فصل: كتاب الديات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الديات:

10393- ذكر الشافعي رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هُذيل وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلاً، فأهله بين خِيَرتَيْن إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل" فمذهبنا أن ولي الدم بالخيار بين القصاص وبين الدية، فأي الأمرين طلب كان له، من غير حاجة إلى رضا مَنْ عليه القصاص.
وقال أبو حنيفة: لا يختار الدية دون رضا الجاني، ثم عندنا إذا فات محل القصاص، تعيّن المال، وحقَّت الطلبة فيه، ولأبي حنيفةَ خبط في فوات محل القصاص.
10394- ثم اختلف قول الشافعي وراء ما ذكرناه في أن موجب العمد القودُ لا غير ومستحِقه يملك إسقاطه إلى مال، أو الموجَب أحدُ الأمرين: القصاص أو المال.
فأحد القولين- أن موجَبه القود؛ لقوله عليه السلام: «العمد قود».
والثاني: أن الواجب أحدُ الأمرين، كما أن الواجب على الجاني أحدُ الأشياء الثلاثة.
فإن قلنا: الموجَب أحدُهما، فلو عفا عن القصاص مطلقاً، ثبت المال، وتعين.
ولو قال: عفوت عن القصاص والدية، سقط حقه بالكلية.
ولو قال: عفوت عن المال، ففي المسألة أوجه: أحدها: أن المال سقط بالكلية، حتى لو أراد الولي إسقاط القصاص على مال، لم يجد إليه سبيلاً، فهو بالخيار بين أن يقتص وبين أن يُسقط القصاص ولا مال له، وهذا كما أنه لو عفا أولاً عن القود، لم يتصور رجوعه إليه، وتعين حقه في المال.
والوجه الثاني- أنه لا معنى للعفو عن المال مع بقاء القود، فالذي جرى منه لغوٌ، وهو على خِيَرته، وكأنه لم يعف، والسبب فيه أنا وإن كنا نثبت المال أصلاً، فهو على قضية التبعية للقود، فيستحيل أن ينبتّ أثر المال مع بقاء القود.
والوجه الثالث: وهو اختيار شيخي أن العفو عن المال يُلحق هذا القول بقولنا: موجَب العمد القودُ المحض، وفائدة هذا أنه يملك العفو عن القود إلى المال.
فلو رضي الجاني، واصطلحا عن القصاص على مالٍ، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: لا يجوز المصير إلى المال مع التراضي، كما لا يجوز المصير إلى المال في حد القذف.
والثاني: يجوز. وهو موافق لمذهب أبي حنيفة، ولعله الأصح، ووجهه أن القصاص في مقابلة متقوِّم بالمال على الجملة وهو النفس، والتلف به يُتقوّم وليس كذلك العرض في القذف، وإذا جاز بذل العوض في بدل الخلع للأجنبي، فهذا في الدم أجوز، مع ترغيب الشارع في إسقاطه.
ومما نفرعه على هذا القول أنا إذا قلنا: الواجب أحدهما، فلو قال: عفوت عن الدم والمال، فقد عفا عن حقه، ولو قال: عفوت عن الدم على أنْ لا مال لي، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يسقط كما لو عفا عنهما.
والثاني: لا يسقط؛ فإن قوله على أن لا مال شرط انتفاء وليس بنفيٍ على الحقيقة، وهذا ما إليه ميل كلام الصيدلاني.
وقال العراقيون في التفريع على هذا القول: لو قال: اخترت الدية، فقد تعينت الدية، فلا رجوع إلى القصاص، وهذا قالوه قياساً، ثم قالوا: لو قال:
اخترت القصاص، فلو أراد الرجوعَ إلى الدية، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: ليس له ذلك كعكسه المقدم. والوجه الثاني- له الرجوع إلى المال؛ فإنه أدنى، ولا يبعد الرجوع من الأعلى إلى الأدنى.
وهذا الذي ذكروه يجب أن يفرع على التصريح بإسقاط المال. فإن قلنا: العفو عن المال لغو، فلا معنى لقوله: اخترت القصاص. وإن قلنا: العفو عن المال حكم، فقوله: اخترت القصاص هل يفيده؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما.
10395- فأما إذا قلنا: موجب العمد القود المحض، فالتخير على هذا القول قائم، على معنى أن ولي الدم لو أراد المال، لم يحتج إلى رضا الجاني، ولو عفا عن القصاص على مال، ثبت المال.
ولو عفا مطلقاً، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن المال يثبت، والثاني: لا يثبت.
توجيه القولين: من قال لا يثبت، احتج بأن التفريع على أن لا واجب إلا القود، وقد أسقطه، ومن ثَم لا يثبت المال، فإن العفو إسقاطُ ثابت لا إيجابُ ما ليس بثابت ومن قال: يثبت المال، قال: إن المقصود بقولهم: إن موجب العمد القود أنه الأصل، ولا يثبت المال معه. كما لا يثبت البدل مع المبدل إذا ترتب البدل على المبدل، فإذا سقط القصاص، حان وقت البدل، فيثبت المال ثبوتَ الأبدال عند سقوط المبدلات.
10396- والذي أراه أن هذين القولين في الأصل والتفريع عليهما على ما رسمناه تكلّفٌ، فإنا إذا خيّرنا الولي على القولين ورجعنا إلى المال عند فوات المحلّ على القولين، فلا معنى لترديد القول أولاً في أن موجب العمد ماذا، بل الصيغة الناصّة على الغرض: أن القتل يقتضي ثبوت المال لا محالة، ولكن يقتضيه أصلاً معارضاً للقصاص أم يقتضيه على قضية من التبعية؟ وعليه يخرّج القولان من العفو المطلق، وما قدمناه من التفاصيل.
10397- ثم قال العلماء: هذا تفريع على عفوِ مُطلَقٍ.
فأما المحجور عليه إذا عفا، فإن كان مسلوب العبارة كالصبي والمجنون، فلا أثر لقوله، ولا حكم لعفوه.
وإن كان محجوراً عليه صحيح العبارة، لم يخل: إما أن يكون الحجر عليه بسبب غيرِه، وإما أن يكون الحجر عليه بسببه في نفسه، فإن كان الحجر عليه بسبب غيره، فالمحجور عليه بالعكس، فإن أراد الاقتصاص، فله ذلك، وإن أراد العفو عن القصاص، فلا شك في سقوط القصاص.
فأما المال قال الأصحاب: إن قلنا: موجب العمد أحدُ الأمرين، فليس له العفو عن المال، فإن اقتصّ وإلا فمهما عفا، فالمال مصروف إلى غرمائه، ولا نكلفه تعجيلَ الاقتصاص أو العفو، بل إن أراد التوقف، توقفنا.
وإن قلنا: موجب العمد القود المحض، فإن عفا على مال ثبت، وإن عفا مطلقاً، وقلنا: العفو المطلق يُثبت المالَ، ثبت المالُ. وإن قلنا: العفو المطلق لا يُثبت المالَ من الرجل المطلَق الذي لا حجر عليه، فلا يُثبته ممّن عليه الحجر؛ فإن ما لا يقتضي المال من المطلق لا يقتضيه من المحجور.
ولو قال المفلس: عفوت على أن لا مال، وقلنا: مطلق العفو لا يوجب المال، فمقيّده أولى ألا يوجبه، وإن قلنا: مطلق العفو يوجب المال، فمقيَّدُه بالنفي لا يوجب المال من المطلَق، وهل يوجبه إذا صدر من المحجور؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن المال يجب، فإنه لو أطلق العفو، لوجب، فنفيه المالَ إسقاطٌ منه لما له حكم الوجوب.
والثاني: لا يجب المال؛ فإن العفو على أن لا مال من المطلق لا يقتضي مالاً، فلو كلفنا المفلس الإطلاق حتى يُثبتَ المالَ، كان ذلك تكليفَ نوعٍ من الكسب. وعبّر الأئمة عن هذين الوجهين، بأن قالوا: إن قلنا: العفو على أن لا مال إسقاطٌ أم منعٌ للوجوب، ولا خلاف أن المفلس لا يكلّف قبولَ الهبة.
هذا قولنا فيمن حُجر عليه بسبب غيره.
10398- والمريضُ في الزائد على الثلث في تفريع ذلك كالمفلس.
والورثة إذا عفَوْا عن قصاصٍ لهم استيفاؤه، والتركة مستغرَقة بالديون- ينزلون منزلة المفلس.
10399- فأما المبذر، فالحجر عليه بسبب النظر له في نفسه، والقول الجامع فيه أن الأئمة اختلفوا، فذهب بعضهم إلى أنه كالمفلس في الترتيب المقدّم، وذهب آخرون إلى القطع بأنه يَثْبتُ المال، مهما عفا عن القصاص على الأقوال كلها، وهذا هو الذي قطع به الصيدلاني، ولا وجه غيرُه؛ فإن الأئمة قالوا: لو وُهب له شيء أو أوصي له بشيء فَرَدَّ، لم يصح ردّه، وللولي أن يقبل الهبةَ والوصيةَ للمبذر.
وفي القلب من هذا أدنى احتمال.
وإذا صرح من يملك الطلاقَ وتصلح عبارته للعقود بردّ وصيةٍ أو هبة، فالذي نقله الأئمة ما ذكرناه.
10400- فرع: إذا قال المُطْلَق الّذي لا حجر عليه لمن عليه القصاص: عفوت عنك. فإن قلنا: موجب العمد القود المحض، فيسقط القصاص في هذه الصورة بلا خلاف، وينزل قوله هذا منزلة ما لو عفا عن القصاص مطلقاً، وفيه القولان المقدمان في ثبوت المال: فإن قلنا: موجَب العمد أحدُهما لا بعينه، فإذا قال: عفوت عنك. ولم يتعرض لشيءٍ، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين:
أحدهما: أنه يسقط القصاص ولا يُرجَع إلى تفسيره، حتى لو قال: أردت بذلك العفوَ عن الدية، فلا يُقبل ذلك منه في استيفاء القصاص، بل نحكم بسقوطه.
والوجه الثاني- أنه يُرجع إلى نيته، وهذا هو الذي قطع به الشيخ أبو علي، ووجهه بيّن؛ فإن الموجب مترددٌ، والعفو مُطلَق، فإن قال: أردت بذلك العفوَ عن الدية، قُبل ذلك منه، وعاد التفريع إلى العفو عن الدية، وقد مضى.
فإن قلنا: يُرجع إلى نيته، فلو قال: لم تكن لي نية، فقد حكى الشيخ وجهين في هذه الصورة، وأشار إليهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنه يصرف العفو المطلق إلى القود؛ فإنه المتعرض للسقوط بأقرب الأمور.
والثاني: أنه يقال له: إن كنت لم تنو شيئاً، فاصرف الآن نيتك إلى ما شئت منهما ويلزمك ذلك.
وهذا إذا قلنا العفو عن الدية لا يلغو. فإن قلنا: العفوُ عن الدية لاغٍ على هذا القول، ثم سوغنا له أن يصرف إلى ما شاء، فإذا صرفه إلى جهة الإلغاء، لم يكن للفظه حكم، فالأمر إذاً إليه.
فصل:
"ولم يختلفوا أن العقل موروث... إلى آخره".
10401- الدية مال من التركة مقسوم على فرائض الله تعالى، وكان عمر رضي الله عنه متوقفاً في توريث أحد الزوجين من دية صاحبه، حتى روي له: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورّث امرأة أَشْيَم الضِّبابي من دية زوجها".
وأما القود، فهو بَيْن الورثة لا يختص به الأقارب والعصبات، ويشارك في استحقاقه الزوج والزوجة، ويثبت للصغير والكبير.
10402- ثم مذهب الشافعي أنه إذا كان في الورثة صغير يُنْتظر بلوغُه، ولم يجد للبالغين سبباً للاستبداد بالقصاص، والخلاف فيه مشهور مع أبي حنيفة، ولا اتجاه لمذهبه مع الاعتراف بثبوت القصاص للطفل، ولابد منه، فإن البالغين في صورة الخلاف لا يلون الطفل، فاستيفاء الحق من غير ولايةٍ محال، فالاستبداد بالحق مع مشاركته لا وجه له، ومن أصلنا أن القصاص لا يدخل تحت تصرف الولاة، فلو ثبت القصاص للطفل، لم يكن لوليه أن يستوفيه له، ولم يكن له العفوُ والرجوعُ إلى المال.
وفي المجنون الذي يبعد أن يُفيق كلام سيأتي بعد ذلك. فإذاً القصاص في الخروج عن تصرف الولي كالطلاق عندنا، فإذا ثبت حق القصاص لطفلٍ أو مجنون: أما المجنون، فلا يمكّن من استيفاء القصاص، وكذلك الطفل، فلو وثب الطفل أو المجنون على الجاني واقتص، هل يقع ذلك قصاصاًً؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه يقع قصاصاً؛ فإنه وإن مُنع من الاقتصاص، فهو المستحق للقصاص دون غيره، وأقرب المحامل لفعله أن يُصرف إلى جهة استحقاقه، ولا سبيل إلى إحباطه.
والوجه الثاني- أنه لا يقع قصاصاًً؛ فإنه ليس من أهل استيفاء الحقوق، وقد مضى تفصيل القول في قبض الصبيان الحقوق المالية، وقبضِهم المبيع وإتلافِهم إياه في كتاب البيع. فإن قلنا: ما استوفاه يقع قصاصاًً، فلا كلام، وإن قلنا: لا يقع قصاصاًً، فلا يُهدر بل يجب بدلُ ما استوفاه مالاً، إما متعلقاً بماله، إن جعلنا له عمداً أو بعاقلته، وقد فات محلّ القصاص بالقطع أو القتل، فعلى الجاني الأرشُ، أو الديةُ إن كان الكلام مفروضاً في النفس وقد تثبت أقوال التقاصّ إذا علقنا الضمان بمال الصبي والمجنون.
قال العراقيون: هذا إذا لم يكن ما جرى باختيار الجاني الذي عليه القصاص، فلو أخرج الجاني يده ومكن المجنون أو الصبي من قطعها، قالوا: فلا يقع قصاصاًً قولاً واحداً؛ فإن التفريط من الذي أخرج يده، ثم قالوا: فإذا لم يقع قصاصاًً، فيكون هدراً من فعل المجنون غيرَ مضمون، وعلى الجاني المالُ إذا فات محل القصاص بما جرى. هكذا رتبوه، ولم أر ذلك في طرقنا، وظاهر ذلك ما ذكروه.
فإذا ثبت أن حق القصاص إذا ثبت لصغير وكبير، لم ينفرد الكبير بالاستيفاء ويتعين انتظارُ بلوغ الصبي.
فهذا قولنا فيه إذا كان منهم مجنون، وإن كان قد لا يظن إفاقته، فلسنا نحرص على استيفاء القصاص، وليس لولي المجنون أن يستوفي القصاص له، وإنما التردد في أنه هل يأخذ المال أم لا؟ سرُّ ذاك سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
10403- ثم إذا توقفنا في الاقتصاص، لم نترك من عليه القصاص مطلَقاً بل نحبسه، ولا يُنظر إلى طول أمد الحبس؛ فإن الحبس بالإضافة إلى القتل غيرُ معتد به، وإن تبرم المحبوس به، قلنا: ليكن في مقابلة مَهَلِ الحق، فالحبس لا يكون عقوبة مع هذا التقدير، ولا سبيل إلى غيره.
وإذا كان في الورثة غائب، انتظرناه وحبسنا الجاني في الانتظار إلى حضوره.
ولا ينتظم في المال مثلُ هذا؛ فإنه إذا ثبت حق المال لغائب وحاضر، فالحاضر يستمكن من استيفاء حقه، ولا حبس، وفي مسألتنا حق الحاضر غير ممتنع، وإن يثبت لغائب حق، فقد يتصور أن يُستأدَى ويحفظ له إن اقتضى الحال ذلك، كما سيأتي في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل، فإذاً لا وجه إلا الحبس في القصاص.
فصل:
قال الشافعي: "قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]... إلى آخره".
10404- قيل: الإسراف أن يقتل غير القاتل، وقيل: هو أن يفعل بالجاني ما لم يَفْعل من المَثُلة.
ومقصود الفصل الكلامُ فيمن يستحق ويستوفي القصاص.
ليس لمستحق القصاص أن يستبد باستيفائه، بل يتعين عليه رفع الأمر إلى مجلس الوالي؛ فإن الاستقلال بأمور الدماء لا يتسلط آحاد الرعايا عليه، ولو استبدّ، وقعَ القصاصُ موقعَه، ولكنه يتعرض للتعزير لإقدامه على ما حُرّم عليه الاستبداد فيه بالنفس، فإذا ارتفعت القصة إلى مجلس الوالي، وكان في أولياء الدم من يتأتى منه تعاطي الاقتصاص، فإذا استدعاه، وجب إسعافه، مع تقديم الاحتياط، كما سنصفه.
هذا في القصاص في النفس.
فأما القصاص في الطرف، فقد اختلف أصحابنا فيه: منهم من أوجب تفويضه إلى مستحقه إذا استدعاه، قياساً على القصاص في النفس.
ومنهم من لم يجوّز ذلك؛ فإن مستحق القصاص متهم بمجاوزة الحد في كيفياتٍ خفيّة، كترديد الحديدة، ونحوه، والمستحَق الطرفُ لا غير، فأما القصاص في النفس، فالمحذور فيه المَثُلَة، وترديد الحديدة يترتب عليها زهوق النفس، وهو مستحق.
10405- والنسوة ليس من أهل التعاطي وكذلك الضعيف من الرجال الذي نعلم أنه لا يستقلُّ بالأمر.
وإذا كان في الأولياء جماعة يتأتى منهم الاقتصاص؛ فإن سلّموا لواحدٍ أن يتعاطى، فذاك، وإن تنازعوا أُقرع بينهم.
والضعيف الذي لا يستقلّ لابد وأن يراجَع، فلا يسوّغ القتل دون إذنه ورضاه.
ولكن هل يدخل في القرعة حتى إذا خرجت القرعة عليه، استناب من شاء من الأولياء أو من الأجانب؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يدخل؛ فإنه لا فائدة به إذا كان لا يتعاطى، ولئن كان في التعاطي حظ بيّن في شفاء الغليل، فلا غرض في الاستنابة، وما ذكرناه يطّرد في المرأة.
10406- ثم إذا تعين تعاطي واحد، فلابد وأن يحتاط الوالي، فينظر في الآلة.
قال الشافعي: ينبغي أن يقع الاقتصاص بأحدّ سيفٍ وأحدِّ ضربة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الإحسان في كل شيء، حتى في القتل، فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحَ، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته».
ومما يتفقده أن لا تكون الحديدة مسمومة إذا كان القصاص في الطرف.
وإن كان القصاص في النفس، فمن أصحابنا من قال: لا بأس باستعمال المسموم لأنه ليس فيه زيادة عقوبة.
ومن أصحابنا من قال: لا يقتص باستعمال المسموم محافظةً على حفظ الجثة؛ فإن السم إذا نفذ قد يتسرع البلى إلى الجثة، وجسد الميت محترم على الوجوب، ولعل الأصحَّ الأولُ.
ولو سلمنا السيف إلى ولي القصاص، فضرب غير الموضع المقصود فإن كان يضرب الرقبة فيما زعم، فلم يصبها السيف، نُظر: فإن بان تعمده بضرب الرِّجْل أو غيرها، والسيف لا يتعدى الرقبة إلى الرجل، فإنا نعزّر الوليّ بما يراه الوالي.
ثم قال الشيخ أبو بكر: لا يصرفه عن ذلك، ولكن يعزّره ويهدده بمزيد التشديد عليه لو عاد إلى مثل ما بدر منه.
وقال بعض أصحابنا: يأخذ السيفَ منه؛ فإنا لا نأمن أن يفعل ثانياً مثلَ ما فعل أولاً، والأوجه ما ذكره الصيدلاني؛ فإن حقه في التعاطي ينبغي ألا يبطل بعدُ، وإن صدر منه ما صدر، كما لو جرحَ الجاني قبل الارتفاع إلى مجلس الوالي، فيبعد أن لا يسلم السيف إليه لما تقدم منه من الجرح والمَثُلة.
ولو ظهر لنا أنه أخطأ في الضرب، ولم يتعمد، وقد يبينُ ذلك بأن يتعدى السيف من الرقبة إلى الكتف، أو إلى القَمَحْدُوة، فإذا أخطأ، لم يعزر، ولكن قال الشيخ أبو بكر: يُعْزل ويؤخذُ السيف منه، ويقال له: استنب، وليس كالعامد والفرق أن العامد لم يبن لنا خُرقه في الأمر، ولكنه اعتدى، فنهيناه، ونحن له-إن أعاد- بالمرصاد. وأما المخطىء، فتبين أنه ليس يحسن الأمر، ولا ينفع زجره.
وذهب بعض الأصحاب إلى أن المخطىء لا يعزل، بل يعزّر، وهؤلاء هم الذين قالوا: العامد يعزل.
10407- ولابد في تمام الفصل من استدراكات في مواضعَ: أقربُها أن ما ذكره الشيخ أبو بكر في الخطأ من العزل يجب أن يكون فيمن لم نعرفه ماهراً بضرب الرقاب، والماهر قد يخطىء ولا يضرب، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف. ومن قال: المخطىء لا يُعزل؛ فإنما يقول ذلك إذا لم يبن خُرْقُه، فإن ظهر ذلك، فلابد من صرفه.
وما ذكره الشيخ من أن العامد لا يُصرف، فما أراه يقول ذلك إذا تكرر ذلك منه، وإنما هو في المرة الأولى.
ومما نستدركه أن السيف إذا كان مسموماً بحيث تتقطع الجثة به، فيعسر الغسل والدفن على هيئة الاحترام، فلا يجوز استعمال مثل هذا السيف في القتل، فإن كان الأمر كذلك، فلا خلاف، وإنما الخلاف إذا لم يظهر ذلك، وكنا نحاذر تسرع البلى بعد الدفن، ويخرج من ذلك أن البحث لابد منه، ثم المذهب يتفصّل كما ذكرناه.
فصل:
قال: "ولو أذن لرجل فتنحّى به، فعفا الولي... إلى آخره".
10408- قد ذكرنا في كتاب الوكالة اختلافَ قول الشافعي في التوكيل باستيفاء القصاص في غيبة الموكِّل، والقول في هذا الفصل غيرُ مفتقر إليه؛ فإنه مفروض في الاستنابة بحضرة المستنيب، وهذا جائز لا خلاف فيه، إذا استناب مستحقُّ القصاصِ من يستوفيه له، فيتنحى المستناب بمن عليه القصاص ليقتله، وكان بمرأى ومسمع من المستنيب، فلو عفا مستحقُّ القصاص، وقتل المستناب، نُظر: فإن وقع العفو بعد وقوع القتل، فهو لغو.
وإن أشكل الأمر، فلم يُدْر أوقع العفو قبل القتل أو بعده؟ فالأصل أن لا عفو، والقتل واقع قصاصاً، اتفقت الطرق عليه.
وإن تحققنا تقدم العفو واستئخار القتل، ولكن وقع القتل على جهل من القاتل بجريان العفو، فلا قصاص على القاتل، إجماعاً، وليس كما لو قتل رجل رجلاً في دار الإسلام عمداً، ثم راجعناه، فزعم أنه حسبه مرتداً أو حربياً، ففي وجوب القصاص قولان، وستأتي هذه المسألة ونظائرها.
وغرضنا الفرق الآن، فالمستناب إذا قتل، كان معذوراً، وكان عذره ظاهراً، والذي يدّعي الردة يستند في قتله إلى أمر بعيد؛ فإن المرتد لا يترك مُسيَّباً، والحربي يبعد اجتراؤه على دخول دار الإسلام من غير ذمام.
وإذا ثبت ما ذكرناه، فقد يُدعى على المستناب أنه قتل عالماً بالعفو، قالقول قوله مع يمينه في نفي العلم.
10409- فإذا وضح انتفاء القصاص، ففي وجوب الدية على هذا القاتل قولان.
واختلف أصحابنا في مأخذهما: فمنهم من قال: هما مأخوذان من اختلاف قول الشافعي في أن الوكيل إذا عزله الموكل ولم يبلغه الخبر، فهل نحكم بانعزاله؟ وقد مضى القولان في الوكالة، قال هؤلاء: إن حكمنا بأن الوكيل لا ينعزل، فقتْلُ المستناب واقعٌ بحقٍّ، فلا دية، وإن حكمنا بأنه ينعزل، فالقتل غير واقع بحق، فتجب الدية.
وهذا مسلك باطل، وقد أورده الصيدلاني، وبنى المسألة عليه، ووجه بطلانه أنا وإن حكمنا بأن الوكيل لا ينعزل، فتصرف ذي الحق نافذ في حقه، فإذا نفذ وتضمّن نفوذه عزلاً للوكيل، انعزل قطعاً.
ولو وكل الرجل رجلاً ببيع عبده، ثم إن الموكل أعتقه، ثم باعه الوكيل، فالبيع مردود؛ فإن العتق لابد من تنفيذه، وفي تنفيذه رد بيع الوكيل، والعفو في مسألتنا من مستحِق القصاص مشبّه بالعتق في الصورة التي ذكرناها، فلا وجه لرد العفو، وإذا سقط القصاص، فلا معنى لبقاء الاستنابة مع سقوط أصل الحق، فقد ظهر فساد أصل هذا المأخذ.
ومن أصحابنا من قال: القصاص ساقط بالعفو لا محالة، والوكالة زائلة، والقولان في وجوب الدية مأخوذان من أصلٍ آخر، وهو أن من قتل إنساناً عمداً في دار الحرب، وجرد القصد إليه وألفاه في صف المشركين، ثم تبين أنه كان مسلماً مأسوراً، فلا شك في انتفاء القصاص، وفي وجوب الدية قولان؛ من جهة ظهور العذر في الإقدام على القتل، فالمستناب إذا قتل بهذه المثابة؛ من جهة أنه بنى أمره على قصاصٍ ثابت واستنابةٍ صحيحة، وهذه الطريقة مثل قليلاً، وإن كان يتضح الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الأسير؛ فإن القاتل لا يبعد نسبتُه إلى التقصير وترك التحفظ، من جهة اقتداره على أن يقتل والمستحِق واقف عليه، ولا يستمكن الغازي من العلم بالمصطفّين في صف الكفار، وهو مأمور بقصدهم بأسباب المنايا.
10410- ثم إن قلنا: تجب الدية على المستناب، فلا شك في وجوب الكفارة، وإن قلنا: لا تجب الدية، فظاهر نص الشافعي أن الكفارة لا تجب.
ومن أصحابنا من قضى بوجوبها، وهو مذهب المزني، ولا وجه في انتفاء الكفارة إلا المصير إلى تقدير بقاء القصاص ووقوع القتل حقاً؛ فإن الكفارة تثبت على من قتل أسيراً بسهم غَرْب على العاقلة.
ومن أصحابنا من قال: إنه يرجع بها، بالمعنى الذي يرجع بالدية إذا غرمها. والغائلة العظمى في المسألة أن الأصحاب قالوا: إن حكمنا بأن الضمان يجب على القاتل المستناب، فللعافي دية قتيله من تركة من قتله المستناب، وهذا لائح.
وإن قلنا: لا غرم على المستناب، فلا حق للعافي في تركة القتيل، فإنا لو أثبتنا الدية في تركته، وأهدرنا ديته، كان ذلك بعيداً.
وهذا ليس بشيء والوجه أن نقول: إن حكمنا بوقوع القتل قصاصاًً-وهو بعيد عن القياس- فلا شك أنه لا يثبت في تركته ضمان، فإن أخذنا المسألة من نفوذ العفو، وتمهيد عُذر المستناب وتنزيل ما جرى منه منزلة قتل الأسير في دار الحرب، فالوجه القطع على هذه الطريقة بأن العافي يستحق الدية في تركة القتيل المقتول بعد العفو عنه، ثم يقع قتله هدراً من جهة وقوعه والقاتلُ معذور، كما ذكرناه في الأسير، حتى كأنه مات حتف أنفه، ولا نظر إذا لاح مسلك القياس إلى الاستعارات التي لا حاصل لها.
فإن قيل: إذا أوجبتم الدية في مال المستناب، فهي حالّة أم مؤجلة؟ قلنا: اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هي حالة، فإنها مقتطعة عن قياس دية الخطأ وشبه العمد، وكذلك لم تضرب على العاقلة، ومنهم من قال: هي مؤجلة؛ فإن الدية إنما تتعجل إذا وجبت بسبب عدوان هو عمد محض، ولا ينسب المستناب إلى العمد المحض على وجه العدوان، وسنبين هذه القواعد في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولا تقتل الحامل حتى تضع... إلى آخره".
10411- المرأة إذا استوجبت القصاص وكانت حاملاً، لم يُستوفَ القصاصُ منها حتى تضع حملها، ولا فرق بين أن يكون القصاص في النفس أو في الطرف؛ فإنه إذا كان في النفس، ففي قتلها قتلُ الجنين، وإن كان في الطرف، فلو قطعت لأَجْهَضَتْ جنينَها، ولئن كان إليها سبيل، فلا سبيل لنا إلى جنينها.
وإذا وضعت فقد تولّع الفقهاء بذكر اللِّبَأ، واعتقدوا أن الولد لا يعيش دونه، وهو أوائل اللبن بعد انفصال المولود، وحظُّ الفقه من ذلك أنه إن تحقق أن الولد لا يعيش دونه، لم نقتل الأمَّ حتى تُرضع ولدها اللِّبَأ، ثم إن وجدنا ذات لبن غيرها، قتلناها قصاصاً، ولم نمهلها مدة الإرضاع، اتفق أصحابنا عليه؛ فإن الذي يفوت الولدَ منها مزيدُ إشفاق وحدب، ولا يقع هذا موقعاً في مقابلة حقّ الآدمي يؤخّر.
هذا قولنا فيه إذا استوجبت القصاص، فأما إذا استوجبت الرجم، وهي حامل، لم نقتلها أو تضع، ولا نقتلها حتى ترضع ولدها، وإن وجدنا مرضعة سواها، ثم إذا انقضت مدة الإرضاع، فلا نقتلها أيضاًً حتى تكفل ولدها؛ فإن الولد لا يستقلّ بعد الفطام إلا بكافل، وحديث الغامديّة نصٌّ في الترتيب الذي سقناه.
والفارق في وضع الشرع بين القصاص وبين الحدّ ما تحقق من ابتناء حقوق الله المحضة على المساهلة، ولذلك يُقبل الرجوع عن الإقرار فيها، ولا سبيل إلى تقدير ذلك في القصاص وحقوقِ الآميين، وكأنا قدمنا حقَّ إشفاق الأم في الإرضاع على استيفاء حد الله تعالى.
10412- وإذا تمهد ما ذكرناه، ابتنى عليه أمور: أولها فيه إذا نُهينا عن قَتْلها، فقُتلت وأَجْهَضَتْ جنينها، والقصة مرفوعة إلى مجلس السلطان، والنصوص وطرق الأصحاب مضطربة جدّاً، ونحن نأتي بجميعها ونختار أميلَها إلى القياس، ونذكر ما يميل إلى موافقة النص، ونفرض الكلام فيه إذا فوّض الوالي قتلها إلى ولي الدم، والكلام في ذلك يتشعب وينقسم، فإن كان الإمام عالماً بالحمل عِلْم مثله وكان الولي عالماً أيضاً، فقتل الوليُّ بإذن الإمام، فقد أساءا وظاهر النص الذي نقله المزني أن الضمان يتعلق بالإمام؛ إذ إليه الأمر، وكل فاعل في مجلسه بإذنه في حكم الآلة له، وكذلك اتفق العلماء في أنه لا يتعلق بجلاد الإمام ضمان وإن كان مختاراً فيما تولاه من القتل، ولو أعرض وولَّى لم نتعرض له، وسيكون لنا إلى حكم الجلاد استتمام في آخر الفصل.
قال معظم أصحابنا: الضمان يتعلق بالولي؛ فإنه المباشر، ولم يكن محمولاً على مباشرته، بل كان مندوباً إلى العفو والصفح، ولا أثر لإذن الإمام مع قوة مباشرة الولي في حالةٍ نهيناه فيها عن القتل.
وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً أن الضمان ينشطر بين الوالي والولي؛ لتعلق كل واحد منهما بأمر معتبر. وهذا غريب لم أره لغيره.
التفريع: إن علّقنا الضمان بالإمام، فلا نضربه على بيت المال؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا علم الحملَ علماً يليق به. نعم، الضمان على عاقلته الخاصة، والكفارة تجب في خاصّ ماله. وإن علّقنا الضمان بالولي، ضربناه على عاقلته، فإن العمد لا يتحقق في إهلاك الأجنة، ولا يخفى حكمُ التشطير على ما بيّنا حكمَ الكل في الوجهين.
10413- هذا إذا كانا عالمين، فلو كان الوالي عالماً والولي جاهلاً؛ فإن علّقنا الضمان بالوالي إذا كانا عالمين، فلأن نُعلّق الضمان في هذه الصورة أولى. وإن علقنا الضمان بالولي في الصورة الأولى لقوة مباشرته، ففي هذه الصورة وجهان:
أحدهما: أن الضمان يتعلق بالولي؛ فإنه المباشر المختار، وهذا الخلاف حيث انتهى التفريع إليه يقرب من الخلاف في تقديم الغاصب الطعامَ المغصوبَ إلى ضيف جاهلٍ بالغصب، ففي قرار الضمان خلافٌ مضى في كتاب الغصوب.
ولو كان الولي عالماً والوالي جاهلاً، فإن قلنا: لو كانا عالمين، فالضمان يتعلق بالإمام مع قوة المباشرة من الولي، فإذا كان الإمام جاهلاً، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أن الضمان لا يتعلق بالوالي؛ فإنه اجتمع عدم مباشرته وجهله، وعارضها علمُ الولي وقوة مباشرته.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن الضمان يتعلق بالإمام، كما يتعلق به إذا كان عالماً، وهذا غريب لم أره لغيره.
فإن قلنا: الضمان يتعلق بالإمام، فهو الآن على عاقلته الخاصّة أم على بيت المال؛ فعلى قولين سيأتي ذكرهما بعد هذا.
فإن قلنا: الضمان على عاقلته فالكفارة تجب في ماله، وإن قلنا: الضمان في بيت المال، ففي الكفارة وجهان:
أحدهما: أنها في خاصّ ماله؛ فإنها قربة لا يتطرق إليها التحمل.
والثاني: أنها في بيت المال؛ فإن المعنى الذي أوجب الغرامات المتعلّقة بنظره في بيت المال، ذلك المعنى يوجب طردَ ذلك في الكفارة، فإن الوقائع تكثر على الأئمة، ثم الكفارات تُجحف بهم إجحافَ الأروش والديات.
ولو كانا جاهلين، ففي المسألة الأوجه الثلاثة المذكورة فيه إذا كانا عالمين.
وكان شيخي يقول: الإمام في هذه الصورة أولى بأن يكون متعلَّقَ الضمان؛ لأن النظر له، وهو المنتسب إلى التقصير.
فهذا استيعاب الأقسام.
وما قدمناه قبلُ من أن يَظُن نعني به الظنَّ الذي يسمى علماً في الإطلاق، فإن ظن، ولم يستيقن، كان كما إذا علم الحمل في الصورة التي ذكرتها.
10414-وفي تعلق الضمان بالجلاد خلاف مرتب على ما ذكرناه في الولي العالم بمخايل الحمل، والجلاد أولى بالا يضمن؛ فإنه لم يستوف لنفسه، وإنما امتثل أمرَ السلطان، والولي استوفى حقَّ نفسه.
هذا إذا ظن الجلاد ظنّاً يسمى علماً، ولم يستيقن، فأما إذا استيقن خطأَ الإمام أو تَعمُّدَ ظُلمه، فقتل، وكان قادراً على ألا يقتل، فالذي نراه القطعُ بتقرير الضمان.
وإن كان المحل محلَّ القصاص، استوجبَ القصاصَ؛ فإنه مباشر مختار على استيثاقٍ من الحال.
وقد ذكر بعض أصحابنا في فصل الإكراه خلافاً في أن مجرد أمر السلطان هل يكون إكراهاً، حتى إذا قُدٍّر إكراهاً نُزّل الجلاّد منزلة المكرَه. هذا لست أراه جارياً مع اختيار الجلاد وعلمه بأنه لو أعرض أمكنه الإعراض، وإنما خلاف الأصحاب في أمره المطلق، وكان المأمور لا يأمن سطوتَه وغائلته وبطشَه به لو لم يمتثل.
فأما إذا لم يعلم الجلاد خطأ الإمام، ولم يظنه، وجرى على ظاهر الامتثال، فلا يتعلق الضمان بالجلاد، وإن كان مختاراً، وعند ذلك يظهر قول الأصحاب: إن الجلاد آلةُ الإمام، ونصوا على أن الكفارة لا تلزمه في القتل الواقع بغير حق، مع العلم بأن الكفارة تلزم الغازي إذا أصاب سهمُه اْسيراً من المسلمين وراء الصفوف، ولم أعثر فيما ذكرته في الجلاد على خلاف الأصحاب إلى الآن.
وقد نجز هذا المقصود من الفصل.
10415- ومما نذكره أن المرأة إذا استوجبت القصاص، ووضعت حملها، ووجدنا مرضعات، ولكنهن امتنعن عن إرضاع المولود، فظاهر النص أن المرأة المستوجبةَ للقصاص مقتولةٌ، والإمام يجبر واحدةً من النساء على الإرضاع بالأجر؛ فإن قيل: أجبرتم أجنبيةً على العمل لتوفية القصاص، ولو صبرتم حتى تُرضعَ الأم، لكان ذلك أوجه وأقرب؟ قلنا: هذا قول من لا يتعدّى نظره الظواهرَ؛ فإذا وضعت هذه حملها، وأرضعت اللِّبَأ إن كان له أصل، فإرضاع المولود من الممكنات، فتُقتل هذه قصاصاً، ثم نبتدىء نظرنا في الإرضاع بعد هذا، ونقول: طفل لو لم يُرضَع لضاع، فنُجري حكمه على واجبه.
10416- ومما يتعلق بهذا الفصل أن الحامل تحبس إلى أن تضع، فإنا لو أطلقناها، لم نأمن أن تهرب، فحبسها للمحافظة على القصاص، حتى تضع.
وإذا زنت حاملاً، واستوجبت الرجمَ، فظاهر المذهب أنها لا تحبس، والأصل فيه حديث الغامدية؛ فإنها لما اعترفت بالزنا حاملاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حتى تضعي»، ثم لما وضعت «حتى تفطمي»، ولم يحبسها في هذه المدد، وحق الله على المسامحة، ولذلك يقبل فيه الرجوع عن الإقرار، وذهب ذاهبون إلى أن من استوجب حد الله وهرب، لم يُتّبع مع إمكان اتباعه، كما سنذكره في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل.
ومن أصحابنا من قال: تحبس الحامل لأجل الحد، كما تحبس للقصاص، وإطلاق هذا بعيد، والأقرب إن قيل بذلك أن الحد إن ثبت بالإقرار، فلا معنى للحبس مع العلم بأنه مهما رجع سقط الحد في ظاهر الحكم.
فإن ثبت بالبينة، فالحبس قد يتجه، والأصح ما قدمناه.
10417- ومن تمام القول في ذلك أن الرجل إذا قتل رجلاً قَتْل قصاص، وكان أولياء القتيل أغنياء، فرأى السلطان حبس القاتل، ومراجعةَ الأولياء، فله ذلك فإنه يحبس من يسيء أدبه مؤدباً، ويحبس من يخاف غائلتَه على المسلمين، فكيف يُطلِق من يقتل قاتلَ غيره، وليس هذا كالحبس في دَيْنِ غائبٍ دون استدعائه؛ فإن ذلك لا يتعلق بالسياسة، بخلاف ما ذكرناه.
10418-ومن مقاصد الفصل أن الحامل كما لا تقتل حداً وقصاصاًً لا تقطع يدها، ولا يقام عليها حد بالجلد، فإن ذلك كله يُفضي إلى الإجهاض في الغالب.
وتمام الغرض أن المرأة إذا استوجبت القصاص، ثم ادعت أنها حامل أننكف عنها بدعواها؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنا لا ننكف عنها ما لم تَقُم بينةٌ على ظهور مخايل الحمل بها، وهذا اختيار الإصطخري.
والوجه الثاني- أن ننكف عنها؛ لأنها أعرف بذلك من نفسها، وقد تستشعر الحمل من ذاتها، وتظهر العلامات بعد مدة، وإذا كان كذلك، فالهجوم على ما يُفضي إلى الجناية على الجنين لا وجه له، ولعل الإصطخري يقول: لا حكم للنطفة-وهي تستشعرها مدّة- وإنما الحمل هو الذي لا نهجم عليه، والعلم عند الله.
ثم إذا رجعنا إلى قولها، فلست أدري أن هؤلاء يصبرون إلى انقضاء أقصى مدة الحمل، أم يقولون: نحبسها إلى مدةٍ تظهر في مثلها العلامة لو كان حمل؟ وهذا هو الأشبه؛ فإن تأخير القصاص أربعَ سنين من غير ثبت-بل على خلاف الظاهر- بعيد.
ومن لا يشترط ظهور علامة الحمل لست أدري ما مذهبه فيه إذا استوجبت المرأة القصاص، ثم وطئت والوطء عِلّة الإعلاق؟ ولو اعترف السيد بالوطء، ترتب عليه طرق نسب المولود الذي تأتي به.
فهذا مسالك المنقول. ما قدمته.
فصل:
"ولو قتل نفراً، قُتل بالأول... إلى آخره".
10419- الواحد إذا قتل جماعة، وكان بحيث يستوجب القصاص بقتل كل واحد منهم، فمذهب الشافعي أنه يقتل بواحدٍ، وللأولياء الباقين الدياتُ في تركته.
ثم لا يخلو إن كان قَتَلَهم ترتيباً، قُتل بالأول، فإن عفا ولي الأول، قتل بالثاني، وإن عفا ولي الثاني، قتل بالثالث، وهكذا إلى تمام العدد. ولو لم يعف ولي القتيل الأول، ولم يقتص، وأخر الأمر، فلا معترض عليه، وليس لولي القتيل الثاني أن يبادره فيقتله.
هذا إذا قتل جماعةً ترتيباً.
وأما إذا قتلهم جمعاً بسبب يجمعهم، فلا نقتله بهم، بل نقتله بواحد، والسبيل إذا تنازعوا أن نُقرع بينهم، فمن خرجت قرعته، قُدِّم، وهذا التقديم استحقاقٌ، ويحرم على من لم تخرج له القرعة مبادرتُه بالقتل، كما يحرم بسبب الترتيب على ولي الثاني أن يقتل ما لم يعف ولي القتيل الأول.
ولو قتل جماعةً معاً، فرضي أولياء القتلى بتقديم واحد، جاز؛ فإن الحق لا يعدوهم، ولو قدموه، ثم بدا لهم، رُدّوا إلى القرعة، ثم القرعة متبعة، كما تقدم.
ولو رضوا بأن يُقتل القاتل بهم، ويرجعوا إلى ما تبقّى لكل واحد من الدية عند فضّ القصاص عليهم، واستنابوا نائباً، فلا يجابون إلى ذلك، لم يختلف المذهب فيه.
10420- وإن جرى القتل ترتيباً، وقد تمهد أن ولي القتيل الأول يتقدم، فلو ابتدر ولي الثاني وقتله، فهل يغرم لولي القتيل الأول ديةَ قتيله؟ فوجهان ذكرهما القاضي:
أحدهما: يغرم، ثم هو يتبع تركة الجاني بدية قتيل نفسه.
والثاني: لا يغرم، ويقع قتلُه عن القصاص في حقه، والأول يتبع الجاني بدية قتيله. وهذا هو المذهب، والوجه الأول مزيفٌ، لا أصل له، ثم فيه تضمين القصاص؛ فإن وليّ الثاني فوّت بقتله حقَّ القصاص الثابت لولي القتيل الأول، فأحلنا عليه دية قتيله؛ تقويماً للقصاص عليه.
ويلزم من مساق هذا أن يقال: إذا قتل الأجنبيُّ شخصاً لزمه القصاص في نفسه، يغرَم بما جرى منه ديةَ قتيلِ مستحِق القصاص.
وسر المذهب في هذا، وفي كل ما يتصل به يبين في فصلٍ بين أيدينا، وهو إذا قتل أحد الأولياء لقتيلٍ واحد الجانيَ، فكيف سبيله؟ والمذهب الذي عليه التعويل في هذا الفصل أن من بادر وقتل الجاني من أولياء القتلى، وقع القصاص عن حقه وللباقين الديات في تركة القتيل، فكل واحد من الأولياء مستحِقٌّ للقصاص التام، ولكن المحل لا يفي بعددٍ من القِصاص، فإن قدمنا بعض الأولياء، فذاك بحق تقديمٍ وأصل استحقاقٍ قائم في حق كافة الأولياء.
10421- ولو ازدحم الأولياء وتمالؤوا على الجاني وقتلوه، ففي وقوع القتل وجهان:
أحدهما: أنه يقع عن الأولياء مفضوضاً عليهم، ولكل واحد الرجوع إلى حصته من الدية على ما يقتضيه التقسيط والتوزيع، ووجهُ هذا الوجه أن القتل وقع عن جميعهم، ويستحيل أن ينسب مستحِق القصاص إلى القتل، ثم لا يقع غيرُ ما انتسب إليه؛ فإن كل واحد لو قدر منفرداً بالقتل، لكان ما صدر منه واقعاً عن حقه على المذهب الذي عليه التفريع، ولا عوْد إلى غيره، فإذا انتسبوا إلى القتل، وجب صرف القتل إلى الجمهور.
والوجه الثاني- أن القتل يصرف بالقرعة إلى واحد منهم؛ إذ لا سبيل إلى توزع القتل؛ فإنه مما لا ينقسم، وهذا مشهور في الحكاية، ولكن لا اتجاه له.
فهذا ما حكاه أئمة المذهب.
وحكى شيخي عن الحليمي وجهاً ثالثاً، وهو أن القتل يقع عن جميعهم، ثم يُكتفى بالقتل، فلا يرجع واحد منهم إلى الدية، واعتل بأن قال: لو قتل جماعة معتدين واحداً، لجعلنا كلَّ واحد منهم كالمنفرد بالقتل في استيجاب القصاص، فنجعلهم في الاستيفاء كذلك.
وهذا لا أعتد به من المذهب، فإن قتل الجماعة بالواحد ليس هو على قياس المقابلة، وإنما سببه أمرٌ جَليّ لا تعتريه الأقيسة الجزئية، ولو قتل جماعةٌ جماعةً، فاجتمع الجمع على كل واحد من المقتولين؛ فإن ترتب الأمر، قتلوا بالأول، كما يقتل الشخص الواحد، وإن جرى ذلك منهم على صورة الاجتماع من غير ترتيب، أقرع بين أولياء القتلى، فمن خرجت قرعته قتل الكلّ بقتيله؛ فإن الكل في حق كل قتيل كقاتلٍ واحد.
10422- ولو قتل جماعةً عبدٌ، فالمذهب أنه يقتل بواحد منهم على الترتيب المقدم، وديات الباقين في ذمته، وهو كالحر المعسر.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن العبد يقتل بالجميع؛ إذ لا مرجع إلى شيء بعد رقبته، وزعم هؤلاء أن هذا يخرّج على خلافٍ سيأتي ذكره في أن العبد هل له ذمة في الجنايات.
10423- وإذا قتل المحاربُ جماعةً في المحاربة، فلا شك أن قتله محتوم، ثم فيه قولان:
أحدهما: أنه يقتل بجميعهم، والثاني: أنه يقتل بالواحد قصاصاً، وللباقين الديات، وهذا يخرج على قولين استنبطهما ابن سريج في أن من قتل في الحرابة هل يتعلق حق الآدمي بقتله أم قتله متمحّض لله تعالى كالحدود؟ فإن جعلناه حدّاً محضاً، فلا معنى لصرف قتله إلى واحد، ولا حقيقة لصرفه إلى الجميع إلا على مذهب إضافة الحد إلى الزنا، وإن لم يكن الحدّ عوضاً عن الزنا، وإن أثبتنا للآدمي حقاً في القتل، قلنا: يقتل المحارب بواحد وللباقين الدياتُ في تركته.
فهذا منتهى القول في ذلك.
فصل:
قال: "ولو قطع يدَ رجلٍ وقتلَ آخر... إلى آخره".
10424- نذكر في مقدمة مقصود الفصل تفصيلَ القول في سراية القصاص، فنقول: من قطع طرفاً قَطْع قصاصٍ، واستوجب القصاصَ في طرفه، فإذا اقتصصنا من الجاني، فسرى القصاصُ إلى نفسه وهلك منه، واندمل الجرح الواقع بالمجنيّ عليه أولاً، فسراية القصاص مهدرة لا يقابلها ضمان، خلافاً لأبي حنيفة.
ولو قطع يد إنسان، فمات المجنيّ عليه، فقطعنا يد الجاني قصاصاًً، فمات هو أيضاًً، فالنفس بالنفس، وكأن القطع الأول لم يكن جناية على الطرف، وإنما صار طريقاً في القتل، كذلك لما قطعنا يدَ الجاني، ثم أفضى إلى قتله بعد هلاك المجني عليه، فقد صار قطع اليد طريقاً في الاقتصاص، كما كان قطع يد المجني عليه طريقاً في القتل، على سبيل العدوان، وهذا بيّن فيه إذا جنى بالقطع، فمات المجني عليه، فابتدأنا بعد موت المجني عليه قطع يد الجاني، فأدى إلى هلاكه.
ولو قطع الجاني اليد، فقطعنا يده قصاصاًً، ثم مات المجني عليه، ومات بعده المقتص منه، فالنفس بالنفس أيضاً، وإن وقع القصاص قبل زهوق روح المجنيّ عليه، والمرعيّ فيما نرتبه أن يستأخر موت الجاني المقتص منه عن موت المجني عليه، حتى يكون القصاص المحكوم به بعد موت المجني عليه.
ولو قطع اليدَ، فقطعنا يده، فمات المقتص منه أولاً، ثم مات المجني عليه آخراً ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن نفس المقتص منه بنفس المجني عليه، كالصورتين المذكورتين قبل هذه. والوجه الثاني- أن النفس لا تقع بالنفس؛ فإن زهوق روح الجاني تقدم على هلاك المجني عليه، والقصاص يستحيل وقوعه قبل وجوبه.
ومن قال بالوجه الآخر، انفصل عن هذا، فقال: لا ننظر إلى ترتيب المرتِّبين؛ فإن الموت خارج عن الاختيار، وهو من فعل الله تعالى، فلا نظر إلى التقدم والتأخر فيه، والذي يتعلق بالاختيار هو القطع، وقد جرى مرتباً، إذ سبق القطع ظلماً، وترتب عليه الاقتصاص.
ويمكن بناء هذا الخلاف على أنا هل نجعل الجرح قتلاً إذا أدى إلى القتل؟ وهذا قد سبق ذكره في أول الجراح في صورٍ: منها أن العبد إذا جرح عبداً، ثم عَتَق العبدُ الجارح قبل زهوق روح المجروح المظلوم، فهل نجعل العتق بعد الجرح قبل الموت كالعتق بعد القتل المجهز؟ فعلى وجهين.
وكذلك القول فيه إذا جرح كافر كافراً ثم أسلم الجارح، ومات المجروح.
10425- فإن قيل: قد تمهد من أصلكم أن سراية القصاص غيرُ مضمونة، وأن قَطْع يد المظلوم لو اندمل، وسرى قطعُ يد الجاني قصاصاً، فالسراية مهدرة، فلم أوقعتموها قصاصاًً في بعض الصور التي قدمتموها؟
قلنا: وقوع السراية هدراً ليس أمراً مستحَقاً؛ فإن جرى لنا على القياس صرفُ تلك السراية إلى قصاصٍ، لم نمتنع من صرفها إليه، وإن عَدِمنا صرفَها إلى القصاص، فلا سبيل إلى تبقيتها مضمونة؛ فإنها في الأغلب تقع ويستحيل التسليط على ما يقتضيها غالباًً بشرط الضمان فيها؛ فإن هذا لو قيل به، لأدّى إلى عسر الاقتصاص، وتخويفِ المقتص وتعريضه للخطر الذي يغلب وقوعه.
10426- فإذا ثبت ما مهدناه في السراية قلنا: إذا قطع رجلٌ يد رجل ظلماً، وسرى إلى نفسه، فقطعنا يد الجاني قصاصاً، فإن سرى القطعُ، فالنفس بالنفس كما قدمناه، وإن لم يسر، بل اندمل، فلوليّ المظلوم أن يضرب رقبة الظالم، فإن فعل، فذاك، وإن عفا على مال، لم يثبت له إلا نصف الدية؛ فإن اليد التي استوفاها قصاصاًً تقابل نصفَ الدية.
وقد يعرض لما نحن فيه أمران: أحدهما لا اندراج فيه- وهو ما يتعلق بالقصاص.
والثاني مبناه على الاندراج- وهو ما يتعلق بالدية على ما سيأتي شرح ذلك من بعدُ، فإذا أراد القصاص، فالطرف والنفس، وإذا أراد المال، فلا يجب في الطرف والنفس، وقد صار الجراح نفساً فلا يجب في المظلوم إلا ديةٌ واحدة، واليد التي استوفاها تقابل نصف الدية، ولا سبيل إلى إهدار ما قبض عوضاً، فيقتضي مجموع ذلك نصفَ الدية عند العفو عن القصاص في النفس.
ولو قطع الظالم أولاً اليدين، وسرى قطعهما إلى النفس، فقطع الولي اليدين من الظالم قصاصاًً فاندمل قطعهما، فإن أراد الولي القصاص، ضَرَب رقبةَ الظالم، وإن أراد الرجوع إلى مال، فلا مال له؛ لأنه استوفى ما يقابل الدية الكاملة، وهو القصاص في اليدين، فهذا قصاصٌ ثبت في النفس، ولو أسقطه مستحقه، لم يرجع إلى مال، ويشبه ما رتبناه من مخالفة أمر المال للقصاص وابتنائه على التداخل بخلاف القصاص.
وقد ذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من جوز لمستحقي القصاص في النفس الرجوع إلى مال، فهذا وهذا قد قدمناه في تفريع القول في أن موجب العمد ماذا؟.
10427- وحقيقة هذا ترجع إلى أن القصاص لا يحسب من المال إذا آل الأمر إليه. وهذا أثر قولنا: لا يندرج القصاص، فإن جرينا على هذه الطريقة البعيدة، فالنفس في هذا المقام تقابل بالدية الكاملة.
10428- وإن جرينا على ظاهر المذهب، فلو أراد من له القصاص أن يصالح عن حقه من القصاص على مالٍ، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين من المصالحة عن حد القذف، فإن جوزنا المصالحة عن الحد على مال، فالقصاص بذلك أولى، وإن لم نجوّز ذاك، ففي القصاص وجهان، والفرق أن الأعراض ليست متقوّمة شرعاً، بل لم تتلف بالقذف بدليل تصور قذف بعد القذف، ولا قتل بعد القتل.
فإن جوزنا لمستحق الدم أن يصالح من عليه القصاص، فهل يجوز لأجنبي أن يصالح مستحقَّ القصاص بمالٍ يبذله، فعلى وجهين: أصحهما- المنع، ومجوزها يلتفت على مخالعة الأجنبي الزوجَ في طلب تخليص المرأة، ولعل المصالحة عن الدم أقربُ إلى المصلحة؛ فإن إسقاط القصاص على كل حال محبوب محثوث عليه، وجواز خلع الأجنبي لا يختص بضرار يلحق الزوجة من زوجها.
10429- ومما يتعلق بمنتهى الكلام أنا إذا قلنا: موجب العمد القود أو الدية، فلو جرت مصالحة عن تراضٍ على مائتين من الإبل، فهي باطلة؛ فإن المال متأصل على هذا القول، فترجع حقيقة المصالحة إلى المصالحة عن مائة على ما نبين. وهذا لا امتناع له.
وإن قلنا: موجب العمد القود المحض فلو جرت المصالحة عن تراضٍ على مائتين من الإبل، ففي صحة المصالحة وجهان:
أحدهما: الصحة؛ فإن المصالحة وردت على الدم، ووقع المال بدلاً عنه، فلا يبعد أن يزيد المالُ المبذول على أصل الدية.
والثاني: يمتنع ذلك؛ فإن المال على حالٍ يتطرق إلى الجناية وإن كانت عمداً.
وهذا الخلاف متردد بين أصول: منها أن ما ذكرناه من أن القصاص المحض الذي لا يرجع مستحقه إلى مال باختيار نفسه هل يجوز المصالحة عنه.
والثاني: أن العفو المطلق هل يوجب المال، على قولنا إن موجب العمد القودُ المحض؟
10430- ومما نجريه في تمام الفصل أن رجلاً لو قطع يدي رجل ظلماً وقتل آخر، فإنا نقدم القصاص في الطرف على القصاص في النفس، ولا نقدم القتلَ الموجب للقصاص في النفس؛ وذلك أنا لو قدمنا القصاص في النفس، أسقطنا القصاص في الطرف، فلا ينبغي أن نسعى لأجل تقديم وتأخير في إسقاط قصاصٍ مقصود في الشرع، فنقطع اليدين منه، ثم نقتله على أثر قطعهما بمن قتله.
وغرضنا بما ذكرناه الآن تركُ قياس التقديم والتأخير فيما قصصنا عليه.
10431- ولو قطع أصبعاً من إنسان وقطع يداً كاملة من آخر، فنقدم القصاص في الأصبع لتقدّمه، وإن قطع اليد الكاملة أولاً، ثم قطع أصبعاً، فنقطع يده باليد الكاملة، ولا نقطع منها الأصبع، لمكان الأصبع ويُرعَى في ذلك التقديم والتأخير وليس كمسألة الروح والطرف؛ فإن النفس لا تنتقص بقطع طرف منها، والمستحق في اليد اليدُ كاملةَ الأصابع والكف، وهذا بيّن.
10432- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لو قتله عمداً ومعه صبي أو معتوه... إلى آخره" فتعرّض لأحكام الشركة، وقد قدمنا ذلك عند ذكرنا معالجةَ المجروح نفسه بخياطة جرحه، وتنزيلنا إياه شريكاً في دم نفسه، فثمَّ نظمنا تقاسيم القول في الشركة، فلا نعيده.
فصل:
قال: "ولو قتل أحدُ الوليين القاتل بغير أمر صاحبه، ففيها قولان... إلى آخره".
10433- إذا خلَّف القتيل ظلماً وليّين والقصاصُ واجب على من ظلمه بالقتل، فليس لأحد الوليين الانفرادُ بقتله دون رضا صاحبه؛ فإن القصاص واحد في هذا المقام، وهو من جهة التقرير مفضوض على الورثة، ولو كان مُشَقَّصاً، لقيل: لكل واحد من الورثة حصته، فالأمر كذلك، وإن عسر تقدير التبعيض في الاستيفاء.
ولو عفا أحد الأولياء عن القصاص، سقط حقه وترتب عليه سقوط حقوق الباقين؛ فإن القصاص واحد، فإذا سقط بعضه، استحال استيفاء باقيه مع الاقتصار على القدر المستحق، والسقوط أغلبُ في العقوبات إذا اجتمع فيها المسقط ونقيضه.
وذهب طائفة من علماء المدينة إلى أن القصاص من حقوق الورثة ينزل منزلة حد القذف، فلو ابتدره واحد منهم دون مراجعة أصحابه، جاز، ووقع الموقع، ولو عفا جميع الورثة إلا واحداً منهم، فله الانفراد باستيفاء القصاص، اعتباراً بحد القذف في مثل هذه الصورة.
وإنما ذكرنا مذهب هؤلاء لمسيس الحاجة إليه في ترتيب مذهبنا.
فلو قتل أحد الوليين قاتلَ أبيه منفرداً، ولم يراجع أخاه، لم يخل: إما أن يفعل ذلك قبل عفو أخيه عن القصاص، وإما أن يفعله بعد عفوه عن القصاص، فلو ابتدر واقتصّ قبل العفو، فقد نص الشافعي على قولين في أن القصاص يجب عليه؛ فإن استيفاء حق نفسه من القصاص غيرُ ممكن، ولا سلطان له في استيفاء حق أخيه، فلا يمكن أن يقع قتله عن جهة الاستيفاء، لا في حقه، ولا في حق أخيه، وإذا لم يقع عن جهة القصاص، فإن قتله إياه بمثابة قتل أجنبي، ولو قتل أجنبي رجلاً استوجب القصاصَ، وجب القصاصُ عليه بقتله؛ فليكن الولي كذلك.
القول الثاني- وهو الأصح أنه لا يجب القصاص على الولي المبادر القاتل، لمعنيين:
أحدهما: أن القتل قصاصاًً مشترك بينه وبين أخيه، ولو كان الكل مستحَقاً لهذا المستوفي، لكان مستوفياً حقّ نفسه، فإذا ثبتت الشركة، فلا أقل من أن تنهض الشركةُ شبهةً في إسقاط القصاص عنه.
هذا أحد المعنيين، وهو أظهرهما.
والمعنى الثاني- التعلق بمذهب فقهاء المدينة وهو أنهم جوزوا لكل واحد من الورثة أن ينفرد بالقتل، فينبغي أن ينتهض بمذهبهم شبهة في درء القصاص عن هذا المبتدر.
التفريع على القولين:
10434- إن حكمنا بأن القصاص يجب على الولي المبتدر، فلا يخلو ولي القاتل المقتول من أن يقتص منه أو يعفو، فإن اقتص من هذا الولي، فدية المقتول الأول ظلماً تتعلق بتركة القتيل القاتل: نصفها للولي الثاني ونصفها لورثة الولي المبتدر.
فإن عفا ولي القتيل القاتل عن الولي المبتدر على مال، تعلقت دية القتيل المظلوم بتركة القتيل القاتل: النصف منها للولي الذي لم يقتل، والنصف للولي الذي قتل، وعلى الولي المبتدر لورثة القتيل القاتل تمام الدية: النصف منها يرتفع بالنصف قصاصاًً والنصف الآخر على الولي المبتدر.
وقد تختلف الأقدار باختلاف أقدار الدية في القتل في القتيل القاتل والقتيل ظلماً، بأن يكون المظلوم رجلاً والمرأة قاتلة وهي القتيلة القاتلة، وقد يكون الأمر على الضد، فلينظر الناظر، وليجر على ما يقتضيه الحال.
هذا تفريعٌ على أن القصاص يجب على الولي المبتدر، وكل ما ذكرناه يأتي من تنزيل قتله منزلةَ قتل الأجنبي، والحكم بأنه ليس استيفاءً، لا لحق المبتدر ولا لحق أخيه.
10435- فأما إذا فرعنا على القول الآخر، وهو أن القصاص لا يجب على الولي المبتدر، فكيف الكلام في الدية؟ وعلى من يرجع الأخ الذي لم يأمر بالقتل؟ فسبيل افتتاح الكلام في هذا أن بعض القتل يقع عن حق المبتدر على هذا القول الذي نفرع عليه، فهو إذاً مستوفٍ حقَّ نفسه بطريق الاقتصاص.
والنظرُ في حق أخيه، وفيه قولان:
أحدهما: أن حقه يتعلق بتركة القتيل القاتل، فلا رجوع له على أخيه، والقول الثاني- أن حقه يتعلق بأخيه المبتدر.
قال الأصحاب: القولان مبنيان على المعنيين اللذين ذكرناهما في توجيه إسقاط القصاص عن المبتدر، فإن قلنا: المعنى شبهه بالشركة، فمقدار حقه واقع له، وهو في الزائد معتدٍ غيرُ مستوفٍ؛ فإن مستحق الحق لم يستنبه، والشرع لم ينصبه وليّاً عليه، فوقع قتله في حق صاحبه إتلافاً، فعلى هذا يرجع أخوه على تركة القتيل القاتل؛ فإنه بقتله في حق أخيه ينزل منزلة الأجنبي إذا قتله.
وإن عللنا مذهب أهل المدينة، فكأنا نقول: القتل وقع استيفاء بكماله، ولكن المبتدر لما استبد بنفسه، كان مفسداً على أخيه حقه، فيضمنه له. هكذا كان يرتبه شيخي.
ولست أرضى هذا المسلك، ولكن الوجه أن نقول: هذا المبتدر استوفى حق نفسه، والقتلُ لا يتبعض، فينشأ القولان من هذا من غير بناء على المعنيين، فالقول المنقاس حملُ القتل على التبعيض وصَرْفِ بعضه إلى جهة الظلم، فيكون المبتدر كالأجنبي فيه، وموجب هذا تضمين المبتدر لورثة القتيل القاتل، وإيجاب حق الأخ الآخر في تركة القتيل القاتل؛ قياساً على ما إذا كان القاتل أجنبياً.
ووجه القول الثاني: أن القصاص لا يمكن تبعيضه، فيُجْعل المبتدر مستوفياً لحق أخيه، وليس كالأجنبي، فإن أصل قتله ظلم، وليس القصاص مما يغرم غرامة المتقوّمات، فاتجه على بُعدٍ تضمين المبتدر؛ من جهة أنه يبعد تبعّض القتل قصاصاًً وظلماً، فيبعد الحكم بوقوع القصاص لمن لم يأذن فيه فاضطررنا في هذا المقام إلى تضمين المبتدر لأنه في حكم من قبض حق غيره، ولم يوفِّه عليه، فهذا هو الوجه عندنا في توجيه القولين.
التفريع عليهما:
10436- إن قلنا: رجوع الولي الذي لم يأذن على تركة القتيل القاتل، فيرجع بنصف دية أبيه، ثم هم يرجعون بنصف دية القتيل القاتل على الابن المبتدر؛ فإنه في هذا النصف ظالمٌ بالقتل غيرُ مستوفٍ، ثم قد تختلف أقدار الديتين كما نبهنا عليه.
فإن قلنا: رجوع الابن الذي لم يأذن على أخيه المبتدر، فلا طلبة على تركة القتيل القاتل، ويطالِب من لم يأذن أخاه المبتدر بنصف دية أبيه المقتول ظلماً أولاً، ثم إذا غرم هذا المبتدر لأخيه، فلا يرجع بما ضمنه على تركة القتيل القاتل، فإنا نزلنا قتله استيفاءً، فكيف نجمع بين القتل المحكوم بكونه استيفاء، وبين الرجوع في المال؟
وقد جرى في أثناء الكلام قَطْعُ الأصحاب أولاً بأن الأجنبي إذا قتل مَنْ عليه القصاص، فليس القصاص مما يُضمن بالتفويت، فإن قيل: ألستم ذكرتم وجهين فيمن قتل جماعةً ترتيباً، وجعلنا حق استيفاء القصاص لولي الأول فابتدره ولي الثاني وقتله- في أن هذا الولي هل يغرم لولي الأول ديةَ قتيله؟ قلنا: ذاك بعدُ لا اتجاه له، وإنما أشار إليه بعض أصحاب القاضي، ولا ينبغي أن تشوش قواعدُ المذهب بمثل ذاك الوجه.
ثم هو على بعده منفصل عن الأجنبي؛ من جهة أن قتله وقع مستحَقاً له، فكان تفويته من جهة الاستيفاء، لا من جهة الإتلاف المحض. فهذا ما أردناه في ذلك.
وكل هذا في ابتدار أحد الوليين قبل عفو الثاني.
10437- فأما إذا عفا أحد الوليين، فابتدر الثاني، وقتل، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك بدون العلم بالعفو، وإما أن يكون عالماً به، فإن كان مع العلم بالعفو، ففي وجوب القصاص على هذا المبتدر قولان مرتبان على القولين فيه إذا ابتدر أحدهما وقتل قبل عفو الثاني، ثم القولان بعد الترتيب مبنيان على المعنيين المذكورين في توجيه أحد القولين. فإن قلنا: المسقط للقصاص عن المبتدر الشركة، فهي زائلة بالعفو، وإن قلنا: المسقط خلاف العلماء، فهو قائم؛ فإن الذين صاروا إلى جواز انفراد أحد الوليين باستيفاء القصاص نحَوْا به نحو حدّ القذف وزعموا أنه لا يسقط حق من لم يعف بعَفْو من عفا.
وكان شيخي يقول: الخلاف في نفس الشيء لا يوجب درءَ العقوبة سواء كانت لله أو للآدمي، فإنا لو جعلنا الخلاف في ثبوت العقوبة وانتفائها شبهةً دارئة للعقوبة، لما تصور الخلاف في العقوبة، ولاقتضى إيجاب العقوبة مدركاً مستيقناً حتى لا تفرض عقوبة في مجال الظن.
فأما إذا كان الخلاف في إباحة السبب، فالمذهب الأصح أنه إذا كان مساغٌ ولم يصادم أمراً مقطوعاً به، فإنه يدرأ العقوبة الثابتة لله، وهذا كخلاف ابن عباس في إحلال المتعة، وإن كانت العقوبة للآدمي كالقصاص في الصورة التي نحن فيها، فالخلاف هل يدرأ العقوبة؟ فعلى قولين؛ فإن حقوق الآميين أبعد عن السقوط من حقوق الله تعالى، ولا يعدم الفقيه تقدير هذا.
ومما نؤثر للفقيه التنبه له أن إسقاط القصاص مع العلم بالعفو في الصورة التي نحن فيها أقرب مأخذاً من إيجاب القصاص على المبتدر إذا لم يكن عفوٌ.
هذا إذا كان القاتل عالماً بعفو أخيه.
10438- فأما إذا ابتدر ولم يعلم بعفوه، فهذا يترتب على ما إذا علم بالعفو، فإن لم يلزمه القصاص مع العلم، فلأن لا يلزمه إذا كان جاهلاً أولى، وإن ألزمناه القصاص في حالة كونه عالماً، ففي حالة الجهل قولان مبنيان على أصلٍ سيأتي تمهيده، وله صور: منها أن من رأى مرتداً وتعدى، ثم رآه بعد زمان، فحسبه مصراً على ردته وقتله، ثم تبين أنه كان أسلم، ففي وجوب القصاص على قاتله قولان، ووجه التشبيه أن المقتول معصومٌ، والقاتل غير عالم بعصمته، وليس هو معذوراً في الإقدام على قتله، وادعاء القاتل هذا الأمر على إباحة قتله ظاهر، فانتظم القولان وفي هذا الأصل معاصات سننبه عليها، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو قطع يده من مفصل الكوع، فلم يبرأ القطع حتى جاء آخر وقطع ذلك الساعد من المرفق، ثم مات المجني عليه... إلى آخره".
10439- فمذهب الشافعي أن القصاص في النفس يجب على القاطعين جميعاً، وأوجب أبو حنيفة القصاص على الثاني، واعتقد أن سراية القطع الأول انقطعت بزوال محل القطع.
فإذا ثبت من أصلنا وجوب القصاص عليهما، فالولي يقطع يدَ الأول من مفصل الكوع، ويُنظر في الثاني، فإن صادف له ساعداً بلا كف، قطع يده من المرفق، فإن صادف يد الجاني مع الكف، فهل يقطع يده من المرفق؟ اختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من قال: له ذلك، وهو الأظهر؛ فإن نفس هذا الجاني مستحَق، وقطع يده من المرفق طريقٌ في قتله، وليس في القطع من المرفق مزيد مَثُلة، وإن كان عليها كف، فلا جُنّة بالكف، فإنها هالكة بالقتل المستحق.
ومن أصحابنا من قال: لا نقطع يد الجاني وعليها الكف من المرفق. وليس لهذا الوجه اتجاه عندي إلا من جهة أنا نقدّر العفو عن النفس من المستحِق، ولو فرض ذلك، لكان القطع من المرفق مع الكف زيادةً غيرَ مستحَقه.
وحمل بعض أصحابنا هذين الوجهين على وجهين سيأتي ذكرهما في أصلٍ قريب مما نحن فيه، وهو أن من أجاف غيره وقتله، فالجائفة لو اندملت، فلا قصاص فيها، وإذا حصل القتل بها، فهل يجوز الاقتصاص بالإجافة عن النفس؟ فعلى وجهين، ووجه الشبه أن الجائفة لو لم يحصل القتل بها لا قصاص فيها، ولا يُقطع مرفق وعلى الساعد كف بساعدٍ قُطع من المرفق ولا كف عليه، فإذا حصل القتل بهما، وصارت الروح مستحقة، فالأمر على الخلاف، وهذا التشبيه ليس بمرضيٍّ عندي؛ فإن سبب الخلاف في الجائفة أنها غيرُ منضبطة، فلا نأمن أن يتعدى إلى الحد مَثُلة؛ هذا هو الذي أثار الخلاف ثَمَّ، وهذا المعنى مفقود في قطع المرفق، فالطريق في التوجيه ما نبهنا عليه في توقع العفو.
فصل:
قال: "وإذا تشاحّ الولاة... إلى آخره".
10440- إذا ثبت القصاص بين جماعة ورفعوا أمرهم إلى السلطان، فرآهم السلطان أهلاً لاستيفاء القصاص، فإن فوضوا الأمر إلى واحد منهم حتى تعاطى الاقتصاص، جاز، وإن تشاحّوا، فالوجه أن يُقرع بينهم، فإذا خرجت القرعة لواحد، فهل يجوز له أن يبتدر الاقتصاص دون رضا أصحابه؟ فعلى وجهين ذكرهما مشايخنا:
أحدهما: أنه لا ينفرد ما لم يرضَ أصحابُه، فإن الانفراد بالاقتصاص غير سائغ عندنا. والوجه الثاني- أنه يجوز له أن يبتدر، فيقتصَّ؛ إذ لو لم نقل ذلك، لما كان للقرعة معنى وفائدة، ولرجع الأمر إلى امتناع الاقتصاص حتى يعينوا واحداً، ولو عينوا واحداً، فلا حاجة إلى القرعة.
وهذا يحتاج إلى فضل نظر: فإن خرجت القرعة، فصرح الذين لم تخرج القرعة لهم بالمنع من الاقتصاص، فهذا غير جائز، وإن ظهر منهم قصد القتل قصاصاً، وردّوا نزاعهم إلى تخيّر من يقتل، فحكّمنا القرعة، ولم يُبْد أحد منعاً، فهل يجوز لمن خرجت قرعته الابتدار بناء على ما ظهر من حالهم من قصد القتل؟ فيه الخلاف الذي قدمناه.
وليس اختلاف الولاة في القصاص بمثابة اختلافهم في التزويج؛ فإن الولاة في حقه إذا اختلفوا فيمن يزوج المرأة واقترعوا، فمن خرجت قرعته لا يحتاج إلى مراجعة أصحابه إذا رضيت المرأة ذلك، والأصل على الجملة بعيد عن القصاص؛ فإن من لم تخرج قرعته لو ابتدر، فزوج بالإذن، نفذ، وإنما القرعة استحسان محضٌ في ازدحام ولاة النكاح، فهذا منتهى المراد في ذلك.
فصل:
قال: "ولو طرحه في نار حتى يموت... إلى آخره".
10441- المماثلة عندنا مرعية في استيفاء القصاص إذا لم يكن فيها اهتتاك حرمة.
هذا أصل الباب، وتعليله أن مبنى القصاص على التشفي ودَرْك الغيظ، ولا اختصاص للولي به إلا من هذه الجهة؛ فإن ما فيه من معنى الزجر لا يختص بالولي، بل فيه مصلحة عائدة على الكافة؛ من حيث يتضمن زجر الغواة أجمعين، فإذا كان أصل القصاص على التشفي، اقتضى ذلك المماثلةَ في الجهة.
ثم معتمد الفقهاء أن القتل بالسيف أوحى جهاتِ القتل وأسهلُها، وسيظهر أثر هذا في أثناء الكلام، إن شاء الله عز وجل.
فإذا حرّق رجلاً اقتُصّ منه بالتحريق، وكذلك إذا غرّق أو خنّق.
فالوجه أن نقسم جهات القتل تقسيماً ضابطاً، فنقول: هي تنقسم إلى ما يقتل لا بطريق السراية، وإلى ما يقتل بجهة السراية.
فأما ما يقتل لا بجهة السراية، فينقسم إلى ما ليس فاحشة في أصل الشرع، وإنما سبب تحريمه رعاية حق المقتول المعصوم، وإلى ما هو فاحشة.
فأما ما ليس فاحشة فيه كالقتل بالخنق، والتغريق، والتحريق، والوُجور والموالاةِ بالضرب، والمثقلات، والترديةِ من عُلوّ، فالقتل بهذه الجهات ليس من الفواحش. وآية ذلك أنا قد نقتل بها الكفار، فالمماثلة جارية في هذه الجهات.
10442- ثم الوجه أن نقول: إذا قتل الجاني بالإحراق، عمدنا إلى إيقاد نار مثلِ نار الجاني وألقيناه فيها، فإن مات الجاني بالكَوْن في النار في المدة التي مات المظلوم فيها، فلا كلام، وإن لم يمت في مثل تلك المدة، فهل على الولي أن ينتقل إلى السيف؟ نُظر: فإن كان قَتْلُه بالسيف أهونَ من تبقيته في النار، ضرب الوليُّ رقبته، فلو أراد الجاني أن يُترك في النار، لم يترك فيها.
ولو أراد الولي أن يتركه، وقال الجاني: اضربوا رقبتي، ضربت رقبته إن أراد الولي الاقتصاص، ويظهر الغرض في مبدأ هذا الفصل بما ذكرناه أولاً، وهو أن الولي إذا أراد ضرب رقبته، أجيب إلى ذلك.
ولو قال الجاني: لو تركتموني أُحرّق مدة بقائي! فاتركوني؛ فإن البقاء مع العذاب أحب إليّ، قلنا: ليس لك هذا، وحق القصاص على الفَوْر ولا تؤخَّر لتبقى.
وإن قال: إذا ضربتم رقبتي بالسيف جمعتم عليّ بين نوعين، قلنا: لا مبالاة بهذا؛ إذ كان القتل بالسيف أوْحَى.
ولو رضي بالتبقية في النار، فهاهنا ذكر شيخي خلافاً، والأظهر أنه لا أثر لتراضيهما، فإن منع المَثُلة متعلق بحق الله تعالى.
ومن أصحابنا من قال: لا يُمنع إدامةُ الجنس الأول، لما في النفوس من استشعار مزيد العقوبة عند فرض الانتقال من جنس إلى جنس، والكلام مفروض في الأسباب الموجِبة، فلا يظهر أثر المَثُلة عند استمرار السبب الموجِب زماناً.
هذا إذا كان ضرب الرقبة أهون.
فأما إذا كان الإبقاء في النار أهون، هذا مما صوره المحققون وأطلقوه، وكان شيخي يأبى تصور هذا، ويقول: القتل بالسيف أهون في حق كل أحد من سائر الجهات، ويمكن أن يقال: هذا مفروض فيه إذا كان لا يتأتى قتله بالسيف وهو في النار، وإذا طلبنا إخراجه، عظُم شقاؤه، وإذا تُرك يرجى هلاكُه، وليس يبعد تصوير ذلك على هذا الوجه.
فإذا أخذنا بتصوير هذا، فقد ذكر الأصحاب وجهين:
أحدهما: أنه يبقى في النار، لأنه أسهل عليه، والثاني: لا يبقى بل يُخرج وتحز رقبته: أما وجه إبقائه في النار، فبيّن، وهو رعايةٌ لحقه والتوحِّي، وينضم إليه اتحاد جهة العقوبة، فأما من قال: إنه يقتل بالسيف، مع الاعتراف بأن القتل بالسيف أشق، فلا وجه لهذا إلا إذا صور أن القتل بالسيف أقربُ من جهة الزمان، فيقول مستحق القصاص عجّلوا لي حقي، فإن كان يفرض القتل بالإبقاء أوْحى، أو كان في مثل مدة القتل بالسيف، فلا اتجاه أصلاً-مع انتهاء الكلام إلى هذا المنتهى-لقول من يقول: إنه يقتل بالسيف. نعم، غاية الإمكان في توجيه هذا الوجه أن يقال: الوَحِيّ بالسيف لا شك فيه، ودرك التوحى بعده غير منضبط، فكان السيف مقدماً لذلك، فتوجيه الوجهين يؤول إلى التردد في التصوير لا محالة.
10443- ولو قتل رجل رجلاً بالخنق، فأراد ولي القصاص أن يقتله بالسيف، فقد قطع شيخي بأن له ذلك، ومال إلى أن القتل بالسيف أوحى وأيسر، وفي الطرق رمزٌ إلى مخالفة هذا، فيمكن أن يؤثر المرء الخنقَ ويراه أَوْحى وأقربَ إلى إزالة الحس الذي به درك الألم، والضرب بالسيف يختلف من المهرة؛ فإنه يتعلق بحركات اختبار وأمورٍ يدق مُدركها عند أهلها، ولا ينبغي أن يستبعد هذا، وقد ذكرنا وجهين في الإبقاء وضرب الرقبة بالسيف.
10444- ولو قتل الجاني بالحبس في البيت والتجويع؛ فإنا نجوّز للولي أن يقتل بمثله، ولا شك أن الولي لو أراد القتل بالسيف، كان له ذلك في هذه الصورة، فإنه أوحى وأيسر، فلو قال: الجاني: اقتلوني بمثل ما قتلت به، وأمتعوني ببقاء أيام. قلنا له: هذا يعارضه أن القصاص إذا وجب، وجب على الفور، ومن أتلف مقداراً في مُددٍ، غَرِم على الفور، فإن قال: الموت بالجوع أهون، كذبناه، فهذا منتهى ما أردناه.
10445- ومما يجب الاعتناء به أنا إذا كنا نرعى طريقَ المماثلة، فيجب الاحتياط به، حتى إن كان أحرق بنار، راعينا قدرها، وكلما عظمت النار، كان الموت بها أوحى.
وإذا قتل بالتردية، اعتبرنا مثلَ ذلك البعد في المَهْوى وصلابة الموقع.
وإن كان قتل بالضربات، فإنا نضربه بمثل تلك الآلة، ونرعى مثل تلك العِدّة، فإن مات، فذاك، وإن لم يمت، فيبعد تصوير القتل بذلك الجنس أوحى من القتل بالسيف، فيتعين العدول إلى السيف.
ولو قتل نحيفاً بضربات يُقصد بها قتلُ مثله، واستوجب القصاصَ لذلك، وعلمنا أو ظننا ظناً غالباً أن الجاني في جثته وقوته لا يهلك بتلك الضربات، وقد نظن أنه لا يهلك بأضعافها، فالوجه عندنا القطعُ بأنه يقتل بالسيف؛ فإن الضرب ليس قاتلاً له، مع الاقتصار على القدر الذي جرى، فليس في إيقاعه به إلا تعذيبٌ محض، ثم العدول إلى السيف، ونحن إنما نرعى المماثلة في الجهة إذا كنا نظن القتل بها قصاصاًً مع رعاية المساواة، فليس كل جناية مقابلةً بالمماثلة، وهذا بيّنٌ لا خفاء به.
10446- وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى القتل بما ليس بفاحشة في نفسه، وأما إذا جرى بما هو فاحشة مثل أن يلوط بصغير، فيهلكَ به، أو يوجِرَ إنساناً خمراً حتى يموت، فلا شك أن المماثلة ممتنعة، والذي ذهب إليه الأصحاب أن العدول إلى السيف مع الاقتصاص.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يوجر الجاني ماءً إذا كان أوْجر خمراً، ويدس في اللائط خشبة على قدر الآلة.
قلت: وهذا فيه إذا كان يظن أنه يهلك به، فإن لم يكن كذلك، التحق بالضربات في حق النحيف والجاني لا يهلك بها.
10447- وفي لفظ الشافعي تردد وإشكال في بعض أطراف المسألة؛ فإنه قال رضي الله عنه: "إذا شدخ رأسه بحجر يوالَى بذلك عليه إلى أن يموت" هكذا نقله المزني، وظن أن الشافعي يرى أنه إذا لم يمت الجاني بالضربات التي سبقت منه، فنزيد في الضربات، ولا نعدل إلى السيف، وإنما وقع له هذا من قول الشافعي: "قال بعض أصحابنا: إن لم يمت من عدد الضرب، قتل بالسيف"، فاعترض وقال: هذا خلاف أصله، وأصلُه في التعطيش والتجويع؛ فإنه يقول فيه: "لا يوالى عليه إلى أن يموت".
قلنا: مذهب الشافعي أنه إذا فعل به مثلَ ما فعل بالضرب ولم يمت، تحزّ رقبتُه؛ فإن حزّ الرقبة أهون، ولم يبق لمستحق القصاص بعد ما عاقب بالجهة التي جرت الجناية بها إلا القتلُ على أوحى الوجوه، والشافعي قد يعني نفسه بقوله: "ذهب بعض أصحابنا" إشارة إلى مذهبٍ له، فهو يخالف القطع، ونحن نرعى من مذهبه القطعَ بالعدول إلى السيف، ففي اللفظ ما فيه.
وقد سمعت شيخي رضي الله عنه يحكي مطلقاً قولاً: أنا لا نعدل إلى السيف، بل نتمادى على الجنس الذي وقع القتل به، وغالب ظنّي أنه كان يقول ذلك في النار، والتغريق، وإطالة مدة التجويع والتعطيش، فأما الزيادة على أعداد الضربات، فليس عندي في هذا سماع، وإن صح ما نقله، فهو لائق بالنص، وإن كان مشكلاً في المعنى، ثم يجب طرده في الزيادة على أعداد الضربات، ففيها اللفظ المشكل المنقول عن الشافعي، وهذا القول المرسل لا يتوجه عندي إلا بردّ الأمر إلى استشعار النفس الخوفَ من النقل من جنس إلى جنس، وهذا لا أصل له، فإن ضربةً بسيف، أقربُ من مائة ضربة بجنسه.
فهذا منتهى الإمكان نقلاً وتصريحاً، ولم أنقل القول المطلق حتى تَمهَّدَ المذهبُ نفياً وإثباتاً كما سبق، ثم ربطته بالنص؛ فإنه عاضَدَه.
10448- ونحن نختم هذا الفصل بالتنبيه على معنىً بدعٍ نخرِّج عليه قولاً لم يصححه الأصحاب، ئم نجمع مناظم المسائل في تراجم، فليُقبل الناظر عليها، وليقدّر ما يقدّر جارياً على مسلكنا في طريق المباحثة، فنقول:
إذا لم يمت الجاني بمثل صنيعه، بالمجنيّ عليه، فسبب ذلك أن جنايته وقعت من المجني عليه موقعاً عظيماً، لضعفه، فهدمت بنيته، وهذا القدر لم يقع من الجاني موقع جنايته من المجني عليه، فإذا نحن زدنا من ذلك الجنس، فكأنا لم ننظر إلى قدر الفعل، وإنما طلبنا في موضوع طريقِ المماثلة موقعَ الجناية لا صورتَها، ولا وصول إلى الموقع إلا بالزيادة في صورة الجناية، فاللطمة تقع من الطفل موقعاً تُهلكه، أو تدنيه من الهلاك، ولا موقع لها من الأيّد، وإذا زيد في الجنس وبلغ جنسُ اللَّكم من القوي مبلغاً يكون وقعه عليه كوقع اللكمة من الطفل، فهذه هي المماثلة، وقد يُضّطر إلى هذا في السيف، فإن النحيف تحذف رقبته بضربةٍ واحدة بالسيف والعُتلّ يوالى عليه بالضربات، ويُحتَمل ذلك.
وهذا يصل بنا إلى أمرٍ هو تمام الكلام، هو أن المَوْقع لا إشكال فيه، إذا حصل القتل، فلا نزال نزيد إلى الموت، وعنده يتبين آثار رعايتنا المماثلة.
وإنما قررنا هذا لأن النص مائل إليه.
ثم هذا الذي ذكرناه يرد عليه سؤال وجواب عنه، وهو قُصارى الغرض، فإن قيل: قد قلتم إذا حصل القتل بضربةٍ في رضيع، فلا يوالَى على الجاني الأيّد بالضربات حتى يموت، وصرتم إلى أن المماثلة إنما نرعاها إذا تصور أن يكون قدر الجناية قتلاً للجاني، فإن لم يتفق إلا مع الزيادة، فكيف الكلام؟ قلنا: ذلك منه ارتماءٌ في رجم الظن؛ ولسنا نُبعد الآن أن نقتل الأيّد بالضرب، نظراً إلى ما ذكرناه من فقه الموقع. نعم، إن كنا لا نرى الزيادة على قدر الجناية من جنسها، وعلمنا قطعاً أنه لو ضُرب ذلك المقدار، لم يمت، ولم نر الزيادة، فلا معنى لتعذيبٍ لا يتوقع منه القتل، والضربة الآن-حيث انتهى التفريع- ليست من القتل، وليست قتلاً.
10449- والآن نعيد المسائل المرسلة تراجمَ وننظمها في سِلْكٍ، فنقول: إن مات الجاني بالقدر الذي وقع على المجني عليه، فلا كلام، وإن لم يمت بذلك القدر، لم يخل: إما أن يكون السيف أهونَ منه، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنه يُعدل إلى السيف. وذكر شيخي قولاً ثالثاً: أنا نتمادى على جنس الجناية، والنصُّ يشهد لهذا، وهو معلل بفقه الموقع.
وإن كان إبقاؤه أو التمادي في جنس الجناية أهونَ، ذكر الأصحاب وجهين هاهنا، وهذا مُستدٌّ إذا كان القتل بسببٍ غيرِ منقطع كالبقاء في النار، وفي ضيق التجويع والتعطيش.
وإن كان جنس الجناية مما يتعدّد، لم يخل: إما أن يكون ضرباً، وإما أن يكون جرحاً بالسراية، فإن كان ضرباً، فالزيادة في الضربات إلى الموت أبعد عند الأصحاب من الإبقاء في النار وما في معناها، وكان شيخي يطرد الخلاف، وهو مصرَّح به في النص؛ فإنه مفروض في الشدخات والضربات بالحجر.
وإن كانت الجناية جرحاً، لم يخل: إما أن يكون بحيث يتعلق القصاص به لو اندمل، كقطع الأيدي والأرجل، وإما أن يكون بحيث لا يتعلق القصاص به لو انفرد، فإن كان جرحَ قصاص، فلا زيادة من جنس الجناية، فلو قطع يدي رجل، فمات المجني عليه، قطعنا يدي الجاني، فإن لم يمت، لم نقطع رجليه، بل عدلنا إلى ضرب الرقبة، وهذا متفق عليه؛ فإن الزيادة في هذا القبيل ليست زيادةً في جنس وإنما هي عدول عن جنس الجناية، فإذا كنا نعدل، فضرب الرقبة أولى.
وإن كان الجرح بحيث لا يتعلق القصاص به لو اندمل كالجائفة، فهل نجيف الجاني كما أجاف؟ في المسألة قولان: أحد القولين- نجيفه جرياناً على المماثلة، كما نقتله بالضرب والشدخ.
والثاني: لا نفعل ذلك؛ فإن الجوائف لا يُضبط مبالغ الإيذاء فيها، وليست موحيةً، بخلاف الإغراق والإحراق والخنق والضربات التي ترد على الظاهر، فهي مضبوطة أو قريبة من الضبط.
فلينظر الناظر في الإيحاء أو في ظهور الأسباب، فإن قلنا: لا نجيف الجاني، فلا كلام، وإن قلنا: نجيفه، فالأصح أنا لا نزيد من جنس الجوائف، كما لا نقطع الرجلين بعد قطع اليدين؛ فإن الجوائف مختلفة الأجناس، إذا اختلفت محالها.
وأبعد بعضُ أصحابنا، فخرَّج التمادي على الإجافة على الخلاف، قياساً على الضربات، وقال: إذا جرت المماثلة في الأصل، لم يبعد جريان الخلاف في الزيادة، وهذا يرد عليه قطع الأطراف. فهذا منتهى المراد.
وقد ذكرنا قتلَ الطفل بالضربة والجاني أيّدٌ، وأجرينا فيه ما ينبغي، فلا نعيده.
10450- ومن تمام القول في ذلك أن من قطع يديْ رجل، فمات، فقطعنا اليدين من الجاني، فلو قال: أمهلوني مدة بقاء المجني عليه، فلعلي أموت بهذا القطع، وهذا هو المماثلة، لم نُجبه إلى ذلك، وقتلناه بالسيف؛ لأن حق القصاص ناجز، واليد المقطوعة مقصودة بالقصاص، ولو أراد ولي القصاص أن يُمهل الجاني، فقال: ادعوني واقتلوني واعطفوا عني، لم يكن له ذلك، والأمر إلى مستحق القصاص.
والله أعلم.
وقد أتينا على القتل بالأسباب السارية. وهو أحد قسمي الكلام.
فصل:
قال:"والقصاص دون النفس شيئان جرح يشق وطرف يُقطع... إلى آخره".
10451- القصاص ضربان:
أحدهما: في النفس، وقد مضى معظم المقصود منه.
والثاني: في الأطراف، ومعظمها على الجملة مصونةٌ بشرع القصاص فيها كالنفس.
ثم القصاص في الطرف ضربان: جرح يشقّ، وطرفٌ يُقطع، فالجروح تنقسم إلى ما يقع منها بالرأس والوجه، وإلى ما يقع بسائر البدن، فأما ما يقع منها بالرأس والوجه، فهي التي تسمى الشِّجاج، ولها مراتب عشرٌ ذاتُ أسماء: الحارِصة: وهي التي تحرِص الجلد أي تشقه، ومنه قولهم: حَرَص القصّار الثوب إذا شقه.
والدامية: وهي التي يسيل منها الدم، والباضِعة: وهي التي تبضَع اللحم وتقطعه، ومنه مِبْضع الفصّاد، والبِضعة القطعة ومن ذلك بضعةَ عشرَ، والمتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم غوصاً بالغاً. والسِّمحاق: وهي التي تغوص في اللحم إلى نهايته، وتصل إلى الجلدة التي بين اللحم والعظم ولكنها لا تقطعها، وهذه الجلدة تسمى السمحاق. والموضِحة: وهي التي توضِح العظم وتَنْدُره، والهاشمة: وهي التي تهشم العظم، والمُنَقِّلة: وهي التي تكسر العظم وتنقل القِطَع منها عن أماكنها، والمأمومة: وتسمى الآمّة، وهي التي تبلغ أم الرأس، ولا تخرق الخريطة، والدامغة: وهي التي تخرق الخريطة وتصل إلى الدماغ، وليست من الجراحات؛ فإنها مذفِّفة مُجْهزة كضرب الرقبة.
فهذه مراتب الشِّجاج. ونحن نذكر مواضع الشجاج، ثم نذكر ما يجري القصاص فيها، ثم نبيّن أقدار الأروش ومتعلقاتها، ثم نذكر بإرسال المسائل ما يستوجب الغرض.
10452- فالشجاج التي وصفناها تتحقق في الرأس، وتجري بجملتها في الجبهة جريانَها في الرأس، وهي جارية في الوجهِ واللِّحيين، وقصبةِ الأنف، وكل ما يصل إلى باطن الفم، ففي ثبوت حكم الجائفة ومقدارها وجهان:
أحدهما: لا يثبت؛ فإن داخل الفم في حكم الظاهر.
والثاني: يثبت؛ لأن الأحكام منقسمة في داخل الفم.
والرأي عندي ألا نوجه الوجهين بهذا المسلك، بل نقول: من لم يُثبت حكمَ الجائفة، احتج بأن أرش الجائفة لغَوْرها وغائلتها وعظم أثرها في البنية، ومن قال: يثبت حكم الجائفة، قال: هي مفسدة لحكم طبيعة الوجه واستتار الغلصمة ومجاري التنفس بالسواتر الخلقية، والجوائفُ مختلفة الأقدار في الآثار، فمنها ما يذفف، ومنها ما يُدني من الردى، والمقدَّر واحد.
والقول فيما يصل إلى داخل الأنف، كالقول فيما يصل إلى داخل الفم.
وكان شيخي يُجري خرقَ الأجفان على الخلاف إذا نفد الخرق إلى بيضة العين.
فإن قيل: لم اختصت هذه المقدَّرات بالرأس من جملة البدن؟ قلنا: الرأس والوجه مجتمع المحاسن، فيعظم وقعُ الشجاج فيها في النفوس، ثم لم نقل ما قلنا عن رأي، بل المقدَّرات التي نصفها معظمُها منقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صحائفَ ضمّنها أُروش الجراحات.
هذا بيان محالّ الشجاج.
10453- فأما القول فيما يتعلق القصاص به من هذه المراتب، فلا خلاف أن القصاص يتعلق بالمُوضحة على ما سنفصل القول فيه، ولا قصاصَ فيما يزيد على الموضحة.
أما الهاشمة؛ فإنها تكسر العظم وإجراء القصاص في العظام غيرُ ممكن، أما الأسباب، فإنها ستأتي مفصلة، وإذا لم يجر القصاص في الهاشمة، فلا مطمع في إجرائه في المُنقِّلة، والآمّة جائفة، ولا قصاص في الجوائف، ولو صح القول بأن الجرح النافذ داخل الفم جائفة، فلا بُعْد عندي في إجراء القصاص فيه؛ فإن سبب الامتناع عن القصاص في الجوائف تباين أغوارها واختلاف أقدارها، وهذا لا يتحقق فيما نحن فيه، وسنعود إلى ذلك.
فأما الجراحات التي تنحط عن الموضحة كالمتلاحمة والباضعة، فقد ظهر اختلاف قول الشافعي رضي الله عنه في إجراء القصاص فيها، وبنى صاحب التقريب القصاصَ في بعض الطرف على ذلك، وقاس الموضحة بالقطع المبين، والمتلاحمة بالقطع الذي يغوص في العضو ولا ينتهي إلى الإبانة، وأشار معظم أصحابنا إلى إجراء القصاص في القطع الذي يغوص في الأذن.
10454- وأنا أرتب هذا بعون الله تعالى، فأقول: المتبع في الباب إمكان المساواة؛ فإن القصاص غيرُ منوط بكون الجرح مقدرَ الأرش، وهو غير معتبر في النفي والإثبات، فإن الجائفة مقدرةُ الأرش، ولا قصاص فيها، والأصبع الزائدة فيها حكومة، وهي مقابلة بمثلها من الجاني، فالقاعدة ما وصفناه إذاً، ورعاية المساواة في بعض اليد والرجل بعيدة، فإنها مجمع العروق، وفيها تلافّ الأعصاب والرُّبُط، ولا يستوي الخلق فيها؛ فإنا نرى وضع العروق مختلفاً في بدين يُيَسِّر الفِصاد، فيصادِف من العُتلّ الأكحلَ والقيفالَ ولا يصيب من المُنْحَف إلا الباسليق، وإذا كان كذلك، فلا يتأتى الاستواء في البعض أصلاً.
والأذن صدفةٌ غضروفية ليس على مركبها عروق بها مبالاة، وكذلك لحمة الرأس لا تشتمل على مثل ما وصفناه في اليد والرجل، ولكنا نحتاج في إجراء القصاص في المتلاحمة إلى نِسَبٍ كما نصفها، وقد أشار الأصحاب إلى الخلاف فيه، والقول الجامع أن نرتبها ثلاث مراتب: المرتبة الأولى- في الأذن وفي معناها المارن، فقطع البعض من غير إبانة يوجب القصاص على الأصح، وفيه قول آخر- إنه لا يجري القصاص فيه.
المرتبة الثانية- المتلاحمة وهي أبعد من الأذن لمسيس الحاجة إلى ضبط النسبة.
والمرتبة الثالثة- في بعض اليد والرجل، وهي أبعدها عن القصاص، كما نبهنا عليه.
10455- وقد عاد بنا الكلام إلى الشِّجاج واطراد القولين في المتلاحمة والباضعة والسمحاق.
فأما الحارصة، فلا قصاص فيها؛ فإنها غير منضبطة ولا وقع لها، ولا يفوت بها شيء، وتردد جواب شيخي في الدامية، فزعم أن ميل الققال إلى القطع بأنه لا قصاص فيها كالحارصة.
ثم إذا أوجبنا القصاص في المتلاحمة، فطريقُه النسبةُ لا صورةُ المقدار؛ فإن بلغت متلاحمة الجاني إلى نصف سمك رأس المجني عليه، أوصلنا جراحة القصاص إلى نصف سمك رأس الجاني، وقد يختلف المقداران حسّاً مع التساوي في النسبة، وذلك بأن يكون سمك اللحم على رأس الجاني شَعِيرة إلى العظم، وسمك اللحم على رأس المجني عليه شعيرتان، فإذا شق الجاني شعيرة، وانتهى إلى نصف سمك رأس المجني عليه، فنكتفي بنصف شعيرة من رأس الجاني، نظراً إلى النسبة ولو راعينا القدر، لشققنا شعيرة من رأس الجاني، وهذا يُفضي إلى إيضاحه، فلابد إذاً من اعتبار النسبة.
وهذا لا يتأتى الوصول إلى دركه من غير أن يُفرض على رأس الجاني والمجني عليه موضحتان؛ فإنا منهما نستبين قدر السمك بالشجاج، وليكونا طريين؛ فإنهما إذا عَتَقَتا، لحق الاستحشاف أطرافهما. وقد ينبت مزيد لحم. فإن أمكن اعتبار النسبة، فذاك، وإن لم يمكن، أجرينا القصاص في قدر الاستيقان، وكففنا عن محل الإشكال.
هذا ما أردناه فيما يتعلق القصاص به.
وإذا نفذت الجراحة في الخد إلى الفم، ولم نرها جائفة، فلا يمتنع إجراء
القصاص فيها على قولنا بإيجاب القصاص من المتلاحمة؛ فإن هذا ينضبط، فله مَردٌّ بيّن، بخلاف المتلاحمة.
ولولا ما بلغني من تشبيب الأصحاب بذكر الخلاف فيه، وإلا لاقتضى القياس القطع بإيجاب القصاص. وسنبين ذلك في استرسال الكلام في الفصل.
هذا بيان ما أردناه في أصل القصاص.
10456- ونحن نفصل الآن القصاص وكيفيةَ إجرائه في الموضِحة: فإذا أوضح رجل رأس رجل، أوضحنا رأس الجاني، والمرعي في الموضِحة الاسمُ والمساحة، فهذان المعتبران هما الأصل، وبينهما في الاعتبار تعيّن المحل، فأما الاسم، فإذا وضح المعظم، فقد تحقق الاسم، واللحمُ المشقوق فوق العظم لا اعتبار به في الموضحة، وتفاوت قدره من الجاني والمجني عليه كتفاوت اليدين في حجمهما عَبالة ونحافة، فيد العتلّ مقطوعة بيد النحيف، كذلك شق رأس الجاني، وإن كان لحم رأسه أكثر، هذا هو الذي أجمع الأصحاب عليه.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: يراعى تساويهما في السمك والعمق، فلا يشق شعيرتين بشعيرة. وهذا غلط صريح، لم أُخل الكتاب عن حكايته، ولا عوْد إليه.
هذا قولنا في الاسم.
10457- فأما المساحة، فلابد منها، فإذا أوضح الجاني مقداراً من رأس إنسان، لم نزد عليه ولم ننقص منه.
وأما تعيّن المحل، فإذا أوضحت الجناية ناصية المجني عليه، أوقعنا القصاص بناصية الجاني.
هكذا القول في جميع أجزاء الرأس، ولو استوعب الرجل رأسَ رجل بالإيضاح، فإن كان رأس الشاج مثلَ رأس المشجوج في المساحة، استوعبنا رأس الشاج. وإن كان رأس الشاج أصغرَ من رأس المشجوج في المساحة، استوفينا رأس الشاج إيضاحاً، وأثبتنا للمجني عليه الرجوع إلى قسط من الأرش، على ما سنذكر تفصيلَه في فصل الأروش.
ولو كان رأس الشاج أكبرَ من رأس المشجوج، لم نستوعبه بالإيضاح، بل نقتصر على قدر مساحة رأس المشجوج، فليس صغر الرأس وكبره بمثابة عبالة اليد ونحافتها؛ فإن التعويل على اعتبار المساحة في الموضحة، وتمام بيان الفصل في نجازه.
ثم إذا أردنا أن نوضح رأس الشاج مثلَ مساحة رأس المشجوج، ففي الموضع الذي نذهب إليه، ونبتدىء القصاص منه نظر، ذهب بعض الأصحاب إلى أن الاختيار في ذلك إلى مستحِق القصاص، فيأخذ في أي جهةٍ وصوبٍ شاء، على شرط أن يكون ما يأتي به موضِحةً واحدة، لا انفصال ولا تقطعَ فيها.
وذهب القاضي إلى أنا نبتدىء في القصاص بالجهة التي ابتدأ الجاني بالجناية منها، ثم نأخذ في الإيضاح إلى أن نستوفي مقدار رأس المشجوج، وهذا عسر، وقد تُفرض الجناية مُطبقةً بالرأس والوجه معاً بآلةٍ يتأتى بها ذلك.
ثم من أصحابنا من فرض الخِيَرة إلى الجاني حتى يمكَّن من الاقتصاص في أي جانب شاء، وهذا متجهٌ، لا بأس به.
وقد تحصّل أوجهٌ: أحدُها- رد الأمر إلى المقتص.
والثاني: ردّه إلى المقتص منه، والثالث: اعتبار مبدأ الجناية والذهاب في صوبها إلى الاستيفاء.
ولو كان رأس الشاج أكبرَ من رأس المشجوج، ولكن كان أُوضح من رأس الشاج شيء، والباقي من جلدة رأسه على قدر رأس المشجوج، فإنا نستوفيه برأس المشجوج، ولا خيرة.
ولو استوعب الشاج ناصية المشجوج، وكانت ناصيةُ الشاج أصغرَ من ناصية المشجوج، فالذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أنا نكمل مساحة القصاص من سائر أجزاء الرأس.
ومن أصحابنا من قال: يقتصر على الناصية، ونرجع فيما عدمناه إلى حصة من الأرش، وهذا اختيار القاضي، ومأخذه فيما ذكرناه من تعيّن الأجزاء في الإيضاح، فكل جزء في أنه لا يُتعدَّى بمثابة الرأس في أنه لا يتعدى منه إلى غيره.
وقد اتفق أصحابنا في أن رأس الشاج إذا كان أصغر لم يستكمل مقدارُ رأس المشجوج من جبهة الشاج، لتباين المحلَّين واختلاف الاسمين.
10458- ولو أوضح رجل رأسَ رجل وهشمه، جرى القصاص في الموضِحة، ولا قصاص في الهشم، ولا يمتنع عندنا أن يتعلق القصاص ببعض الجناية دون بعض، وسيأتي نظائر ذلك في قطع الأطراف.
ثم ينبغي للمقتص أن يحتاط ويَحْلِق موضع الإيضاح من الجاني، ويستعملَ حديدة حادّة، ولا يُقَصِّر في الاقتصار على القدر المستحَق.
ولو جرى الإيضاح بخشبة، فلا يتصور رعايةُ المماثلة في الآلة، بل الاقتصاص بالحديدة، بخلاف القصاص في النفس فإن الضرب بها ممكن.
فهذا تفصيل القول فيما يتعلق بالقصاص.
10459- ومن مسائل هذا ما نجريه في الفصل الثالث، وهو الأرش، فنقول: أرش الموضِحة ممن ديته كاملةٌ خمسٌ من الإبل، وهو نصف عشر الدية من كل شخص، يكمل بكمال الدية، وينقص بنقصانها.
وفي الهاشمة في صورة الكمال عشرٌ من الإبل، وفي المنقِّلة خمسةَ عشرَ، ونص الحديث وارد في الموضِحة والهاشمة، والمنقِّلةُ مقيسةٌ على الهاشمة في مقدار الزيادة، فكما فضلت الهاشمةُ الموضِحةَ بخمس، فضلت المنقِّلةُ الهاشمةَ بخمس.
وفي الآمّة أرشُ جائفة، ولا تنسب إلى ما تقدّم.
فهذا قولنا في الموضحة، فما يزيد عليها.
10460- فأما ما دون الموضِحة، فالأمر في أرشه يبنى على القصاص، فما أوجبنا فيها مقداراً منسوباً إلى أرش الموضِحة، فإن شقت حديدة الجاني نصف السمك، أوجبنا نصف أرش الموضحة، وهكذا القول فيما يتفق.
وإن لم نوجب القصاص، فالرجوع إلى الحكومة.
فإن قيل: إذا كنا نوجب الحكومة، فسبيل التقريب فيها بالاجتهاد، وأعتبار ما زاد وبقي من السمك، فكيف يفترق القولان؟ قلنا: يفترقان بدقيقةٍ لا يقف على الفصل من لم يقف عليها، وهي أنا إذا جعلنا المتلاحمةَ جرحَ قصاص، فاعتبار نسبة السمك محتومٌ في الأرش، وإن لم نجعلها جرحَ قصاص، فلا نجعل ذلك حتماً في نظر المجتهد، فقد يرى ما بقي أفضل مما زال، وقد يرى ما زال أفضل مما بقي، ولئن كان السمك آخرَ ما ينظر فيه واضع الحكومة، فليس معتبره المحتوم.
10461- ومما يتصل بالأرش أن الموضِحةَ الصغيرةَ فيها ما في الموضِحة الكبيرة، ولو استوعب الرجل رأس رجل بالإيضاح، لم يلتزم إلا ما يلتزمه بموضحة قدرها مغرز إبرة.
ومما يجب قطع الوهم فيه أن من غرز إبرة في رأس إنسان، وأنهاها إلى العظم، فالجرحُ موضِحة، وإن كان العظم لا يظهر للناظر، فالمعتبر في تكميل الأرش وإيجاب القصاص الشق إلى العظم.
ولو أوضح مواضعَ من رأس إنسان، وبين الموضحات حواجز كاملةٌ، ففي كل موضحة خمسٌ من الإبل؛ فإن المتبع في الباب الاسمُ.
ولو أوضح مواضع وبينها الحواجز، فتأكَّلت وزالت الحواجز، عاد الأرش إلى واحد، وكان ذلك فيها بمثابة ما لو قطع يدي رجل ورجليه، ثم عاد فقتله قبل اندمال الجراحات، فالمنصوص إيجابُ الدية، وعودُ الأروش إليها، ونُزول الواقعة منزلةَ ما لو جرى ما وصفناه بالسراية.
وذهب ابن سريج في قطع الأطراف وقتل النفس بعدها إلى تعدد الأروش والدية، ومذهبُه في رفع الحواجز هذا أيضاًً، فالأروش لا تنقص، ورفعُ الحواجز جناية جديدة يتعلق بها حكمها.
والقول الوجيز المحيط بمذهب ابن سريج أنا نجعل عَوْد الجاني ورفعَه الحواجزَ بمثابة ما لو رفع أجنبي الحواجز، ولو كان كذلك، فالأروش على تعددها في حق الجاني الأول، وعلى الجاني الثاني أرش جناياته.
ونحن نُفصِّل ذلك الآن، فنقول: لو أوضح الأول موضِحتين، وترك بينهما حاجزاً فجاء آخر، ورفع الحاجز، فعلى الأول أرش موضحتين عشرٌ من الإبل، وعلى الثاني في رفع الحاجز خمسٌ من الإبل.
ولو أوضح الأول ثلاث موضحات بينها حاجزان، فجاء ثانٍ، ورفع الحاجزين، فعلى الأول ثلاثة أروش، وعلى الثاني أرشان.
وهذا يظهر بما نصفه، فنقول: لو ابتدأ رجل، فأوضح مقدمة الناصية من رأس إنسان، ثم جاء جانٍ آخر، وابتدأ فأوضح من منتهى جناية الأول، ثم هكذا حتى استوعب مائةٌ مثلاً الرأس شجّاً، على الترتيب الذي وصفناه، فعلى كل واحد أرشُ موضِحة؛ فإنّ فعل كل واحد لا يتعلق بفعل غيره، وكل فعل إيضاحٌ في نفسه.
10462- ولو أثبتنا القصاص في موضحةٍ، وأَحدَّ من له القصاصُ الحديدةَ، واقتص وزاد: فإن زاد عمداً، وجب القصاص عليه، وإن اضطربت يده، فحصلت الزيادة خطأ، وجب في مقابلة الزيادة ضمانٌ، وفي قدره وجهان:
أحدهما: أنه يجب فيه أرشٌ كامل؛ لأن الجارح وإن اتحد واتحدت الجراحة، فالحكم مختلف؛ فإن الزيادة ظلم أو خطأ، فكان اختلافهما بمثابة تعدد الجانيين، هذا وجهٌ.
ومن أصحابنا من قال: نوزع أرشاً تقديراً على الموضحة التي جرت، ونسقط ما يقابِلُ منه القصاصَ، ونوجب أرش الباقي. وهذا القائل ينظر إلى اتحاد الجراحة والجارح، والأصح الأول، وهو الذي استقر عليه جواب الققال.
ولو وجب القصاص في موضحة، فأراد من له القصاص أن يقتص من بعضها، ويرجع إلى قسط من الأرش في الباقي، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: ليس له ذلك؛ فإن الموضِحة جرحٌ واحد، فلا يتبعض حكمه، وليس كما لو قطع رجل أصبعين من رجل آخر، فللمجني عليه أن يقتص من إحدى الإصبعين، ويرجع في الأخرى إلى المال؛ فإنهما قطعان، لكل واحد منهما حكم التميز عن الآخر.
والوجه الثاني- أن له أن يرجع في البعض إلى قسط من الأرش؛ فإن القدر الذي يقتص منه يتصور ثبوت القصاص فيه وحده، فلا يبعد التبعيض على الوجه الذي وصفناه.
ويخرج على هذا التردد أنه لو قال مستحق المَصاص: عفوت عن القصاص في نصف هذه الجراحة، فهل يتضمن هذا إسقاطَ القصاص في الجميع؟ فعلى ما ذكرناه.
ولو وقع ابتداء الإيضاح خطأ، ثم تمادى الجاني واعتمد وزاد، فلا أعرف خلافاً أن القصاص يجب في محل العمد، وإن اتّحدت الجراحة.
10463- ولو أوضح مواضع من رأس إنسان وترك في خلل قطع العظام لحوماً لا جلود عليها، فظاهر المذهب أن الكل في حكم الموضحة الواحدة، فإن الجراحة شملت جميع الموضع، فكانت في بعضها إيضاحاً، وفي بعضها متلاحمة، ولو كان إيضاحاً، لم يجب إلا خمس من الإبل، والإيضاح أعظم من المتلاحمة.
ومن أصحابنا من قدر اللحوم حواجز إن ثبتت، وأوجب أعداداً من الأروش.
ولو أوضح الجاني خطأ مستديراً وفي وسط الخط لحم وجلد، فالموضحة واحدة، وذلك الكائن في الوسط ليس حاجزاً معدِّداً للموضحة؛ فإن الجراحة متواصلة لا حاجز فيها.
ولو أوضح مواضع وبين الموضِحات جلود لا لحوم، ولا سِمحاقَ تحتها، فالمذهب القطع بأن الكل موضحةٌ واحدة؛ فإن العظم بادٍ وبدوّه متواصل ولا حاجز، وليس كما اللحمة؛ على أنا قدمنا أن الأصح أنها ليست حاجزة أيضاً.
هذا تمام القول في شجاج الرأس والوجه.
10464- وقال الأصحاب: إذا نفذت جراحةٌ من الوجْنة إلى الفم، ولم نجعلها جائفة، ففيها أرشُ منقِّلة وزيادة حكومة، وجعلوا النفوذ أبلغ من التنقيل.
ولو وقع الجرح على لحم الجلد، ونفذ إلى داخل الفم، فالواجب أرش متلاحمة
وزيادة حكومة إذا لم نجعل الجراحة جائفة.
وكان شيخي يرى أن ينقص الأرشُ عن أرش موضِحة، والعلم عند الله.
10465- ولو اشترك جماعة في إيضاح رأس، بأن تحاملوا على آلة وأجروها معاً حتى استوعبوا الرأس بالإيضاح، فالكلام يقع في القصاص والأرش: أما القصاص، فمحتمل جداً، يجوز أن يقال: يوضَحُ رؤوسُهم كما لو اشتركوا في قطع يد تقطع أيديهم، فإنه لا جزء من الرأس إلا ولكلّ جانٍ فيه جناية، ولا تميز.
ويجوز أن يقال: إذا استوت أعمالهم، فعلى كل واحد القصاصُ في جزءٍ، لو فُضّ الرأس على الأعمال، لكان يقابل كلَّ واحد ذلك المقدار.
وإنما ينشأ هذا الخلاف من إمكان إجراء القصاص في الأجزاء، وهذا غير ممكن في اليد.
والذي ذهب إليه صاحب التقريب من إجراء القصاص في بعض اليد، في حكم الخطأ الذي لا يعتد به.
والنفسُ على الدرجة العالية من حيث لا يتصور فيها الانقسام، وقطعُ صاحب اليد دونه لتصور الانقسام فيه، وهو مثله، من جهة أن القصاص فيه لا ينقسم، والرأس لا يتطرق إليه الانقسام تصوّراً في الفعل والقصاص جميعاً، ولا تعويل على اتصال فعل كل واحد بكل جزء، فإن هذا يتحقق في اشتراك جمع في إتلاف مال، ثم الغرمُ مفضوض عليهم.
وقد يسنح في هذا الفصل إنْ بعّضنا القصاصَ الكلامُ فيما يؤخذ من رأس كل واحد: أما القدر، فعلى ما أشرنا إليه، وأما المحل، فمشكلٌ، ونضّطر إلى رد الأمر إلى اختيار المقتص منه أو المقتص، وقد سبق لهذا نظير.
فأما القول في الأرش فيقرُب من القول في القصاص، فيحتمل أن نفض أرشاً واحداً عليهم ونجعلهم كالجارح الواحد، ويجوز أن نوجب على كل واحد أرشاً، وهذا أقربُ؛ نظراً إلى عدد الجناة.
فلينظر الناظر، فالرأي مشترك، وكل ما ذكرناه في جراحات الرأس والوجه.
10466- فأما الجرح على سائر البدن، فلم يعلّق المراوزة القصاص بشيء منها.
وقال العراقيون: كل جرح انتهى إلى عظم، فالمذهب أن القصاص يجب فيه.
قالوا: وغامر بعض أصحابنا، فنفى القصاص فيه. والذي رأوه غلطاً هو الذي اتفق المراوزة عليه، وتعلقوا فيما ارتضَوْه بخبرٍ أولاً، فقالوا: "رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان طَعَنَ أحدهما فخذَ الآخر، وانتهى الجرحُ إلى عظمه، فاقتص المجروح من الجارح" واعتمدوا في المعنى إمكان المساواة، وقربوا هذا من نص الشافعي في إجراء القصاص في الأعضاء الزائدة، ووافقوا المراوزة في نفي القصاص في الجوائف لما فيها من تفاوت الأغوار، ثم قطعوا بأن الجرح الذي يشق، وينتهي إلى العظم موجبه الحكومة؛ فإن التقديرات مأخذها من التوقيفات.
وقد نجز القول في الجُرح الذي يَشُق، ونحن نبتدىء بعد ذلك التفصيلَ فيما يقطع.
فصل:
قال: "وتقطع اليد باليد والرجل بالرجل من المفاصل... إلى آخره".
10467- وقد تقدم القول في القصاص في الجرح الذي يشق، وهذا الفصل في تفصيل القطع المبين، فكل قطع يُبين مِفصلاً، فهو موجب للقصاص، إن لم يمنع منه مانع، كما سيأتي الشرح عليه، والمفصل عبارة عن متَّصَل عضو بعضو على منقطعي عظمين، ثم قد يكونان متجاورين، وقد يكونان متداخلين.
ولا يختص وجوب القصاص بالمفاصل، ففي البدن أعصاب ولحمات يجري القصاص فيها، كالمارن، والذكر، والأنثيين، والأجفإن، والشفتين، والشُفرين، فالمرعي إذاً إمكان إجراء التساوي، وهذا لا يختص بالمفاصل.
فلو قطع الجاني فِلقةً من لحم الساق أو الفخذ، فلا قصاص؛ فإن ذلك لا ينضبط، ولو قطع من المارن، أو الحشفة، أو اللسان، أو الأذن، جرى القصاص إذا أمكن ضبط النسبة والجزئية، ولا يخرّج ما ذكرناه على الخلاف في المتلاحمة؛ فإن النسبة فيها غائرة، وليس جميع لحم الرأس مشاهداً حتى يُفرضَ ضبط منتهى الشق على بصيرة.
ففي الأنملة إذاً قصاص، وكذلك في الكوع، والمرفق، وفي مَرْكَب اليدين الكتفَ، وكذلك القول في القدم، والركبة، ومركَب الفخذ من الحِقو إن أمكنت المساواة، والقصاصُ جارٍ في الأجفان، والأذن، والمارن والشفتين، والذكر، والأنثيين والشُّفرين، ولا قصاص في إطار استه، فإنه لا ينضبط، واختلف جواب الأئمة في المأكمتين وهما العجيزتان، والظاهرُ إجراءُ القصاص، ومنهم من منع لظهور التفاوت وكبر العجيزتين، وذلك يُعسّر إجراء المساواة.
وفي بعض التعاليق عن شيخي وجه بعيد في المِرفق وأن القصاص هل يجري فيه، وهذا أحتسبه غلطاً من المعلِّق، وإن صح، فلعل السبب فيه تداخل العظمين وهذا يعسِّر طريقَ المساواة، وليس كمفصل الكوع، فإن اتصال عظمي الكف والساعد بالتجاور لا بالتداخل، والركبة كالمرفق، ولا اعتداد بهذا الوجه الضعيف.
والقطعُ من الكتف موجبٌ للقصاص إن أمكن اعتبار المساواة.
10468- فإن كان قَطْعُ الجاني غيرَ مُجيف، وظهر في الظن أن ذلك وفاق، والغالب أن مثله يُجيف، فلا نوجب القصاص في القطع من الكتف خيفة أن يُجيف. وكذلك القول في قطع الفخذ من الحقوين.
وإن قطع الجاني وأجاف، فقال أهل هذا الشأن: يمكننا أن نقطع يد الجاني ونجيفه مع الاقتصار على مثل تلك الجائفة التي جرت منه في الجناية، فالذي ذكره الأصحاب في الطرق أنا نستوفي القصاص، وليس هذا إجراء قصاصٍ في الجائفة، وإنما محلُّ القصاص اليد، وليست الجائفة مقصودةً بالقصاص، وإنما الممتنع انفراد الجائفة بالقصاص.
وهذا يتطرق إليه إشكال؛ من قبل أن الجائفة لم يجر القصاص فيها؛ من حيث إن ضبطها غير ممكن، وإذا عسر المساواة في طريق الاستيفاء، وجب أن يكون ذلك سببأ في منع القصاص، وإن كان المقصود غيرَ الجائفة.
وأقصى الممكن في هذا أن اليد إذا قطعت من الكتف، فليس في رفعها تغويص حديدة في الباطن، ولكن قد تحصل الجائفة برفع طبقة، وهذا لا تفاوت فيه على وجهٍ لا يحتمل، وإنما تفاوت الجوائف في تغويص الحديدة.
وقد يرد على هذا إيجاب القصاص في جوائفَ تحصل برفع الطبقات البادية من غير غوص حديدة، ولا قصاص في شيء من الجوائف، كيف فرض الأمر.
وكان شيخي يقطع بأن قطع اليد من الكتف إذا كان يُجيف، فلا اقتصاص، وإنما احتملَ الجائفةَ على طريق التبعية الصيدلانيُّ، ومن سلك طريقه.
فهذا منتهى القول في ذلك.
10469- وإذا بان أصل القول فيما يجري القصاص فيه من الأطراف، فيقع الكلام وراء ذلك في الطرف الذي وجب القصاص فيه، وفي تفاوت الأطراف في السلامة والشلل، والزيادة والنقصان، ونحن نأتي بها مفصَّلةً، إن شاء الله تعالى.
فأما ما يوجب القصاص، فينقسم إلى ما يفوّت الأعضاء بالفصل والإبانة، وإلى ما يُفسد معانيها، فأما الأجرام، فإنها تُقصد بالقطع، وإن وقعت الجناية بحديدة، فلا شك أن القصاص كذلك يقع، ولكنا نرتاد أحدَّ حديدة وأحراها بأن توحي.
وإن وقعت إبانة العضو بفتل وترها وقطع رُبُطها، فلا يجري القصاص إلا بالحديدة، كما قدمناه في الموضحة.
10470- وإن قطع الجاني بعض العضو، فسرت الجراحة وتأكّلت، وسقط العضو، فالمنصوص عليه للشافعي أن القصاص لا يجب فيما يسقط بالسراية، ونصّ على أن من أوضح رأس إنسان، فأذهب ضوءَ بصره، فإنا نوجب القصاص في لطيف البصر، فإن زال البصر بمثل الجراحة التي صدرت من الجاني، فذاك، وإن لم يزل واستمكنَّا من إزالة البصر بطريقٍ لا نفسد فيه الحدقةَ، ونتركها قائمة، أزلناه، هذا نص الشافعي.
والذي ذهب إليه الجمهور تقرير النصين قرارهما والقطعُ بأن القصاص لا يجب في أجرام الأعضاء بطريق السراية، ويجب القصاص في لطيفةِ البصر بالسراية، والفرق أن الأجرام لا تقصد بالسراية غالباًً، بخلاف لطيفة البصر؛ فإنها مقصودة بالسرايات، فكانت كالروح التي تقصد بالسراية تارة وبماشرة الجنايات المُجهزة أُخرى.
هذه هي الطريقة المشهورة، وقد ذكرها الشيخ أبو علي، وذكر معها طريقة أخرى، فقال: من أصحابنا من قال: ننقل النصين ونصرف أحدهما بالآخر، ونخرّج في البصر، وفي أجرام الأعضاء قولين:
أحدهما: أن السراية لا توجب القصاص في غير الروح؛ فإن البصر يندُر إزالته من غير قصد الحدقة، وإن وقع زواله بجرح، كان نادراً، وقد يقع التأكّل وسقوط الأجرام، هذا أحد القولين.
والقول الثاني- إن السراية فيهما جميعاً موجبةٌ للقصاص؛ طرداً للقياس في منتهى سرايات الجراحات، والدليل عليه أن زهوق الروح بقطع الأكلة ليس بالعام الذي يحكم بأنه الغالب، ثم إذا أفضت الجراحة التي وصفناها إلى زهوق، الروح، تعلق وجوب القصاص بها.
10471- فإن جرينا على ظاهر المذهب، وفرّقنا بين لطيف البصر وبين جِرم الأعضاء، فقد كان شيخي يتردد في بطش الأطراف التي فائدتها البطش، فيقول: يجوز أن يجعل كلطيفة البصر حتى يقال: إذا أذهبت الجناية بطشَ عضوٍ، جرى القصاص فيه، كما يجري في لطيفة البصر، وقد نص على ذلك صاحب التقريب في كتابه، وكان شيخي لا يُبعد أن يُفرّق بين البطش وبين لطيفة البصر، فقال: إزالة البطش بالسراية يعسر عسر إزالة الأجرام، بخلاف لطيفة البصر؛ فإنها ألطف المعاني وأحراها بأن تؤثر النكايات فيها، ونزّل الأصحاب لطيفةَ السمع منزلة لطيفة البصر، ولا يبعد أن تُلحق بهما منفعةُ الكلام.
ثم للأئمة تردد في العقل إذا أزاله الجاني، وسبب التردد أنه من وجهٍ لطيفةٌ، ومن وجه يبعد تناوله والاستمكانُ من إزالته، وأحرى اللطائف البصر والسمع، وبينهما الكلامُ، ويلي الكلامَ البطشُ، وأبعدُ المعاني عن الإزالة العقلُ.
والأصحاب مترددون في جميعها، بعد ما قدمناه من القول في أجرام الأعضاء، فإن لم يكن من ذكر الخلاف بُدٌّ، فليرتبها الفقيه على المراتب التي ذكرناها.
هذا تفصيل القول فيما يوجب القصاص في الأطراف.
10472- وتتمة الكلام فيه أن الروح لما كانت مقصودة بالسراية، فإذا جنى الرجل جناية يقصد بها القتل، فأدت إلى الزهوق، وأجرينا القصاص في تلك الجناية فسرى جرحُ القصاص إلى نفس المقتص منه، فالنفس بالنفس.
وينتظم مما ذكرناه أن السراية في الروح يجب فيها القصاص، ويقع بها القصاص، وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أن السراية لا توجب القصاص في ذوات الأعضاء وأجزائها.
فلو قطع يدَ رجل، فقطع المجني عليه أصبعاً من يد الجاني، فسرى القطع، وتأكّلت اليد، وسقطت، فهل يكون سقوط يد الجاني بطريق السراية واقعاً عن جهة القصاص؟ فعلى قولين مأخوذين من معاني قول الشافعي، وعبر الأئمة فيهما، فقالوا: ما يجب القصاص فيه بالسراية يقع القصاص فيه بالسراية، كالروح، والبصرُ في ظاهر المذهب ملحق بالروح، وكذلك السمع.
وما لا يجب القصاص فيه بالسراية كأجرام الأعضاء هل يقع فيها القصاص بالسراية؟ فعلى قولين.
وهذا فيه فضل نظر: فإن قلنا: يقع القصاص بالسراية، فلا كلام.
وإن قلنا: لا يقع القصاص بالسراية، فاليد التي قطعها الجاني حكمها أنها لم يُستوف منها إلا الإصبع، وأما السراية التي ترتبت على قطع الإصبع، فهي مشكلة على هذا القول؛ فإنا إن أهدرناها، كان بعيداً، من حيث قطَع الإصبع، ولم يكن له قطعها، وقد يعارض هذا أن اليد له، والجراحات الواقعة بها، وإن كانت على خلاف الشرع مهدرة، كما لو استحق رجل نفسَ إنسان، ولم يكن له إلا ضرب رقبته، فلو قطع أطرافه عصى، ولكن لا يضمن.
وَيرِد على ذلك أن جراحاته لو سرت لم تهدر سرايتها، فالإهدار على حالٍ مشكل، والمصير إلى أنها لا تقع قصاصاًً، وتكون مضمونة على المقتص لا سبيل إلى القول به أصلاً.
10473- وأنا أذكر الآن منشأَ تردد الأصحاب وأنبه إلى ما يظهر عندي فيه، فأقول: إنما اختلف الأصحاب من نصٍّ نقله المزني عن الشافعي قال: قال الشافعي: "لو أوضح رأسه وتمعّط شعره، وذهبت عيناه، فأوضحنا رأس الجاني قصاصاًً، فإن لم ينبت شعره وذهبت عيناه، فقد استوفى مستحق الحق حقَّه، وإن نبت شعره، ولم تذهب عيناه، فعليه دية العينين وحكومة الشعر" هذا نص الشافعي رضي الله عنه، وهو دال على أن القصاص لا يقع بالسراية، وغلط المزني في ذكر الشعر، ولم يصح نقله عن الشافعي في خبط سوى ما ذكرناه.
وهذا محلٌّ يقضي الناظرُ فيه العجبَ من إطلاق الأصحاب وترك التعرض للتفصيل، والنصُّ الذي حكاه المزني في جراحة يتعلق القصاص بعينها، وهي الموضِحة، ومنها تصوير السريان إلى لطيفة البصر، وميل الأصحاب إلى إجراء القصاص فيها وجوباً ووقوعاً. نعم، في النص تعرض لتمعّط الشعر، وهذا موضع استنباط الأصحاب؛ فإن منابتها في حكم أجرام تفوت بالسراية إليها ابتداء وأخيراً، والشعور لا قصاص فيها، ولا في منابتها، فكيف ينتظم بناء القول في الأعضاء التي يجري القصاص فيها على نصٍّ في شيء لا يجري القصاص فيه؟
فلا وجه عندنا إلا القطعُ بأن من قطع يد إنسان واستوجب القصاص، فقطع المجني عليه بعضَ يده، وأتلف أو قطع أصبعاً من أصابعه، فسرت الجراحة، فالوجه نسبة السراية إلى فعل الجارح، وإذا انتسب إلى فعله، والذي جرى منه، كان من القصاص، فلتكن السراية كالجراحة.
أما ما لا يجب القصاص فيه إذا ضمن الجاني أرشه كالشعر، فلما اقتصصنا منه فيما يجري القصاص فيه، وأدى القصاص إلى مثل ما أدت الجناية إليه، فهل تقع السراية في جهة القصاص في مقابلة السراية في جهة الجناية؟ هذا موضع النص، وهو حري بالتردد؛ فإن قيل: زيدوه شرحاً، أتعنون بما ذكرتموه أن الحكومات التي وجبت في دية الجاني تقع قصاصاًً؟ فالحكومة التي وجبت بقدر في جهة الاقتصاص حتى يكون هذا خارجاً على أقوال القصاص. قلنا: لا نعني هذا، ويظهر أثر ما نريده بتقدير تفاوت الحكومتين لتفاوت الديتين، فإذا كان الجاني مسلماً والمجني عليه ذمياًً، والجراحة كما نقلها المزني، فإن جعلنا الشعر بالشعر، فلا مطالبة، وإن كان قدر الحكومة يتفاوت، وهذا كما أن القصاص بالقصاص مع التفاوت في البدل المالي.
فالوجه أن نقول: إذا استحق القصاص في عضوٍ، فالسراية فيه قصاصٌ، وإن لم يكن مما يُستَحَق فيه القصاص، فإن أفرد بالجناية، ثم فعل بالجاني مثل ما فعل، والشرعُ لم يقض بوجوب القصاص، فلا يكون الجرح بالجرح ولا السراية بالسراية قصاصاًً، ولكن المبتدىء والمجازي جانيان، وعلى كل واحد منهما أرشُ جنايته، ثم يقع ذلك في أقاويل التقاصّ في الأموال، وقد تختلف أقدار الحكومات مع اتفاق صور الجراحات.
فأما إذا جرت جراحة فيها قصاص، وسرت إلى ما لا قصاص فيه، فأجرينا القصاص فيما فيه القصاص، فسرى القصاص إلى مثل ما سرت إليه الجناية، فهل نجعل الزائد بالزائد قصاصاًً، تبعاً للجرح الذي جرى القصاص فيه؟ هذا موضع التردد، ولكن الأصحاب استنبطوا من هذا قولين في أن اليد إذا سقطت بسبب قطع بعضها، فهل يقع قصاصاًً؟ وفيه ما لا يخفى دركه بعد هذا التنبيه.
وإن قيل: القصاص زجر، وشرط الزجر أن يكون معموداً، فإذا لم تكن السراية في الطرف موجبةً للقصاص، فكيف يتحقق تعمد الزجر بها؟
10474- وهذا الكلام ينشأ منه مسألة، وهي أن من قتل رجلاً، ثم ضرب وليُّ الدم الجانيَ، بسوط خفيف، فمات، فكيف القول في هذا؟ والضرب بالعصا لا يوجب القصاص، ولا يقصد به القتل؟ هذا على ما ذكره الأصحاب محتمل؛ من حيث إنه لا يقصد به القتل، كما لا يقصد جرْم الطرف بالسراية، ولابد من تخريج هذا على ما ذكره الأصحاب.
ثم إن أوقعنا القتل الحاصل قصاصاًً، فلا كلام.
وإن لم نوقعه قصاصاًً، فالكلام في إهدار الجاني فيه عسر؛ فإن الكلام في أن الذي جرى ليس طريقاً في الاقتصاص، ثم الحكم بإهداره، وضمان الدم باقٍ عليه، وفي تركته عَسِرٌ، وإيجاب الضمان لا عن جهة الوقوع قصاصاً عَسِرٌ، والنفس مستحَقَّة له، فلا ينتظم في هذا قول.
والسبب فيه فساد أصله، فإن فرع الفاسد فاسد، والوجه القطع بوقوع القتل-على أي وجه فرض- قصاصاًً، ولا ينبغي أن يُتختل خلافٌ في أن من استحق دم إنسان، ثم رمى إليه مخطئاً فقتله أن القتل يقع قصاصاًً.
هذا منتهى الفكر في ذلك والله المستعان.
وقد هان ترتيب الفصول على من يقنع بظواهرها، وعظم الخطب على طالبي الغايات في كل فن.
وقد نجز القول فيما يوجب القصاص في الأطراف.
10475- ونحن نبتدىء الآن بفصل القول في التفاوت بين الجاني والمجني عليه، فنقول: إذا استوى طرف الجاني والمجني عليه في الخِلْقة والسلامة، قُطع طرف الجاني بالطرف المقطوع من المجني عليه، إذا كان يُقتل الجاني به لو قتله، وتفاوت الأرش في الأصل لا يمنع جريان القصاص في الطرفين مع الاستواء في أصل النسبة، وهو أن يكون نسبة الطرف المقطوع من المجني عليه كنسبة طرف القاطع منه، فيد الرجل مقطوعة بيد المرأة، وكذلك يد المرأة مقطوعة بيد الرجل؛ فإن جزئي الجملتين تقابَل بالجملة الأخرى، فتقابَل إحداها بأخراها.
وإن تفاوت الطرفان في الخِلقة أو السلامة تفاوتاً يوجب تغيير النسبتين، لم يستوف والحالة هذه كاملاً، وليس ذلك لتفاوت البدلين، وإنما هو لتفاوت النسبتين، وبيان ذلك أن يد الجاني إذا كانت سليمة، واليد المقطوعة من المجني عليه شلاّء، فلا تقطع يد الجاني بيد المجني عليه؛ فإن يد الجاني في وضع الشرع نصفُه، وليست اليد الشلاء نصفاً من صاحبها، فالرجوع إذاً إلى حكومة اليد الشلاء، ولا قصاص.
ولو رضي الجاني بأن تقطع يده السليمة باليد الشلاء، لم يرض الشرع بها، ولله تعالى حكمٌ في الدماء يعدُّه الفقيه حقّاً لله لازماً.
فإن قيل: لو قطع المجني عليه اليد السليمة، فهل تقولون: يقع القطع موقع القصاص، مع الانتساب إلى المعصية؟ قلنا: لا نقول ذلك أصلاً، فاليد السليمة في مقابلة الشلاء بمثابة المسلم في مقابل الذمي والحرّ في مقابلة العبد، ويمكن أن يقال: الشلاء في مقابلة الصحيحة كاليسار في مقابلة اليمين.
ولو كانت يد الجاني كاملة الأصابع، ويد المجني عليه ناقصة بإصبع، فلا تقطع اليد الكاملة باليد الناقصة، ولكن لو اتفق قطعها، وقع القصاص في مقدار الاستواء موقعه.
فإن كان يدُ الجاني شلاء، ويد المجني عليه سليمة، فلو قنع باليد الشلاء، جاز، ويقع القصاص موقعه، اتفق الأصحاب عليه، وهذا يُبطل التشبيهَ باليمين واليسار، واليدَ السليمة مع الشلاء بالكامل بالإسلام والحرية مع الكافر والرقيق.
ثم إن كان لا يقع قتل المسلم قصاصاًً عن الكافر، فقتل الكافر يقع قصاصاًً عن المسلم، وكذلك القول في الحر والعبد.
ثم شرط الفقهاء في الاقتصاص من الشلاء ألا يُخاف من الشلاء نزفُ الدم؛ فقد قيل: لو قطعت الشلاء، استرخت العروق نضاحة بالدم إلى النزف ولا يتماسك، فإن صح ذلك، لم يَجْرِ الاقتصاص، وإن لم يصح ورضي المجني عليه، اقتصصنا، ثم لو أراد الرجوع إلى مزيد مالٍ، لم يكن له ذلك، إذا كان التفاوت يرجع في اليدين إلى المعنى، لا إلى نقصان الخلقة، وشبه الأصحاب بأجمعهم هذا بتعييب العبد في يد البائع، فليس للمشتري إذا جرى ذلك إلا ردُّ العبد واستردادُ الثمن أو الرضا بالعيب بجميع الثمن.
والشلاء مقطوعة بالشلاء، كما السليمة مقطوعة بالسليمة.
10476- ثم سرّ المذهب في هذا يبين بمقدمة مقصودة في نفسها، وهذا ما نحاول في ذلك فنقول: نصَّ الشافعيُّ رضي الله عنه وأجمع الأصحاب على أن القصاص يجري في الأعضاء الزائدة مع التساوي، وعلينا الآن أن نصف التساوي، فنقول: العضوان الزائدان إن اختلفت محلاها، لم يجر القصاص بينهما، فإذا فرضت إصبعٌ زائدة مبدلة من خنصر رجل، وفرضت زائدة أخرى مبدلة من إبهام آخر، فإذا قطع أحدهما من صاحبه إصبَعه الزائدة، لم يقطع إصبعَ القاطع الزائدة.
وإن اتفق محلاهما واتفقا في الحجم والصفة، فيجري القصاص بينهما.
وإن اختلف حجماهما كبراً وصغراً وطولاً وقصراً، ففي جريان القصاص وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه لا يجري القصاص لمكان التفاوت المؤثر في النسبة؛ فإن حكومة إحدى الإصبعين إذا كانت أكبر، وحكومة الأخرى أقل، فنسبة إحدى الحكومتين تخالف نسبة الأخرى، وهذا هو الأصل المعتمد في الباب.
والوجه الثاني- أن القصاص يجب، ولا نظر إلى تفاوت الحجمين، كما لا نظر في تفاوت اليدين السليمتين في الضخامة ونقيضها.
وهذا بعيدٌ عن الحقيقة، واكتفاءٌ بظواهر الصور، وليس ينقدح مع تفاوت الحكومتين لقول من أجرى القصاصَ بين الطرفين وجهولٌ.
والذي أراه أن اختلاف الأصحاب فيه إذا اختلف الزائدتان في الصورة، ولم يظهر لاختلافهما أثر في الحكومة، فينقدح النظر إلى الاستواء في النسبة، ويتجه النظر إلى صورة الضخامة، فإن العضو ليست أصلية، فيتعين التناهي في رعاية المساواة خلقة وصورة.
ثم ما ردّدنا القولَ فيه من الاختلاف في الحجم يجري عند الاختلاف في اللون وغيره من الصفات، إن كنا نرى إجراء الاختلاف مع التفاوت في الحكومة، وإن كنا لا نرى، فاللون لمجرده لا أصل له مع التساوي في الحكومة، بخلاف التفاوت في الجِرْم، فليفهم الناظر ما يضطر إليه من مضايق الكلام.
10477- وتمام القول في هذا أن الإصبع الزائدة قد لا تكون لها حكومة؛ فإن الحكومات معناها اعتبار الرق مع صفةٍ وضبط القيمة معها، ثم النظر إلى القيمة دونها، والإصبع الزائدة ما نراها تزيد في القيمة، بل قد تؤثر في نقصان القيمة، فإن كانت كذلك، جرى القصاص بينهما، ويطرد حينئذٍ ما ذكرناه من الاختلاف في تفاوت الحجم، فإن كانت إحداهما لكبرها تؤثر في نقصان رطل والأخرى تُثبت نقصاناً دونه، فلا أثر للتفاوت في هذه الجهة، فإنهما خارجان عن اعتبار النسبة بالكلية، فلا نظر إلى اختلاف النقصان، والنسبة المعتبرة تسوى وتتفاوت فيما له قيمةٌ وقدر من الجثة.
فهذا ما أردناه في هذه المقدمة.
10478- والآن نعود إلى القول في الشلل قال العلماء: إذا كان الشلل في اليد المقطوعة أظهرَ وأبين، وكان الشلل في يد الجاني دونه، فلا تقطع اليد التي لم يظهر ذبولها ونحولُها واستحشافها باليد التي ظهر فيها ما ذكرناه، وليس التفاوت فيما أشرنا إليه بمثابة التفاوت في بطش اليدين السليمتين عن الشلل؛ فإن التفاوت لا أثر له في البدل والنسبة؛ فيد الشاب الأيّد مقطوعةٌ بيد الشيخ الفاني الهرم، والسبب في ذلك أن التفاوت في الشلل يوجب التفاوت في البدل، وذلك يغير النسبة، وهذا الذي اتفق الأصحاب فيه يؤكد ما قدمته في تفاوت العضوين الزائدين إن كان لجِرْمهما أثر في نقصان البدل.
10479- ولا تصفو هذه المسائل وما يأتي بعدها عن كدر التردد، ما لم نذكر الشلل ومعناه، فيد المرتعش وإن ازدحمت عليها الحركات الضرورية كاليد السليمة، فما الضبط في ذلك؟ الوجه أن نقول: الشلاء هي التي لا حراك بها أصلاً، وإن أعملها صاحبها بتحريك الساعد إياها، فسبيل إعماله إياها كسبيل إعماله آلة من الآلات.
وكان شيخي رضي الله عنه يقول: الشلل ينافي الحس والحركة، ولست أرى الأمر كذلك، ولا يبعد أن يبقى الحس بعض البقاء مع تحقق الشلل، والتعويل على ما ذكرناه من سقوط العمل.
ثم أطلق الأصحاب أن الشلل مما يتصور زواله، وفرعوا عليه مسائل عندهم، وهذا يُبيِّن أن الشلل ليس موتَ العضو، وليست الشلاء ميتة قطعاً، ولو ماتت وانقطع روح الروح عنها، لأنتنت وعَفِنت؛ فإنها ليست كالشَّعْر المخلوقة على الخُشارة وقلة الرطوبة.
وإن قيل هلاّ اعتبرتم البطش بحيلة، ثم حططتم قدراً من الدية بزوال بعضه كدأبكم في البصر، فإنكم ستصفون في مسائل الديات أن البصر قد يضعف بالجناية، وسبيلَ قياس النقصان بما كان في حالة الكمال، على ما سيأتي شرح ذلك في الديات؟
قلنا: لا فرق بين القاعدتين في الأصل، وآية ذلك أن الجناية المنقِصة للبصر توجب غُرماً على الجاني والجناية المنقصة للبطش توجب غرماً أيضاًً، فلا فرق في هذا الأصل؛ فإن الغرم وإن سمي حكومةً جزء من الدية، وإذا أُخذ جزء من الدية من الجاني في مقابلة نقصان معنى مطلوب في المجني عليه، فلابد وأن يكون لفوات ذلك الجزء أثر، ولابد والحالة هذه من أن نقول: من غَرِم الجاني بدلَ بعض بطشه، فلو قطع رجلٌ كاملُ البطش هذه اليدَ التي وصفناها، فلا وجه لقطع تيك اليد بهذه.
ولو فرض نقصان البطش بآفة سماوية، فلا أثر له، وعليه بنينا قطع يد الشاب بيد الشيخ؛ فكأنا في وجوه الخلل الخِلْقية ننظر إلى غايته، وغايةُ نقصان البطش الشلل، والشلل تبدّلٌ في الخلقة، وليس في حكم تحوّل من طور إلى طور.
فإن قيل: اليد التي نقص بطشَها الجنايةُ، وغرم أرشَها، ولم تنته إلى الشلل، لو قطعت هل يجب على قاطعها تمامُ دية اليد؟ قلنا: لا يجب التمام على الأصح، إذا استمر الضعف، وسيأتي تفصيل ذلك في العين، والبطش، والشَّيْن، وشبه الفقهاء هذا المسلك بوقوع إنسان في السكرات، ومصيرِ آخر إلى حركة المذبوح بفعل فاعل، والصائر إلى حالة المحتَضَرين حيٌّ في حكم الجناية، حتى لو حزّ جانٍ رقبته، وجب عليه القصاص، ولو صار إلى مثل هذه الحالة بفعل فاعل، فالأمر بخلافه.
هذا منتهى ما أردناه في بيان الشلل، والبطش، وتنخّل منه أن ما تفاوت الشلل فيه يرجع إلى نضارة العضو واستحشافه، وحُسنه في المنظر وقبحه، وإلا فلا عمل مع الشلل.
وكان شيخي يقول في مجلس الإلقاء: إذا سقط معظم العمل، ولم يبق إلا أدنى حركة، فلست أخشى أن أقابل بهذه اليد يداً باطشة.
وهذا عندي خبل لا أصل له، وبين أيدينا مسألة سأعيد فيها بعض هذه المباحثة، فإن الشافعي قال: إذا بدا الجذام بالأنف، فإن لم يأخذ في التقطع، فالعضو كالسليم وإن أخذ في التقطع، كان كاليد الشلاء، وسنذكر حقيقة هذا في موضعه.
وكل ما ذكرناه إذا تفاوتت اليدان في الشلل والسلامة، مع الاستواء في الصورة، والخلقة.
10480- فأما إذا كان التفاوت راجعاً إلى الخلقة، فذلك يختلف، فقد تكون إحدى اليدين على الخلقة التامة، والأخرى ناقصة عنها نقصاناً معتبراً. وقد يكون التفاوت باختصاص إحدى اليدين بزيادة في الخلقة على الخلقة المعهودة في الاعتدال.
فأما إذا كان التفاوت في نقصان إحدى اليدين، وكون الأخرى على الاعتدال، فإن كانت إحداهما ناقصة بإصبع والأخرى على كمال الخلقة المعتدلة، فإن كان النقصان في يد القاطع، وكانت يده ناقصة بإصبع ويد المقطوع كاملة، فالمجني عليه يقطع يد الجاني ويرجع إلى أرش إصبع، وقد ذكرنا أن هذا من نقصان الجزئية، وليس كما لو كانت يد القاطع شلاء وصور الأصابع والكف ثابتة، ولكنها منعوتة بالشلل.
وإذا قطع المجنيُّ عليه-وكانت يده كاملة- يدَ الجاني قصاصاًً، ويد الجاني ناقصة، لم يرجع إلى مزيد أرش في مقابلة نقصان الإصبع من يد الجاني.
ولو كانت يد الجاني كاملة الأصابع، فقطع يداً ناقصة بإصبع، فلا سبيل إلى قطع يد الجاني من الكوع؛ فإن في ذلك-إن قلنا به- زيادة على القدر المستحق؛ فإن يد الجاني كاملة في اعتدال الخلقة، ثم لو قال المجني عليه: مكّنوني من استيفاء القصاص من أصابعه الأربع، أجبناه إلى ذلك، ومكّناه أن يلقطها ونترك الإصبع التي ما مُكّن منها للمجني عليه، ونترك الكف لا محالة لمكان تلك الإصبع، وأبو حنيفة يأبى هذا النوعَ من القصاص، ولا يجيز أن تلقى حديدةُ القصاص مَوْضعاً غيرَ الموضع الذي لقيته حديدةُ الجاني من المجني عليه.
10481- ثم طرد أئمتنا الأصل الذي انتهينا إليه، وقالوا: إذا قطع الجاني يد إنسان من نصف الساعد، فلا نقطع يد الجاني من ذلك الموضع، لما قدمناه من أن إجراء القصاص في العظم عسر، ولا يتأتى الوفاء فيها برعاية المماثلة، ولكنا نجوّز للمقطوع يده من نصف الساعد أن يقطع يد الجاني من الكوع، ثم يرجع بحكومة الساعد.
وكذلك لو قطع الجاني من نصف العضد، فللمجني عليه قطع يد الجاني من المرفق، ثم إذا فعل ذلك رجع بحكومة العضد.
وإذا أبان الجاني يد المجني عليه من الكتف وخفنا الإجافة في القصاص؛ فمنعنا الاقتصاص من الكتف، فللمجني عليه القطع من المرفق، والرجوع إلى حكومة العضد.
ولو وقع القطع من المرفق وقد أوضحنا أن القصاص يجري فيه، فلو أراد المجني عليه أن يقطع من الكوع، لم نمكنه من ذلك، فإنه قادر على وضع حديدة القصاص في الموضع الذي وضع الجاني حديدة الجناية عليه، فإذا أمكنت رعاية المساواة، فلا معدل عنها، ومستحِق القصاص مخير بينها وبين ترك القصاص إحساناً.
ولو قال من قطعت يده، وقد تمكن من قطع يد الجاني: مكنوني من قطع أنملة من يد الجاني وأنا أقنع بهذا، فلا يجاب إلى ذلك.
ثم إذا كان قَطَعَ الجاني من المرفق، وأمكن إجراء القصاص فيه، فابتدر المجني عليه، وقطع يد الجاني من الكوع، فقد أساء، ولكن وقعت اليد قصاصاًً، فلو قال: مكنوني الآن من القطع من المرفق، فإني كنت مستحقّاً لذلك، لم نسعفه بذلك أصلاً، ولو قال: إذا أبيتم هذا فأثبتوا لي حكومة الساعد، لم نثبتها، وقلنا له: أنت تركت حقك مع القدرة عليه، ورضيت ببعض حقك. هكذا قال الأصحاب.
10482- ولو وقع القطع من نصف الساعد، فقد ذكرنا أن للمجني عليه أن يقطع يد الجاني من الكوع، فلو قال: ألقط أصابعه، لم نمكنه، لتعدد الجراحات، وهذا عظيم الموقع، وهو متمكن من القطع من الكوع، وهو أهون وأكمل.
ولو وقع القطع ابتداء من نصف العضد، فأراد المجني عليه أن يقطع من الكوع، مع تمكينه من القطع من المرفق، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: ليس له ذلك؛ فإن المرفق أقرب إلى محل الجناية. والوجه الثاني- له ذلك، فإن حديدة القصاص إذا جازت عن محل الجناية ضرورةً، والقطع من الكوع أهون من المرفق، فلا يمتنع القطع الذي يتضمن ترك بعض الحق من غير تعديدٍ في القطع يتضمن المثلة، كما ذكرناه في طلب لقط الأصابع.
ثم إذا قطع الكوع إما مبادراً، وإما بأن سوغنا له ذلك، فهل يجوز له الرجوع إلى حكومة الساعد، والقدرِ المقطوع من العضد؟ هذا ينبني على الخلاف في جواز القطع من الكوع، فإن منعنا ذلك، فليس له حكومة الساعد، وإن جوزنا القطع من الكوع، ففي سقوط حكومة الساعد وجهان:
أحدهما: أنه يسقط؛ من جهة أنه أعرض عن حقه، مع التمكن منه.
والثاني: له حكومة الساعد، وترْكُه لحقه في الساعد بمثابة عفوه عن القصاص، ولو عفا عن القصاص، لثبت له الرجوع إلى المال.
فإن قيل: هلا قلتم: له الرجوع إلى حكومة الساعد، وإن فرعنا على منعه من القطع من الكوع، لأنه تاركٌ حقَّه في قطع المرفق، ومستحقُّ القصاص يرجع إلى المال؟ فهذا عفوٌ على كل حال؟ قلنا: لا ننكر كونَ هذا قياساً، ولكن أجرى الأصحاب إسقاط الحكومة تغليظاً على المقتص إن فعل ما ليس له أن يفعله، وأما الحكومة في مقابلة بعض العضد، فإنها ثابتة في كل حساب؛ فإن التعذر في الاقتصاص محقق شرعاً، لا ينسب المقتصَّ إلى تركٍ.
واستشهد القفال لسقوط الحكومة في الساعد في صورة الوجهين بمسألة من القسْم تقْرُب فقهاً؛ وإن كانت تبعد تصويراً: فللثَّيب إذا أرادت ثلاثةُ العقد، لا تحسب عليها من أدوار القَسْم، فلو أرادت أن يقيم الزوج عندها سبعاً-وهي مدة الأبكار- أجابها الزوج، وقضى السبعَ للباقيات، وبطل اختصاصها بالثلاث؛ لأنها تعدّت محلّ حقها، وحدَّ استحقاقها.
وهذه المسألة شاذّةٌ عن القياس، والمعول فيها الخبر؛ فلا ينبغي أن يستشهد بها، وسبيل التوجيه أن نقول: إذا قدر على القطع من المرفق، فقطع من الكوع، فكأنه أقام هذا القطعَ من الكوع مقام هذا القطع من المرفق، فقام مقامه وليس كالعفو عن القصاص أصلاً مع الرجوع إلى الدية.
هذا منتهى النظر، والله أعلم.
10483- ومما يتعلق بذكر التفاوت بين يدي الجاني والمجني عليه أن يد المجني عليه لو كانت على الخلقة المعتدلة، وكانت يد الجاني مختلَّة: إصبعان منها شلاّوان، وثلاثٌ صحيحة، فإن قنع المجني عليه بيد الجاني كما صادفها، جاز، ولا مرجع إلى الأرش، وقد ذكرنا ذلك في اليد الشلاء، فما الظن بها إذا كان الشلل في بعض أصابع الجاني؟
ولو قال المجني عليه: لست أقنع بيد الجاني، ولكني ألقط الأصابع الثلاثَ الصحيحة، أجبناه إلى ذلك، ويرجع إلى الأرش فيما لم يستوفِ.
والتفصيل فيه أن نقول: يرجع بدية أصبعين لا محالة، وبقي الكلامُ في حكومة الكف، فأما ما يقابل الأصابع الثلاثة التي اقتص فيها، وهو ثلاثة أخماس حكومة الكف، فهل يطالِب بها أم تندرج تحت القصاص في الأصابع الثلاث، فعلى وجهين:
أحدهما: أنها تندرج تحت دياتها؛ فإن دية الأصابع الخمس من الرجل الكامل خمسون من الإبل، ودية اليد إذا قطعت من الكوع خمسون من الإبل، فالكف إذاً في الاعتبار الذي ذكرناه مندرجة تحت الأصابع في الدية، والقصاص أحدُ البدلين؛ فلتستتبع الأصابع فيها مغارسَها من الكف.
والوجه الثاني- أن الحكومة لا تتبع القصاص؛ فإن القصاص في وضعه مماثلة محسوسة، والديات أبدال تحكّميّة، فإذا جرى القصاص في الأصابع دون الكف، وقد قطع الجاني منه الكف، فمقابلة الكف والأصابع بالأصابع المحضة يخالف المماثلةَ المرعيةَ في قضية القصاص والأروش، ولا يغني القصاص على هذا.
هذا قولنا فيما يقابل الأصابع المقطوعة قصاصاًً في حكومة الكف.
فأما الخمسان المقابلان للأصبعين اللذين يرجع فيهما إلى الدية، فالمذهب الذي قطع به معظم أئمتنا أنه لا يرجع بما يقابل الأصبعين في حكومة الكف، لما قدمناه من أن دية الأصابع الخمس هي دية اليد المقطوعة من الكوع، فإذا اندرجت جملة الكف تحت ديات الأصابع، فليندرج البعض فيها تحت البعض؛ فإن الكل متركب من الأجزاء، والحكم الثابت للكل ينقسم على أجزائه.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن له المطالبةَ بما يقابل الإصبعين، وهذا بعيد، وإن حكاه معتمدون، ووجهه على بعده: أن كل الأصابع إن استتبعت الكف، فلا يمنع ألا يجرى ذلك في بعضٍ، ويقال: إذا وجب بعض حكومة الكف يجب تمام حكومتها، وما ذكرناه في الأصبعين اللذين ثبت ديتهما يرتب على ما يقابل الأصابع الذي جرى القصاص فيها، فإن قلنا: القصاص يستتبع، ففي الدية الخلاف الذي ذكرناه.
فهذا كلام أرسلناه، وتمامُ بيانه في آخر الفصل.
10484- ولو كان يد المجني عليه مختلّة: فكانت إصبعان شلاوان وثلاث صحيحة، ويد الجاني معتدلة الخلقة، فلا شك أنا لا نقطع يدَ الجاني من الكوع، وللمجني عليه أن يقتص من ثلاث أصابعَ ويلقطَها، من يد الجاني، ويرجعَ إلى حكومة الإصبعين الشلاوين.
ويبقى الكلام في حكومة الكف: أما ما يقابل القصاص، فعلى الخلاف المشهور، وأما ما يقابل الإصبعين الشلاوين، فالمذهب أنه يرجع بذلك القدر من حكومة الكف، وهو خمسا حكومة الكف، وأبعد بعض الأصحاب وزعم أن الأصبعين الشلاوين يستتبعان ما يقابلهما من حكومة الكف، وهما خُمسا الحكومة، وهذا الخلاف يرتّب على ما ذكرناه في الدية؛ فإن قلنا: الدية لا تستتبع، فلأن لا تستتبع الحكومةُ أولى.
وإن قلنا: الدية تستتبع، ففي الحكومة وجهان: أصحهما- أنها لا تستتبع، والفرق أن الدية أصلٌ والحكومة فرع، فلا يبعد أن يستتبع الأصل الفرعَ، فأما الحكومة، فيبعد أن تستتبع الحكومةَ.
وضبط القول فيما ذكرناه من الاستتباع يقتضي التنبه لأمور: منها أن الدية حَرِيةٌ بأن تستبع الحكومةَ، والحكومة بعيدة عن استتباع الحكومة، والقصاص على التردد من حيث إنه أصل، كما أن الدية أصل، ولكنه مخالف في وضعه للمال، فاقتضى ذلك تردداً فيه.
ومما يتعين ذكره أن الاستتباع في جملة الأصابع متجه واقع، وهو في البعض أبعد، ويتبين الآن ما أشرنا إليه بالتفصيل.
فإذا كان يد المجني عليه كاملةً معتدلة، وكانت يد الجاني زائدة بإصبع، فلا سبيل إلى قطع يد الجاني، فإذا قال المجني عليه: اغرم لي ديات أصابعي، كان كما لو قال: اغرم لي دية يدي، ولا يبين نظرٌ في الاستتباع لمكان اجتماع الدية مع فرض الكلام في جملة الأصابع.
ولو طلب المجني عليه القصاصَ في الأصابع الخمس، ففي الاستتباع وجهان، ولكن الاستتباع هاهنا أظهرُ، لجريان القصاص في جميع الأصابع. وإذا جرى تغريم الدية في بعض الأصابع، ظهر هاهنا أوّلُ الخلاف في الاستتباع، والأظهر الاستتباع.
وأما الحكومة؛ فإنها بعيدة عن الاستتباع.
هذا تمام الغرض فيما ذكرناه.
والقول في مقدار حكومة الكف مؤخر إلى كتاب الديات، ففيها نستقصي الحكومات، وسبيلَ الاعتبار فيها.
10485- ولو اشتملت يد الجاني والمجني عليه على الشلل في بعض الأصابع، فإن كان ذلك على الاستواء، جرى القصاص من الكوع، مثل أن يكون المُسبِّحة من يد كل واحد منهما شلاء، ولو اختلفت اليدان فيما ذكرناه لم يجرِ القصاصُ من الكوع، وذلك بأن تكون المُسبِّحة من إحدى اليدين شلاء، والوسطى من الأخرى، فلا يجري القصاص من الكوع، ولا تجزىء الصحيحة من يدٍ الشلاءَ من الأخرى.
وقد نجز ما أردناه من تفاوت اليدين في الزيادة، والنقصان، والخروج عن الاعتدال، وبقي منه فصل في نهاية الإعضال، وهو القول في زيادة الإصبع، ونحن نفرد هذا بفصلٍ بعد هذا، جرياً على تفصيل السواد.
فصل:
قال: "لو سأل القودَ ساعةَ قُطع أصبعه أقدتُه... إلى آخره".
10486- من قطع طرفاً أو أطرافاً من إنسان، واستوجب القصاص فيها، فسأل المجنيُّ عليه القودَ من ساعته، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه يجاب إلى ذلك، ويمكّن من الاقتصاص على جزئه، وذلك أن القصاص لا يسقط في الأطراف بتقدير سِراياتها إلى النفس، وقد مهدنا في أول الكتاب أن القصاص لا يندرج تحت القصاص في النفس، وإنما تندرج الأطراف تحت النفس في الدية، وإذا كان كذلك، فالوجهُ إسعافُ طالب القصاص بحقّه على الفور.
قال شيخي: قلنا للققال: إذا قطع الجاني اليد في المساء، فطلب المجني عليه القصاص في حَمارّة القيظ، وقد يغلب على الظن أن ذلك مهلك في هذا الوقت، فهل نجيب طالب القصاص، أو نؤخر حق الاقتصاص إلى مثل الزمان الذي جرت الجناية فيه؟ فتردد القفال، واستقر جوابه على أنا لا نؤخر ولا نبالي بما يؤدي القطع إليه.
ولو قطع رجل يدي رجل، وتركه حتى اندمل ما به من جرح، ثم قطع رجليه، ثم تركه حتى اندمل، ثم والى القطعَ حتى ما فضل منه أعضاء مع تخلل الاندمال، فإذا جاء المجني عليه يطلب القصاص، أسعفناه بما يطلبه، ومكّنّاه من استيفاء القصاص وِلاءً في الأطراف، وإن جرت الجناية مفرقة.
وقال بعض أصحابنا: من جنى على طرف أو أطراف لم نقصّ المجني عليه ما لم تندمل تلك الجراحات، كما سنذكر مثل ذلك في الدية.
وهذا بعيد لا أعرف له وجهاً، ولكن حكاه معتَمدٌ في الحكاية والنقل.
10487- ثم لو آل الأمر إلى المال، فطلب المجني عليه المالَ، فظاهر النص للشافعي في الكتب: أنا نتوقف إلى الاندمال، وقال في السيد إذا جنى على مكاتَبه: "إن الأرش يتعجل على المولى، ليصرف إلى جهة التحرير"؛ فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: التعجيل وإسعاف الطالب بحقه من المال؛ قياساً على القصاص في المذهب الظاهر. والقول الثاني- أنا نتوقف؛ فإن الجراحات قد تسري، فتصير نفساً، فيختلف قدر المال، فالوجه التوقف إلى أن يبين حكمُ المال.
فإن قلنا: نقدم له ما يطلبه من حق المال، ففي القدر الذي نُكلّف الجاني تعجيلَه قولان:
أحدهما: أنا نكلفه تعجيلَ ديات الأطراف، فإن سرت وأدت إلى الهلاك، استرددنا حينئذٍ ما يزيد على الدية الواحدة، وليس ذلك بدعاً في أصول الشريعة، فإنا قد نغرّم المعتدي قيمة عبدٍ غصبه إذا أبق؛ للحيلولة الناجزة، ثم إذا آب العبد، رددنا القيمة واسترددناه، فإذا كنا نغرّم القيمة لتنجُّز الحيلولة، فلأن نغرّم أروشَ الأطراف، وقد تنجز فواتُها أولى. والقول الثاني- أنا لا نعجل إلا ديةً واحدة؛ فإن الجراحات سارية، وهي محمولة على السرايات إلى الزهوق.
وإذا جمعنا ما أخّرنا إلى ما قدمنا، انتظم منه أقوال: أحدها: أنّا نقدّم الأروشى كلَّها، ثم ننظر ما يكون. والقول الثاني- أنا لا نقدّم إلا ديةَ النفس.
والقول الثالث: أنا لا نقدّم الأرش ما لم تندمل الجراحة.
فإن قيل: ما وجه هذا القول، وما محمله والأروش لا تنحط عن الدية؟ قلنا: قد يشارك هذا الجاني أعدادٌ من الجناة، ثم تسري الجنايات إلى الموت، فلا يخص الجاني إلا جُزءٌ من مائة جزء مثلاً، وإذا أمكن تقدير هذا، ولا ضبط ولا مردّ، فالوجه التوقف في الجميع.
فأعدل الأقوال إجابة الطالب إلى دية واحدة، فإن حَمْلَه السريان على الزهوق ليس بدعاً، وتصوير الاشتراك نادر، ولا وجه للحمل على النوادر، فإن هذه طريقة الأصحاب.
ومن أئمتنا من أقر النصوص في مواضعها، ولم ير تعجيل شيء من الدية قبل الاندمال إلا في مسألة المكاتَب، والسبب فيه أن الكتابة موضوعُها على تعجيل عَتاقة المكاتَب، ولذلك قطعنا بأنه لو جاء المكاتَب بالنجم قبل محِله، أُجبر السيد على قبوله. وإذا جاء من عليه الدين المؤجل بالدين قبل محِله، ففي إجبار مستحقه على القبول قولان، والفارق ما أشرنا إليه.
ومن سلك هذا المسلك اختلفوا في تنزيل هذا الكلام في المكاتب: فمنهم من حمله على النجم الأخير وفرض أرشا يكمل به النجوم، حتى لو لم يكن كذلك، رُدّ الأمر إلى التفصيل المذكور في الإجبار.
ومن أصحابنا من طرد هذا في جميع الأقساط والنجومِ، وهذا ظاهر النص.
فإن قيل: أي فائدة لتعجيل أرش المكاتب، ولو كانت الأروش زائدة على القيمة، فأدت السراية إلى الهلاك، رجعت إلى القيمة، وبيّنا أن ما حكمنا به في الزائد على القيمة منقوص، وإنما يقع الحكم بموجَب المآل؟ قلنا: نعم، الأمر كذلك، ولهذا لم يُصحح الأئمة إلا طريقة الأقوال مع الاطراد في الحر والمكاتب.
10488- ومن تمام الفصل أن الجراحة لو كانت جراحةَ حكومة، لم يختلف أصحابنا المعتبرون في التوقف إلى أن تبين عاقبة الأمر، والسبب فيه أنها غيرُ مقدّرة، ولا يبين أمرها إلا عند منتهاها.
وحكى شيخي أن من أصحابنا من قال: يُسعَفُ المجني عليه بأقلِّ حكومة تعرض، وهذا يُعتمد.
وسيكون لنا على حال إلى هذا الفصل عودة في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو كان للقاطع ست أصابع... إلى آخره".
10489- مضمون الفصل كلامه في الإصبع الزائدة، ونحن نذكر حكمها، لو كانت على يد الجاني مع اعتدال خَلْق المجني عليه. وحكمَها لو كانت على يد المجني عليه مع اعتدال خَلْق الجاني.
فإن كانت على يد المجني عليه، فقطعها الجاني من الكوع، قطعنا يد الجاني، وغرمناه أرش الإصبع الزائدة.
ولو كانت على يد الجاني، لم نقطع يده؛ لمكان تلك الزيادة.
ولو أراد المجني عليه أن يلقط أصابعه الأصلية، نظر: فإن كانت الزيادة مائلةً عن سمت منابت الأصليات، تركناها وقطعنا الأصابع الأصلية قصاصاًً.
وإن كانت الإصبع الزائدة على سَنَن الأصليات واستواء منابتها، فإن كانت غيرَ ملتبسةٍ بالأصليات، وكان استيفاء الأصليات مع إبقائها ممكناً، فللمجني عليه استيفاؤها، وفي حكومة الكف من التفصيل ما قدمناه، لمّا ذكرنا الاختلاف في أن القصاص في الأصابع هل يستتبع أقدارها من حكومة الكف.
وإن كان قطْعُ بعض الأصليات يؤدي إلى فسادٍ للزيادة، لم يجر القصاص فيما يؤدي قطعه إلى إتلاف الإصبع الزائدة. وكل ذلك بيِّن في الأصول التي سبق تمهيدها.
10490-وإنما المشكل من هذا الفصل صورتان: إحداهما- أن الجاني لو كانت له ست أصابع، وقال أهل البصر: لا ندري أن أصبعاً واحدة زائدة فيها، وهي ملتبسة بها، أو الأصابع الست أصليات، والطبيعة قسمت مادةَ الأصابع بتقدير العزيز العليم ستةَ أجزاء على استواءٍ في القوى والعمل، وهي على الاعتياد تنقسم من غير هذا الشخص خمسةَ أقسام، هذه صورة.
الصورة الأخرى- أن يحكم أهل البصائر أنها أصليات، انقسمت ستةَ أقسام. ونحن نتكلم في كل صورة بما يليق بها، إن شاء الله عز وجل.
10491- فأما إذا جوزنا أن تكون واحدة زائدة، وخمس أصليات، وجوزنا أن يكنَّ أصليات، فإذا كان الجاني بهذه الصفة، وكان قطَعَ يداً معتدلة من الكوع، فلا نقطع هذه اليدَ من الجاني، قال الأئمة: لا نمكّن المجنيَّ عليه من لقط خمسِ أصابعَ من يد الجاني، لأصلٍ متفق عليه بين الأصحاب، وهو أن الإصبع الزائدة لا تقطع بأصلية، وإن تدانيا في المنبت، ولا تقطع بها أصلية، وليست الزائدة كالإصبع الشلاء، والسبب في ذلك أن الاختلاف في الأطراف يمنع إجراء القصاص، ولهذا لا نقطع خِنصراً ببنصر، ويُسرى بيُمنى، وليست الزائدة كالشلاء؛ فإن الشلاء أصلية نابَها الشّلل، واختلاف الصفة لا يوجب اختلاف الجنس.
فإذا تقدم ذلك، فنحن نجوّز أنا لو قطعنا خمساً من أصابع الجاني أن تكون واحدة منها زائدة، ولا تكون مجزئةً في مقابلتها بأصلية.
هذا هو السبب في المنع عن الإقدام على قطع خمس أصابع، فإن كل واحدة يُفرض الإقدام عليها يصدق أن يقال: إنها الزائدة، وهذا بيّن.
ثم بنى الأصحاب على هذا، فقالوا: لو ابتدر المجني عليه في هذه الصورة، وهي صورة الإشكال، فقطع خمسَ أصابعَ وِلاءً، ثم قلنا: الأصابع التي قطعتها هي أصابعك من غير زيادةٍ هي ولا نقصان؛ فإنا نجوّز أن تكون أصلية، والزائدة هي التي أبقيتها، ويجوز غيرُ ذلك، فلا لك ولا عليك.
فإن قال: لم تقطعوا له حقي عليه في الكف الذي عليه الأصابع، والأصل بقاء استحقاقي. قلنا: نعم، ولم نأمر؛ إنك استوفيت حقك، وأنت جَرَرْتَ إلى نفسك هذا؛ فإن قدرناك غير مستوفٍ حقك وقد قطعت-والشرعُ لا يعطل القطع- عارضه إمكان القطع موفياً حقك، فلا وجه إلا ردُّ الأمر إلى النظر في حكومة الكف، وقد مضى القول فيه.
10492- فأما إذا قال أهل البصيرة: الأصابع أصلية، ولكنها انقسمت ستة أقسام، فقد قطع أئمتنا بأن القصاص يجري فيها؛ فإن التفاوت في الانقسام مع الحكم بتأصل الأصابع لا يوجب اختلافاً في الجنس، وسنذكر بعد هذا أن الإصبع إذا كان على رأسها أنملتان مستندتان، وعاملتان، فهما أصليتان، فلو قطعهما معتدلٌ في الخلقة، قطعنا الأنملة العليا منه، وألزمناه زيادة حكومة.
وقالوا: لو كان هذا الانقسام في الأصابع في يد المجني عليه ويدُ الجاني معتدلة، قطعنا يد الجاني بيد المجني عليه، وألزمناه زيادة الحكومة، فقد تحقق أن الانقسام لا يُثبت اختلافاً يمنع من التقابل في حكم القصاص.
فنعود بعد هذا إلى فرض هذه الزيادة في يد الجاني، فنقول: إذا أراد المجني عليه أن يقطع خمس أصابع من يد الجاني، فله ذلك، سنصف ونقول: ينبغي أن يكون قطع هذه الخمسة على وِلاء، فيقع واحدٌ منها على الطرف لا محالة، والذي يختلج في النفس لا محالة، فمن دقّة النظر إيثار منع القصاص، فإن الأصابع الست انقسمت على نظمٍ يخالف نظمَ الخمس المعتدلة، فالقطع منها يغمض.
نعم، لو قطعها قاطع، لم يغمض قطع الخمس بها، كما ذكرناه في قطع أنملة معتدلة بالأنملتين. وهذا هو الذي يختلج في الصدر، والاحتمال فيه واقع.
ولكن ما رأيناه للأصحاب، هذا الذي نقلناه.
ثم إذا تعدينا هذا الكلام بعده في الرجوع بمزيد، فإذا قطع المجني عليه خمسَ أصابع من يد الجاني، فلا شك أن حقه لم يتوفر عليه، وليس كالصورة التي قدمت، وهي إذا قطعنا أن واحدة زائدة وخمساً أصلية؛ فالأصابع الخمس تقع خمسة أسداس، وأصابع المجني عليه كانت على كمالها، فنُثبت له مع قطع الخمس رجوعاً إلى شيء، وظاهر هذا التقدير يقتضي أن نثبت مع قطع الخمس دية الإصبع ونحن نقدر هذا ونحط منه بالاجتهاد؛ فإن الأصابع التي قطعناها من يد الجاني خمسٌ في الصورة مشابهةً خمساً معتدلة، فكان ذلك مقتضياً مزيةً وزيادةً على نسبة التسديس، وسنذكر لهذا نظائر في الأنامل، والذكرين، وغيرها، ثم ذلك الذي نحطّه من السدس مفوّض إلى رأي المجتهد.
هذا تمام المراد ونحن نهذبه بمسائل:
10493- فإذا قطع مَنْ أصابعه منقسمة ستةَ أقسام إصبعاً أصلية، قطعنا من تلك الجهة إصبعاً من أصابعه، وألزمناه ما بين الخُمس والسدس مع حطيطةِ مقدارٍ لما نبهنا عليه.
ولو قطع رجل معتدل الخلق إصبعاً من هذه الأصابع الست، لم نقطع أصبعاً من الجاني وتعليله بيّن، ولكنا نُلزم الجاني سدس دية اليد مع مزيدٍ لزيادة الخلقة في الصورة، وستأتي أمثلة ذلك في الأنامل وغيرها.
ولو قطع المعتدل إصبعاً من الأصابع الست، فقد ذكرنا أنه لا تقطع إصبع من أصابع هذا المعتدل، فلو ابتدرها المجني عليه وقطعها، كان هذا عندنا بمثابة ما لو كانت إصبع المجني عليه شلاء وإصبع الجاني سليمة، فابتدر المجني عليه الإصبع السليمة، وقطعها، فهل يقع قصاصاًً، وكيف الحكم؟ هذا مما تقدم ذكره.
وقد انتهى الكلام في الفصل ولم يبق فيه إشكال في النقل، وفي الاحتمال ما نبهت عليه.
فصل:
10494- إذا كان لإصبعٍ أربعُ أنامل، نظر فيها، وقيل: إن لم يزد طولها على طول الأصابع، فلا زيادةَ في الخلقة، وإنما الزيادة في تفصيل المفاصل، وتعدد الأنامل، فإذا قطعَ هذا الشخص إصبعَ إنسان، وكانت مثل إصبعه، فإن كانتا مسبّحتين مثلاً فإنا نقطع الإصبع من الجاني، وإن زاد عدد أناملها؛ فإنه لا زيادة، ولكن انقسمت إصبعه أرباعاً، وانقسمت إصبع الرجل المعتدل أثلاثاً، فلا تفاوت في أصل الخلقة وإنما التفاوت في أعداد الأقسام، وكيفية الانقسام.
والذي صار إليه الجمهور أن الإصبع المربعة إذا كانت في يد الجاني، فقطع أنملة من إصبع معتدلة، قطعنا أنملة من إصبعه، وألزمناه مع القصاص مزيداً، وهو ما بين الربع إلى الثلث من دية إصبع، فإن قطع أنملتين من إصبع معتدلة، قطعنا أنملتين من إصبعه المربعة، وألزمناه مع القصاص ما بين النصف إلى الثلثين من دية إصبع، فإن استأصل الإصبع المعتدلة من أصلها، قطعنا إصبعه المربعة، فاكتفينا بالقصاص؛ فإن جملة الإصبع الآن تقابل جملة الإصبع من يد المجني عليه، وأربعة الأرباع تعدل ثلاثة الأثلاث، وإنما كان يطرأ التفاوت والقطعُ في الأجزاء، فإذا رجع الأمر إلى مقابلة الجملة بالجملة، زال التفاوت.
وإذا جنى مَنْ إصبعه معتدلة، على من إصبعه مربعة، فإذا قطع الأنملة العليا، لم نقطع الأنملة العليا من إصبع الجاني؛ فإنا لو فعلنا هذا كنا مقابلين ثلثاً بربع، فإن قطع أنملتين من الإصبع المربعة، قطعنا أنملة من إصبعه المثلثة، وألزمنا الجاني ما بين الثلث إلى النصف، وهو سدس دية الإصبع.
وإن قطع ثلاثة أنامل من الإصبع المربعة، قطعنا أنملتين من إصبع الجاني وألزمناه ما بين الثلثين إلى ثلاثة أرباع، وهو نصف سدس دية إصبع.
وإن قطع الجاني الإصبع المربعة من أصلها، قطعنا إصبعه، واكتفينا؛ فإن جملة الإصبع مقابلة بجملة الإصبع الأخرى، وإنما التفاضل بين الأجزاء، كما سبق.
10495- وكل ما ذكرناه فيه إذا انقسمت الإصبع أربعةَ أقسام، ولم يزد طولها، فإن زاد طولها، ظهر في الظن أنها إصبع وزيادة أنملة، فيجب الحكم بزيادة ذلك، ثم الأنملة الزائدة قد تساوي بقية الأنامل في النضارة والانصياع للعمل، وقد تكون الأنملة العليا مستحشفة ساقطةَ العمل، أو ضعيفة العمل، فيظهر أنها شلاء، أو زائدة على التعين، ولا شك أنا إذا اعتقدنا مزيداً نوجب في الإصبع إذا قطعت دية إصبع وزيادة.
ولو قطع صاحب هذه الإصبع إصبعاً معتدلة، لم نقطع إصبعه من أصلها بالإصبع المعتدلة، لمكان الزيادة التي اعتقدناها، ولو قُطعت هذه الإصبع، فالقول في الزائد على دية إصبع يختلف، كما نبهنا عليه: فإن كانت الزيادة ضعيفة مستحشفة، فالزيادة على قدرها، وإن كانت قوية، كانت الزيادة أكثر، وإذا لم يكن فرقٌ، استوت الأنامل ونزلت منزلةَ الأصابع الست، التي اعتقدناها أصلية، وقدرنا مادةَ الأصابع منقسمة ستة أقسام، فلو قطعت أنملة من الأنامل الأربع، وهي متساوية، أوجبنا ربعَ دية إصبع وزيادة، وهكذا إلى الاستيعاب، كما نوجب في إصبع من الأصابع الست التي استشهدنا بها سدس دية يدٍ، وزيادة.
ولا يبعد أن نقول: صادفت القوة المدبرة بإذن الله تعالى مزيد مادة فزادت الإصبع قسماً، ثم لا فائدة في قول القائل: الزائدة في الأنامل أيتها؟؛ فإنه إن أراد بذلك طلب حكم في القصاص والدية، فلا فرق بين أنملة وأنملة، وإن أراد اطلاعاً على حقيقة الخلقة قيل له: لا فرق بين الأنامل في الخلقة، ولا سبيل إلى تعيين واحدة للزيادة.
فهذا منتهى المراد في ذلك.
10496- ولو تصورت الإصبع بالصورة التي ذكرناها وهي الزيادة في العدد والطول، فلو قطع صاحبها أنملة من إصبع معتدلة، قطعنا أنملة منه؛ فإن أنملته لا تزيد على ثُلث إصبع وإن كان يعترض في دقة النظر شيء، فهو كما ذكرناه من مقابلة إصبع معتدلة بإصبع من الأصابع الستة، وقد قدمت النقلَ والاحتمال.
ولو قطع صاحب الإصبع الموصوفة بالزيادة إصبعاً معتدلة، فلا تقطع الإصبع التي وصفناها من أصلها؛ فنكون زائدين في الاقتصاص على قدر الجناية.
ولكن هل نقطع ثلاثَ أنامل، ثم ننظر إلى التفاوت؟ هذا موضع النظر عندنا؛ فإن محل القطع متفاوت؛ فإن الجناية اتصلت بمركب الإصبع من الكف، والأمر في هذه الإصبع بخلاف تلك، ولكن الأصل أن نقطع ثلاث أنامل من إصبعه، ونرجع إلى مزيدٍ، فنسلمه إلى المجني عليه. وإن كان المحذور اختلافَ موقع الحديدة، فهذا سائغ في مذهبنا؛ فإنا نقول: إذا كانت يد الجاني زائدة بإصبع، لقطنا أصابعه الخمس، ولم نقطع يده من الكوع، لمكان الإصبع الزائدة.
10497- ومما يطرى في المسألة أنا لو صادفنا إصبعاً فيها أنملتان، ولكنها على طول الأصابع، فيجوز أن يقال: إنها إصبع واحدة، انقسمت بنصفين.
والمقصودُ في ذلك لا يتبين إلا بشيء هو في نفسه من أغراض الفصل، وذلك أن إصبعاً من الأصابع لو كانت أعداد أناملها على الاعتدال، ولكنها كانت أقصرَ من سائر الأصابع، وهي عاملة، فما نبهنا عليه أن قصر الأنامل لا يَنْقُص ديتَها عن أرش إصبع نظراً إلى تمام العدد، وحصول العمل.
ولو كانت الإصبع مثلّثة، ولكن أناملها طوال، فالإصبع زائدة في الطول؛ لا لزيادة أنملة، ولكن لزيادة طول الأنامل، فالوجه ألاّ نزيد حكومةً لهذا السبب.
وإذا بان هذا، قلنا: إذا صادفنا إصبعاً بأنملتين اعترض لنا خاطران:
أحدهما: أنه إصبع ذو قسمين؛ فإنه على طول سائر الأصابع.
والثاني: أنهما أنملتان طويلتان، وقد ذكرنا أن طول الأنملة لا يُثبت مزيداً، وإذا اعترض هذان، فالأظهر منهما أنها إصبع تامة ما نقص قسم منها، فكانت كإصبع مربعة، ثم تربعُّ الإصبع مع المساواة في الطول، لم يقتض مزيداً؛ فتنصّفُه مع الطول المساوي لا يقتضي نقصاناً. وأبو حنيفة لما اعتقد الإبهام ذا أنملتين، أوجب في كل أنملة نصف دية الإصبع.
ويحتمل غير ذلك بتأويل الحمل على نقصان الإصبع بأنملة، وازدياد الأنملتين الكائنتين طولاً، وينضم إليه الاستمساك ببراءة الذمة، وليس معنا في هذه الصورة نقل مُحصِّل.
والأظهر تكميل الدية، نظراً إلى الطول.
فإن قيل: ظهر سقوط منفعةٍ بنقصان أنملة؟ قلنا: قد نتخيل سقوط منفعة الاستداد في تربع الأنامل؛ فإن كمال الخلقة إذا كان يقتضي تثليثاً، فالتربيع يَنْقُصُ معنى مقصوداً كالتنصيف.
فهذا منتهى النظر في ذلك.
10498- ولو فرضنا أصبعاً لا تفاصيل فيها، فالأظهر عندي نقصان شطرٍ من الدية؛ فإن الانثناء بالكلية إذا زال، سقط معظم منفعة الإصبع في الاحتواء والقبض، وهذا يسهل سبيل التنقيص في انقسام الإصبع نصفين. والعلم عند الله.
وفي بعض التصانيف تردد في شيء لابد من التنبه له، وهو أن الإصبع إذا كانت مربعة وطولها كطول الأصابع؛ فإنها لا تقطع بالإصبع المثلثة المعتدلة، وهذا لم أره لأحد، ثم في كلامه تناقض، فإنه أَثبت في كل أنملة رُبعَ دية الإصبع، وهذا يناقض ما ذكره في الامتناع عن مقابلة هذه الإصبع بالإصبع المثلثة، وهذا التناقض يحدث، ويقال بعده: لا يمتنع في مسالك الظنون أن يقال: الإصبع المربعة زائدة بأنملة، ولكن أناملها قصار، وهذا وإن كان خلافَ ما قاله الأصحاب، فهو إلى حالٍ يشير إلى مسلكٍ في الظن، لو ساغ القول به لعُدّ وجهاً بيناً، ولكن الجمع بين هذا الاعتقاد وبين مقابلة كل أنملة بالربع من غير مزيدٍ تناقض محذوف.
وقد نجز تمام الغرض في الفصل بحثاً ونقلاً.
فصل:
قال: "ولو قطع أنملة لها طرفإن... إلى آخره".
10499- إذا كان على رأس إصبع إنسان أنملتان، فإن كانت إحداهما أصلية مستدّة عاملة، والأخرى زائدة مائلة، ففي الأصلية الأرش الكامل، وفي الزائدة الحكومة، ثم إذا قطع صاحبُ هذه الإصبع الأنملة العليا من معتدل، اكتفينا بقطع أنملتِه الأصلية، ولو قطع معتدلٌ أنملته المعتدلة، قُطعت أنملته بها، وإن انتقل الأمر إلى المال، ففيها الأرش الكامل.
وإن كانت الأنملتان منتصبتان عاملتان لا تتميز إحداهما عن الأخرى، فالقول فيهما يقرب من القول في الأصابع الست الأصلية، التي حُمل المزيد في عددها على زيادة الانقسام، فإن قطع معتدلٌ إحدى الأنملتين، لم تقطع أنملته، وإن قطعهما، قطعنا أنملته، وألزمنا مزيداً لزيادة الخلقة، وقد سبق نظير ذلك في الأصابع الست.
ولو كان الجاني صاحب الأنملتين، فإذا قطع الأنملة العليا من معتدل، لم نقطع أنملتيه لمكان الزيادة، ولكنا نقطع أنملة واحدة من الأنملتين، ونلزمه مع القصاص شيئاًً من الأرش. فإن قيل: تُبلِّغون ذلك الشيءَ نصفَ أرش أنملة؟ قلنا: لا نرى ذلك، بل نقول: ننقص من نصف الأرش، والسبب فيه أن الذي قطعناه قصاصاًً على صورة أنملة، فاقتضى ذلك مزيداً على الشطر، وإذا كان كذلك، فقد زاد القصاص على شطر الأنملة المعتدلة، فكان الباقي أقلَّ من الشطر، فناسب إلزامه شيئاًً يقل عن نصف أرش الأنملة المعتدلة، والنظر فيه إلى المجتهد.
ومن عجيب ما يعن في هذه المسألة أنا إذا كنا نجري القصاص في إحدى الأنملتين، فنرى الأمر على الخيار في هذا؛ إذ ليست إحدى الأنملتين أولى من الأخرى، والأنملة المعتدلة ذات شطرين، وكل أنملة من الأنملتين يضاهيها شطر، فإذا استوى الأمران، فليت شعري يُخيّر المقتصُّ أم المقتص منه؟ وكيف النظر فيه؟ الوجه عندنا يخيّر المقتص المستوفي؛ لأن استحقاقه متعلق بهما على البدل، وإنما الممتنع استيفاؤهما.
وما ذكرناه في الأنملتين فيه إذا نبتتا على رأس الأنملة الوسطى.
10500- ولو لقي رأسَ الأنملة الوسطى عظمٌ، ثم انشعب بعد الاتحاد، فهذه صورة أخرى، فإن كان مركب الأنملة المشعَّبة عظماً واحداً ولم يكن له شعبة تنفصل على مركبه، فلا يتصور إجراء القصاص؛ فإن العظام لا تقطع في القصاص وإن كان لكلّ شعبة مفصل من مركبه، فذلك المركب الحائل بين الشعبتين وبين الأنملة الوسطى أنملة زائدة، فيتصل الكلام بإصبع ذات أربع أنامل في الطول، وأنملته العليا متشعبة، وإذا أدخلناها في العدد، قلنا: ذات خمس أنامل.
ولا يبقى مع ما مهدناه إشكال، إن شاء الله عز وجل.
10501- ولو كان على الساق قدمان، فالقول فيهما كالقول في الأنملتين، فإن كانت إحداهما أصلية والأخرى زائدة، لم يخف الحكم، وإن كانتا عاملتين ولا تميز بينها كالأنملتين، فواجبهما نصف الدية وزيادة، كما أن موجب الأنملتين ثلث دية إصبع وزيادة.
ثم التفاصيل في الاقتصاص وتقدير الأرش على حسب ما تقدم في الأنملتين، غير أن المعتبر ثمَّ ثلثُ دية الإصبع، والمزيد منسوب إليه، والمعتبر هاهنا نصفُ دية النفس، والمزيد منسوب إليه، والكفان على ساعدٍ على هذا النحو، فلا حاجة إلى الإعادة.
فصل:
قال: "ولو قطع أنمل من طرفٍ، ومن آخَر الوسطى... إلى آخره".
10502- صورة المسألة أن يقطع الأنملة العليا من شخص، والوسطى من آخَرَ لا عليا له، فيجب القصاص مع إمكان الاستيفاء في أنملته العليا، مهما طالب صاحب الأنملة العليا أجيب، فاقتصّ، وصاحب الوسطى لو أراد الابتداء بالمطالبة، لم يُجَب؛ فإن الوسطى منه قطعت ولا عليا عليها، ولو قطعنا الوسطى من الجاني قبل استيفاء العليا، كنا متلفين أنملتين في مقابلة أنملة، ولا سبيل إلى هذا.
والوجه أن نذكر مسلك الأصحاب، ثم نختتم الفصل بمباحثة القفال رضي الله عنه، فنقول: إن قطعنا الأنملة العليا قصاصاًً، ثم قطعنا الوسطى عن الوسطى قصاصاًً، فقد ترتب الأمر.
وإن لم يطلب صاحب العليا، وطلب صاحبُ الوسطى، لم نجبه إلى ذلك، فلو
قال: إذ حُلْتم بيني وبين القصاص، فادفعوا إليّ المال للحيلولة، فهل يجاب إلى المال؟ فيه خلافٌ مشهور بين الأصحاب، وقد ذكروا رضي الله عنهم أحكاماً، وصاغوا لها صيغاً وطردوا الاختلاف فيها، وجميعها تدور على معنى واحد:
قالوا: لو أخذ المال، ثم سقطت الأنملة العليا، فهل يردّ المال ويطلب القصاصَ؟ فعلى وجهين، سبقت لهما نظائر في الغرامات، والمراجعات في أرش العيب القديم في المبيع، فلا حاجة إلى إعادتها.
قالوا: وهل له طلب المال من غير عفو؟ فعلى وجهين.
وقالوا: نفس أخْذ المال هل يكون عفواً منه عن القصاص؟ فعلى وجهين، وجميع ذلك يرجع إلى ما ذكرناه من أن الحيلولة في القصاص هل تُثبت حق الرجوع إلى المال؟ فإن لم تَثْبُت الحيلولةُ مقتضيةً لذلك، لم يُجب إذا طالب، وإن قنع بالمال، لم يرجع إلى القصاص، وأَخْذُه المطلق للمال عفو.
قال الشيخ أبو بكر: إذا قَتَلت المرأةُ، واستوجبت القصاص وهي حامل، فهل لمستحق القصاص طلبُ المال للحيلولة؟ قال: فيه احتمال، كمسألة الأنملة التي نحن فيها.
والذي يقتضيه الترتيب اتخاذ نص الشافعي أصلاً في الباب، ثم تنزيل المسائل على مراتبها.
قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا قُتل إنسان وخلف ابناً مجنوناً، فلا سبيل إلى استيفاء حقه من القصاص في حالة الجنون؛ فإن استيفاء القصاص لا يدخل تحت الولايات"، ثم قال الشافعي: "لو أراد ولي المجنون أن يأخذ المال، كان له ذلك".
هذا هو النص، وذكر بعض الأصحاب فيه تخريجاً.
وما ذكره الشافعي متجه، من جهة أن الجنون ليس له حدّ، وقد ينتهي إلى اليأس من الزوال، ولو لم نجوّز أخْذَ المال، ولا سبيل إلى استيفاء القصاص، لكان هذا قريباً من التعطيل. هذا وجه النص، ثم إذا جرينا عليه، وأثبتنا تغريمَ من عليه القصاص المالَ، فلو زال الجنون، ففي العَوْد إلى القصاص وردّ المال خلاف مشهور.
ولو كان القصاص ثابتاً لصبي، فبلوغه منتظر، ثم الذي ذكره الأصحاب أن الولي لا يطلب المال، فإن الصِّبا له حدّ، وما ذكره الصيدلاني في الحامل يضاهي ما ذكرناه في الصبي؛ فإن وضع الحمل منتظر كزوال الصبا.
ومسألة الأنملة العليا والوسطى دون الجنون، من قِبل أن الجنون لا يتعلّق بزواله انتظار ثابت، وثبوت الاقتصاص في الوسطى متعلق بضربٍ من الترقب؛ فإن الظاهر أن صاحب القصاص في العليا يطلب حقه، ولكن ليس له مردّ بخلاف الحمل والصبا، وليس ببعيدٍ عن الترقب، بخلاف الجنون. نعم، لو عفا صاحب الأنملة العليا، التحقت المسألة في الوسطى بمسألة المجنون؛ إذ لا ترتب إلا من جهة سقوط الأنملة العليا بآفة، وسبيل الانتظار في هذا كسبيل الانتظار في زوال الجنون، فلئن انقدح طلب المال في مسألة الحامل، فلابد من طردها في الصبي، ثم لا يخفى بعد ما ذكرناه ترتيب المراتب وتنزيلها على حقائقها.
هذا استقصاء ما ذكره الأصحاب.
10503- فأما المباحثة التي جرت للقفال، قال شيخي: قلنا للقفال: إذا قَطَع الوسطى ممن لا عليا له، وإصبع الجاني سليمة، فلا نجيب المجني عليه إلى طلب القصاص، ولو سقطت الأنملة العليا، فهل نقول: لا قصاص الآن أيضاًً؛ فإن الجناية جرت والقصاص غيرُ ممكن حالةَ جريانها؟ فقال: المسألة محتملة، فلا يبعد أن يسقط القصاص رأساً، بخلاف ما إذا جنت الحامل؛ فإنا ننتظر وضعها، إذ الحمل كان طارئاً على الخلقة، والأنملة العليا من أصل خلقة الجاني.
وهذا التردد الذي ذكره القفال رضي الله عنه فيه إذا لم يقطع إلا الوسطى وأصبعه كاملة، فأما إذا قطع العليا، ثم قطع الوسطى ممن لا عليا له، فليس هذا موضع تردد القفال، فإن العليا كأنها مقطوعة، من جهة أنها مستحَقة لصاحب العليا.
قال شيخي: لو قطع رجل سليمُ اليدين يداً شلاء، فلا قصاص، ولو شَلّت يد القاطع وساوت اليدَ المقطوعة، فقال المقطوع: الآن أطلب القصاص، فهل له ذلك؟ قال: القفالُ خرّجه على الوجهين المذكورين في الأنملة الوسطى، ثم رجع عن هذا التردد، وقطع القولَ بأن اليد التي شَلَّت، وكانت سليمة عند الجناية لا تقطع، فإن الكمال بالسلامة مَنَع وجوب القصاص، فإن الصفة لا يقدّر تميّزها عن الموصوف، والأنملة العليا ليست صفة للوسطى.
ولو قتل حر كافر ذميٌّ عبداً كافراً، ثم نقض العهدَ الذميُّ، فأُرق، لم يجرِ القصاص عند طريان الرق، وإن حصلت المساواة.
ولا وجه إلا تخصيص الخلاف بالأنملة في الصورة التي قصصناها عليك، وما ذكره في الشلل لا يعتدّ به، ولا يعدّ من المذهب.
10504- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا أُقيد يمنى بيسرى"، وهو كما قال، والسبب فيه بعد الإجماع أن الاتفاق في المحل والاسم لابد منه، ولهذا لم يُقطع الإبهام بالسبابة والخنصر بالبنصر، وهذا واضح.
فصل:
قال: "ولو قَلَع سنه، أو قطع أذنه ثم إن ذلك المقطوع منه. ألصقه... إلى آخره".
10505- مضمون هذا الفصل ثلاثةُ أشياء، سبق أهمُّها، ونحن نقتصر على إشارة إليه. والثاني يتعلق بأمرٍ تقدم استقصاؤه في كتاب الصلاة. والثالث: متعلق بأمرٍ سيأتي في أحكام الجنايات.
فأما الأول، فلو قطع البعضَ من أذن إنسان، فإن أبأنه، أوجبنا القصاص فيه، ونسبنا المقطوعَ إلى الباقي؛ فإن كان المقطوع نصفاً، قطعنا النصف من أذن الجاني على ذلك الحدّ، لم يختلف الأصحاب فيه. وإن قطع الجاني البعضَ، ولم يُبن، فقد ذكرتُ ذلك في المراتب السابقة، وبقي ثلاثٌ: منها قطع بعض الأذن، ومنها المتلاحمة، ومنها قطع بعض اليد والرجل وغيرهما.
هذا هو الذي تقدم.
10506- وأما ما يتعلق المقصود منه بكتاب الصلاة، وفيه غرض بيّن من القصاص، فهو أن الرجل إذا أبان أُذنَ إنسان، فألصقها المجني عليه في حرارة الدم، فالتحمت، فكيف الحكم؟ هذا أولاً لا يتصور قطعاً، ولكن صور الفقهاء الكلامَ عليه، فنقول: إذا وجب القصاص بالإبانة، لم يُزل القصاص بما فرض من الالتصاق؛ فإن هذه الأذن وإن التصقت، فهي مستحِقة الإزالة، ولا حكم لما اتفق من الالتصاق، ولو قطع قاطع تلك الأذن، لم يستوجب القصاص بقطعها، لما ذكرناه من أنها مستحَقة للقطع، ثم سبب استحقاق القطع تنحية النجاسة لأجل الصلاة؛ فإن الأذن لما بانت، حكمنا بنجاستها، ولا يزول الحكم بالالتصاق. وحظّ الصلاة من هذا أنا إن لم نخف على صاحب الأذن، قلعنا أذنه، وإن خفنا عليه، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنا لا نقلعها حفظاً للروح
والثاني: نقلعها، ونؤول بما يجري من التلف على الملصق، ونحن نقتل تارك الصلاة.
وهذا استقصيناه في باب الصلاة بالنجاسة عند ذكرنا وصلَ الإنسان عظمَه بعظم نجس.
وقد يعترض على من يطلب التمام أنا إذا لم نحكم بنجاسة الآدمي بالموت، وجب ألا نحكم بنجاسة أجزائه إذا أُبينت، وإذا كان كذلك، فلا حاجة إلى فصل الأذن، ووجه الكشف فيه أنا مع الحكم بطهارة الآدمي على تردّد في طهارة ما يبان عنه في حياته، فإن حكمنا بالنجاسة، استمر عليه ما ذكرناه، وإن حكمنا بالطهارة، اعترض لنا بعد ذلك أنه قد يلتحم على دمٍ ظَهَرَ، وحكمنا بنجاسته ووجوب إزالته، فيعود الترتيب إلى ما ذكره الأصحاب، والأظهر أن الدم إذا استتر بما التحم عليه، سقط التكليف بإزالته.
فهذا كلام لا يتعلق بما نحن فيه، ولكن طالب الغايات قد يخرج عن مقصوده بعضَ الخروج.
ومما يتصل بهذا الفصل من حكم القصاص أن الأذن إذا التحمت وخفنا من قلعها على الملصِق، وجرينا على أنها لا تُقلع، فلو قلعها إنسان وأدى القلع إلى الهلاك، فقد قال المحققون: على القالع القصاصُ في النفس، وقد يعترض فيه أن جواز القطع أو وجوبه مختلف فيه، فلا يمنع أن يصير خلافُ العلماء شبهةً في دفع القصاص، كما قدمناه في انفراد أحد الوليين بالقتل والإشارة إلى خلاف بعض أهل المدينة، فهذا ما أردناه في ذلك.
10507- والمقصود الثالث: يتعلق بشيء استقصاؤه بين أيدينا، وهو أن من قطع النصف من أذن إنسان، وأجرينا القصاص فيه، فالتحم أذنُ المجني عليه، فقد قال القفال: لو قطعت هذه الأذن، وجب القصاص على قاطعها، وقد أجرينا القصاص في نصفها.
وهذا الفصل ليس بالهيّن، وهو يشتمل على مراتبَ منها: عود البصر بعد ظن الزوال، ومنها التحام الموضحة، ومنها نبات اللسان، ومنها عود السِّن المثغورة، ولكل مرتبة من هذه المراتب وضعٌ في الوفاق، والخلاف. وسيأتي شرحنا عليها، إن شاء الله.
ومما ذكره الأصحاب في ذلك أن من استأصل أذن إنسان إلا جلدةً منها، قالوا: القصاص يجري في المقطوع، ومالوا إلى القطع بإجراء القصاص في هذه الصورة، بخلاف ما لو انتهت الحديدة إلى نصف الأذن مثلاً، وأبقت من أصل العضو شيئاًً سوى الجلدة، وسبب قطع الأصحاب أن رعاية المماثلة ممكنة لا عسر فيها، إذا لم يبق إلا جلدة، ولا شك أنا نبقي في القصاص مثلَ تلك الجلدة.
فلو ألصق المجني عليه الأذن، فالتصقت، فليست مستحَقةً للجاني، فإنها لم يثبت لها حكم الانفصال، ثم الكلام في قطعها ثانياً ووجوب القصاص على قاطعها، كالكلام فيه إذا جرى القطع في نصف الأذن ثم التحم، والقول في هذا يتعلق بالمقصود الأخير الذي أشرنا إلى انقسام مراتب الكلام فيه.
فصل:
10508- إذا قطع رجل أذناً مثقوبةً، قال العراقيون: إن كان الثقب يَزينُ ولا يَشين، فلا مبالاة به، ويُقطع بها الأذن التي لا ثقب بها.
ولو كان أذن القاطع مخروماً، قد أزيلت منها قطعة، وبقي الخرم، وقد قطع أذناً لا خرم بها، قطعنا الأذن المخرومة، ورجعنا إلى قسطٍ من الأرش.
ولو كان الخرم بالمجني عليه، فهل نقطع أذن الجاني ولا خرم بها، وهل نقطع من أذن الجاني مقدار المساواة؟ هذا يخرّج على إجراء القصاص في بعض الأذن، وقد تفصل المذهب فيه.
ولو كان القطع-بأذن المجني عليه-خرماً يسيراً، ولم يفصل قطعةً من أذنه، قال العراقيون: لا تقطع الأذن التي لا خرم بها بهذه، إن لم ينفصل بالخرم الذي ذكرناه جزء.
ولست أرى الأمرَ كذلك؛ فإنه إذا لم يزُل من الجِرْم شيء، فرعاية الصفات مع التساوي في الذات والصحة بعيد، وإنما يؤثِّر في الأطراف التفاوتُ في القدر، والسلامة والشلل، ئم خصصوا هذا بالأذن ولم يطردوه في غيرها من الأعضاء، فلعلهم تخيلوا التعويل-في الأظهر في الأذن على الجمال؛ فإنها خَفِيةُ المنفعة، ولما أُمِرنا في الضحايا باستشراف العين والأذن، منعنا على تفصيلٍ الضحيةَ بالشَّرْقاء والخَرْقاء والعلم عند الله.
10509- ثم قال العراقيون: إذا قطع رجلٌ يدَ رجل، والأظفارُ من يد المجني عليه مُخْضرَّة زائلةُ النضارة، قطعنا يدَ الجاني، وإن كانت أظفاره سليمة، وهذا يدل على ما أشرنا إليه من النظر إلى جمال الأذن، والتعويلُ على منفعة اليد.
ثم لو لم تكن لأصابع المجني عليه أظفار، لم تقطع يد الجاني، ونقلوا هذا عن نص الشافعي، وهذا محتملٌ جداً، والقياسُ إجراء القصاص؛ فإن الأظفار.................................
لا تظهر منافعها إلا مع الاحتيال، ويلزم على قياس النص أن لا تكمل دية إصبع سقط ظفرها، وهذا بعيد، وليس له ذكر في طريق المراوزة.
فصل:
قال: "ويقاد بذكر رجلٍ وشيخٍ... إلى آخره".
10510- الذكر عضو قصاص، وذكر الفحل يقابله ذكر الخَصي، والعنّين، والصبي، والشيخ الهرم؛ فإن التفاوت في مراتب الانتفاع لو أسقطَ القصاصَ، لجرّ ذلك عمايةً، ونزاعاً دائماً في مَدْرأة القصاص، وظهورُ هذا مُغنٍ عن كشفه، ولا نقطع ذكراً سليماً لا شلل به بذكرٍ أشلّ. وقيل: الذكر الأشل هو الذي ينقبض ولا ينبسط، وينبسط، فلا ينقبض، وهذا فيه فضل نظر، فقد بلغنا في قول أهل البصائر أن الذكر الذي يتقلّص بالبرد ويسترخي بالحرّ ليس بأشلَّ، وإن كان لا ينتشر. والذي لا يلحقه التقلص والاسترخاء، هو الذي لا يتوقع انتشاره، فلست أدري أن الفقهاء عنَوْا بالانقباض والانبساط الاسترخاءَ والتقلصَ في حالتي الحر والبرد، أم عَنَوا، به الانتشار ونقيضه.
والذي يجب القطع به الحملُ على التقلّص والاسترخاء؛ فإن العضو إذا كان كذلك، فلا خلل به ولا شلل، والانتشارُ تُسبّبه قويً روحية، ومن أصولنا أن العضو إذا لم تحلُّه منفعة، ولكن كان سبيلاً لتلك المنفعة، ومحلُّ المنفعة عضوآخر، فإذا أردنا تبيّنَ صحةِ العضو وشللِه، لم ننظر إلى تلك المنفعة التي هي في محلٍّ آخر، ولهذا جعلنا أذنَ الأصم كأذن السميع، وإن كانت الأذن آلةً في السماع لا تنوب عن لطيفة السمع.
وأما تبيُّنُ صحة العضو فيما نحن فيه، فنقول: الأعصاب المتلفة للتغايير في التقلص والاسترخاء، وسقوط الباه، قد تكون من انقطاع مادة الزرع، وقد تكون من ضعف الدماغ، فلا ينبغي أن يكون بالانتشار اعتبار، وقد أطلق الشافعي إثباتَ القصاص في ذكر العنّين، والغالب عليه ألا ينتشر، وأطلق أيضاً القصاصَ في ذكر الخَصي مع العلم بأن الانتشار قد يسقط مع سَلِّ الأنثيين.
ثم إذا أثبتنا القصاص على الفحل بسبب قطع ذكر العنين والخَصيّ والأشل، فإنا نكمل الدية في ذكر العنين والخَصي، وأبو حنيفة لا يوجب القصاص، ولا يكمل الدية في حق الخَصي، وقال بحسب هذا: لا تكمّل الدية في الذكر ممن سُلّ أنثياه، وكمال الدية في العضوين ثابت على حكم التعلق، ولا يستقل أحدهما عنده بكمال الدية، وقال مفرعاً: لو قطع الجاني الذكر من أعلى مثلاً، وانتهت الحديدة إلى الأنثيين، فقطعهما، فيجب في الذكر دية كاملة، وفي الأنثيين حكومة؛ فإن الحديدة انتهت إليهما والمجني عليه مجبوب، وكذلك لو أتى القطع من أسفل، فأبان الأنثيين، ثم مرقت الحديدة منهما إلى الذكر، قال: يجب دية الأنثيين والحكومة في الذكر.
وإن صادفت الحديدة العضوين معاً، بأن فرض وضعها على أحد الجانبين واحتوت على الذكر والأنثيين، فعند ذلك يجب ديتان، هذا أصله.
ونحن نوجب الديتين في الذكر والأنثيين كيف فرض القطع؛ بناء على ما مهدناه في استقلال كل عضو بنفسه، وامتناعِ اعتباره بغيره، أو بمنفعة غيره.
فإن قيل: الذكر الأشل لم توجبوا فيه كمالَ الدية، والمنفعة العظمى منه انسلال البول منه، وهذا باقٍ؛ فإن سقوط بعض المنفعة من العضو لا يسقط ديتها.
قلنا: المنفعة المقصودة في هذا العضو تهيؤه للوقاع الذي بسببه بقاء الزرع، وأما انسلال البول فيبقى مع القطع، ويخرج البول من الثُّقبة في أصل الذكر خروجَه من فرج النساء؛ ولو كانت صورة الذكر محتاجاً إليها في البول، لنبتت للمرأة نبوتَها للرجل لاستوائهما في الاحتياج، اعتباراً بسائر الأعضاء، فظهر أن الغرض الأظهرَ ما ذكرناه، ثم فصلنا عن العضو الخلل الواقع في القلب وغيره من الأعضاء الرئيسة، فانتظم لنا المراد في ذلك.
فصل:
قال: "فإن قال الجاني: جنيت عليه وهو موجوء... إلى آخره".
10511- فإذا اختلف الجاني والمجني عليه في صفة العضو المقطوع، فادعى المجني عليه أنه كان سليماً، فقطعه على السلامة، وادعى الجاني أنه كان أشل، وغرضه درء القصاص، أو تنقيص البدل، فالذي ذكره المرتبون: أن الأعضاء تنقسم إلى الأعضاء الظاهرة، وإلى الأعضاء الباطنة، ثم قالوا: إن كان الخلاف في الأعضاء الظاهرة، لم يخل الأمر من شيئين:
أحدهما: أن لا يسلم الجاني للمجني عليه أصلَ السلامة في عضوه، والآخر أن يسلّم أصل السلامة ويدّعي زوالها بشللٍ طارىء، فإن لم يسلّم أصلَ السلامة وأنكرها، فظاهر المذهب أن القول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته، والأصل عدم السلامة أيضاً. هكذا ذكره الأصحاب.
أما قولهم: الأصل براءة الذمة، فسديد، والأولى أن نعبر عن المعنى بعبارة أخرى فنقول: ادعى المجني عليه أن الجاني أتلف عنه السلامة وفوّتها، والأصل أنه لم يفعل. هذه العبارة أمثل.
وذكر بعض أصحابنا قولاً بعيداً أن المصدّق المجنيُّ عليه؛ فإن الأصل في الاعتياد سلامة الأعضاء، والمصدَّق في الشرع من يظهر صدقُه في الظنون، وعلى هذا بنينا ثبوت حق الرد بالعيب مع إطلاق البيع؛ من جهة أن الغالب السلامة. وهذا القول ضعيف؛ فإن إلزام الذمم وتثبيت الجناية بناء على اطرادٍ في العادة بعيد، والرد بالعيب ليس مما نحن فيه بسبيل، وقد ذكرنا مأخذه في (الأساليب) وغيرها. وهذا إذا لم يسلِّم الجاني أصل السلامة.
فأما إذا سلم الأصل وادعى طريان شلل، ثم زعم أنّ قطعه كان بعد الشلل، ففي المسألة قولان مشهوران:
أحدهما: أن القول قول الجاني، لما ذكرناه من استصحاب براءة ذمته، ولما ذكرنا من أن الأصل عدمُ تفويته للسلامة. والقول الثاني- أن القول قولُ المجني عليه، لأن الجاني واقف موقف المدعين في ذكر طريان الشلل بعد تسليم السلامة.
هذا إذا كان النزاع في الأعضاء الظاهرة.
10512- فأما إذا كان في الأعضاء الباطنة، فقد ذهب طوائف من أصحابنا إلى طرد القولين، سواء سلّم الجاني السلامة الأصلية، وادعى الخلل الطارىء، أو أنكر أصل السلامة، ففي قولٍ: القول قول الجاني لما سبق تقريره في القسم الأول، وفي قولٍ: القول قول المجني عليه، وتوجيه هذا القول مبني على أصلٍ يتعلق بالمصلحة، ويميل عن اعتبار استصحاب الأصول، وذلك أنا نقول: إقامةُ الشهادة على صفات الأعضاء الظاهرة ممكنة، لا عسر فيها؛ فإن الأعضاء التي تظهر من الإنسان يطلع عليها الناس غالباًً، وإذا استُشهدوا فيها شهدوا، ولئن لم نصدِّق المجني عليه، فسببه تمكنه من إثبات مراده لو كان صادقاً، وهذا عسر في الأعضاء الباطنة، فإذا انسدّ مسلك الإشهاد، لم يبعد الرجوع إلى قول المجني عليه مع يمينه.
وهذا يقرب من تصديقنا المودَع في رد الوديعة وتلفها؛ فإن مصلحة الائتمان تقتضي هذا، كما ذكرناه في أحكام الأمانات والودائع.
وجمع صاحب التقريب الأعضاءَ الظاهرةَ والباطنةَ، وأرسل الخلاف عليها، وحصل من مجموعها أربعة أقوال: أحدها: أن القول قول الجاني من غير فصل. والقول الثاني- أن القول قول المجني عليه من غير فصل. والقول الثالث: أنه يفصّل بين الأعضاء الظاهر والباطنة، فقال: القول قول الجاني في الأعضاء الظاهرة، والقول قول المجني عليه في الأعضاء الباطنة. والقول الرابع- أنه يفصل بين أن يسلّم الجاني أصل السلامة ويدّعي الخلل بعدها، وبين ألا يسلم أصل السلامة.
هذا بيان ما قيل، ووراء ذلك بحثٌ واستدراك.
10513- فأما البحث، فقد أطلق أصحابنا ذِكْر الأعضاء الظاهرة والباطنة، ولم يفصلوا، فتلقيت من مرامز كلام الأصحاب وجهين:
أحدهما: أن الباطن ما هو عورة يجب ستره عن الأعين. والوجه الثاني- أن الباطن ما يعتاد ستره إقامة للمروءة، وهذا أليق بفقه الفصل من التعويل في الكلام على الظاهر والباطن، وما ذكرناه من يسر إقامة الشهادة لظهور العضو، فما لا يُظهره الإنسان غالباً لا يتعذر إقامة البينة فيه على يسر، والدليل عليه أن الحاجة لو مست إلى استشهادٍ، جاز الاطلاع على العورات بسببها.
هذا هو البحث.
فأما الاستدراك، فقد أطلق بعض أصحابنا الخلاف في أصل العضو، وقالوا: إذا قال الجاني: ما خُلقت لك اليد، فقال المجني عليه: خُلقت وقطعتها.
أو سلّم الجاني أصل الخلقة، وادعى سقوطها قبل الدعوى عليه، وهذا فيه استدراك؛ فإنه إذا أنكر الجاني أصلَ العضو خلقة، أو زعم أنه كان، فبان بسبب آخر، فهو مُنكِر لأصل الجناية؛ ومن ادعيت عليه جناية، فأنكرها، فالقول قوله في إنكارها. نعم، لو فرض قطع الكف، ورُدّ النزاع إلى وجود الأصابع، فلا يندرج هذا تحت الأقوال والتفاصيل.
وليس هذا الذي ذكرته إلا تحقيقاً لمراد الأصحاب، فإني لا أشك أن ما ذكره الأصحاب مفروض فيه إذا جرت جناية، ثم فرض النزاع بعدها.
10514- ولو جنى على الذكر، أو الأنثيين، أو عليهما، فقال المجني عليه: قطعهما، وقال الجاني: بل قطعت أحدهما؛ فإنا نقطع بأن القول قولُ الجاني، وإن المعترِفَ به ثابت، والزائدُ عليه دائر بين النفي والإثبات، وهو محل الخصومة، والقول قول من ينفي الجناية، وليس الذكر مع الأنثيين بمثابة الأصابع مع الكف، فإن قطع الكف يُسقط الأصابع إن كانت، وليس كذلك الذكر مع الأنثيين.
10515- وفي لفظ (السواد) إشكال سهلُ المُدرك لابد من التنبيه عليه، قال الشافعي على أثر الكلام في الذكر والأنثيين: "فإن قال الجاني: جنيت عليه وهو موجوء، وقال المجني عليه: بل صحيح، فالقول قول المجني عليه مع يمينه، لأن هذا يغيب عن أبصار الناس"، والموجوء هو المرضوض، والوجأ في الأنثيين رضهما، وهذا إذاً خلاف في صفة الأنثيين مع الاتفاق على قطعهما، وفي الحديث: «معاشر الشباب عليكم بالباءة من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فمن لم يستطع، فعليه بالصيام، فإن الصيام له وجاء».
10516- ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرجل إذا خرم ملفوفاً في ثوب بنصفين، فقال ورثة المجني عليه: كان حياً فقتلته، وقال الجاني: كان ميتاً فقددتُه، ففي المسألة قولان:
أحدهما: القول قول الجاني؛ لأن الأصل براءةُ الذمة، والقول الثاني- قول ورثة المجني عليه؛ فإن الأصل الحياة.
وهذه الصورة تناظر الاختلاف في الأعضاء الظاهرة مع تسليم أصل السلامة، وذكر بعض الأصحاب فرقاً بين أن يكون ملفوفاً فيما هو على صورة الكفن، وبين أن يكون ملفوفاً فيما هو على صورة ثياب الأحياء.
وهذا لا أصل له، والتعويل على ما ذكرناه في قاعدة التوجيه.
فصل:
قال: "ويقاد أنف الصحيح بأنف الأجذم... إلى آخره".
10517-الجذام علةٌ تظهر بالأطراف، ويغلب وقوعها-إذا كانت-بالأذن والأنف، ففرض الشافعي حلولَها بالأنف، ثم معنى كلامه أن الأنف وإن اعتلّ بالجذام حتى احمرّ، ثم اسودّ بعد الحمرة، فلا يخرج عن كونه عُضوَ قصاص، وإن استحكمت العلة، وقَطَع أهل البصائر بأنها لا تُدفع بعلاج؛ فإن العلل السماوية لا تؤثر وإن صارت مأيوسةَ الزوال، ومن انتهى بسبب علةٍ به إلى حالةٍ قطع أهل الخبرة أقوالهم بأنه-لِما به-لا يُتصور خلاصُه، ولو قتله أيّدٌ في عنفوان شبابه، قتل به؛ فالعضو مع ما به من علّة كالنفس العليلة، غيرَ أن العضو الأشل لا يقابله عضو صحيح في القصاصِ، ومقدارِ الأرش، كما تمهد القول في ذلك.
فلو قال قائل: فهلا كان الجذام المستحكم في الأنف بمثابة الشلل في اليد، وزوالُ الشلل مرجوّ على بُعدٍ أَوْ قُرب؟ قلنا: الشلل يجرّ إسقاط منفعة العضو، والعضوُ يُعنَى لمنفعته؛ هذا سبب ردّ اليد الشلاء إلى الحكومة، ومنفعة الأنف لا تسقط بالجذام.
وانتهى نظر الأئمة في هذا الباب إلى أن ذكروا في الأذن المستحشفة الساقطةِ الحسّ وجهين في أن الدية تكمل فيها أم لا؟ وسبب ذلك ما أشرنا إليه من أن المنفعة المعقولة في الأنف والأذن لا تزول بالاستحشاف، بخلاف اليد؛ فإن منفعتها البطش، وهذا يزول بالشلل.
والذي يجب ضبطه في ذلك أن الأنف ما دام على نعت الحياة، فله حكم الصحة في إيجاب القصاص على القاطع، وتكميل الدية، فإن قيل فيه: إنه قد زايلته الحياة، وهو إلى العفن والسقوط على القرب، ولم يبق إحساس، وتحقق اليأس من العَوْد إلى الصحة، فهذا هو الاستحشاف الذي أشرنا إليه في الأذن.
10518- وقد قال الشافعي رضي الله عنه: "لو سقط بالجذام من الأنف شيء، لم يقطع به الأنف السليم" وسبب ذلك أنا لو قطعنا الأنف السليم به، لقطعنا الشيء الكاملَ ببعضه، وقد ذكرنا أن القصاص يجري في أبعاض الأنف، كما يجري في الأصابع، فإذا سقط من الأنف ما يتعلق القصاص بمثله لو قُطع، فلابد وأن يكون سقوطه معتبراً، وهو بمثابة ما لو سقطت إصبع من اليد بالجذام. فإذا سقط جزء من أنفه، فقطعه رجلٌ أجدع، قد قُطع ذلك الموضع من أنفه، فيجب القصاص عليه لإمكان المساواة، وهو كما لو قطع رجلٌ يدُه ناقصةٌ بإصبع يداً مساويةً يده في النقصان، فالقصاص جارٍ، فظن بعض أصحابنا أن الشافعي أسقط القصاص عن الأنف إذا سقط شيء منه بالجذام؛ من جهة أنا إذ ذاك نعلم استحكام الجذام، ومساق هذا الظن يقتضي أنا لا نقطع أنفاً جُدع بعضه به وهو سليم في باقيه، وهذا غلط، وإنما التعويل على ما ذكرناه.
وإنما نحكي أمثال هذا حتى لا نُخلي الكتاب عما مر بنا سماعاً أو نظراً في تصنيف، ثم لا نقصر في التنصيص على ما هو المسلك الحق.
10519- ثم قال الشافعي: "ويقطع أُذن السميع بأذن الأصم، وأنفُ المدرك بأنف الأخشم" هذا صحيح لما مهدناه من أن حكم العضو لا يختلف بسقوط منفعةٍ ثابتة في غيره، وإن كان ذلك العضو سبيلاً إلى تلك المنفعة، وقد تعطل معظمُ المنفعة بتعطل السبيل، فالتعويل على النظر إلى عين العضو وما يحله من منفعة، وما ذكره الشافعي رضي الله عنه في أذن الأصم وأنف الأخشم خارجٌ على هذا الأصل خروجاً بيّناً.
ونحن نشير إلى جوامع القول في ذلك: أطلق الفقهاء القولَ بأن النظر في العين، كما أن البطش في اليد والرِّجل، وهذا قد يبعد عن قانون الأطباء بعضَ البعد؛ من جهة أن لطيفة البصر عندهم في الطبقة المسماة الجليدية، وهي وراء طبقات من الحدقة، ولكن الحكم الشرعي لا يُلحق بالأمور الخفية، بل يُحمل على ما تبتدره الأفهام، ويظهر في طبقات الخلق، ومما ظهر أن ضوء الباصرة من العين، والكلام في اللسان، كما سنصف حكمه في كتاب الديات-إن شاء الله عز وجل- ولا حاجة إلى تعديد جميع الأعضاء؛ فما ذكرناه يُعدّ تمهيدَ الأصول.
وقال الأئمة: الأنثيان تجريان من المني مجرى الأذن من السمع، والأنف من الإدراك، وإن كانت أوعية المني وعصبُها اللحمة الغروية البيضاء من الأنثيين، فلو قطع أنثي رجل وانقطع ماؤه، يلزمه ديتان جرياً على ما ذكرناه، ولو كسر صلبَ إنسان، فزال مشيُه وماؤه، لزمته دية واحدة بسبب كسر الفقار وتعطيل المشي، واختلف أصحابنا في أنه هل يجب بسبب إزالة الماء ديةٌ أخرى؟ قال بعضهم: لا تجب؛ فإن محل الماء الظهر، والأصح أنه تجب دية أخرى؛ فإن الماء لا يختص بمحلٍّ من البدن وإنما هو مادة تسيل من جملة الحيوان، وكذلك تكون مادة الحيوان.
ولو قطع رَجُلٌ يدي رَجلٍ، فزال عقله، فالمذهب إيجاب ديتين، وفي المذهب قول آخر: أنا ندرج دية العقل تحت دية اليدين، وسيأتي في هذا تفصيلٌ في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "فإن قلع سن من قد أثغر... إلى آخره".
10520- إذا قلع الرجل سنَّ من لم يُثغر، فلا نوجب في الحال قصاصاً ولا ديةً، لأنها تنبت غالباً؛ فإن نبتت، فلا قصاص ولا دية، ثم إن أعقبت شَيْناً، وجبت الحكومة، فإن لم تُعقب شيناً، فوجهان سنجريهما في نظائر ذلك في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
وإذا قلع سن من قد ثُغر، لزم القصاصُ أو الدية، وفصول الأسنان ستأتي مستقصاةً في الديات، فإن لم تنبت، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن السن المثغورة إذا عادت، فلا حكم لعودها، وهو متجه، فهي نعمة مبتدأة، فلا يتغير بعودها حكمٌ مضى، والقول الثاني-أن عودها- وإن كان نادراً بمثابة عود سنِّ من لم يُثعر. ثم إن لم نثبت للعَوْد حكماً، فإن عاد من المجني عليه، لم يسقط القصاصُ ولا الدية، واستوفينا القصاص، ولم يتغير حكمه.
وإن قلعنا سنَّ الجاني، فعاد فلا حكم للعود، وقد تم استيفاء القصاص.
ولو قلعت السنّ العائدة، تعلق القصاص بقلعها، وكذلك لو عادت مراراً، وهو يقلع في كل مرة، فيجب القصاص في قلعه.
وإن جعلنا العَوْد معتبراً، فلو لم نستوف القصاص حتى عاد السن من المجني عليه، سقط القصاص والدية، وبقي الكلام في الحكومة، كما ذكرناه في سنّ من لم يُثغر. فإن عاد سن المجني عليه بعد ما قلعنا سن الجاني قصاصاًً، تبينا أن الذي مضى لم يكن قصاصاًً، فإن لم يعد من المقتص منه، ضَمِنَّا سنّه بالدية، وبقي النظر في الحكومة التي تتعلق بقلع سنٍّ عاد بعد القلع.
ولو لم يعد سنُّ المجني عليه، ولكن لما اقتصصنا سنَّ الجاني، عاد سن المقتص منه، ولم يعد سنُّ المجني عليه، فالقلع الأول لا يقع قصاصاً، واختلف أصحابنا في أنا هل نقلع سنه مرة أخرى؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا نقلع، وكلما عادت، عدنا، إلى فساد المنبت. والوجه الثاني- أنا لا نقلع، ولكن نعود إلى الدية، ثم لا يخفى النظر في الحكومة؛ فإن القلع الأول لم يقع عن جهة القصاص، وشفاءُ الصدر في هذا يأتي في كتاب الديات.
ثم إن لم نجعل للعود حكماً، ابتدرنا القصاص، ولم نؤخره، وإن جعلنا للعود حكماً، لم نستوف القصاص إلى تحقق فساد المنبت من المجني عليه.
10521- قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن اقتص بغير سلطان عُزِّر".
قد ذكرنا أن مستحق القصاص لا يستبد باستيفائه، بل يتعين عليه رفعه إلى السلطان، فإن استبد ورأى الإمام تعزيره عزَّره، ووقع القصاصُ موقعه.
ثم ذكرنا أن القصاص في النفس يجوز أن يكله الإمام إلى الولي.
وفي القصاص في الطرف خلافٌ، وقطع الأئمة بأنه لا يكل حدَّ استيفاء القذف إلى المقذوف؛ فإن التفاوت في الجلدات عظيمٌ، فالمراتب إذاً ثلاث: نفسٌ، وقطعُ طرف، وجَلْد. ولكل مرتبة حكمها.
ومن عليه القصاص إذا أتى بصورة العقوبة من نفسه، فإن كان بغير إذن المستحِق، لم يقع الموقع، وإن كان بإذنه، ففي وقوع القصاص الموقعَ وجهان، ولعل الأصح وقوعه موقعه، ولو استناب المستحقَ بالحضرة أجنبياً، فمن زعم أن القصاص لا يقع الموقع، قال: فهَلْكُ نفسه يخرج عن كونه نائباً لغيره، وما يظهر منه يقع على حكم الاستبداد، وينمحق فيه أثر الإذن.
وشبه الأصحاب هذا بما لو قال المكرِه: إن قتلت نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، لم يكن مكرهاً، وهذا تشبيه باطل؛ فإن معنى الإكراه أن يُحمَل المرءُ على أمرٍ بسبب عظيم الموقع عنده، وهو يبغي الخلاص عما خُوِّف به، وإذا كان التخويف بالقتل والمستدعَى القتل الذي به التخويف، لم يتحقق الإكراه.
فصل:
قال: "ولو قال المقتص: أخرج يمينك، فأخرج يساره... إلى آخره".
10522- إذا قال مستحق القصاص لمن عليه القصاص في يمينه: أخرج يمينك أقطعْها، فأخرج يساره، فقطعها، فالمسألة يأتيها الانقسام" من جهة قصود المخرج، ومن جهة قصود القاطع، والأَوْلى أن نجعل قصود المخرج أصولَ الصور، ويتشعب عن كل قصد للمخرج صور تتعلق بقصد القاطع، ونأتي على مقصود الفصل بهذا الترتيب، إن شاء الله عز وجل.
فإن قال المخرج: قصدت بإخراج اليسار إباحةَ قطعها ابتداء، قلنا للقاطع: بان لنا قصدُ المخرج فما قصدتَ؟ فإن زعم أنه استباح يدَه اليسرى، فقد أجمع الأصحاب على أن قطع اليسار يقع هدراً، والقصاص باقٍ في اليمين.
فإن قيل: كيف أثبتم الإباحة، ولم يتلفظ بها المخرج، وقرائنُ الأحوال يبعد أن تؤثر في الأمور الخطيرة؟ كيف وإخراجه ليس قرينة دالة على قصده في الإباحة؟ وهذا فيه إشكال كما ترى، وهو متفَقٌ عليه بين الأصحاب، والنص في السواد وغيره على موافقة الإجماع من الأصحاب؟ قلنا: القرينة أوّلاً كافية في هذا الباب.
ولو قال الرجل لمن لا قصاص عليه: أخرج يدك أقطعها، أو قال: ملكني قطعها، فلو أخرج يده، ولا إكراه، فالذي جرى إباحةٌ منه. فإن قيل: حكيتم في باب الوليمة وجهاً أن الضيفان لا يستبيحون الطعام ما لم يتلفظ بالإباحة، وهذا القائل ليس يكتفي بقرائن الأحوال. قلنا: لا تعويل على مثل هذا الوجه، وسبيل المتدرب في المذهب أن يستدلّ بموضع الوفاق على فساد الوجوه الضعيفة، ولا يعترض بالوجوه الضعيفة على محالّ الوفاق، وكيف وذلك أظهر والإجماعُ فيه عملاً أشهر؟، ولا يأمن أن يَطْرد صاحبُ ذلك الوجه مذهبه الفاسد فيما ذكرناه. ولا عود إلى هذا بعد التنبيه عليه.
وقال الأئمة: إذا قصد الرجل قَطْع يد الرجل ظلماً، وقلنا: لا يجوز له أن يستسلم فإذا استَسْلم، ولم يدفع، فهل يكون سكوته بمثابة الإباحة؟ فعلى وجهين مأخوذين من تردد الأصحاب في أن الزانية لا تستحق المهر، ولم يوجد منها إلا التمكين المجرد. فمن الأصحاب من قال: سبب سقوط المهر سقوط الحرمة، والبُضع لا يتقوّم إلا إذا كان محترماً من جهة الموطوءة، ومهر البغي يُحطّ بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن أصحابنا من قال: سبب سقوط المهر أن التمكين رضاً منها في حكم العرف منزلٌ منزلة الإباحة، على هذا الخلاف خرّج الأصحاب وجهين في الجارية المغصوبة إذا طاوعت الغاصب حتى زنا بها، فمن أسقط مهر البغي لعلّة سقوط الحرمة، لم يثبت المهر لمالك الجارية، ومن علل سقوط المهر بنزول التمكين منزلة الرضا، قال: يجب مهر المغصوبة فإنها لا تملك إسقاط حق المولى.
فقال الأئمة: إذا وجد التمكين من قطع الأطراف-والتمسك بمذهب الاستسلام-فالتمكين هل يكون كالرضا؟ فيه خلاف، والمسألة محتملة؛ فإن التمكين من الزنا لا محمل له إلا الرضا في عادة الخلق، والسكوت على الجناية لا يتجرد هذا التجرد.
وهذا في السكوت المحض، فأما إذا قال المتقدم إليه: أبح لي يمينَك وأَخْرجها أقطعْها، فوافقه، وأخرج، فهذا إباحةٌ ولا محمل له غيرُ الإباحة.
فإذا تمهد هذا، عدنا إلى مسألتنا، وقلنا: الإخراج فعلٌ، ومثله يُعدّ إباحة، فإذا كان يتصور اتضاح الغرض فيه، فهو كقولٍ ليس بصريح في مقصود، بل هو كنايةٌ فيه، فإذا انضم القصد إليه، نزل منزلة كناية تقترن النية بها. فهذا منتهى الكلام.
10523- ولو قال القاطع: دَهِشت، ولم أدر، والمخرج زعم أنه مُبيح، فلا ضمان على القاطع أصلاً؛ فإن التعويل في إحباط اليسار على إباحة مخرجها.
10524- ولو قال القاطع: ظننت أن اليسار مجزئةٌ عن اليمين، فاكتفيت بها على هذا القصد، فهل يسقط حقُّ القصاص عن يمين المخرج؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يسقط القصاص، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وقد ارتضاه القاضي وقطع به، ووجهه أنه بقصده دل على إسقاطه القصاص في اليمين، فإذا كنا نجعل إخراج المخرج بمعنى قصد الإباحة، فقَطْع القاطع مع إسقاط القصاص عن محله يجب أن يكون نازلاً منزلة التصريح بالقصد.
والوجه الثاني- أن القصاص لا يسقط؛ فإنه لم يُسقطه، ولم يقتص منه اعتياضاً صحيحاً، وليس كالإباحة؛ فإنها لا تستدعي عقداً، أو معاملةً ذاتَ أركان وشرائطَ، وذكر أئمتنا أن من عليه قصاصٌ إذا جاء بالدية إلى مستحق القصاص متضرّعاً، طالباً منه أن يأخذ الدية ويقنَع بها، فلو أخذها، ولم ينطق بالعفو، ثم عاد إلى طلب القصاص، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين، وما ذكرناه في صورة قطع اليسار على أنه يغني عن اليمين أولى بأن لا يُسقط القصاصَ في اليمين؛ فإن هذا الاعتياض فاسد، وأخذ المال بدلٌ عن الدم مشروع لا فساد فيه.
التفريع على الوجهين:
10525- إن حكمنا بأن القصاص لا يسقط عن اليمين، فقطْع اليسار هدرٌ بناءً على إباحة المخرِج؛ فإن إباحته كافيةٌ في الإهدار، وإن حكمنا بأن القصاص يسقط في اليمين، فالرجوع إلى المال، ولا تقع اليسار عن اليمين قطّ لمستحق القصاص في اليمين، فتبقى اليمين، واليسارُ فيه هدرٌ، ولا يتعلق بما جرى إلا سقوطُ القصاص، وهذا واضح، ولكنه على وضوحه مزِلّة. فليقف الناظر عنده.
والجملة في هذا أنا كيفما صدقنا قصود القاطع، فقطْع اليسار يجري على الإهدار، وإنما التردد في أن القصاص في اليمين هل يسقط إذا كان المخرج على قصد الإباحة؟
10526- ومن تمام الكلام في هذا القسم-وهو إذا قصد المخرِج الإباحة- أن القاطع لو قال: جعلت اليسار باليمين إنشاء من عندي، وهذا يتميّز في التصور عما قبله؛ فإنه في الصورة المتقدمة على هذه ظن أن حكم الشرع وقوع اليسار عن اليمين، وهو في هذه الصورة يجعل الأمر كذلك، وهذا عندي يخرج على الخلاف في أن القصاص في اليمين هل يسقط له تلف، وهذه الصورة أولى بأن يسقط القصاص فيها، فإنا إن حملنا ما صدر من القاطع على معاوضة فاسدة، لكان قريباً؛ فإنه لم يجر في الصورة المتقدمة إلا ظنٌّ، وقد تبين أنه على مخالفة الشرع، وظنُّ الإنسان قد يدرأ القصاص عنه، فيما يقطعه على موجب الظن، فأما أن يتضمن إسقاط قصاص له في محلٍّ برضا، ففيه بُعْد ظاهر.
وحُكي عن القاضي أنه في صورة الظن، وهي الصورة المتقدمة يُسقط القصاص في اليمين، وقال في الصورة الأخيرة-وهي إذا قال: قصدت جَعْل اليسار قصاصاً عن اليمين-: لا يَسقُط القصاصُ عن اليمين، وهذا كلام مضطرب.
وهذا كله انشعبت فيه إذا قال المخرج: قصدت الإباحة بالإخراج.
10527- فأما إذا قال: دهشت ولم أدر ما أصنع؛ فإذا قال المخرِج ذلك، رددنا الأمر إلى قصد القاطع، وراجعناه في قصده؛ فإن زعم أني علمت حقيقة الحالى، وأقدمت على قطع يساره قصداً، قلنا: عليك القصاص في يسارك للمخرِج، وقصاصك باقٍ في يمين المخرِج، فإن آثر كلُّ واحد منهما إلاّ استيفاء حقه من القصاص، لم يبق لواحد منهما يد، وإن عفَوا عن القصاص، رجعنا إلى الأرشين، ولم يخفَ حكم التقاصّ، ولا يُشكل التفصيل فيه إذا عفا أحدهما دون الثاني.
10528- ولو قال القاطع: حسبت أنها تقوم مقام اليمين، فهل يسقط القصاص عن اليمين؟ فيه الخلاف المقدم، وكذلك إذا قال: جعلت اليسار باليمين، ففي سقوط القصاص عن اليمين التردُّدُ المقدم، ولكن النظر في اليسار-والمخرِج ليس مبيحاً- على وجه آخر يقع: أما القصاص، فالذي رأيناه في الكتب أنه لا يجب على القاطع قصاص في يساره، وظنُّه ينهض عذراً في إسقاط القصاص عنه، وفي هذا مستدرك سنذكره الآن في أثناء الكلام، وننبه على انعطافه على هذا المحل، وإذا لم نوجب القصاص، فالوجه إثبات الضمان على القاطع، وفيه شيء أيضاً سنذكره من بعدُ.
10529- ولو قال القاطع: ظننت أن اليد المخرجة هي اليمين؛ فقطعتها على هذا الظن، قال العلماء: لا يسقط قصاصه عن اليمين؛ فإنه لم يقصد إسقاطَه، بل ما حسبه حقَّه لم يكن حقَّه، وهل يجب القصاص على القاطع في قطع اليسار؟ ذكر القاضي قولين سيأتي ذكرهما على أثر هذا الفصل، إن شاء الله عز وجل.
ووجهُ الشبهِ بَيِّنٌ: حَسَبُه أن اليدَ المخرجة مستحَقة، ثم تبيّن أن الأمر على خلاف ما حَسِبه، وقد يخطر للناظر أن إسقاط القصاص أولى في هذه المسألة؛ من جهة أن المخرِج هو الذي تسبب إلى التقصير حيث أخرج، ولم يوجد من الذي قطعه على ظن أنه قابل منه تقصيراً أصلاً؛ فإذا ظهر الخلاف في وجوب القصاص في اليسار فيه إذا قال القاطع: حسبتُ اليد المخرجة يميناً، فاحتمال وجوب القصاص ينعكس على الصورة التي ذكرناها قبل هذه، وهي إذا حسبها تجزىء عن اليمين؛ فإن قوله هذا بعيد عن الإشكال مع العلم بتعدد المحل، وهو بمثابة ما لو قتل رجل رجلاً كان أمسك أباه حتى قتله إنسان، ثم قال: ظننت قَتْله حقاً، فالرأي الظاهر أن القصاص لا يندفع بأن يدعي القاتل أمثال هذه الظنون، وسنجمعها في فصلٍ، إن شاء الله عز وجل.
10530- فلو قال القاطع: دهشت، فلم أدر ما أصنع، ولا معنى لهذا القسم في هذه الحالة؛ فإن الدهشة السالبةَ الاختيارَ لا تليق بالقاطع المختار، ولابد وأن يكون قطعه صادراً عن عمدٍ أو ظن اعتياض، أو ظنٍّ بأن المخرَج يمينٌ، أما المخرِج فلا يبعد أن يدهش.
وقد نجز تشعيب الكلام في هذا القسم، وهو إذا قال المخرج: دهشت.
10531- فأما إذا قال: قصدت إخراج اليسار أن تقع عن اليمين، فنقول للقاطع: أنت ماذا قصدت بالقطع؟ فإن زعم أنه ظنّ أن المخرِج أباح اليد بذلاً، فقد قال الأصحاب: لا يجب القطع عليه في اليسار؛ فإن ما قاله محتمل مع إيهام المخرِج.
وهذا يتطرق إليه احتمال؛ فإنه ظنٌّ بعيد، والظنون البعيدة لا تدرأ القصاص، درءاً مقطوعاً به، ولكن منها ما لا يدرأ، ومنها ما يُخرّجُ على الخلاف، كما سيأتي، ووجه البعد بيّن؛ فإن اللائق بالحال الدهشةُ، أو قصدُ الاعتياض، فأما الإباحةُ، فبعيدة، ولهذا تكلّفنا تحقيقَها عند قول المخرِج: قصدتُ الإباحة.
10532- ولو قال القاطع: ما دهشت، ولكن ظننت أن اليسار تُجزىء عن اليمين، كما قال المخرج، فالكلام في سقوط القصاص باليمين كما مضى، والسقوط أولى هاهنا بتأويل تنزيل الفعلين مع التوافق في القصدين منزلة اعتياض، فاسد.
ثم إن قلنا: يسقط القصاص عن اليمين، فلا شك أن القصاص لا يجب في اليسار. وإن قلنا: لا يسقط القصاص عن اليمين فلا يجب القصاص في اليسار؛ لأن ما يجرى من المخرِج تسليط على القطع، وحكى العراقيون عن ابن الوكيل من أئمتنا أنه أوجب القصاص على قاطع اليسار في هذه الصورة، وهذا بعيد جداً مع ما جرى من قصد المخرج في التسليط على القطع: نقلوه وزيفوه، وهو كما قالوه.
ثم إذا لم نوجب القصاص، بقي النظر في الضمان في اليسار: والوجه عندنا القطعُ بثبوته؛ فإنه لم تجر إباحةٌ من المخرج ولا وجه لإهدار اليسار.
10533- قال العراقيون: لو قال: أردت أن تكون اليسار باليمين، وقال القاطع؛ ظننت المخرَج يميناً، قالوا: لا قصاص على القاطع قولاً واحداً، والأمر على ما ذكروه، ولا يخرّج هذا على الخلاف السابق، فإنه وجد في هذا القسم تسليط على القطع من المخرِج، ثم قالوا: هل يجب على القاطع الضمان في اليد؟ فعلى وجهين: أحد الوجهين- لا ضمان عليه، واليسار هدرٌ؛ لأن المخرج قصّر حيث لم يتثبّت وسلَّط على القطع.
والوجه الثاني- أن اليسار لا يكون هدراً؛ فإن مخرجها لم يخرجها باذلاً مبيحاً؛ فينبغي أن تكون مضمونة، كما لو باع مالك العين العينَ بيعاً فاسداً، وسلّمها، فإنها تكون مضمونة على المشتري.
وقد نجزت المسألة بأقسامها.
وحق من ينتهي إليها أن يُلزم نفسه حفظ أوائلها؛ فإن خللها في انسلال ما سبق منها عن الحفظ المنتهي إلى الأثناء والآخر.
10534- ثم إذا قطع القاطع اليسار وبقّينا له حق القصاص في اليمين في بعض الصور المقدمة-أيتها كانت- فهو على حقه من القصاص في اليمين، فلو أراد استيفاءه ناجزاً، والمقطوع يساره على قرب العهد، بقطع اليسار، فظاهر النص أنه لا يمكّن من قطع اليمين في الحال، فإن الموالاة بين القطعين قد تُفضي إلى الهلاك، ومستحق القصاص في اليمين هو الذي قطع اليسار، ولم يتأمل.
ومن أصحابنا من خرج قولاً آخر أنه لا يُمنع من استيفاء حقه في اليمين؛ فإن القصاص لا يتأخر بسبب ظُلمٍ جرى، أو بسبب خطأ.
ولو قطع يدي رجل ورجليه، فقد ذكرنا أن القصاص لا يؤخر في الأطراف، ولكن لو ظهر في الظن أنا لو قطعنا يدي الجاني ورجليه وِلاءً ولا شك أنه يهلك، فالمذهب أنه تقطع ولاءً إن أراد ذلك.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً أنه يمنع عن الموالاة في الاقتصاص، وهذا لا أصل له، وإن ذكر هذا الوجه فيه إذا اندملت جراحات الجاني، فأراد بعدها الاقتصاص، وإلا فالمنع الآن قد يتجه على بعد، ولست أعد هذا من المذهب. وقد انتهى الكلام فيما يتعلق بالقصاص.
10535- فأما إذا قال الجلاد للسارق: أخرِج يمينك اقطعها، فأخرج يساره فقطعها، فالتفصيل فيه أن السارق إن قال: دهشت، وزعم القاطع أنه دهش أيضاً، وقد ذكرنا أن القطع في اليمين المستحَق قصاصاًً لا يسقط في مثل هذه الصورة بسبب ما جرى من الدهشة، وهل يسقط قطع اليمين عن اليسار في الصورة التي نصصنا عليها؟ ظاهر النص أن القطع يسقط عنه؛ فإن الشافعي فيما نقله المزني صوّره من صور النظر، ثم قال: "ولو كان ذلك في سرقة، لم تقطع يمينه، ولا يشبه الحدُّ حقوقَ العباد... إلى آخره" وهذا يُوجَّه بما أشار إليه الشافعي ومن ابتناء حق الله تعالى في العقوبات على الدرء والدفع؛ فلا يمتنع-وقد جرت هذه الغلطةُ- أن يسقط الحد، فإنه حصل بما جرى الردعُ والنكال.
وذكر بعض أصحابنا قولاً مخرّجاً أن القطع لا يسقط عن اليمين، وهذا وإن كان ينقاس، فهو مجانب لوضع حدود الله، ثم إن قيل به، فلا خلاف أن اليمين لا تقطع على الفور بل يمهل حتى يندمل.
ولو قال المخرِج: حسبت اليسار تجزىء عن اليمين، فالقول كما مضى، ولو قال المخرج: علمت أن اليسار لا تجزىء عن اليمين، ولكني غالطت الجلاد، وقال الجلاد: غلطت، فهذه المسألة تخرج على الخلاف أيضاً، وبقاء القطع في اليمين أظهر.
ولو اعترف القاطع والمخرج بالتعمد، فالوجه القطع بأن القطع في اليمين يبقى، ويبقى النظر في أن القطع هل يجب على الجلاد في قطع اليسار، ويعود هاهنا تصوير الإباحة والبذل.
ومما يجب التنبه له أن الاستبدال قصداً لا يُجزىء في حد الله. فهذا منتهى القول في المسألة، والله المستعان.
فصل:
10536- إذا قطع الرجل يدَ مجنونٍ واستوجب القصاصَ، فلا شك أن المجنون ليس من أهل الاقتصاص، ولكن لو وثب المجنون على الجاني، وقطع يده، فهل يقع ذلك القطع قصاصاً؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه يقع؛ فإنه المستحِق للقصاص، وقد جرى القطعُ على صفة الاستحقاق.
والثاني: أن القطع الذي صدر منه لا يقع عن جهة القصاص؛ فإنه لا حكم لفعله، وليس هو من أهل استيفاء حقوقه.
فإن قلنا: لا يقع قطعُه قصاصاًً، ولا يهدرُ القطع؛ فإنه وإن لم يكن من أهل استيفاء الحقوق، فإتلافه مضمون، ثم إن جعلنا له عمداً، فالغرم في ماله، وإن لم نجعل له عمداً، فالغرم مضروب على عاقلته، وسقط القصاص الذي كان يستحقه بسقوط المحل، لا بطريق الاستيفاء، فيثبت له أرش يده في مال الجاني عليه.
وهذا إذا لم يصدر من الجاني تمكين من القطع، فأما إذا أخرج الجاني على المجنون يدَه حتى قطعه قصاصاً، فقد قال العراقيون: لا يقع القطع قصاصاً وجهاً واحداً هاهنا، فإن التفريط من المخرِج الجاني، وليس كما إذا قطع المجنون من غير تمكينٍ من الجاني، ثم قالوا في الصورة الأخيرة إذا جرى القطع، كان هدراً؛ من جهة انتساب الجاني إلى التقصير في تمكينه المجنون من القطع.
هذا ترتيب العراقيين، وليس لما ذكروه ذكرٌ من طريق المراوزة، وليس يبعد ما أوردوه عن قياسهم.
والصبي ينبغي أن يكون فيما رتبوه كالمجنون.
10537- ولو جرى القطع من المجني عليه خطأ، وكان من أهل الاقتصاص لو تعمد، وذلك مثل أن يتّفق منه إشارةٌ بسيف في الظلمة في جهةٍ، وفيها الجاني عليه، فإذا حصل القطع، فهو يقع قصاصاًً، فإن القطع قد وقع والرجل من أهل الاستيفاء، وقد ذكرت هذا مجموعاً إلى مسائل فيما سبق.