فصل: باب: الإحداد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الإحداد:

9875- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» ومضمون الحديث باتفاق العلماء، إيجاب الإحداد على المتوفى عنها زوجها في مدة العدة، وتحريمُ الإحداد على غيرها إلا ثلاثَ ليالٍ، ونحن نذكر من يجبُ عليه الإحدادُ أولاً، ثم نذكر معنى تحريم الإحداد، ثم نبين وصف الإحداد.
والإحداد من الحَدّ وهو المنع، فالمحتدة ممتنعةٌ عن أسباب الزينة؛ وقال الأئمة: على المتوفَّى عنها أن تَحِد قولاً واحداً، فالرجعية لا تَحِد، فإنها في حكم الزوجات، فلا تحد، كما لا تحد الزوجة، والمطلقةُ البائنة هل يلزمها الإحداد؟ فعلى قولين:
أحدهما: يلزمها الإحداد؛ لأنها معتدة عن الزوج لا يملك الزوج رجعتها، فصارت كالمتوفى عنها.
والثاني: لا يجب عليها الإحداد؛ لأنها معتدة عن طلاقٍ فأشبهت الرجعية.
والمعنى الذي يليق بهذا الأصل أن المتوفى عنها متفجعة على فراق الزوج وذلك لائق بحالها، والبائنة مجفوّةٌ بالطلاق في غالب الأمر، لا يليق بحالها تكليفُ التفجع.
وهذا يناظر الترتيب المذكور في التعريض بالخطبة، فإنه جائز في عدة الوفاة، حرامٌ في عدة الرجعة، وفي جوازه في عدة البينونة قولان، وليس هذا التناظر لفظياً، ولكن بين الأصلين تناسب من جهة المعنى؛ فإن المتوفى عنها زوجها لا يليق بها وهي مفجوعة أن تتشوف إلى الطالب قبل انقضاء العدة، فلم يحرم التعريض معها.
والرجعية زوجة، وسلطنةُ الز وج مستمرة.
والبائنة مجفوّة فكان صَدَرَ هذا الترتيب قريباًً مما ذكرناه.
والتي ارتفع النكاح عنها بفسخ، اختلف الأصحاب فيها: فمنهم من ألحقها بالمطلقة المبتوتة، ومنهم من ألحقها بالموطوءة بالشبهة، ولا خلاف أن الموطوءة بالشبهة لا تَحِدّ في العدة، وكذلك أمُّ الولد لا تحِدّ إذا مات مولاها. فكأن بعض الأصحاب رأى أن النكاح زائل بجميع آثاره في حق المفسوخ نكاحها، وهذا ميل الأكثرين.
ثم إذا أوجبنا الإحداد، فلا فرق بين الحرة والأمة، والمسلمة، والذمية، والصغيرة، والكبيرة، والعاقلة، والمجنونة، وأبو حنيفة لا يوجب الإحداد على الذمية، ولا يثبته في الصغيرة والمجنونة.
ونحن إذا أثبتناه فيهما، أَمَرْنا الوليَّ يمنعها المحَدَّةَ عنه.
هذا تفصيل القول فيمن يلزمه الإحداد.
9876- وقد ذكرنا أن الإحداد يحرم بحكم نصّ الرسول صلى الله عليه وسلم على غير المعتدات، كما فصلنا القول فيهن؛ فإنه عليه السلام قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحِدّ على ميت فوق ثلاث» وهذا فيه سؤال وإشكال؛ فإن الإحداد اجتنابُ نوعٍ من الثياب، وتركُ استعمال الطيب، ولا يتحقق التحريمُ في ذلك لعينه، فالوجه صرف التحريم إلى القصد، فرب فعل يقترن به قصدٌ، فيحرمُ كالسجود بين يدي الصنم، لو اقترن به قصد التقرب، فالتعويل على القصد، ولكن المقصود يحرم مع القصد. وهذا على ظهوره لا يضر ذكره.
ثم رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإحداد ثلاثة أيام، فلعل السرّ في ذلك أن مخالفة الذمّي في إظهار التحزّن والرضا بالقضاء أولى بالمؤمن.
والإحدادُ في العدة ضربُ حَجْرٍ على المعتدات، حتى لا يشتغلن بالتزين للرجال.
وتسويغُ التفجع على القريب والحميم في الثلاث رخصةٌ من الله؛ فإن النفوس قد لا تطاوع، واغتلامُ الحزن ينكسر في الثلاث، وهي منطبقة على أزمان التعزية، وفيها باب ذكرناه في الجنائز، ثم هذا التحزن في هذه المدة لا يتخصص بالنسوة، ولا شك أنه رخصةٌ وتركه أولى، فإن الذي يقتضيه الدينُ استقبالُ القضاء بالرضا، والتلفّع بجلباب الصبر والاستسلام لأمر الله.
9877- وقد حان أن نذكر الآن الإحداد ومعناه، قال الشافعي: "وإنما الإحداد في البدن... إلى آخره".
أراد رضي الله عنه بما ذكر أن المرأة لو آثرت تزيين منزلها بالفرش، وكلفت خدمها تنقيته من الأذى، وأمرتهم بأن يأخذوا زينتهم، فلا بأس بشيء من ذلك، وإنما الإحداد يتعلق ببدن المرأة. والغرضُ الظاهر ألا تتزين للرجال بما يُشوِّف الرجال إليها لو رمقوها، ثم هذا يتعلق بالملابس واجتناب الطيب، فلو لبست ثوب زينة، كانت تاركةً للإحداد
9878- ونحن نذكر الآن تفصيل القول في الثياب: والنظرُ فيه ينقسم: فيقع في الجنس، وفي اللون.
أما الجنس، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنها لا تلبس ثياب الإبرَيْسم كيف فرضت، وتكون وهي مُحدّة بمثابة الرجل في اجتناب لبس الحرير، وقد ذكرنا ذلك في مواضع من الكتاب.
وقال العراقيون: لها أن تلبس الحرير إذا لم يكن مصبوغاً، واعتلوا بأن الحرير في حقها بمثابة سائر الثياب في حق الرجال، والأفقه ما ذكره المراوزة، فإنهن خُصّصن بلبس الحرير؛ لأنهن بمحل التزين للرجال، وهن في الإحداد ممنوعات عن التزين، فليرتفع ما خصّصن به للزينة.
ثم قال الأئمة: يحرم عليهن استعمال الحلي، ولم أر للعراقيين فيه ذكراً، والأليق بقياسهم التحريم؛ فإن الملابس لابد منها، والحلي لا تستعمل إلا زينةً. وما عندي أن التختم يحرُم عليهن، وهو حلال للرجال. نعم، يمنعن من التختم بخاتم الذهب؛ فإن ذلك مما خُصصن به زينةً لهن.
فأما ما عدا الإبرَيْسم من أجناس الثياب، فلا يحرم عليهن لُبسه في زمان الإحداد، كالكتان والقطن، والخَزّ إن لم يكن من الحرير، وكل ما يحل للرجال لُبسه في الرفاهية من أجناس الثياب، فلا يحرم على المُحِدّة لُبسه.
هذا قولنا فيما يتعلق بأجناس الثياب.
9879- فأما الكلام في الألوان، فالقول الضابط فيها، أن كل لون تُصبغ الثياب به طلباً للزينة، فيحرم على المرأة لُبس الثوب المتلون به، وكل ما لا يقصد بصَبْغ الثوب به الزينةُ، فلا يحرم على المُحدّة لُبسُ الثوب المتلون به، فالأَسْود الكَمِد، والاكْهب الكمِد، وما في معناهما لا يمتنع صبغ المُحِدَّة به، فأما الثوب الأحمر الخضِل البراق، والأصفر الفاقع، وما أشبههما فيحرم.
والمعنى المعتبر المطّرد في جميع الألوان: البرّاق المستحسَنُ في الملابس، ورب لونٍ كمِد يصقل الثوبَ المصبوغَ به فيُلْفى برَّاقاً، ولا يزداد بالصبغ إلا سماحة.
ثم لا فرق فيما نمنع ونجيز بين ما يصبغ بعد النسج وبين مايصبغ غزله وينسج مصبوغاً، وإنما الممتنع ما ذكرناه من قصد الزينة، وليس ذلك خافياً في الناس.
وعن أبي إسحاق المروزي أنه قال: الممنوع ما صبغ بعد نسجه، فأما ما صبغ غزله ونسج، فلا منع فيه، وإن كان حسن المنظر، وهذا الذي ذكره يُبطله الخبر، وقاعدة الباب.
أما الخبر، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى المحِدّة عن لُبس عَصْب اليمن»، وهي من برود حِبَرة، يصبغ غزلها ثم ينسج.
وأما قاعدة الباب فالنهي عن الزينة، وهذا لا يختلف بأن يصبغ الثوب منسوجاً، أو ينسج مصبوغاً، وقد يكون المنسوج من الغزل المصبوغ أحسنَ منظراً وأكثرَ رونقاً.
ولو صبغتْ ثوباً خَشِناً غليظاً بصبغ براق، فقد تردد صاحب التقريب في ذلك، ثم حكى قولين، وما ذكره محتمل؛ فإن الصبغ في نفسه وإن كان حسناً، فلا تحصل الزينة به ما لم يكن الثوب المصبوغ به على اقتصارٍ في الغلظ، فإذا فحشت الخشونة، وإن حسن اللون، لم يعدّ لابسه متزيناً، ويجوز أن يحمل منعه على الرائي من البعد، وهذا لائق بغرض الباب؛ فإن النسوة لا يخامرن الرجال، بل يَلُحْن لهم من البعد. فهذا بيان ما يتعلق بالملابس.
9880- فأما النوع الآخر، فهو ما يتعلق باجتناب الطيب، وما يدنو منه فالكلام في هذا يتعلق بقسمين:
أحدهما: اجتناب الطيب، ولا معنى لإطالة التفصيل فيه، فنقول: يحرم على المحِدة من هذا القبيل ما يحرم على المُحرِم، وقد تفصل ذلك في كتاب الحج على أبلغ وجهٍ في البيان.
والنوع الثاني- ما يتعلق بالزينة وإن لم يكن طيباً، كالاكتحال بما يَزِين، قال الشافعي: لا بأس باستعمال الكحل الفارسي، وهو فيما أظن إلى البياض ما هو، قال الشافعي إنه لا يزيد العين إلا مَرَهاً وقبحاً.
ونص في بعض المواضع على تجويز استعمال الإثمد، وأجمع الأصحاب على أنه قال في العربيات: ويغلب على ألوانهن السواد، ولا يبين الإثمد في أعينهن؛ فإنهن مع اخضرار ألوانهن على كَحَل ظاهر في الخلقة، لا يزينهن التكحّل، وإذا استعملت البيضاء الإثمد زانها، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلم وهي محِدّة على أبي سلم يعرّض بخطبتها، وكانت قد اكتحلت بالصّبر فقال صلى الله عليه وسلم: «ما هذا» فذكرت رمداً بعينها، وأنها عالجته بالاكتحال بالصبر، فقال عليه السلام: «افعليه بالليل وامسحيه بالنهار».
وإن كان بالمرأة رمد واحتاجت إلى استعمال كحل يزينها فيتحتم عليها أن تفعل ما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة.
وإن مست الحاجة إلى استعمال الكحل نهاراً، فلا بأس؛ فإن المعالجة إذا مست الحاجة إليها، خرج الاتحال عن كونه تزيُّناً، وكذلك إذا مست الحاجة إلى استعمال الطيب، فالأمر على ما ذكرناه.
9881- ولا ترجّل رأسها بالدّهن لما فيه من التزين. والنهي عن ذلك في باب الإحداد أقيس منه في باب الإحرام؛ فإن المحرم ليس ممنوعاً عما يتعلق بالتزين، وإنما يمنع من الطيب، ولا يتضح فيه معنىً.
وإن قال الإنسان-على بُعدٍ-: الطيبٌ داعيةٌ إلى الوقاع ناجزاً من غير ارتقاب تفزٍّ ومزيد شيء في الجبلّة، فهذا على بعده لا يجري في الترجيل. وإزالةُ الشعث والغبر ليست محرمة؛ فإن المُحرم يستحم ويتدلك ويزيل الوسخ، ولكن يثبت في الآثار إلحاقُ الترجيل بالتطيب.
والمرأة أمرت بالإحداد، حتى لا تتزيّن؛ فيبعد نهيها عن الطيب؛ ولا تزين فيه بُعْد نهي المحرم عن الترجل ولا تطيب فيه، والبابان على الجملة يتلاقيان.
ثم قال الأصحاب: المحرم ممنوع عن ترجيل لحيته بالدهن، كما أنه ممنوع عن ترجيل لِمّته، ثم قالوا: لو كان للمرأة لحية فرجّلتها بالدهن عَصَت ربها، فإن اللحية، وإن كانت تشينها، فالترجيل يغُضّ من القبح، هكذا ذكره الأصحاب.
9882- والمرأة ليست ممنوعة من التنظف، كالمحرم ولا حرج عليها إذا أزالت الوسخ عن نفسها، ومما لا تؤاخذ به الاستحداد، فإنها تتأذى لو لم تستحد تأذيها بالوسخ لو كلّفت استبقاءه، وليست هي محمولة في الإحداد على ضِرارٍ تحتمله، وإنما مقصود الإحدد أن لا تُدخل علمى بدنها تزيناً.
ولو أخذت تُجَعِّدُ الأصداغ وتُضَعِّف الطُّرَرَ، فلست أدري ما أقول فيه!! لا يمتنع أن يكون هذا من فن التزين بمثابة استعمال الحلي، وإن لم يكن من الملابس، ولا نص للأصحاب في هذا، والظاهر الاقتصار على المأخذ الذي نص عليه الأولون.
والتحلي باللآلىء فيه تردد عندي؛ من جهة أنه لم يثبت تحريم استعماله على الرجال، وإنما ورد نص التحريم في استعمال الذهب، فإذا لم تكن اللآلىء من خصائص زينة النساء، فليست في معنى الذهب ولكنها تزيّنٌ، وزينتها تزيد على زينة الإثمد.
وحق الناظر ألا يمشي بخَطْوه الوساع في أبواب التعبدات؛ فإن المعاني الكلية وإن كانت معقولةً مقبولة، فمحل التعبد يمنع الاسترسال في طريق المعنى.
ومن بحث عن جريان الأولين في التفصيل، ورُزق التوسع في الأخبار والآثار، فلا يلقى مذهباً لأئمة السلف إلا مستنداً إلى أثر، وآثار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الباب مستندها ما فهموه من الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر بالإحداد.
9883- ثم إذا أوجبنا الإحداد، فلو تركته، انقضت العدة، غير أنها تأثم إن اعتمدت الترك، وكيف لا يكون كذلك، ولو تبرجت وفارقت مسكن النكاح، فالعدة تنقضي عليها، مع تركها أصلَ حالة التربص.
وقد انتجز غرض هذا الباب ونحن نعقد الآن فصلاً في معنى لزوم المعتدةِ المسكنَ، وما يجوز لها الخروج لأجله.
فصل:
9884- المتوفى عنها زوجها والمبتوتة تلزمان مكان الاعتداد ولا يجوز للمتربصة أن تبرز لنزهة أو زيارة أو تجارة، وإنما تبرز لحاجة ظاهرة، ولا يُشترط انتهاءُ الحاجة إلى رتبة الضرورة، والزيارة في نفسها مقصودةٌ والغرض فيها واضح لائح، ولا يجوز الخروج لها، وكذلك التجارة، فلا يُعلّق جواز الخروج بالغرض، ولا يُشترط في جوازه الضرورة، والحاجة متوسطةٌ بينهما كما سنصفها، ونقرر القول فيها جهدنا، إن شاء الله.
فنقول: إن احتاجت إلى الخروج لحاجة تتعلق بالمطاعم والملابس ومؤنة السكن إذا استَرَمَّ، فإن وجدت من تستنيبه، فلتفعل؛ إذ لا حاجة بها إلى الخروج بنفسها، وإن لم تجد من ينوب منابها، فلا بأس عليها لو خرجت.
والفرضُ في البائنة أو في المتوفى عنها، فإن الرجعية مكفيّةٌ، لا حاجة بها إلى الخروج بنفسها، ولا نفقةَ لبائن حائل، ولا للمتوفى عنها حاملاً كانت أو حائلاً. فإن وجبت النفقة للبائنة الحامل، فهي في أمر النفقة مكفية، فلا تخرج، وإن ضيعها المطلّق، ومست الحاجة إلى الخروج، خرجت، وكيف لا والزوجة لو ضيعها الزوج، لخرجت، على ما سيأتي تفصيل ذلك في النفقات، إن شاء الله.
والقدر الذي نذكره هاهنا أن خروج الزوجة لا يمتنع إلا لحقِّ الزوج، فإذا انقطعت النفقة، فلها أن تخرج، وإن كانت قادرةً على أن تصابر وتنفقَ على نفسها من مالها.
والمعتدة المستحقة للنفقة إذا انقطع عنها إنفاق من يلزمه الإنفاق عليها، وكانت متمكنة من مصابرة مسكن النكاح من غير حاجة حاقّة، فليس لها أن تخرج؛ فإن العدة يتعلق بها حق الله تعالى على التأكد، ولذلك لا يسقط وجوب التربص وإن رضي مَنْ مِنه الاعتداد، بخلاف استقرار الزوجة في مسكن النكاح، مع استمرار الزوجية.
والتي لا زوج لها، ولا عدة عليها، لها أن تبرز من غير حاجة إذا كانت لا تتعرض لآفة.
هذا تأسيس القول في الحاجة.
9885- فإن قيل: قد قدمتم في مسائل المسافرة أن المرأة إذا لحقها الطلاق بعد خروجها تاجرةً، فإنها تتمادى على وجهها حتى تقضيَ وطرها، وقلتم: ليس للمعتدة أن تخرج عن مسكن النكاح زائرةً أو تاجرة، فأبينوا هذه الفصول وأوضحوا أن ما قدمتم تجويزه، فهو لأثر إذن الزوج، حتى لو فرض مثل ذلك الإذن في مفارقة مسكن النكاح للتجارة، لجاز لها الخروج أم كيف السبيل فيه؟
قلنا: أما الإذن، فلا يبقى عليه تعويل بعد وقوع الطلاق وحصولِ البينونة، والدليل عليه أن الرجل إذا أذن لزوجته في أن تخرج حاجّة، ثم طلقها قبل أن تخرج وتُحرم، فليس لها أن تُحْرم وتخرج، فإن أثر الإذن ينقطع بطريان الطلاق، وقد صادفها الطلاق وهي في مسكن النكاح، فالتعويل إذاً في مسائل المسافرة على أنها تتأهب للسفر، فلو قطعته، لنالها ضرر عظيم، فهذا هو المعتمد في تلك المسائل، وعليه بنينا الفرق بين أن يلحقها الطلاق وهي في البلدة، أو يلحقها وقد خرجت.
فهذا هو الذي عليه التعويل.
9886- فإن قيل: المعتدة إذا بلغها الخبر بأن مقداراً صالحاً من مالها على شرف الضَّياع لو لم تخرج إليه ولم تتداركْه، فهل لها أن تخرج بنفسها حيث يضيعُ مالُها لو لم تخرج؟
قلنا: هذا محل التردد، ونحن نبين فيه أصلاً كبيراً، ونقول: كل باب بني على معنًى، ثم فرض انخرام ذلك المعنى بشيء، يقع معتاداً، فذلك المعنى يقتضي أن يطَّرد حتى لا ينخرم، وهذا بمثابة بنائنا باب القصاص على الوفاء بالعصمة والامتناع مما يؤدي إلى الهرْج، فلا جرم كل ما يفضي إلى ذلك، فهو مردود، فإذا فرضت مسألة نادرة، فلا مبالاة بها، والتذكير في هذا كافٍ.
فنقول بعد ذلك: اتفاق احتياجها إلى تدارك المال وصونِه عن الاختلال بنفسها في نهاية الندور؛ فإن الغالب أن النسوة لا يحتجْن إلى مباشرة هذه الأمور، ونائبُهن فيها أَقْومُ بها منهن، وغَنَاء الرجل المستناب أظهر من غَنائهن، والغالب أن المرأة إذا أرهقتها حاجةٌ أنابت فيها رجلاً.
فإن فرض فارض صورةً نادرة لو جرينا فيها على موجَب الحاجة، لخرجت مسافرة وتبرّجت بارزة وتركت التربصَ، وإن لزمت التربصَ، ضاع مالها، فيتردد نظر الفقيه في هذا المقام بعض التردد، ويعترض له ضياعٌ على ندورٍ وتركُ التربص، وليس كالحاجة التي تغلب؛ فإن ترك التربص بها محمول على الحاجة الغالبة في الجنس.
ومما نجريه في قواعد الشريعة تنزيلُ الحاجة الغالبة العامة للجنس منزلةَ الضرورة الخاصة في حق الشخص، وأما الخاصة النادرة، ففيها النظر، ولكن ضياع المال شديد، والتربص وإن كان واجباً؛ فإنه من قبيل الأمورِ التابعة، والآدابِ المتأكدة المترقِّية من نهاية الندب إلى أول درجة الوجوب.
فهذا وجه النظر.
والذي عليه الاستقرار أن المال إذا كان يضيع، وله خطرٌ وقدر، فلا بأس لو خرجت وإن فرض الضياع على وجه الندور. والحاجةُ إذا تعلقت باستصلاحٍ، وكانت نادرة، فلا يجوز ترك التربص لها.
فينتظم من ذلك أن الحاجةَ الغالبةَ إذا كانت لا تتعلق بضَياع في المال، وضرورةٍ في البدن، فيسوغ الخروج لها، والحاجة النادرة إذا كانت لا تفضي إلى ضياعٍ لا يجوز الخروج لها، وإن أدت إلى ضياع وإن كانت على الندور، فيجوز الخروج لها.
هذا ما رأيناه.
9887- ولا يجوز الخروج للاستزادَة، كالتجارة، وكذلك الخروج للعمارة التي ليس في تركها ضَياع، ويلتحق بذلك الزيارة؛ فإنها لا تبلغ مبلغ الحاجة الحاقة.
والحاجةُ المعتبرة هي التي يظهر ضررها لو تركت، ولو توالت، أفضت إلى الضرورة.
فهذا مجامع الكلام.
فإن قيل: الرجل الأقطع اليمين يقطع الأَيْمان ولا قصاص عليه، والحاجة له مُفْضية إلى ضياعٍ في الأطراف. قلنا: نعم، ولكن يعارضها أن الهجوم على الدماء لا على القواعد الشرعية شديد، وتركُ التربُّصِ في العدة قريب، على أنا قد نقتُل الأقطع إذا أفضت جراحاته إلى الزهوق، وليس إفضاؤها إلى الزهوق بدعاً.
وقد انتهى ما نريد. ورجعت مسائلُ السفر وخروجُ المرأة عن مسكن النكاح في زمن التربص إلى قاعدة واحدة، قد بانت للفطن.
9888- ثم قال الأئمة: إذا كانت تخرج لحاجتها، فلتخرج نهاراً، وليس يحل لها أن تخرج ليلاً، مع التمكن من الخروج نهاراً، والسبب فيه أنها إذا خرجت نهاراً، كانت مرقوبةً بالأعين، بعيدةً عن التعرض، مصونةً بلحظ اللاحظين، وإذا خرجت ليلاً بعُد الغوث عنها لو قُصدت، وكانت متصديةً للآفات، وإنما ذكر العلماء هذا قطعاً لوهم من يظن أن الخروج ليلاً أليق بالتخدُّر والتخفّر، والأمر على الضد من هذا.
ولسنا نمنعها من الخروج ليلاً إذا وقعت حاجةٌ ليلية، وإنما ذكرنا ما ذكرنا فيه إذا ترددت بين الخروج ليلاً ونهاراً، فالحكم عليها أن تؤثر الخروج نهاراً ولزوم المسكن ليلاً، وهذا حتم على الوجه الذي ذكرناه.
هذا منتهى القول فيما يجوز للمرأة أن تخرج لأجله. وفيه نجاز الباب.

.باب: اجتماع العدتين والقافة:

9889- العدتان لو اجتمعتا، فلا يخلو: إما أن يكونا من شخص واحد، وإما أن يكونا من شخصين.
فإن كانا من شخص واحد، فلا يخلو إما أن يكونا متفقتين أو مختلفتين، فإن كانتا متفقتين، مثل أن يكونا جميعاً بالشهور أو بالأقراء، وتصوير اجتماعهما أن يطلّق الرجل امرأته طلقة رجعية، وتجرى في عدة الرجعية، وكانت عدتها بالشهور أو بالأقراء، فإذا وطئها الزوج في أثناء العدة فوطؤه وطءُ شبهة، وهو مقتضٍ للعدة، وهذا تصوير اجتماع العدتين.
وكذلك لو كانت في عدة بينونة، فوطئها الزوج بالشبهة، ظاناً أنها زوجته، فالعدة تجب، والتصوير على ما قدرناه.
فالذي أطلقه الأصحاب أن العدتين تتداخلان، والمعنيُّ بتداخلهما أن الذي مضى من العدة الأولى محسوب من تلك العدة على التمحّض، والذي بقي من تلك العدة يجري محسوباً عن العدتين: بقيةِ الأولى وابتداءِ الثانية، حتى إن كان مَضى قرءٌ وبقي قرءان، فجرى الوطء كما صورناه، فنحسب القرأين الباقيين من العدتين، فإذا انقضيا، فعليها بسبب وطء الشبهة قرء واحد، فإذا انقضى، فقد تخلت عن العدتين.
هذا هو المذهب، وعليه التعويل.
9890- وذكر الأصحاب تقديرين نذكرهما ونبين ضعفهما: قال قائلون: الوطء إذا ورد على العدة من النكاح، لم يوجب في الحال عدةً، وبقيّةُ العدة تمضي ممحّضةً عن الجهة الأولى، حتى إن كان بقي قرءان، فهما من عدة الطلاق، ثم تتربص الموطوءة قرءاً، ونحكم بأن الوطء الذي جرى لم يوجب إلا هذا القرء الواحد، ولا نحكم بأن القرأين الباقيين يجريان عن العدتين، والتزم هذا القائل طردَ هذا القياسَ من غير محاشاة، وقال: إذا مضى نصفُ قرء من عدة الطلاق، وجرى الوطءُ، فالباقي من العدة يجري محضاً عن جهة الطلاق، ثم إنها تتربص وراء ذلك بعضاً من قرء، ونقضي بأن الوطء أوجب هذا المقدار.
وهذا تلاعب بالأصول وتقديرٌ ينافي وضعَ الشريعة، فإنا لم نَرَ وطءَ شبهة في حُرَّة يوجب بعضَ قرء، وهذا التقدير لا يتغير به حكم، وإنما هو كلام أصدره بعضُ الأصحاب عن غير فكرٍ قويم.
وقال قائلون: إذا جرى الوطء بالشبهة قبل انقضاء عدة الطلاق، انقطع الاعتداد عن الطلاق، واستفتحت عدةَ الشبهة.
وهذا ساقط أيضاً، وقد أشار إليه القاضي في بعض ما نُقل عنه، والدليل على بطلان ذلك أن عدة الطلاق أثبتت لاستنادها إلى حرمة النكاح، ووطء الشبهة إنما يقتضي العدة لمشابهته الوطء في النكاح، فالحكم بانقطاع عدة الطلاق لمكان وطء الشبهة من باب رفع الأقوى بالأضعف.
ثم إذا جرى وطء الشبهة طارئاً على عدة الرجعة، فالرجعة لا تنقطع، ولو ارتفعت عدةُ الرجعة، لانقطعت الرجعة، ولو شبّب مشبِّبٌ في هذا المنع، كان خارقاً لحجاب الهيبة مستجرئاً على خرق الإجماع.
فلا وجه إلا ما قدمناه من تداخل العدتين على التفسير المقدم في احتساب البقية منهما، ووجوب استكمال العدة الثانية بعد انقضاء مدة الأولى، فهذا هو الأصل، وعليه التفريع، ولا عَوْد إلى غيره.
9891- فنقول: إذا جرى وطءُ الشبهة، فللزوج المراجعةُ في بقية العدة الأولى، فإذا انقضت تلك البقية، انقطعت الرجعة؛ فإنها في تربصها الواقع وراء عدة الرجعة متربصةٌ بمحض عدة الشبهة.
ولو فرضنا وطء الشبهة طارئاً على عدة البينونة، فالترتيب في التداخل على ما قدمناه، ويجوز للزوج أن يجدد النكاح عليها برضاها على شرط الشرع في بقية العدة، وفي المدة التي تتربص فيها وراء عدة الطلاق، والسبب فيه أنها مترددة بين عدة النكاح وعدة الشبهة، وتجديد النكاح سائغ في العدتين ممن نسبت العدة إليه، فللمطلق التجديد في عدة الطلاق، وللواطىء بالشبهة التجديد أيضاً، وليس هذا كالرجعة في الصورة الأولى، فإنها تختص بعدة الطلاق ولا تتعدى إلى عدة الشبهة، فانقسم الكلام في الرجعية نفياً وإثباتاً، واطرد جواز النكاح فيه إذا جرى وطء الشبهة على عدة البينونة، وهذا لائح لا إشكال فيه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت العدتان من شخصٍ واحد، وكانتا من جنس واحد.
9892- فأما إذا اختلف جنس ما به الاعتداد والشخص الذي عنه الاعتداد واحد، وذلك بأن تُفترض إحدى العدتين بالأقراء، والأخرى بالحمل، وهذا يفرض على وجهين:
أحدهما: أن يصادفها الطلاق وهي حامل، فتكون عدة الطلاق بالحمل، ثم يفرض الوطء طارئاًعلى الحمل.
وقد يفرض الطلاق طارئاً على الحيال، فتلابسُ المطلقةُ عدة الأقراء، ثم يطرأ وطء الشبهة، ويحصلُ العلوق به، فهذا حملٌ طرأ على الأقراء.
وقد ذكر الأصحاب وجهين في أن العدتين هل تتداخلان من شخص واحد وما به الاعتداد مختلف: فمن أصحابنا من قال: تتداخلان كما لو كانتا متفقتين.
ومنهم من قال: لا تتداخلان، لاختلافهما، والتداخل يليق بالمتفقات، والدليل عليه أن الحدود يجري التداخل في المتَّفقات منها دون المختلفات.
فإن قلنا: بالتداخل وقد طرأ حملٌ على أقراء، أو طرأ وطء على زمان الحمل، فكما وضعت انقضت العدتان من غير تفصيل: عدة الشبهة، وعدة النكاح، سواء كان الحمل من النكاح أو من وطء الشبهة، ثم له أن يراجعها في جميع مدة الحمل، فإن وضعت حملها، تخلت.
9893- وإن قلنا: لا تداخل مع اختلاف الجنس، فإن كان الحمل من النكاح، فعليها أن تعتد عن الشبهة بثلاثة أقراء، وللزوج الرجعة ما دامت الزوجة حاملاً، فإذا وضعت حملها، استقبلت ثلاثة أقراء ولا رجعة فيها؛ فإنها واقعةٌ عن وطء الشبهة على التمحّض.
فإن كانت المسألة مفروضة في عدة البينونة، فللزوج تجديد النكاح في زمَان الحمل، وفي الأقراء الثلاثة بعده؛ لأنها بين أن تكون معتدة عن نكاح، وبين أن تكون معتدة عن وطء شبهة، ولا يمتنع تجديد النكاح في العدتين جميعاً.
هذا إذا كان الحمل من النكاح ووطء الشبهة طارىء.
فأما إذا كان الحمل عن وطء الشبهة والتفريع على أن العدتين لا تتداخلان، فكما علقت عن الوطء بالشبهة، انقطعت عدة الطلاق حتى إن كان مضى قُرء، فعلقت، فهي معتدة عن وطء الشبهة في مدة الحمل، فإذا وضعته عادت إلى الأقراء، واستكملت ما مضى: ثلاثة أقراء.
هذا تصوير العدتين من غير تداخل.
ثم الحكم أن الزوج لو صبر حتى وضعت، فله أن يراجعها في بقية الأقراء بعد وضع الحمل؛ فإنها عِدّة الرجعة على التمحّض، ولو أراد مراجعتها وهي حامل، وقد بينا أنها في مدة الحمل في عدة الشبهة، فهل تصح المراجعة؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أن الرجعة لا تصح، وهذا ظاهر القياس، ووجهه أنها ليست في عدة الطلاق. والرجعةُ إنما ثبتت في عدة الطلاق الرجعي.
والوجه الثاني- أن الرجعة تصح؛ لأن عليها بقيةً من عدة الرجعة، وهي ملتزمةٌ لها إذا وضعت حملها، فيكفي التزامها لذلك في إثبات الرجعة، وهذا الوجه على اشتهاره فيه ضعف.
9894- ولو فرضت هذه الصورة في عدة البينونة، فتجديد النكاح سائغ في الأحوال كلها لما قدمنا ذكره.
ثم إن جرى ما وصفناه في عدة الرجعة، فإذا ارتجعها حيث يصح الارتجاع، فتنقطع العدة بطريان الرجعة؛ فإنه يستحيل أن تكون مرتجعة مردودة إلى النكاح وتكون معتدة عمن هي مردودة إليه.
وكذلك إذا فرض تجديد النكاح والمسألة في عدة البينونة، فينقطع العدتان.
9895- ومما نفرعه أن الحمل إذا كان عن وطء الشبهة، وهو طارىء على عدة الرجعة-والتفريع على انتفاء التداخل لمكان اختلاف الجنس- فلو سئلنا عن لحوق الطلاق، وهي في مدة الحمل، أو عن جريان التوارث، لو فرض الموت في هذه الحالة، أو سئلنا عن الظهار الموجه عليها، فهذا كله يخرّج على الخلاف الذي قدمناه في أن الرجعة هل تصح في مدة الحمل المترتب على وطء الشبهة، فإن جوزنا الرجعة، لحقها الطلاق، وكان الإيلاء والظهار بمثابة رجعتها، وإن لم نصحّح الرجعة، لم يلحقها الطلاق، ولغا لفظ الظهار والإيلاء.
وكل ما ذكرناه فيه إذا طرأ الحمل على الأقراء، أو طرأ الوطء على الحمل الكائن في النكاح، والشخص واحد، ولم تر الدم على مدة الحمل.
9896- فلو طلقها وهي حامل، ثم وطئها، والتفريع على ألا تداخل، فلو رأت الدم على ترتيب الحيض في مدة الحمل، فإن قلنا: الحامل لا تحيض، فلا حكم لما رأت.
وإن قلنا: الحامل تحيض، فإذا رأت ثلاثة أقراء في مدة الحمل، فقد قال أبو حامد في هذه الأقراء: تحتسب عن عدة الشبهة، والسبب فيه أنا لا نثنِّي العدة، ولا ننفي التداخل والشخص واحد إلا لرعاية التعبد المحض، فإذا جرت صورةُ الأقراء في مدة الحمل، فينبغي أن يقع الاكتفاء بما نراه من صور أدوار الحيض والطهر، فإذا وضعت حملَها، فقد اجتمع وَضْعُ الحمل وصُورةُ الأقراء، وهذا ما كنا نطلبه.
وصحح القاضي هذا الوجه ولم يحك غيره.
وكان شيخي أبو محمد يقطع بأن صور الأطهار التي رأتها في زمان الحمل لا مبالاة بها أصلاً، ووجودُها كعدمها، وكان يقول: الأقراء الموضوعة عدةً هي التي يمكن أن يقال فيها: إنها تدلّ على براءة الرّحم، فإنها في وضع الشرع أُثبتت استبراءً، ثم اطّرد ثبوتها مع يقين البراءة؛ حسماً للباب، وهذا كابتناء عدة الطلاق على الوطء؛ فإنه على الجملة شاغل الرحم، ثم لا التفات على آحاد الصور.
وهذا الذي ذكره حسن بالغ، والدليل عليه أن الزوج إذا وطئها بشبهة، وقد كانت حاملاً عند الطلاق، فلو كنا نكتفي بصورة الأطهار، لكنا نكتفي ببقية الحمل، إذا لم تر دماً؛ فإن الوطء جرى وهي حامل، وليست من ذوات الأقراء إذ ذاك إذا كانت لا ترى دماً.
فإذا كنا نقول: إذا وضعت، استقبلت الأقراء؛ لأنها سترى الأقراء بعد الوضع، فلأن نقول: لا يقع الاعتداد بصور الأطهار، مع قيام الحمل أولى؛ فإنها تكون جاريةً في عدتين معاً، ولكن إن التزمنا التعديد، فلا ينبغي أن نخالف هذا الأصل.
وكل ما ذكرناه تفصيل القول فيه إذا كانت العدتان عن شخص واحد.
9897- فأما إذا كانت العدتان من شخصين، فلا يخلو إما أن تكونا متفقتين أو مختلفتين.
فإن كانتا متفقتين، مثل أن تكونا بالأقراء، أو بالأشهر، فلا يخلو والحالة هذه:
إما أن تسبق عدةُ الزوج، وإما أن تسبق عدة الوطء بالشبهة.
فإن سبقت عدة الزوج بأن طلقها فاستقبلت الأقراء، ثم وطئها واطىء بشبهة، فالبداية بعدة الزوج؛ فتستكمل عدة الزوج ثلاثة أقراء، ثم تبتدىء وتخوض في عدة الشبهة.
فإن كانت رجعية، فللزوج مراجعتها في عدة النكاح. ثم كما يراجعها تنقطع عدة النكاح، وتخوضُ في عدة الواطىء بالشبهة.
ولو كانت في عدة البينونة والصورة كما ذكرناه، فهل للزوج أن يجدد عليها النكاح في عدة النكاح؟ فعلى وجهين:
أحدهما: للزوج ذلك، كما له أن يراجعها في عدة الرجعة.
والثاني: ليس له ذلك؛ فإنه لو نكحها، لكانت محظورة عليه من كل وجه، ووضع النكاح ينافي إيرادَه على محرّمة من كل وجه، مع إمكان الاستمتاع حساً، وهذا القائل يقول: الرجعية في هذا المقام بمثابة ارتجاع المحرّمة، وهو جائز، والنكاح بمثابة نكاح المحرّمة، وهو محرم ممتنع.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت عدة الزوج أسبق.
فأما إذا كانت عدة الواطىء بالشبهة أسبق كأن وطئها في صلب النكاح، وشرعت في عدة الشبهة، ثم طلقها الزوج، والاعتداد بالأقراء ولا حمل، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنها تبدأ بعدة الزوج، لقوة النكاح، فعلى هذا تعتد عن الزوج بعد الطلاق بثلاثة أقراء، ثم تستكمل عدة الواطىء بالشبهة: فإن كان مضى قُرء في النكاح قبل الطلاق، تربصت قرأين.
هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني- أنها تستكمل عدة الشبهة بحق السبق، ثم تستأنف العدة عن الزوج بعد انقضاء عدة الشبهة.
التفريع:
9898- إن حكمنا بأنها تبتدىء عدة الزوج كما طلقها، فإن كان الطلاق رجعياً، ملك رجعتها، في عدة الطلاق، ثم تنقطع العدة عن الزوج بالرجعة، وتعود إلى عدة الواطىء بالشبهة، فتكملها بعد الرجعة.
وإن كانت هذه المسألة مفروضة في عدة البينونة، فهل ينكحها؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما من قبل.
وإن فرعنا على أنها تستكمل عدة الشبهة، لحقِّ السبق، ثم تستأنف الاعتداد عن الزوج، فعلى هذا لا يخلو الطلاق إما أن يكون رجعياً وإما أن يكون بائناً: فإن كان الطلاق رجعياً، فلو تركها حتى تستكمل عدة الشبهة، وعادت إلى عدة النكاح، فيرتجعها في عدة النكاح، وإن ارتجعها وهي في استكمال عدة الشبهة، فهل تصح الرجعة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا تصح الرجعة؛ لأنها ليست في عدة النكاح.
والثاني: تصح؛ لأنها ملتزمة لعدة الرجعة، فهي بسبب الالتزام على عُلقة بيّنة من الرجعة.
هذا إذا كان الطلاق رجعياً.
فإن كان بائناً والتفريع على تقديم عدة الشبهة بحقّ السبق، فإن تركها حتى انقضت عليها عدة الشبهة، ثم أراد تجديد النكاح عليها، فله ذلك.
ولو أراد تجديد النكاح عليها قبل انقضاء عدة الشبهة، لم يجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن النكاح لو أنشأه مُصادفَ عدة الغير، فلا سبيل إلى تصحيحه.
وبيانه أنا لو قدرنا صحة النكاح لما انقطعت هذه العدة، ومن المستحيل أن ينعقد نكاحٌ في عدةٍ والنكاح لا يقطعها.
وجميع ما ذكرناه فيه إذا كانت العدتان متفقتين: كانتا بالأقراء أو بالأشهر.
9899- فأما إذا كانتا مختلفتين، فالوجه فرض اختلافهما في الحمل والأقراء.
أما إذا كانت عدة النكاح بالحمل، وعدة الوطء بالشبهة بالأقراء، أو كان الأمر على العكس، فلا شك أن العدتين لا تتداخلان، كيف وقد ذكرنا أنهما لا تتداخلان مع اتفاقهما، والاختلاف يؤكد منعَ التداخل.
ثم الذي نصدّر الفصل به أن الحمل مقدّم على الأقراء، سواء كان من النكاح أو من الوطء، وسواء قُدِّر سابقاً أو قدر لاحقاً، بعد الخوض في الأقراء؛ فإن الحمل لا مدفع له، والاعتداد به يقع عمن منه الحمل لا محالة، فلا يبقى للتقدم والتأخر في ذلك موقع.
ثم الصور تستوعب الغرض: فإن كان الحمل من الزوج كأن طلقها وهي حامل، فوُطِئت بالشبهة، فالجواب أنها إذا وضعت حملها، استقبلت الأقراء على الواطىء بالشبهة.
ثم إن كانت رجعية، فيرتجعها الزوج في زمان الحمل، فإنها معتدةٌ عنه، ثم إذا راجعها وهي حامل، فهل يحل له وطؤها قبل وضع الحمل؟ تردد المحققون في هذا، فصار صائرون إلى الحِلّ؛ لأن الرجعة وقعت وهي بعدُ لم تَخُض في عدة الشبهة؛ فإنها إنما تخوض في عدة الشبهة إذا وضعت حملها، فلا مانع من الحِلِّ في الحال.
ومن أصحابنا من قال: هي محرّمة؛ فإنها، وإن لم تكن في عدة الشبهة، فهي على عُلْقة عظيمة، من عدة الشبهة؛ من حيث إنها ستستقبلها، ولو أحللناها لتوالى وطآن، وهذه صورة لا يستحسنها الشرع، والتردد الذي ذكرناه في حِلِّ الوطء يجري في صلب النكاح مثله إذا كانت المرأة حاملاً من زوجها، فوطئها واطىءٌ بالشبهة، فعدة الواطىء لا تنقضي بوضع حمل الزوج، ولكنها إذا وضعت تخوض في العدة بعد الوضع، فهل يستحل الزوج وطأها ما دامت حاملاً؟ فعلى التردد الذي ذكرناه.
هذا الخلاف في الحِلّ يقرب بعضَ القرب منه إذا كانت في عدة الشبهة، وكانت بحيث ستعود إلى عدة الرّجعة، فهل يصح من الزوج رجعتُها بناء على عُلقة عدة الرجعة؟ فيه الخلاف المقدم: فإن قلنا: يرتجعها، لأنها ستعود إلى عدة الرجعة، فلا يستحلّ هاهنا وطأها؛ نظراً إلى انتظار عودها إلى عدة الشبهة؛ وإذا كنا ننتظر عودها إلى عدة الشبهة، فكأنها الآن في عدة الشبهة.
وإن قلنا: لا يحل رجعتُها إذا كانت ستعود إلى عدة الرجعة، نظراً إلى الحال، فعلى هذا نقول: الحامل ليست في عدة الشبهة من الحال، فيحل وطؤها.
ومأخذ الكلام في تحليلِ الوطء وتصحيحِ الرجعة يؤول إلى أنا نعتبر الحال أو نعتبر ما يُفضي المآل إليه؟ وفيه الخلاف الذي ذكرناه.
9900- وإذا كانت حاملاً عن الزوج والعدةُ بالحمل مصروفةٌ إليه، فإذا وطئها واطىء بشبهة، فرأت على الحمل ثلاثة أقراء على الترتيب المستقيم، والتفريع على أن الحامل تحيض، فقد قال القاضي: قياس ما ذكره الشيخ أبو حامد: أنها إذا وضعت حملها، وقد انقضى في زمان الحمل ثلاثةُ أقراء، فنقضي بانقضاء العدتين، كما إذا كانت العدتان من شخص واحد، والتفريع على أنهما لا يتداخلان إذا اختلف الجنسان.
وهذا في نهاية البعد عندنا؛ فإن احتباس المرأة في زمنٍ واحد في عدة رجلين لا يلائم مذهب الشافعي، وفي أصل هذا المذهب من البعد ما نبهنا عليه، من أن الأقراء في وضع الشرع، إنما يقع الاعتداد بها إذا كانت دالّةً على براءة الرحم، فأما ما يُصادَف منها في حالة قيام الحمل، فليست على حكم القرء الشرعي المعتد به.
هذا إذا كان الحمل من الزوج.
فأما إذا كان الحمل من الواطىء بالشبهة، فلا شك أن الاعتداد عنه يتقدّم، فإذا جرى الوطء في صلب النكاح، وفُرض العلوق عن الوطء بالشبهة، ثم طلقها الزوج، وهي حامل عن الواطىء بالشبهة، فالعدة عن الواطىء بالشبهة تتقدم، فإذا وضعت، استقبلت العدة عن الزوج بالأقراء.
ثم إن كان الطلاق رجعياً، فهل يرتجعها في مدة الحمل؟ فعلى الوجهين المقدمين؛ فإنها في الحال ليست في عدة الطلاق، ولكنها ستصير إليها إذا وضعت، وقد تمهد الخلاف في مثل ذلك.
فإن كان الطلاق بائناً، فالزوج لا يملك نكاحها؛ فإنها في عدة الواطىء بالشبهة، فالعدة تمنع ابتداءَ النكاح عن غير مَنْ منه العدة، والمعتبر فيه أن كل عدة لو فرض فيها نكاح لم تنقطع العدة، فالنكاح لا يصح.
والواطىء بالشبهة لو أراد أن ينكحها وهي حامل، نظر: فإن كان الطلاق رجعياً، لم يجز، فإنها في حكم الزوجات، وطريان هذه العدة عن الواطىء بمثابة طريان عدته في صلب النكاح، فإذا وطىء واطىءٌ بشبهة زوجة إنسان، فالعدة تمضي والنكاحُ مستمر، كذلك عدة الشبهة في حق الرجعية لا تخرجها عن عُلقة الزوجية، فيستحيل من الواطىء أن ينكحها.
9901- ولو كان الطلاق بائناً، فأراد الواطىء أن ينكحها في عدة نفسه، فهذا على الخلاف، فإن الزوجية زالت بالبينونة، وهي الآن في عدة الواطىء؛ لأنها حامل عنه، لكنها ستعود إلى عدة الزوج إذا وضعت، وهذا يناظر ما لو كانت في عدة الزوج، ومصيرها إلى عدة الشبهة.
فلو أراد الزوج أن يجدد نكاحها، ففي تجويز ذلك خلاف قدمناه، فلا فرق بعد البينونة بين الزوج والواطىء بالشبهة في الترتيب الذي ذكرناه، فمن نكح منهما وهي في عدة غيره، فنكاحه مردود، ومن نكح منهما وهي في عدة الناكح، ولكنها ستصير إلى عدة الآخر، ففي صحة النكاح وجهان:
أحدهما: المنع.
والثاني: الصحة.
وهذا إذا كان مفروضاً في الحمل يحوج إلى مزيد تأنق في الترتيب، وذلك أنا نقول:
إن كان الحمل من الزوج، والطلاق رجعي، فقد ذكرنا أن الرجعة تصح، وإن كانت ستصير إلى عدة الشبهة، ولكن عدة الشبهة لا تثبت ما لم تضع الحمل، وهل يحل للزوج وطؤها قبل وضع الحمل؟ فعلى وجهين.
فإذا تبين هذا، عدنا إلى ترتيب النكاح، فلو كان الطلاق بائناً، نظرنا: فإن كان الحمل من الزوج والطلاق بائن، فهل ينكحها؟ إن قلنا: لو ارتجعها والطلاق رجعي لا يحل له وطؤها في مدة الحمل، فإذا نكحها والطلاق بائن، ففي المسألة الوجهان؛ فإن النكاح لا يستعقب حِلاً بوجه، هذا هو الذي أوجب تخريج الخلاف.
وإن قلنا: لو ارتجعها، لاستحلها، فهل يجدِّد النكاحَ؟ هذا يترتب على ما إذا قلنا: إنها تحرم في مدة الحمل، فإن قلنا ثَمّ: يصح النكاح، فلأن يصح النكاح هاهنا أولى.
وإن قلنا ثَمّ: لا يصح، فهاهنا وجهان، والفرق أنا لو قدرنا صحةَ النكاح، لاستعقب النكاح حلاً؛ تفريعاً على ما انتهينا إليه.
فإن قيل: ما وجه فساد النكاح إذا كان يستعقب حلاً؟ قلنا: إنها ستصير إلى عدة الشبهة، وهذا فيه ضعف؛ فإن مصيرها إلى عدة الشبهة إذا لم يُوجب تحريمها في الحال ينبغي أن لا يمنع نكاحها. ثم إذا صارت إلى عدة الشبهة، فهذه عدة طارئة على النكاح.
ولو طلق زوجته واستفتحت الأقراء، ثم وُطئت بالشبهة بعد مضي قرء، وعلقت عن الواطىء بالشبهة، فعدة النكاح تنقطع لا محالة، وتصير معتدة عن الواطىء بالشبهة، ثم إذا وضعت الحمل، بَنَت على ما مضى قبل العلوق، فتستكمل عدة الزوجية بقرأين، وليس المعنيُّ بانقطاع العدة إحباطَ ما مضى، ولكن المراد الانقطاعُ مع الاحتساب بما مضى.
هذا تفصيل القول فيه إذا كانت العدتان من شخصين، وكانتا مختلفتين إحداهما بالحمل والأخرى بالأقراء.
9902- وقد تمهد من أصل الشافعي أن العدتين لا تتداخلان إلا من شخصٍ واحد، وقد نص الشافعي في التعريض بالخِطبة على أن الحربيّ إذا طلق زوجته، فنكحها حربيّ آخر، ثم طلقها، فلا يجمع عليها بين عدتين.
وقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال في المسألة قولان:
أحدهما: أنهما لا يتداخلان من الحربيين، كما لا يتداخلان من المسلمَيْن؛ فإن لعدة الكفر حكماً لا ينكر، والدليل عليه أن الكافر إذا نكح كافرة في العدة ثم أسلما-والعدة باقية- فنحكم بفساد ذلك النكاح، إذا أدركت العدةُ زمانَ الإسلام؛ فإذا ثبت أصل اعتبار العدة، فلا وجه للفرق بين المسلمَيْن والكافِرَيْن في امتناع تداخل العدتين.
والقول الثاني- أن العدتين تتداخلان من الحربيين؛ فإنه لا يثبت لهما من تأكد الحرمة ما يثبت للمسلمين، وأصل العدة مرعيٌّ والكفار في حكم الشخص الواحد.
وهذا غير سديد، والأصح في القياس إذا سلكنا طريقةَ القولين، القول الأول، وعليه جرى الشيخ أبو بكر الأَوْدَني في المناظرة، فإنه أُلزم مسألةَ العدتين من الحربيين، فارتكب وقضى بأنهما لا يتداخلان.
ومن أصحابنا من قال: إذا نكحت الحربية حربياً وألم بها، انقطعت عدة الأول باستيلاء الثاني، وأملاك الحربيين وحقوقُهم عرضةٌ للسقوط بالاستيلاء، ولو قهر حربي حربية، وكانت زوجة لحربي، فإنه يصير بالقهر مسترقاً للحربية، ويرتفع النكاح، فإذا كان النكاح يرتفع، فلا يبعد أن تنقطع العدة انقطاعاً لا يعود، فهذا إذاً قَطْعٌ للعدةِ الأولى، وليس من تداخل العدتين في شيء.
وقد انتجز القول في تداخل العدتين من رجل واحد، ومن رجلين، ثم تكميل الكلام يستدعي ما نذكره الآن.
9903- فنقول إذا أتت المرأة بولد لستة أشهر، فصاعداً، ولدون أربع سنين من يوم الفراق، وأتت به لأقلَّ من ستة أشهر من يوم الوطء، فالولد يلحق بالزوج وينتفي عن الواطىء.
ولو أتت بالولد لأكثرَ من أربع سنين من يوم الطلاق، ولستة أشهر من يوم الوطء، فهو ملحق بالثاني.
وإن أتت به لأقلَّ من أربع سنين من يوم الطلاق، ولستة أشهر فصاعداً من يوم وطء الشبهة، فيحتمل أن يكون العلوق بهذا المولود من الأول، ويحتمل أن يكون من الثاني.
فإذا أشكل الأمر، فهذا أوان القائف فنريه معهما القائفَ، ونلحقه بمن يُلحقه القائفُ به، والقول فيما يعتمده القائف، وفي إلحاقه وصوابِ منطقه وخطئه يأتي مستقصىً في آخر الدعاوى، إن شاء الله.
وقد ذكر الأصحاب طرفاً صالحاً من الكلام في القائف هاهنا، فرأيت تأخيره إلى موضعه-إن شاء الله- ونذكر ما يتعلق بأمر العِدة، ونقتصر عليه فنقول: إذا تردد المولود كما وصفناه، وأَرَيْنا الولد القائفَ: فإن ألحقه بالزوج، فعدته تنقضي بوضع الحمل، والمعتبر في عدة الواطىء بالشبهة الأقراء.
وإن ألحقه بالواطىء بالشبهة، فالمعتبر في عدة الزوج الأقراء.
ومضى تفصيل الكلام في كل صورة من هاتين الصورتين: أوضحنا ما إذا كان الولدُ منه-نعني الزوج- وبيّنا حكم الرجعة، وتجديدَ النكاح في عدتي الرجعة والبينونة، وذكرنا الحكم في نقيض ذلك، فلا حاجة إلى الإعادة.
9904- وإن تردد المولود بينهما، ولم نجد بياناً من القائف، وذلك بأن يُشكل الأمر عليه أو بأن يلحقه بهما، أو لا نجد قائفاً، فالصورة مشكلةٌ في أمر النسب، وسيأتي حكم الإشكال في مقتضى النسب.
9905- وأما حكم العِدّة-والنسبُ مشكلٌ- كما ذكرناه- نقدّم على هذا أصلاً مقصوداً في نفسه، رتبه العراقيون، والشيخُ أبو علي رضي الله عنه.
ثم نرجع إلى المسألة التي نحن فيها، وإن أحببنا ذكرناها في أثناء الترتيب، فنقول:
إذا وطىء أجنبي المعتدة عن الزوج بشبهة، ولزمتها عدتان، فلو أتت بولد لزمان لا يحتمل أن يكون من الأول، ولا من الثاني، وذلك بأن تأتي به كثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوطء بالشبهة، فإذا وضعت مثلَ هذا الحملَ، فهل تنقضي بوضعه عدةٌ؟
قال العراقيون: من أصحابنا من قال: لا تنقضي بوضع هذا الحمل، لا عدةُ الزوج، ولا عدةُ الواطىء بالشبهة؛ فإن من أصلنا أن وضع الحمل إنما يوجب انقضاء عدة مَن الحملُ منه، وهذا الحمل ليس ملتحقاً بالأول ولا بالثاني، فلو حكمنا بانقضاء عدة واحدة منهما على التعيين، لكان ذلك باطلاً، من وجهين:
أحدهما: أن الحكم بالانقضاء مقتضاه التحاق الولدِ الموضوعِ بمن حكمنا بانقضاء عدته، والثاني: أن تعيين أحدِهما تحكُّم.
والوجه الثاني- حكَوْه عن الشيخ أبي حامد، وهو أن عدة أحدِهما تنقضي لا بعينه وتعتد بالأقراء عن أحدهما.
ثم رتَّب الشيخ أبو حامد ترتيباً حسناً، ذكره الشيخ أبو علي واستحسنه، وذلك أنه قال: الولد الذي لا يُحتمل لحوقُه بالزوج أصلاً لا تنقضي العدة به، وهو مثل أن تأتي زوجة الصبي، وهو ابن ثمان بولد، فلا تنقضي عدتها عنه بوضع ذلك المولود، ولو أتت المرأة بولد نسبُه ملتحق لو لم يفرض نفيه باللعان، ولكن نفاه الزوج، والْتعن على نفيه، فالنسب منتفٍ، والعدة تنقضي بوضعه، اتفق الأصحاب عليه؛ فإن النسب وإن انتفى باللعان، فلحوقه ممكن، وأمر انقضاء العدة يتعلق بالإمكان والرجوع فيه إلى قول المرأة، ولئن نفينا الولد لأجل اللعان، لم نرفع الحكم بانقضاء العدة عند ظهور الاحتمال.
ولو أتت المرأة بولد حكمه أن ينتفي بلا لعان ولكن يحتمل أن يكون من الزوج مع قضائنا بانتفائه من غير لعان، وذلك بأن يطلق الرجل زوجته طلقة مبينة، فتأتي بالولد لأكثرَ من أربع سنين من وقت الطلاق المبين، فهذا ولد لا يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح؛ فلأجل هذا ينتفي عن الزوج بلا لعان؛ فإنه إنما يلحق النسبُ الذي يُحتَمل تقديرُ علوقه من النكاح، فعند ذلك يُلحِقُ الفراشُ النسبَ بصاحب الفراش، فلا ينتفي عنه من غير لعان.
فأما إذا زال إمكانُ العلوق في النكاح، فالولد ينتفي من غير لعان، ولكن الإمكان غيرُ زائل بالكلية؛ إذ من الممكن تقدير وطءٍ من الزوج بالشبهة بعد الطلاق المبين، ولو فرض ذلك، لكان النسب لاحقاً، ثم تنقضي العدتان على المذهب الصحيح بوضع الحمل، على التقدير الذي ذكرناه.
9906- فإذا تصُورت المسألة، فالذي ذكره الشيخ أبو حامد أن العدة تنقضي في هذه الصورة من الزوج لما ذكرناه من الاحتمال، وإن كان النسب منتفياً من غير لعان.
والتعليل ما ذكرناه من الاحتمال، وحققنا أن انقضاء العدة يعتمد الاحتمال، فالولد المنتفي بلا لعان إذا تطرق إليه احتمال العلوق كالولد المنفي باللعان؛ فإنهما جميعاًً منتفيان، والاحتمال شامل للمسألتين.
وإنما افترقت المسألتان في السبب الذي حصل الانتفاء به؛ فإنه حصل في أحدهما باللعان، وفي الأخرى بأمرٍ متعلق بالزمان، والذي يحقق الجمع بينهما أن الملاعن لو استلحق الولد بعد نفيه، للحقه، والذي أتت زوجته المطلقة بالولد لأكثر من أربع سنين لو استلحق الولد بتقدير الوطء بالشبهة بعد الطلاق، للحقه الولد، فهما جميعاًً منفيان معرّضان للّحوق في المسألتين، وليس كما لو أتت امرأة ابن ثمان بولد؛ فإنه لا يتعرض للّحوق قط، فهو الذي لا تنقضي العدة بوضعه.
وإذا تردد الأمر بين عدّتين، وأشكل مع نفينا الولدَ عن كل واحد منهما، وذلك بأن تأتي بالولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلّ من ستة أشهر من وقت الوطء، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا تنقضي عدة واحد منهما؛ فإن النسب منفيٌّ عنهما، وليس أحدهما أولى بتقدير الاستلحاق من الثاني، والحكم بالانقضاء على الإبهام غير متّجه.
والوجه الثاني-وهو اختيار الشيخ أبي حامد- أنه تنقضي عدة أحدهما لا بعينه، وهذا اختياره، وهو الصحيح عند أئمة المذهب؛ فإن المعتمد في انقضاء العدة الاحتمال وهو متحقق في حق كل واحد منهما، وجهه في الزوج تقدير وطءٍ بعد الطلاق، ووجهه في الواطىء تقدير وطء قبل الوطء الذي ظهر لنا، ولكن يتصور الالتحاق بهما جميعاًً فيبهم الأمر ويُقضى بانقضاء إحدى العدتين، ونأمرها بأن تتربص ثلاثة أقراء، فيقع الاعتداد بها عن أحدهما، وإذا فرغت عن الوضع والتربص، فقد تخلّت عن العدتين.
هذا هو الترتيب الحسن البالغ.
9907- ومن أصحابنا من قال: إذا أتت المطلّقة بولدٍ بعد الطلاق لزمانٍ لا يحتمل أن يكون العلوق به من صلب النكاح، ووقع القضاء بانتفائه من غير لعان، فلا تنقضي العدة بوضعه أيضاً، وهذا يضاهي أحد الوجهين فيه إذا تردد الولد بين الرجلين، والفرق بين صورة التردد وبين هذه الصورة عسرٌ، وهذا القائل يقول: إنما تنقضي العدة بوضع ولد لاحقٍ أو بوضع ولد يلحق لولا اللعان، فأما الولد الذي ينتفي من غير حاجة إلى النفي، فلا تنقضي العدة بوضعه.
وهذا وإن أمكن توجيهه، فالفقه ما ذكره الشيخ أبو حامد.
فإذا تبين هذا، ألحقنا به أن الولد المتردد بين الزوج والواطىء إذا التحق بالقيافة بأحدهما، فلا حكم للاحتمال في حق الثاني، بل كما يلحق الولد بمن ألحقه القائف به فكذلك يُعيّن ذلك الشخص، ونقول: تنقضي العدة عنه، فإذا قيل لنا: الاحتمال قائم في حق
9908- ولو لم نجد قائفاً، أو وجدناه ولم يبيّن، فالوجه أنه تنقضي عدة أحدهما بوضعه، لا بعينه؛ لأنها أتت به لزمان الإمكان منهما.
وقد ذكرنا أنها لو أتت به بحيث يحتمل أن يكون من النكاح ويحتمل أن يكون من وطء الشبهة أنه تنقضي عدة أحدهما لا بعينه بوضعه، وإن انتفى نسبه عنهما، فمع احتمال أن يكون من كل واحد منهما وجب الحكم بانقضاء إحدى العدّتين.
وإذا أشكل أمر الولد وأمر العدّة ولم يمكن جعل العدة بالحمل من الزوج؛ فإن كان الطلاق رجعياً، فارتجعها في الحمل، فنبني على أن الحمل لو كان من الوطء، وقد طرأ على الأقراء، ففي صحة الرجعة-بناء على أنه ستعود إلى عدة الرجعة- خلاف، فإن قلنا: تصح الرجعة، والحمل للواطىء بالشبهة فإذا أشكل، وارتجع، صحت الرجعة؛ لأن الحمل إن كان من الزوج، فقد ارتجع في عدته، وإن كان من الوطء، فيصح، بناءً على أن مصيرها إلى عدة الرجعة بوضع الحمل.
وإن قلنا: لا يصح إذا تعين الحمل للواطىء بالشبهة، فإذا أشكل، لم نحكم بصحة الرجعة لاحتمال أن الحمل لغير الزوج، فإن أراد تصحيح الرجعة، فالوجه أن يراجعها مرتين مرة في الحمل، ومرة في الأقراء بعد الوضع؛ لأنه قد أتى برجعة صحيحة في عدته، ولو اقتصر على رجعة في أحد الحالين، لم يصح.
ولو كان الطلاق بائناً، فجدد نكاحها في مدة الحمل، لم يصح؛ لجواز وقوعه في عدة الشبهة، وكذا لو نكحها في الأقراء بعد الوضع، ولو نكحها مرة في زمان الحمل، ومرّة في مدة الأقراء، فقد وقع أحد النكاحين في عدة منسوبة إليه، ولكن لم يتعين النكاح الصحيح، ففيها وجهان: أحدها: يصح نكاحٌ غير متعيّن، كالرجعة غير متعينة.
والثاني: لا يصح نكاح-على إبهام أمرهما- موقوف، والنكاح لا يوقف ابتداؤه، والرجعة تقبل ما لا يقبله النكاح، ولذلك لا تصح رجعة المحرمة، وتصح الرجعة من المحرم، ولا يصح نكاح المحرم ولا المحرمة، وفي وجهٍ بعيد لا يصح الرجعة مع الإحرام كما لا يصح النكاح.
9909- وأما النفقة؛ فإذا كان الطلاق مبيناً، والحمل يتردد بين الزوج والواطىء، فالنفقة واجبة؛ لأن البائنة تستحق النفقة مع الحمل، ولو كان الحمل من الواطىء، ففي وجوب النفقة عليه قولان، ومع الإشكال لا يطالب بها واحدٌ منهما قبل الوضع، لاحتمال أنه من الشبهة، فإذا وضعت، وألحقه القافة بالزوج، أو انتسب المولود إليه بعد البلوغ، فعلى الزوج نفقة زمان الحمل، وإن ألحقه بالواطىء بالشبهة، ففي وجوبها عليه القولان، ولا تسقط النفقة بمضي الزمان، وإن أوجبناها على الزوج، وقلنا: تجب للحمل، فهو كإيجابها على الواطىء، وإن قلنا: للحامل، لم تسقط عنه.
ولو نكحت المعتدة غالطةً نكاح شبهة، فلا نفقة لها؛ لأنها كالناشزة، وقد ثبت النشوز مع الجهل به.
فصل:
9910- المطلقة الرجعية إذا وطئها أجنبي بشبهة، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فارتجعها في مدة الحمل، ثم وضعته، وألحقته القافة بالشبهة، ففيها وجهان، والأولى القطع بصحتها، لأنا إن نظرنا إلى التبين فتصح، والنظر إلى التردد حالة الارتجاع لا أصل له، والأولى استصحاب عدة الطلاق. نعم، في تجديد نكاحها خلاف يقرب ويتجه، وقد قدرنا فرض رجعتين إحداهما في الحمل والأخرى في الأقراء، والمذهب تصحيح الرجعة، وذكرنا في إيقاع النكاحين مرتبين وجهين.
فصل:
9911- صح النقل عن الأصحاب أن الزوج إذا طلق زوجته ثم كان يعاشرها معاشرة الأزواج، فلا تنقضي العدة.
وقال المحققون: هذا خارج عن القياس؛ فإن العدة انقضاء زمان، ثم على المرأة تعبدات محتومة في العدة أولاها بالمراعاة التربص، وترك التبرج، والانعزال عمن كان زوجها، وقد يتعلق بها الإحداد، ثم لو تركت جميع ذلك، وانقضى الزمان، نحكم بانقضاء عدتها. هذا هو القياس، ولا يعرف فيها خلاف أنها لو كانت تخالط الرجال الأجانب تنقضي عدتها، وإن أثمت. والمنقول لم يوجد نصاً للشافعي في شيء من كتبه.
قال القاضي: لم يفرق الأصحاب فيما ذكروه بين البائنة والرجعية، وأرى الفرق بينهما، فأقول: مخالطة البائنة لا أثر لها في المنع من انقضاء العدة، لانقطاع علائق النكاح، فالمطلق أجنبي. والرجعيةُ إذا خالطها مخالطة الأزواج، فيجوز ألا تنقضي العدة؛ لأنها في حكم الزوجات، وهي زوجة بخمس آيات من كتاب الله تعالى، ولا يعتد بالعدة في صلب النكاح الذي منه تعتد، والقياس ألا تعتد إلا بائنة، وعدة الرجعية مع بقاء أحكام من الزوجية مشكل، فيشترط لها الاعتزال.
وهذا حسن، والاحتمال قائم؛ لأن طلاقها أعقب الاعتداد، وأثبت التحريم، فوجب أن تعتد بمضي الزمان، وما ذُكر من المخالطة مبهم، ولم يريدوا به الوطء، بل على زعمهم يكفي أن يخلو بها، ولا يكفي دخول دار هي فيها من غير خلوة، ولو مضى من العدة شيء، ثم اتفقت خلوة واحدة، لم ينقطع ما مضى، ويمتنع الاحتساب بزمان الخلوة.
ولو كان يخلو بها ليلاً، ويفارقها نهاراً، فينزل على المعتاد من معاشرة الزوجات، وليس بمعتاد امتداد الخلوة بالزوجات، فالزمان المتخلل بين الخلوتين قدر العادة لم يحتسب به من العدة، ولو خلا بها، ثم طال انقطاعه عنها، حسبت المدة الطويلة، ولا يتجه غير التلفيق.
وهذا تفريع مضطرب جرّه خروج الأصل عن القياس والقول بتداخل العدتين يشعر بأن الوطء لا يقطع العدة الأولى، فلا يبطل ما مضى، لكنه في لحظة، فلم يتعرضوا له، ولا يعتد بزمان الوطء من عدة الوطء بالشبهة، ولا من عدة الطلاق على قياس قول الأصحاب.
9912- قد ذكرتم في تداخل العدتين أن المطلِّق إذا وطىء زوجته الرجعية، ثبتت عدة الشبهة، وجرى الحكم بتداخل العدتين، وهذا يُشعر بأن الوطء لا يقطع العدة الأولى. قلنا: نعم، الوطء لا يبطل ما مضى، ولكنه في لحظة، فلم يقع من الأصحاب التعرض لها، ولو أنها غير معتد بها، ولا شك أن زمان الوطء لا يعتد بها من عدة الشبهة، ولا يُعتد بها على قول الأصحاب من عدة الطلاق، فهذا ما يجب التنبه له.
9913- ومما يتصل بهذا أن الرجل إذا نكح امرأةً نكاح شبهة، وكان يغشاها، فلا خلاف أنه لا يمضي من العدة شيء ما دام يغشاها، ولا نقول: كما وطئها الوطأة الأولى، شرعت في العدة، ثم تلفق الأوقات المتخللة بين الوطآت ونقضي بأنها كالمعتدات في تلك الأوقات، غير أن الوطأة الأخيرة تستعقب عدةً كاملة. هذا لم يقله أحد، وهو يؤكد ما ذكرناه في الرجعية من أن معاشرة الزوج إياها يمنع الاحتساب بالعدة.
نعم، اختلف القول في ابتداء العدة من أي وقت تحتسب. فأحد القولين- أنه يحتسب من الوطأة الأخيرة.
والقول الثاني- أنه يحتسب من وقت التفريق بينهما، وهذا الأصل قد تقدم بالرمز إليه، ولم نستقصه في موضعٍ، ونحن نقول هاهنا: القولان في ابتداء العدة عن الواطىء بالشبهة مذكوران كما أوردناه الآن، فإن قلنا: ابتداء العدة من آخر وطأة، فلا كلام، وإن قلنا: من وقت التفريق، فيعترض عليه أن الشبهة لو انجلت وتبين زوالها، وكان يديم المعاشرة على علمٍ بالتحريم القاطع، فالوجه عندنا أن نقول: هذا لا يمنع انقضاء العدة. والمعنيُّ بافتراقهما انجلاء الشبهة لنا. وفي هذا فضل نظر، سنعود إليه من بعدُ إن شاء الله.
9914- ومما يتصل بهذا الآن أن المعتدة عن الزوج إذا نكحت نكاح شبهة على ظن أن العدة قد انقضت، وافترشها مَن نكحها على الشبهة، فالعدة تنقطع من وقت العقد، ومنهم من قال: تنقطع من أول وطأة تتفق من الزوج على الشبهة، ثم متى تعود إلى البناء على العدة الأولى؟ ذكر الأصحاب القولين اللذين ذكرناهما في نكاح الشبهة في الاعتداد من المفترش على الشبهة فقالوا: تعود إلى بقية العدة الأولى من آخر وطأة في قولٍ وتعود إليها من وقت التفريق على قولٍ، فذكروا في العَوْد إلى العدة ما ذكروه في ابتداء العدة عن الواطىء بالشبهة إذا لم يكن نكاح الشبهة وارداً على عدة.
وهذا فيه إذا لم تحبل من المفترش في العدة، فإن حبلت، فلا شك أن عدة الحبل إذا بأن الأمر مقدمةٌ على بقية العدة الأولى، كما تقدم تفصيل هذا في تداخل العدتين.
فيخرج مما ذكرناه الآن ما استبعده القيّاسون من أن مخامرة الزوج المعتدةَ في العدة يمنع من انقضاء العدة ليس من البعيد، وهو خارج على هذا الأصل الذي ذكرناه الآن؛ فإن نكاح الشبهة والمخامرة بحكمه إذا تضمن منع انقضاء العدة، فمخامرة الزوج لا يبعد أن تتضمن منع انقضاء العدة.
9915- ثم ينشأ من هذا المنتهى وجوه من الرأي من أهمها أن نقول: ما ذكره الأصحاب من أن المخامرة من الزوج تمنع انقضاء العدة يجب أن يكون محمولاً على ما إذا كان يخامرها ظاناً أن النكاح باقٍ، فيكون معاشرته إياها على مضاهاة النكاح الفاسد يطرأ على العدة، وتخرج خروجاً حسناً.
فأما إذا طلقها ثلاثاًً مثلاً، وعلم أنها محرمةٌ عليه، فأخذ يعاشرها مع القطع بالتحريم، فيجب ألا يؤثر هذا النوع من المخالطة في انقضاء العدة، إذ لو فرض اختلاطها بالأجانب مع العلم بالتحريم لما أثر ذلك قطعاً، فلا يضر أن تُجعل مخالطة المطلق معتبراً بمخالطة الأجانب و يخرج منه أن مخالطة الرجعية تمنع على كل حال؛ فإنها تقع على حكم الشبهة، وكيف لا، وقد صار إلى تحليل الرجعية طوائف من العلماء.
ومما ينشأ من ذلك أن من نكح معتدة وافترشها ففي وقت انقطاع العدة خلاف قدّمته، فإذا خرّجنا عليه مخالطة الزوج المعتدة، ورأينا تنزيل المخالطة على الشبهة، فيجب أن نقول: نفس المخالطة تمنع انقضاء العدة من غير اشتراط وطء؛ فإن هذه المخالطة مستندة إلى وطء النكاح مترتبة عليه، وليس كذلك حكم نكاح الشبهة إذا طرأ.
والذي نقله الأئمة عن الأصحاب أن نفس المخالطة من الزوج تمنع العدة، ولم يفصّلوا بين الشبهة والعلم بالتحريم، والذي ذكرته من التنزيل على حالة ظن الحلّ لست أرى منه بداً؛ فإن الزوج إذا كان يخالط المطلقة ثلاثاً أو كان يزني بها، فلست أرى الزنا قاطعاً، ولا معاشرة الزناة مؤثرة.
9916- ومما يتصل بتمام القول في ذلك أن نكاح الشبهة إذا طرأ على العدة، واتصل به الوطء، ثم انكف الناكح وانعزل، وهو على اعتقاد الافتراش، فانقضت مدة العدة في زمان انعزاله، فالذي تقتضيه القواعد التي مهدناها أن العدة لا تنقضي إذا كان في علم الله أنه سيعود إلى وطئها، فلا ينبغي أن نغيّر القواعد بالصورة.
والضابط فيه أنا لو صوّرنا نكاح شبهة من غير طريان على العدة، ثم صورنا وطأتين بينهما انعزال في مدة طويلة، فلا نحكم بانقضاء العدة عن الواطىء بالشبهة، وكل ما يمنع انقضاء العدة عن الواطىء، يمنع العوْد إلى العدة التي طرأ نكاح الشبهة عليها، وهذا هو المعتبر الحق الذي لا يسوغ الحيْد عنه.
وبالجملة استمرار الشبهة واتحادها وانسحابها حكمٌ بيّن في وضع الشرع، وآية هذا أن نكاح الشبهة إذا اشتمل على وطآت كثيرة، فلا يجب إلا مهر واحد، وإن تعددت الوطآت.
ولو فرض تعدد الشبهات، وتخلل الانجلاء في أثنائها، واشتملت كل شبهة على وطء، لتعددت المهور.
9917- ومما يدور في الخلد أن من نكح معتدةً نكاح شبهة- ورأينا التفريع على انقطاع العدة قبل الوطء، فإذا نقول لو لم تزف حتى انجلت الشبهة؟ وماذا نقول إذا زفت، ولم يتفق الوطء حتى انجلت الشبهة؟
أما إذا لم تزف حتى انجلت الشبهة فلست أرى إلا القطع بأن العدة لا تنقطع؛ فإن صورة النكاح لا تُفضي إلى ملابسة، ثم كانا على ظنٍّ مجرد، فزال، فالعدة على استمرارها. هذا ما أراه.
فأما إذا زُفّت، وكان الناكح على الشبهة يلابسها ولا يطؤها، فانجلت الشبهة، فهذا فيه تردد عندي: فإن كنا نفرع على أن انقطاع العدة لا يتوقف على جريان الوطء؛ من جهة أنا إنما نحكم بالانقطاع قبل الوطء إذا جرى الوطء، فنجعل ما تقدم على الوطء كالمقدمة له. والتابعُ قد يسبق وقد يلحق.
فينتظم بعد هذه الشبهات صور: إحداها- أن تزف فيطأ، فالعدة تنقطع من وقت الزفاف على هذا الوجه الذي نفرع عليه، وفيه الخلاف المشهور.
الصورة الأخرى- أن تزف ولا يتفق الوطء وتنجلي الشبهة، وفيه التردد الذي ذكرته.
ولو لم يتفق الزفاف حتى انجلت الشبهة، فالوجه عندي القطع بأنه لا تقطع العدة، وإذا اتصل النكاح بالوطء، وفرعنا على أن انقطاع العدة قبل الوطء، فإنه تنقطع من وقت الزفاف، أم تنقطع من وقت النكاح؟ فيه شيء لا يخفى وجه الاحتمال فيه.
وأما ما كنا ذكرناه في أن الموطوءة في نكاح الشبهة من غير فرض عدة سابقة متى تبتدىء العدة من الواطىء، وأشرنا إلى القولين، ثم قلنا على قول التفريق: يعني التفريق بالذات والجسد أم انجلاء الشبهة، وإذا انجلت وأدام المخامرة، فهل تنقضي العدة، فالوجه الآن بعد تمهّد الأصول أن نجعل مخامرة الواطىء بالشبهة مع يقين التحريم بمثابة مخامرة الزوج البائنة مع يقين التحريم.
فهذا نجاز القول في هذا الفصل.
وقد خلطت حكمَ نكاح الشبهة والعدة عن الواطىء بالشبهة، وحكمَ انقطاع العدة بطريان النكاح، وحكمَ معاشرة الزوج خلطاً، وبيان هذا الفصل في خلطه؛ فإن هذه الفصول الثلاثة ناشئة من أصلٍ واحد والله أعلم.
فرع:
9918- إذا نكح الرجل معتدةً نكاح شبهة، ثم تبين الفساد، واجتنبها فخلت عن العدة الأولى، فللّذي نكحها على الشبهة أن ينكحها بعد التخلي من العدة.
هذا هو المذهب، وعليه التعويل.
وللشافعي قول في القديم: أن المنكوحة على الفساد في العدة محرّمة على الناكح أبداً. واعتمد في هذا قضاء عمر. ومعظم أقواله القديمة تخالف الأقيسةَ الجلية، وتستند إلى أقضيةٍ وآثارٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُمسك بطرفٍ من المعنى الكلي. وقال: من نكح معتدة فقد تعجل الاستحلال قبل أوانه، فعوقب بالحرمان والتحريم المؤبد، كما يعاقب قاتل موروثه بحرمان ميراثه أبداً.
ثم سبب الشافعي بشيء لابد من التنبه له، فقال: "الناكح في العدة منتسب إلى إفساد النسب وخلط المياه لإقدامه على النكاح قبل الاستبراء "؛ فقال العراقيون: هذا الذي ذكره يوجب أن من وطىء زوجة الغير بشبهة؛ فإنها تحرم عليه على الأبد؛ فإن النكاح في العدة وهي تابعةُ النكاح الصحيح وعُلقته إذا كان توجب تحريم الأبد، فالوطء في النكاح لأن يوجب ذلك أولى.
وفحوى كلام الأئمة في التفريع يدل على أن من زنى بمعتدة أو منكوحة، لم يكن زناه سبباً لتحريمها؛ من جهة أن الزنا لا يتضمن اختلاط النسب؛ إذ لا نسب لزانٍ، ولا ينتسب إلى الزاني ولدٌ، وفيه جواب: إن من نكح أجنبية خلية عن النكاح والعدة نكاح شبهة، فلا تحرم عليه ولا يجري القول القديم فيه، وإنما يجري ذلك القول في الواطىء في نكاحٍ أو عدة مترتبة على النكاح، ولا يمتنع عندنا جريان هذا القول في عدة الشبهة؛ فإن نكاح الشبهة فراش يترتب عليه النسب، كما يترتب على النكاح الصحيح.
وبالجملة لا أصل للقول القديم، وهو مرجوع عنه، ولولا إقامة الرسم ومحاولة نقل ما بلغني، لما كنت أعد الأقوال القديمة مذهباً للشافعي.
وقد يعترض من طريق المعنى أن الزنا يفسد النسب من قِبل أن الزوج إذا تحقق الزنا بزوجته تسلّط على قذفها ونَفَى ولدَها باللعان، ولكن قطع الأصحاب بأن الزنا لا يحرّم المزني بها على الزاني، وقد صح عندنا من مذهب بعض السلف أن المزنية محرّمة على الأبد على الزاني، وهذا فيما أظن رواية عن مالك، والعلم عند الله.
فرع:
9919- إذا وطىء الرجل حرةً حسبها مملوكته، فوطئها على هذا الظن، فعليها أن تعتد عدة كاملة: ثلاثة أقراء، إن كانت من ذوات الأقراء، أو ثلاثة أشهر، ولا نظر إلى تفصيل ظن الواطىء، والاعتدادُ بكمالها في نفسها. والحرةُ إذا أَخذت في الاعتداد أكملت العدة.
ولو وطىء أمةً وحسبها حرة: مثل أن يقدِّرها منكوحته الحرة، فإذا بأن أنها أمة، ففيما تستقبله من العدة وجهان:
أحدهما: أنها تعتد بقرأين نظراً إليها وأقصى عدة الأمة قرءان إذا كانت حائلاً.
والوجه الثاني- أنه يجب عليها عدة كاملة ثلاثة أقراء نظراً إلى ظن الواطىء، ويجوز أن يعتبر ظنه؛ إذ عليه تثبت حرية الولد إذا وطىء أمة الغير ظاناً أنها زوجته الحرة فنحكم بأن الولد تعلق حراً، اعتباراً بظنه، وإن كان مقتضى القياس أن يتبع الولدُ الأمّ في الرق والحرية، ولذلك أوقفنا ولد الحر من زوجته الأمة.
9920- ثم عقد الشافعي باباً مضمونه شيئان:
أحدهما: أن الرجعية إذا مات عنها الزوج تنتقل إلى عدة الوفاة بخلاف البائنة، لأن الرجعية في معنى الزوجات يلحقها الطلاق، والإيلاء والظهار، ويجري التوارث بينهما والبائنة أجنبية لكنها مستبرأة عن النكاح.
والمقصود الثاني- أن الرجعية إذا ارتجعها الزوج ثم طلقها من غير مسيس بعد الرجعة، فإنها تستأنف العدة أم تبني على ما كان منها؟ فيه قولان قدمنا ذكرهما، وكذلك إذا طلق الرجعية في العدة، وأتبع الطلاق الطلاق، ففيه ترتيب مضى وتفريعات بالغة لا نعيد منها شيئاًً. وهذا مضمون الباب.