حدّ عليها للزوج.
ونحن نستتم النقلَ، ثم نرجع بالمباحثة إلى محالّ الإشكال.
فلو قالت: زنيتُ بك، وزعمتْ أنها أرادت ما مكّنت أحداً سواك، وأنت أعلم، فإن كان زِناً، فاحْسبه كذلك، فتأويلها هذا مقبول مع يمينها، كما قدمناه.
ولو قالت: أردت بذلك أني زنيتُ به قبل النكاح، فهي قاذفةٌ ومقرّةٌ بالزنا، فيسقط حدُّ القذف عن الزوج لإقرارها بالزنا، وتُحدّ هي حدَّ القذف أولاً، ثم تحدّ حدّ الزنا.
فإن رجعت عن إقرارها بالزنا، نفعها رجوعُها في سقوط حد الزنا عنها، ولم ينفعها في إسقاط حد القذف؛ فإنه حدٌّ لآدمي، والعقوبات التي هي حقوق الآدميين لا تسقط بالرجوع عن الإقرار بها.
والذي يجب إنعام النظر فيه أن الرجل إذا قال لأجنبيةٍ أو لزوجته: قد زنيتُ بك، فلست أرى هذا اللفظ قذفاً لها صريحاً، فإنه إذا استكرهها، فهو زانٍ بها، وليست هي زانية، وإذا لم تكن زانية، لم يكن نسبتُها إلى ذلك قذفاًً منه، فيراجَع، فإن ذكر ما أشرنا إليه، كان محتملاً، وإن فسره بكونها مطاوعةً، فالذي تقدم منه قذفٌ؛ فإنّ قوله زنيتُ بك مشعرٌ بمطاوعتها، وقد يحتمل خلاف ذلك، ولو قلنا إشعاره بالمطاوعة في مجرى العرف أغلب لم نبُعد، فكان قوله كنايةً في القذف.
كذلك إذا قالت المرأة زنيتُ بك، فما جاءت به كنايةٌ في قذفه؛ فاتسع المجال في الرجوع إلى قصدها، وأما قولها: زنيتُ؛ فإنه صريحٌ في الإقرار بالزنا، وحمل هذا على التعقيدات التي ذكرناها يُحْوِجُ إلى مزيد تقرير.
9702- وأنا أقول فيه: إذا أمكن تأويله-وإن بَعُد- فقبوله في دراء حد الزنا غير بعيد؛ فإنها لو أقرت بالزنا الصريح، ثم رجعت قُبل رجوعُها، فإبعادها في التأويل لا يبعُد أن يُقبل.
وإنما محل الإشكال أن المقذوفة إذا أقرت بالزنا، سقط حدُّ القذف، فإذا حملت كلامَها على المحمل الذي ذكره الأصحاب، فقبول قولها مع يمينها وإثباتِ حق الطلب لها في حد القذف قد يغمض، ثم لا سبيل فيه إلاّ جريانُ العرف بمثله في المهاترات والشتائم، وإذا تنبه المرء لما ذكرناه مهّد عذرنا بعد التنبيه للإشكال.
وقد قال الأصحاب: إذا ادعى رجل على رجل مالاً، فقال: زِنْه هل يكون هذا إقراراً أم لا؟ فيه تردُّدٌ، ولو قال: زِن، ثم زعم أنه لم يُرد الإقرارَ، قُبل قوله، وقوله: زنه لم يبعد حمله على المهاترات، ولكن التعقيدات والمكاني بالمشاتمات أَلْيق، ولا خلاف أن من يدعى مالاً، فلا حاجة إلى حمل الإجابة على الهُزْء.
فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك.
وقد ذكر الصيدلاني: أن المرأة إذا قالت: زنيتُ بك، وأرادت الاعترافَ بالزنا على نفسها، فهذا قذف منها للزوج، ومساق هذا يقتضي أن الرجل إذا قال لامرأته: زنيتُ بك، فيكون قاذفاً لها، وهذا عندي غير سديد؛ فإن القذف نسبة المقذوف إلى صدور الزنا منه، وهذا لم يتحقق في المسألتين: إذا قال الرجل: زنيتُ بكِ، أو قالت المرأة: زنيت بكَ، فما أرى هذا إلا غفلة.
فإذا تكلفنا في إقامة هذا اللفظ جعلناه كناية- إذ ليس فيه التعرّض لنسبتها إلى الزنا.
9703- قال: "ولو قال الرجل لزوجته يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني... إلى آخره".
هذا منها لا يكون قذفاً صريحاً؛ لأنها لم تعترف بالزنا، حتى يكون قول: أنت أزنى مني إثبات زنا.
وكذلك لو قال رجل لآخر: أنت أزنى من فلان، ولم يُثبت الزنا في حق المشبه به، فلا يكون هذا الذي ذكره قذفاً صريحاً.
ولو قال: فلان زانٍ وأنت أزنى منه، فهذا الذي خاطب به قذفٌ، وقد قذف المشبه به، فيلزمه حدان إذا كانا مُحْصنين؛ فإنه قذفَ شخصين بالكلمتين.
ولو قال: أنت أزنى من فلان، وكان ثبت زنا ذلك المشبّه به ببيّنة، قامت عليه، أو بإقرار، نُظر: فإن كان هذا القائل جاهلاً بزنا فلان المشبهِ به، فالذي صدر منه لا يكون قذفاً؛ فإنه لم يُثبت زنا ذلك الشخص أولاً حتى يكون التشبيه به قذفاً.
ولو كان عالماً بأن فلاناً ثبت عليه الزنا بإقراره أو بالبيّنة. فقال: أنت أزنى من فلان، قال القاضي: هذا الآن قذف منه؛ فإنه شبه المخاطب بمن ثبت عنده زناه، فكان التشبيه مترتباً على علمه.
فإن قيل: إذا لم يعلم زناه أو لم يَثبت زناه، فهلاّ جعل قوله: أنت أزنى من فلان قذفاًً في حق المخاطب ونسبة للمشبه به إلى الزنا؛ فإن من ضرورة المبالغة إثبات الاستواء في الأصل، مع تثبيت مزيّة، ثم يعبر عنه بهمزة المبالغة؟
قلنا: هذا غير سديد؛ فإن الكلام قد يجري على غير هذا النسق، وإن كان الكلام القويم يقتضي التسوية في الأصل، والتعرضُ بعد التسوية للمبالغة وإثبات المزيّة، ولكن العبارات لا تجري على النظم المختار في المعنى، بل هي مردّدةٌ بين النظم القويم والمنهج المستقيم، وبين الحيْد عنه، حتى يقلَّ في الناس من يرتاد النظم الأقوم، وإذا ندَرَ الخروجُ عن النظم في كلام شخص، عُدّ مُعْتَبرَ الدهر، فلا مؤاخذةَ بما يجب أن يكون بناء الكلام عليه، وإنما التعلق بالصيغ في مبانيها ومعانيها.
ولو قال لامرأته: يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني، وأرادت بذلك أني زانية، وأنت أزنى مني، فهذا إقرار منها بالزنا، إن فسرت لفظها بذلك، ويجب عليها حدُّ الزنا، وحدُّ القذف، ويسقط حدُّ القذف عن الزوج.
وإن قالت: أردت بذلك أنك الزاني، ولستُ بزانية، فإنت أزنى مني، فيقبل ذلك، وتكون قاذفةً غيرَ مقرة بالزنا؛ إذ لفظها يحتمل هذا الوجه.
وهذا أورده صاحب التقريب عن ابن سُرَيْج، وذكره الشيخ أبو علي على هذا الوجه، ولا خفاء به.
9704- ولو قال لرجل: أنت أزنى الناس، فقد أطبق الأصحاب أن هذا لا يكون قذفاًً؛ فإنه لم ينسب الناسَ إلى الزنا، ولو قال: في الناس زناة، وأنت أزنى منهم، فهذا قذف.
وقد يعترض في ذلك سؤال، فإنه إذا قال: يا أزنى الناس، فليس يخفى عليه أن في الناس زناة، وقد ذكرنا أن من علم زنا شخصٍ ببينة أو إقرار، ثم قال لرجل: أنت أزنى من فلان، فيكون ذلك قذفاً، فليكن قوله: أنت أزنى الناس بهذه المثابة. وهذا فيه تعقيد.
قال القاضي: قوله: أنت أزنى الناس، تأويله أنت أعلم الناس بالزنا.
وهذا كلام سخيف؛ فإن التعرض للزنا لا يجوز أن يُحمَلَ على العلم بالزنا، ولو جاز هذا، لجاز أن يقال: إذا قال: أنت أزنى من فلان وكان عَلِمه زانياً، فلا يكون ذلك قذفاًً؛ حملاً على العلم، فلا تعلق فيما ذكره.
والوجهُ أن نقول: لما ذكر الناس وليسوا زناة، فقد اعتنى بالتشبيه بالجنس، وليس يتحقق من الجنس الزنا، وإنما يتحقق من آحادهم، والآحاد من الناس ليسوا بالناس، والإشكال مع هذا قائم، ولم أر في ذلك خلافاًً للأصحاب.
وغايتنا التثبت في النقل والإشارة إلى الإشكال ووجوه الاحتمال، فإن فاتنا نقلٌ نحرص على أن نذكر جهات الإمكان، والله المستعان وعليه التكلان.
فصل:
قال: "ولو قال لها: يا زانِ، كان قذفاًً... إلى آخره".
9705- إذا قال لامرأة أو لزوجته: يا زانِ، فحذف ما يقتضيه النظم من (هاء) التأنيث، فالذي جاء به قذف. والصيغةُ مختلفة أو لحن- إن كان لا ينقدح لحذف علامة التأنيث سبب.
والمرأة إذا قالت للرجل: يا زانية، فأتت بالهاء في خطاب من يُذكَّر، فهي قاذفة، ووافق أبو حنيفة في الصورة الأولى، وخالف في الصورة الثانية والمسألة مشهورة معه.
ومما يُجريه الفقهاء أن حذف الهاء محمول على مذهب الترخيم في مثل قول القائل في (عزّة) يا (عزّ) و (بثينة) يا (بثين) على اختلاف المذهبين في رفع الحرف الأخير ونصبه بعد الترخيم.
وهذا يُشعر بقلة الدراية بمذهب العرب في باب الترخيم؛ فإنهم إنما يرخمون الألقاب التي تجري أعلاماً، فأما الأسماء التي تجري صفاتٍ مشتقةً كالقاتل والزاني، فلا يتطرق إليها ترخيم إلا في ضرورة الشعر إذا دُفع الشاعر إلى مضائق التَّقْفِية والأوزان.
ومما أجراه بعض الفقهاء أن لفظ (الزانية) في مخاطبة الرجل محمولة على مذهب المبالغة، كالعلاَّمة والنسّابة، وفلان راوية الشافعي.
وهذا أمثل قليلاً من الترخيم، ولكنه باطلٌ أيضاً، فإنه وإن جرى، فلم يتمهد قياساً مطرداً، فلا يقال لمن كثر القتل منه: فلان (قاتلة) ولسان العرب ينقسم إلى ما لا قياس فيه أصلاً، وإنما المتبع فيه السماع المحض، وإلى ما يطرد فيه القياس، وإلى ما يجري فيه قياسٌ مقرون بالسماع.
ولا حاجة إلى التعلق بأمثال هذا، ومعتمد المذهب أن النسبة إلى الزنا تحققت، ولا تعويلَ بعد ذلك على لحنٍ في الكلام، وعلى تحريف عن السداد، أو لحنٍ بعد تأدية المعنى، ولا خلاف أن الرجل لو قال للمرأة: زنيتَ بنصب التاء، أو قالت المرأة للرجل زنيتِ بكسر التاء الضمير، فاللفظان قذفان، وإن جريا على ما لا يقتضيه التذكير والتأنيث.
وقال القفال الإشارة أغلب من العبارة، فإذا أشارت إلى الرجل وقالت: يا زانية، فليقع التعلق بالإشارة.
وذكر صاحب التقريب أن الشافعي رضي الله عنه ذكر فيه إذا قال الرجل للمرأة: يا زان، أو قالت المرأة للرجل: يا زانية قولين:
أحدهما: أن ذلك لا يكون قذفاً صريحاًً؛ فإن كل واحد منهما نسب صاحبه إلى زنا لا يتصور منه.
وهذا غريب جداً، ولكنه حكاه عن القديم، ولم أره لغير صاحب التقريب، ولا تعويل على مثل هذا.
9706- ثم قال: لو قال: "زنأت في الجبل... إلى آخره".
إذا قال: للرجل زنأتَ في الجبل، فهَمَزَ وذكرَ الجَبَلَ أو غيرَه مما يُرقى فيه، فليس قاذفاً؛ فإنه يقال: زنأ في الجبل أي رقا، ومنه قول القائل:
وارْق إلى الخيرات زنْأً في الجبل.
ولو قال: زنيت في الجبل، فأتى بالياء ولكن أضاف إلى الجبل، ثم زعم أنه أراد بذلك الزنوّ بمعنى الرقي، فهذا مما اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يقبل ذلك منه؛ فإن قوله (زنيت) صريح، وإضافته إلى الجبل منتظم على معنى بيان ذكر المكان، وهذا ظاهر المذهب.
ومنهم من قال: يقبل ذلك منه لذكرِ الجبل، وقرب زنيتَ من زنأت، وغلبة حذف الهمزة على الألسن.
ومنهم من فصل بين أن يكون مُعْرِباً وبين أن لا يكون، وزعم أن ذلك مقبول من غير المُعْرِب، وليس مقبولاً من المُعْرب.
ولو قال زنأتَ مطلقاً، فهمز، ولم يذكر الجبل، ففي المسألة أوجهٌ إذا زعم أنه أراد الرقي: من أصحابنا من لا يقبل ذلك منه؛ لأنه ظاهر في معنى الرقي، ومنهم من قال: يجعل قذفاً؛ فإن الهمزة والياء تعتقبان في الكلام، ومنهم من فصل بين المُعْرِب وغير المُعْرِب، فقال إن كان الرجل معرباً، لم يكن ذلك قذْفاً منه، فإن استعمال لفظ الزنأ ليس بدعاً من العامة، فأما إيراده لمعنى الرقي فمما يختص به أهل البصائر.
فصل:
" ولو قال لامرأته: زنيتِ وأنت صغيرة... إلى آخره".
9707- إذا قال: زنيتِ وأنت صغيرة، فلا يخلو عن الصغر في أول الأمر مفطور، فلا يكون ما جاء به قذفاًً؛ فإن القذف مأخوذ من حد الزنا، فكل منسوب إليه لو تحقق، لكان موجباً لحد الزنا، فالنسبة إليه توجب حدّ القذف، وإذا لم يكن المنسوب إليه مما يوجب حدَّ الزنا-لو تحقق- فالنسبة إليه لا تكون قذفاً موجباً للحد، فإذا قال: زنيتِ وأنت صغيرة، فوجود صورة الفاحشة في حالة الصغر لا يتضمن حدّ الزنا، فلا جَرَم لم يكن النسبة إليه قذفاً موجباً لحد القذف. نعم، هو إيذاء موجبٌ للتعزير.
ولو قال لامرأته: زنيتِ وأنت أَمة أو مُشركة، أو مجنونة، فإن كان عُهد منها هذه الحالات، فالذي قاله الزوج ليس قذفاًً، كما إذا نَسَب إلى الصغر.
وإن لم يعهد منها هذه الحالات، قلنا للزوج: إن أثبتَّ بالبيّنة منها حالةًْ من الحالات التي ذكرتها، فلست قاذفاً، إنما أنت بريء، وإن لم تُثبت بالبينة ما ذكرتَه، فالذي جئتَ به قذفٌ؛ فإنه نَسَبَ إلى الزنا، ثم ذَكَر حالةَ لم تُعرف ولم تُعهد، فسقط ما ذَكَره من الإضافة، وبقي القذفُ الصريح.
وذكر صاحب التقريب قولاً آخر: أنه لا يلزمه الحد أصلاً؛ فإنه لم يجرد القذف، بل أضافه، فإن صحت الأضافة، فذاك، وإن لم تصح، بطل إطلاق القذف بها.
وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فليس بعيداً في الاتجاه.
9708- ولو قال لامرأة: زنى بك فلانٌ وأنت مستكرهة، فالذي ذكره ليس بقذفٍ في حقها؛ فإن المستكرهةَ لا تكون زانية، واختلف أصحابنا في أن هذا هل يوجب إيذاءً موجباً للتعزير: فمنهم من قال: هو إيذاء موجبٌ للتعزير؛ فإنه على التحقيق آذاها صادقاً كان أو كاذباً، فصار كما لو قال: زنيت وأنت مجنونة أو صغيرة.
ومن أصحابنا من قال: لا يستوجب الناسبُ إلى الاستَكراه التعزيرَ؛ لأن المستكرهةَ لا مَلام عليها بوجهٍِ، ولا يتطرق إليها منع من مانع، والصبية ممنوعة والمجنونةُ كذلك.
وهذا ساقط لا أصل له، وإن كان مشهوراً حكاه القاضي والعراقيون.
ولو قال: زنى بك فلان الممسوح، فهذا كلام غيرُ منتظم.
وكذلك لو قال لرتقاء: زنيتِ، فقد نسبها إلى ما ليس ممكناً، واتفق الأصحاب على أنه يعزر لمكان الإيذاء بهذا الإسماع، ثم ذكرنا فيما تقدم التفصيل فيما يُدرأ باللعان من التعزيرات إذا جرت هذه الألفاظ في النكاح، وما يُخْتلَف فيه.
فإذا نَسب المرأة إلى مُحالٍ مما ذكرناه وأثبتنا التعزير، فقد قال القاضي: لا يُدرأ هذا التعزير باللعان؛ لأن اللعان في مقابلة تلطيخ الفراش، حتى كأن الزوج يَرْحَض ويغسل بلعانه ما ألحقته به من العار، فإذاً ينبغي أن يجريَ اللعان حيث يتوقع التلويث، وحيث لا، فلا.
وقد ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: ما ذكره القاضي.
والثاني: أنه يلاعن.
وهذا بعيدٌ، ولكنه إذا جرى في تعزير التأديب اختلافُ النصوص وتخريجُ الأقوال، لم يبعد إجراؤه هاهنا، ولكن لا وجه إلا ما قطع به القاضي؛ من جهة أن الزوج إن ذَكَر المُحالَ الذي نسبها إليه، لا يمكنه أن يزعم صدقه بل هو محال وإن لم يذكره، فاللعان من غير ذكر التصديق فيما جرت النسبة إليه محال غير منتظم.
ولو قال لها: زنيت وأنت أمة أو مشركة، أو مجنونة، وقد عُهدت هذه الأحوال منها، فقد ذكرنا أن الرجل لا يكون قاذفاً، وقال أبو حنيفة إذا قال لها: زنيت وأنت أمة أو مشركة، كان قاذفاً، فإن زنا الأمة يوجب عليها حد الزنا، وكذلك زنا المشركة.
وهذا غير سديد؛ فإنا نجعل القذف بالزنا المضافِ إلى الحالة السابقة بمثابة إنشاء القذف في تلك الحالة، ولو قذف أمة أو مشركة، لم يستوجب حداً، فإضافة القذف إلى حالة الشرك والرق بمثابة إنشاء القذف في الحالتين.
فرع:
9709- إذا قال: زنى فرجُك، فهذا صريح في القذف، ولو قال: زنت يدك أو رجلك، وأضاف الزنا إلى بعضٍ من الأبعاض سوى الفرج، هل يكون ذلك صريحاًً في القذف؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون وأشار إليهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنه كناية، وهو الصحيح، الذي قطع به المراوزة، فإن الزنا لا يضاف إلا إلى الفرج، أو إلى الجملة، والقذف خبر عن مخبَر، وليس مما يفرض فيه وقوعٌ وسريان، بخلاف الطلاق والعتاق، كيف وقد يضاف الزنا إلى الأعضاء، على معنى صدور مقدّماتٍ منها ومراودات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والفرج يصدّق ذلك ويكذبه».
والثاني: أنه صريح؛ فإن اللفظ في نفسه صريح، والجزءُ من الجملة، فكانت الإضافة إلى الجزء كالإضافة إلى الجملة، كالطلاق.
والذي يحقق ذلك أن إضافة الطلاق إلى الجزء عُدّ صريحاً قطعاً، بخلاف ما لو قال لامرأته: أنت الطلاق، وقد نقل المزني في (السواد) ما يدل على الوجه الأخير، وذهب المراوزة إلى تغليطه في النقل.
ولو قال: زنا يداك وعيناك، فثنَّى اليدَ والعينَ، قال العراقيون: في المسألة وجهان مرتبان على ما إذا ذَكَر اليدَ والعينَ على صيغة التفريد، وجعلوا هذه الصورة أولى بألا يكون اللفظ صريحاً؛ لأن الحديث وارد في صيغة التثنية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان واليدان تزنيان».
وقد ذكر الشيخ أبو علي قريباً مما ذكره العراقيون، ولم أُضف ما ذكره إلى طريقة المراوزة، فإنه كثير النقل عن العراقيين في مسائل اللعان.
صورة مكررة رددها المزني ولست لها.
فصل:
قال: "ولو قذفها، ثم تزوجها، ثم قذفها... إلى آخره".
9710- قد ذكرنا الاختلاف في أن الحد هل يتعدد إذا قذف جماعةً بكلمة واحدة، وذكرنا أيضاًً الخلاف في أنه إذا قذف شخصاً واحداً بكلمتين دالّتين على زنيتين، وقرّبنا إحدى المسألتين من الأخرى ظاهراً وعبّرنا عنهما، فقلنا: إذا تعدد القذف والمقذوف، تعدد الحدّ، وإن اتّحد القذف وتعدد المقذوف، أو اتحد المقذوف وتعدد القذف، ففي تعدد الحد واتحاده قولان. والمعنيُّ بتعدد القذف تعدد الكلمة على شرط أن تُشعر كل كلمة بزنا.
وتمام التفصيل في هذا يأتي في كتاب الحدود، وإنما نذكر منه هاهنا المقدارَ الذي يتعلق باللعان، وإلا فأصلُ الحد وتعدده واتحادُه، وبيانُ القول في مستحِقه وتفصيلُ المذهب في العفوِ والاعتياضِ والإقالةِ يأتي في كتاب الحدود.
فنقول هاهنا:
9711- إذا قذف الرجل امرأةً ونكحها، ثم قذفها، فإن قلنا: الحد يتعدد ويتوجه عليه الطلب في الحال، فإن لاعن، سقط الحد الواجب بسبب القذف الواقع في النكاح، وبقي الحد المتوجِّهُ بالقذف السابق.
وإن حكمنا باتحاد الحد، فإن لم يلاعن، لم يتوجّه عليه إلا حدٌّ واحد، وإن لاعن، لم يسقط عنه الحدّ؛ لأن استيجاب الحد سابق على النكاح، والحد الذي استقر قبل النكاح يستحيل أن يسقط بلعانٍ في النكاح، فلا يخلو القذف الثاني إما أن يُفرض في حكم الإعادة للقذف الأول، فيقع الحكم بالأصل لا بالمعاد، وإن قيل: أوجب كلُّ واحدٍ من القذفين حداً، ولكن اندرج أحدهما تحت الثاني، فإذا قدّر سقوط حدٍّ باللعان، وجب أن يبقى الأصلُ الذي تحته الاندراج.
فيخرج من مجموع ما ذكرناه أنه إن لم يلاعن، ظهر الاختلاف: فإنا في قول نقيم عليه حدّين، وفي قولٍ نقيم حداً واحداً.
وإن لاعن، لم يظهر أثر؛ فإنا على القولين نقيم عليه حداً. نعم، يختلف التعليل، والحكم واحد.
9712- ثم قال: "ولو قال: يا زانية، فقالت: بل أنت زانٍ... إلى آخره".
صورة المسألة أن يقذف الزوج زوجته، فيقولَ لها: يا زانية، فتعارضه المرأة، وتقول: بل أنت زانٍ، فقد قذف كل واحد منهما صاحبَه، وقولُ المرأة: بل أنت زانٍ، لا يتضمن اعترافاً بالزنا؛ فإنّ (بل) معناه ردّ لما سبق، واستئنافُ الكلام بعده، ثم لا يكاد يخفى حكم القذفين: أما قذفُها، فموجبه حد القذف عليها، ولا يدرؤه إلا بيِّنةٌ تقوم على زناه، أو اعترافُه، أو انخرامُ الحصانة والعفة.
وأما موجَب قذفه، فالحد، ولكن يدرؤه اللعان، فإن لم يلتعن، حُدّ كل واحد منهما لصاحبه.
وليس حدُّ القذف مما يخَيّل فيه السقوط بالتقاصّ، وإن استوى القدْران، والسبب فيه شيئان:
أحدهما: أن حد القذف لا يقبل المقابلة بالعوض، والمقاصّةُ باب من المعاوضة، والثاني: التماثل لا يتحقق؛ فإن الجلدات لا تتأتى رعاية التماثل فيها؛ فإن الضربات تتفاوت في أنفسها وتتفاوت. مواقعها في الأبدان، على تفاوت القوى والضعف، والتقاصّ إنما يجري بين المتماثلين.
قال أبو حنيفة: كل شخصين تماثلا لم يُحدّ واحدٌ منهما وعلّل، فقال: إني أستقبح أَنْ أَحُدَّ كلَّ واحدٍ منهما بصاحبه. قال الشافعي رضي الله عنه: أقبح من ذلك تعطيل حدٍّ من حدود الله، وهذا لا يليق بأصل أبي حنيفة مع مصيره إلى أن حدّ القذف يجب لله تعالى.
9713- ثم قال " لو قذفها وأجنبيةً بكلمةٍ... إلى آخره".
إذا قذف زوجته وأجنبيةً بكلمة واحدة، ففي تعدد الحد قولان مرتبان على القولين فيه إذا قذف أجنبيتين أو زوجتين، وهذه الصورة أولى بالتعدد، لاختلاف أثر القذف الذي يُفرض مضافاً إلى الزوجة والأجنبية، ثم إذا فرعنا على التعدد، فَلاعَنَ، سقط حد المرأة، وبقي حدُّ الأجنبية.
وإن قضينا باتحاد الحد، فإذا لاعن عن زوجته، فللأجنبية مطالبتُه بالحد الكامل؛ فإن اللعان لا يسقط الحدَّ الواجب للأجنبية، فإذا على قول الاتحاد إن لم يلاعن، فالحد واحد والطالبة اثنتان، فإن لاعن، فالحد واجب والطلب لواحدة، وهي الأجنبية.
ثم قال:
9714- " ولو قذف أربع نسوة له بكلمة واحدة"، ففي المسألة قولان- إذا فرض الامتناع من اللعان:
أحدهما: أنه يلزمه حد واحد لهن، والقول الثاني- يلزمه حدود.
فإن قلنا: يلزمه حدود لو امتنع عن اللعان، فلو طالبْنه، فأراد أن يقتصر على لعانٍ واحدٍ عن جميعهن، لم يكن له ذلك؛ فإن كل واحدة منفردة بحدّها وحقّها، والخصومات منفصلة متميزة، واللعان على مثابة الأيْمان، واليمين لا يعمل في خصومتين متعددتين.
ولو قُلْن: رضينا باللعان الواحد، فهذا مما يجب إنعام النظر فيه؛ فإن طلبت واحدة وأعرض الباقيات، فلا إشكال فيها، فليلتعن مع الطالبة، والخصومات عتيدة مع الباقيات مهما طَلَبْن، وإن أراد الزوج أن يلتعن في حقوقهن من غير طلبهن الحدّ، ففيه الخلاف الذي قدمته في أوائل الكتاب:
إذا جوّزنا ذلك والتفريعُ على تعدد اللعان، فإنه يلتعن عن كل واحدة لعاناً تاماً.
ولو اجتمعن، وطلبن، وادّعَيْن، ورضين بلعانٍ واحد-والتفريع على قول تعدّد اللعان- فللزوج أن يمتنع عن اللعان مع بعضهن، ثم تجري عليه أحكام الممتنعين عن اللعان، فإن كان الزوج راضياً بأن يلتعن عنهن لعاناً واحداً، وقد رضين بذلك، فالذي نراه أن اللعان الواحد لا يقع موقعه، ولا يصح فرضه على الاشتراك بينهن؛ فإن الأيمان لا تقبل هذا الفن من التصرف، فلا يختلف الأمر بالرضا ونقيضه.
فإنه لو ادّعى على رجلٍ واحد أقوامٌ حقوقاً، وزعموا أنا رضينا بأن يحلف يميناً واحداً، فهذا يخالف نظم الشريعة وترتيبَها في فصل الخصومات، فلا عهد بيمين ينفي قصاصاً ومالاً وحدَّ قذف، ونفرض أيضاً يمين الرد، فيقع التعرض لإثبات حق، وهذا مما لا سبيل إليه.
وكل خصومة تنفرد بيمينها عن الأخرى، بل الخصومات لا تقام على الازدحام، ولا يُصغي القاضي إلى دعوى قبل فصل الدعوى الأولى. وإذا لم تنتظم الدعاوى، كيف يفرض عرض اليمين من الجميع؟ نعم، إذا سبقت واحدة في مسألتنا بالدعوى، واتفق أن الزوج أجرى ذكرها في اللعان، انصرف إليها، والخصومات الأخرى باقية، والدعاوى السابقة باطلة والرضا مضمحلّ، فلتدّع بعد الأولى من تدّعي بقرعة، أو رضاً بتقديمها.
هذا ما نراه بالجملة، والقول في اللعان كالقول في الأيمان مع تعدد الخصوم والحقوق، فإن كان في رأي الناظر التفاتٌ إلى إشكال في تعدد الأيْمان، ففيما ذكرناه مَقْنَع.
وإذا انتهينا إلى كتاب الدعاوى، وبيّنا أحكام الأيمان، ومنازلَ الحُجج والبيّنات، لاح الغرض من هذا، وقد نقول ثَمّ: لا يشهد شاهد في خصومتين بلفظةٍ واحدة، وإذا أحلنا مشكلةً على كتاب، فليُنتظر إلى الانتهاء إلى ذلك الكتاب.
هذا تفريعٌ على تعدد الحد في اللعان.
9715- فأما إذا قلنا: لا يتعدد الحد، فهل يتعدد اللعان؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يتعدد، فليلتعن في حق كل واحدة منهن، وهذا هو المذهب الظاهر؛ لأن الحد، وإن كان متحداً، فالخصومات متعددة بتعدد الخصوم، وإذا تعددت الخصومات، فليتعدد أيمانها.
والوجه الثاني- أنه يكفيه لعان واحد في حقوقهن، فيذكرهن ويسمّيهن في حكم اللعان، ويحصل الغرض في حق كل واحدة منهن.
وهذا القائل يحتج بأن الزوج يُثبت بلعانه عليهن حقاً، هذا صيغةُ لعانه، ثم يندفع عنه حد القذف تبعاً، واليمين إذا كانت تُثبت حقاً، فلا يمتنع أن تُثبت حقوقاً كالبينة، فإنها قد تشهد على جمعٍ من الناس لشخص واحد.
وحقيقة هذا الخلاف يعود إلى أنا في أحد الوجهين ننظر إلى طلبهن الحدَّ، ونقدر الزوج مطلوباً من جهاتهن، فعلى هذا لابد من تعدد اللعان، وعلى الوجه الثاني نقدر الزوج مُثبتاً عليهن الزنا، فعلى هذا لا يمتنع اتحاد اللعان كالبينة تشهدُ على حقوقٍ مختلفاتٍ على خصوم.
فإن حكمنا بأن اللعان يتحد، فإذا اجتمعن الْتعن عنهن لعاناً واحداً، وإن لم يطلبن، وأراد الزوج أن يلتعن، وفرّعنا على أن اللعان يجري من غير طلب من جهتهن، فيكفيه أن يذكر جميعَهن في لعان واحد.
فإن قلنا: لا يجري اللعانُ من غير طلب، فلو لاعن مع طالبةٍ، وأراد ذكر اللواتي تخلَّفن عن الطلب، لم يكن له ذلك، فإذا جاءت أخرى، فلابد من التعان جديد معها، وهذا بمثابة ما لو الْتعن، فذكر واحدة، واقتصر على ذكرها، فإذا أراد أن يلْتعن مع أخرى، فلابد من لعانٍ جديد.
هذا كله تفريع على اتحاد اللعان عند فرض اجتماعهن وطلبهن.
فأما إذا حكمنا بتعدد اللعان، فلو اجتمعن ورضين بلعانٍ واحد، فالقول في رضاهن باتحاد اللعان-والتفريعُ على تعدده- كالقول بأن اللعان يتعدد تفريعاً على تعدد الحد، وقد ذكرنا هذا في صدر الفصل.
9716- ومما نذكره متصلاً بهذا أنهن إذا ازدحمن وتشاحَحْن، وطلبت كل واحدة منهن البداية، فيقرع بينهن قال الشافعي: "لو بدأ القاضي بواحدة منهن من غير قرعة رجوت ألا يأثم " فاختلف أصحابنا: فمنهم من جعل هذا ترديد قولٍ، ثم هذا يجري في الخصوم إذا ازدحموا، كما سيأتي ذكره في كتاب أدب القاضي.
ومن أئمتنا من خصص هذا التردد بالقذف واللعان في الصورة التي ذكرناها؛ من حيث اعتقد أن الأمر قريب والخصومة متجانسة.
9717- ثم قال: "فلو أقر أنه أصابها في الطهر الذي رماها فيه... إلى آخره".
إذا أراد نفيَ الولدِ المتعرضِ للثبوت باللعان، فله ذلك، كما قدمناه، فلو اعترف بأني وطئتها، ولم يدّع استبراء بعد الوطء، وقد أتت بالولد لزمان يُحْتَمل أن يكون العلوق به من الوطء الذي اعترف به، فله أن ينفي الولدَ باللعان-وإن لم يدّع بعد الوطء استبراءً- خلافاً لمالك؛ فإنه قال: إذا اعترف بالوطء، لم يكن له أن يلاعن حتى يدّعي الاستبراء بعد الوطء، فإذا ادعاه، كان له الالتعان، ويكفي الدعوى، فلا حاجة إلى إثبات الاستبراء بإقامة البينة على إقرارها به.
ثم لما ذكر الشافعيُّ مذهبَ مالك قال: وقد نجد لمذهبه متعلقاً من قصة العجلاني؛ فإنه لما قذف امرأته بشريك بن السحماء، قال فيما قال: لم أقربها في الطهر الذي زنت فيه، فكان ذلك ادّعاء استبراء منه. ثم أجاب الشافعي بأن العجلاني إنما قال ما قال، اتفاقاً، لا أنه شرط، فليس كل ما أجراه العجلاني يجب أن يُعتَقَدَ شرطاً؛ فإنه سمى المدَّعَى به، وذكر أنه ما أصابها منذ أشهر، وتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوصاف المولود فقال: إن جاءت به أُدَيعج خَدَلّج الساقين، فلا أراه إلا وقد صدق عليها، وكل ذلك مما لا يشترط.
ومن تمام كلام الشافعي أنه قال: ولا معنى للاستبراء في انتفاء الولد؛ فإنها قد ترى الدم على الحَبَل، وإن اختلف العلماء في أنها حيض أم فساد. فأشار بهذا إلى أن الاستبراء وإن جرى، فلا يمتنع أن يكون العلوق من الزوج.
9718- وهذا منتهى كلام الشافعي في التفصيل، وفيه غائلةٌ عظيمةُ الوقع، وذلك أنا قدمنا أن الرجل إذا وطىء امرأته في طهرٍ، لم يستبرئها، ثم عاينها تزني في ذلك الطهر، ولم يتخلل استبراءٌ، فإذا أتت بولدٍ لزمانٍ يُحْتَملُ أن يكون العلوق به من وطئه، ويحتمل أن يكون العلوق به من الزنا، فلا يحل له نفي المولود والحالة هذه، وإنما يَنْفي المولودَ إذا استبرأها بعد الوطء، وجرى الزنا بعد الاستبراء، وأتت بالولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من وطء الزوج ومن السفاح؛ فإذ ذاك نقول: له أن ينفي، وذكرنا تردداً في وجوب النفي وجوازه، وقد قال الشافعي في هذا الفصل ما قال.
فإن حمل حامل كلامه في هذا الفصل على أن الاستبراء لا أثر له، واعتضد بقول الشافعي في آخر الفصل: "لا معنى للاستبراء في نفي الوليد"، فيكون مضمون هذا الفصل مخالفاً لما قدمناه لا محالة، ويجب على قياسه أن يكون له النفي إذا جرى الزنا-وإن لم يتخلل استبراء- إذا أمكن أن يكون العلوق من ذلك الزنا.
وهذا ليس بعيداً من جهات الاحتمال لو كان مذهباً لذي مذهب.
ويجوز أن يقال: ليس يحل له أن يلتعن إذا لم يجر استبراء بين الوطء والزنا، بينه وبين الله، ولكنه إذا جاء يلتعن، فليس عليه أن يذكر أني استبرأتها؛ وذلك أنه لو ذكر هذا، لكان مدّعياً في ذكره، ولو مست الحاجة إلى ذكره، لمست الحاجة إلى إثباته، والقذف في اللعان يبتني على لوب لا يجب إظهاره للقاضي، ولكنه مرعي في حق الزوج بينه وبين الله، واللوث الذي يجب إظهاره لوثُ الدم في أيمان القسامة.
والشافعي كرر في الفصل تعرضَ الزوج لذكر الاستبراء، وأبان أنه لا يجب ذلك، ولولا قوله في آخر الفصل: "إن الاستبراء لا أثر له"، لكنا نقطع بأنه أراد بما قال أن الزوج لا يلزمه ذكر الاستبراء، ولكن خَتْمُ كلام الشافعي ما ذكرناه من إسقاط أثر الاستبراء.
فانتظم من هذا إشكال، والظاهر الذي ذكره الأئمة: "أنه لا يحل نفي النسب إذا جرى وطء في الطهر وزِناً بعده، ولم يتخلل بينهما استبراء"، ولكن وإن كان كذلك، فلا يجب على الزوج ذكر الاستبراء، خلافاًً لمالك، فإنه أوجب الذكر، وما احتج له الشافعي ولكن تعلق بقصة العجلاني وأنه ذكر الاستبراء.
هذا هو الظاهر.
9719- ولا يمتنع أن يقال: يجوز نفيُ الولد، وإن لم يجر استبراءٌ؛ تعلقاً بنص الشافعي في الآخِر، ثم هذا لو كان مذهباً لا يعدِم ناصره تعليلَه بما ذكره الشافعي من أن الاستبراء لا أثر له؛ فإنه لا يفيد القطعَ، وإذا لم يُفد، فالاحتمال كافٍ في إلحاق النسب، فإن لم نشترط الاستيقان، فلا معنى لترجح ظن واستواء احتمالين في نفي النسب، مع ابتناء القاعدة على أن النسب يَعْتَمِد أدنى إمكان.
ويعتضد هذا أيضاً بما نصفه، ونقول: إذا وطىء الرجل زوجته في طهر، ثم وطئها واطىء بشبهة في ذلك الطهر، فما وقع من اللبس يدرؤه القائف، فإذا جرى زناً ووطءٌ، فلا قائف، واحتمال النسب مع تلطيخ الفراش عظيم،-والانتساب إلى الآباء ليس أمراً مقطوعاً به، فلا يبعد أن يثبت اللعان-.
هذا منتهى الإمكان. والتعويل على المسلك الأول.
فصل:
قال: "ولو زنت بعد القذف أو وُطِئَت وطْئاً حراماً... إلى آخره".
9720- هذا الفصل مضمونه التعرض للحصانة، وهو من الأصول، وقد كثر فيه الخبط على ظهوره، فنقول والله المستعان: نشترط أن يكون المقذوف بالغاً، عاقلاً، حراً، مسلمة، عفيفاً من الزنا.
هذا معنى الإحصان في المقذوف؛ فإن القذف جنايةٌ على العرض، وإنما يكمل العرض عند تجمع هذه الصفات، وغرضُنا من جميعها الكلامُ على العفة من الزنا، فنقول أولاً: إذا زنى الشخص، وثبت زناه بالبيّنة أو بإقراره، فهذا شخص لا عِرْضَ له، وكأن أصل العرض العفةُ من الزنا، وبقية الصفات في حكم التكميل له؛ فإن القذف نسبةٌ إلى الزنا، وإنما يتعيّر بالنسبة إلى الزنا عفيفٌ عنه، فأما الزاني فيخجل من ذكر الزنا، فقال العلماء: من قذف زانياً، لم يستوجب الحد بقذفه. نعم، يستوجب التعزير بإيذائه.
ثم ذكر القاضي أن من زنا مرة واحدة في عنفوان شبابه، ثم تاب وأناب، وصار من أعف خلق الله، وأزهد عباده، فلا حدَّ على من يقذفه، وإن تمادى الزمن، ونيّف على المائة. وكذلك القول فيما إذا زنت مرّةً ثم قُذفت.
وهذا دعوى عريضة، وما أراها تَسْلَمُ عن الخلاف؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبةُ تمحو الذنبَ، وتردُّ العدالةَ، وما يخرِم المروءةَ إذا تُرك، عادت المروءة، وانجبر ما كان فيها من خرم، وإذا كنا فسّقنا الرجل لزناه، ثم لما تاب واستبرأناه، قبلنا شهادته وعدَّلناه، فهذا عَوْد إلى الاعتدال والكمال، وما العرض إلا نباهةٌ تسمى الجاه، ولا شك أن من يُخْرَم جاهُه، فقد يعود إلى ما كان عليه، ولم أر هذا التصريح على هذا الوجه في شيء من كتبنا.
ثم ادّعاء القاضي فيه الوفاقُ مع أبي حنيفة وجَرْيٌ معه في معارضات في مسألة سنذكرها الآن.
ومن أهم ما يجب الاعتناء به أن العفة عن الزنا لا يُنحَى بها نحو التعديل، فإذا كان الأمر كذلك، ثم التائب من الزنا يعدّل إذا حسنت حالته، وظهر عدالته، فكيف يسوغ القطع بتأبّد سقوط الحصانة، ولو لم يكن فيه إلا تهدّف الإنسان لشتيمة الخلق من غير أن يحاذروا حدّاً رادعاً، لكان في هذا كفايةٌ في إيضاح ما ذكرناه من الاحتمال.
9721- ووجدت الطرق متفقةً على أن من رأيناه يراودُ ويشبِّب ويحوّم على طلب الزنا، ولم يثبت منه الزنا، فهو مُحصَنٌ في القذف، فلا أثر للمراودَات والمقدِّمات.
9722- ومما يليق بما نحن فيه أنه لو قذف شخصاً والتزم الحدّ في ظاهر الحكم، ثم زنى المقذوف قبل إقامة الحد، قال الشافعي: يسقط حدُّ القذف، فإنا نستبين بصدور الزنا منه سقوطَ عِرْضه، وقيل: "أتُي عمرُ بنُ الخطاب بزانٍ، وقُدِّم لإقامة الحد، فقال يا أمير المؤمنين: إن هذا مني لأول مرة، فقال: كذبتَ إن الله أكرم من أن يفضح عبده بأول جريمة".
هذا نصُّ الشافعي.
وقال المزني: لا يسقط الحد بطريان الزنا، وكنا نقدّر هذا تخريجاً في المذهب، فرأيتُ للشيخ أبي علي في شرح التلخيص أن هذا قولُ الشافعي في القديم، فانتظم إذاً قولان:
أحدهما: وهو الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الحد يسقط، ولا فرق بين أن يقرب الزمان المتخلل بين القذف والزنا وبين أن يبعُدَ ويَتَمادَى.
وفي المسألة قولٌ آخر-على ما حكاه الشيخُ، وهو منسوبٌ إلى القديم- أن الحد لا يسقط.
9723-ولا خلاف أن المقذوف إذا ارتد، لم يسقط الحد عن قاذفه بردّته، وفي الفرق بين الردة وبين الزنا عُسرٌ؛ فإن الزنا إن دلّ على إضمار خبث فيما سبق، حيث إنه لا يتفق الهجوم على الزنا من غير إضمار ذلك فيما تقدّم، فكذلك الردة، لا يُظهرها المرء إلا وقد سبقت منه ترددات.
فمما قيل في الفرق أن الردة لا تصدِّق القاذف في معنى القذف، والزنا يصدقه في معنى القذف على الجملة، وهذا يؤول إلى أن أصل العِرض يُتلقى من عدم الزنا، وباقي الصفات تكميل للعِرض.
ثم قال القاضي: الزنا المتقدم على القذف يؤثر في إسقاط الحد، وكذلك الزنا المتأخر، ولو ارتد الرجل، أو كان كافراً أصلياً، ثم أسلم، وقُذف، وجب الحد على قاذفه، فلما افترق الكفر والزنا إذا تقدما، فلا يمتنع أن يفترقا إذا تأخرا.
هذا كلامُ القاضي وتصرفُه.
وفي النفس شيء من الزنا المتقدم، وقد ذكرنا صدراً صالحاً فيه، ونحن نزيده إيضاحاًً وتفصيلاً، فنقول: إذا سبق الزنا، فقال القاذف: قد زنيتَ، وصرح بما سبق منه، فلا شك أنه ليس بقاذف، وإن قال: زنيتَ مطلقاً وتردّد لفظه، فالوجه القطع بأن الحد لا يتوجه عليه أيضاًً.
فإن قال: زنيتَ اليومَ، وكان تقدم منه الزنا منذ سنين، فهذا موضع النظر، فالقاضي قاطع بأن الحد لا يلزم.
ويظهر عندنا الحكمُ بلزوم الحد، إذا ظهرت التوبةُ وقُبلت الشهادة، قَبْل الزنا المذكور في صيغة القذف، وإذا كنا نذكر قولاً في الزنا بعد القذف، فهذا يهوّن أمر ارتفاع حكم الزنا السابق بالعفة اللاحقة.
وكان شيخي يقول مفرعاً على أن الزنا بعد القذف يُسقط الحد: هذا دليل على أن مقدمات الزنا إذا ظهرت، قدحت من العفة، ووجهُ الاستدلال أن الزنا المتأخر لا يدل على زناً آخر مقترنٍ بالقذف أو متقدم عليه، وإنما يدل على أن الزنا لم يقع فجأة، وإنما تقدمت عليه مقدمات.
وهذا ظنٌّ لا تعويل عليه، ولم يصر أحد من الأصحاب إليه، ولكن الزنا يُسقط العفة، ويبين أن الرجل عديمُ العِرض، وإن لم تسبق منه مراودة، فهذا ما يجب تنزيل المذهب عليه.
9724- وقد حان الآن أن نتكلم في جهات الوطء وما يؤثر منها في العفة وما لا يؤثر.
والوجه أن نرسُمَ مسائلَ نأتي بها أرسالاً، ثم نذكر بعد نجازها ضوابطَ، فنقول: أما الزنا الذي يوجب الحد، فلا شك أنه يخرِم العفةَ ويُبطلها، ولو وطىء أخته من الرضاعة أو النسب في ملك اليمين، فإن قضينا بأن الحد يجب، وهو أحد القولين، فتبطل العفة لا محالة، وإن قلنا: لا يجب الحد لشبهة الملك، ففي سقوط العفة وانهتاك العرض وجهان:
أحدهما: أن العفة لا تسقط، فإن المرعيّ العفةُ من الزنا، وهذا الذي صدر منه ليس من الزنا.
والوجه الثاني- أن العفة تسقط؛ فإن من وطىء أختَه على علمٍ بالمحرّم، تبين أنه لا يتحاشى من الزنا؛ فإن النفوس أبعد عن احتمال اقتحام هذه الكبيرة مما هو زنا محض في أجنبية، فليس لمن وصفناه عِرضٌ وتماسُكٌ يحفظ عليه نباهتَه وجاهَه، أو تورعه عن هذا التردّي.
وإذا وطىء الأب جاريةَ ابنه، أو وطىء أحد الشريكين الجارية المشتركة، والتفريع على أن لا حد، ففي بطلان الحصانة وسقوط العفة وجهان مرتبان على الوجهين المقدّمين في وطء ذوات المحارم، والصورة الأخيرة أولى بأن لا تسقطَ العفةُ فيها؛ فإن أحد الشريكين يتوصل إلى نقل ملك شريكه إلى نفسه بطريق الاستيلاد، وإذ ذاك يثبت الحِلّ، وذوات المحارم لا تستحل، وجارية الابن في حق الأب تقع في مرتبة الجارية المشتركة في حق أحد الشريكين.
ولو نكح الشافعيُّ بغير وليٍّ مخالفاً عقده، وألمّ بالمنكوحة، ففي سقوط الحصانة بهذه الجهة وجهان مرتبان على المسألة الأخيرة، وهذه المسألة أولى بأن لا تُسقط العفة، فإن الحل في المنكوحة بغير وليٍّ مختلف فيه، وليس في المسألة إلا أنه خالف عقد نفسه.
ولو وطىء بشبهة في نكاح فاسد أو على ظن زوجية، ففي سقوط العفة وجهان مرتبان على المسألة الأخيرة قبلها، وهذه أولى بأن لا تسقط العفة فيها؛ فإن صاحب هذا الوطء ليس ملوماً في عقده، ولا تسقط عدالته بما جرى منه.
فإن قيل: قد طال الترتيب، فما وجه إسقاط الحصانة والرجل معذور؟ قلنا: هذا محمول على ترك التحفظ، وقد تعلّق بترك التحفظ ما نعلّقه بالهجوم على المحرّم، وهذا كمصيرنا إلى أن القتل المحرَّم يُحرِّم الميراثَ، ثم ألحقنا به القتلَ الواقعَ خطأً.
وألحق أئمتنا بهذه المرتبة ما لو جرت صورة الفاحشة في حالة الصِّبا، وهذا أبعد الصور، وإن لم يكن من الخلاف فيها بدّ، فَلْترتب على وطء الشبهة من المكلّف، والفارق سقوط التكليف عن الصبيان بالكلية، فلا لوم، ولا توبيخ، والواطىء بالشبهة قد يتعرض لترك الأمر بالتحفظ.
فأما الوطء في حالة الحيض والإحرام، فالذي قطع به الأئمة أجمعون أنه لا يؤثر في خرم الحصانة.
وحكى القاضي فيه وجهاً غريباً أنه يخرِم عند بعض الأصحاب، وهذا بعيدٌ، لا احتفال به، وليس معدوداً من المذهب.
9725- وإذا جمعنا المسائل وفهمنا ترتب البعض منها على البعض، فأردنا أن نجمع ما في القاعدة بمسائلها من الأقوال، فنقول: انتظم من المسائل ومراتبها أوجه: أحدها: أنه لا يُسقط العفةَ إلا ما يوجب الحد.
والثاني: أنه يُسقطها ما تقدم، ووطءُ ذوات المحارم.
والثالث: يسقطها ما تقدم، ووطء الأب والشريك.
والرابع- يسقطها ما تقدم والوطء في النكاح على خلاف العقد، وإن أحلّه بعض العلماء.
والخامس- يسقطها ما تقدم ووطء الشبهة من المكلف.
والسادس- يسقطها ما تقدم ووطء الصبي أيضاً.
وأما وطء الحائض والوطء في زمان الإحرام، فخارج عن القانون.
ولا أثر لمقدمات الوطء أصلاً، وما حكيته عن شيخي محمول على ترديد الاحتمال، فهذا قول بالغ فيما يُسقط العفة، وفيما لا يسقطها.
فصل:
9726- ثم قال: "ولو لاعنها، ثم قذفها، فلا حدّ لها... إلى آخره".
مضمون هذا الفصل يَبِينُ بفرض مسائلَ تقع نوعين:
أحدهما: في قذف الزوج.
والثاني: في قذف الأجنبي.
أما مسائل قذف الزوج فنقول: إذا قذف الزوج زوجته وتلاعنا، فلا يخفى حكم هذا القذف، وإنما مقصود الفصل ما يقع من قذفٍ بعد هذا، فنقول: إذا قذفها بعد التلاعن، لم يخل: إما أن يقذفها بذلك الزنا الذي جرى التلاعن عليه، وإما أن يقذفها بزنية أخرى، فإن قذفها بتلك الزنية، فلا يستوجب الحدَّ؛ فإنه أقام الحجة على تصديق نفسه، ولكن انْدرأ الحدّ عنها بلعانها. نعم، يُعزّر الزوج لإيذائه إياها.
ولو قذفها بزنيةٍ أخرى بعد تلك الزنية، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن الحد لا يجب؛ لأن الزوج أقام الحجةَ على زناها، فسقطت حصانتها في حقه.
والقول الثاني- أن الحد يجب؛ فإن تلك الحُجةَ ما أَثْبَتت الزنا على الإطلاق، وإنما أثبتت تصديق الزوج في ذلك القذف المعيّن، ثم إن انخرم عِرضُها بلعانه، فقد تداركه لعانها.
ومن أصحابنا من قطع القول بوجوب الحد على الزوج إذا نسبها إلى زنية غيرِ الأولى لما ذكرناه من أن اللعان حجةُ خصوص، وإذا عورض الزوج باللعان، لم يبق للعانه أثر إلا إسقاط حد القذف الأول، وإلا فلعانها في تبرئتها لا ينحط عن لعانه في نسبتها إلى الزنا.
ولو قذفها بعد اللعان بزناً قبل اللعان، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- أنه يحد؛ فإن اللعان لم ينعطف على ذلك الزنا.
والوجه الثاني- أنه يعزر كما لو قذف شخصاً، ثم أقام على زناه بيّنة، وهذا فيه إذا لم يَعْنِ بقذفه الزنا الذي عناه من قبلُ ولاعن عليه.
ولو تلاعنا، ثم قذفها بعد التلاعن، ولم ينصّ على زنيةٍ جديدة، فهذا عندي بمثابة ما لو قذفها بتلك الزنية التي جرى التلاعن عليها، هذا إذا تلاعنا.
9727- فأما إذا لاعن الزوج وامتنعت عن اللعان، وأقمنا عليها حدَّ الزنا، فلو قذفها بعد ذلك بذلك الزنا، فلا يخفى الحكم فيه، والإيذاء محقق وموجبه بيّنٌ.
ولو قذفها بزنية أخرى سوى الأولى، فهذا فيه وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه لا يجب الحد؛ فإنه ثبت زناها في حقه، وأقيم الحدُّ عليها، فسقطت عفتها في حقه بالكلية.
ولو قذفها الزوج وامتنع عن اللعان، فيتوجه عليه حد القذف، فإذا قذفها مرة أخرى بتلك الزنية، فالحد واحد، وإن قذفها بزنية أخرى، فهذا محل اختلاف القول في قذف شخص واحد بكلمات، وقد تمهد هذا.
وانتجز ما أردناه في أحد النوعين، وهو قذف الزوج بعد التلاعن أو قبله.
9728- فأما مسائل الأجنبي، فإنا نأتي بها على التفصيل الذي ذكرناه، فنقول: إذا تلاعنا، ثم قذفها أجنبي بزناً آخر غيرِ الذي لاعن الزوج عليه والتعنت في معارضته، التزم الحد؛ فإن اللعان لم يغيّر حصانتها في حق الأجانب، ولم يثبت عليها الزنا في هذه الصورة، فإنها مفروضة في تلاعنهما.
ولو قذفها الأجنبي بالزنا الذي جرى التلاعن عليه، فالمذهبُ الظاهر أنه يلتزم الحدَّ، لما ذكرناه من أن الزنا لم يثبت، إذ عارضته بلعانها، ولكن اندفع حد القذف عنه لحجةٍ خاصة أقامها الشرع له على الخصوص، فلا يتضمن ذلك سقوطُ الحد عن الغير.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الأجنبي الحدُّ إذا قذفها بالزنا الذي وقع التلاعن عليه؛ لأنه جرى في الواقعة حجةٌ على الزنا لأجلها انتفى الحد عن القاذف به، فلينتصب ذلك شبهة في حق الأجنبي إذا قذف بذلك الزنا.
هذا إذا تلاعنا.
ولو لاعن الزوج، وامتنعت من اللعان، وحُدّت حدَّ الزنا، فترتيب المذهب أن الأجنبي إن قذفها بزنا آخر غيرِ الذي نسبت إليه وحدت فيه، ففي وجوب حد القذف عليه وجهان: أظهرها- أنه يستوجب الحد؛ لأن الأحكام المتعلقة باللعان لا تعدو الزوجين والزوجية؛ من جهة أن اللعان حجةٌ خاصة، فاختص أثرها.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر أن الحد لا يجب على القاذف؛ فإنها حُدّت في الزنا، فإذا وقع الحد بها، فلا نظر إلى خصوص الحجة، فيبعد إقامة حد القذف والمقذوفة محدودة في الزنا. هذا إذا وقعت النسبة إلى زناً غيرِ ما حُدت فيه.
فأما إذا قذفها الأجنبي بالزنا الذي حُدَّت فيه للِعانه وامتناعِها، ففي وجوب الحد عليه وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا نسبها إلى زنية أخرى غيرِ الذي حُدت فيه، وحد القذف أولى بالاندفاع في هذه الصورة.
هذا ما ذكره الأئمة.
وقطع القاضي بأن الأجنبي يستوجب حدّ القذف إذا نسبها إلى غير ما حُدت فيه وجهاً واحداً. وإن نسبها إلى ما حُدت فيه وجهان: أظهرهما- وجوب الحد، وعلل هذا بتحقيق اختصاص اللعان وأثره.
فهذا تفصيل القول في قذف الزوج والأجنبي بعد جريان اللعان.
فصل:
قال: "ولو شُهد عليه أنه قذفها... إلى آخره".
9729- فإذا ادعى محصنٌ على رجل أنه قذفه، فأنكر، وأقام المدعي شاهدين، فإن كانا عدلين، ابتدر القاضي تنفيذ الحكم، وأسعفَ الطالبَ بقامة الحد، وإن كان ظاهرهما السداد، ولكن القاضي كان جاهلاً بحقيقة الحال، فإنه يبحث عن أحوالهما ويراجع المزكِّين. قال الشافعي: "ويحبس المدعَى عليه إلى أن تبين عدالةُ الشاهدين أو جرحهما " وهذا هو الذي قطع به أئمة المذهب.
ووجدت في بعض الطرق رمزاً إلى أن المدعَى عليه لا يُحبس، وسيأتي ذكره في كتاب الدعاوى، إن شاء الله، ووجهُه على بعده أن الحق لا يتوجه إلا بظهور العدالة، والحبسُ في الحال إقامةُ عقوبة.
والتعويلُ على ظاهر المذهب.
ولو أقام المدعي شاهداً واحداً، وهو مُشمّرٌ لإقامة شاهدٍ آخر، وطلب من الوالي حبسَ المشهودِ عليه إلى قيام الشاهد الثاني، ففي المسألة وجهان- وفي نص الشافعي تردد- نشير إليهما:
أحدهما: أنه لا يحبس؛ لأن الشاهد الواحد ليس بحجة، وليس كالشاهدين إذا جهل القاضي حالَهما؛ فإن العدالة إذا بانت، تبين لظهورها قيامُ الحجة مستنداً إلى وقت الشهادة، لكن علم القاضي لم يكن محيطاً بحقيقة البيّنة، والحبس في الأمر القريب لائقٌ بمسالك السياسة صيانةً للحقوق عن البطلان، وإذا استُعدي الوالي على شخص، فالارتفاع إلى مجلسه قد يُتْعِبُه، وذلك قبل ثبوت الحق، ولكن لابد من احتمال ذلك، فلا تقوم الإيالة دونه.
والوجه الثاني- أنه يُحبس، لأن الخَصْم ساعٍ في إكمال البينة، وقد لا يتفق حضور الشاهدين معاً، ولو خلَّينا المدَّعى عليه، لولّى، وغيّب وجهه عنا، ثم إن لم يأت المدعي بالشاهد في الزمان الذي يتوقع في مثله إكمال البينة، خلّينا سبيل المدعى عليه.
وهذا الفصل من أركان البينات والدعاوى، والوجهُ تأخيره إلى موضعه، ولكن التزام الجريان على ترتيب السواد قد يقتضي مرامزَ إلى مقدماتٍ، ولا ينبغي للناظر المنتهي إلى ما يُذكرُ بحق السواد أن يطلب تحقيقَ الفصل منه، فهذا مما يحال على كتاب الدعاوى والبينات.
9730- ومما نرمز إليه لانتظام الكلام أن من ادعى دَيْناً على إنسان، وأقام شاهدين وأقبل القاضي على البحث ومراجعة المزكِّين، فالمذهب أن المدّعى عليه يحبس كما إذا كان المدَّعى حدّاً: قذفاً أو قصاصاً؛ فإنا إذا رأينا الحبسَ تفريعاً على الأصح في العقوبات، وشأْنُها الاندراءُ بالشبهات، فهذا في الأموال أولى.
وقال الإصطخري: لا يحبس المدعى عليه في المال، وإن رأينا الحبس في حد القذف والقصاص؛ لأن الحق المدَّعَى فيه يتعلق ببدن المدعَى عليه، فلو تركناه والأغلبُ أن يغيّب وجهه حِذاراً من وقوع العقوبة به-لأدى هذا إلى تعطيل الحق، وليس كذلك الدَّيْن المدعَى، فإنه يتصور استيداؤه مع غيبة المدعى عليه.
ولو كان المدَّعى عيناً من الأعيان، وقد قام شاهدان، فالقاضي يحول بين المشهود عليه وبين العين المدعاة؛ فإن الحق ينحصر فيها انحصاره في بدن من ادُّعيت عليه العقوبة.
ولو أقام المدعي للدين شاهداً واحداً، والتفريعُ على أن المدعَى عليه يُحبس إذا شهد شاهدان، فهل يحبس والشاهد واحد، فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا شهد شاهد واحد على قذف أو قصاص، والشهادة على المال في هذه الصورة أولى باقتضاء الحبس، والسببُ فيه أن الشاهد الواحد يتيسر ضمُّ اليمين إليه في المال، فهو أقوى من الشاهد الواحد في العقوبة.
وقد يعارض ذلك أن الحلف مع الشاهد إذا كان ممكناً، فيجب أن يقال للمدعي: أنت متمكن من إثبات حقك باليمين، فإذا حلفت ثبت حقك، فافعل هذا، أو خلِّ فصل:
وهذا الكلام فيه فقهٌ، وإذا عارض ما قدمناه في الترتيب، أسقطه.
9731- ولو شهد شاهدان أو شهود على موجِب حدٍّ لله تعالى، فلا يحبس المشهود عليه إلى إثبات عدالة الشهود، فإن حقوق الله في العقوبة على المساهلة، ولهذا يُقبل رجوعُ المقِرِّ عن الإقرار بها، وقد نقول: إذا هرب من يثبت عليه الحد لا يتبع، وقد تسقط الحدود بالتوبة.
وهذا الفصل سيأتي مستقصى مرتباً في كتاب الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل.
9732- ثم قال: "ولا يُكفَل رجل في حدٍّ ولا لعانٍ... إلى آخره".
ذَكَر كفالةَ الأبدان في العقوبات، وقد استقصيناها في كتاب الضمان.
وقال بعده: "لو قال: زنى فرجُك أو يدُك، فهو قذفٌ... إلى آخره " وهذا مما قدمنا ذكره، وذكرنا أن النص دال على أن إضافة الزنا إلى غير الفرج من الأعضاء صريح، وفيما قدمناه بيان تام.
ثم قال الأئمة: الألفاظ المستعملة في هذا النوع أقسامٌ: قسم هو صريح، وهو لفظ الزنا مضافاً إلى الجملة، أو إلى الفرج، أو الألفاظ الناصّة على المعنى كالنيك، ولفظ الإيلاج مع التصريح بالوصف بالتحريم المطلَق، وانتفاءِ الشبهة.
وقسم هو كناية: إن أراد اللافظُ به القذفَ، كان قذفاً، وإلا فلا.
ومن جملته قولُ القائل: زنى يدُك، على الأصح. ولستَ بابنِ فلان، وكذلك إذا قال لعربي: يا نبطي، أو لنبطيّ يا عربي.
ومن الأقسام ما ليس بكناية ولا صريح، ولكنه تعريضٌ، كقول القائل لمن يخاطبه: يابن الحلال، وقوله أما أنا، فلست بزانٍ، وقال مالك التعريض بالقذف قذفٌ، ثم ألطف الشافعيُّ في محاجّته، فقال أباح الله التعريضَ بالخِطبة، وحرم التصريحَ بها؛ فدل ذلك على أن التعريضَ خلافُ التصريح، وقال: روي أن رجلاً من فزارة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، وعرّض بأنها أتت به من زنا، فقال عليه السلام: «هل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «ما لونها» فقال: حُمْر، فقال: «هل فيها من أسود»، فقال: نعم، قال: «ولم ذلك؟» فقال: لعل عرقاً نزعه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لعل عرقاً نزعه» ولم يجعله قذفاً.
9733- ثم قال: "ولا يكون اللعان إلا عند السلطان... إلى آخره " إذا تلاعن الزوجان وحدهما لا يتعلق بتلاعنهما حُكمٌ، فإن حكّما رجلاً صالحاً، ففي أصل جواز التحكيم قولان. وإن جوزناه، ففي تجويزه فيما يتعلق بالعقوبات وجهان، وكل ذلك بين أيدينا؛ فلا معنى للاستقصاء فيه، وإنما فرقنا بين العقوبات وبين عفوها طلباً لدرائها.
ثم العقوبات تترتب: فمنها ما يجب لله، ومنها ما يجب للآدميين.
وما يجب لله تعالى أولى بأن لا يجرى التحكيم فيه، ثم إن اللعان يترتب على ما إذا كان المطلوبُ الحدَّ المحضَ، ووجه الترتيب أن اللعان قد يتعلق بثالث، وهو الولد، ومبنى التحكيم على ترتبه على رضا الخصمين.
ثم إن استخلف القاضي من يُجري اللعان بحضرته، نُظر: فإن نَصب حاكماً في أمور، وكان فَوّض إليه أن يستخلف، فيجوز ذلك، وقد قام مقام قاضٍ، وإن لم يَنصب حاكماً، أو ما كان فَوّض إليه أن يستخلف، فلو استناب من يعوِّل على مثله في أمر خاص: مثل أن يقيمه مقام نفسه في طرفٍ من خصومة، أو في خصومةٍ فَرْدة، ففي جواز ذلك وجهان:
أحدهما: لا يجوز، ولا ينفذ منه ما فَوَّضَ إليه، فإنه ليس قاضياً بنفسه، وإنما ينفذ حكم الحاكم. وهذا من أصول أدب القاضي، وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله.
فرع:
9734- إذا قذف رجلاً أو امرأةً، وتوجه الحدّ، فلو قال للمقذوف: لا بينة لي على زناك، ولكنك تعلم أنك زانٍ، فاحلف بالله ما زنيتَ، فهل عليه أن يحلف؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه لا يحلف؛ فإن القذف في نفسه موجِبٌ للحد، فإن أراد القاذف درءَ الحد، فليُقِم بيّنةً من تلقاء نفسه، وأيضاًً فالتحليف في نفي الزنا يتعلق بنفي كبيرة توجب حداً لله تعالى، فلا معنى للتحليف فيما هذا سبيله.
والقول الثاني- أن له أن يحلّف المقذوفَ لإمكان الصدق أو الكذب، وغرضُه نفيُ حدِّ القذف-عند فرض النكول- لا إثباتُ الزنا، ثم إذا نكل المقذوف، رَدَدْنا اليمين على القاذف، فيحلف على الزنا، ولا يثبت الزنا على المقذوف به، بل يندفع الحد.
فرع:
9735- ذكر الشيخ أبو علي في فصلٍ قدمناهُ وجهاً غريباً، لم أحب ذكره في ترتيب المذهب، ولست أرى أيضاًً إسقاطَه لعلُوّ قدر الناقل:
فإذا قال الرجل لامرأته: زنيتِ فقالت: زنيتُ بك، وفسرته بزنيةٍ جرت لها على زعمها قبل النكاح، فقد قذفت زوجها، واعترفت على نفسها بالزنا، ولا يخفى حكمُها لو أصرت على إقرارها.
ولو رجعت، قال الشيخ: أما حد الزنا، فيسقط عنها، وأما حدُّ القذف، ففي سقوطه عنها قولان:
أحدهما: أنه لا يسقط، وقياسه بيّن.
والثاني: يسقط؛ لأن الفعل المعتَرفَ به واحد، وإن وقع الإخبار عنه اعترافاً بالزنا من وجهٍ وقذفاً من وجه؛ فإذا فُرض الرُّجوعُ، وجب أن لا يتبعض، وقرّب هذا من إقرار العبد بسرقة نصاب؛ فإنه مقبولٌ في وجوب القطع، وفي قبوله بالمال قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى.
ووجه التشبيه اشتمال الإقرار على ما لا تُهمة فيه.
وهذا بعيد؛ فإنا قبلنا الإقرار في وجوب القطع، لانتفاء التهمة، وإلا فالقطع واردٌ؛ على ملك المولى، وهذا المعنى يشمل الطرفَ والمالَ المذكورَ في الإقرار، وأما الرجوع عن الإقرار، فقبوله من خصائص الزنا، ولا يشتمل هذا المعنى على حد القذف.
فصل:
ذكر الشيخ في شرح الفروع وجهاً غريباً في مسألة لم أحكه فيها لما ذكرته الآن، وذلك أنه قال: إذا بانت المرأة عن زوجها، فقذفها بعد البينونة، ولم يكن ثَمّ ولد، نُظر: فإن ذكر زنا بعد البينونة، حُدّ، ولم يلتعن، وكذلك إذا أطلق ذِكْرَ الزنا، ولم يؤرّخه.
ولو نسبها إلى زنية، وذكر أنها جرت في النكاح، فالمذهب المقطوع به أنه لا يلتعن. وحكى الشيخ وجهاً غريباً أنه يلتعن لإسناده الزنا إلى حالة النكاح، ولو جرى ما ذكر، لكان ذلك تلطيخاً للفراش.
فرع:
9736- إذا منعنا اللعان عن الحمل، فلو قال الزوج: دعوني ألتعن، فإن وافى اللعان حملاً، نفاه، وإن لم يكن، فإذ ذاك يتبين أن لعاني كان لغواً، فقد ذكر الشيخ وجهين عن ابن سريج في ذلك، وهذا مضطرب، فإنا إذا فرعنا على منع اللعان على الحمل، ففائدته المنع منه إذا كان بعد البينونة أو في نكاح شبهة، وإلغاء أثره إذا فرض في النكاح، وما أشار إليه من إعمال اللعان على وجهٍ هو تفريعٌ على جواز اللعان على الحمل.