فصل: باب: نفقة التي لا يملك زوجها رجعتَها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب




.باب: نفقة التي لا يملك زوجها رجعتَها:

قال الشافعي: "قال الله تعالى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الآية الطلاق: 6]".
10149- مضمون الباب الكلام في نفقة المعتدات، والمعتدة لا تخلو: إما أن تكون رجعية، وإما أن تكون بائنة، فإن كانت رجعية، فهي بمثابة الزوجات في استحقاق النفقة والسكنى، وسائرُ حقوق النكاح دارّةٌ عليها إلا ما يتعلق بالاستمتاع، كالقَسْم.
ولو طلقها الزوج طلقةً رجعية-وكانت من ذوات الأقراء- فجرت في العدة ووطئها واطىء بشبهة، وعلقت عن الواطىء بولد يقتضي الشرعُ إلحاقه به، فعدة الواطىء مقدمة على الضرورة؛ فإن عدته بالحمل، وهو موجود حسّاً لا يمكن تأخير الاعتداد به.
ثم للأئمة طريقان في نفقتها، وأنها هل تجب على الزوج، واختلافهم يستدعي تجديدَ العهد بأصلٍ سابق، وهو اختلاف الأصحاب في أن الزوج هل يملك رجعتها وهي حامل عن الواطىء؟ فهذا ما قدمنا فيه وجهين، وفرعنا عليهما ثَمَّ تردُّدَ الأصحاب في مقصودنا من النفقة، فقال قائلون: إذا حكمنا بأن الزوج يرتجعها، فيجب عليه الإنفاق عليها وجهاً واحداً.
وإذا قلنا: لا يملك ارتجاعَها ما دامت حاملاً، فهل يجب عليه الإنفاق عليها من جهة أنها ستعود بعد وضع الحمل إلى بقية عدة الرجعة؟ فعلى وجهين. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: لا يرتجعها، فلا يجب عليه الإنفاق عليها، وإن قلنا: يرتجعها، ففي وجوب الإنفاق عليها وجهان، وهذه الطريقة لها رسوخ في الفقه، لا يبين إلا بذكر مسألة ومباحثة بعدها.
10150- أما المسألة فإذا وطئت المنكوحة بالشبهة، وعلقت من الواطىء، فلأصحابنا تردد في وجوب النفقة على الزوج: قال قائلون: لا نفقة عليه، فإن الاستمتاع بها تعذر على الزوج بسببٍ هي متسببة إليه، فصارت كالناشزة، وإن لم تنتسب إلى قصدٍ وعصيان، وهذا بمثابة إسقاطنا النفقة عن الزوج بسبب امتناع المجنونة، وإن كان التكليف محطوطاً عنها.
وقال قائلون: نفقتها دارّة؛ فإنها لم تعتمد نشوزاً.
والأولى عندنا تفصيل ذلك، فإن وطئت في حالة نوم أو وطئت وهي مضبوطة كرهاً، والواطىء على اشتباه في نفسه، فالوجه القطع بثبوت نفقتها على الزوج، والمصير إلى إلحاق المنع الطارىء بالمرض والحيض.
ولو مَكَّنت على ظن أن الواطىء زوجُها، فهذا فيه التردد الذي ذكره الأصحاب؛ من جهة أنها بتمكينها متسببة على الجملة، فإن لم نعصّها، لم ننكر فعلها، وإذا تسببت المرأة، فأمرضت نفسها، ثم استمر المرض، فهذا فيه التردد الذي ذكرناه في إحرامها، على قولنا: لا يملك الزوج تحليلَها، وما ذكرنا من طريان العدة على صلب النكاح إن فرض من غير حمل، فهو واضح، والبيان المقدم فيه كافٍ، وإن علقت بمولودٍ في صلب النكاح، فهي معتدة ما دامت حاملاً.
وقد يعترض في هذه الصورة أصلٌ سيأتي مشروحاً، ولكنا لا نجد بُدّاً من الرمز إليه الآن لتنجيز غرضٍ في هذه المسألة، فنقول: إذا وطىء الرجل أجنبية بشبهة، وعلقت منه بمولود، ففي وجوب نفقتها على الواطىء قولان، سيأتي ذكرهما-إن شاء الله- بناء على أن النفقة للحمل، أو للحامل؟ فإن قلنا: لا نفقة للمعتدة عن الواطىء في صلب النكاح، فلا كلام. وإن قلنا: للمعتدة في صلب النكاح النفقة على الزوج إذا لم تحبل من الواطىء، فإذا حبلت منه، وقلنا: لا نفقة على الذي يطأ أجنبية بشبهة وإن علقت منه، فالنفقة على الزوج إذا اتفق العلوق عن الواطىء في صلب النكاح.
وإن قلنا: على الواطىء بالشبهة النفقةُ للأجنبية التي حبلت عنه، فماذا نقول والزوجية توجب النفقة، حيث انتهى التفريع إليه، والحمل يوجب النفقة على الواطىء، ولا سبيل إلى الزيادة على نفقة واحدة، ويبعد إيجابها عليهما من حيث إنها في حالة الزوجية والحمل عن الواطىء؟
والذي يظهر عندنا في هذه الصورة إيجاب النفقة على الواطىء؛ فإن النفقة لا تجب عليه إلا تخريجاً على أن النفقة للحمل، فكأنه استعمل رحمها واستعملها في نفسه لحفظ مائه، وهذا متجدد ناجز، وقد تحقق انقطاع حق الزوج عنها؛ فالوجه إيجاب نفقتها على الواطىء.
فإن لم تكن ناشزة، فقد استبدلت عن نفقة الزوجية، فلا ضرار، فهذا ما أردناه.
10151- ونعود بعد ذلك إلى الرجعية التي حبلت عن الواطىء بالشبهة في أثناء العدة، فإن قلنا: يجب على الواطىء النفقة لمكان الحمل، فلا وجه إلا إسقاط النفقة عن المطلّق، وإن قلنا: لا نفقة على الواطىء لمكان الحمل؛ فإذ ذاك يجري ما قدمناه من اختلاف الطريق.
وهذه هي المباحثة الموعودة، وعليه يخرّج أنا وإن أثبتنا للزوج حق الرجعة، فلا نفقةَ عليه، مع إيجابنا النفقةَ على الواطىء، على القياس الذي مهدنا في جريان الحبل عن الواطىء في أثناء النكاح.
ثم إذا أوجبنا للرجعية النفقة، أوجبنا لها الكسوة، وهي لازمةُ مسكن النكاح والإدام تابع للنفقة، وينحط من حقوقها ما تتزين به؛ فإنها منعزلة، والطلاق قد حرّم الاستمتاع بها.
هذا كله إذا كانت رجعية.
10152- فأما إذا كانت بائنة، فلا يخلو إما أن تكون حائلاً وإما أن تكون حاملاً، فإن كانت حائلاً، فلا نفقة لها عند الشافعي، والسكنى ثابتة.
وقد صدّر الشافعي الباب بأمر يحسبه الشادي رجوعاً منه إلى الظاهر ووراءه ما يشعر بدَرْك الغايات؛ وذلك أن الفرق من طريق المعنى لا يكاد يتضح بين النفقة وبين السكنى، ولا تعويل على كلام ملفّق للخلافيين، فالاعتمادُ على نصّ القرآن، كما أشار إليه إمام المسلمين رضي الله عنه، فإنه عز من قائل أطلق السكنى، ولم يشترط فيها الحمل، وقال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ثم لما انتهى البيان إلى النفقة خصص ثبوتها بالحمل، فقال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} فالوجه إطلاق
ما أطلق وتقييد ما قيد، وإذا لم تكن البائنة حاملاً، فلا نفقة سواء كانت البينونة عن فسخ، أو طلاق، أو فُرقة لعان، وأما السكنى، فقد فصلناها في كتاب العدد، فلا نعيدها.
10153- وأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو إما أن تكون بينونتها بسبب الطلاق، وإما أن تكون بسبب آخر: فإن كانت البينونة بسبب الطلاق، فلا خلاف أنها تستحق النفقة.
ثم أطلق الأئمة قولين مأخوذين من معاني كلام الشافعي: أحد القولين- أن النفقة تجب للحمل. والقول الثاني- أنها تجب للحامل.
توجيه القولين: من قال: إنها تجب للحمل، احتج بأنها بائنة في ففسها، فلا تستحق النفقة بنفسها، ولم يطرأ إلا الحمل، فلتكن إضافةُ الاستحقاق إليه، وإذا وجبت النفقة بسببه، فالنفقة للحمل إذاً. ثم لا نظر إلى قول من يقول: الحمل يكتفي بالشمة والمقدار النزر؛ فإنه لا يتوصل إليه ما يبقى به إلا بعد اكتفاء الأم، وأيضاًً؛ فإن مؤونة الحمل واجبة، ولو انفصل المولود، فمؤونة الحاضنة واجبة، واستقلالُ الحامل بالحمل لا ينحط عن قيام الحاضنة بحفظ الولد وإرضاعه، والغرض إحالة الوجوب على الحمل.
ولا يتم بيان الفصل إلا بنجازه.
ومن نصر القول الثاني، احتج بأن النفقة لو كانت تجب للحمل، لسقطت بمرور الزمن، ولما كانت متقدّرة، ولاختلفت بالزهادة والرغابة بناء على اعتبار الكفاية؛ فإن المرعي في مؤن المولود الكفاية.
وما ذكرناه من توجيه القولين استفتاحٌ، وإلا فالبيان بين أيدينا، ثم الذي نراه من الرأي أن نجري على ترتيب الأصحاب في إرسال مسائلَ بنَوْها على هذين القولين، فإذا انتجزت، انعطفنا عليها، وربطناها بروابط الفقه على حسب ما يليق بها.
10154- فمما فرّعه الأصحاب أن المطلَّقةَ البائنةَ الحامل لو كانت مملوكة، فمعلوم أن ولدها مملوك، ولو انفصل، لكانت نفقته على مالكه، قالوا: المسألة خارجة على أن النفقة للحامل أو للحمل، فإن قلنا: النفقة للحمل، فهي على السيد، وإن قلنا: النفقة للحامل، فهي على الزوج، قياساً على نفقة الزوجية؛ فإن النكاح ولو زال، فعَلْقته إذا أوجبت النفقةَ بمثابته.
ومن المسائل: أن الزوج لو كان عبداً، والزوجة حرة بائنةٌ حامل، فإن قلنا: النفقة للحمل، فلا نفقة على الزوج؛ فإن المملوك لا يلتزم نفقة ولده، وإن قلنا: النفقة للحامل، فتجب النفقة على العبد، كما تجب عليه نفقة الرجعية، والنفقة في حالة الزوجية.
10155- ومما ذكره الأصحاب أن النكاح لو ارتفع بالفسخ، وذلك بأن تفسخ المرأة النكاح بعيبٍ في الزوج، أو يفسخ الزوج النكاح بعيبٍ فيها، فإذا كانت حاملاً، قالوا: في النفقة قولان مبنيان على أن النفقة تضاف إلى الحمل أو إلى الحامل، فإن قلنا: هي مضافة إلى الحمل، فالنفقة واجبة على الزوج الحر إذا كان الولد حراً، وإن قلنا: النفقة للحامل، فلا نفقة.
وهذا فيه غموض؛ من جهة أن المفسوخ نكاحها كما لا تستحق النفقة، فالبائنة بالطلاق لا تستحق النفقة أيضاً.
وهذا مما يعسر الفرق فيه، ولم يذكر أحد من الأصحاب فيه كلاماً يقرُب مأخذه من الفقه إلا الصيدلاني، فإنه رمز إلى ما يكاد أن يكون فقهاً، فقال: الطلاق إلى الزوج تجنيسه وتصنيفه، بدليل أنه إن أوقعه رجعياً، كانت المرأة على عُلقة من الزوجية واضحة، وإن أوقعه على وجه البينونة، فالأمر إليه، وإن أوقعه قبل المسيس تعلقت البينونة، وهذه الجهات مضافة إلى تصرف الزوج بالتفهيم والتأخير واستبقاء العود والإنفاء منه، فيجوز أن يقال: إذا طلقها مبيناً وهي حامل، فقد اختار استبقاء استعمالها في مقصود النكاح وعُلقته، فتجب النفقة لها، وإن كانت بائنة، وأما الفسخ، فلا انقسام فيه حتى يضاف إلى إيثار الزوج، ولا يقع الفسخ إلا باتَّاً مبيناً.
وهذا تخييل لا تحصيل وراءه عندي، ولكن لم يختلف الأصحاب في إيجاب النفقة للبائنة بالطلاق الحامل، ورددوا القولين في المفسوخ نكاحها، وما أطلقوه من المسائل في المملوكة، والزوج المملوك ففيها قياسٌ جارٍ على حالٍ.
وإنما الغموض في محاولة الفرق بين البينونة الحاصلة بالطلاق وبين البينونة الحاصلة بالفسخ، والذي أراه في المسائل إذا غمضت مآخذها وضاقت مداخلها ومخارجها أن أرجع إلى القانون الذي عوّل عليه الصاحب، وقد لاح إلى أن معتمده القرآن، ولولا تنصيص الكتاب على إثبات النفقة للحامل، لقلنا من طريق القياس: في البائنة المطلقة الحامل قولان مبنيان على أن النفقة للحمل أو للحامل، ولو جرينا على المسلك الحق، لأوجبنا النفقة لكل حامل، تجب النفقة على صاحب الحمل إذا انفصل الحمل لاستعمال المرأة بالاستقلال بالحمل، ولكن الشافعي رأى النفقة ثابتة للحمل، والآيات مسوقة في الطلاق، والطلاق ثابتٌ على الإطلاق من غير فرق بين المبين منه وبين الرجعي، فلا معول إلا على نص الكتاب.
والمفسوخ نكاحها ليست مطلّقة، وحكم الفسخ يمتاز عن حكم الطلاق في وجوه، فلم يبعد أن يُردَّ الرأي في الفسوخ إلى النظر، ويخصص وجوب النفقة للمطلَّقة بحكم القرآن.
وقد ينقدح وجه آخر، وهو أن الفاسخة هي التي تسببت إلى رفع النكاح، ولذلك سقط مهرها قبل المسيس، وقد تمهد أن فسخ الزوج بعيبها كفسخها بعيبه، فيجوز أن يستعمل هذا في قطع الفسخ عن الطلاق، من غير أن نلتزم إبداء معنىً في استحقاق المطلقة، فهذا ما أردنا ذكره.
10156- ومما يتعلق بذلك أن كلَّ انفساخ يشابه الطلاقَ في اقتضاء التشطير، فهو في معنى الطلاق باتفاق الأصحاب، وذلك كارتداد الزوج؛ فإن النكاح وإن كان ينفسخ به، فالصداق يتشطر، وسبيله كسبيل الطلاق، وارتدادها بمثابة إنشائها الفسخ فليتخذ الناظر ما ذكرناه معتبراً.
10157- وإذا لاعن الزوج عن زوجته وانبتَّ النكاحُ، فإن كانت حائلاً، فلا شك أنها لا تستحق النفقة.
وأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو الزوج: إما أن ينفي الحمل باللعان-إذا رأينا نفيه- وإما ألا ينفيه، فإن لم ينف الحمل، ولحقه النسب، فهذا نكاح انفسخ، ونسبُ الحمل لاحق، وقد اختلف أصحابنا في هذا الانفساخ، على طريقين: فمنهم من ألحقه بفسخ الرجل النكاحَ بعيبٍ فيها، حتى يخرَّجَ على القولين، كما قدمناه في الفسوخ.
ومنهم من ألحق ارتفاع النكاح بهذه الجهة مع لحوق الحمل بارتفاعه بالطلاق؛ من جهة أن الزوج إذا فسخ النكاح بعيبٍ فيها، فهي مسلِّمة أن الزوج يستحق سلامَتها عن العيوب. وأما اللعان؛ فإنه مبني على نسبة الزوج إياها إلى ما هي بزعمها متبرئة عنه، فلا يمتنع أن يكون اللعان من هذا الوجه كالطلاق.
وهذا هو المذهب الصحيح، وإن جرى الاختلاف في هذا؛ وجب بحسبه التردُّدُ في أن فُرقة اللعان هل تشطِّر الصداق، فإن نظرنا إلى جانبها، وجب القضاء بالتشطر، وإن نظرنا إلى إثبات الزوج ما نسبها إليه بحجة اللعان، فهذا بمثابة تمهيد عذر يقطع فراق اللعان عن الطلاق، هذا إذا لم ينف الزوج الحمل ولحقه.
فأما إذا نفى الحمل، فلا نفقة عليه أصلاً، فإن نظرنا إلى النسب، فهو منتفٍ عنه، وإن نظرنا إلى المرأة، فليست حاملاً عنه بولد منتسب إليه، فهي في حقه بمثابة الحائل؛ فينتظم منه أنها لا تستحق النفقة قولاً واحداً.
وهذا قد يعترض فيه إشكالٌ واقع، وهو أن الزوج إذا كان عبداً، وقد طلق امرأته الحامل طلاقاً مبيناً، فقد خرّجنا وجوب النفقة عليه على قولين، وقلنا: إن صرنا إلى أن النفقة للحمل، فلا نفقة على المملوك، وإن قلنا: النفقةُ للحامل، لزمته.
فلو قال قائل: ما وجه إلزامكم إياه النفقة مع العلم بأنا وإن أضفنا وجوب النفقة إلى الحامل، فهي بسبب الحمل، وليس هذا الزوج المملوك مما يلتزم نفقةَ المولود، فينبغي ألاّ يلتزمَ نفقةً بسبب المولود، فإن ذلك النسب وإن كان ثابتاً ينبغي أن لا يؤثر إذا كان لا يوجب النفقةَ فأي فرقٍ بين نسب ثابت لا يوجب النفقة وبين نسب منتفٍ باللعان، وهذا غامض جداً.
أما قطعنا بسقوط النفقة في مسألة اللعان فمنقاس، وأما ترديد القول في الزوج المملوك، فمشكل، وكذلك القول فيه إذا كانت الزوجة مملوكة وكانت حاملاً فولدها مملوك، ولكن النقل عن الأصحاب ما ذكرناه، ولعلنا ننعطف بالبحث انعطافاً يوضح بعضَ الإشكال على حسب الإمكان.
10158- وإذا انتهينا إلى اللعان، فنستتم ما ذكره الأصحاب فيه، فنقول: إذا نفى الحملَ ونفينا النفقة، فولدت المرأة، وأخذت تنفق على ذلك المولود، فإن انتماءه إليها ثابت، فلو أن الزوج أكذب نفسه، واستلحق الولد، فالولد يلحقه لا محالة، ثم يقع الكلام بعد هذا في النفقة التي أخرجتها المرأة. قال الأصحاب: ظاهر المذهب أن المرأة ترجع على الزوج بما أنفقته على المولود على اقتصادٍ، وهذا يخالف قياساً كلياً، من جهة أن من لم ينفق على ولده أياماً ظلماً وضيْعةً، فلا تصير نفقة الأيام الماضية ديناً عليه، بخلاف نفقة الزوجية، هذا هو المذهب الذي عليه التعويل، وسنذكر في بعض الصور خبطاً من بعض الأصحاب، وإنما جرياننا الآن على ما هو المذهب المعتمد.
فإذا تمادى الزوج على نفي المولود بعد الانفصال، فأنفقت المرأة، فحكم ما أشرنا إليه من القياس ألاّ تجد المرأةُ مرجعاً، ولكن سنذكر في نفقات القرابة أن الأم تملك الاستدانة على الأب في نفقة المولود، وهذا من ولايتها، كما سيأتي موضحاً بعد ذلك، إن شاء الله، فالذي أخرجته في تمادي الزوج محمول على سلطانها، فإذا اكذب الزوج نفسه، ثبت حق الرجوع.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً أنها لا ترجع، وهذا يعتضد بالقياس الذي ذكرناه، وفي كلامه تشبيبٌ بأن الأم لا تملك الاستدانة على الزوج، وإن استدانت من غير مراجعة القاضي، لم تجد مرجعاً، وسنوضح هذا، إن شاء الله.
وهذا القائل يقول: قول رسول الله صلى الله عليه: "خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف " قضاء منه لها، وهو سيد السادة وقاضي القضاة، فإن طردنا هذا الباب، فلا كلام، وإن قلنا: للأم الاستقراض في الولد الملتحِق، فصاحب الوجه الضعيف في مسألة اللعان قد يقول: هي ما أخرجت النفقة لترجع بانية أمرَها على تكذيب الزوج نفسه، إذا كان الأصل ألا يُكْذِبَ نفسه بعد اللعان، فإنفاقها محمول على التبرع بالإنفاق، وهذا المعنى لا يتحقق في الولد الملتحق.
10159- ومما يتعلق بهذه المسائل أن الرجل إذا وطىء امرأة خليّةً عن النكاح بشبهة، وعلقت عنه بمولود، وزمانُ الحمل عِدتُها، فقد قال الأصحاب: في استحقاقها النفقة على الزوج قولان مأخوذان مما تمهد من قبل، وهو أن النفقة للحمل أو للحامل، فإن قلنا: إنها للحمل، فعلى الواطىء النفقة إذا كان ممن يستوجب نفقة القريب، وإن قلنا: النفقة للحامل، فلا نفقة لها؛ فإنها ليست في عُلقة نكاح.
وهذا مشكل؛ من جهة أن الرجل إذا كان من أهل التزام نفقة الولد، فيجب القطع بالتزام نفقة الأم لقيامها بحفظ الولد، واستقلالها بحمله، كما نوجب عليه نفقةَ المرضعة والحاضنة بعد انفصال المولود، فهذا من مواضع النظر.
10160- فقد أدينا ما بلغنا من قول الأصحاب في محل الوفاق والخلاف، ونقلنا ما ذكروه على تثبت، وهذا أوان الانعطاف على ما سبق، ونحن الآن نذكر مسلكين:
أحدهما: في ضبط المسائل وترتيبها بعقدٍ جامع، والآخر- في تتبع العلل على مبلغ الوسع.
أما الترتيب فنقول: الكلام في الحامل: فإن لم ينتسب الحمل كما قدمناه في الحمل المنفي باللعان، فلا نفقة أصلاً، وإن كان منتسباً إلى الزوج، وهو ممن يلتزم نفقة الولد والفراقُ طلاق، فهذا موضع القطع بوجوب النفقة.
وإن انتسب الولد والزوج ممن لا يلتزم نفقتَه منفصلاً والفراق طلاق، فقولان، وهذا يشمل صورتين: أمة حامل بولدٍ مملوك، والزوج حر، وحرة حامل والزوج مملوك.
وإن كان ارتفاع النكاح بالفسخ الذي يُسقط المهر قبل المسيس، والولد منتسبٌ، والزوج ممن يلتزم نفقةَ المولود، فقولان.
وإن كان الولد منتسباً والزوج ممن لا يلتزم نفقة المولود-كالصورتين في المملوكة والزوج المملوك- فالقطع بسقوط النفقة؛ لأن النفقة إن أتت، أتت من قبل الولد، فإن انتفت من جهته، فلا نفقة، بخلاف ما إذا كان الفراق بالطلاق.
وفي الفراق الحاصل باللعان مع انتساب الولد وكون الزوج ممن يلتزم نفقة المولود الخلافُ الذي قدمناه، والواطىء بالشبهة إن كان ممن لا يلتزم نفقة المولود، لا يلتزم النفقة التي حُملت عنه، وإن كان ممن يلتزم نفقة المولود، ففي المسألة قولان.
فهذا ترجمةٌ لما قدمنا مفرقاً.
10161- ونحن بعد ذلك نفتتح حَلَّ ما يشكل على حسب الإمكان، والله المستعان فلنرجع القهقرى، ولنبتدىء بالواطىء بالشبهة، حيث أجرى الأصحاب القولين، فكان الوجه القطع بيجاب النفقة، لما نبهنا عليه، ولكن حاصل هذا الخلاف عندي يؤول إلى أن مَنْ منه الحمل، ولا علقة سواه، هل يلتزم مؤنتَه قبل وضعه؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يلتزم، وقياس ذلك بيّنٌ.
والثاني: لا يلتزمها؛ فإنه جزء منها ملتحق بها، ولا يثبت التزام مؤنته إلا إذا انفصل عنها، واستقل بنفسه، وهذا كما أنا لا نثبت على الأب إخراجَ فطرةِ حمل، ولا نوجب الزكاة في ماله-إن كان له مال- على الرأي الظاهر، ولا يجوز إعتاقه عن الكفارة، فهذا هو الوجه في تخريج هذا الخلاف، وأما النظر إلى الحمل والحامل، فلا يشفي الغليلَ في هذا المقام.
وأما ما ذكرناه في المفسوخ نكاحُها، فهو يخرّج على هذا النَّسق؛ فإنها في نفسها-وقد بانت بالفسخ- لا تستحق النفقة لعلقة النكاح، فلا يبقى إلا النظر في الحمل، فالقولان يرجعان إلى أن مؤنة الحمل هل تجب على من ستجب نفقة المولود عليه إن انفصل، وفيه ما بيّناه الآن من القولين.
10162- وأما المطلَّقةُ المملوكةُ الحاملُ، والحرة المطلقةُ تحت العبد المملوك أجرى الأصحاب في وجوب النفقة على الزوج في المسألتين قولين، وكان ترتيبهم ما نقلناه عن الأصحاب، فنجدده، قالوا: إن قلنا: النفقة للحمل، فلا نفقة على الزوج في المسألتين؛ فإن ولد المملوكة مملوك، ونفقته على مالكه، لا على أبيه، وإذا كان الزوج مملوكاً، لم يلتزم نفقة ولده الحر.
هذا إذا قلنا النفقةُ للحمل.
وأما إذا قلنا: النفقة للحامل، والحامل مطلَّقةٌ في المسيس، فيجب على الزوج النفقة، وهذا مشكل؛ لأنها إن اعتبرت في نفسها، فهي بائنة، فكانت مع رفع الحمل من البين بمثابة الحائل، ولو كانت حائلاً، لما وجبت النفقة، ولا يخرج قياس الكلام في هاتين الصورتين على القاعدة المقدمة في الموطوءة بالشبهة، والمفسوخ نكاحُها؛ فإنا قلنا: إذا أوجبنا على الوالد نفقة الولد عند الانفصال، فهل نوجب القيام بمؤنة الحمل وتربيته قبل الانفصال؟ فعلى ما ذكرنا من القولين، وهاهنا لا يجب على الزوجين نفقةُ الولد إذا انفصل قولاً واحداً، والبائنة في نفسها لا تستحق النفقة قولاً واحداً لو قدر انعدام الحمل، فلا مطمع في تخريج المسألتين على ما ذكرناه قبل.
10163- ولو ظن ظان أنه ينقدح في هذا معنىً يعوّلُ على مثله في مجاري الأحكام، فظنه خائب، ورأيه غير صائب، ولكن تثبت نفقة الحامل المطلَّقةِ بنص القرآن؛ فإنه عز من قائل قال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فيثبت بالنص نفقةُ الحامل على الزوج، وليس في القرآن فصلٌ بين الزوج المملوك والزوج الحر.
وليس في مساق الخطاب فرقٌ بين أن تكون المطلقة أمةً أو حرة، ولكن الظاهر إجراء ظاهر الخطاب على المعتاد الغالب، وتوجيهُ الخطاب على الأزواج بالإنفاق من الوُجد يصرِّح بوصف الأحرار، ومخاطبةُ الحرائر بملازمة مسكن النكاح، ورفع الحجر عنهن بطريق المفهوم عند انقضاء آماد العِدد، يدلى على أن الكلام منزّل على الحرائر، كيف والشافعي يرى الإماء مستثنيات عن قاعدة النكاح، وعلى ذلك بنى مسائله في منع الحر القادر على طَوْل الحرة من نكاح الأمة، فظهر أن الآيات منزلة على الحرّ مطلِّق الحرة.
ثم اعترضت المسألتان: إحداهما- في المملوك يطلق الحرةَ الحاملَ، والأخرى- في الحر مطلِّقِ الأمةِ الحامل، فتردد فيهما الكلام؛ من حيث إنه ليس في القرآن نص على الحرّ والحرّة، وإنما الذي ذكرناه إجراء على غلبة الاعتياد، وتحويمٌ على تلقٍّ من قرينة، فأمكن إجراء النفقة، حتى كأنها نفقة النكاح، وعارض هذا ما أشرنا إليه من القرائن، وبعُدَتْ المسألتان من جهة سقوط نفقة الولد عن كونهما في معنى الحر مطلِّقِ الحرةِ الحامل، فكان التردد مأخوذاً من هذا المأخذ، من غير تمسكٍ بطردِ معنىً وعكسه.
10164- فهذا ما نراه، ولا يستدّ على قوانين الشافعي غيرُه، فلتقع المسائل التي ذكرها الأصحاب نوعين:
أحدهما: يشتمل على ما يدار على نفقة المولود، وهو مسألة الواطىء بالشبهة ومسألة المفسوخ نكاحُها، والنوع الثاني- يشتمل على الحر مطلِّق الحرة، وهو منصوص عليه في القرآن قطعاًً، والمسألتان الأخريان في الحرِّ مطلِّق الأمة الحامل والمملوكِ مطلِّق الحرة الحامل مردَّدتان في الإلحاق بالحر مطلّق الحرة على النسق الذي ذكرناه، من غير تمسك باعتبار نفقة الولد.
وهذا ليس أمراً نتكلفه، ولكنه تصرف في لُباب مذهب الشافعي واقتصاصٌ لآثاره في بناء مسائل الباب على الآية، وبها صدّر أولَ مسائل الباب.
وقد نجز بهذا المسلكان الموعودان في الترجمة والمباحثة ورَدُّ المسائل إلى قواعدها.
10165- ونحن بعد ذلك نذكر قاعدةً تلتحق بالأصول، وتقع تتمةً لها، ونذكر ما يتصل بها، ثم نختتم الكلام بمسائلَ بعضها منصوصة، وبعضها نجريها فروعاً، فنقول: إذا أوجبنا النفقة للحامل: إما في جمورة القطع، وإما على أحد القولين في صور الخلاف، فقد أطلق الأئمة وراء ذلك قولين في أنا هل نوجب تعجيل النفقة إذا ظهرت أمارات الحمل، أم نقول: لا يجب تعجيلُها، ونتوقفُ، وقد يكون ما نتخيله ريحاً فتنفُشُ، فإن وضعت الحملَ، أوجبنا حينئذ نفقةَ زمان الحمل؟
أحد القولين- أنه يجب التعجيل، والقول الثاني- أنه لا يجب التعجيل، وبنى الأصحاب هذين القولين على قولين اشتهر ذكرهما في أن الحمل هل يُعرف؟ وقالوا: إن قلنا: الحمل لا يعرف، فلا يجب التعجيل، وإن قلنا: الحمل يعرف، فيجب التعجيل في الحال.
وهذا عندي اكتفاء بظاهرٍ من غير تشوّفٍ إلى درْك حقيقة؛ فإن القول لا يختلف في أن الحمل لا يُقطع به، ولا ينكر أحدٌ كونَه مظنوناً، ثم لا ينكرون أن الظنون تتفاوت: فهي على حدٍّ في أوائل العلامات، وإذا توافت، ورَبَا البطنُ، وانضم إلى الرّبُوّ اختلاجُ المولود، فهذا يكاد يقرب من اليقين، فكيف يسوغ إطلاق القول بأن الحمل هل يعرف؟ نعم، إذا بدت العلامات، فقد نقطع في بعض الأحكام بتقدير الحمل، وقد نتردد في بعضها، ومواضع القطع تتميّز عن مواضع التردد بطرق فقهية، وقد ألحق الأصحاب هذا الحكم الذي فيه نتكلم بمواضعِ التردد.
ونحن نُجري ما ذكره الأصحاب بطريق توجيه القولين، فنقول: من لم يوجب التعجيلَ، قال: النكاح منبتٌّ، ولقد كان سبباً لإيجاب النفقة، فزال، ولم يتحقق الحملُ، والأصل براءةُ الذمة، فلا وجه للمصير إلى تنجيز النفقة إيجاباً.
ومن نصر القول الثاني، وهو الأصح، بل حُكم أصل الشافعي القطعُ بإيجاب
التعجيل؛ فإنه تلقى وجوبَ النفقة من ظاهر القرآن، وقد قال عز من قائل: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فصرّح الخطابُ باستفتاح الإنفاق وامتداده إلى وضع الحمل، ومن أخر الإنفاق، فهو في حكم المخالف لنص القرآن، وهذا المسلك في التمسك بظاهر القرآن يضاهي تعلُّقَنا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الدية المغلّظة: إذ قال: "وأربعون خلفة في بطونها أولادها " فاقتضى فحوى قول المصطفى الحكمَ بتقدير الأجنة في بطون الأمهات إذا ظهرت العلامات، فكان الحمل في هذا في حكم المعلوم المقطوع به.
ويتأيد هذا القولُ بمسلكٍ آخر عليه ابتناءُ النفقات، وهو أنها لو أُخرت النفقة عنها قد تتضرّر، وقد يُفضي الأمر إلى الإجهاض، فلا يليق بمحاسن الشريعة تجويزُ تأخير الإنفاق، والغرض من الإنفاق تربية الحمل.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه من التعلق بالقرآن والمعنى مرتفعٌ عن درجة الظنون؛ فأي متعلَّقٍ يبقى للقول الآخر؟ قلنا: لعل ذلك القائل يجعل فحوى الخطاب في الكتاب لتقدير مدةِ النفقة لا للتعجيل، وليس هذا كقوله عليه السلام في الديات: «الأربعون خلفة»؛ فأنه قال: "في بطونها أولادها " فإن الأولاد إذا انفصلت، وصارت فُصلاناً وأَحْوِرة، فليست هي خَلِفات، وليس في بطونها أولادها، فلا يتطرق إلى ذلك إمكان التأويل، ولو انفصلت أولادُها واستُحِقت تابعةً، لزاد العدد على المائة بخلاف ما نحن فيه. وأما إفضاء تأخير الإنفاق إلى إهلاك الجنين، فليس بذاك؛ فإنها ستنفق من مال نفسها، وإن لم تجد، لم تضِع في وضع الشرع، ويؤول الكلام إلى الرجوع والاسترداد عند تبيُّن الأمر.
ولسنا ننكر-مع هذا التكلّف- أن الأصح تعجيلُ النفقة.
وفيه دقيقةٌ سيأتي التفريع عليها-إن شاء الله- وإذا انتهينا إليها، نبّهنا على بديعةٍ هي سر المذهب.
التفريع على القولين:
10166- إن قلنا: يجب تعجيلُ الإنفاق، فإن أنفق، لم يخل: إما أن يَبِينَ أنها حامل، وإما أن يَبِين أن ما بها ريحٌ قد نَفَشت.
فإن بان أنها حامل: فقد وقعت النفقة موقعها، ويجب على الناظر أن يعلم أنا لا نوجب استفتاح الإنفاق ما لم تشهد نسوةٌ من ذوات الخبرة على كونها حاملاً، وإنما خصصناهن بالذكر لمسيس الحاجة إلى الاطلاع على ما لا يظهر إلا في وقت الحاجة من النساء، ولا ننكر إحاطة الرجال بذلك.
فلو جئن وقلن: إنها حامل، وهن أثبات، فذاك، وإن قلن: لا سبيل إلى القطع بذلك، ولكن توافت علاماتُه، فهل يثبت الحمل بهذا أم لا؟ هذا فيه تردد عندي: يجوز أن يقال: لابد وأن يَجْزِمْن إقامةً لمراسم الشهادات المقامة في مفاصل الخصومات، وهذا كما أن الشهود يجزمون شهاداتهم بالملك، وإن كانوا على القطع لا يستندون إلى ما يقتضي العلمَ، ولو أبدَوْا ترددَهم، بطلت شهادتهم، فلتكن شهادات النسوة على الحمل بهذه المثابة.
ويجوز أن يقال: إذا أخبرن بحقيقة الحال، كفى ذلك، وهذا يمكن تقريبه مما ذكر من أن الحمل هل يعلم؟ حتى تكون فائدة هذا أنا هل نكلّف الشهود الألفاظ المشعرة بالعلم أم يكتفى بما يدل على الظنون الغالبة، ومن يكتفي بما يدل على الظنون الغالبة يستشهد بشهادة العدل الرضا الذي هو من أهل مخالطة الرجل على الإعسار، فإنه لو قال: خبرت ظاهره وباطنه، فظهر لي إعساره، ولا أعلم له مالاً، فقد يُكتفى بهذه الصيغة في إثبات الإعسار. وكذلك إذا شهد الشاهد حَصْرَ الورثة، فيكفي أن يقول: لا أعلم له ورثة سوى هؤلاء.
وأما الشهادة على الملك، فيعسر الانفصال عنها، ولكن حقيقة الملك ترجع إلى ملك التصرف، ومن تحقق عنده تسلط إنسان على تمادي الزمان من غير ظهور منازع، فيمكن أن يحكم له بملك التصرف، ولا معنى للملك-وإن جزم- إلا الاقتدار على التصرف.
فهذا ما أردنا أن نذكره. وحقائق القول في مراتب الشهادات وخواصها ستأتي في موضعها، إن شاء الله.
هذا إذا أوجبنا عليه تعجيل النفقة.
10167- فلو أخذ في الإنفاق فأَجْهَضَت المرأةُ جنينَها بعد بُدوّ التخليق والتخطيط، فالنفقة واقعةٌ موقعها وإن لم ينفصل الحمل حياً، وذلك أنا نوجب كفاية الحمل، ولا ننظر إلى خروجه حياً، فإن اتفق إجهاضٌ لعارضٍ عرض، فتلك المؤنة مصادفةٌ حقها.
فأما إذا بأن أنها لم تكن حاملاً، وقد أنفق الزوج على تقدير الحمل، فهذا موضعٌ يتعين صرف الاهتمام إليه، والغرض منه تفصيل القول في أن الزوج هل يرجع فيما أخرجه قائلاً: قد أنفقت على ظن الحمل، فإذا بأن أن لا حمل، ولا نفقة للبائنة الحائل، فأسترد ما أنفقته: سبيل الكلام في ذلك أن الزوج إذا كان يرى تعجيلَ النفقة قبل وضع الحمل مستحَقاً؛ فإنه يرجع إذا بان عدمُ الحمل، وكذلك إذا كان لا يرى التعجيل مستحقاً، ولكن ارتفعت الواقعة إلى مجلس حاكم يعتقد إيجابَ التعجيل، فإذا ألزمه التعجيل، فاتّبع إلزامَه وارتسم أمره، ثم تبين انتفاء الحمل، فيثبت الرجوع.
هذا إذا فرعنا على قول إيجاب التعجيل.
10168- وأما إذا فرعنا على القول الآخر، وقلنا: لا يجب الإنفاق ما لم تضع المرأة الحملَ، فيتفرع على هذا القول أمران:
أحدهما: تتمة فصلٍ ابتدأناه والأوْلى تقديمُه، وهو أن الزوج إذا عجل النفقة على قولنا لا يلزمه التعجيل- وكان لا يعتقد هو في نفسه وجوب التعجيل، ولم يحمله قاضٍ عليه، ولكنه تبرع، فعجّل، فإن بان أنها حامل، وقع ما عجله موقعه، وإن بأن أنَّهَا حائل، ففي هذا اختباط الأصحاب، ونحن نجمعه مع ما قدمناه في ضبط حاوٍ، إن شاء الله.
فنقول: كل من أخرج مالاً على اعتقاد أنه واجب عليه في الحال، ثم تبين أنه لم يكن واجباًً عليه، فله الرجوع فيه، بلا خلاف، سواءٌ ذكر الجهةَ التي أخرج المال فيها أو لم يذكرها وأطلق الإخراج، فلو أدى إلى إنسان مالاً على ظن أنه يَستَحِقُّ عليه دَيْناً، ثم بأن أنه لا يَستحِق عليه شيئاًً، فيسترد ما دفعه إليه، وإذا كان للرجل مال غائب، فحسب بقاءه، وأخرج زكاتَه بعد حولان الحول، ثم تبين أن ذلك المالَ هالكٌ، فالذي أخرجه يسترده، فإنه أخرجه على قصد الوجوب، ثم تبين أن الزكاة ليست واجبةً عليه.
ولو كان يتوقع وجوباً، فعجل قبل تحقق الوجوب، ثم لم يثبت الوجوب المنتظر، فهل يرجع فيما أخرجه؟
هذا ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يكون وقوع الوجوب متأخراً لا يستند إذا ثبت إلى الحالة الراهنة، وقد لا يقع الوجوب في الاستقبال، وهذه كالزكاة تعجل قبل حلول الحول، فالزكاة تجب عند انقضاء الحول إن توافت الشرائط، فإذا فرض التعجيل، ثم امتنع وجوب الزكاة، فهل يملك الرجوع فيما قدمه؟ ذكرنا تفاصيلَ موضحةً في باب التعجيل من كتاب الزكاة، لا نجد بدّاً من رمزٍ إليها، وإلى تراجمها: فإن قال عند الإخراج: هذه زكاتي المعجلة فإن لم تجب، رجعتُ فيها، فله الرجوع.
وإن قال: هذه زكاة مالي المعجلة، ثم لم تجب الزكاة، ففي الرجوع كلام، والظاهر الرجوع.
وإن قال: هذا صدقة مالي أو زكاة مالي، ولم يقيّد بالتعجيل، ثم تبين الأمر، ولم تجب الزكاة، ففي ثبوت الرجوع خلاف مرتب، وهاهنا أولى بأن لا يثبت الرجوع.
ولو أطلق الإخراج، ولم يتعرض لذكر شيء، فالظاهر هاهنا أنه لا يرجع، وفيه خلاف.
فإذا تبينت هذه المراتب في هذا القسم، ابتدأنا بعده القسم الثاني، وهو مقصودنا، فإذا عجل النفقةَ، فلو تبين الحملُ، لترتب عليه أن النفقة أُخرجت في وقت وجوبها، فإن الوجوب يستند، وإنما لا نوجب التعجيل على هذا القول الذي نفرع عليه، لأنا لسنا نتبين الحمل، ولا نرى الإخراج من غير ثبت.
10169- فإذا تُصوِّر هذا القسم وتميز عن القسم المذكور قبله، فنذكر ما أرسله الأصحاب فيه، ثم نوضّح الأصل الذي عليه التعويل.
قال الأصحاب: إن عجل النفقة، وشرط الرجوع، ثم بان انتفاءُ الحمل، رجع.
وإن لم يشترط الرجوع، ثم بان انتفاء الحمل فهل يرجع؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يرجع؛ لأنه أخرجه على تقدير الوجوب، فإذا بان أن لا وجوب، ثبت له حق الرجوع، كما لو دفع مالاً إلى إنسان، وهو يعتقد أنه يستحق عليه دَيْناً، ثم بان أنه لا حقّ له، فالباذل يرجع.
والوجه الثاني- أنه لا يرجع؛ لأنه متبرع بالإخراج في الحال، فإن لم يثبت الوجوب، حمل ما أخرجه على التبرع، وما قدمناه من المراتب في الزكاة المعجلة لا حاجة إلى ذكرها هاهنا؛ فإنها تَعلم أن النفقة تأتيها من قِبل ظن الحمل، والعلم في هذا بمثابة الزكاة، والمسكين إذا جاءه مال عن ذي ثروة، فيجوز أن يكون متصدقاً عليه على سبيل التطوع، فالتفصيل الذي لابد منه هاهنا ما ذكرناه من شرط الرجوع والسكوتِ عنه. هذا ما تمسّ الحاجة إليه في هذا القسم.
10170- والسر الموعود الذي به بيان التفاصيل أن من أعطى على اعتقاد الوجوب وظنِّ توجّه الطَّلِبة، ليس يخطر له التبرع بوجهٍ، فلا جرم إذا لم يقع عن الجهة المعيّنة، فلا وجه إلا الاسترداد؛ فإن الرجوع إلى قصد المعطي، فإذا جرّد قصده وحملَه على عقدٍ لا تردد فيه عنده، ثم بان بطلانُ القَصْد، والعَقْدِ، فيبقى مجرد البذل، ومجرد البذل لا يملّك القابض؛ إذ تسليم المال يقع على وجوهٍ، والمملّك منها بعضُها، فإذا بطل ما قصد، ولم يثبت مملِّك، وصورةُ الإقباض لا تملّك، فلا يخفى ثبوت الاسترداد.
واستدل الأصحاب على هذا مع وضوحه بحديث أُبي بنِ كعب، قال رضي الله عنه: كنت آتي بعضَ الأنصار، فأقرئه وأعلِّمه القرآن، فأعطاني قوساً، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه، وقصصت عليه القصة، فقال عليه السلام: «أتحب أن يقوّسك الله بقوس من نار؛ فقلت: لا، قال: فارددها»
وقد يستدل أصحاب أبي حنيفة بهذه القصة إذا قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على
تعليم القرآن، وهذا لعدم إحاطتهم بمعنى الحديث؛ فإن أُبيّاً رضي الله عنه، ما كان
يعلّم الأنصاري بأجرة، وإنما كان يتقرب إلى الله بتعليمه، فظن الأنصاري المتعلم أنه
يستحق عليه أجراً، فأعطاه القوسَ ظاناً أنه باذلٌ حقاً عليه، فلما اطلع رسول الله على
حقيقة الحال أمره بردّ القوس؛ فإنه لم يقع حقاً مستحَقّاً على ما ظنه الأنصاري، ولو
كان الأنصاري متبرعاً، فالتبرع غيرُ مردود باتفاق المذاهب. هذا إذا اتحد القصد
والعَقْدُ، ثم بأن خلافه.
10171- فأما إذا علم الباذل أنه لا حق عليه في الحال، وكان لا يتوقع وجوباً في
المآل، وهو فيما بذله على قصد تعجيله، فبذْلُه تبرع، فإن كان هبة، فقد نقول:
لا حاجة إلى اللفظ فيه إذا لم يكن معتاداً، وقد نُحْوَج إلى اللفظ فيه على ما تمهد في كتاب الهبات.
وإن قصد الصدقة فالرأي الظاهر أنه لا حاجة إلى اللفظ، ثم لا رجوع في الصدقة.
وإذا كان لا يجب إخراج شيء في الحال، فأخرجه على قصد أن يكون عما سيجب، فللأصحاب تردُّدٌ وتفصيل في أن الزكاة إذا لم تجب في المآل، فهل يملك هو الرجوع؟ وسبب هذا التردد أنه يملِّك ذلك القابض، ويبعد تنجيز الملك عن واجبٍ، ولا واجبَ، وإذا ثبت للقابض تصرفُ الملاك ناجزاً، فليتنجز له مملّكٌ، وإنما يتحقق هذا بأن يقال: إن وقع عن الواجب فذاك، وإلا وقع عن جهة أخرى مملّكة؛ فإن القابض ليس مستقرضاً، فإذا أعطى المعجّل عن خِيَرة وتسلط القابض على التصرف في الحال، أثبت هذا منعَ الرجوع على تفاصيلَ عند بعض الأصحاب.
فهذا هو الذي أوجب تردد الأصحاب، وإذا قيّد بالرجوع، رجع، وهو يوهي التعليل الذي ذكرناه من تنجيز التسليط على التصرف، ولكن إذا قيَّدَ، لم يُبق إمكاناً، وحمل جوازُ تصرف المسكين على الحاجة الحاقّة الناجزة، وعليها بناءُ الاستحثاث على التعجيل.
وأما تعجيل النفقة في مسألتنا، فالرجوع فيه أولى وأقرب؛ لأن الوجوب يستند إلى حال الإخراج إذا بان الحمل، وكلما كان الوجوب أظهر وأوقع، كان الرجوع إذا لم يتحقق الوجوب أوْلى.
ثم إذا كنا نثبت الرجوع، فجواز تصرّف المرأة محمول على حاجتها الناجزة، كما ذكرناه في تعجيل الزكاة، ولا حاصل لقول من يقول: قد تكون موسرة بمال نفسها؛ فإنّ قبضها ما يُستَحَق وتصرفها فيه وإن كانت مستغنية عنه بمثابة قبض المسكين حقَّ نفسه.
فهذا بيان هذه المنازل.
10172- وقد يعترض على الترتيب الذي نظمناه شيء، وهو أن من أخرج زكاةَ ماله الغائب بعد انقضاء الحول، على ظن بقاء المال، فالقاعدة التي استثنيناها تقتضي القطعَ بثبوت الرجوع في هذه الحالة؛ فإن مُخرج الزكاة مُجَرِّدٌ قصدَه إلى جهة الوجوب ظانٌّ أن الزكاة واجبة منتجزةٌ في الحالة الراهنة، ولكن ذهب طوائف من الأصحاب إلى ترديد القول في أنه هل يملك الرجوع، وهذا يكاد يخرِم ما ذكرناه، ووجه ما ذكره هؤلاء أنا لا نوجب عليه إخراج الزكاة عن ماله الغائب ما لم يكن على تحقُّقٍ من بقائه، فلعل الترددَ في الرجوع محمولٌ على هذا، ووجه القياس إثباتُ الرجوع بخلاف تعجيل الزكاة، وبخلاف تعجيل النفقة فيما نحن فيه.
هذا تمام المراد في أحد المقصودين، وهو أنه هل يملك الرجوعَ إذا عجل وقلنا: لا يلزمه التعجيل، ثم بأن أنْ لا حمل.
10173- فأما المقصود الآخر فنقول: مبنى نفقة القرابة على السقوط بمرور الأيام، كما سيأتي شرح ذلك في نفقة القرابة-إن شاء الله- فإن قلنا: النفقة للحامل، ظهر إلحاقها بنفقة الزوجية، وهي لا تسقط بمرور الزمن، وكذلك نفقة الرجعية، وإن قلنا: النفقة بحال وجوبها على الحمل، ثم قلنا: لا يجب التعجيل، فإذا وضعت حملَها، لم يختلف الأصحاب-حيث انتهى التفريع إليه- أنه لا تسقط النفقة بمرور زمان الحمل، وإن كان الوجوب تبيّن مستنداً إلى ما تقدم، وذلك أنا لو أسقطنا النفقة بمضي الزمان، وقلنا لا يجب تعجيل الإنفاق إلى الوضع، فهذا إسقاط النفقة قصداً، فيتعين القطع بأن النفقة لا تسقط بمضي زمان الحمل، وإن قلنا: النفقة للحمل.
وأما إذا أوجبنا تعجيلَ الإنفاق كما بدا الحمل ووضحَ بطريق وضوحه، فإن قلنا: النفقةُ للحامل، لم تسقط بمرور الزمان، حتى لو أخرها، ولم يخرجها حتى وضعت المرأة الحملَ- استقرت النفقة في ذمته دَيْناً.
وإن قلنا: النفقة للحمل، وأوجبنا تعجيلَها، فلو أخرها حتى وضعت المرأة، ففي سقوط النفقة وجهان في هذا المنتهى، سنعيد ذكرهما من بعدُ، إن شاء الله.
10174- ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل أنا إذا قلنا: النفقةُ للحمل، فلو كانت المرأة لا تكتفي بالمُدّ أو بالمدّيْن-والغرض تصوير حاجتها إلى مزيدٍ على نفقة الزوجية- فهل نزيد ترقّياً إلى الكفاية؟ اضطرب الأصحاب في ترتيب هذا الفصل: فقال قائلون: إن قلنا: النفقة للحمل، فالواجب الكفاية، زادت على حقيقة النكاح أو نقصت، وإن قلنا: النفقة للحامل، فوجهان:
أحدهما: الكفايةُ مرعية، فإنا لو لم نكفها، لأضررنا بالحمل.
والثاني: أنه لا مزيد على نفقة النكاح، وإن فرضنا إضراراً، كما أن الاقتصار على المُدّ قد يضرّ بها، ثم لا مبالاة بذلك.
ثم إن كانت تكتفي بدون المدّ، فلا نقصان من نفقة النكاح، وإنما هذا التردّد على هذا القول في الزيادة.
ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إذا قلنا: النفقة للحامل، فلا مزيد على مقدار النكاح، وإذا قلنا: النفقة للحمل، فهل تعتبر الكفاية أم يلزم التقدير؟ فعلى وجهين، وسبب هذا التردد أنا إذا قلنا: النفقة للحمل.، فلسنا نُخلي قولَنا عن رعاية حق الحامل، وإذا قلنا: النفقة للحامل، فلسنا نخلي قولَنا عن الالتفات على الحمل، وكأن الحمل في المطلّقة يُبقيها في عُلقةٍ تضاهي علقةَ الرّجعة في استحقاق النفقة. والعلم عند الله.
ولم يختلف أصحابنا في أن المرأة إذا حملت في صلب النكاح، لم نزدها على مقدّر النكاح شيئاً، والتردد الذي ذكرناه في حالة البينونة، فإنَّ عصام النكاح قد زال، فعظم النظر في الولد، فهو المتعلَّق.
وإذا كان النكاح قائماً، فلا مزيد على حق النكاح، وإن خطر لناظرٍ أنها ازدادت بالحمل إقلالاً له واستقلالاً به، فكأنها منكوحةٌ حاضنة، فهذا فقهٌ على حال. ولكن لم يعتبره أحدٌ من الأصحاب؛ فإن الحمل لا يمكن اعتباره على حياله، ومنه التفّ أحد القولين بالثاني في أن النفقة للحمل أو للحامل.
وهذا نجاز الكلام في هذا الفن الذي رأيناه قاعدةً في الباب، ولم يبق بعد نجازه إلا فصلٌ منصوصٌ عليه للشافعي تخبط المزني في فهمه، ثم في الاعتراض عليه، ونحن نذكره، ونبيّن وجهَ الصواب فيه، ثم نذكر بعده فروعاً متفرقة.
فصل:
قال: "ولو كان يملك الرجعةَ، فلم تقر بثلاث حِيضٍ... إلى آخره".
10175- والوجه أن نذكر مراد الشافعي ووجه الصواب حتى إذا انتهى الحظّ الفقهي، رجعنا إلى ظن المزني واعتراضه، وبيان خطئه.
فلتقع البداية بتصوير المسألة: إذا طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، ومرّت عليها ثلاثةُ أقراء، ثم بدا بها حمل، ولو وضعت دون أربع سنين لَلَحِقَ الحملُ، ولاعتقدنا أن ما رأته من الدماء كانت في زمان الحمل، ثم التردد في أنها حيضٌ أو دمُ فساد، فلو لم تضع الحملَ حتى مضت أربعُ سنين على وجهٍ يقتضي الشرعُ نفيَه عن الزوج، فيقدّر العلوق به وراء الأقراء، ويُقضَى بانقضاء العدة بمضيها.
هذا هو الأصل.
فإن زعمت المرأة أن أقراءها انقضت في أربعة أشهر مثلاً، وما قالته محتمل، فتستحق النفقة لهذه المدة على زوجها، وإن اتهمها الزوج، حلَّفها، فإنهن مؤتمنات في أرحامهن، والرجوع في آماد العِدد إليهن.
ولو قالت المرأة: لست أدري في كم انقضت أقرائي، فهي لا تخلو إما إن كانت على عادة معلومة في أدوارها، وكانت تعلم عادتَها، ثم جوزنا لما سألناها ازدياداً أو نقصاناً، فإن كان كذلك، فقد قال الأصحاب: لها النفقة أيام عادتها.
وإن زعمت أن عاداتها مضطربة، وكانت لا تعرف أقل عاداتها، فهي محمولة على أقل ما يتصور انقضاء الأقراء فيه، ولا تستحق النفقة إلا لأقلِّ زمنٍ يُتصور انقضاء عدتها فيه؛ فإن هذا القدرَ هو المستيقن، ولا متعلّق معنا من عادتها، حتى نتخذه أصلاً مرجوعاً إليه.
ولو كانت تعرف أقل عاداتها، وكان ذلك أكثرَ من الأقل الذي وصفناه، فقد قال الأصحاب: ليس لها إلا نفقةُ أقلِّ عاداتها، ويحتمل أن يقال: إذا كانت عاداتها مستقيمة، ولم تدّع أن الأقراء جرت على حسب العادة التي ألفتها قديماً، بل ادعت الجهالة، فليس لها إلا نفقة أقل الأزمان؛ فإن هذا هو المستيقن، وهي ما ادعت مزيداً، فتُصَدَّق، وليست الأدوار وإن تكررت بعيدة عن الزيادة والنقصان، وهذا الوجه يجري إذا كانت عاداتها مختلفة، وكانت تعرف أقلّها، فيتجه أن لا نوجب لها إلا الأقلَّ الذي لا أقل منه؛ لأنها لم تدع، بل ردّدت قولها، وليس النقصان ولا الزيادة مستنكَرَيْن في أدوار الحيض والطهر.
هذا فقه الفصل وبيانُ مراد الشافعي، وتفصيل الأصحاب على سَنَن الصواب.
10176- وأما المزني، فإنه ظن أن الشافعي صور المسألة فيه إذا ادعت المرأة أن أقراءها انقضت في زمان ذكرته، ثم قال: لا تُصَدّقُ فيه. فأخذ يعترض قائلاً: إنهن مؤتمنات في أرحامهن، فكيف لم نصدقها، واستشهد بالرجعة عند فرض التنازع في انقضاء العدة في كلامٍ يطول، ولا حاصل لما جاء به؛ فإن اعتراضه غير واقع على تصوير الشافعي، فإنه رضي الله عنه صوّر الكلام فيه إذا لم تدع المرأة مدةً، وأبهمت قولَها، ثم تفصيل المذهب في اضطراب عاداتها واستقامتها كما ذكرناه.
فأما إذا ادعت المرأة وقوع أقرائها في زمن ذكرته، فهي مصدّقة مع يمينها، لا خلاف فيه. هذا بيان مقصود الفصل.
فرع:
10177- إذا طلق الرجل امرأته الحامل طلاقاً مبيناً، فنفقتها واجبة، كما ذكرناه، فلو مات الزوج في أثناء العدة، استكملت المرأة عدة الطلاق، ولم تنتقل إلى عدة الوفاة.
قال ابن الحداد: إذا مات الزوج كما صوّرنا، سقطت النفقة في بقية العدة، لأنا إن قلنا: النفقة للحمل، فلا تجب نفقة القرابة في تركة الميت، وإن قلنا: النفقة للحامل، فهي في محل الحاضنة، ولا يجب مؤونة الحاضنة في تركة المتوفَّى.
قال الشيخ أبو علي: الصّواب غيرُ ما ذكره ابنُ الحداد، فإن نفقة العدة وجبت لمكان الحمل دُفعة واحدة، والتحقت بالديون؛ فطريان الموت لا يُسقطها، واحتج على ذلك من جهة النص، بأن قال: نص الشافعي على أن مؤنة سكناها في بقية العدة مأخوذة من التركة، وقطع قوله به، ثم ردد قوله في أن المتوفى عنها زوجها في غير هذه الصورة هل تستحق السكنى؟ فقَطْعُه القولَ بإثبات السكنى للمطلقة الحامل دليلٌ على أن ما يجب لها لا يسقط بطريان الموت.
وهذا الذي ذكره الشيخ أبو علي من تغليط ابن الحداد إن كان من كلامه، فهو بعيد عن الصواب، والصواب ما ذكره ابنُ الحداد، وإن نقله عن الأحاب، فالأوجه ما ذكره ابن الحداد؛ وذلك لأن نفقة الحامل في العدة لا تجب دفعة واحدة، وإنما تجب يوماًً يوماً، كنفقة الزوجية، فإذا فرض الموت، فإيجاب النفقة ابتداءً على ميتٍ لحاملٍ بعيدٌ عن قياس المذهب، وإنما وقع لهؤلاء ما وقع؛ من جهة أن النكاح ينقطع بالموت، فلو مات الرجل عن زوجته الحامل، فلا نفقة لها، لأن النكاح قد زال، ونفقة القرابة لا تجب في تركة ميت، وعِدة المطلقة لا تنقطع بالموت إذا كانت
بائنة.
فقال من خالف ابنَ الحداد: المعنى الذي أوجب النفقة قائم، لم ينقطع؛ لأن المرأة مستبرأة بها، والنفقة لا تجب لصورة العِدة، وإنما تجب للحمل أو لحضانة الحمل، بدليل أن الحائل البائنة لا تستحق شيئاًً، ولا وجه عندنا إلا ما ذكره ابن الحداد.
فرع:
10178- إذا وضعت المرأة حملها، وكان الزوج طلقها طلاقاً رجعياً، فاختلف الزوجان في تاريخ الطلاق، فللمسألة صورتان متعارضتان: إحداهما- أن الزوج لو قال: طلقتك بعد الوضع، فاستقبلتِ عدة الطلاق الرجعي، فلي الرجعة، وقالت المرأة: بل طلقتني قبل الوضع، فانقضت عدتي بوضع الحمل.
قال الأصحاب: القول قول الزوج في أنه يلزمها استقبال العدة، وتثبت الرجعة في أمد العدة بعد الوضع؛ فإن الزوج هو المطلق، والمرأة تدعي عليه تطليقاً قبل الوضع، والقول قوله في نفيه، ولكن لا نفقة للمرأة، فإنها مؤاخذة في حق نفسها بقولها، وهي زاعمة أنها بائنةٌ حائل.
الصورة الثانية- أن يقول الزوج: طلقتك قبل الوضع، فإذا وضعتِ، انقضت عدتك، فلا نفقة لك ولا رجعة لي، وقالت المرأة: بل طلقتني بعد الوضع، فنفقتي ثابتة، قال ابن الحداد: النفقة لا تسقط، فإن الزوج يدّعي سقوطها بوضع الولد، والأصل بقاؤها، ولكن لا رجعة له؛ لأنه مؤاخذ بقوله، وهذا ظاهر.
ويتطرق إليه احتمال؛ من جهة أن الزوج يقول: أنا المطلق، وأنا أعرف بتاريخ الطلاق، فليكن الرجوع إليّ، وهذا ظاهر.
ومن أحاط بالفصول التي ذكرناها في اختلاف الزوجين في كتاب الرجعة، لم يَخْفَ عليه ظهور هذا.
فرع:
10179- إذا نكح الرجل امرأة نكاحاً فاسداً، على ظن الصحة، وكان ينفق عليها، ثم تبين له فساد النكاح، ومعلوم أن النكاح الفاسد لا يوجب النفقة للمرأة، فالذي رأيته للأصحاب أنه لا يرجع فيما أخرجه في نفقتها، وهذا يكاد يعترض على بعض أطراف الكلام في الفصل الجامع القريب منا؛ حيث ذكرنا ما يَثبت الرجوعُ به، وما لا يَثبت الرجوعُ به وذلك أن من قواعد ذلك الفصل أن من أخرج شيئاً على اعتقاد الوجوب، ثم بان عدم الوجوب، فإنه يملك الرجوع، والأمر كان كذلك في النكاح الفاسد.
والذي اعتمده الأصحاب فيما قطعوا به أن قالوا: كان الزوج متسلطاً عليها في ظاهر الحال بناء على ظن الصحة، فوقعت النفقة على مقابلة سلطانه عليها ظاهراً.
وهذا فيه إشكال؛ فإن ذلك السلطان كان منوطاً بظن وبحسبان، فإن بان الأمر على خلاف ما حسبه، فليس يبعد عن الاحتمال أن يثبت له حق استرداد ما أخرجه، ولكن لم أر للأصحاب إلا القطعَ بأنه لا يملك الرجوع.
وكان شيخي يقول: لو قال الناكح: هذا الذي أقدمه أقدمه وأنا على اعتقاد صحة النكاح، فإن بان فساده، رجعت به، فلا يملك الرجوع إذا بأن الفساد. هذا ضمُّ إشكالٍ إلى إشكال، والاحتمال جارٍ، وجريانه في الصورة الأخيرة أظهر.
والممكن في توجيه ما ذكره الأصحاب ضمّاً إلى السلطان الذي اعتمدوه أن العادات مطردة أن من ينكح، ويتسلط وينفق لا يضمر الرجوع، هذا ما عليه دأب الخلق، سواء بان الفساد أو الصحة، فهذا إذاً بذلٌ يقع متجدِّداً على وجهٍ لا يضمن الرجوعَ معه، وهذا إنما يجري إذا لم يقيَّد بالرجوع، والعلم عند الله.
فصل:
10180- كان يليق بالفصل الذي جمعنا فيه القول فيمن يرجع بما ينفق وفيمن لا يرجع، وليس بعيداً عن هذا المنتهى، قال الصيدلاني: كان القفال يقول: من دفع إلى دلاّل عَرْضاً حتى يبيعه، فباعه، فأجرته على الذي أمره، إن ذكر الأجر، وإن أطلق فعلى تفصيلٍ معروف مذكور في موضعه، ولا شيء على المشتري؛ فإنه لم يأمر الدَّلاَّل بشيء.
والمسألة مفروضة هاهنا، فلو وهب المشتري شيئاً من الدلال على اعتقاد أنه يستحق عليه شيئاً، فله الرجوع فيما وهبه؛ لأنه اعتقده واجباًً، فإذا بأن خلافُ ما يعتقده، رجع.
وهذا فيه نظر على حالٍ، لأن المسألة مفروضة فيه إذا وهب من الدلال، والهبة عقد تمليك، والظنون لا تغيّر مقتضيات العقود، ويمكن تخريج هذا على أن النظر إلى المقصود أو إلى مقتضيات الألفاظ في العقود، فإن نظرنا إلى المقصود، فالكلام على ما ذكره القفال، وإن نظرنا إلى صيغة العقد، فالهبة مملّكة، فإذا اتصل القبض بها، فلا رجوع؛ إذ لا يرجع واهب فيما وهب إلا الوالد فيما وهب لولده.