فصل: باب: ما ينبغي للحاكم أن يفعله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما ينبغي للحاكم أن يفعله:

قال الشافعي رضي الله عنه: "وينبغي أن يقول: من قتل صاحبك... إلى آخره".
10931- مقصود هذا الباب فنٌّ واحد من الكلام، وهو أن المدعي للقتل إذا أتى بالدعوى تامة متعلقة بمتعيّن مشتملة على كمال الوصف المرعي في الدعوى، فالدعوى مسموعة، ومن الأوصاف المرعية بعد تعيين المدعى عليه أن يذكر كون القتل عمداً أو خطأً، وإن وصفه بكونه عمداً يذكر صفة العمد، ويذكر انفراد المدعى عليه بالقتل إن كان يدعي ذلك فإذا صحت الدعوى، قبلها القاضي، وبنى عليها ما يقتضيه ترتيب الخصومة.
وإن لم يأت الخصم بدعوى تامة، ففي كلام الشافعي ما يدل على أن القاضي يستوصفه، حتى إذا قال: قُتل أبي، يقول له: من قتله؟ فإذا عين القاتلَ، قال له: أقتل عمداً أو خطأ؟ فإن ادعى العمدَ، استوصفه، فإن أحسن وصف العمد، قال له: انفرد بالقتل، أم يشاركه غيره؟ فلا يزال يستفصل حتى يُفضي إلى دعوى صحيحة.
وهذا في ظاهره تلقينُ الدعوى، وفي هذا إشكال، فإن العقوبات على الدرء، والمدافعةُ أليق بدرئها من الاستنطاق بالدعوى الشديدة التي قد تفضي بما بعدها إلى ثبوت الدم.
10932- وقد اضطرب الأصحاب في هذا، فصار صائرون إلى الجريان على النص، وقالوا: ما يذكره القاضي استفصال، وليس تلقيناً، وإنما التلقين أن يقول:
قل كذا وكذا، والذي يوضح ذلك أنه إذا استفصل، فقد يُفسد المدعي دعواه بتفصيله، إذا لم يبيّن له وجه الصحة والفساد، ولو لم يستفصل وأطلق المدعي الدعوى، فرَدُّ دعواه مع إمكان صحتها بعيدٌ.
هذا مسلك.
وقال قائلون: إن لم يكن المدعي غبيّاً،، فلا يتعرض القاضي له حتى يتم الدعوى، وإن كان غبيّاً، فله أن يستفصل، فإن غباوته لو ترك، لانتصبت سبباً في إبطال حقه؛ فإنه لا يدري ما تصح به الدعوى، فإذا ردت دعواه مطلقاً، نبا عن حقه، وأفضى رد الدعوى إلى نِفاره، وإشكال الأمر عليه، من حيث لا يدري محيصاً.
وقال قائلون من أصحابنا: ليس للقاضي أن يستفصل أصلاً. وهذا يخالف النص، فلا يعتد به.
وقال قائلون: إن أشار المدعي إلى جمع فقال: قاتل أبي منهم، فقال له القاضي: من قتله منهم؟ وإن لم يكن كذلك لم يستفصل.
وكل ذلك خبطٌ، والوجه الجريان على النص، والدليل عليه أن صاحب الواقعة لو جاء مستفتياً، وسأل عما تصح به الدعوى، فلا نغادر المعنى بياناً وإن كان ذلك تلقيناً للدعوى، أو تعليماً لتصحيحها، فهذا ما يجب الجريان عليه.
ولكن لا يليق بأدب القضاء أن يعلَّم المدعي كيفية الدعوى بأن يقول: قل: كذا وكذا، ولا يليق بمصلحة الحال أن يسكت حتى يتخبط، بل يستفصل ليعلَمَ، لا ليعلِّم.
ولو ذكر المدعي أن القتل عمد، فلما استوصفه القاضي العمدَ، ذكر ما لا يكون عمداً، بطل دعواه في العمد، وهل تبطل دعواه في أصل القتل؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: بطلت دعواه لتناقض القول فيها، ومنهم من قال: دعواه في أصل القتل مسموعة؛ فإن التناقض جرى في صفة القتل، لا في أصله.
10933- ومما يجب التعرض له في الدعوى اتحاد المدعى عليه، أو وقوع القتل على اشتراك، فإن ذكر أنه قتل أباه وحده، صحت الدعوى، وإن ذكر أنه يُشارك جماعةً ولم يحصرهم، فإن كان المقصود المال، لم تقبل الدعوى، وقد تقدّم ذكرُ هذا، وإن كان المقصود القصاص، فالدعوى مسموعة إذا ذكر أن المشتركين عامدون على الحد المعتبر في العمد الموجب للقود.
هذا هو المذهب الصحيح.
ومن أصحابنا من لم يسمع الدعوى، وإن كان المقصود القصاص؛ فإن الأمر قد يؤول إلى المال. وهذا الوجه ضعيف، وقد أوضحته من قبلُ، وإذا جرى التحليف قبل صحة الدعوى لسهوٍ من الحاكم، فاليمين مردودة، وإن أتى في اليمين بما تصح الدعوى به؛ لأن صحة اليمين مشروطة بتقدم الدعوى الصحيحة، وهذا بيّن.

.باب: عدد الأيمان:

قال الشافعي رضي الله عنه: "ويحلف الورثة على قدر مواريثهم... إلى آخره".
10934- إذا وقعت البداية بالمدعي في أيمان القسامة، فإن اتحد المدعي حلف خمسين يميناً، وإن تعدد المدعون، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً، قلّت حصته، أو كثرت. والقول الثاني- أنا نوزّع عليهم خمسين يميناً، وعلى أقدار حصصهم في الدية لو ثبتت، وهذا هو الذي نص عليه الشافعي، وفرّع مسائل الباب عليه.
توجيه القولين: من قال: يحلف كل واحد خمسين يميناً، احتج بأن قال: لا يثبت الدم إلا بخمسين يميناً، فلو حلف كل واحد بعضَ الأيمان، لاستحق حصته بأيمان نفسه، وأيمان صاحبه، وهذا بعيد في قواعد الخصومة؛ فإن الإنسان لا يستحق بيمين غيره شيئاً، والذي يحقق هذا أنه لو نكل أصحابه، لاحتاج إلى أن يحلف خمسين يميناً، ولا يكفيه في إثبات حصة نفسه أعداد من الأيمان دون الخمسين، فإذا كان كذلك، فأيمان الورثة أثبتت له إذاً مع أيمانه حصته، وهذا خروج بالكلية عن القياس المرعي.
ومن قال: نفُض الأيمان عليهم، احتج بأن المدعي لو كان واحداً، لكفت خمسين يميناً، فإذا تعددوا، فإضافة الاستحقاق إليهم، كإضافته إلى واحد.
وهذا لا حاصل له، والذي أعتقده على مبلغ إحاطتي بتصرف الشافعي أنه عوّل في هذا على الحديث، فإنه عليه السلام قال: «تبرئكم اليهود بخمسين يميناً»، وهذا يشعر بتعددهم مع اعتبار عدد الخمسين في جانبهم، وقد نص الشافعي على تعدد الأيمان في جانب المدعى عليه، ولا تعلق بقوله: "تحلفون خمسين يميناً"، فإن الوارث فيهم كان واحداً، وإنما خاطبهم على الاعتياد. وعلى حالٍ في الحديث تعلُّقٌ، ومن يزلّ عنه، لم يجد مضطرباً في المعنى.
فإن قلنا: يحلف كل واحد خمسين يميناً، فلا إشكال ولا تفريع.
10935- وإنما تتفرع مسائل الباب على القول الثاني، فلا عود إلى القول الأول.
فأول ما نذكره أن القتيل إذا خلّف ابنين مثلاً، والتفريع على توزيع الأيْمان، فيحلف كل واحد منهم خمساً وعشرين يميناً، فإن نكل أحدهما، وأراد الثاني أن يحلف، فليحلف خمسين يميناً، ثم لا يثبت إلا حصته. فإن أراد صاحبه أن يكتفى بأيمانه، ويطلب حصته، لم يكن له ذلك، وهذا يُضعف هذا القولَ، كما نبهنا عليه.
ولو أراد قسمةَ اليمين، فجرّت القسمة كسراً مثل أن يخلّف القتيل ابناً وبنتاً، فالابن يحلف ثلثي الخمسين، وثلثا الخمسين على تعديل الجزئية ثلاثة وثلاثون وثلث، ولكن اليمين لا تتبعض، فلابد من جبر الكسر، ولا سبيل إلى إسقاطه؛ فيحلف الابن أربعة وثلاثين يميناً والبنت يخصها من جهة التجزئة ستة عشرَ يميناً وثلثاً؛ فتحلف سبعةَ عشرَ، هذا لابد منه.
ولو كثر عدد الورثة فبلغوا مائة، فلابد من تحليف كل واحد منهم يميناً، إذا استوت حصصهم.
ولو كان القتيل امرأة وقد خلفَها ابنٌ، وزوجٌ، فالزوج يخصه اثنا عشر يميناً ونصف فيحلف ثلاثة عشرَ يميناً، والابن يخصه سبعة وثلاثون ونصف، فيحلف ثمانية وثلاثين، وعلى هذا البابُ وقياسُه.
والغرض الإحاطة بوجوب جبر الكسر الواقع في أعداد الأيمان إذا قسمت.
ولو كان الورثة جدّاً، وأخاً لأبٍ وأمٍ، وأختا لأبٍ وأم، فالمال بينهم من خمسة للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم فيحلف الجد خُمْسَي الأيمان، وكذلك الأخ، وتحلف الأخت خُمسَها.
ولو كان في المسألة جد، وأخت لأبٍ وأمٍّ، وأخ لأب، فهذا من صور المعاداة والأخ يفوز فيه بالعشر، هكذا يقع تقدير القسمة بالمعاداة، وتكميل النصف للأخت بعد تقدير القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين، فتقع القسمة من عشرة للجد خمسان: أربعة، وللأخت النصف: خمسة، وللأخ سهم، فيحلف الجد خُمْسي الأيمان، والأخ نصفَها والأخ عشرها؛ فإن الأيمان توزع على نسبة القسمة التي تستقر بها الحصص، ولا تقع الأيمان على تقدير القسمة أولاً.
10936- فلو كان في الورثة خنثى فيحلف كل واحد من الورثة على أكثر ما يتوهّم أنه يستحقة من الدية، ويعطى أقل ما يتوهم أنه يستحق منها؛ أخذاً بالاحتياط في البابين.
وبيان هذا بالأمثلة أنه لو خلّف القتيل ولداً خنثى، وأخاً من أب، فيحلف الخنثى خمسين يميناً، لاحتمال أن يبين ذكراً، ويعطى نصف الدية؛ لاحتمال أن يكون أنثى، والأخ لا توجه عليه اليمين، ولكن الخيار إليه، فإن حلف خمسة وعشرين يميناً في الحال، وقفنا نصف الدية، فإن بان الخنثى ذكراً أخذه بالأيمان السابقة، والأخ ساقط، وإن بان الخنثى أنثى، أخذ الأخ النصف الموقوف بالأيمان التي سبقت، ولا يحتاج إلى إعادة يمين. هذا إن أراد الأخ أن يحلف، فإن لم يرد أن يحلف، لم ينزع نصف الدية من مال المدعى عليه؟ فإذاً الوقف ثابت في نصف الدية، ولكن إن حلف الأخ خمسة وعشرين يميناً أخذ ذلك النصف، ووُقف، وإن لم يحلف، لم يؤخذ ذلك النصف.
فإن قيل: هلا قلتم: يؤخذ النصف بأيمان الولد الخنثى، فإنه حلف خمسين يميناً، قلنا: يجوز أن يكون أنثى وإنما حلف خمسة وعشرين يميناً بحق، والباقي فضلةٌ منه غير معتد بها، وانتزاع المال من يده لا يثبت إلا بحجة، وإنما يعلم قيام الخمسين يميناً حجة في الواقعة إذا حلف الأخ خمسة وعشرين. فإن قيل: فلو حلف الخنثى خمسة وعشرين، وحلف الأخ خمسة وعشرين، فاكتفوا بهذا؟ قلنا: قد يكون الخنثى ذكراً، فتقع أيمان الأخ لاغية، ووضوح ذلك يغني عن بسطه.
ولو كان الوارث ابناً، وولداً خنثى، حلف الابن ثلثي الأيمان لاحتمال كون الخنثى أنثى، وأخذ نصف الدية لاحتمال أن يكون الخنثى ذكراً، وحلف الخنثى نصف الأيمان لاحتمال كونه ذكراً، وأخذ ثلث الدية ويوقف السدس الباقي. وإذا حلف الابن الثلثين والخنثى النصف، فينتزع السدس في هذه الصورة من يد المدعى عليه، ونقفه، لأن الأيمان تمت على المدّعَى، وهذا السدس موقوف بين لابن وبين الخنثى.
فإن كان في المسألة خنثيان، وأخ من أب، حلف كل واحد منهما ثلثي الأيمان لاحتمال أن يكون ذكراً وصاحبه أنثى، ويعطيان ثلثي الدية لاحتمال أن يكونا أنثيين، والعصبة بالخيار بين أن يحلف ثلث الأيمان في الحال وبين أن يؤخر إلى أن يبين أمرهما، فإن حلف في الحال، انتزعنا الثلث الباقي من يد المدعى عليه، ووقفناه بين الخنثيين والعصبة، فإن بانا أنثيين دُفع إلى الأخ، وإن بانا ذكرين، دفع إليهما، وإن بان أحدهما ذكراً والآخر أنثى، دفع إلى الذكر منهما.
وإن لم يحلف الأخ في الحال وأخر، لم يؤخذ الثلث من المدعى عليه، لاحتمال أن يكون المستحق هو الأخ، ولم يحلف، فلا نزيل يدَ المدعى عليه عن طائفة من ماله من غير يمين مستحقة.
10937- ولو كان في المسألة ولد خنثى، وبنت، حلف الخنثى ثلثي الأيمان وأخذ ثلث الدية، وحلفت البنت نصف الأيمان وأخذت ثلث الدية، ووقف الثلث الباقي، وإنما يحلف الخنثى الثلثين أخذاً بتقدير الذكورة، وتحلف البنت النصف لجواز أن يكون الخنثى أنثى، ولو كان كذلك، فالثلثان لهما والباقي لبيت المال، ثم إذا أرادتا أن تقسما، حلفتا خمسين يميناً، فإن القسامة في حصة بيت المال محال- فلو قتل رجل قَتْلَ لوث وليس له وارث خاص، فلا وجه إلا تحليف المدعى عليه، وإقامة الخصومة على ترتيب سائر الخصومات- وإذا كان كذلك، فنقدّر الخنثى أنثى، وتحلف البنت على هذا التقدير نصفَ الأيمان، ثم تستحق الثلث.
فإن قيل: كيف تحلف النصف وتستحق الثلث؟ قلنا: لو نكل الخنثى، لحلّفنا البنت خمسين يميناً، ولا تستحق من حصتها شيئاً-والحالة هكذا- ما لم تحلف خمسين يميناً، فكذلك تحلف خمسة وعشرين تكميلاً للأيمان المعتبرة، ويحلف الخنثى ثلثي الأيمان، وأما الثلث الباقي، فلا ينتزع من يد المدعى عليه، فإن ذلك الثلث لم يتحقق استحقاقه من الولدين، وبيت المال لا يتصور أن ينوب عنه حالف.
10938- ولو قُتل رجل، وله ثلاثة من البنين: بالغ حاضر، وصغير حاضر، وبالغ غائب، فالبالغ الحاضر إن أراد حلف في الحال خمسين يميناً، ويعطى ثلث الدية، ولا يُنتظر في إثبات حقه بلوغُ الصغير، ورجوعُ الغائب؛ فإن تأخير اليمين منهما ينزل منزلةَ نكول بعض الورثة، ولو نكل بعض الورثة، فللبعض أن يثبت حصة نفسه، وسبيل إثباته حصة نفسه أن يحلف خمسين يميناً، كذلك إذا كان التأخّر بالصغر في أخ وبالغيبة في أخٍ.
ثم إذا رجع الغائب، فإذا كان يحلف، حلف نصف الأيمان واستحق ثلث الدية، وجعل كما لو كان حاضراً مع أخيه، ولو كان كذلك، لحلف كل واحد منهما خمسة وعشرين يميناً، والأيمان في الأخ الأول اشترطنا فيها كمالاً لتكمل حالة الحلف، ولما حضر الثاني وأيمانه مسبوقة بأيمان أخيه، فيبتني الأمرُ على رغبتهما في اليمين ونكول الصغير.
فإذا بلغ الصبي، حلف ثلث الأيمان، واستحق ثلث الدية. ولو صبر الأول حتى يرجع الغائب ويبلغ الصبي، فيحلفون خمسين يميناً أثلاثاً مع جبر الكسر والجبر يقتضي مزيداً على العدد، ولهذا نظير في الشفعة، فإذا ثبت في الشقص المشفوع حق الشفعة لثلاثة، فحضر واحدٌ منهم أخذ الجميع باليمين، ثم لا يخفى تفصيل المذهب لو حضر الباقيان.
وإنما غرضنا أبداً التناظر.
10939- ولو كان في المسألة: جد، وأخت لأبٍ وأم، وخنثى هو أخ من أب، أو أخت من أب، فنقول: لو كانت الخنثى أنثى لم يخلص إليها من التركة شيء، ولو كان ذكراً، لاستحق عُشر المال، والأخت من الأب والأم في التقديرات كلها تستحق نصف المال؛ لمكان المعادة، والجد استحق النصف لو كان الخنثى أنثى، ويستحق أربعة من عشرة لو كان ذكراً، فإذا أثبتت هذه التقديرات، فالتحليف يجرى على الأخذ بالأكثر، ثم لا يسلّم من المال إلا الأقلُّ المستيقن.
ثم الخنثى في هذه المسألة لا يخلو إما أن يحلف، أو لا يختار الحلف، فإن اختار الحلف، حلف عُشرَ الأيمان، وحلفت الأخت نصفَ الأيمان، وحلف الجد نصف الأيمان، وهذا خارج على الأصول التي مهدناها؛ فإن أقصى ما نفرض على الجد خمسة وعشرين يميناً، ولا مزيد في حق الخنثى على العُشر بتقدير الذكورة، والأخت لا يتصور في حقها تقدير يقتضي أكثر من نصف الأيمان، مع حلف هذا الخنثى.
وفي هذا احتياج إلى فضل بيان وسنذكره الآن، فإن لم يحلف الخنثى، فنقول الجد يحلف خمسة وعشرين يميناً، كما ذكرناه، ويأخذ أربعة أعشار الدية، وإنما حلفناه أكثر مما يأخذ لجواز أن يكون هو مستحق النصف، والأيمان تبنى على الأكثر، وأما الأخت، فينبغي أن تحلف عند نكول الخنثى خمسة أتساع الأيمان؛ فإنا لو قدرنا أخاً من أب على التحقيق، وجدّاً، وأختاً من أب وأم، ثم فرضنا نكول الأخ عن اليمين، لكان الجد في هذه الحالة مع البيان يحلف أربعة أتساع الأيمان؛ فإن الأمر بيّن، وكانت الأخت تحلف خمسة أتساع الأيمان، وإن زادت أيمانها على ما تأخذ، فلا مبالاة بذلك، مع ما قدرناه من الأخذ بالأكثر في باب الأيمان.
فإذا كان هذا التصوير يقتضي أن تحلف الأخت خمسة أتساع اليمين، فإذا نكل الخنثى فنأخذ بالأكثر في الأيمان، وذلك بأن نقدره وأخاً ناكلاً، ولو كان كذلك، لكان الحساب يقتضي أن يكون حَِلْف الأخت والجد على نسبة ما يأخذان والنسبة بالأتساع، والأخذ بالأكثر في الأيمان يوجب أن نحلفها خمسة أتساع الأيمان، ثم لا تأخذ إلا نصف المال.
فانتظم من هذا أن الخنثى إذا لم يحلف، حلفت الأخت خمسة أتساع خمسين يميناً مع جبر الكسر، ويحلف الجد نصف الأيمان.
فإن قيل: لم اكتفيتم إذا حلف الخنثى بنصف الأيمان من الأخت؟ قلنا: لأن الخنثى إذا حلف لم يخل إما أن يكون أنثى أو ذكراً، وعلى التقديرين لا يخص الأخت من قسمة الأيمان أكثر من النصف، وكذا ينشأ حساب الأتساع عند تقدير نكول الأخ عن الأيمان. هذا بيان هذه المسألة.
ورأيت في الطرق خبطاً هو محمول على الزلل الذي يأتي من قلة الفكر، ومثل ذلك لا يعتد به غلطاً أيضاً مع الاتفاق على أصلين:
أحدهما: رعاية الأكثر في الأيمان، والآخر رعاية الأقل في الأنصباء.
10940- وذكر الشيخ أبو علي في المسألة الأخيرة المشتملة على ذكرِ الخنثى أن الخنثى لا يحلف في هذه المسألة، ولو حلف لم يقع الاعتداد بأيمانه، واعتلّ بأنّا نجوّز أن يكون محروماً غير مستحق، والأيمان الصادرة منه على هذا التقدير مردودة.
وهذا الوجه متجه، ولكنه يكرّ على معظم ما ذكرناه بالهدم، وبيان وجهه أن الأيمان من غير دعوى مردودة، والدعوى مع الإشكال محال. فهذا وجهٌ ظاهر، وكان يجب على موجبه أن نقول: لو كان في المسألة ولد خنثى وعصبة، فالعصبة لا تحلف؛ لأنا لم نعلم له استحقاقاً، فلا تصح دعواه، ولابد من تخريج هذا الوجه في العصبة وهو إذاً وجهٌ منقاس مطرد في كل من لا نعلم له استحقاقاً.
ويرد سؤال آخر وفي الجواب عنه تمام الغرض، وهو أن قائلاً لو قال: حلّفتم الجد في هذه المسألة خمسةً وعشرين يميناً، ثم لم تسلموا إليه إلا أربعة أعشار المال، فدعواه إلى تمام النصف مردودة، ثم لو بان الخنثى أخاً، أخذ الباقي، واحتسب بتلك الأيمانِ التي تقابل تكميلَ النصف، فهذه الأيمان إلى تتمة النصف غيرُ مرتبة على دعوى؟
قلنا: نعم هذا مقام يجب الاعتناء بدركه وفهمه وقد تقرّر أنا نزيد الأيمان لإثبات المستحق في بعض الصور، وقد يحلف الإنسان خمسين يميناً ويستحق عُشراً، فهذه الأيمان صحت لإثبات القدر المستيقن، فإذا بان مزيد في الاستحقاق، كفت تلك الأيمان الصحيحة.
ومن لطيف القول في هذا أن تلك الأيمان الزائدة لا تفتقر إلى دعوى على قدرها من المال الذي ثبت في المآل.
10941- ونحن نبيّن صورة أخرى لبيان هذا الذي انتهينا إليه، فنقول: خلف القتيل ولداً خنثى، فالجواب أنه يحلف خمسين يميناً، ويستحق نصف المال، فلو بان ذكراً، أخذ النصف الباقي، بلا مزيد.
ولو قيل هذه المسألة عديمة النظير في الدعاوى، لم يكن هذا القولُ مجازفةً؛ فإن الأيمان صحت لغرضٍ آخر، ثم تبين الاستحقاق، فيكفي ما تقدم، والسبب فيه أن القتل ثبت بالخمسين، وأتبعنا بعض الأيمان البعضَ، ولهذا لا يتصور ثبوت القتل إلا بالخمسين، فهذا نهاية البيان في هذه الأصول.
وعندي أن بعض هذا الاضطراب إنما أتى من التفريع على قولٍ لا أصل له في القياس، والتفاريع إنما تنتظم في سلك المقاييس، فإذا لم يستقم الأصل على القياس، اختبط التفريع.
10942- ثم قال: "ومن مات من الورثة قبل أن يُقسم قام ورثته مقامه... إلى آخره".
إذا قتل رجل وله ابنان-والتفريع على قول التوزيع- فيحلف كل واحد منهما خمساً وعشرين يميناً، فلو مات أحد الابنين عن ابنين قبل جريان الإقسام، قام ابناه مقامه، ووزعنا عليهما خمسة وعشرين من العدد، فيحلف كل واخد منهما مع جبر الكسر ثلاثةَ عشرَ يميناً، ولو مات أحد الحافدين قبل الحلف عن ابنين قاما مقامه في ثلاثة عشر مع جبر الكسر، فيحلف كل واحد منهما سبعة، وهذا قياسٌ واضح، لا غموض فيه.
10943- ومما يليق بتمام البيان أن القتيل إذا خلف وارثاً واحداً مستغرقاً، فأقسم خمسين يميناً، ثم مات، فالدية لورثته، ولو نكل هو عن أيمان القسامة بعد التعرض لها، ثم مات، لم يكن لورثته أن يقسموا؛ فإن حق القسامة بطل بنكوله، وورثتُه ليسوا أصلاء، وإنما لهم الخلافة، فإذا بطل الأصل، فقد انقطعت الخلافة وتقديرها.
10944- ولو حلف وارث القتيل بعضَ الأيمان، ومات في خلالها قبل أن يستكملها، فالذي قطع به أئمة المذهب أنه ليس للورثة أن يبنوا على أيمانه، بل يستأنفون خمسين يميناً، لأن الأيمان الخمسين في حكم اليمين الواحدة، فإذا انقطعت بموت الأول، بطل حكمها.
وذكر الشيخ أبو علي أنه رأى في مكتوب عن الشيخ الخِضْري أن الورثة يبنون على تلك الأيمان، وهذا وإن كان بعيداً في الحكاية، فله وجهٌ مأخوذ من الخلافة، وهو منطبق على التوزيع، ويمكن تخريجه على بناء حَوْل الوارث على حَوْل الموروث، وفيه قولٌ بعيد.
10945- ولو حلف المقسِم بعضَ الأيمان وغُلب على عقله وجُنّ في خلال الأيمان، ثم أفاق، فقد قال الأصحاب: له البناء؛ لأنه إنما يبني على أيمان نفسه.
وفي هذا تدبر ينبني على تمهيد أصلٍ، وهو أن المقسم لو أتى بالأيمان في مجالس أو مجلسين، فقد ذكر القاضي في ذلك وجهين، وأجرى مثلهما في تفريق كَلِم اللعان، ووجْهُ التجويز بيّن، ووجه المنع أن الغرض من تعديد الأيمان التشديدُ والتغليظُ والزجرُ عن الإقدام عليها لا على وجه الصدق، ويعظم وقعها إذا توالت. وإذا تفرقت في المجالس، لم تكن على حدّها في إفادة الرجوع والزجر، وكذلك القول في اللعان، ولعل تواصل الزمان مع اتّحاد المجلس يدخل في هذا التردد، بل هو أولى بالاعتبار، فإنه لو كان يحلف أيماناً ويخرج ويعود على الفور وقُرْب العهد، فأثر الردع لا يسقط، ولو تطاول الزمن وتخللت الفصول، ظهر سقوط الأثر.
وإذا فهم الناظر المقصود، لم يخف عليه التفريع.
ونعود إلى طريان الجنون، فنقول: إذا طرى الجنون، وزال، خرج هذا على التفرق الذي ذكرناه من التردد.
10946- ولو حلف المقسم بعض الأيمان، فعُزل ذلك القاضي الذي ارتفعت الخصومة إلى مجلسه، وولي آخر، فعليه أن يستأنف الخمسين في مجلس هذا الصارف، ولا يبني على الأيمان التي جرت في مجلس المصروف؛ فإن هذا المولّى لا يحكم إلا بما جرى في زمن ولايته، ورأيت الأصحاب متفقين على هذا، ووجهه بيّن.