فصل: باب: الشهادة على الجناية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الشهادة على الجناية:

قال الشافعي: "ولا يقبل في القتل وجراح العمد... إلى آخره".
10965- صدر الشافعي رضي الله عنه الباب بطرف من الكلام فيما يقبل فيه شهادة الرجل والمرأتين، وفيما لا يقبل فيه إلا شهادة عدلين، ولسنا نلتزِم ثَمَّ ضبط ذلك وتحرير كلام جامع فيه؛ فإن هذا يأتي مستقصىً في كتاب الشهادات-إن شاء الله عز وجل- والقدْر الذي نذكره هاهنا تمهيداً وتفريعاً، القول في الجراح والجنايات المتعلقة بالنفوس والأطراف.
فنقول: القصاص لا يثبت إلا بشهادة عدلين في النفس والطرف، والجناية التي موجَبها القصاص لو ثبتت لا تثبت في نفسها إلا بشهادة عدلين، وليس ما ذكرناه تكريرأ؛ فإنه قد يظن ظان أن الجناية إذا كانت موجِبةً للقصاص، فإذا شهد عليها رجل وامرأتان، فالقصاص لا يثبت والمال يثبت، وليس كذلك، فإنا لا نثبت بالرجل والمرأتين القصاصَ، ولا الجنايةَ الموجبةَ للمال، وسنعلّل هذا؛ فإنا في نقل المذهب نَعُدّ الجناية التي لا يتعلق بها وجوبُ القصاص: إما لوقوعها خطأ، أو شبهَ عمد، أو لصدورها من صبيّ أو مجنون، أو لمصادفتها من لا يكافئ القاتل- تثبت بشاهد وامرأتين، وهذا يبتني على اتباع المقصود، والجناية التي لا يتعلق بها القصاص مقصودها المال، وما كان المقصود فيه المال، فهو يثبت بالشاهد والمرأتين.
والجناية التي توجب القصاص مقصودها القصاص، وما لا يكون المال مقصوداً فيه، وهو مما يطلع عليه الرجال، فلا يثبت بشاهد وامرأتين.
وهذا يرد عليه نوعان من السؤال:
أحدهما: أن قائلاً لو قال: هلا خرّجتم ذلك على موجب العمد، واختلاف القول فيه حتى تقولوا: إن قلنا موجَبُ العمد القود، فالجناية لا تثبت أصلاً، فإن قلنا: موجبها القود أو الدية، فليس أحدهما أن يكون مقصوداً أوْلى من الثاني، فلا يبعد أن يقال: تثبت الجناية مقتضية للمال، ولا يثبت القصاص؟
قلنا: نحن لا نشك أن المقصود الذي هو الأصل في جراح العمد القصاصُ؛ وليس المعنيُّ بقولنا: المالُ أحدُ الموجَبين أنه يضاهي القصاص؛ فإنّ غرض الشرع إثبات ما يزجر المعتدين، ولا يقع الزجر-فيما فهمناه من مقصود الشرع- بالغرم المالي، والدية حيث يفرض القصاص إنما تثبت حتى لا تتعطل الجناية ولا تقع هدراً، وهذان الأمران مفهومان من غرض الشرع، فيخرج منه أنا وإن قلنا: المال موجب، فلسنا ننكر كون القصاص مقصوداً، فهذا ما يضبط به أصل الباب.
10966- ويتصل بهذا المنتهى أن المدعي لو عفا عن القصاص أولاً، ثم أراد إقامة شاهد وامرأتين، فهل يثبت المال والجناية في أصلها موجبةٌ للقصاص؟ فعلى وجهين مذكورين في الطرق:
أحدهما: أن المال يثبت؛ فإن القصاص خرج عن كونه مقصوداً بالعفو، وتعيّن المال، وإذا صار المال مقصوداً، وجب ألا يمتنع ثبوته بالشاهد والمرأتين.
والوجه الثاني- أن الجناية لا تثبت إلا بشهادة عدلين، فإن الشاهد يسند شهادته إلى ما كان، والعفو جرى بعد مستند الشهادة، فكأن أحد القائلَيْن ينظر إلى أصل الشهادة، وهذا فيه فقه غائص يعضده أن المال لا يثبت قبل العفو.
وإن قلنا: المال مع القصاص متقابلان، والبدل أحدهما، والقائل الثاني يعتبر حالة قيام الشهادة ولا قصاص إذ ذاك، ويعتذر هذا القائل عما قبل العفو، بأن المال وإن كان بدلاً غير معيّن فثبوته معيناً، والجناية عمد بعيد.
فهذا قاعدة الباب.
ومهما قلنا تثبت الجناية بشاهد وامرأتين، فإنها تثبت بشاهد ويمين المدعي، وهذا مطرد إلا فيما ليس بمالٍ ويعسر اطلاع الرجال عليه، فإنه يثبت بالشاهد والمرأتين، ولا يثبت بالشاهد واليمين؛ والسبب فيه أن النسوة متأصلات فيما لا يطلع عليه الرجال منهن، فامرأتان مع رجل كرجل مع رجل، ولهذا تقبل شهادة أربع نسوة منفردات، لا رجل معهن، فلم يكن قبول شاهدٍ ويمين بمثابة قبول شاهد وامرأتين في الأموال بالإضافة إلى ما ليس بمال ولا يؤول إلى مال، وهو مما يطلع عليه الرجال، فإنا حططنا رتبة المال وقنعنا فيه ببيّنة منحطة عن شهادة الرجلين العدلين، وما يتعلق بأبدان النساء خطير في نفسه، وليس شهادة الرجل والمرأتين فيه لانحطاطه.
فصل:
قال: "وإن كان الجرح هاشمة أو مأمومة... إلى آخره".
10967- قد ذكرنا في كتاب الجراح أن القصاص لا يتعلق من شجاج الرأس إلا بالموضحة، فإذا كان المدَّعَى الموضِحةَ الواقعةَ على وجه يقتضي القصاص، فلا شك أنها لا تثبت بشاهد وامرأتين، ولو فرضت هاشمة، لم يتقدّمْها إيضاح، وكانت هي المدعاة تثبت بالشاهد والمرأتين، وكذلك القول في كل جراحة لا يتعلق بها القصاص، كالجائفة وما أشبهها.
فأما إذا ادعى موضحة متصلة بالهشم، فالجناية مشتملة على ما يوجب القصاص وعلى ما لا يوجب، فإنها لو ثبتت ببيّنة كاملة، أو بإقرار المدعى عليه، جرى القصاص في الإيضاح، وثبت المال في مقابلة الهشم.
فإذا تصورت المسألة، فالمنصوص عليه للشافعي أن هذه الجناية إذا شهد عليها رجل وامرأتان قبل العفو عن القصاص، لم يثبت منها شيء، لا موجَبُ الموضِحة، ولا أرشُ الهاشمة، ونص الشافعي على أن من ادعى أن فلاناً اعتمد رجلاً بالرمي وأصابه، ونفذ السهم منه إلى أبيه-يعني أب المدعي- فأصابه خطأ، فلا يثبت العمد برجل وامرأتين، ويثبت ما وراءه مما وقع خطأ، وهو نفوذ السهم إلى أب المدعي، وهذه الصورة تناظر الموضحة المؤدية إلى الهاشمة؛ من جهة أن الموضحة جرح قصاص وما وراءها جرح مال، كذلك القول في السهم المرسل عمداً النافذ من المقصود المعمود إلى من لم يُقصد.
فاختلف أصحابنا في المسالتين: فمنهم من جعل فيهما قولين بالنقل والتخريج:
أحدهما: أن المال يثبت فيما لا قصاص فيه في المسالتين، وهو أرش الهاشمة في مسألة الهاشمة، ودية من أصابه السهم النافذ خطأ في الأخرى.
ووجه ذلك أن الدعوى اشتملت على أمرين:
أحدهما: منفصل عن الثاني، فإن رُدت البينة الناقصة في أحدهما، فلا معنى لردها في الثاني، ولو أفرد الهاشمة ووقوعَ السهم خطأ بالدعوى، وأقام على ما يدعيه بينة ناقصة، لقبلت، فإذا جمع بين دعوتين، وقامت البينة عليهما، واقتضى الشرع ردَّ البينة في أحدهما، فلا معنى لردّها في الثاني.
والثاني: لا يثبت أرش الهاشمة، ولا موجَب الخطأ؛ لأن الفعل واحد، وله أثران، وموجبان، فإذا كانت البينة مردودة في بعض موجَب الفعل، ردت في الجميع، بدليل أنها مردودة في الدية والجراح العمد وإن قلنا: الموجب القود أو الدية: أحدهما لا بعينه.
10968- ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرق بين الموضحة المؤدية إلى الهاشمة، وبين الرمي الواقع عمداً لشخص والنافذ منه خطأ إلى غيره، وقال: الموضحة المؤدية إلى الهاشمة تعدّ جناية واحدة ومحلها متحد، وإنما تختلف الآثار، والمحلُّ متعدد متميز في الشخصين المذكورين في مسألة الرمي.
وهذا يحتاج إلى بحث، ثم إلى تمهيد: أما البحث، فقد ذكرنا في مسألة الشخصين والسهم النافذ من أحدهما أن المدعي لو قال: سهمه الذي رماه عمداً تخطى مقصودَه، ثم نفذ إلى أبي، ولم يكن الرجل الأول متعلّق حق المدعي، فيجب القطع بأن الخطأ يثبت بالبينة الناقصة، وأن ما ذكره من عمده لا يتعلق بدعواه، وكأنه نقص قضيته ولا يدعيها، ومبتدأ الدعوى بعد نجاز ذكر العمد. نعم، لو كان الشخص الأول من المدعي بسببٍ بحيث يثبت القصاص له لو ثبت، فهذا مراد النص، وما ذكرته من كون المعمود منقطعاً عن المدعي فيه احتمال على حال؛ فإن الجناية في نفسها عمد مُفضٍ إلى خطأ، والعلم عند الله.
ولو ادعى أنه أوضح الرأس، ثم عاد وهشم، وانفصل الهشم عن الإيضاح، فموجب الهاشمة يجب أن يثبت؛ فإنها لم تتصل بالموضحة، ولم تنتظم معها انتظام آثار جناية واحدة، فهذا نتيجة البحث.
وأما التمهيد، فلو ادعى رجل قصاصاً، وادعى مع القصاص مالاً في جهة لا تعلق لها بدعوى القصاص، فالجمع بين الدعوتين سائغ، فلو أقام شاهداً وامرأتين على الدعوتين، فالمذهب المبتوت أن المال يثبت وإن لم يثبت القصاص، واشتمال الشهادة على أمرين منفصلين غير ضائر، والرد في أحدهما لا يوجب الرد في الثاني.
وأبعد بعض من لا حقيقة معه، فقال: إذا ردت الشهادة في شيء لو أفرد بالذكر، لردت فيه، فترد أيضاً فيما لو أفرد بالذكر، لقبل فيه، وإن لم يكن أحدهما متصلاً بالثاني ومفضياً إليه، وهذا هَوَسٌ لا يعتد بمثله، فليقع التعويل على أنهما إذا كانا منفصلين فردُّ الشهادة في أحدهما لا يوجب الردّ في الثاني إنما التردد الذي قدمناه بين النصين في أمرين يتصل أحدهما بالثاني كالسهم النافذ من شخص إلى شخص، وكالجراحة المتعدية من الإيضاح إلى الهشم. وقد نجز الغرض من تحقيق هذا الفصل.
10969- وافتتح صاحب التقريب بعد هذا تفريعاً فقال: إذا قلنا: تثبت الهاشمة وأرشها على قول، فهل يثبت القصاص في الموضحة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يثبت ويكون في حكم التابع، كما أن الولادة إذا ثبتت في الفراش بشهادة النسوة، ترتب عليها النسب، وإن كان النسب لا يثبت مقصوداً بشهادة النسوة.
وهذا الذي ذكره على نهاية الضعف، وقد حكاه الشيخ أبو علي على هذا الوجه، وهو عكس ما قدمناه في تمهيد المذهب، فإنا أتبعنا الهاشمةَ قصاصَ الموضِحة في الإسقاط؛ من حيث رأينا القصاص أولى بالاعتبار، وهذا الذي ذكره تأصيل أرش الهاشمة وإتباع القصاص إياه في الثبوت، وهو عكس الواجب، وليس من ضرورة الهاشمة تقدّم موضحة أو وجوب القصاص في موضحة، والولادة إذا ثبتت، فالولد للفراش لا محالة، قال الشيخ أبو علي: إن لم يكن من التفريع بد، فالأقرب أن نقول: إذا أثبتنا أرش الهاشمة، لم يثبت قصاصُ الموضِحة، ولكن هل يثبت أرش الموضحة من حيث وجدنا فيه متعلقاً لثبوت المال؟ فعلى وجهين، وليس كجناية موجبة القصاص، غيرِ مفضيةٍ إلى ما يوجب المال المحض؛ فإنه ازدحم القصاص والمال، ولا سبيل إلى جمعهما، فكان النظر إلى القصاص.
وإذا اشتملت الجناية على الهاشمة والموضحة، فقد يثبت مال حيث لا قصاص فقد يحتمل أن نستتبع مالية الموضحة. فأما استتباع قصاص الموضحة، فبعيد عن التحقيق، كيف والنص قاطع بأن أرش الهاشمة لا يثبت، وإن كل ما فرعه صاحب التقريب على قولٍ مُخرج من مسألة الرمي، ولم أر لما ذكره من التردد في قصاص الموضحة نظيراً إلا شيئاً حكاه من يوثق به عن القاضي في مسألةٍ نذكرها، ونصف ما نقل عنه فيها: لو شهد رجل وامرأتان على سرقة موجبة للقطع، قال: يثبت المال، وفي القطع وجهان، وهذا على نهاية البعد، فإن إثبات القطع وهو حق لله بشهادة رجل وامرأتين محال.
ثم قال: هذا بمثابة ما لو أقر بسرقة مال، فالقطع يثبت، وفي المال قولان.
ولا سواء؛ فإنا إنما قبلنا الإقرار فيما يوجب القطع لانتفاء التهمة، وهذا المعنى يشمل المال والقطع، فجرى التردد لهذا، فأما إثبات القطع تبعاً للمال، فلا سبيل إليه. نعم، الوجه إثبات المال؛ فإن ضمانه يثبت بإثبات اليد عليه، وهو في حكم التميّز عن السرقة بماهية مخصوصة كتصرف السارق في المال، وسيكون لنا إلى هذه المسألة عود في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو شهدا أنه ضربه بالسيف، وَقَفْتُهما... إلى آخره".
10970- إذا ادعى على واحد قتل أبيه، وأقام شاهدين على أنه ضربه بالسيف، لم يثبت بهذا شيء، فإن السيف قد ينبو عن الضربة، وقد يقع عرْضاً، وقد لا ينفذ.
ولو قالا: ضربه بسيف وأنهر الدمَ، واقتصرا على ذلك، لم يثبت القتل بهذا، وتعليله بيّن، فإنهما لم يتعرضا للقتل، ولا لما يحصل به القتل لا محالة.
ولو قالا: نشهد أنه ضربه بالسيف، فمات، أو قالا: ضربه بالسيف فمات، فالذي قطع به أهل التحقيق أنه لا يثبت بهذا شيء، فإنهما ذكرا الضرب بالسيف والموت ولم يتعرضا لحصول القتل به. وفي طريق العراقيين ما يدل على أن القتل يثبت إذا قالا: نشهد أنه ضربه بالسيف، فمات، وهذا-إن لم يكن خلل في النسخة- غلطٌ منهم ظاهرٌ، غير معتد به.
ولو قالا: ضربه بالسيف وأنهر دمه ومات مكانه بتلك الجراحة، أو قالا: مات بعده من تلك الجراحة، فيثبت القتل حينئذ.
10971- ومما يتعلق بهذا الموقف أنه هل يجوز تحمل الشهادة على القتل إذا نظر الناظر، فرأى سيفاً يقع بشخص، وينهر الدمَ منه، ثم يراه ميتاً على الاتصال، فهل له أن يشهد والحالة هذه على القتل؟ هذا مما يجب إنعام النظر فيه، فنقول: لا خلاف أنه لو فرضت الجناية واتصال الموت بها على الوجه الذي وصفناه، وفرض تنازع الجاني وولي المجني عليه، فقال ولي المجني عليه: حصل الموت بالجناية، وقال الجاني: بل مات فجأة بسببٍ هجم عليه، فالقول قول ولي المجني عليه.
وهل يجوز تحمل الشهادة على القتل ثم نجعل فيه القولَ قولَ من يدعي القتل مع يمينه؟ الرأي أن نقول: إن انضم إلى ذلك دركٌ متلقّىً من قرائنَ تفيد العلم، فيجوز الشهادة على القتل، وإن لم يجد الشاهد إلا ظهورَ الجرح، وإنهارَ الدم واتصالَ الموت، فهذا عندي بمثابة الشهادة على الملك تعويلاً على اليد في أصل الوضع، وفي جواز الشهادة على الملك لمجرد اليد كلامٌ، سيأتي في الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
والوجه عندي-وإن كانت مسألة الجرح في الصورة كمسألة اليد- ألا يتحمل الشهادة على القتل؛ فإن معاينة القتل ممكنة وتلقِّي العلم من قرائن الأحوال ليس بعسير، والأملاك لا مستند لها من يقين، وغاية المتعلّق بها مخايل وعلامات.
ثم الرأي الظاهر أن مجرد اليد لا يسلّط على تحمل الشهادة على الملك، ما لم ينضم إليها تصرف المُلاك.
هذا ما أردناه في ذلك.
10972- ولو ادعى موضِحة وأقام شاهدين على أنه أوضحه، فقد قال الأصحاب: لا يثبت الغرض حتى يصف الموضحة، ويشير إليها من رأس المجني عليه، فإن الشجاج أقسام، وقد يشتبه على الناس في الغالب تفاصيلُ مراتبها، ويختلط عليهم ألقابها، فلابد من المباحثة.
وتحقيق هذا يرجع إلى أن الموضِحة إن كانت تجري على لفظها في اللغة، فهي من الإيضاح، وليس فيها تعرض لإيضاح العظم، والمطلوب إثبات إيضاح العظم، وإن كانت تُحمل على تعارف الفقهاء، فلا يمكن حمل لفظ الشاهد على ألقابٍ تواضع الفقهاء عليها، واللفظ متردد في نفسه، والذي يخطر للفطن في هذا المقام أن الشاهد لو كان فقيهاً، وقد علم القاضي منه ذلك، وتبين له أنه لا يطلق الموضحة إلا على ما يوضح العظم، وفهم القاضي ذلك منه، فهذا موضع التردد: يجوز أن يقال: لابد من كشف الأمر لفظاً؛ فإن للشرع تعبدات في ألفاظ الشهادات، وإن كان العلم يحصل بغيرها.
ولو صرح الشاهد بإيضاح العظم، ولم يُبق إشكالاً، وقَرُب العهد، فعاينَّا رأس المشجوج، فلم نجد عليه أثراً، فالشهادة مردودة؛ فإن الاندمال إن كان يفرض على قربٍ، فانقطاع الأثر غير ممكن.
وإن وقعت الشهادة وعسر على الشاهد تعيين محل الجراحة، فالوجه إثبات الموضحة، وإمضاء الحكم بها، ثم يعسر إجراء القصاص، إذا لم يدرك المحل، وهذا يظهر تصويره فيه إذا كان برأس المدعي المشجوج شجات، والشهود يزعمون أن ما شهدوا عليه واحدة منها، وعسر عليهم تعيينها، فهذا موضع النظر.
والوجه عندي أن الموضحة المدعاة إن كانت خطأ، فلا يضرّ عُسْرُ تعيينها في الصورة التي ذكرناها، ويثبت أرشها.
وإن كانت الموضحة المدعاة بحيث توجب القصاص لو ثبتت، فإذا عجز الشهود عن تعيين محلها والتبست بشجاج على الرأس، فهذا محل التردد؛ فإن المقصود من هذه الجراحة-لو ثبتت على صفتها- القصاصُ، وإثبات القصاص عسرٌ، فلا يبعد ألا تثبت الجناية أصلاً، كما لو شهد رجل وامرأتان على موضحة معيّنة موجبها القصاص، فإن أرش الموضحة لا يثبت لامتناع ثبوت القصاص، وهذا الذي ذكرناه اختيار القاضي، ويجوز أن يقال: يثبت أرش الموضحة؛ فإن الشهود رجال عُدول، أو رجلان عدلان، وهم من أهل إثبات القصاص، فلم يأت العُسر من نقصان البينة، وإنما أتى من خللٍ آيلٍ إلى الالتباس، وكان شيخي يميل إلى هذا، والمسألة فقيهة حسنة.
فصل:
قال: "ولو شهدا على رجلين أنهما قتلاه... إلى آخره".
10973- يجب الاهتمام في مضمون هذا المفصل بتفضيل الصور، وتمييز البعض منها عن البعض، وتوفير حظ كل مسألة من وجوه البيان: نقلاً، وتعليلاً، وبحثاً.
والمسألة الأولى مفروضة فيه إذا شهد شاهدان على رجلين بالقتل، فشهد المشهود عليهما على الشاهدين بأنهما قتلا ذلك الشخص المعيّن، فلا يخلو إما أن يكون المدعي هو الذي تولى الدعوى بنفسه أو وكل وكيلاً لينوب عنه في الدعوى، فإن كان قد تولى الدعوى بنفسه، فإن ادعى على والآخرَيْن وشهد الأوّلان عليهما على وفق الدعوى، استحق دعواه عليهما، ولم يتعلق بشهادة الآخرين حكم.
ولو ابتدر الأولان، فشهدا من غير دعوى من المدعي، ثم شهد المشهود عليهما على الأولين من غير دعوى، فالذي ذهب إليه المحققون أن شهادة الكل مردودة؛ لأنها مشروطة بتقدم الدعوى، وإنما تقبل الشهادة ابتداء على طريق الحسبة فيما يغلب فيه حق الله تعالى، كما سيأتي، مواضع شهادة الحسبة في موضعها، إن شاء الله تعالى.
وقال قائلون: شهادة الحسبة مقبولة في حُقوق الآدميين من غير تقدم دعوى، وهي مجراة مجرى الإعانة والإرشاد والتنبيه على استحقاق الحقوق، ثم من سلك هذا المسلك افترقوا: فمنهم من قال: شهادة الحسبة إنما تقبل إذا لم يكن ذو الحق عالماً بحقه، فتجري الشهادة مجرى الإعلام والإثباتِ لحقٍّ مُشرفٍ على الضياع.
فأما إذا كان ربُّ الحق عالماً بحقه، فشهادة الحسبة مردودة.
ومن أصحابنا من قال: إذا لم نشترط تقدم الدعوى، وقبلنا شهادة الحسبة، لم نفرق بين أن يكون صاحب الحق عالماً بحقه، وبين ألا يكون عالماً به، وهذا الوجه أقرب في التفريع على هذا الوجه الضعيف.
والمذهب المعتمد ردُّ الشهادة التي لا تتقدمها الدعوى.
وكان شيخي يقرّب الخلاف في شهادة الحسبة من أصلٍ في المغصُوب، وهو أن من رأى مالاً مغصوباً في يد الغاصب، فهل له أن يأخذه من يده ويحفظه على مالكه، من غير إذنٍ من المالك، ولا نصبٍ من الوالي؟ فيه اختلافٌ. ووجه المناظرة بيّنٌ.
ثم ما ذكرناه لا يختص بالقصاص، بل يجري في الأموال، ولو قال قائل: هذا الخلاف يختص جريانه بالمال دون القصاص، لم يُبعد، والوجه التسوية؛ فإن القصاص مع تعرضه للسقوط بالشبهات خُصّ بمزيد في الإثبات لا يثبُت مثله في الأموال، وهو أيمان القسامة.
فهذا منتهى ما أردناه.
10974- ثم فرع صاحب التقريب على الوجه الضعيف في أن الشهادة تقبل قبل الدعوى، فقال: إذا ابتدرك أربعة إلى مجلس القاضي، وشهد اثنان منهم على الباقيَيْن، أنهما قتلا فلاناً، وشهد الباقيان أن الأولين قتلا ذلك الشخص، ولم يسبق من الولي دعوى، فما حكم ما جرى والتفريع على قبول شهادة الحسبة؟ قال: في المسألة وجهان:
أحدهما: أن الشهادتين باطلتين، وليست إحداهما أولى بالقبول من الثانية، وقد تصادمتا.
والوجه الثاني- أنا نراجع مستحقَّ الدم، فإن لم يصدقهم، بطلت شهاداتهم، وإن صدق اثنين منهم وقع القضاء بشهادتهما، وتبطل شهادة الآخَرَيْن؛ وذلك أنا وإن كنا نقبل الشهادة قبل الدعوى، فإذا تأيدت إحدى الشهادتين بتصديق المدعي، سقطت الأخرى، كما لو ادعى، فشهد اثنان على وفق الدعوى، ثم شهد آخران على هذين الشاهدين من غير دعوى، فالشهادة الثانية مردودة، لتأكد الشهادة الأولى بالدعوى، وإن كنا نقبل الشهادة من غير دعوى. هذا منتهى كلام صاحب التقريب في هذا التفريع.
وقال قائلون من أصحابنا: إذا شهد اثنان من الأربعة على الباقيَيْن منهم أنهما قتلا فلاناً، فشهد الباقيان على الأولين أنهما قتلاه، فشهادة الباقيَيْن مردودة لعلتين: إحداهما- لأنهما يدفعان عن أنفسهما ما قرب ثبوته عليهما، وإذا تضمنت الشهادة دفعا، رُدت.
والمعنى الثاني- أنهما صارا عدوين للشاهدين الأولين لما جرى لهما، وشهادةُ العدو على عدوه مردودة، وهذا الوجه حسنٌ فقيه، والأولى الاكتفاء بتعليل ردّ شهادة الباقيين لكونهما دافعين؛ فإن العداوة التي تردّ بها الشهادة لا تثبت بهذا المقدار، والقولُ فيها من غوامض أحكام الشهادات، وسنذكر بتوفيق الله تعالى في تلك القواعد المنتشرة ما يقربها من الضبط، ويسهل مأخذَها على الطالب، إن شاء الله تعالى.
10975- ومما نرى تقديمه على الاتصال في المسألة والخوضِ فيها اختلافٌ مشهور للأصحاب في أنا إذا فرّعنا على الأصح، وقلنا: لا تُقبل الشهادة في حقوق الآدميين من غير تقدّم الدعوى، فلو ابتدر الشاهد وشهد، ورددنا شهادته لوقوعها قبل الدعوى، فإذا ادعى المدعي، فلا شك أنه لا نكتفي بالشهادة المتقدمة، ولكن لو استعادها فأقامها الشاهد مرة أخرى، أو أعادها، فهل تقبل الشهادة المعادة منه؟ فعلى وجهين مشهورين، ولأصحابنا في إيرادهما مسلكان:
أحدهما- وهو الذي ذهب إليه الجمهور أنا إن قبلناها-وهو القياس- فقد لغا ما تقدم، وإن لم نقبلها معادةً، فالسبب فيه ما ظهر من تشوّف الشاهد إلى الشهادة، وهذا يُلحق به تهمةً في مقصود الواقعة.
ثم استتم هؤلاء التفريع وقالوا: إذا رددنا الشهادة المعادة، فالمخلِّص من هذا التعذر أن يتوب الشاهد عما جرى له، ويذكر أنه لا يعاود مثله، ولا يبادر الشهادة قبل الاستشهاد، ثم الفاسق إذا تاب، لم تقبل شهادته حتى يُستبرأ شهراً. قال الأصحاب: هذا المبتدر يُستبرأ أيضاً، ولا يبلغ استبراؤه مبلغ استبراء الفاسق يتوب؛ فإن الغرض يحصل بأن يتبين لنا تنبهه لإقامة الشهادة في حقها ووقتها وترك ما يدل على غرضه من التشوّف والابتدار.
وهذا المسلك وإن كان ظاهراً، فليس على ما أوثره وأحبه.
وقال قائلون من أئمتنا: سبيل ردّ الشهادة المعادة أنها جرت، فرُدَّت ممن كان على الجملة متمكناً من شهادة مقبولة، ومن رُدّت له شهادة مقبولة على هذا النعت، فإذا أعادها، لم تُقبل منه، كما لو شهد الفاسق في حالة فسقه، فرُدت شهادته، فلو تاب وظهرت عدالته، فأدى تلك الشهادة، لم تُقبل منه، فكذلك القول في ابتدار الشهادة قبل الدعوى مع إعادتها بعد الدعوى، وهؤلاء يقولون: لا تقبل منه تلك الشهادة أبداً، فلا ينفع قبول توبته، ولا استبراؤه، وهذا تباين عظيم بين المسلكين.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه ظاهر، و قد قلتم الأظهر قبول الشهادة المعادة من غير توبة ولا استبراء؟ قلنا: الفرق ظاهر بين ما نحن فيه وبين الفاسق ترد شهادته، وذلك أن الفاسق إذا ردت شهادته يلحقه غضاضة تبلغ به الأنفة، فقد يتهم في إعادة تلك الشهادة، وسيأتي تقرير هذا في موضعه، إن شاء الله.
وأما من ردَّت شهادته المقامة قبل الدعوى، فلا غضاضة عليه، بل يقال له: ابتدرت الشهادة وأنت من أهلها، فاصبر حتى يدخل وقت إقامة الشهادة، فإذا دخل بصدور الدعوى من المدعي، فأقمها، وليس هذا كما لو ردت شهادة الفاسق لاتصافه بنقيصة الفسق، والفسق مما يكتم ولا يتظاهر به، وإذا نسب الشخص إليه حرص على إظهار نقيضه.
ومما يتعلق بذلك أن صاحب الحق إذا تولى الدعوى بنفسه بعد تقدم شهادة الأولَيْن على الآخَرَيْن، وشهادة والآخرين على الأولَيْن وقلنا: تقبل شهادة الحسبة قبل الدعوى والاستشهاد، فإن صدّق الأولَيْن، ثبت الحق على والآخرَيْن، من غير حاجة إلى استعادة الشهادة، وإن صدق والآخرَيْن، تفرع ذلك على ما قدمناه من أن شهادتهما هل تقبل مع اشتمالها على الدفع، وتعرضهما للعداوة؟ فإن قبلناها، ثبت الحق على الأولَيْن من غير استعادة شهادة، وإن رددناها، وقد رد المدعي شهادة الأولين، فيخرج من ذلك بطلان شهاداتهم.
ولو كان قد قدم الدعوى على والآخرَيْن، فلما شهد الآخران قَبْل الاستشهاد، صدقهما، فقد أبطل دعواه الأولى بهذا التصديق، وهذه الدعوى الجديدة باطلة بتقرّر الدعوى الأولى، فإنه إذا سبق منه قول، فهو مؤاخذ بمقتضاه، ومقتضى قوله الأول بطلانُ قولهِ الثاني، وهذا واضح.
وأما الغرض المطلوب في هذا ما قدمناه في هذا الفصل.
هذا كله إذا تولى المدعي الدعوى بنفسه قبل الشهادات أو بعدها.
10976- ولو كان قد وكل المدعي وكيلاً في الدم، وما كان قد عين المدَّعى عليهما، فادعى الوكيل على رجلين قَتْلَ الشخص المطلوب، وأقام شاهدين عليهما، ثم شهد المشهود عليهما على الشاهدين أنهما قتلا ذلك الشخص، فلم يوجد ممن له الحق بعدُ دعوى.
فإن صدق الوكيلَ والشاهدين الأولين، فقد استمرت الخصومة، وإن صدق والآخرين، فله الدعوى على الشاهدين الأولين، وبطلت الدعوى على الآخرين، ويبقى في شهادة الآخرين التفصيلُ الطويل المترتب على أصولٍ: منها شهادة الحسبة، ومنها تعرضهما للدفع عن أنفسهما، ومنها أن من ابتدر الشهادة قبل الاستشهاد، فردت شهادته، فإذا أعادها بعد الدعوى هل تقبل؟
فإن قلنا: شهادة الحسبة مقبولة، فقد شهد الآخران قبل الدعوى، ولكن يبقى النظر في أنهما دفعا عن أنفسهما، فإن لم نُقم لذلك وزناً في المسألة المتقدمة، يقع القضاء بشهادة والآخرين إذا اتصل بها تصديق صاحب الحق، من غير حاجة إلى الإعادة، وإن قلنا: الشهادة مردودة لتضمنها الدفعَ فيه إذا تولى المدعي الدعوى بنفسه، فترد الشهادة في هذه الصورة، لأن دعوى الوكيل في ظاهر الحال مسموعة، وقد ادعى عليهما وشهد شاهدان على حسب الدعوى، فتضمنت شهادتهما دفعاً.
ومن أحاط بما قدمناه، لم يخف عليه تفريع المسائل عليه، وإن رددنا شهادة الحسبة، فشهادة والآخرين مردودة ابتداء، فلو أعادا الشهادةَ لمّا ادعى صاحب الحق حقّه على وفق شهادتهما، فهل يقبل ذلك الآن؟ فيه التفصيل المقدم. واختلاف الطرق.
وقد أضربت عن استيعاب التفاصيل لعلمي بوضوح الغرض، وظهور ابتناء الفروع على ما مهدناه من الأصول.
10977- ومن مسائل الفصل: إن شهد شاهدان على رجلين بأنهما قتلا الشخص المطلوب، وشهد المشهود عليهما على أجنبي أنه القاتل، ولم يشهدا على الشاهدين، فإن كان صاحب الحق يتولى الدعوى بنفسه، فإن صدّق الأوّلَيْن، تفصّل الكلام، وقيل: شهادتهما لا تخلو إما أن تكون حسبةً، أو بعد الدعوى على وفق الشهادة الأولى فإن كانت بعد الدعوى، وأصرّ على تصديق الأولَيْن، ترتب الحكم عليه، فإن عاد، فصدق المشهود عليهما، فقد تناقض قوله، وإن جرت شهادة والآخرَيْن حسبةً ثم جرى تصديق أو تكذيب، لم يخْفَ دركُ التناقض وما يقبل وما لا يقبل.
ولو كان وكل وكيلاً ولم يعيّن المدّعى عليه، ثم صدق الأولَيْن ووافق الوكيلَ في دعواه، فقد ثبت الغرض، وإن صدق الآخرين واستعاد الشهادة-إن لم نقبل شهادة الحسبة- ففي قبول شهادة الآخرين تردد مبني على ما تمهد، فإن لم نردّ الشهادة لما تخيلناه من قصد الدفع، فشهادة الآخَرَيْن مقبولة، وإن رأينا القبولَ، وقد ابتدر الشهادة في واقعة الوكيل، ففي قبول شهادتهما الكلام المقدم إلى تمام التفريع.
10978- ومن مسائل الفصل: إن شهد شاهدان على رجلين، كما ذكرنا، فشهد أجنبيان على الشاهدين بأنهما قاتلان، فإن كان صاحب الحق هو المتولي للخصومة، فإن صدق شاهدَيه الأولَيْن، بطلت شهادة الأجنبيين، وإن صدق الأجنبيين، بطلت شهادة الكلّ لتناقض الدعوى.
وإن أردنا فرضاً في شهادة الحسبة من الأوليين ثم من الآخرين، لم يخف التفريع.
ولو فرضت المسألة في الوكيل، هان مُدرك الكلام، والأجنبيان غير متعرضين للدفع عن أنفسهما، ولكنهما شهدا قبل الاستشهاد، فيتفرع عليه ما يليق به.
ومما نختتم به أن الشافعي رضي الله عنه صور شهادة شاهدين على شخصين، ثم شهادة المشهود عليهما على الأولين، ثم قال: يُراجَعُ صاحبُ الحق في التصديق والتكذيب، فاختلف أئمتنا: فمنهم من قال: هذا دليل من كلام الشافعي على قبول شهادة الحسبة، فإنهما لو كانت مردودة، فالشهادتان باطلتان، فلا معنى للمراجعة، ومنهم من قال: شهادة الحسبة باطلة، وإنما ذكر الشافعي مراجعة صاحب الحق لرجاء أن تبطل دَعْوَاهُ الأولى بتصديق الأخرى.
وهذا نجاز الفصل وأطرافه واضحة إذا فهمت الأصول. فلم أر استقصاءها لعلمي بوضوحها، وتبرم الفطن بتكثيرها وتكريرها.
فصل:
10979- ذكر الشافعي رضي الله عنه أنه لو ادعى القتل على واحدٍ وأقام شاهدين، فشهد أحدهما على إقراره بأنه قتله عمداً، وشهد الآخر على إقراره بأنه قتله، ولم يقل عمداً، وجرت الشهادتان من الشاهدين على ما وصفناه، فشهد أحدهما على العمد، وشهد الثاني على القتل المطلق، فأصل القتل يثبت، ويبقى توجيه الدعوى بكونه عمداً، فإن لم يكن لوث، فالقول قول المدعى عليه أنه ما قتله عمداً مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف المدعي يمين الرَّد، وثبت القود، وإن أقمنا شهادة أحد الشاهدين لوثاً-على ما تقدم تفصيل القول في اللوث- فيقسم المدعي على إثبات
العمد.
ولو ادعى القتلَ العمدَ أولاً، فشهد أحد شاهديه على وفق دَعْواه، وشهد الثاني على أنه قتله خطأ، فقد اختلف جواب القفال في ذلك، فقال في أحد جوابيه: لا يثبت القتل بشهادتهما لاختلافهما في صفته على حكم التصادق؛ فهما متكاذبان، وإذا تكاذب الشاهدان، فالوجه سقوط الشهادتين، وقال في الجواب الثاني: يثبت أصل القتل؛ فإنهما تصادقا عليه، ورجع اختلافهما إلى الصفة، فصار كما لو شهد أحدهما على القتل عمداً، وشهد الآخر على القتل مطلقاً.
ولو شهد أحد الشاهدين أنه قتله غُدوةً، وشهد الآخر أنه قتله عشية، أو قال أحدهما: قتله بالسيف، وقال الآخر: قتله بالعصا؛ فلا خلاف أن القتل لا يثبت بشهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعلين مختلفين، وهذا يؤكد أحدَ الجوابين في ذكر أحدهما العمد والآخر الخطأ، فإن الشاهدين إذا اختلفا في الوقت أو الآلة، فأصل القتل متفق عليه، والتردد راجع إلى شيء آخر، فكان هذا بمثابة ما لو اختلفا في العمد والخطأ.
فإن قيل: لا فصل بين المسألتين، فما وجه قول من يقول بثبوت أصل القتل إذا ذكر الشاهدان العمد والخطأ؟ قلنا: شهادتهما إذا اختلفا في الزمان أو الآلة متكاذبتان في أمر محسوس، وإذا تعرضتا لذكر العمد والخطأ، فهما مطلقان، فقد يحسب أحدهما العمد خطأ، وقد يحسب الثاني الخطأ عمداً، وهذا تكلف، والأصح أن أصل القتل لا يثبت في تلك المسألة، ولو شهد أحدهما أنه قتله بمكان كذا، وشهد الثاني أنه قتله بمكانٍ آخر، فلا يثبت القتل، كالاختلاف في الزمان، والآلة، والمكان.
ثم قال المزني: "ومثل هذا يوجب القسامة"، نقل ذلك بعد ذكر الاختلاف في الزمان والآلة والمكان.
وقد ذهب المراوزة إلى تغليطه؛ إذ قال: هذا يوجب القسامة؛ من جهة أن الشاهدين متكاذبين، وشهادتهما متعارضتان، ولا يثبت بالشهادتين المتناقضتين لوث.
وحكى العراقيون نصين في ذلك عن الشافعي رضي الله عنه منقولين في الكتب:
أحدهما: أن اللوث يثبت على ما نقله المزني، فلا وجه إذاً لتغليطه وقد صح النقل، ووجهه أنهما اتفقا على أصل القتل، ولا يبعُد أن يغلط أحدهما لا بعينه في الوقت، وقد تقع واقعة لا يُشك في وقوعها، ويتمارى الناس في الوقت، واختلافهما إن أثر في القضاء حتى لا يقطع بثبوت القتل، فلا ينحط أثرهما عن تغليب الظن في وقوع القتل.
ومن قال: لا يحصل اللوث، فوجهه ما قدمناه.
فالوجه إجراء القولين على ما نقله العراقيون.
10980- ولو شهد شاهد على أن فلاناً قتله على حسب ما ادَّعَاه المدعي، وشهد شاهد آخر أنه أقرّ بقتله، فالقتل لا يثبت في هذه الصورة، فلا تتفق الشهادة على الإقرار والشهادة على نفس القتل لاختلاف المشهود به، واللوث يثبت في هذه الصورة وفاقاً، فإن الشاهدين ليسا متكاذبين، ولا تناقض بينهما، واللوث يثبت بشهادة أحدهما على الإقرار أو على القتل، فإذا اجتمعا قوي اللوث.
ولو شهد شاهدان أن هذا قتله زيد أو عمرو، فلا شك أن القتل لا يثبت مع التردد في المشهود عليه، ولو أراد المدعي أن يقسم مسنداً إقسامه إلى اللوث المترتب على شهادتهما، فالذي ذهب إليه أئمة العراق وغيرهم أن اللوث شامل لهما، ثم إذا شملهما اللوث، فهذا القدر كافٍ في حق القاضي، وللمدعي أن يدعي على أحدهما، وهو مؤاخذ في حكم الله تعالى بأن لا يدعي إلا على ثَبَت، وليس عليه بعد شمول اللوث للرجلين أن يحقق لوثاً خاصاً في حق من يعينه منهما.
وقد مهدنا هذا فيما تقدم.
وقد يعترض في هذه المسألة شيء يوجب التردد في اللوث، وهو أن اللوث الذي يعم طائفةً تصويره ظهور العداوة بين القتيل وبينهم، مع وقوع القتل في موضع مختص بهم فهذا لوث شامل على التحقيق.
فأما إذا قال الشاهدان: قتله هذا أو هذا، فالشهادة تعلقت بهما على التردد، وموجب التردد يخصص الأمر بأحدهما، فهذا إشكال شامل، وليس لوثاً شاملاً، ويناظر هذا ما لو ظهر عند القاضي أن أحد الرجلين عدو القتيل، ولم يتبيّن العدوَّ منهما، ولو كان كذلك، لم يقطع بحصول اللوث، فالوجه ألا يقطع بحصول اللوث في مسألة الشهادة (المقامة على التردد، والذي نقلته عن أئمة العراق ثبوت اللوث في مسألة الشهادة على التردد)، فلا يبعد أن يرتكبوا حصول العداوة على الإبهام.
والله أعلم.
فصل:
قال: "ولو شهد أنه ضربه ملفَّفاً... إلى آخره".
10981- إذا ادعى على واحد قَتْلَ أبيه، وأقام شاهدين على أنه كان ملفوفاً في ثوب، فقدّه المدعى عليه بنصفين، ولم يثبتا كونه حياً حالة القد، فالقتل لا يثبت بهذا؛ فإن الشهادة شرطها أن يَجزم وُيشعر بالمقصود على قطع، والشاهدان لم يتعرضا إلا للقد، ولكن إذا ثبت القدّ المشهود به، فلو قال الولي: كان حياً، وقال المشهود عليه بالقدّ: كان ميتاً، فهذا ملتحق بتقابل الأصلين؛ فإن الأصل حياةُ الملفوف المقدود من وجهٍ، والأصل براءة ذمة القادّ من وجهٍ، فجرى القولان فيه.
فإن قلنا: القول قول القادّ، فلا يكون المدعي مستفيداً شيئاً من الشهادة المقامة، وإن قلنا: القول قول المدعي فقد أفادته الشهادة قوة أوجبت تصديقه مع يمينه، ويتنزل هذا منزلة ما لو شهدت البينةُ للمدعي باليد، فقد تفيده الشهادة أن نجعل القولَ قوله مع يمينه.
وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً: أن الملفوف إن كان على رباط على هيئة الأكفان، لم يصدق المدعي، وإن كان المقدود ملفوفاً في ثياب الأحياء، فيصدق حينئذ مع يمينه، وهذا ضعيف لا أصل له.
ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن رجلين عدلين لو رأيا رجلاً ملفوفاً بثوب، فقدّه إنسان على القرب، فهل لهما أن يشهدا على أنه قده حياً حالة التلفف؟ هذا محل التردد وفي كلام الأصحاب ما يدل عليه.
والذي ذكره القاضي أن لهما أن يشهدا على الحياة، بناء على ظاهر الأمر، كما يشهدان على الملك المبتوت؛ بناء على ظاهر اليد والتصرف، ويجوز أن يقال: ليس لهما أن يشهدا، فإن الموت بعد التلفف ممكن، والاطلاع على الحياة بعد التلفف بالثياب ممكن، وليس كالأملاك؛ فإنه لا مستند لها إلا الظواهر.
ولم يختلف الأصحاب في أنهما لو قالا: رأيناه تلفّف بالثوب ثم قدّه فلانٌ، فالقاضي لا يقضي بالحياة، كما لو شهدا على اليد والتصرف، ولم يتعرضا للملك، فالقاضي لا يقضي بالملك، كما سيأتي ذلك مفصلاً، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو شهد أحد الورثة أن أحدهم عفا... إلى آخره".
10982- إذا قُتل رجل وثبت القصاص على قاتله، وكان له طائفة من الورثة، فقد ذكرنا في كتاب الجراح أنه إذا عفا واحد منهم عن القصاص سقط حقوقُ الباقين في القصاص، وآلت حقوقهم إلى الدية، ثم القول في العفو عن القصاص دون المال، وفي العفو عن المال قد تقدم مستقصىً.
وغرضنا الآن أمر يتعلق بالإقرار والشهادة: فإذا شهد بعض الورثة على بعض أنه عفا عن القود، حكمنا بسقوط القود، وإن اتحد الشاهد أو كان فاسقاً مردود الشهادة، فلم يثبت العفو بطريق الشهادة، ولكن قوله: عفا بعضُ الورثة إقرار منه بأن القصاص ساقط في حقه، وإن اعترف بعض الأولياء بسقوط القصاص في حقه، نفذ القضاء بسقوطه في حق الكافة.
وهذا يناظر ما لو قال أحد الشريكين في العبد لصاحبه: قد أعتقت نصيبك من العبد وأنت موسر، فإذا فرعنا على تعجيل السراية، حكمنا بنفوذ العتق في حصة هذا المدعي القائل، فإنه يؤاخذ بحكم قوله، وله دعوى المال على شرطه والقول قول الشريك مع يمينه، ثم يعتق نصيب هذا القائل المدعي في ظاهر الحكم بطريق السراية، ولا يقع الحكم بعتق نصيب المدعى عليه؛ فإنا إنما حكمنا بالسراية في نصيب المدعي مؤاخذةً له بقوله في حق نفسه، والسراية لا تسري، قال الأصحاب: قد يتضرر الإنسان بدعواه على غيره، وإن كان الضرر لا ينال المدعى عليه.
ولو قال واحد من الورثة: عفا واحد من شركائي عن القصاص، ولم يبين العافي، حكمنا بسقوط القصاص، جرياً على إقرار هذا القائل؛ فإن موجب قوله سقوط القصاص في حقه، وإذا سقط في حقه استحال بقاؤه في حقوق الباقين.
ولو ادعى الجاني على واحدٍ منهم العفوَ عن القصاص، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، ردت اليمين على الجاني، وثبت العفو بيمين الرد.
ولو أقام بيّنة على عفوه، ثبت العفو، ولابد من رجلين عدلين؛ فإن القصاص ليس مالاً، وما لا يثبت إلا بعدلين لا يثبت سقوطه إلا بعدلين.
ولو آل الأمر إلى المال، فادعى الجاني على بعض الورثة العفو عن حصته من المال، فهذا يثبت بشاهد وامرأتين؛ فإن الجناية الموجبة للمال تثبت بشاهد وامرأتين، فيثبت سقوط أرشها بما يثبت به أرشها، وكل ذلك يأتي مفصلاً في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو شهد وارث أنه جَرَحه عمداً أو خطأ... إلى آخره".
10983- إذا جُرح رجل وكان مهلكاً له أو أمكن أن يسري ويُفضي إلى الهلاك، فلو شهد اثنان من وَرَثة المجروح أن فلاناً هو الذي جرحه، فلا يثبت الجرح بشهادتهما، فإنهما تعرّضا لإثبات ما يؤول إليهما، وأثبتا السبب المفضي إلى توريثهما، وهو الجرح، وكانت شهادتهما متضمنة جرّاً، والشافعي رضي الله عنه ذكر في هذا الفصل الشهادة التي تُرد لتهمة الجرّ، والتي ترد لتهمة الدفع، ونحن الآن نأخذ قي تفصيل الشهادة الجارّة.
فلو مرض الموروث مرض الموت، وشهد له باستحقاق عينٍ أو دينٍ اثنان من الورثة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يثبت المشهود به إذا لم يكن بين الشاهد وبين المشهود له بعضية بخلاف ما ذكرناه في الجرح، والفرق أن الجرح المشهود به سببٌ لموت الموروث، ولا يتحقق مثل ذلك في الشهادة بحقٍّ للمريض.
ومن أصحابنا من قال: شهادة الورثة للمريض مردودة، فإن المرض ملتحق بالموت في حكمه، ولهذا حُصرت تبرعات المريض في الثلث ضماً إلى وصاياه الموقعة بعد الموت.
ولو شهد اثنان على الجرح، ولم يكونا من الورثة حالة الشهادة، ثم صارا من الورثة بموت من يحجبهما-قبل موت المجروح- قال الأصحاب: الشهادة في أصلها مقبولة، فإذا التحقا بالورثة، نظر: فإن كان بعد نفوذ القضاء، لم ينقض الحكم، وإن كان قبل نفوذ القضاء لم يقض القاضي بشهادتهما، وشبهوا هذا بما لو فسق الشاهدان قبل نفوذ الحكم، أو فسقاً بعد النفوذ، فالفسق لا يوجب نقضَ القضاء، وهو قبل القضاء يمنع تنفيذ الحكم، ولو عمي الشاهدان أو جُنّا قبل نفوذ القضاء، لم يمتنع التنفيذ بشهادتهما، بخلاف الفسق؛ فإن ظهوره يورث ريباً في الاستناد إلى ما تقدم، وانطواء الضمير على الاجتراء على مخالفة الله تعالى، ولكن إذا ظهر هذا بعد القضاء، لم ينقض؛ فإن القضاء لا ينقض بالظنون، وإذا ظهر قبل القضاء، امتنع القاضي من تنفيذ الحكم، فإن اعتراض الظنون يمنع تنفيذ الحكم، وإن كان لا يوجب نقض الحكم، وليس هذا كطريان العمى والجنون؛ فإنهما لا يُسندان إلى ما تقدم تهمة، فكان طريانهما في معنى طريان الموت بعد الشهادة، وقبل القضاء، فإذا شهد اثنان محجوبان، ثم صارا من الورثة قبل القضاء، فلا يُنكر أنهما أضمرا جواز مصيرهما وارثين، فإذا تحقق مظنونهما، جَرّ ذلك تهمة تمنع القضاء، ولم توجب النقض.
وفي بعض التصانيف أنهما إذا شهدا وهما محجوبان، ثم صارا وارثين قبل القضاء، خرج ردّ شهادتهما على قولين:
أحدهما: ما قدمناه، والثاني: الاعتبار بحالة إقامة الشهادة ولا حكم لما يطرى، وهذا وإن كان غريباً، فتوجيهه ممكن؛ فإن تقدير الإرث فيهما محمول على موت الحاجب، والموت مستبعد لا تتلقى من توقعه التهمُ، ثم من يقول: الاعتبار في شهادته بالمآل، فلو صار وارثاً بعد نفوذ القضاء، فالوجه عندي القطع بأن الحكم لا ينقض، وفي هذا التصنيف ما يدل على أن شهادته موقوفة، والقضاء به كذلك إلى ما يتبين، وهذا بعيد لا أصل له.
10984- ولو شهدا، وهما وارثان في ظاهر الحال، ثم حدث للمجروح المشهود له ولد يحجب الشاهدين، فالذي ذكره جماهير الأصحاب أن الشهادة مردودة، ولا حكم لما يطرى من بَعْد، وفيما نقله بعض المصنفين ما يدل على أن الشهادة موقوفة، وهذا في هذا الطرف على نهاية السقوط مع اقتران التهمة بالشهادة، ومبنى الشهادات على اعتبار حالة الإقامة، وأما الإقرار للورثة، فلا يتجه فيه من اعتبار التهمة ما يتجه في الشهادة ردّاً وقبولاً فإذا ثبت هذا، فالوجه القطع بأن شهادتهما مردودة.
فإذا صارا محجوبين، فإذا أعادا تلك الشهادة-وقد رددناها أولاً- فنردها معادة، كما لو شهد رجل، فردت شهادته للفسق، ثم تاب، وظهرت عدالته، فأعاد الشهادة فالشهادة المعادة مردودة.
وقد يخطر للفقيه في هذا المقام أن الفاسق إذا تاب، لم نتحقق تغير حاله باطناً، وقد تحققنا أن الوارث صار محجوباً. ولكن لا حكم لهذا والأصحابُ مجمعون على ما قدمناه؛ لأن الذي رُدّت شهادته يُتهم بترويج الشهادة بعد طريان الحجب. هذا بيان الغرض في ذلك.
ومن تمامه أنه لو شهد وارثان على جرح بالموروث، فبرىء المجروح واستبلّ، فهل يثبت الجرح؟ ما صار إليه معظم الأصحاب أن الجرح لا يثبت لاقتران التهمة بالشهادة حالة الإقامة. ومن أصحابنا من قال: لا ترد الشهادة؛ فإنها لم تكن شهادة على سبب الموت، وهذا التردد يشهد بما حكيناه في طريان الحجب واعتبار المآل، ولكنه يؤدي إلى إلزامه، فإن القياس الحق أن من كان متهماً في شهادته عند إقامتها، فلا أثر لما يطرى من بعدُ.
هذا مقدار غرضنا في الشهادة التي تجرّ نفعاً.
10985- فأما الشهادة التي تتضمن دفعاً، فمسائلها كثيرة ستأتي في مواضعها، إن شاء الله تعالى. والمقدارُ الذي أراده الشافعي هاهنا ما نصفه، قال رضي الله عنه: "إذا ادعى رجل قتلَ خطأ، وأقام شاهدين على ما يدعيه، فلو شهد اثنان من عاقلة المشهود عليه بالقتل على جرح الشاهدين، فلا شك أن شهادتهما مردودة، فإنهما يدفعان عن أنفسهما تحمّل العقل، والشهادة الدافعة مردودة " ولو شهد اثنان من فقراء عاقلة المشهود عليه، فقد نص الشافعي رضي الله عنه على أنه لا تقبل شهادتهما، وإن كانت الدية لا تضرب على الفقراء، ونص على أن اثنين من أباعد العصبات الذين لا يخلص التحمل إليهم لكثرة الأدْنَيْن لو شهدا على جَرْح الشاهدين على القتل، قبلت شهادتهما.
واختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين: فمنهم من جعل في المسألتين قولين نقلاً وتخريجاً:
أحدهما: أن الشهادة على الجَرْح مقبولة من الفقير والبعيد؛ لأنه ليس من أهل التحمل حالة الشهادة.
والثاني: أن الشهادة مردودة؛ فإنهما متعلقان بسببٍ يُفضي إلى تحمل العقل، والإنسان ينظر لحاله ومآله.
ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرق بين الفقير والبعيد، فقال: تهمة الفقير متلقاة من توقع الغنى، وليس طريان الغنى، أو التوسط الذي يقتضي تحمل نصف أو ربع بعيداً عن الإمكان، فتظهر التهمة في الحال وأما تهمة البعيد، فمأخوذة من موت الأقربين وخلوص العقل إليهم، والموت مستبعد في العرف، فلا تُتلقى التهم منه. وهذا المعنى استعملناه في مواضع، وفيه إشكال؛ فإن العقل يتوهم خلوصه إلى البعيد بموت الأقربين، ويتوهم خلوصه إليه بافتقار الأقربين، فإن القريب إذا افتقر، ضُرب العقل على البعيد، فإن كان لا يبعد غنى الفقير في النص
الأول، لم يبعد افتقار الغنيّ في النص الثاني، فالوجه طريقة القولين.
ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه الوكالة في إثبات القصاص وفي استيفائه وطرفاً من أحكام الإكراه، وأَمْر السلطان، وكل ذلك مستقصىً في موضعه.