فصل: باب: لبن الرجل والمرأة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: لبن الرجل والمرأة:

قال: "اللبن للرجل والمرأة كما الولد لهما... إلى آخره".
10055- قد قدمنا في صدر الكتاب ثبوتَ حرمة اللبن في جانب الفحل، وانتشارها منه، وأوضحنا أن الولد إذا كان يُعزَى إلى الأم بالولادة وينتسب إلى الأب، فاللبن الدارّ عليه منسوب إليهما أيضاً، واللفظ الذي نقله المزني على إيجازه ناصٌّ على المغزى، نعني قولَه: "اللبن للرجل والمرأة كما الولد لهما " وحاصل القول أن اللبن تبعُ النسب، ثم ينتشر انتشارَه، ويمتزج بالنسب، ويختلط النسب به، كما قدمنا ذكره، فإن زنت المرأة، فولدها من الزنا معْزِيٌّ إليها في جميع الأحكام كولد الرِّشدة، وهو غير منسوب إلى الزاني، وقد أوضحنا أن الزاني ينكح بنت الزانية، وإن غلب أن العلوق منه، وإن تحقق ذلك، ففيه اختلافٌ، والأقيس طرد الباب.
ثم النكاح وإن لم يكن محظوراً، فهو مكروه، وفيما نقله المزني ما يدل على أن للشافعي قولاً مطلقاً في منع نكاح ولد الزانية في حق الزاني إذا غلب على الظن أن العلوق منه، وهذا لم يقبله الأصحاب، ورأَوْا القطعَ بأن النكاح لا يحرم، والكراهيةُ ثابتةٌ، وردّ الشافعيُّ على من لا يكره للزاني نكاحَ بنت الزانية، وظن المزني أن ما ذكره تحريمٌ، وليس الأمر كذلك.
فإذا تجدد العهد بولد الزنا، فاللبن يتبعه، فإذا أرضعت الزانية باللبن الدارّ على ولد الزنا، تثبت الحرمة من جهتها؛ لأن ولدَها منسوبٌ إليها زانيةً كانت، أو منكوحة، أو موطوءةً بشبهة، ولا يحرم المرتضع منها على الزاني؛ فإن اللبن يتبع النسب، وهو غير منسوب إلى الزاني، فاللبن الدارّ عليه غير منسوب إليه.
ولو وطىء الرجل امرأة بشبهة، فأتت منه بولد، والتحق النسب بالوطء، فاللبن الدارّ على الولد النسيب في أصل المذهب وقياسِه منسوب إلى الواطىء، فإذا حصل الإرضاع به، انتشرت الحرمة إليه انتشارها إلى الزوج.
وذكر صاحب التلخيص في ذلك قولين:
أحدهما: أن حرمة الأبوة لا تثبت، وإذا لم تثبت الأبوة، فلا انتشار.
والقول الثاني- أن الحرمة تثبت وتنتشر.
قال الشيخ أبو علي: استبعد بعض الأصحاب القولين، وقد رأيتهما لصاحب التقريب، ورأيتهما في الجامع الكبير للمزني، فهما يقربان من الاختلاف الذي كان يحكيه الأستاذ أبو إسحاق، في أن حرمة المصاهرة هل تثبت بوطء الشبهة، وكان من لا يثبت أبوة الرضاع وحرمة المصاهرة يقول: إثبات النسب ضرورة، وتبرئة الرحم بالماء المحترم بالعدة ضرورة، ولا ضرورة في إثبات المصاهرة، ولا في إثبات أبوة الرضاع.
ولا شك أن المذهبَ المعتبرَ الذي عليه التعويل إتباعُ اللبن النسبَ، والتسويةُ بين وطء الشبهة والوطء الحلال فيما يتعلق بحرمات اللبن؛ فإنّ قطع اللبن عن النسب يهدم الأصل الذي عليه تأسيس الكتاب، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
10056- ومما يتعلق بما نحن فيه الكلام في الولد المتردد بين الزوج والواطىء بالشبهة واحتيج فيه إلى القافة والتفريع على أن اللبن الدارّ على الولد الآتي من وطء الشبهة كاللبن الذي يدر على ولد النكاح-ولا عَوْد إلى ذلك القول القديم-.
فإذا نكحت المرأة في العدة نكاحَ شبهة، وغشيها الزوج الثاني على الفساد والشبهة، وتردد الولد بين الزوج المطلِّق وبين الواطىء على الشبهة تردُّداً يقتضي الرجوعَ إلى القائف، فإذا أرضعت المرأة باللبن الدارّ على هذا المولود المتردد، ففي الأصل قولان:
أحدهما: وهو الأصح أن حكم اللبن حكمُ الولد، فإن ألحقه القائف بالمطلّق، فهو أب الرضاع، كما أنه أب النسب في المولود، فنقطع حرمة الرضاع عن الواطىء بالشبهة.
وإن لم نجد القائف، أو وجدناه، فتبلّد وتردَّد، ورددنا الأمر إلى انتساب المولود، فإن انتسب إلى الزوج، فأبوّة الرضاع له أيضاً، وإن انتسب إلى الواطىء بالشبهة، فأبوة الرضاع له، كما أن أبوة النسب في المولود له.
هذا أحد القولين، وهو الأصل وبه الفتوى، وهو معتضِدٌ بما أصلناه من إتباع اللبن نسب المولود.
والقول الثاني في أصل المسألة: أن الحرمة تثبت للزوج المطلِّق والواطىء بالشبهة جميعاً؛ فإنه لا يمتنع في الرضاع ثبوت آباء، والأمر مشكل، والنسبة إلى كل واحد منهما كالنسبة إلى الآخر، فلا معنى لقطع هذا التساوي بانتسابٍ وقول قائف.
وأما انتساب شخص إلى أبوين في النسب، فمستحيل الكون، فاضطررنا فيه إلى التعلق بشيء في تعيين الأب.
وهذا القول ضعيف، وإن كان مشهوراً.
التفريع على القولين:
10057- إن قلنا: حرمة الرضاع وأبوّته ثابتة لهما، فلا كلام، ولا ينقطع ذلك بأن يُلحق القائف المولودَ بأحدهما، أو ينتسبَ المولود إلى أحدهما، بل يستمر هذا الحكم.
ولعل هذا القائل يُجري هذا في الظاهر؛ إذ لا سبيل إلى المصير إلى أن الأبوّة تثبت من جهة الرضاع باطناً لهما، والله عليم بأن الولد لأحدهما، ولكن هذا من المسائل التي لا يتوصل فيها إلى درك الباطن، ولا ينقطع الحكم الذي جرى في الظاهر.
وإذا كان كذلك أطلق الفقيه القول بموجب الظاهر؛ من جهة أنه لا مطمع في ارتفاع هذا الحكم، وهذا بمثابة قولنا في مسألة الطائر، وقد قال زيدٌ: إن كان غراباً فامرأتي طالق، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق، وفات الطائر، وأُيس من الإحاطة به، فالحكم الذي يُجريه الفقهاء قاطبة أنه لا تطلّق زوجة واحد منهما، وهذا حكم متعلق بالظاهر، وإلا فزوجة أحدهما طالق في علم الله تعالى، غير أنه انحسم علينا مسلك الوصول إليه، وأيسنا من الإحاطة به، فأطلقنا الحكم بانتفاء وقوع الطلاق.
هذا حقيقة القول.
10058- وإن فرعنا على القول الثاني وهو أن اللبن يتبع نسب المولود في القيافة وانتسابِ المولود، فلو لم نجد قائفاً، ومات المولود الذي كنا نتوقع انتسابه، وقد أرضعت الأم باللبن الدار على الولد المتردد مولوداً، فما حكمه؟
أحسن مسلك في ذلك ما ساقه صاحب التقريب، فقال حيث انتهى التفريع إليه: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن ولد الرضاع ينتسب وينتمي إلى من شاء منهما. والقول الثاني- أنه يحرم عليهما. والقول الثالث: أن الأمر موقوف.
من قال: ينتسب ولد الرضاع اعتبره بولد النسب، فإنه ينتسب إذا تعذر القيافة، ومن قال: يحرم عليهما، قال: الانتساب في الولد النسيب محمول على نزوع النفس، وما يجده المولود من الميل الذي جبلت النفوس عليه لا يجده المرتضع، فلا وجه إلا إثبات التحريم من الجانبين.
فإن قيل: هذا هو القول الذي حكيتموه في أصل المسألة: أن حرمة الأبوة من جهة الرضاع تثبت من الجانبين. قلنا: ليس كذلك، فإن ذلك القولَ المذكورَ في أصل المسألة يتضمن ثبوت الحرمة من الجانبين، وإن ألحق القائف الولد بأحدهما أو انتسب المولود النسيب إلى أحدهما، وهذا القول الذي ذكرناه في إثبات الحرمة من الجانبين إنما يجري إذا تعذر تعيين أب النسيب بفقدان القيافة، وانتساب الولد النسيب، فإذا انحسم مسلك التعيين، جرى هذا القول، والقول الأول في أصل المسألة متضمنه إثبات التحريم من الجانبين مع إمكان القائف أو جريان الانتساب عند عدم القائف.
ومن قال بالوقف فإنما حمله عليه امتناع انتماء ولد الرضاع، وعسر عنده أيضاًً الحكم بإثبات الحرمة من الجانبين، فأطلق الوقفَ على ما سنبين حكمه.
قال صاحب التقريب: إن فرعنا على قول الوقف، فإذا يصنع هذا المرتضع، وكيف حكمه في الحل والحرمة إذا أضيف إلى الزوج أو الواطىء؟
قال: على هذا القول ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يخير المولود، فإن أراد أن يستحل مواصلة أحدهما، فعل، ولا يواصلهما على الجمع، ولكن إن واصل أحدهما على مقتضى الاستحلال، ثم انقطع عنه، وأراد مواصلة الثاني، فله ذلك، ثم لو أراد العَوْدَ إلى الأول، فله ذلك، فيدور عليهما، ولا يجمع بينهما في الاستحلال، كالسيد إذا اشترى أختين، فإنه لا يجمع بينهما في الاستحلال، ولكن إذا وطىء واحدة، حرمت عليه الأخرى، فإن أراد استحلال التي حرمت، حرَّم الأولى، واستحل الثانية.
وهذا القول ضعيف، ووجهه الممكن أن تعميم التحريم لا سبيل إليه، ولا مطمع في تعيين جانبٍ، فإذا امتنع تعميم التحريم، وتحقق استواء الجانبين، لم يمتنع التردد بينهما، ويُرَدُّ أثر التحريم إلى المنع من الجمع، وهذا أضعف الأقوال؛ فإنّ ما تمهد من تغليظ الحكم في التحريم لا يحتمل التردد في حكم التخير والدوران من جانب إلى جانب؛ فإنه إذا دار على الجانبين، فقد اقتحم التحريم قطعاًً، فلا سبيل إليه.
والقول الثاني- أنه يواصل بالاستحلال أحد الجانبين، ثم لا ينزل عنه، ويتعين عليه ملازمة ما اختاره.
والقول الثالث:وهو الأصح- أنه لا يواصل واحداً من الجانبين؛ فإن التحريم كائن والتعيين ممتنع، ومحل الحِلّ والحَظْر محصورٌ، والاجتهاد محسوم، والتحريم غالب، وهذا القول لا يمكن تمييزه عن القول الذي ذكرناه قبل قول الوقف في تعميم التحريم إذا انسدّ مسلكُ القيافة وانتسابُ المولود النسيب، فمقتضى القولين واحد، وهذا في حكم المعاد.
10059- وينتظم من مجموع ما ذكرناه-بعد التنبيه لتكرر هذا القول- أن التعيين بالقيافة والانتساب إن كان ممكناً، فقولان، كما مضى.
فإن انحسم إمكان التعيين، فأقوال: أحدها: تعميم التحريم.
والثاني: التخيير في المواصلة مع تجويز التدوار على الجانبين على البدل.
والثالث: تجويز مواصلة أحد الجانبين على شرط ملازمة الجانب الذي يواصله.
وما ذكره صاحب التقريب من قول الوقف ليس يتحصّل، وإنما الحاصل ما ذكرناه، وتمام التهذيب يتضح بنجاز الفصل.
10060- أما ما ذكرناه من المواصلة، فأهون تصويرٍ فيها أن يكون المرتضع غلاماً وهو يناكح بنت أحد الأبوين، فهذه هي المواصلة.
وقد أطلقنا فيما أجريناه قولاً أنه إذا اختار جانباً، فله ذلك، ولم نُرد قوله: اخترت، وإنما أردنا إيقاعَ عقد المواصلة.
ووراء ذلك تمام البيان.
والذي ذكره صاحب التقريب والشيخُ ومعظم المحققين أن التخير الذي ذكرناه في الولد الرضيع ليس صادراً عن اجتهاد، وإنما هو اختيار على حكم الإرادة؛ فإن الاجتهاد لا مساغ له في ذلك، ومن ادعى أن المرتضع يجد من نفسه ميلاً إلى أب الرضاع، فالذي يأتي به خُرْقٌ؛ فإن الميل لا يتحقق إلى المرضعة إلا عن إلفٍ ينشأ الصبي عليه، فإن ذلك ليس من آثار الرضاع، وفي بعض التصانيف: "أن الولد المرتضع في أوان الانتساب لا يتبع الإرادة وإنما نتبين انتسابه إلى أحد الرجلين في جهة الرضاعة على اجتهاد " هذا لفظه، فلست أدري أنه أراد به ما يجده بزعمه من ميل النفس، أو أراد بالاجتهاد التمسك بسببٍ يغلّب على الظن أن الولد للأول أو للثاني، وعلى أي وجه حُمل، فلا أصل له؛ فإن الميل باطل، والاجتهاد لا أصل له في هذا الباب؛ إذ لو كان عليه مُعوّل، لعلّق الشرع النسبَ به من غير انتساب المرتضع.
ولست في تزييف هذا مختاراً لوجه التخير، ولكن الرأي عندي تعميم التحريم، وإبطال التخيّر والانتساب بالارتياد والاجتهاد.
10061- ومما يجب التنبيه له أن الأصحاب أطلقوا في الكتب أن الرجل إذا علم أن واحدةً من امرأتين أو نسوةٍ معدودات أختُه من الرضاعة، فلا يحل له أن ينكح واحدةً منهن، وإنما ينكح إذا اختلطت بنسوة يعسر حصرهن، وقد مهدنا ذلك في كتاب النكاح.
والفرق بين هذا الذي ذكروه، وبين تردد المرتضع بين الأبوين مشكل، ولهذا اخترنا تعميم التحريم عند اليأس من تبيّن النسب بقول القائف، أو انتساب الولد النسيب.
وعند ذلك نقول: من أصحابنا من جوز نكاح إحدى المرأتين إذا كانت إحداهما أختاً؛ أخذاً من القول الذي يجوّز للمرتضع مع انحسام اليقين في النسب أن يواصل أحدَ الرجلين، وهذا القائل يقول: التي تزوجها لم يتحقق فيها تحريم عنده، والأصل عدمُ الأخوَّة، وهؤلاء يقولون: إذا كان مع الرجل إناءان في أحدهما ماء نجس، وفي الآخر ماء طاهر، فيجوز استعمال أحدهما من غير اجتهاد.
وهذا المسلك مزيف، والمذهب القطع بتحريم نكاح إحدى المرأتين، مع اطّراد الإشكال.
ثم الوجه أن يضعّف بهذه المسألة قول التردد في الولد المرتضع، والممكن في الفرق أن الولد إذا تردد بين رجلين، قلنا: يُقطع بثبوت النسب من أحدهما أيضاً، فإن الانتساب إلى الرجال مشكل، ومسألة الأخت مفروضة فيه إذا ثبتت الأخوّة قطعاًً، حتى لو تردد المرتضع بين امرأتين قد أرضعته إحداهما، فهذه مسألة الأخت، وكذلك لو كان تردد الولد بين والدتين، فيجب القطع بإبطال قول التخيير في المرتضع.
10062- ومما يتم به البيان، ويكمل به التفريع أنا إذا أثبتنا الحرمة من الجانبين، فالوجه عندنا ألاّ نثبت المحرمية؛ فإن الغالب التحريم، والذي يغلّب الحرمة هو بعينه يقتضي ألاّ تثبت المحرمية إلا بتحقيق؛ فإن المحرمية تقتضي مداخلةً واستحلالَ خُلوة، وهذا محدّور إذا التبس الحلال بالمحظور.
واختتام الكلام أنا إذا رأينا-عند عدم القائف- للولد النسيب أن ينتسب، فليس ذلك تشهيّاً واختياراً، وإنما هو رُجوعٌ إلى تخير النفس وما جبلت عليه من الحَدَب والميل، وسنستقصي هذا في باب القائف، إن شاء الله.
فلئن كان في اختيار المرتضع تردُّدٌ في أنه اختيار إرادة أو اختيار اجتهاد، فلا تردد في انتساب الولد النسيب.
وهذا نجاز الفصل، لم نغادر فيه فيما نظن طرفاً تَمَس الحاجةُ إليه.
10063- ومما أورده في (السَّواد) ولد اللعان، فإذا نفى الرجل ولداً باللعان، انتفى عنه اللبن الدارّ عليه أيضاًً، كما انتفى الولد، فإن عاد، فاستلحق الولد المنفيّ، لحقه الولد، ويلحقه اللبنُ أيضاًً، ومن قال: في اللبن النازل على الولد المتردد بين رجلين إنه يلحق بهما، فلست أدري ماذا يقول إذا لاعن ونفى النسب؛ فإنه خالف بين اللبن وبين النسب، فألحق الولد إلحاقاً لا يتصور إلحاق النسب بجنسه، فقد لا يبعد ألا ينتفيَ حرمة اللبن وإن انتفى النسب.
ويجوز أن يقال: قد أثبت الزوج باللعان أن الولد الذي جاءت به ولد الزنا، ولا حرمة للبن النازل على ولد الزنا في جهة من انتفى النسب عنه.
فصل:
قال: "ولو انقضت عدتها بثلاث حِيض وثاب لبنها... إلى آخره".
10064- مضمون هذا الفصل القول في امتداد اللبن في دروره والتحاقه بمن التحق به أول مرة، وكيف الحكم لو طرأ طارىء يوجب لبناً جديداً؟
ونحن نقول: إذا انتسب المولود إلى شخص، وألحقنا اللبن النازل عليه به على ما تمهد، ثم طلق الزوج زوجته تلك، وتمادى الزمن واللبنُ دائمٌ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن اللبن منسوب من جهة الأبوة إلى الرجل الأول الذي انتسب الولد إليه، وإن امتد الزمان، واعتقبت السنون، وهذا الحكم يطّرد وإن دام اللبن عشر سنين، فصاعداً، ما لم تحبَل المرأة.
ولو انقطع لبنها، ثم عاد اللبن من غير تجدّد حمل، فهو منسوب إلى الأول، كما لو استمر ولم ينقطع في الأثناء.
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب أن انتساب اللبن يبقى بعد الطلاق أربعَ سنين، وهي المدة التي يُتصوّر فيها انتساب الولد إلى النكاح المتقدم، وإذا انقضت هذه المدة، انقطع انتسابُ اللبن.
وهذا قول مزيف، لا أصل له، وهو من نوادر خواطر من لم يُحط بالفقه؛ فإنه بان بالمسلك المعتبر أن الولد لا يبقى أكثر من أربع سنين، فينقطع إمكان العلوق في النكاح إذا انقضت هذه المدة بعد الفراق، وأما إمكان تمادي اللبن، فلا أمد له، وقد يدرّ للمرأة لبن على ولد ويدوم ذلك اللبنُ منها عشرَ سنين أو أكثر، فلا وجه لاعتبار أحد البابين بالآخر بالتمسك باللفظ، فلا عَوْد إلى هذا الوجه الغريب.
والذي نقطع به في تفريع المسائل بعد ذلك أن اللبن منسوب إلى من انتسب الولد إليه في الأول، وإن تمادت المدة، ولا ضبط لها في الكثرة، كما لا ضبط لأكثر الطهر، ولا فرق بين أن تتواصل الألبان، وبين أن تنقطع ثم تثوب.
ولو نكحت زوجاً، فالنكاح لا يقطع انتسابَ اللبن؛ فإنه لا أثر له في تغيير اللبن بالقطع، وتجديد لبن بسبب جهة أخرى. نعم، إذا حَبلَتْ عن الزوج الثاني أو حبلت عن واطىء بشبهة، فالحمل مما يقتضي درورَ اللبنَ على التجدّد، فإذا اتفق ذلك واللبن ثابت مع الحمل، راجعنا أهل البصيرة، وقلنا: هل حان وقت درور اللبن على الحمل الجديد؟ فإن قالوا: لم يدخل بعدُ وقتُ درور اللبن على الحمل الجديد، فاللبن مصروفٌ إلى الجهة الأولى، لا خلاف فيه، ولا فرق بين أن يكون متمادياً و بين أن ينقطع ثم يرجع مهما قطع أهل البصر بأنه لم يدخل وقت درور اللبن على الحمل الجديد.
وإن قال أهل البصر: قد دخل وقت درور اللبن على الحمل الجديد، فنذكر صورتين، وتفصيلَ المذهب فيهما، وننبِّه على دقيقة، ثم نتجاوز هذا الحدَّ.
10065- إحدى الصورتين: أن ينقطع اللبن، ثم يعود في وقت يجوز درور اللبن فيه على الحمل الجديد، وفي هذه الصورة ثلاثة أقوال: أحدها: أن اللبن للرجل الأول، ولا مبالاة بالحمل، ولا بانقطاع اللبن وعوده، ولا بمصير أهل البصيرة إلى أن هذا وقت درور اللبن على الحمل الجديد، واللبن مضاف مع ذلك كله إلى الجهة الأولى، والحكم مستمر كذلك إلى أن تلد وينفصلَ الحملُ الجديد.
ووجه هذا القول أن الحمل، وكل ما وصفناه معه لا يوجب انقطاع اللبن عن الجهة الأولى بأن لا يمتنع دوام ذلك اللبن، فلا ينقطع ذلك الأصل بتجويز.
والقول الثاني- أن اللبن ينقطع عن الجهة الأولى، ويضاف إلى الحمل الثاني، وإلى من منه الحمل؛ فإن اللبن الأول قد انقطع، واعترض وثبت سببٌ آخرُ يجوز درورُ اللبن عليه يستفتح الإضافة إلى هذه الجهة ويقطع الأولى.
والقول الثالث: أن اللبن مضاف إلى الجهتين؛ فإنه لا يمتنع تواصل اللبن الأول مع ازديادٍ بسبب الجهة الثانية، ولا وجه لإسقاط جهة وقطعها، ولا يمنع ما ظهر تجدُّدَه، فالوجه الإضافة إليهما جميعاًً هذا بيانُ صورةٍ.
الصورة الثانية: ألاّ ينقطع اللبن، ويقول أهل البصر: قد دخل وقت نزول اللبن على الحمل الجديد، ففي هذه الصورة ثلاثة أقوال: أحدها: أن اللبن للجهة الأولى، والثاني: أن اللبن للجهتين جميعاًً. والثالث: أنه إن زاد، فهو لجهتين، وإن لم يزد، فهو للجهة الأولى، ولا يخرّج هاهنا قول أن اللبن للجهة الثانية وهو مقطوع عن الجهة الأولى، لأنه لم يتخلل انقطاع اللبن ثم عوده.
ومما يجب التنبه له في التصوير أنه لو انقطع اللبن في أول العلوق، وفي وقتٍ لم يدخل فيه وقت نزول اللبن على الحمل، ثم عاد في وقت لم يدخل بعدُ وقتُ النزول على الحمل الجديد، فلا حكم لذلك الانقطاع، وسبيله كسبيل ما لو تواصل اللبن.
وإذا انقطع، ثم امتد الانقطاع، وعاد في وقتٍ، فقال أهل البصر: يجوز نزول اللبن في هذا الوقت على الحمل الجديد، فهذا هو الصورة الأولى، وفيها الأقوال الثلاثة: أحدها: أن اللبن مقطوع عن الجهة الأولى، ملحق بالجهة الثانية، فهذا بيان الصورتين، وتفصيل الحكم فيهما.
10066- وأما الدقيقة التي وعدنا بيانَ أمرها، فهي أنا قلنا: إذا قال أهل البصر: يجوز درور اللبن على الحمل، فحكمه ما وصفناه، فليعلم الناظر أنه لا ينتهي الأمر في زمان الحمل إلى القطع بأن اللبن نازل على الحمل الجديد، وإنما تنتهي خبرة أهل البصر إلى الحكم بتجويز النزول، نعم، يطلقون القول في أوائل مدة الحمل بأن اللبن لا ينزل بعدُ على هذا الحمل، فهذا مما يمكن إطلاقه، فأما إطلاق القول بأن اللبن ينزل على الحمل في هذا الوقت، فهذا مما لا سبيل إليه، وقد تلد المرأة ولا ينزل لها لبن، ثم ينزل اللبن بعد الوضع.
هذا كله قبل الولادة، فإذا ولدت، فاللبن مقطوع عن الجهة الأولى بلا خلاف، ملحق بالولد الثاني منسوب إلى من ينتسب إليه، فانتظم إذاً طرفان على النفي والإثبات، وواسطتان بينهما: فأما الطرف الأول، ففيما قبل العلوق، فاللبن مضاف إلى الجهة الأولى، والطرف الآخر إذا ولدت ولداً منتسباً إلى آخر فكل لبن يدرّ بعد ذلك منسوب إلى الولد الثاني مقطوع عن الجهة الأولى، فهذان الطرفان.
والواسطتان تقعان في زمان الحمل، فاللبن في أوائل الحمل قبل دخول وقت نزول اللبن على الحمل ملحق بالطرف الأول، وإذا دخل وقت إمكان نزول اللبن على الحمل، فالواسطتان الصورتان اللتان ذكرناهما.
وهذا نجاز الفصل عقداً وتفصيلاً.