فصل: باب: ما يسقط القسامة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يسقط القسامة:

قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو ادعى أحد الابنين على رجل من أهل هذه المَحِلة... إلى آخره".
10947- مضمون الباب ليس يفي بترجمته؛ فإن ما يُسقط القسامةَ كثير، وقد تقدم فيما نفينا وأثبتنا معظمُ ما يؤثر في القسامة، ومقصود الباب أصل واحد، وهو بيان الحكم في تكاذب الوليين أو الأولياء في ظهور اللوث بالجهات التي ذكرناها، وأنه هل يؤثر في إبطال القسامة. عذا غرض الباب.
ثم تمام بيانه يقتضي تفريعَ مسائل الصورة الأولى التي ذكرناها: إن القتيل إذا خلّف ابنين، أو أخوين، فقال أحدهما: إن فلاناً قتل موروثي وحده، وقال الآخر: ما قتله فلانٌ هذا، هذا تكاذبهما، وقد قيد الشافعي كلامه بلفظٍ، فقال: "وقال الآخر-وهو عدل- ما قتله".
وما يناط بالتكاذب لا يختلف بكون المكذب عدلاً أو خارجاً عن العدالة، ولكن قال الأصحاب: أراد بالعدل أن يكون المكذِّب من أهل القول، فلا يكون صغيراً ولا مجنوناً.
وهذا التأويل سخيف عندي، ولكن غالب الظن أنه لم يجر شرطاً، وإنما ذكره فرضاً للكلام في أظهر الصور؛ فإن غرضه أن يبيّن أن التكذيب يوهي أثر اللوث ويثير خلافَ المظنون المتلقَّى من اللوث المطلق. ومن أراد تقرير مذهبٍ قد يفرض الكلام في أظهر الصور، فالصورة إذاً كما ذكرنا: رجل قُتل وله ابنان ادعى أحدهما على واحد أنه قتله، وكذبه أخوه، وقال: ما قتله أو كان هو غائباً عن المَحِلّة يوم قُتل أبونا، أو قال: بل قتله فلان وحده، وذكر رجلاً آخر، فهذا هو التكاذب والتجاحد.
10948- وقد اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في ذلك، فقال في أحد القولين: تبطل القسامة بالتكاذب؛ لأن مستندها الغلبة على الظن عند وجود اللوث، وقد وَهَى الظن بتكاذب الوليين؛ إذ لو كان من يدعي أن فلاناً قتَل صادقاً، لأوشك ألا يكذبه أخوه. وقال في القول الثاني: لا تبطل القسامة بهذا، فإن اللوث قائم، وللأولياء في التكاذب أغراض، واليمين مع الشاهد إنما تسمع للتقوِّي بالشاهد، ثم لو ادعى أحد الابنين دَيْناً للموروث، وأقام عليه شاهداً، فكذبه أخوه، فللمدعي أن يحلف مع الشاهد، واللوث في اقتضاء البداية بيمين المدعي كالشاهد الواحد فيما
يثبت بالشاهد واليمين، وهذا اختيار المزني.
فإن قلنا: تبطل القسامة، فلا يُقسم المدعي، كما لا يقسم المكذب، وإن قلنا: التكاذب لا يمنع القسامة، فإذا ادعى أحدهما أن فلاناً قتل أباه، وقال الثاني: ما قتله، فللمدعي أن يقسم خمسين يميناً، ويستحق على المدعى عليه نصفَ الدية إذا آل الأمر إلى المال، ولو كان القتل المدّعى قتلَ قودٍ، فليس للمدعي طلبُ القصاص؛ فإن القصاص إذا ثبت مشتركاً، لم يكن لبعض الشركاء الانفرادُ بطلبه واستيفائه، بل إذا عفا بعضهم، سقط حقُّ الباقين، وكذلك إذا أنكر وجوبَ القصاص.
10949- ولو ادعى أحدهما على رجل اسمه زيد، وقال: قتل هذا أبانا، ورجل آخر معه لا أعرفه، فقال الآخر: قتل أبانا عمرو، ورجل آخر لا أعرفه، فلا تكاذب في هذه الصورة بينهما لجواز أن يكون ما جهله كل واحد منهما هو الذي عرفه صاحبه، ونحن لا نشترط على هذا القول-وهو بطلان القسامة بالتكاذب-التوافق بينهما على التحقيق، بل نكتفي بأن لا يتجاحدا.
والسبب فيه أن التصريح بالتكاذب يوهي اللوث، فأما الجهل بمن يشارك في القتل لا يضعف اللوث، فإذا ثبت أن القسامة تجري في الصورة التي ذكرناها، فيحلف كل واحد منهما على من عيّنه خمسين يميناً ويستحق عليه ربعَ الدية؛ لأنه مقرٌّ بأن صاحبه شريك في المستحَق على هذا المعين، وقد ذكر أنه لم يكن منفرداً بالقتل، فعلى المعيَّن بزعمه نصف الدية، وحصته من النصف الربعُ.
ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيدٌ هذا، ورجل آخر معه، لا أعرفه، ولكني أعرف أنه ليس عمراً، وقال الآخر: قتل أبانا عمرو، ورجل آخر لا أعرفه، وأعلم أنه ليس زيداً، فهذا تكاذب في الحقيقة، ولا يخفى التفريع.
ولو كانت المسألة بحالها، فقال أحدهما: زيد هذا قتل أبي ورجل آخر لا أعرفه، وأعلم أنه ليس عمراً، وقال الآخر: قتل أبانا عمرو ورجل آخر لا أعرفه، ولا أُبعد أن يكون زيداً، فالذي عين زيداً مكذبٌ للذي عيّن عمراً؛ فإنه قال: أعلم أن شريك زيد لم يكن عمراً والذي عيّن عمراً لم يكذب أخاه في زيد، فقد اشتمل قولاهما على التكاذب في عمرو، وليس في أقوالهم ما يوجب تكاذباً في زيد، فنقول: أما زيد فلا تكاذب فيه، فيحلف المدَّعي عليه خمسين يميناً، ويستحق ربع الدية، وأما عمرو، فقد حصل التكاذب فيه.
فإن قلنا: القسامةُ تبطل بالتكاذب، فللّذي ادّعى على عمرو أن يحلِّف عمراً، وقد بطلت البداية بالمدعي، فإن حلف المدعى عليه، برىء من الخصومة وإن نكل عن اليمين، ردت اليمين على المدَّعي، فإذا حلف يمين الرد، استحق عليه ربعَ الدية أيضاً، والتكاذب لا يسد باب التحليف والرد، وإنما يؤثر في إبطال القسامة فحسب.
10950- ولو ادعى أحدهما على زيد وعمرو، وقال: هما قتلا أبانا لم يشاركهما غيرهما وقال الآخر: بل قتل أبانا بكر وخالد، فهما متكاذبان والمسألة مفرعة على القولين: إن قلنا: تبطل القسامة بالتكاذب، ارتدت الأيمان إلى المدعى عليهم، وحَلَّف كلُّ واحد من الابنين اللذَيْن ادعى عليهما، ولم يخف الحكم.
وإن قلنا: لا تبطل القسامة بالتكاذب، حلف كل واحد من الابنين على اللذين عينهما خمسين يميناً، واستحق عليهما نصفَ الدية.
ولو قال أحدهما: قتل أبي زيد، وانفرد بقتله، لم يشاركه غيره، وقال الآخر: شارك زيداً في قتل أبينا عبدُ الله، فقد اتفقا على توجيه الدعوى بنصف الدية على زيد، واختلفا في النصف الآخر، فإن حكمنا ببطلان القسامة بالتكاذب، حلفا على زيد خمسين يميناً، واستحقا عليه نصف الدية، ثم القول قول زيد مع من ادعى انفراده بالقتل أنه لا يلزمه النصف الآخر من الدية، فيحلف، ولا يخفى جريان الخصومة على نظمهما. فأما عبد الله، فلا يقسم عليه من ادعى مشاركته تفريعاً على أن التكاذب يُبطل القسامة، ولكن القول قول عبد الله مع يمينه، ولا يخفى سوْقُ الخصومة.
وإن قلنا: لا تبطل القسامة بالتكاذب، حلف الذي ادعى انفراد زيد خمسين يميناً، واستَحق عليه نصفُ الدية، وحلف أخوه على زيد خمسة وعشرين، واستحق ربع الدية، ويحلف على عبد الله إن أراد خمسين يميناً، ويستحق عليه ربع الدية، فيحصل لكل واحد منهما نصف الدية: ثلاثة أرباع الدية مأخوذة من زيد، وربعها مأخوذ من عبد الله.
وإن أراد الذي ادعى المشاركة التقليل في الأيمان، أمكنه أن يقتصر على خمسين يميناً، وذلك بأن يجمع بين زيد وعبد الله في خمسة وعشرين يميناً، ويفرد عبد الله في خمس وعشرين يميناً.
10951- ولو كانت المسألة بحالها، وكان عبد الله غائباً، فمن ادعى الاشتراك يحلف على زيد، ولا بدّ أن يكون في يمينه قَتَله مع آخر، هذا لابد منه؛ لأن اليمين على حسب الدعوى، وهو لم يدّع انفراد زيد بالقتل، وإنما يدّعي عليه نصف الدم، فليحلف على القدر الذي يدعيه.
ثم إذا حلف كما ذكرناه، وحضر عبد الله، فيحتاج إلى أن يحلف عليه خمسين يميناً، ولا يقع الاعتداد بما قدمه من الأيمان. هكذا حكى من يوثق به عن القاضي، وجرى في كلامه ما يدل على أن المدعي لا يقسم على الغائب، حتى لو اتحد المدعي والمدعى عليه، وكان المدعى عليه غائباً، ولا بينة للمدعي، فلا تسمع دعواه إذا قال: لا بينة لي؛ فإنه لا يحلف.
وهذا فيه نظر، ومن مسالك الأقيسة الجلية، الحكمُ بأن أيمان المدعي مسموعة على الغائب إذا ثبت حضوره وقت القتل؛ فإن الأيمان من المدعي بمثابة البينة في سائر الخصومات، والبينة مسموعة على الغائب، والقضاء مرتبط به إن استدعاه المدعي.
وما حُكي عن القاضي فليس ينقدح فيه وجه جلي، ولكن الممكن فيه أن اليمين إذا تجردت ينبغي أن تكون موقوفة على مستحلِفٍ قياساً على اليمين في جانب المدعى عليه، فإذا لم يحضر من يستحلِف، والمعتمد اللوث المجرد، فتقيُّدُ القضاء على الغائب باعتماد لوث مجرد وأيمان لا مستحلِف فيها بعيد، والتعويل على ضعف الحجة وضعف مستندها. هذا هو الممكن، وكأن اللوث إنما يستقر إذا سلم عن القدح فيه.
ومن يجوّز الإقسام على الغائب يقول في الجواب عن الاستحلاف: لا حاجة إلى الاستحلاف في أيمان القسامة، فإنها تجري والمدعى عليه يأباها بخلاف يمين المدعي.
ولا ينبغي أن يكون في جواز القضاء بالشاهد واليمين على الغائب خلاف بين الأصحاب؛ فإن مستند اليمين شهادة عدل، والقاضي يستفرغ الوسع في البحث عن الشاهد، واللوثُ أمر منتشر.
والوجه مع ذلك كلِّه القضاءُ على الغائب بأيمان القسامة، ثم إن أبدى مطعناً في حضوره، فليس القضاء أمراً لا يتبع، وكل ذي حجة على حجته، وقد قال الشافعي على الاتصال بهذا: "لو أقسم المدعي على الخصم الحاضر، فقامت بينة أن المدعى عليه كان غائباً، فالدية مستودة والقضاء منقوض".
فصل:
قال: "ولو قال المدعي ظلمتُه في هذه الخصومة... إلى آخره".
10952- إذا أقسم المدعي على الشرط المعلوم، وجرى القضاء له بالدية، ثم قال المدعي: ظلمتُه، فإن سئل عن معنى قوله، فإن قال: كذبت عليه، وكان القاتلُ غيرَه، استرددت الدية منه، فإن فسر قوله بأن قال: صدقت في دعواي، ولكن لست أعتقد البداية بالمدعي؟ قلنا له: لا تعويل على عقدك، وقد جرى الحكم لك واستحقاقُك الديةَ باطناً لا يتوقف على قيام حجة، ولو قضى قاضٍ حنفي لشافعي بشفعة الجوار، وكان المقضي له مصرّاً على عقده، ففي ثبوت الشفعة له ظاهراً وباطناً أو ظاهراً خلاف بين الأصحاب.
ونستجمع في هذه الأصناف ونستاقها في نظام من التقسيم يحوي أطراف الكلام في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.

.باب: كيف يمين مدعي الدم:

قال الشافعي رضي الله عنه: "فإذا وجبت لرجل قسامة... إلى آخره".
10953- غرض الباب مقصور على كيفية اليمين وعلى ذكر احتياط في ذكر المحلوف به وعليه.
فأما القول في أعداد الأيمان، فقد سبق. وأما لفظ كل يمين، فإن غلّظ القاضي، قال: قل: "بالله الذي لا إله إلا هو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " أو ما يراه من الصيغ المعظِّمة، وهذا لا اختصاص له بأيمان القسامة، بل كل يمين في أمر مخطرٍ يغلّظ بالمكان، والزمان، والألفاظ، على ما يراه القاضي، ثم إن الكلام في أن هذه التغليظات مستحقة أو مستحبّة يأتي في باب مفرد في كتاب الدعاوى، وقد قدمنا صدراً منها في كتاب اللعان.
والغرض من ذلك هاهنا أن تعدد الأيمان لا يُسقط التغليظَ في ألفاظ كل يمين، ثم القول في تغليظ كل يمين كالقول في تغليظ سائر الأيمان، فلو قال له القاضي: قل: والله، فقال: والرحمن، لم يكن حالفاً، ولو قال القاضي: قل: بالله العظيم الطالب، فقال: بالله، واقتصر عليه، ففي الاعتداد باليمين خلاف مبني على أن التغليظ مستحق أم لا؟ وهذه الأحكام على ظهورها فيها أسرار وغوامض، ستأتي في موضعها، إن شاء الله.
وإذا لم يكن هذا مختصاً بالباب، فلا معنى للإطناب فيه.
ثم يحلفه القاضي ويحتاط في التصريح بالمدَّعى، وقد وصفنا الدعوى، فليقع اليمين بحسبها.
ومما أجراه الشافعي أنه إذا حلف أن فلاناً انفرد بقتل أبي وأتى بالدعوى على شرطها، فيقول: "ما شركه في القتل غيره".
وهذا بالاتفاق احتياط غير مستحَق؛ فإنه إذا حلّفه على انفراده بالقتل، فقد نفى الاشتراكَ، وإذا كانت اليمين معروضة على المدَّعى عليه، فيحلف بالله ما قتله ولا تسبب إلى قتله، ويصرح بما ينفي عنه جهات الضمان؛ لأن معظم الناس لا يرون المتسبب في حكم القاتل، ولو فرض الاقتصار على نفي القتل، ففي هذا فضل نظر، فإن ادعى على المدعى عليه القتل، فَنَفَى القتلَ، جاز الاكتفاء بهذا، وإن ادعى عليه سبباً مضمّناً كحفر بئر، فلا يكفيه نفي القتل؛ فإن نَفْي القتل صريح في نفي المباشرة.
ومعظم هذه الأصناف تأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.

.باب: دعوى الدم في الموضع الذي ليس فيه قسامة:

10954- مقصود الباب أن القتل إذا لم يكن قتلَ لوث، فالبداية بالمدعى عليه، وهو المحلَّف، وفي تعدد اليمين القولان المشهوران، والغرض الآن أنا إذا رأينا تعدد اليمين على المدعى عليه، فإن كان واحداً، حلفناه الخمسين، وإن ادعى على اثنين الاشتراك في القتل، فهل توزّع الأيمان عليهما أم يحلف كل واحد منهما خمسين يميناً؟ فعلى القولين المذكورين في جانب المدعي؛ فإنه إذا تعدد المدعي فكل واحد يدعي مقداراً من الدم لنفسه، ثم في توزيع الأيمان الخلافُ المقدم.
فإذا تعدد المدعى عليهم، فكل واحد منهم يُدّعى عليه مقدارٌ من الدم فتبعُّض الدم في حق المدعي كتبعّضه في حق المدعى عليه، غير أن المدعين قد تتفاوت حصصهم، فتتفرع المسائل في تقسيط الأيمان عليهم، والمشتركون في القتل لا يتفاوتون في الالتزام؛ فيجري التفريع على قول القسمة والفضِّ على حكم التسوية.
10955- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه طرفاً من إقرار العبد بالجناية الموجبة للقصاص، والموجبة للمال، وقد مضى جميع ذلك مستقصىً مفرّعاً على أن موجب العمد ماذا؟ وذكر إقرار العبد، وهذا سيأتي في كتاب السرقة، إن شاء الله، وشرْطُنا في هذا المجموع أن نجتنب الإعادات، إذا لم تمس إليها حاجة.
10955/م- وذكر الشافعي السكران وأنه لا يحلف حتى يفيق، وهذا يخرّج على أن السكران هل له قول؟ فإن لم نجعل له قولاً، لم يدّع ولم يحلف، وإن جعلناه كالصاحي في عقوده وحلوله، فقد قال الشافعي: لا يحلفه القاضي حتى يُفيق؛ فإن الغرض من الأيمان الزجر عن التمادي في الكذب، والأيمان لا تزجر السكران، وهذا لا يختص بأيمان القسامة، بل يجري في كل يمين.
ثم اضطرب أئمتنا في أن القاضي لو حلفه هل يقع الاعتداد بحلفه؟ منهم من قال: يُعتد به، ولكن أساء القاضي، وحاد عن المسلك المرتضى، لأنه من أهل الأقوال جُمَع، ْ ولذلك صحّحنا رجوعه عن الردّة في السكر، كما صححنا ردته. ومن أئمتنا من قال: لا يعتد باليمين؛ فإنه ليس يحصل باستحلافه المقصودُ المنوطُ بالحلف، والقائل الأول يقول: الزنديق يحلف وإن كان يستهين باليمين، ويجوز أن يجاب عنه بأن السكر إلى انقضاء، وارتقابُ زواله ليس أمراً بعيداً، بخلاف الزندقة والعقود الفاسدة.
فصل:
قال: "وهكذا الدعوى فيما دون النفس... إلى آخره".
10956- قد أجمع الأصحاب على أن القسامة لا تجري في الأطراف، والمعنيّ بالقسامة في النفي والإثبات البداية بالمدعي، ولا فرق بين أن يفرض قطعها مع اللوث، أو منْ غير لوث، وهذا مما يغمض فيه مُدرك التعليل؛ فإن الأطراف مصونة بالقصاص صَوْن النفوس، وكان لا يبعد من طريق المعنى أن تُتْبَعَ القسامةُ محالَّ القصاص، ثم كان لا يفرق بين ما يقع خطأ وبين ما يقع عمداً، ولكن الإجماع كما ذكرنا.
فإذا نفينا القسامة لم يبق تحالف، وأقصى ما ذكر في الفصل بين الأطراف والنفوس أن الكفارة لا تتعلق بالأطراف، وتتعلق بالنفوس، وهذا لا يقع الاكتفاء به مع الاستواء في القصاص، ومع الاتفاق على أن العاقلة تحمل أروش الأطراف. هذا هو الذي عليه التعويل.
10957- ثم إذا تبين أن البداية في الأطراف بالمدعى عليه، فقد اختلف القول في أن الأيمان هل تتعدد؟ ويمكن أن يُرتَّب الطرف على القتل الذي لا لوث فيه؛ فإن الطرف تقاعد عن النفس في وضع الباب في ثبوت القسامة وانتفائها، ثم إذا فرعنا على أن اليمين تتعدد في أرش الطرف، فإن كان الأرش كالدية، فقولان:
أحدهما: الاكتفاء بيمين واحدة.
والثاني: أن المدعى عليه يحلف خمسين يميناً.
فإن كان الأرش أقلَّ من الدية وقلنا: يكفي يمينٌ في مقدار الدية، فلا كلام، وإن قلنا: خمسين يميناً، ففيما ينقص عن مقدار الدية قولان:
أحدهما: أنا نوزع الخمسين على مقدار الدية، وفي نصف الدية خمس وعشرون، وفي ثلثها ثلث الخمسين، وهكذا إلى حيث تنتهي المقادير. والقول الثاني- أنه لابد من خمسين يميناً، وإن قل الأرش، وكذلك لو كان حكومة غير متقدرة.
ولو بلغت الأروش مقدار ديتين أو أكثر، فهل تزيد أقدار الأيمان بزيادة مقدار الأروش؟ فعلى قولين. وهذا قريب المأخذ من الخلاف المذكور في أنا هل نزيد على ثلاث سنين في مدة الضرب على العاقلة إذا زادت الأروش.
10958- ومما يجب رد النظر إليه أن الأئمة اختلفوا في أن دية المرأة تضرب في ثلاث سنين أو في سنتين، ثم تردد الأصحاب في أن الاعتبار بالنفس أو بالمقدار؟ فهل يجري هذا التردد في النفوس الناقصة إذا كان المستحلَف المدعى عليه؟ هذا فيه احتمال، والأشبه تعظيم النفوس في باب الأيمان والتسوية بين ما يكمل بدله وبين ما ينقص بدله، ولا يبعد إجراء الخلاف.
أما إذا فرضنا الإقسام على النفوس والبداية بالمدعي، فلا شك أنا لا نفرق بين نفس ونفس؛ فإن حجة المدعى خمسون يميناً، ولو كانت القسامة تجرى في الأطراف تقديراً، لما اختلفنا في تعدد الأيمان. وإن قلّت الأروش.
10959- ثم ذكرت الأئمة فرعاً مقتضباً من أصول جامعة لا غموض فيه، ولكنه يذكرها ويهذبها، فنقول: إذا ادعى على شخصين قطع يد فيخرّج فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهما يحلفان يميناً يميناً، وهذا يخرّج على أن الأيمان لا تتعدد في الأطراف. والقول الثاني- أنه يحلف كل واحد منهما خمسين خمسين، وهذا على قول التعدد، وعلى نفي التوزيع على الرؤوس وعلى قدر الدية. والقول الثالث: أنه يحلف كل واحد خمسة وعشرين، وهذا على قول التعدد، وعلى أن لا توزيع على مقدار الدية وعلى أن الأيمان موزعة على الرؤوس. والقول الرابع- أنه يحلف كل واحد منهما ثلاثة عشر يميناً، وهذا على أصل التعدد، وعلى التوزيع على المقدار، والتوزيع على الرؤوس. فنقدّر لنصف الدية خمساً وعشرين، ثم نوزعها على اثنين مع جبر الكسر، فيحلف كل واحد منهما ثلاث عشرة يميناً، ولا يخفى على من أحاط بالأصول ما ذكرناه وأمثاله، إذا ألقاها السائل.

.باب: كفارة القتل:

قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [الآية... إلى آخرها النساء: 92].
10960- القتل إذا صادف آدمياً محترماً لعينه، ولم يكن مباحاً، اقتضى الكفارة على من هو من أهل التزامها، ثم إن كان القتل مضموناً بالقود والدية، فتجب الكفارة به، وتمسك الشافعي رضي الله عنه بآية الكفارة وهو قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} ورأى التقييد بالخطأ دالاً من طريق الفحوى على أن القاتل عمداً بالتزام الكفارة أَوْلى، وخلاف أبي حنيفة في ذلك مشهور.
ثم لا فرق بين أن يكون القتل عمداً أو خطأ، أو شبه عمد.
ولا فرق بين أن يكون القاتل مكلَّفاً أو غير مكلف.
ولا فصل بين أن يحصل القتل بالمباشرة أو بالسبب.
والذمّي من أهل التزام الكفارة كالمسلم.
ولم يختلف الأئمة في إيجاب الكفارة في مال الصبي والمجنون، إذا قَتَلا أو تَسبَّبا، وإن اختلفوا في إيجاب كفارات محظورات الإحرام.
والسبب فيه أن تيك الكفارات متعلقة بالعبادات، ولا يتحقق في حق الصبيان تأكدُ العبادات على مبلغ التأكد في حق المكلف. وكان شيخي أبو محمد يقول: إذا جامع الصبي الصائم في نهار رمضان، لم يلتزم الكفارة وجها واحداً، بخلاف كفارات الإحرام؛ فإن كفارات الإحرام إنما تثبت على مذهبٍ لتأكد الإحرام، ثم إذا أثبتنا الكفارة في حق الصبي، فالإعتاق عنه في صباه سائغ. وأما الصوم، فهل يصح من الصبي؟ وإذا جاء به هل يقع موقع الإجزاء في الكفارة؟ هذا فيه تردد مأخوذ من قول الأصحاب، مبني على أنه إذا أفسد الحجَّ هل يصح منه قضاؤه في الصبا؛ فإن قيل: إذا كان متعبداً بصوم رمضان ووظائف الصلوات الخمس، فما وجه التردد في صوم الكفارة؟
قلنا: الوظائف الشرعية لا تقع منه فرضاً، والكفارة لا تقع قط إلا فرضاً، وإنما تردد الأصحاب في قضاء الحج؛ لأن وجوبه يدوم بعد البلوغ، ولو أفسد الصبي الصلوات وصيام أيام رمضان، ثم بلغ، لم يخاطب بقضائها.
وما ذكرناه كله في القتل المضمون بالقصاص أو الدية.
10961- فأما إذا لم يكن القتل مضموناً، فهو ينقسم إلى محظور وإلى غير محظور، فأما ما لا يوصف بالحظر، فلا نوجب الكفارة مثل قتل المرتد، والزاني المحصن، والقاتل في الحرابة، والقتل قصاصاً، والقتل الواقع في الدفع.
وأما القتل المحظور، فإنه ينقسم إلى محظور بالإيمان كدم العبد في حق السيد، فإذا قتل السيد عبدَ نفسه، التزم الكفارة، وكأن الدم مضمون للآدمي ولله تعالى، وبدل الدم للسيد لو قتل العبدَ، فإذا كان هو القاتل، امتنع ثبوت القيمة، وبقي محل حق الله تعالى مضموناً عليه بالكفارة.
وأما نساء الكفار وأطفالهم، فإنا نحرم قتلهم، كما سيأتي في السِّير، ولا كفارة على من قَتَل منهم، والسبب فيه أن الكفارة إنما تتعلق بقتل يصادف آدمياً محترماً في عينه، والامتناع عن قتل الذراري والنسوان ليس على حرمة ثابتة، وإنما هو مأخوذ من استصواب الشرع في استبقائهم خَوَلاً والاشتغال برجال القتال، فآل أمر الكفارة إلى ما ذكرناه.
وقال بعض المحققين في حدّ القتل الموجب للكفارة إذا صادف القتلُ مَنْ دمه محقون بأمانٍ أو إيمان، ولم يكن مباحاً، فنقْضُ بِنْيةِ مَنْ هذا وصفُه يوجب الكفارة، وفيما ذكرناه احتراز عن الذراري والنسوان من أهل الحرب.
ولا حاجة إلى هذه التقييدات والتعويل على ما قدمناه من ثبوت الحرمة، ويخرّج عليه العبد في حق السيد، وعبدُ الذمي في أمان الذمي، فهو محترم وإن كان كافراً كالذمّي نفسه.
10962- ثم تكلم الأصحاب على الآية المشتملة على الكفارة فقالوا: قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} إنما تقيّد للتنبيه على أن الكفارة تجب وإن وقع القتل من غير مأثم، والكفارات كاسمها ممحّصات، قال الشافعي رضي الله عنه: "هذا التقييد يدل على أن القاتل عمداً بالتزام الكفارة أولى " وتقرير هذا في الخلاف.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] والمراد الذمّي أو المعاهد إذا قُتل.
وقال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] وفي ذلك مسائل:
إحداها: أن يرمي إلى صف الكفار، ويقصد كافراً بعينه، ولا يعلم بمكان مسلم في الدار، فمال السهم وضاف، وأصاب مسلماً جهل الرامي مكانه، فلا قود عليه ولا دية، وتجب الكفارة، وهذا هو الذي سماه الفقهاء: قتيل سهم الغَرْب.
وشرط التصوير في هذه المسألة أن يكون المسلم في القطر الذي فيه موقف الكفار، وقد يكون أسيراً فيهم، أو تاجراً من المسلمين، عَسُر عليه الالتحاق بالمسلمين؛ فإن السهم لو مال إلى بعض من في صف المسلمين في ازورار الصفوف والتحام الفئتين وقتله، كان مضموناً بالدية.
ولو علم أن في الدار مسلماً، فقصد كافراً، فأخطأ السهمُ وأصاب المسلم، فلا قود، وتجب الدية والكفارة، ولو لم يعلم مسلماً في الدار، وقصد شخصاً قدّره كافراً، بأن كان في صفهم أو على زيّهم، فبان مسلماً، لم يلتزم القود، ولزمت الكفارة، وفي الدية قولان، وكان شيخي يطرد القولين في الدية إذا مال السهم إلى أسير مسلم، وكان يعلم أن فيهم مسلماً، ونزّل هذا منزلة ما لو قصد شخصاً ظنه كافراً، فكان مسلماً، وهذا منقاس حسن.
وإذا قتل في دار الإسلام شخصاً علمه كافراً من قبلُ مباحَ الدم، فتبين أنه كان أسلم-والقاتل نجهل ذلك من حاله- فالدية تلزم، وفي وجوب القود قولان، وذلك لأن دار الإسلام دار حقْنٍ، فيجب أن يكون القتل فيه على تثبت بخلاف دار الحرب، وإذا جرى قتلٌ على الصورة التي قدمناها في دار الحرب فلا ينسب القاتل-بترك التعرف- إلى تفريط.
هذا مجامع القول فيما يوجب الكفارة، وفيمن يلتزمها.
10963- ثم نختتم الباب بأوجه غريبة في مسائل: منها ما ذهب إليه أئمة المذهب أن من قتل عمداً، واقتُصّ منه، فالكفارة تجب في تركته، وحكى صاحب التقريب وجهاً غريباً نقله وزيّفه أن القصاص يُسقط الكفارة، وتقع النفس في مقابلة النفس، والسيفُ محّاء الذنوب. وهذا غير معتد به.
ومما ذكر غريباً في الباب أن جماعة من أهل الالتزام إذا اشتركوا في قتل إنسان مضمونٍ بالكفارة، فيجب على كل واحد منهم كفارةٌ بكمالها؛ فإن تعطيل الكفارة لا سبيل إليها، وهي لا تتبعض، وحكى بعض الأئمة قولاً غريباً أن الكفارة الواحدة تُفَضُّ على المشتركين، حكاه شيخي والعراقيون، وتوجيهه على بعده قياسُه على جزاء الصيد، فإن جماعة من المحرمين إذا اشتركوا في قتل صيد، لزمهم جزاءٌ واحد، وهو غير سديد؛ فإن بعض الجزاء يجب في بعض الصيد، فلا يمتنع تبعيض الجزاء بالقسمة، بخلاف كفارة القتل.
ومما ذُكر غريباً أن كفارة القتل في الأصل مرتّبة ترتب كفارة الظهار: أصلها الإعتاق، فإن فرض العجز عنه، فصوم شهرين متتابعين، ثم صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الظهار إذا فرض عجزٌ عنه، فإطعام ستين مسكيناً بدلاً عن الصيام، دل عليه نص القرآن، ولم يذكر الله سبحانه وتعالى الإطعامَ في كفارة القتل بدلاً.
هذا هو المذهب.
وحكى بعض الأئمة قولاً غريباً: أن الإطعام يَبْدُل الصيام ويخلُفه، عند فرض العجز عنه قياساً، على كفارة الظهار.
وهذا غريب حكاه صاحب التقريب، وهو غير معتد به.
ثم مما يجب التثبت فيه أن من لزمه صوم شهرين في كفارة القتل، ثم مات، فإنا نوجب في تركته ستين مُدّاً، وليس هذا كفارة، ولكنه بدل كل صومٍ واجب، ونحن نثُبتها بدلاً عن صوم شهر رمضان، وعن الصوم المنذور، كما تقدم شرحه في كتاب الصوم.
ومن انتهى إلى هَرَمٍ وكان لا يطيق الصوم، فقد نقول يفدي الصوم الواجب عليه قضاء، أو نذراً بأمداد الطعام، ولو أثبتنا الأمداد بدلاً، لم يتوقف الانتقال إليها على الانتهاء إلى الهرم، وقد ذكرنا الحدّ المعتبر في العجز عن الصيام الذي يجوز لأجله الانتقال إلى الإطعام.
فرع:
10964- إذا قتل الرجل نفسه، ففي وجوب الكفارة في تركته وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه يجب وهو الأصح لمصادفة القتل بِنْيةً محترمة في عينها، والكفارة لله تعالى، فصار كما لو قتل السيد عبد نفسه.
ومن أصحابنا من قال: لا تجب الكفارة أصلاً، لأن الكفارة لو وجبت، لوجبت بالموت، وهو بالموت يخرج عن أن يكون من أهل الالتزام.
ونحن الآن نمهد أصلاً، فنقول: إذا جرى في الحياة سببٌ كحفر بئر أو نصب شبكة، ومات المتسبب، وحصل القتل بذلك السبب بعد موته، فالضمان يجب في تركته إن كان المتردي بهيمة، وإن كان آدمياً، فالديةُ على عاقلته، وفي الكفارة تأمل؛ من جهة أنها عبادة، والعبادات يبعد إيجابها بعد الموت، وهذا يخرّج على قولٍ حكيناه في أن من لم يوصِ بأن يُكفَّر عنه هل تسقط الكفارة بموته؟ فإذا قلنا: إنها تسقط، فلا شك أنها لا تجب بعد الموت.
وأما غرامات الأموال، فإنها تتعلق بالتركة، وإن حصل الهلاك بعد الموت إذا جرت الأسباب المضمِّنة في الحياة، وليس ما ذكرناه بمثابة قتل الإنسانِ نفسَه، فالأصح وجوب الكفارة.
ثم إذا اصطدم رجلان، وماتا، فقد ذكرنا حكم الدية في باب الاصطدام، فأما الكفارة، فإن أوجبنا الكفارة على من يقتل نفسه، فيجب على كل واحد منهما كفارتان؛ لأنه مشارك في قتل نفسه وقتل صاحبه. وإن فرعنا على أن الكفارة لا تجب على من قتل نفسه، فتجب على كل واحد منهما كفارة لمشاركته في قتل صاحبه، وإن قلنا: يجب على الشريك بعض الكفارة، ولا يجب على من قتل نفسه كفارة، فيجب على كل واحد منهما نصف كفارة، وهذا يتفرّع على قولٍ بعيد ووجه ضعيف.
وإذا اصطدمت امرأتان حاملتان وأجهضتا جنينيهما، وماتتا، وفرعنا على الأصح، وقلنا: على من يقتل نفسه كفارة، فيجب على كل واحدة منهما أربع كفارات، لسعيها في قتل نفسها، وقتل جنينها وقتل صاحبتها وقتل جنينها ولا يخفى التفريع على الوجوه الفاسدة. ثم ذكر الشافعي باباً في أن القاتل خطأ لا يرث، وقد استقصينا ما يوجب حرمان الميراث في كتاب الفرائض.