فصل: فصل: في التمكين ومعناه والنشوز المسقط للنفقة، والأسباب المانعة من الاستمتاع التي تجب النفقة معها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في التمكين ومعناه والنشوز المسقط للنفقة، والأسباب المانعة من الاستمتاع التي تجب النفقة معها:

10116- وأما التمكين، فإذا قالت المرأة المستقلة، أو قال أهلها-إن كانت محجوراً عليها- مهما سُقْتَ الصداقَ، زففناها، فهذا تمكين، فإذا أعرض الزوج، وامتدت المدة، استقرت النفقة، فإن نفقة الزوجية لا تسقط بمرور الزمن بخلاف نفقة القرابة، ولا يتوقف استقرارها دَيْناً في الذمة على قضاء القاضي وفرضِه،: خلافاً لأبي حنيفة، هذا تصوير التمكين، ولو فرض السكوت، فقد أثبتنا جريان القولين في صدر الباب.
ولو كانت صغيرة لا يتأتى وقاعها، ورأينا إيجاب النفقة للصغيرة، فلا حاجة في تقرر النفقة في الصغر على وعدِ الزفاف عند إمكان الاستمتاع، بل تستقر النفقة في الصغر مع السكوت وترك التعرض وفاقاً، وإذا حان زمان الإمكان، فتصوير التمكين والسكوت على ما مضى، ولا يتوقف إمكان الاستمتاع على البلوغ؛ فإن الاستمتاع ممكن قبله، وكذلك لا يتوقف تمكن الزوج من الاستمتاع على بلوغه، فإن الصبي ينتشر ويجامع.
ولو كانت المرأة مريضة لا يتأتى وقاعها، فنفقتها دارّة وإن امتنعت عن الاستخلاء بالزوج، ولو قال الزوج: زفوها إليّ، وأنا أمتنع عن وقاعها إلى أن تشتد، لم يؤتمن عليها، هذا إذا ثبت المرض المانع، وإن أنكر الزوج امتناع الوقاع، فشهدت أربع نسوة على المانع، ثبت المرض وقرت النفقة. وإن شهدت امرأة واحدة، ففي بعض التصانيف في ذلك وجهان، ذكرهما العراقيون، وتحصيل القول فيهما يؤول إلى أنا هل نكتفي في هذا المقام بخبرِ من يوثق به، وتقبل روايته؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه، والسبب في هذا التردد طريان العوارض عند فقدان أربع يشهدن.
ولو لم يكن بالحضرة شاهدة، وكانت في بيتها على ظاهر الصّحة، فادعت سبباً باطناً لا يبعد صدقها فيه، وزعمت أنه ينالها من الوقاع شدةُ ضرر، فلا تصدّق، ولها أن تحلّف زوجها على نفي العلم. ولو كانت على دَنَف ومرض ظاهر، ولكن كان لا يثبت ما ينالها من الضرر بمجرد ما يشاهَد منها، فهو كما لو كان ظاهرها الصحة.
هذا قولنا في التمكين، وما يليق به.
10117- وأما النشوز، فإذا توفر عليها حقها، ووجب عليها تسليمها نفسها، فأبت، فهي ناشزة، ولا نفقة لناشزة بالاتفاق.
ولو امتنعت، فكان الزوج قادراً على ردّها إلى الطاعة، فنفقتها تسقط، ولا نكلِّف الزوجَ معاناةَ ردّها وإن قدر عليه.
ولو امتنعت على زوجها في دار زوجها، فهي ناشزة، إلا أن يكون ذلك محاولَة دلال يغلب جريانه من اللواتي لا امتناع بهن، ولا يخفى تمييزه عن النشوز.
ومن القواعد أنها لو فارقت مسكن النكاح غاضبة، فهي ناشزة، ولو فارقته بإذن الزوج في شغلِ الزوج، أو سافرت كذلك في شغله، فنفقتها دائمة، ولو خرجت أو سافرت بإذن الزوج في شغل نفسها، ففي سقوط النفقة قولان:
أحدهما: أنها لا تسقط لإذن الزوج واتصافها بنقيض المخالفة. والقول الثاني- أن النفقة تسقط؛ فإنها استبدلت عن تمكينها شغلاً لها، فيبعد أن يجتمع لها قضاء وطرها من شغلها ودرور النفقة، وهذا الاختلاف له التفات على القولين المذكورين في صدر الباب: فإن قلنا: النفقة لا تسقط إلا بالنشوز، فهذه ليست بناشزة، وإن قلنا: لا تجب النفقة إلا
بالتمكين، فهذه ليست ممكنة.
10118- فهذا قواعد الكلام في التمكين والنشوز، والأعذار العارضة، ونحن نفضّ عليها مسائل مقصودة في أنفسها، وهي تفيد تمهيدَ الأصول.
فمما ذكره المزني إحرام المرأة، والقول في ذلك يتفصّل، فنذكر التفصيل فيه إذا أحرمت بإذن الزوج، ثم نذكر التفصيل فيه إذا أحرمت بغير إذنه.
فأما إذا أحرمت بإذن الزوج، فلا يملك الزوج تحليلها لصَدَر الإحرام عن إذنه، ثم لها حالتان: حالة إقامة، وحالة ظعن: أما إذا ظعنت مسافرة آمّة بيت الله، فهي مسافرة بإذن زوجها في شغل نفسها، ففي سقوط نفقتها في هذه الأيام قولان جاريان إلى أن تقضي نسكها، وتؤوب إلى زوجها.
فأما إذا أحرمت وبقيت في مسكن النكاح أياماً إلى اتفاق الخروج، فالذي تحصّل لنا من طرق العراق وغيرها طريقان: ذهب الأكثرون إلى وجوب النفقة؛ فإنها تحت يد الزوص وامتناع الوقاع صادر عن إذنه.
ومنهم من قال: في سقوط نفقتها قولان، كما لو خرجت؛ فإن الوقاع قد امتنع، وتبعه امتناع جميع وجوه الاستمتاع، فلا أثر لكونها في المسكن، ولا فرق بين إقامتها وظعنها، وهذه الطريقة أقيس، وطريقة القطع أشهر في الحكاية.
ولو أحرمت بإذن الزوج، وهمت بالخروج فنهاها الزوج عن الخروج، فالذي حكاه الصيدلاني عن القفال أنه كان يقول: تسقط النفقة إذا خرجت على مخالفته قولاً واحداً، والذي يقتضيه كلام الأئمة في الطرق إجراء القولين، وقد حكاهما الصيدلاني عن الأصحاب، والوجه فيه أنها إذا لابست الإحرام، فلا خلاص لها ما لم تلْقَ البيتَ، فكأن الزوج ورطها في ذلك، والوجه ما ذكره الأصحاب.
وكل ذلك وإحرامها بإذن الزوج.
10119- فأما إذا أحرمت بغير إذنه، فللشافعي قولان في أن الزوج هل يملك تحليلها، وهل يفصل بين حج الفرض وحج التطوع؟ فيه تفصيل ذكرناه في باب الحصر من كتاب الحج، فإن قلنا: يملك الزوج تحليلها، فإن حللها، استمرت النفقة وزال المانع، وإن لم يحللها، فالذي ذهب إليه الجماهير أن نفقتها لا تسقط ما دامت مقيمة؛ فإنها في قبضته والزوج مقتدر على تحليلها، وفي بعض التصانيف حكايةُ وجهٍ أن نفقتها تسقط؛ فإنها فعلت ما يتصور منها، والإحرام على الجملة مانع، وقد ترتاع نفس الزوج عن تحليلها، ويمكن أن يقال: قدرته على تحليلها بمثابة قدرته جملى رد الناشزة عن استعصائها. ولو خرجت، لم يخْفَ أنها ناشزة.
هذا إذا قلنا: يملك الزوج تحليلها. فأما إذا قلنا: لا يملك الزوج تحليلها، فلا يملك أيضاًً منعَها من الخروج، فلا نفقة لها إذا خرجت؛ فإنها لم تستأذن زوجها، وهل لها النفقة ما دامت مقيمة إلى الخروج، فالوجه عندنا القطع بأنها لا تستحق النفقة. وذكر الصيدلاني في ذلك وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه، والثاني: تستحق النفقة؛ فإنها لو أرادت التحلل، لم يمكنها، وإنما يُقضَى عليها بالنشوز إذا تمادت ي امتناعٍ هي قادرة على النزول عنه والرجوع إلى الطاعة.
وهذا يقرب بعضَ القرب من مسائل ذكرناها في كتاب الصلاة: منها أن من ردَّى نفسه من شاهق، وانخلعت قدماه، وصلّى قاعداً أياماً ثم استبل، فهل يلزمه قضاء الصلوات التي أقامها قاعداً؟ فيه تردد.
والوجه عندنا ما قدمناه من إسقاط النفقة؛ فإن الامتناع إذا نسب إليها، كفى ذلك في سقوط ما تستحق على مقابلة التمكين.
فأما الرخص؛ فإنما يمتنع ثبوتها بسبب العصيان، والعصيان يتحقق في الأفعال الاختيارية، وقد انقضى عصيان المُرْدي نفسه.
ولم أر هذين الوجهين إلا للصيدلاني.
10120- ومن المسائل التي نذكرها صيام المرأة: أما الصيام في رمضان فلا يُسقط نفقتها، وهو بمثابة اشتغالها بوظائف الطهارات والصلوات في أوانها، ويعترض في ذلك أنا إذا جوزنا للمرأة أن تخرج لحجة الإسلام، وإن كان لا يحرم عليها التأخير، فهل تستحق النفقةَ كما تستحق في أيام رمضان، أم كيف السبيل فيه؟ هذا فيه تردد؛ من جهة أن الحج لا نوجب ابتداره على الفور. ونحن وإن جوزنا لها الخروج لتتخلص من الغرر، فيبعد أن تستفيد ذلك، وتترك ناجزَ حق الزوج، ونفقتُها دارّة، ويجوز أن يقال: هي مقيمة فرضَ الإسلام، ولم نمنعها من إقامته على القول الذي انتهى التفريع إليه.
ولا ينبغي أن يعتمد الفقيه في الفرق بين الصوم وبين الحج تخلل الليالي، فإنها لو كانت تنشز نهاراً وتمكِّن ليلاً، لم يُطلق القول بثبوت نفقتها، وقد أجرينا في هذا اختلافاً وتردّداً، ولا خلاف أن نفقتها لا تسقط في صوم رمضان.
ولو كانت صائمة تطوّعاً أو نذراً لم يصدر عن إذن الزوج: أما صوم التطوع، فللزوج قطعه عليها، وفي صوم النذر ترتيب: فإن نذرت في الزوجية من غير إذنه، كان له قطعه عليها، فنقول: إذا كان يملك القطع، فقد ذكر العراقيون أنه لا تسقط نفقتها، وهو مما كان يقطع به شيخي.
وفي بعض التصانيف وجهان، وقد ذكرنا نظيرهما في الإحرام على قولنا: للزوج أن يحللها إذا أحرمت بغير إذنه.
والوجه عندنا ترتيب الصوم على الإحرام؛ وذلك أن الزوج يُقدِم على الاستمتاع بالصائمة من غير تقديم أمرٍ، ويكون استمتاعه بها تحليلاً، وهذا لا يتحقق في الإحرام؛ فإنه يجب عليه أن يحللها أولاً، ثم يستمتع بها، فإن لم يكن من إجراء الخلاف بدّ على ما ذكره بعض المصنفين، فالوجه ترتيبه على الخلاف المذكور في الإحرام، وطريق العرف ما أشرنا إليه.
هذا إذا أصبحت صائمة والزوج قادر على الاستمتاع، وقد ساغ له قطع الصوم عليها.
وأما إذا حاول إفساد الصوم عليها، فامتنعت، فقد ذكر العراقيون وجهين في أن نفقتها هل تسقط في ذلك اليوم، ولعلهم قالوا هذا في يومٍ أو أيام قلائل مفرقة على كُثر الأيام وسأبيّن أصله.
فأما إذا أكثرت الصيام، وامتنعت لأجل الصيام على الزوج نهاراً، فيجب القطع بتنزيل ذلك منزلة النشوز منها في تلك الأيام مع التمكين ليلاً، ثم لا يخفى التفصيل.
10121- ونحن الآن نجمع فصولاً تَمَس الحاجة إليها فنقول: لا شك أن الزوج لا يمنع الزوجة من وظائف الشريعة المفروضة، ولو أراد أن يمنعها عن إقامة الصلاة في أول الوقت، ففيه اختلاف مشهور بين الأصحاب.
وكذلك لو منعها من إقامة السنن الرواتب، ففيه الخلاف أيضاً؛ فإن في تعجيل الصلاة فضيلة، والزوج بتكليفها التأخير يفوّتها عليها.
وكان شيخي يجري الخلاف في صومها في يوم عرفة وعاشوراء؛ فإن الأخبار المُرغِّبة فيها ظاهرة، فنزل صومها منزلة اشتغالها برواتب السنن.
وأما إذا كانت تعتاد صوم الأثانين والخمايس، فللزوج منعها من المواظبة على ذلك؛ فإنها لو فعلت هذا على مخالفة الزوج، لكانت معطِّلة عليه أياماً من الشهر، وما حكيناه من خلاف العراقيين في صوم يومٍ هو بالإضافة إلى الأيام بحيث لا يعد قادحاً في استمرار الاستمتاع.
ولست أردّ فكري إلى ضبطٍ فيه، ومعتقدي أنها ناشزة إلا في صوم عرفة وعاشوراء، ثم في صومها الخلاف الذي ذكرته في رواتب السنن.
هذا إذا كان الزوج يرهقها، وأما إذا أتت بما يبدو لها من صوم في غيبة الزوج، فلتفعل من هذا ما بدا لها، ولو أرادت أن تحج، فتفصيله في كتاب الحج.
وإن فاتتها أيام من رمضان، فوقتُ القضاء السنةُ، فإن أرادت ابتدارَها، وأراد الزوج منعها من الابتدار، فهذا على الخلاف في تعجيل الصلاة وتأخيرها. فإن قلنا: لها أن تعجل القضاء، فالأولى أن نفقتها لا تسقط بخلاف الحج؛ فإنا وإن جوزنا الخروج فيه، فهو انقطاع عن الزوج إلى اتّفاق الأوبة.
هذا منتهى الغرض في هذه المسائل.
فرع:
10122- إذا فارقت المرأةُ مسكنَ النكاح في غيبة الزوج ناشزةً، سقطت نفقتها بنشوزها، فإن عادت إلى المسكن، واستمرت على الطاعة، فهل نقول: تعود نفقتها بعودها إلى الطاعة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن نفقتها تعود كما عادت؛ فإن علة سقوط النفقة النشوز وقد زال.
ومن أصحابنا من قال: لا تعود نفقتها بنفس العَوْد إلى الطاعة، حتى يعلم الزوج عودَها إلى الطاعة على ما سنصفه الآن، فإن حكمنا بعَوْد النفقة، فلا كلام، وإن حكمنا بأن النفقة لا تعود بنفس العود إلى الطاعة، فلو جاءت إلى القاضي وأخبرته، والتمست منه أن ينهي إلى البلدة التي بها الزوج عودَها إلى الطاعة، فإذا فعل القاضي ذلك، ومضى زمان بعد بلوغ الخبر لو أراد الزوج الرجوع فيه، لرجع، فإذا مضت هذه المدة، فتعود نفقتها حينئذ.
وذكر الأصحاب إعلامَ الزوج القاضيَ ورفْعَ الأمر إليه، ولست أرى الإعلام مقصوراً على القاضي، فلو حصل الإعلام من جهة أخرى لا يمتنع أن يكفي، ولكن فحوى كلام الأصحاب يشير إلى أنه لابد من حكم الحاكم بعودها إلى الطاعة، وهذا يبعد اشتراطه.
10123- ومن تمام البيان في ذلك أن المرأة لو ارتدت بعد المسيس في غيبة الزوج، ثم عادت، فالمذهب أنها لا تستحق النفقة في زمان الردة.
ومن أثبت من أصحابنا للمشركة المتخلفة عن إسلام الزوج النفقة إذا هي أسلمت في العدة في أيام شركها، خرّج وجهاً في أن المرتدة تستحق النفقة إذا عادت قبل انقضاء العدة، وهذا بعيد جداً، والجريانُ على أن نفقتها تسقط بالردة.
فإذا أسلمت قال العراقيون: عادت نفقتها، وإن لم يبلغ الخبرُ الزوجَ، وأما أئمتنا المراوزة، فإنهم لم يفصّلوا بين أن يكون سقوط النفقة بالردة، وبين أن يكون سقوطها بالخروج من مسكن النكاح.
والذي أرى نظمَه بعد ذلك أن نشوزَها إن ظهر وانتشر، فتَركَتْه ورجحت إلى الطاعة، ففي عَوْد النفقة واشتراط الإعلام الخلافُ الذي ذكرتُه، والظاهر في النقل اشتراطُ الإعلام، وانقضاءُ مدة الرجوع.
وإن جرى نشوز خفي من غير إظهار، ثم فُرض العَوْد إلى الطاعة، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بأن لا اشتراط للإعلام، بخلاف النشوز الظاهر، ومنهم من أجرى الخلاف. هذا هو التفصيل في ذلك.
فصل:
قال الشافعي: "ولا يبرىء الزوج من نفقتها... إلى آخره".
10124- أشار إلى ما قدمناه من أن استقرار نفقة الزوجية لا يتوقف على فرض القاضي، فلو مرت الأيام، والنفقة منقطعة واستحقاقها دائم، فتصير وظائف تلك الأيام دَيْناً، ولا شك أن هذا فيما يشترط التمليك فيه، فأما ما يستحق فيه الإمتاع، فالإمتاع في الزمن الماضي لا يتصور استدراكه.
ثم ذكر الشافعي أن الزوج والزوجة إذا اختلفا، فأنكرت المرأة قبضَ النفقة، وادّعى الزوج تسليمها، فالقول قول المرأة، فإن الأصل عدمُ القبض، قياساً على الديون، ولا فرق بين أن يكون الزوج غائباً أو حاضراً، وقصد بهذا الرد على مالك، فإنه قال: إذا كان الزوج حاضراً، فالقول قوله، وزعم أن الغالب أنه ينفق، وهذا إنما قاله والزوجة معه في الدار، ونحن لا نفرق.
ثم ذكر الشافعي تفصيلَ القول في نفقة الكافرة إذا تخلفت عن إسلام الزوج، ثم أسلمت في العدة، وقد ذكرنا ذلك مستقصىً في نكاح المشركات وذكر طرفاً من نفقة زوجة العبد، وقد تقدم استقصاء جميع ذلك، ولله الحمد والمنة.

.باب: الرجل لا يجد النفقة:

قال الشافعي: "ولما دل الكتاب والسنة على أن حق المرأة على الزوج أن يعولها... إلى آخره".
10125- إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته، وتحقق ذلك، فالمنصوص عليه في معظم الكتب أنه يثبت حقُّ رفع النكاح، وقال الشافعي في تحريم الجمع: لا يثبت حق رفع النكاح، ففي المسألة قولان إذاً، وتوجيههما مستقصىً في طيول المسائل، ولكنا نذكر المقدار الذي يُقْنع، ويتعلق بضبط المذهب:
من قال: لا يثبت لها حق رفع النكاح احتج بأن النفقة من التوابع، ومقصود النكاح المستمتع، وهو بعيد عن الفسخ، والمطالبةِ بالرفع، فلا يجوز طلبُ رفعه بتعذرِ تابعٍ، ويتبين كون النفقة تابعة بكونها غير معقودٍ عليها.
ومن نصر القولَ الثاني اعتقد كفايةَ المؤن في جانبها حقَّها المطلوب؛ فإن استحقاق الاستمتاع للرجل، ولا استحقاق للمرأة إلا في كفايتها، ثم تعذرُ الاستمتاع-التي هي تابعة فيه غير مستَحِقة- يُثبت لها حقَّ الفسخ، فلأن يثبت لها حق الفسخ بتعذر ما هو مقصودها المطلوب، وحقها الذي يوصف باستحقاقِه وملك طلبه أولى.
ثم الكلام بعد هذا التمهيد في فصول: أحدها: في تفصيل التعذر الذي يناط به حق الرفع.
والثاني: فيما يتعذر من المؤن. والثالث: في تفصيل الرفع وكيفيته.
والرابع- فيمن يثبت له هذا الحق، ثم إن شذت مسائلُ عن مضمون هذه الفصول، رسمناها فروعاً.
10126- فأما القول في معنى التعذر: فإن كان الزوج ينفق يوماً فيوماً، فلا تعذر والنكاح على استمراره، وإن كانت تعتقد أن كسبه إنما يفي بحاجات الصّيف وهي تظنّ أنها لو أخرت الفسخ إلى الشتاء، لم تُخطب ولم تطلب، فهذا من الوساوس وللأحوال تحوّل، فلا يثبت حق الرفع قبل وقوع التعذر.
ولو لم يجد ما ينفقه، ولم يستمكن من كسبِ يجمع القوتَ، فهذا هو الإعسار.
ولو كان غنياً، ولكنه امتنع عن الإنفاق، فللأصحاب طريقان: فمنهم من قطع بأن حق الرفع لا يثبت، ولكنها تحرص على تحصيل حقها من زوجها، فإن تمكنت، فذاك، وإلا استعاذت بمن إليه الأمر.
ومن أصحابنا من جعل في الامتناع قولين؛ فإن النظر إلى التعذر، وقد تحقق التعذر.
والذي يجب القطع به أنها إذا قدرت على تحصيل حقها بأخذ طائفة من ماله، أو كان التحصيل ممكناً بالوالي على قُرب، فهاهنا نقطع بأنه لا يثبت الفسخ، وإن كان لا تمتد يدها إلى ماله، وكان التحصيل بالوالي عسراً، فهذا محل الطريقين.
فإن قيل: خصصتم حقَّ فسخ البيع والرجوع إلى المبيع بإفلاس المشتري. قلنا: إذا امتنع عن توفية الثمن، ففي إثبات حق الفسخ كلام ذكرناه في البيع، ثم في الإفلاس.
ولو كان الرجل كسوباً، ولم يكن ذا مال، فامتنع من الاكتساب، فهذا إعسارٌ بالنفقة على التحقيق، وإن كان متمكناً من تحصيل النفقة بالكسب، وسيأتي فصلٌ جامع في أنا هل نوجب على الرجل أن يكتسب لينفق على غيره، وقدر غرضنا الآن ما نصصنا عليه.
10127- فأما القول فيما يتعلق حق الرفع بتعذره، فالقوت هو الأصل، فإذا تعذر كله، ثبت حق الرفع، وكل هذه الفصول وما يتبعها من الفروع تبنى على إثبات حق الرفع لا محالة.
10127/م- وإذا بأن ما ذكرناه في القوت، فأول مذكور بعده الإعسار بالصداق، فإذا أعسر الزوج بالصداق، لم يخل إما أن يكون ذلك قبل المسيس وإما أن يكون بعد المسيس، فإن كان قبل المسيس، ففي المسألة طريقان: إحداهما- أن المسألة تخرّج على قولين في حق الرفع قياساً على الإعسار بالقوت.
والطريقة الأخرى وهي المرضية أنه لا يثبت حق الرفع؛ فإن الصداق ليس على حقائق الأعواض؛ إذ رده لا يوجب ارتدادَ النكاح وفسادَه، فتعذره ينبغي أن لا يسلِّط على رفع النكاح، وليس الصداق مؤونةً دارّة وكفاية عامةً بخلاف النفقة، فإذا خرج عن كونه كفاية، وعن كونه عوضاً محققاً، بَعُد أن يُثبت الإعسارُ به حقَّ الرفع.
هذا إذا لم يجر المسيس.
فإن جرى دخولٌ ومسيس، فقد تقدم في أحكام الصداق أن المرأة، إذا مكنت مرة، لم يكن لها منعُ نفسها عن زوجها ليوفر الصداق، بل تسليمُها نفسَها مرة يُلزمها التسليمَ أبداً.
ولو استكرهها الزوج أول مرة ووطئها، فقد استقر مهرها، وهل يبطل حقها في حبس نفسها عن الزوج؟ فعلى وجهين تقدم ذكرهما فيما تقدم.
وإذا تجدد العهد بهذا، فلو فُرض الإعسار بالمهر بعد المسيس، فالذي قطع به الأئمة أنه لا يثبت لها حق الفسخ قولاً واحداً.
وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يطرد القولين بعد المسيس، وهذا غلط صريح غير معتد به؛ من جهة أنا لو أثبتنا حقَّ الفسخ بالإعسار بالمهر بعد المسيس، لزمنا أن نثبت لها حق منع النفس إذا مكنت مرة، وهذا أهون من التسليط على رفع النكاح. فإن تشبّث من يطرد القولين بخلافٍ في منعها نفسها، لم يقبل ذلك منه، وكان كلاماً مسبوقاً بإجماع الأصحاب.
وإن سلم أن حق الحبس لا يثبت بعد جريان وطئه، فلا مطمع في الفرق.
ومما يتصل بهذا الفصل الكلامُ في المفوّضة، فإذا رضيت المرأة إسقاط المهر من النكاح، فالقولان في أنها هل تستحق المهر بالنكاح مذكوران على أكمل وجه في البيان. فإن قلنا: لا يثبت للمفوضة مهر مثلها، فلها حق طلب الفرض، ثم إذا فرض لها وتحقق الإعسار، التحق تعذر المفروض بتعذر المهر المسمى.
وإن قلنا: إنها تستحق بالعقد المهرَ، وتحقق التعذر، فهل يتوقف حق الفسخ-إذا أثبتنا حقَّ الفسخ في المهر- على أن يفرض لها أم تملك الفسخ قبل الفرض؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما على من أحاط بأسرار التفويض، ولم يخف عليه أصل الباب.
هذا قولنا في المهر.
10128- ولو كان الزوج موسراً فأعسر، فنفقتُه نفقةُ المعسرين، ولا نقول: تعذر المُدّ الزائد، بل رجعت وظيفة النفقة إلى هذا المقدار.
ولو كان يَقْدِر كلَّ يوم على نصف مدّ، وأقل النفقة مد، فهل يثبت للمرأة حقُّ الفسخ؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يثبت، وإليه صار الجماهير.
والثاني: وهو مذكور في بعض التصانيف أنه لا يثبت لها حق الرفع؛ فإن نصف القوت كفافٌ على حالٍ.
ولو كان يقدر على تحصيل ثلث المد، فلها حق الرفع، والذي ذكرناه من الخلاف مخصوص بالنصف، وهو مأخوذ من عرف متأيد بقول الشارع، وذلك أن القوت الكافي إذا شارك الرجلَ فيه مؤاكل، فبالحري أن يمكن تزجية الوقت به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طعام الواحد يكفي الاثنين».
وهذا بعيدٌ؛ فإن النفس في الغالب لا تقوم بنصف مد، وإن تَزجّى يومٌ على هذا، لم يحتمل استمراره.
فأما الإعسار بالأُدم، فالذي عليه الأئمة أنه لا يُثبت حقَّ رفع النكاح، قال الشيخ أبو حامد: لست أقول غير هذا و إن قاله غيري، وهذا تشبيبٌ منه بخلافٍ في الأُدم، هكذا حكاه الشيخ أبو علي عنه، ثم قال: يحتمل عندي احتمالاً ظاهراً أن يثبت حق الفسخ، بتعذر الأدم، لأنه من النفقة، ولا يخلو عن استحقاقه نكاح، وليس كنصف المدّ في حق المتوسط، ولا كالمد الزائد في حق الموسر؛ فإنه إذا أعسر، سقط وجوب الزائد، ورجعت وظيفة النفقة إلى المد، والأُدم لا يسقط بحال، وإن تعذر، صار ديناً ملتزماً في الذمة، فكأنه جزء من القوت.
10129- ومما اختلف الأصحاب فيه تعذُّر الكسوة والمسكن: فمن أصحابنا من أثبت حق رفع النكاح بتعذرهما، لما في عدمهما من الضرر.
ومنهم من لم يُثبت حقَّ الفسخ بهما؛ فإن النفس تقوم دونهما، وهذا لا يؤخذ من التردد في أن التمليك هل يراعى في الكسوة؛ فإن هذا إن كان يجري في الكسوة، فلا تردد في المسكن، والخلاف فيهما مطرد، ثم التمليك واستحقاقه لا يُثبت حق الرفع، وإنما يُتلقى حق الرفع من الضرار العظيم، الذي لا تستقل به، سواء كانت إزالته بإمتاع أو تمليك.
وقد يتلقى مما ذكره الشيخ أبو علي وهو أنه لا يخلو عن استحقاقه نكاح.
وقد يعترض على هذه الطريقة نكتة لطيفة وهو أنا إذا جعلنا الكسوة إمتاعاً، فإذا عجز الزوج عنها، استحال أن نلزمه ما لا يقدر عليه، والإمتاع لا يقرّ ديناً في الذمة.
فينتظم من مجموع ذلك أن نكاح العاجز عن الكسوة خالٍ عن وجوبها، فليتأمل الناظر ذلك، وليردّ اعتماده إلى الضرار الذي ذكرناه.
واختلف أئمتنا في أن الإعسار بنفقة الخادمة هل يُثبت حقَّ الفسخ؟ وهذا قريب المأخذ من الإعسار بالكسوة والمسكن، فإن ضرر المخدومة يظهر بانقطاع الخدمة عنها.
فقد تحصَّل من مجموع ما ذكرناه تفصيلٌ في المذهب يقطع عما نريد أن نذكره بعده.
ثم الإعسار بأقل النفقة مثبتٌ لحق الرفع، والخلاف الذي حكيناه في نصف المد بعيدٌ غيرُ معتد به، والزائد في حق المتوسط والموسر يسقط وجوبه أصلاً.
وفي الأُدم تردد، والأظهر أنه لا يتعلق بالإعسار به حق الرفع.
وفي الكسوة والمسكن خلاف ظاهر متأصل في المذهب؛ لأنه ضرار ظاهر، وإن كان النفس قد تقوم دون الكسوة والمسكن، فمن الممكن فرض حالة يُهلك العُريُ فيها، ويقرب من الكسوة المسكنُ.
والخلاف في نفقة الخادمة أظهر؛ فإن سقوط الخدمة محتمل على الجملة.
فهذا قواعد القول فيما يتعلق حق الرفع بالإعسار به، تفصيلاً وعقداً.
10130- فأما الكلام في رفع العقد وجهته، فهذا يتشعب ويتعلق بأطرافٍ: منها الكلامُ في ماهية الرفع، ومنها الكلام فيمن يرفع، ومنها الكلام في وقت الرفع.
فأما القول في ماهية الرفع، فالظاهر أنه فسخ، فإنه منوط بتعذر حقٍّ مستحَق بالعقد، فكان فسخاً؛ اعتباراً بما يضاهي ذلك من الفسوخ، المتعلّقة بتعذر الحقوق.
وذكر بعض الأئمة قولاً آخر في المسألة: أن النكاح يُرفع بالطلاق.
فإن قلنا: الرفع فسخ، فهو إلى المرأة، ولكن قال المحققون: ليس لها أن تفسخ ما لم تُثبت الإعسار أو الامتناع في مجلس الحكم، فإذا ثبت ذلك ببيّنة مقامة أو بإقرار الزوج، فحق الفسخ يثبت للمرأة.
وتمام هذا إذا أوضحنا الوقتَ والأجلَ إن كنا نرى ضربه، ولكن حق الناظر أن يأخذ الكلام مرسلاً، ثم تفصيله موقوف على نجاز الفصل.
ثم إذا أثبتنا للمرأة حقَّ الفسخ، وقد ثبت الإعسار في مجلس الحكم، فالذي اقتضاه كلام المحققين أنها تنفرد بالفسخ في غير مجلس الحكم؛ فإن الذي يتعلق بمجلس الحكم إثباتُ علة الفسخ، وسبيل ذلك إقامة البينات أو الأقارير الثابتة، والبيّنة لا تقام إلا في مجالس الحكام، والإقرار وإن كان يثبت في غير مجلس الحكم، فلا يُفضي إلى الغرض ما لم يثبت في مجلس الحكم، بأن يسمعه الحاكم أو تقوم بينة عليه، فإن المقر في غير مجلس الحكم قد يجحد، فلا يفيد ما سبق من الإقرار ثبوتاً.
فإذا تقرر الإعسار، فلا حاجة إلى الحكم والحاكم في إنشاء الفسخ.
ولو تحقق الإعسار، ففسخت المرأة قبل إظهار الإعسار في مجلس الحكم، ففي نفوذ الفسخ باطناً تردد وتقابلٌ في الاحتمال، ويظهر أثر هذا بأنها إذا ثبت التعذر أمس وقد فسخت، وثبت في مجلس الحكم الإعسار المتقدّم على فسخها، فهل نقول: تبين نفوذ الفسخ باطناً أمس، ثم يظهر ذلك الباطن بقضاء القاضي بالإعسار السابق، حتى لا تحتاج المرأة إلى إنشاء فسخ.
هذا محل التردد: فيه احتمالٌ ظاهرٌ لا ينكره الفطن، ولا يتجه مثل هذا في الفسخ بالعُنة، فإن الفسخ لا يثبت بثبوت العنة؛ إذ الزوج إذا أقر بالعنة أُمهل مع إقراره سَنَة، ثم تلك المدة لا حكم لها ما لم يضربها الوالي.
فانتظم من ذلك أن ما يقتضيه كلام الأئمة أن الفسخ لا ينفذ ظاهراً وباطناً ما لم يثبت الإعسار في مجلس الحاكم.
ومن الأصحاب من أظهر تردداً في الظاهر والباطن على الترتيب الذي سقناه.
وهذا عندنا يحتاج إلى مزيد كشف، فإن لم يكن في الصُّقع حاكم ولا مُحَكّم، فيظهر ملك المرأة الفسخَ عند تحقق التعذر، وإن كان حاكمٌ، ففيه التردد، ولا نعدَم نظائرَ هذا في المسائل التي ترفع إلى الحكام إذا أمكن الرفع، ويثبت الحكم من غير حاكم إذا شغرت البقعة.
هذا كله تفريع على أن الرفع طريقه الفسخ.
10131- فأما إذا قلنا: الرفعُ طريقه الطلاق، فهذا موجه بالتشبيه بالإيلاء؛ فإن المدة إذا انقضت وظهر الضرار، فالزوج يُرفع إلى الحاكم ليفيء، فإن لم يفعل، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن القاضي يطلّق.
والثاني: أنه يحبس حتى يطلّق، وقد مضى القولان وتفريعهما في الإيلاء، فقال قائلون: ليكن رفع النكاح بالإعسار على هذا النسق إلا فيما نستثنيه.
وهذا قول ضعيف يبين ضعفه بالمعنى واضطراب التفريع، فأما المعنى فالإعسار بالنفقة يتعذر به حقٌّ مستَحَقٌّ، هو القوام، وعليه تعويل المرأة في احتباسها في حِبالة النكاح، وليس الوطء مستحَقاً على الزوج، فإنه لو لم يُولِ، لم يكلّف الطلاق، وإن امتنع عن الوقاع سنيناً وأعواماً.
وأما فساد التفريع، فنقول: أولاً قول حبس الزوج ليطلّق لا يخرّج، فإن الضرار يشتد بانقطاع النفقة، وليس كالضرار بانقطاع الوقاع، فبقي أنه إن لم يطلِّق، طلق القاضي، ثم في المُولي يكفي الطلاق الرجعي، وهاهنا لو طلقت طلقة رجعية، لكانت مستحقة للنفقة مع وقوع الطلاق، كما تستحق النفقةَ في صلب الزوجية.
ولكن إذا فرعنا على هذا القول، فلا وجه إلا احتمال هذا، فإن العدّة لابد منها وإن جعلنا الرفع فسخاً، غير أنها إذا فسخت تخلصت، وإذا طلقها القاضي طلقة رجعية، فللزوج الرجعة، ولكن إن راجعها ولا نفقة، طلقها القاضي طلقة أخرى، فإن عاد، فراجع، استتم القاضي الطلقات الثلاث. هذا منتهى التفريع على خبطه.
10132- وقد انتجز ماهيّة الرفع ومن يرفعُ في قَرَنٍ، وبقي الكلام في الطرف الثالث، وهو أن من أعسر وثبت إعساره، فهل يُمهلُ أم يثبت حقُّ الرفع من غير إمهال؟ ذكر الأصحاب في ذلك قولين:
أحدهما: أنه لا إمهال.
والثاني: أنه يمهلُ ثلاثةَ أيام، وقرب المرتبون هذا من إمهال المرتد ثلاثة أيام في الاستتابة، فإنا نرتجي أن نرادّه بالحجاج، ونحل ما اشتبه عليه كما نرتجي للزوج أن يجد ما ينفقه، والمأخذان قريبان، والثلاثةُ على حالٍ مدةٌ معتبرة في أمثال هذه الأشياء، وهذا الطرف تهاون به الباسطون والمتعمقون، فضلاً عمّن يُؤثرِ أن يَروِي أطرافَ الكلام
ويقنع بظواهرها، ونحن نستفرغ الوسعَ في ذلك ونبرأ عن الحول والقوة، فنقول:
أما من أطلق ترك الإمهال، فلست أرى هذا الإطلاق سديداً؛ من جهة أنا قدمنا أن للمرأة أن تطلب النفقة في صبيحة كل يوم، وإذا أطلقنا أول اليوم عنَيْنا وقت طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر يوماًً وطلبت النفقة، فإن قال الزوج: إذا أصبحنا حصّلتُ النفقة، فلا يجوز أن يُعتقَد أنها تملك الفسخ، وإن جرى ذلك في مجلس الحاكم، حتى لا ينتشر في مسلك التصوير، والدليل عليه أن من أقر بدين في مجلس الحكم للمدَّعي، فطلب المدعي حبسَه، فقال: أَدخلُ السوقَ فأَزِن، أو أُحضر من مخزني، وقد يكون من مجلس الحاكم إلى المخزن مسافة، فلا يُحبس، ولكن للمدعي أن يستدعي من القاضي أن يوكِّل به من يدور معه، على ما سيأتي هذا في أدب القضاء، إن شاء الله.
فلو قالت المرأة: لا نُخلِّيك، فانطلِق وحصِّل، ولكن يوكِّل القاضي بك من يدور معك، فليس لها ذلك، ولا يجوز أن نعتقد في هذا الطرف خلافاًً؛ فإن شطر البريّة يصبحون ويأخذون في التمحل إما من رؤوس الأموال، وإما من الحرف والأكساب، ولا يُوكَّل بأحد في تحصيل النفقة، وهذه الأمور تحمل على مقتضى العادات.
10133- فإذا انحسم ما ذكرناه من اعتقاد السرف في البدار، فنحن نخوض وراء هذا في البيان: قد يخطر للفقيه أنها لا تفسخ ما لم ينقضِ اليومُ؛ فإن استقرار النفقة بانقضاء اليوم؛ إذ هي وظيفة اليوم، فإن صار إلى ذلك صائر، فالمهلة مقولٌ بها، ولكن الخلاف في مقدارها.
ويظهر أثر هذا بنقيضه، وهو أنا إن لم نر إمهال المرتد، فلا مزيد على الاستتابة بكلمة، فإن أبى، طيّرنا رأسه، فكأنا نقول في النفقة على الرأي الذي أظهرناه: إذا استقرت نفقة يوم واستمر الإعسار والتعذر، فلها حق الفسخ، وهذا بعيد جداً.
ثم ينقسم الكلام فيه: فيجوز أن يقول القائل: إذا غربت الشمس، انحسم المضطرب، وملكت الفسخَ، وإن كانت النفقة لليوم والليلة، ويجوز أن يقال: لا تفسخ حتى تنقضي الليلة؛ فإنها بالفسخ لاتملك متعلقاًً في الليل، فلتسكن، والليلة تتبع النهار في أحكام.
هذا مسلكٌ.
ويجوز أن يقال: إذا تأخر الغَداء تأخراً يظهر منه الضرار في حق من لم يتهيأ للصوم، حان وقت الفسخ. وهذا بعيد، ولو اعتبر معتبر انقضاء النهار؛ فإن جَوْعة الصوم محتملة في الشرع، لكان قولاً.
10134- وكل ذلك باطلٌ دالٌّ ببطلانه على فساد الأصل؛ فإن الأظهر الإمهال، كما سنصفه. وإن لم نر الإمهال، فلا يتجه إلا اعتبارُ انقضاء اليوم والليلة، والعلم عند الله.
ولو اعتاد الزوج-والتفريع على ترك الإمهال- ألاَّ يأتي بالطعام إلا ليلاً، فهو ممنوع عن هذا، فإنه في التحقيق يكلفها صومَ الدهر، وليس كل ما لا يُثبت حقَّ الفسخ اتفاقُه وندوره إذا تكرر لم يثبت حق الفسخ، والوجه اعتبار ظهور الضرار.
على أن الطعام إذا كان يأتيها ليلاً، فيمكنها أن تكتفي في الحال بسِدادٍ وتؤخِّر من طعامها شيئاً إلى غدها، فإن كان ذلك ممكناً، فلا ضرار، وإن كانت رغيبة والقوت مدٌّ، ولو قطّعته، لم تنتفع به، فقد كلّفت الصومَ.
ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أن المرأة إذا كانت لا تملك إرهاقَ الزوج عند طلوع الفجر، ولا تملك أن تستدعيَ التوكيلَ به، فليس يتحقق الوجوب على التضييق.
ولست أشبه ما أطلقه الأصحاب من الوجوب في هذا إلا بقولنا: تجب الصلاة بأول الوقت وجوباً موسّعاً.
والذي أراه أن الزوج إن قدر على إجابتها، فهو حتم لا يسوغ تأخيره وإن كان لا يُحبس، ولا يُوكَّل به، ولكنه يعصي بمنعه.
وإن لم يكن في يده، أو كان يلقى عسراً، فله أن يتوسع على الاعتبار.
ولو طلبت النفقةُ في صبيحة اليوم في مجلس القاضي، فقال الزوج: لست أملك شيئاًً، وأنا معسر حقاً، ولست على ظنٍّ في تحصيل القوت- والتفريع على أنْ لا إمهال، وقد ذكرنا أن الزوج إذا كان يستمهل لينبسط، أُمهل على حالٍ، والتفصيل في مقدار الإمهال ما قدمناه في ذكر وجوه الاحتمال.
فإذا قال: لست أنبسط ولست أملك شيئاًً، فهل تملك المرأة مبادرة الفسخ مع اجتماع هذه الأصول؟ فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: إنها تملكه، ويجوز أن يقال: لا تملك ما لم يَنْقَضِ الزمان الذي اعتبرناه في حق من يقول: أنبسط.
وكل هذا تفريع على أنْ لا إمهال.
10135- فأما إذا قلنا: يمهل الزوج ثلاثةَ أيام بلياليها، فتنقسم الأحوال وتتشعب الفصول، ونحن نأتي بما يحضرنا.
فأول ما نبدأ به أنه إذا وجد النفقةَ في اليوم الثالث، وعَدِمَها في الرابع، فهل يفتتح ثلاثة أيام لتخلّل الإنفاق؟ ظاهر المذهب أنا لا نفتتح ثلاثة أيام، ولكن نكمل المدة باليوم الرابع الذي عسر عليه الإنفاق فيه، وقد تمت المدة، ثم نرى بعد هذا رأينا، كما سيأتي.
وفي بعض التصانيف وجه بعيد أنا نستفتح المدة، فمهما تخلل الإنفاق في يوم، فإن الإنفاق يقطع ما يقدّر من العسر، وهذا ضعيف مزيف، ومآله يؤول إلى تحلُّلٍ غيرِ محتمل، وهو أن ينفق يوماًً ويترك الإنفاق ثلاثة أيام، ويتخذ ذلك عادته، وهذا يجرّ ضراراً عظيماً. وما عندي أن صاحب ذلك الوجه الضعيف يسمح بهذا، وإنما يقول ذلك إذا لم يتكرر ولم ينته إلى الاعتياد، ولستُ لضبط ما أقطع ببطلانه؛ فإن بين أيدينا في هذا الفصل أموراً مهمة.
10136- ونقول بعد ذلك: إذا انقضى المهل في الأيام الثلاثة مع استمرار الإعسار، وأصبحت المرأة في اليوم الرابع متشوفة إلى الفسخ، فقال الزوج: مهلاً حتى نصبح وأنبسط وآتيك بالنفقة في وقت العادة، فلا يجاب الزوج إلى هذا؛ فإن الإعسار قد تحقق، فلو لم نقُل هذا، لزدنا المَهَل، ثم هذا يجر مثلَ ذلك في اليوم الخامس. نعم، إذا جاء الزوج بالنفقة صبيحة اليوم الرابع، لم تفسخ، وليس لها أن تقول: ائتني بنفقة الأيام الثلاثة وإلا فسخت، ولست أكتفي بنفقة اليوم الرابع؛ فإن نفقة الأيام الثلاثة صارت دَيْناً، وليس لها فسخ النكاح بالإعسار بالنفقة التي صارت ديناً في مقابلة ما مضى من الزمان، ونحن لا نضرب المَهَل حتى يثبتَ حقُّ الفسخ لأجل تعذر النفقة في مدة الإمهال، وإنما اعتبرنا الإمهال ليتحقق الإعسار بها، ويزول توقع البسط، وسيزداد هذا وضوحاً في أثناء الكلام، إن شاء الله.
وليس للمرأة أن تقول: أقبض ما جئتَ به عن نفقة ما مضى، وأطالب بنفقة اليوم؛ فإن الرجوع فيما يؤديه مَنْ عليه الحق إلى قصده، لا إلى قصد القابض.
هذا إذا أتاها بالنفقة في صبيحة اليوم الرابع.
فإن أتاها كذلك بالنفقة في صبيحة اليوم الخامس والسادس، فلا كلام.
وإن قال في اليوم الخامس: نعود إلى اعتياد الإنفاق، فاتركي الإرهاق إلى المطالبة بالنفقات في صبيحة اليوم، فكيف السبيل؟ إن قلنا: الرجل يجاب إلى ما ذكر، فهذا إمهالٌ آخر. وإن قلنا: لا يجاب الرجل، فإلى متى وأين الموقف؟ وهل يحبس إلى أن يلتزم؟
إن الإعسار إذا اطرد ثلاثة أيام، فقد ثبت للمرأة حقُّ الفسخ في كل مرة إذا لم توافها النفقة.
هذا سؤال عن ضربٍ من الإشكال.
10137- ويتصل به أنا إذا فرعنا على الأصح، فلو استمر الإنفاق بعد المَهل المنقضي ثلاثةَ أيام أو أكثر، ثم فرض الإعسار، فلا نعودُ إلى ضرب المدة قط، ونقول: لا مهلة للإعسار إلا مرة واحدة في النكاح، هذا موقف لا يجوز للفقيه فيه الاكتفاء بالاتباع ولا يسوغ أن يخطوَ بالخطو الوِساع، ونحن نقول والله المستعان: هذا لا يُحَلُّ إلا بالنظر إلى حال الرجل، فإن استمر الإعسار في الثلاثة الأيام المضروبة أجلاً ومَهَلاً، ثم فُتح له قوت يوم، فلا فسخ، ولو فتح له كذلك في يوم الخامس، وليس على اعتمادٍ في مُنَّته، ولا في مال، وإنما يجري ما يجري على الوفاق والفتوح، فلو تمادى الزمن ما تمادى، فإذا لم تُفرض النفقة في يومٍ، فلا مَهَلَ أصلاً.
وأنا أقول قولَ قاطع لا يرتاب: إنه لو كان كذلك في أول الأمر، فلا يمهل مثله، وإنما التردد الذي ذكره الأصحاب في الإمهال إذا كان على وثيقةٍ من مال أو استغلال وقفٍ، أو الرجوع إلى قدرةٍ على الكسب، ثم تُفرض آفة تعد من جوائح الدهر، فمثل هذا يمهل.
أما من لم يكن قط راجع إلى عُدّة ومُنّة، فلا معنى لإمهال مثلِه؛ فإن أصله الإعسار، فإن اتفق شيء فهو يدرأ الإعسار، وإن لم يتّفق، فصفة الرجل الإعسار، وأنا أقول بحسب هذا: إذا أمهلنا صاحب الجائحة، فإن وجد شيئاًً موثوقاً به، ثم فرض طريان اجتياح، فالاختلاف في الإمهال يعود، وإن لم تدم تلك العُدة يوماً.
فهذا هو المعتبر لا غير.
والآن، لا ضبط ولا موقف ينحصر الفكر فيه، فإن قيل: هل من ضبط فيما يتجدد له من مال؟ قلنا: إن كان بحيث يغلب على الظن التبلّغ به عند فرض تصرفٍ فيه من غير أن يقال: هذا ينقطع لا محالة إلى مدةِ كذا، فهذا نقيض الإعسار بالنفقة، وإن كان ذلك القدر ينقطع لا محالة، فهو ملتحق بالفتوح، وقد يكون ما ينفتح على الإنسان ليوم، وقد يكون لأسبوع، فهذا منتهاه.
وإذا حركنا وجوه الإشكال، فالرأي مشترك على شرط أن يكون الزائد على ما نذكره خيراً منه.
10138- وعلينا بحثٌ آخر أجريناه في أثناء الكلام ولم نجب عنه، وذلك أنا قلنا: للمرأة مبادرةُ الفسخ صبيحةَ اليوم الرابع، ثم قلنا: هل لها ذلك صبيحة اليوم الخامس؟ وهذا وإن لم نبح به، فهو مندرج تحت ما مهدناه؛ فإن حدث للرجل بعد المهل عُدَّة، عادت الطّلبة والمضايقة إلى موجب العادة، ويجب طلب هذا أيضاًً إذا علمت المرأة ظهورَ عُدَّة في اليوم الرابع إذا لم يبدُ من الرجل تقصير.
وإن لم يظهر للرجل عُدّة، وإنما فُتح له في اليوم الرابع شيء، وكان على انتظار مثله في اليوم الخامس، فالذي أراه أنه في اليوم الخامس بمثابته في أول يوم قبل المهل، إذا فرعنا على أنه لا إمهال، وقد أوضحنا أن صاحب الفتوح الذي لا يرجع إلى عُدّة لا معنى لإمهاله، فإن قيل: فاطردوا هذا في اليوم الرابع. قلنا: الأيام الثلاثة قبله كالحَمْل على الاعتياد في اليوم الخامس، ولو لم أقل هذا في الخامس، لزمني أيضاًً أن أثبت حق الفسخ في صبيحة السادس، ثم إلى متى وينحل انحلالاً لا ينضبط، فهذا غايتي في هذا الفصل.
ولست أدّعي الاستيعاب في وجه الصواب، ولكني استوعبت التنبيه على وجوه الإشكال، ثم استفرغت الوسمعَ في حلّها، وأرخيتُ طِوَل مَنْ بعدي للنّظر السديد.
10139- وهذا نجاز هذا الفصل. ويتصل به شيء قريب المأخذ به، وهو أن المَهَل إذا انقضى، وثبت حق الفسخ، فرضيت بالمقام تحت المعسر، ثم بدا لها، فهي على طلبها وحقها، وإبطالُها حق الفسخ يختص بما ثبت لها، والضرار متجدد عليها حالاً على حال.
فيخرج من مجموع هذا أن ما أبطلته نفذ إبطالها فيه، ولكن تجدد لها حق في الزمان المستقبل، وليس هذا كما لو رضيت بالعُنّة والمقام تحت العنين، ثم بدا لها؛ فإنا لا نملكها الفسخَ، والسبب فيه أن العُنّة في حكم الخَصْلةِ الواحدة، وهي عيب قائم، فإذا رضيت به، فالعُنة لا تتجدّد، بل يناظر ما نحن فيه رضا امرأة المولي بالمقام تحت زوجها بعد انقضاء المدة، وإذا صدر ذلك منها، ثم بدا لها أن تعود إلى الطلب، فلها ذلك؛ فإنها ما رضيت بعيبٍ في زوجها، وإنما رضيت بما لحقها من الضرار، وهو متجدد عليها في الزمان المستقبل.
وسر هذا الفصل يوضحه ما نصفه، فنقول: الحقوق التي لا مقدار لها، ولا انحصار، لا يصح إسقاطها. نعم، اختلف القول في أن ما لم يجب، وثبت سببُ وجوبه، هل يصح الإبراء عنه على شرط التقدير، وكذلك اختلف القول في ضمان ما لم يجب، وثبت سببُ وجوبه.
فلا جَرَم نقول: لو أبرأت المرأة زوجها عن نفقة خمسين سنة من السنين المستقبلة، فليس لها حق الفسخ بالإعسار حتى تنقضي هذه المدة، ولو قالت امرأة المولي: أسقطت حقي من طلب الفيئة سنة، فلست أرى لهذا الإسقاط حكماً، والإبراء إنما يصح في حقوق ثابتة، ولا حق للمرأة على الزوج في الاستمتاع، وإنما يثبت لها طلب الفراق للضرار، فإلى ماذا يضاف الإبراء، وحاصل قولها يؤول إلى بذل اللسان بمصابرة الزوج مع إضراره، ولا حاصل لذلك.
ومما يتصل بهذا أنا إذا فرعنا على الأصح، وانقضت المدة، فرضيت، ثم عادت إلى الطلب، فقد قال الصيدلاني: لابد من ضرب مدة أخرى، وإن كنا نرى أن المهلة لا تجدّد، كما تفصّل المذهب، واعتل بفقه حسن، فقال: رضاها يُسقط ما تقدم، فإذا عادت فكأنها مطالِبة على الابتداء فيعتبر المَهَل، ثم طلب أن يفرق بينها وبين امرأة المولي؛ فإنها بعد انقضاء المدة لو رضيت بالمقام تحت الزوج، ثم بدا لها، لم نَضرب مدةً أخرى أربعة أشهر، بل هي على حقها الناجز، فقال: تلك المدة اقتضى النص ضربها غير متعلّقة بطلبها، والمهل في الإعسار بالنفقة يتعلّق بطلبها، فإذا رضيت، سقط أثر المهل.
وليس يبعد عندي أن يقال: لا يُضرب مهلٌ آخر في الإعسار، حيث انتهى التفريع إليه كالإيلاء، والفرق ليس بالواضح؛ فإن امرأة المولي رضيت بما لحقها من الضرار في المدة.
ثم هاهنا فقهٌ، وهو أنها مع تحقق الإعسار رضيت بأن لا تفسخ، وتحقق الإعسار لا يزول برضاها، والفقه ما ذكره الصيدلاني، فليتأمله الناظر.
10140- ومما يتصل بذلك أنها لو نكحت معسراً عالمة بإعساره، فهي على حقها من الفسخ إذا ثبت الإعسار بعد النكاح، واستمر، ولا حكم في حقها لاستمرار الإعسار قبل النكاح، وغرضُ هذا أن علمها بإعساره لا يُبطل حقَّها، على الترتيب الذي تقدم، بخلاف ما لو نكحت مجبوباً وعلمت بذلك منه، فليس لها حق الفسخ.
وقد نجز الغرض من هذا الفصل.
10141- فأما الكلام فيمن يثبت له حق الطلب، فليس هذا من الصنف الذي تقدم في أنها هي الفاسخة أم القاضي يطلق، بل غرض هذا الفصل بيان من إليه حق الطلب حتى ينتهي إلى الفسخ أو إلى الطلاق، فنقول: إذا كانت الزوجة حرةً مستقلة، فلها حق الطلب، ولو رضيت بالمقام، فلا اعتراض لأحد عليها.
ولو كانت صغيرةً أو مجنونة، فلا يقوم الولي مقامها في الطلب، وإن تناهى الضرر، وقد يفرض هذا في سنين الجدب والأزم، ولو كانت خليّة، لخُطبت وطُلبت، وكُفيت المؤن، ومع هذا هي في رباط الزوجية، فإن افتقرت، فهي فقيرة من فقراء المسلمين، لا نعرف في ذلك كله خلافاًً.
10142- ولو كانت الزوجة أمةً، فإذا أعسر الزوج بالنفقة، والتفريعُ على ثبوت حق الرفع، فللأمة حق الرفع، لم يختلف الأصحاب فيه.
ولو قال السيد: قَرِّي تحته، وأنا أنفق عليك، فلها الفسخ؛ فإن المَوْلى فيما قاله بمثابة الأجنبي في هذا المقام، وإن ثار نفس الفقيه، فليتئد، فالبيان بين أيدينا.
فتحصّل مما ذكرناه أن الأمة تفسخ على السخط من السيد.
ولو أبرأت زوجها عن النفقة، لم يصح إبراؤها؛ فإنها ليست مالكة للنفقة، وإنما يصح الإبراء ممن يملك ما يبرىء عنه. وهذا أيضاًً متفق عليه.
ثم ما ذكره الأصحاب: أن السيد لا يملك الفسخَ بوجهٍ؛ فإنه إذا ثبت استقلال الأمة بالفسخ من غير حاجة إلى مراجعة السيد، فانفراد السيد بالفسخ بعيدٌ.
وقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في الأمة المجنونة أولاً، وفي الصغيرة إذا فرض إعسار الزوج بنفقتها:
أحدهما: أن السيد يفسخ؛ فإن الضرار يلحقه؛ فإنه بين أن ينفق على أمته؛ فيصير غارماً للنفقة مع قيام الزوجية، وبين أن يضيّعها فتهلك، فإذا كان الضرار يلحقه، فينبغي أن يثبت له حقُّ الفسخ، وليس كالفسخ بسبب العُنة، فإن ذلك يتعلق بمحض حظّ المرأة.
والوجه الثاني- أنه لا يثبت للسيد حق الفسخ، فإن الأمة لو عقلت أو بلغت، فلها الفسخ، فإذا كان حق الفسخ ثابتاً لها، فيجب أن لا تشارَك.
فأما إذا كانت الأمة بالغة عاقلة متمكنة من الفسخ بنفسها، فإذا لم تفسخ، فهل للسيد الفسخ؟ ذكر الشيخ وجهين أيضاًً مرتبين على الوجهين المقدمين في المجنونة والصغيرة، ووجه الترتيب لائح، وتوجيه إثبات الفسخ له ما ذكرناه من التحاق الضرار به عند امتناعها من الفسخ، فلا فرق بين أن تمتنع من الفسخ وبين أن يمتنع الفسخ بالجنون والصغر، فإذا أثبتنا حق الفسخ بالمهر، فلا خلاف أن حق الفسخ مخصوص بالسيد، وهو مستقلٌّ به، لا مشاركة للأمة فيه، فإن السيد هو مستحق المهر، وليس للأمة فيه حق من طريق الإمتاع، أما الملك، فلا وجه لتصويره، والنفقة تتعلق باستمتاعها، وإن كانت لا تَمْلِك.
فهذا قواعد المذهب.
10143- ثم إنا نُخرج بالمباحثة منها أموراً لابد من الإحاطة بها، منها: أن نقول: إذا زوج السيد أمته، ووجبت النفقة، فقاعدة النفقة على التمليك، والأمة لا تملك، فحق الملك هل يثبت للسيد أم كيف السبيل فيه؟ هذا ما يجب إنعام النظر فيه، والذي يميل إليه ظاهر الرأي أن السيد يملك النفقةَ، ويخرج فيه أنه لو أراد إبدال ما يبذله الزوج بمثله، فعل ذلك، ولو أراد أن يأخذ من الزوجة ما بذله الزوج، فللأمة أن تستمسك به حتى يأتيَها ببدلٍ، فإن حقها متعلق بالنفقة على الاختصاص، ولها طلب النفقة، ولها الفسخ بتعذر النفقة، واختصاصها كالاستيثاق، وهذا بمثابة قولنا: إن نكح العبدُ، فالنفقة تتعلق بكسبه، ومنافعُه ليست خارجةً عن ملك المولى، والزوجة لا تملك منافعَ زوجها.
ولو بذل السيد النفقة من ماله، ومنع العبدَ من الاكتساب، فلا حرج عليه، ثم يبتني على هذا أن السيد لو أبرأ عن النفقة، فكيف الوجه؟
قد ذكرنا اختصاص الزوجة بالنفقة من جهة الزوج، وإن لم يكن لها ملك، فحق الاختصاص إذا لزم، منع تصرف المالك بالإسقاط، وتردُّدُ الأقوال في إعتاق الراهن لمكان قوة الملك وسلطانه، والإبراء ليس كالعتق. نعم، لو أنفق على الأمة من عند نفسه، فالنفقة تؤخذ من الزوج، وهذا يفتح حدقةَ البصيرة في أن السيد مالكٌ للنفقة، والذي يعترض فيه أن السيد لو غاب، فالزوج منفق على الأمة ولا تمليكَ، ولكن السيد هو المملَّك، وهو المستحق لتلك النفقة، وهو مأذون من جهة السيدِ والشرعِ في صرف ما يجب عليه من النفقة يوماً يوماًً إلى الزوجة، فهذا ما أفضى إليه مساق البحث السديد.
10144- وإذا زوج السيد أمته من عبده، فعلى العبد أن ينفق على الأمة، وهذا إنفاق لا تمليك فيه. نعم، هو إنفاق عن ملك السيد؛ فإن ما يكتسبه يقع ملكاً للسيد، ثم هو مستحق الصرف إلى الأمة.
هذا ما أردنا بيانه في ذلك.
وقد ذكرنا في كتاب النكاح أن السيد لو أذن لعبده في النكاح، فتزوج وصار كسبه متعلَّقاً للنفقة، فلو أراد السيد أن يستخدمه أو يسافر به، فله ذلك على الجملة، وقد يختلج في النفس من هذا شيء، وكنت على فكرٍ غائص منه قديماً، وهذا أوان إظهاره: يجوز أن يقال: ليس للسيد أن يستخدمه، فقد صارت منفعته متعيّنة للنفقةِ والمهرِ ما لم يبذل حقَّ المرأة. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه يُقدِمُ على الاستخدام، ثم يلتزم ما سبق تفصيله، وسنشير إليه.
وذكر العراقيون وجهاً أنه لا يستخدمه ما لم يضمن ما يجب ضمانه، أما إيجاب تعجيل ما يجب للمرأة، فخارج على القياس الذي قدمناه من أن ما تعين لحق الزوجية لا يجوز التصرف فيه قبل توفية الحق، كالنفقة التي يعجلها الزوج لا يتصرف فيها السيد، ووجه ما صار إليه معظم الأصحاب أن المنفعة ليست أشياء عتيدة حتى يتحقق الاستيثاق فيها، ولكن حق السيد مقدم على شرط أن يَضْمن.
وصاحب الوجه الذي حكاه العراقيون قابلوا توقع وجود المنافع بوعدٍ لازم، وهو الضمان، وهذا فقيه حسن.
وأما ما تشبثنا به من إيجاب تعجيل ما يجب، فهذا يستدعي تجديدَ العهد بما يجب على السيد إذا استخدَم، وفيه قولان:
أحدهما: أنه يجب أقل الأمرين من أجر المثل لذلك الزمان، أو النفقة والصداق، والقول الثاني- أنه يلتزم باستخدام العبد في ساعةٍ المهرَ بالغاً ما بلغ، وفي النفقة خبط ذكرته في النكاح، ولست لإعادته.
فإذا قلنا: يعجل ثم يستخدم، وجرينا على الأصح، وهو إيجاب الأقل، فلا يقدِّم إلا نفقةَ اليوم، وإن كان قد يستخدمه في غَرْمه أياماً؛ فإن إيجاب تعجيل ما لم يجب محال، وقد ذكرنا أن نفقة كل يوم تجب من صُبحه.
وهذا القدر من التفريع كافٍ منبهٌ على الغرض، على أني لست على اعتقاد سديد في إيجاب التعجيل، ولا أوثر أن يُلحق بالمذهب، وإنما الملتحق بالمذهب الوجهان الآخران، وليس كالنفقة ينقدها الزوج فلا يملك السيد التصرف فيه قبل الإتيان ببدله؛ فإن ذلك المنقود شيء موجود تعلق به وثيقة الزوجة.
10145- ومما أجراه العراقيون في أثناء الكلام أن قالوا إذا أعسر العبد بنفقة زوجته، وعجز عن الكسب، فهل تتعلق النفقة برقبته؟ ذكروا في ذلك وجهين:
أحدهما: أنه يتعلق بالرقبة، وهذا لا يعرفه المراوزة، وهو ساقط؛ من جهة أن النفقة والمهر من حقوق المعاملات المتعلقة بالعقود، وحقّ ما هذا سبيله ألاّ يتعلق إلا بالكسب، ولست أرى لهذا الوجه الغريب الذي حكاه العراقيون وجهاً إلا التحاقَ العقد بأروش الجنايات، وقد ذكرنا في النكاح الفاسد قولاً أن مهر المثل يتعلق بالرقبة، وإن صدر النكاح عن إذن من له المهر.
فإن قلنا: النفقة لا تتعلق بالرقبة، فإذا تحقق الإعسار، ثبت الفسخ، فلو قال السيد: لا تفسخي حتى أنفق، فهل لها أن تفسخ؟ أوَّلاً- إذا أعسر الحر بنفقة زوجته، فتبرع أجنبي بالنفقة، لم يمتنع حقُّ الفسخ على الزوجة. وإن تبرع على الزوج، فهو الممنون عليه، ثم الزوج ينفق، فلا تفسخ، ولا شك في هذا.
أما السيد إذا تبرع بالنفقة، ففيه تردد ظاهر، وسببه أن المنافع ملكُ السيد، وكان للسيد أن يستخدم العبد ويؤدي النفقة من خاص ماله، فإذا أدى الآن، فليس على حكم المتبرعين. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: لا يجب على السيد أن ينفق إذا أعسر العبد، فهو إذا بذل عند إعسار العبد متبرعٌ.
ويتصل بهذا المنتهى أن الأمة لو أرادت الفسخ، وقد أعسر الزوج بنفقتها، فقال السيد: لا تفسخي حتى أنفق، فظاهر كلام الأصحاب أن لها أن تفسخ، وليست هذه المسألة خاليةً عن احتمال جلي؛ من جهة أنا ذكرنا في قاعدة المذهب أن حق الملك في النفقة للسيد، فلا يبعد أن يقول لأمته: إنما حقك الاستمتاع بالنفقة، وليست ملكَك شرعاً، فإني مالك الرقبة ومالكٌ لأصل النفقة.
وهذا منتهى ما حضرنا.
فرع:
10146- إذا أعسر الرجل بنفقة مملوكه، لم يترك المملوك في الضرار، وكُلِّف المالك البيعَ، فإن أبى، بيع عليه المملوك، وسيأتي تفصيل هذا في باب نفقة المماليك، إن شاء الله.
ولو أعسر بنفقة أم ولده، ولا سبيل إلى بيعها-على ما عليه علماء العصر من منع بيع أمهات الأولاد- ثم إذا ظهر الضرار، فالمذهب الذي عليه التعويل أنها لا تعتِق، فإن الإعتاق على خلاف رأي المالك لا نظير له في الشرع، والفسوخ والحَلّ بطريق الطلاق متمهد في مواضع، وصار بعض أصحابنا إلى أنها تعتِق، ثم الذي بلغنا أن القاضي يعتقها، ولم أر أحداً من الأصحاب يقول: هي تُعتِق نفسَها قياساً على الزوجة إذا ملكناها فسخ النكاح، وهذا لأنا لا نجد مملوكة تُعتق نفسَها، ولست ألتزم فرقاً من طريق المعنى بين الفسخ وبين إعتاق أم الولد نفسها، ولكن إذا ضعف أصل الوجه، فلا معنى لتضعيف الضعف بالتفريع، ولكن الوجه الاختصار على المنقول، والتنبيه على الاحتمال.
فإن قلنا: يعتقها القاضي، فلا كلام. وإن قلنا: لا يعتقها، فالوجه تسييبها لتكتسب، ثم إن لم تتمكن من اكتساب القوت، فهي فقيرة من المسلمين.
فرع:
10147- إذا فرعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه العراقيون في أن النفقة تتعلق برقبة الزوج المملوك إذا أعياه تحصيلها من الكسب، فلا يُفضي الإعسار إلى الفسخ، ولكنا نبيع من رقبته شيئاً شيئاًَ على حسب مسيس الحاجة إن لم يَفْدِه السيد، وإن استوعبنا بيعه، فنأخذ في بيعه على المشتري، ولا يؤدي والحالة هذه الإعسار إلى الفسخ، وهذا الاضطراب في التفريع يدل على فساد الأصل.
فصل:
10148- إذا أعسر الزوج بالنفقة وقلنا: لا يثبت حقُّ رفع النكاح، فقد أطلق الأصحاب أن للمرأة أن تخرج وتكتسب.
وهذا مفصل عندنا: فإن كان لا يتأتى منها تحصيلُ القوت إلا بالخروج، فلا شك أنها لا تُمنع منه، وإن كانت موسرة قادرة على الإنفاق من مالها، وكانت مكَّنَتْ ووطئها الزوج، وبطل حق امتناعها بسبب المهر، فهل يلزمها أن تلزم مسكن النكاح، أم ينحلّ حق احتباسها في المسكن؟ تردّد الأصحاب في هذا، فقال قائلون: لها أن تخرج، وليس للزوج أن يمنعها. وقال آخرون: حقٌّ عليها أن تلزم مسكن النكاح، وهذا هو الأفقه عندنا.
وكذلك تردد الأصحاب فيه إذا كانت قادرة على أن تحصِّل قوتها بحرفة تعانيها في المسكن من غير مفارقة، فهل يلزمها الملازمة أم لا؟ فعلى ما ذكرناه.
فإذا قلنا: يثبت لها حق فسخ النكاح، ولكنها لا تبتدره، بل تمهل الزوجَ، على التفصيل المقدم، فينحلّ حق الاحتباس عنها في مدة المَهَل على الرأي الظاهر، وإن كانت موسرةً، أو محترفةً، وفيه وجه بعيد، وإن اضطرت إلى الخروج، خرجت كيف فرض الأمر.