فصل: باب: الحكم في الساحر والساحرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الحكم في الساحر والساحرة:

10986- السحر كائن، والشاهد له سورة الفلق، واشتمالها على الاستعاذة بالله من النفاثات في العقد، وقد ورد في الحديث: «أنه سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشط ومُشاطة، تحت راعوفة في بئر ذَرْوان» والقصة مشهورة. وقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. وفي بعض الألفاظ: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «السحر حق» وروي أنه قال: "العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر".
ثم تكلم الفقهاء في تعلم السحر، وقالوا: إنه ليس بكفر إذا لم يعتقد المرء ما يوجب كفراً، والقول فيما يوجب الكفر وما لا يوجبه لا يليق بهذا الفن، ثم قالوا: هل يكره تعلم السحر لطلب الإحاطة به تشوّفاً إلى مدارك العلوم؟ وقد يخطر لمن يطلبه أن يميز بينه وبين المعجزات؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يكره تعلمه، وفي الدين شغل يلهي عن مثل ذلك، وفي الإحاطة بحقائق المعجزات ما يغني عن تعلّم السحر.
ومنهم من قال: لا يكره، كما لا يكره تعلم مذاهب الكفرة للرد عليهم، وقد يبغي المتعلم بتعلم السحر درءَ ضرار عن نفسه.
ثم انتهى الشافعي رضي الله عنه في إثبات السحر، والحكم بكونه حقاً إلى تعليق القصاص به، فقال: إذا زعم زاعم أنه سحر رجلاً، وذكر أن سِحْره يقتلُ لا محالة، أو يؤدي إلى القتل غالباً، فهذا إقرار منه بما يوجب القصاص، فيتوجه القصاص عليه وإن قال: قد سحرته ومات من سحري، ولكن سحري لا يقتل غالباً، واتفق الهلاك منه، فهذا اعتراف منه بشبهة العمد، والدية لا تضرب على عاقلته، إلا أن يقروا بما أقر به.
وإن زعم أنه أخطأ من اسم إلى اسم، فهذا اعتراف منه بالخطأ، والقول كما ذكرناه.
والفرق بين القسمين التغليظ والتخفيف في الدية. هذا مذهب الأصحاب.
وتبين مما ذكرناه أن لا سبيل إلى إثبات السحر القاتل ببينة؛ فإنه لا مُطلع عليه إلا من جهة الساحر، فلا يتلقى ثبوته إلا من إقرار الساحر. وهذا قانون المذهب.
وحكى العراقيون عن أبي جعفر الإستراباذي قال: السحر تخييل لا أصل له، ولا يناط به قصاص، ولا غرم، وهذا غريب غير معدود من المذهب.
10987- والذي يجب إنعام النظر فيه الإصابة بالعين وقد توافت الحكايات فيها، حتى بلغت مبلغاً لا يقصر عن الخبر الذي ينقله المعتمدون، وصح أن الرسول عليه السلام قال: «العين حق» وبلغنا أن في الناس من يعتمد ذلك ولا يخطئ.
ولست أرى له حكماً، بخلاف السحر؛ فإن العين إن أصابت، لم تلتحق بالأسباب التي تعد من أسباب الهلاك، وقد ذكرنا أن من صاح ببالغٍ عاقلٍ، فسقط من سطح، لم يلتزم ضماناً، وليس اتفاق هذا من المنكرات، ومن نظر وهو صائم إلى من تتوق نفسه إليه فأمنى، لم يفسد صومه، فهذا ما يجب القطع به.
10988- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لو قال الساحر: أمرضه سحري، ولم يمت به، وإنما مات بسبب آخر"، قال الشافعي: "أقسم أولياؤه، وصار ما أقرّ به من المرض لوثاً في القتل"، وهذا مشكلُ يُحْوِج إلى البحث؛ فاللوث إنما يتعلق به إذا ثبت أصل القتل، هذا وجه.
وقد يعترض عليه أن الذي مات وعلى بدنه أثر قد يمكن تقدير موته حتف الأنف، ثم القسامة تثبت.
والسؤال الذي يجب التدبر فيه أنا قدمنا في مسائل الجراح أن من جرح رجلاً ومات المجروح، ثم اختلف الجاني وولي الميت، فقال الجاني: مات بسبب آخر، وقال الولي: مات بالجراحة، فالتفصيل فيمن يصدق منهما مقرر في موضعه، ولم يجر فيه ذكر القسامة.
فإن كان إقرار الساحر بترتّب المرض على سحره لوثاً في القتل، يسلِّط المدعي- وهو الولي- على الإقسام، فيجب مثله في الجرح، وادعاء سرايته لا محالة، فإن امتنع الإقسام في مسألة الجرح، فلا شك في امتناعه هاهنا.
10989- وينتظم من هذا المجموع نصّ وتخريج في أن الاعتراف بسبب القتل مع ادعاء وقوع الموت بسبب آخر هل يُثبت حقَّ القسامة للمدعي؟ النصُّ أنه يُثبت، وفي المسألة قول آخر مخرّج أنه لا يثبت حق القسامة.
وهذه المسألة إنما تصفو إذا تجدد العهد بالصور المذكورة في اختلاف الجارح وَوَلي المجني عليه، والفصل بين أن يقصر الزمان، وبين أن يطول وإذا طال، فالفرق بين أن يبقى زَمِناً صاحب فراش، وبين ألا يكون كذلك، ثم في بعض الصور لجعل القول قول الولي، وعند ذلك يقوى جانبه، وإذا قوي جانبه حتى أوجب ذلك تحليفَه، فيقوى جداً أن يكون هذا قسامة؛ حتى تتعدّد الأيمان، ومن لم يجعله قسامة، فإن كانت اليمين في جانب مدعي الدم، ففائدته القطع بوجوب القصاص، وترديد الرأي في أن اليمين تتحد أم تتعدد، والظاهر أنه مظنة القسامة.
ثم يؤول تحصيل هذا إلى أن اللوث إذا ثبت في أصل الجرح أو في أصل القتل من غير تصادق على سبب، فهذا موضع القسامة قطعاً، ويتحقق هذا بأن مثله لو وقع في مالٍ، لم يجر فيه البداية بالمدعي.
وإذا صار السبب المفضي إلى الهلاك متفقاً عليه، وأمكن تقدير سبب آخر، وهذا يتميز بأن مثله يفرض في المال، فإن من جرح بهيمة، واعترف بجرحها، وادعى أنها هلكت بسبب آخر، فقد يُصدَّق مالك البهيمة، والتفاصيل كلها كالتفاصيل في الآدمي المجني عليه، ولو كان هذا من صور القسامة، لما جرى في المال؛ فإذا ثبت مثل هذه الصورة في الدم اعترض فيه النص والتخريج، ثم على التخريج وهو القياس إذا حلف يحلف خمسين أم لا؟ فعلى الخلاف، وهذا يخرج في كل خصومة، والدليل عليه أنا حيث بدأنا بالمدعى عليه في الدم نذكر قولين في تعديد اليمين، وإن جرينا على قياس سائر الخصومات، وإذا كنا نجعل القول قول الجاني في بعض الصور، فهو مدعى عليه، وفي تعدد اليمين على المدعى عليه قولان.
والذي يجب القطع به تنزيل الاعتراف بالإمراض بالسحر منزلة الاعتراف بالجرح. والله أعلم بالصواب.
كتاب الجنايات الموجبة للحدود والعقوبات

.باب: قتال أهل البغي:

قال الشافعي: "قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الآية الحجرات: 9].
10990- هذه الآية تنبه على أحكام البغاة، وإن كان الكتاب في الخارجين على الإمام، ومضمون الآية في الطائفتين تبغي إحداهما على الأخرى، والإمام يرد الباغية منهما وليس بغيها على الإمام، وإذا كانت الباغية طائفة تقاتل أخرى، فالباغية على الإمام أولى بذلك.
ومقصود الكتاب بيان أحكام الله تعالى في فئة تفارق الجماعة، وتسل اليد عن ربقة الطاعة، وتبغي على الإمام الحق ولا مطمع في ذكر أوصاف الأئمة وما تنعقد الإمامة به؛ فإن القول في هذا يتعلق بفنٍّ مقصود، والقدر الذي يجب الاكتفاء به ذكرُ الإمام العادل، والخروج عن طاعته الواجبة.
ثم أول ما نصدر الكتاب به نقلُ ما ذكره الأصحاب في صفة البغاة، وقد نُحْوَج في هذه التوطئة إلى الخروج عن ترتيب مسائل (السَّواد) حتى إذا انتظمت القاعدة، عدنا بعدها إلى الترتيب.
وقد قال الفقهاء: البغاة هم الذين يستجمعون أوصافاً: إحداها- التمسك بتأويل مظنون يزعمون أنه حاملهم على الخروج على الإمام والانسلال عن متابعته، هذا لابد منه.
والثاني: أن يرجعوا إلى شوكة ومَنعة، فهذان معتبران.
وقال معظم الأئمة في الطرق: يشترط أن ينصبوا إماماً بينهم، ويُسندوا إليه أحكامَهم، ويصدر عنه نصبُ القضاة والولاة، وذكر العراقيون هذا وحكَوْه عن بعض الأصحاب، ثم زيّفوه، وزعموا أنه لا يشترط أن ينتهى بَغْيُهم إلى نصب إمام.
وذكروا وصفاً آخر فقالوا: من أوصاف البغاة ألا يكونوا في قبضة الإمام، ثم فسروا ذلك بألا يكونوا بمكان يحيط بهم جند الإمام من جوانبهم، والشرط أن يكونوا على طرفٍ لا يحيط به نَجْدة الإمام. هذا ما ذكروه.
10991- ولابد من تتبع ما ذكره الأصحاب: فأما النجدة، فقد اعتبرها الكافة، ولا احتفال بفئة باغية، لا شوكة لها، فإن فرض ذلك، فهم معرضون لعقابٍ يرّدهم إلى سمت الطاعة، ولا اطلاع على ما نحاول أو نُنجز الفصلَ؛ فإنا في ذكر أوصافٍ مرسلة. ونحن نتعرض بعدُ للأحكام التي يتميز بها البغاة عن غيرهم، وإذا أشبعنا القول في الأوصاف أتبعناها جملاً من أحكام البغاة، فإذ ذاك يتمهد أصل الكتاب.
ثم الشوكة المرعيّة عُدّةٌ يفرض مقاومة الإمام بها، ومن أحاط بالسياسات، لم يخف عليه أنه إذا تجمع آلاف من أهل النجدة، فإن القتال والظفر والهزيمة فيه لا تجري مجرى سياقة رجلين في صراع أو غيره من وجوه التقاوم؛ فإن ذلك في الآحاد على قدر القوى والجرأة والنصرة، وإذا التقى الجند، لم تكن النصرة والهزيمة على قياس تقاوم الآحاد، سيّما إذا اتفقت طائفة ضخمة ذات شوكة، واتحدت كلمتها، وصحت طاعتها لمتبوعها. هذا معنى الشوكة.
ثم الذي يجب القطع به أن الشوكة لا يعقل ثبوتها إذا لم يَقْدُم القوم متبوعٌ مرجوع إليه؛ فإن رجال النجدة وإن كثروا، فلا شوكة لهم إذا كانوا لا يجتمعون على رأي، فهذا معنى الشوكة.
10992- وأما التأويل فينبغي أن يكون محتملاً، ثم تحقق عندنا اضطراب المحققين من أهل الأصول في أن ذلك التأويل يجب أن يكون مظنوناً لا يتطرّق إليه قطع، ويقع في مثله اختلاف الأصوليين في تصويب المجتهدين أم يجوز أن يكون بحيث نعلم بطلانه، ولكن وجه القطع مشتبه عليهم.
فقال قائلون: إذا كان التأويل باطلاً قطعاً، فليسوا بغاة، وإن كان يتوصل القطع إلى بُطلانه فهم بغاة، وقال آخرون: يثبت لهم أحكام البغاة وإن كان ما استمسكوا به من التأويل باطلاً قطعاً.
وهذا يلتفت الآن إلى مقام عظيم، فيما كان معاوية وأصحابُه مستمسكين به، مع إطلاق العلماء أقوالهم بأنهم بغاة، وهذا مخاض لا نخوض، ولسنا للتشاغل به. فإن قلنا: يشترط أن يكون التاويل مظنوناً لا يتطرق العلم إلى درك فساده وصحته، فيلزم لا محالة الحكم بأن ما تمسك به معاوية في سلّ اليد عن الطاعة كانت إصابته مظنونة فيه.
وإن جوزنا أن يكون التأويل باطلاً قطعاً، فيشترط أن يكون البغاة المتمسكون به على اعتقاد الصحة فيه، ولا يمتنع اجتماع فئةٍ كثيرة على معتقدٍ باطل.
فلو تبين لنا أن أهل البغي عالمون ببطلان ما يظهرونه، فليسوا متمسكين بالتأويل.
وأما ما ذكره العراقيون من اشتراط كون البغاة على طرفٍ، فلست أرى لذلك تحصيلاً، إلا أن يحمل على وَهاء الشوكة؛ فإن إحاطة الأجناد ببلدة البغاة قد توهي شوكتهم من حيث إنهم يؤتون من جوانبهم، ولو كانوا على طرفٍ، لم يتأتَّ هذا، فيؤول ذلك إلى اعتبار الشوكة، فهي المعتبرة إذاً.
10993- ولو بلغ عددهم مبلغاً كثيراً بحيث لا يبعد مقاومتهم أجناد البلاد من جوانبهم، فيجب الحكم بثبوت الشوكة وإبطال أثر الإحاطة.
وينشأ من هذا المنتهى مسألة اضطرب فيها رأي الخائضين في أحكام الإمامة والبغاة، والخارجين على الأئمة، وهي أن طائفة لو بغَوْا، وكانو في عدد لا يقاومون به أجناد الإسلام الحالّين تحت راية الإمام، ولكنهم تقوَّوْا بمكانٍ حصين يعسر استنزالهم منه، فهل يثبت لهم حكم الشوكة على قلة عددهم، لاعتضادهم بحصونهم وصياصيهم؟ فقال قائلون: يثبت لهم حكم الشوكة لتصور استقلالهم بأنفسهم، ولا فرق بين أن يعتضدوا بكثرة في العدد وبين أن يستمسكوا بمكان، وقال آخرون: لا يثبت لهم حكم البغاة؛ نظراً إلى قلّتهم.
والتحقيق فيه أنهم إذا قلّوا في أنفسهم لم يعظم خطر ما يتعطل فيهم من الأحكام، وإنما غرضنا بإثبات مرتبة البغاة تنفيذ الأحكام والأقضية، على ما سيأتي في أثناء الفصل، وإنما ينفذ ذلك منهم إذا عظم العدد، واستولَوْا على قُطر كبير من الخِطة يحوي أمماً، فلو تعطلت أحكامهم، لعظم الضرر، وتفاقم الخطر على من لا يتصف بالبغي من الرعايا الواقعين في قبضة المستَوْلين.
والأولى عندنا أن نفصّل القولَ في ذلك: ونقول: إن تحصنوا بحصن على فوهة الطرق، وهم يحوون ما وراءهم من القطر المتسع، فالحصن نجدةٌ عظيمة نازلة منزلة العدد والقوة والعدة، والنظر إلى إثبات الضرار في جمع من المسلمين، وإذا وقع ما تحصنوا به ببلدة من البلاد، وكانوا لا يستولون على خِطة بسبب الحصن فلا يثبت لهم حكم البغاة، وسنذكر أحكام أمثالهم إن شاء الله تعالى، ولا خلاف أنه لو تحزّب من رجال القتال المرموقين عدد يسير، وكانوا يقوون بفضل القوة على مصادمة الجموع الكثيرة، فهم على عدة تامة.
هذا قولنا في التأويل والشوكة.
10994- فأما اشتراط نصبهم إماماً فهذا فيه اضطراب عظيم لأرباب الأصول، وقد حكيت اختلاف الفقهاء فيه، ولا مطمع في إنهائه إلى الحدود التي ينتهي الكلام إليها في هذا الكتاب، ولكنا نذكر مقداراً يقع الاستقلال به: فأما من شرط أن ينصبوا إماماً، فمعتمده في ذلك أن الإمام إذا لم يكن، فتولية الولاة والقضاة لا مصدر لها؛ فإن القاضي لا ينتصب بنصب الرعايا، وإنما إلى الناس نصب إمام، ثم تصدر التفاصيل عن رأيه، فانعقاد الإمامة بطريق التبعية، ولا يتصور تولية قاضٍ ببيعة، وهذا القائل يلتزم أمراً تثور فيه نفوس الخائضين في الإمامة، وهو أن يدعي أن معاوية كان تصدّى للإمامة في زمن علي رضي الله عنه. وقد استفاض أنه ما باح بالتصدي لإمرة المؤمنين إلا بعد قتل علي رضي الله عنه.
ومن قال: لا يشترط أن ينصبوا إماماً، احتج بأنهم ربما لا يَلْقَوْن بين أظهرهم من يستجمع شرائط الإمامة، فيؤدي اشتراط نصب الإمام إلى تعطيل حقوق المسلمين، ثم هذا القائل يحمل جميع أحكامهم وقضاياهم على ما تحال عليه الأحكام عند شغور الدهر عن الإمام، وفيه كلام طويل، فيجب الانكفاف عنه، والاكتفاء بهذا المقدار.
هذا قولنا في طوائف البغاة، والمقصود بعدُ منهم لا يتبين إلا بأن نذكر مجامع أحكام البغاة، ثم يتبيّن مجاري تلك الأحكام عند اختلال الشرائط المرعية في البغاة، ثم نذكر بعد ذلك تفصيلَ الكلام فيمن يقاتلهم الإمام، ثم نبين الأسباب المثبتة للقتال.
10995- فأما جوامع القول في أحكام البغاة، فمنها أنه ينفذ قضاء قاضيهم إذا وافق الشرع، وإذا استوفَوْا حدوداً وأقاموها على مستحقيها بحقها، وقع الاعتداد بها، وإذا استوفَوْا الزكوات، وقعت موقعها، وكذلك إذا استوفَوْا الجِزَى والأَخْرجة، فالحكم ما ذكرناه، وكذلك استيفاء أخماس الغنائم، والفيء.
أما الحدود، فلا تثنّى بعد إقامتها، والزكوات مصروفة إلى مستحقيها، فلا كلام فيها، والأموال المرْصدة للمصالح إذا صرفت إلى وجوهها بحقها، فهي واقعة موقعها، وأما المغانم والزكوات، فأربعة الأخماس منها للغانمين، لا تعلّق لها بالولاة، والخمس منها، ومن الفيء ينقسم القول في مصارفها، فما يصرف إلى مستحقين موصوفين في كتاب الله تعالى، فسبيله سبيل الزكوات، وأما ما يصرف إلى المرتزقة إذا فرقها والي البغاةِ على جنود أهل البغي، فقد اختلف العلماء فيه، وللفقهاء تحويمٌ على هذا التردد، فقال قائلون: لا تقع تلك الأموال موقعها؛ فإنا لو حكمنا بوقوعها الموقع، لكان ذلك إعانة على البغي، وتمهيداً للاستعداد لمخالفة الإمام.
ومنهم من قال: إنها تقع الموقع؛ فإنهم جنود الإسلام، ولو ثارت طائفة من بلاد الكفر، لطاروا إليها، والرعب منهم قائم في نفوس الكفار. وهذا في نهاية الاحتمال وقرّب بعضُ المحققين القول فيما يتلفونه على أنفسهم على ترتيب صرف المال إلى المرتزقة من القول فيما يتلفون على الإمام وجنده في الحروب، فإنا بإسقاط الغرم عنهم في حكم من يقرّرهم على ما هم فيه، ويخفف عنهم عناء المغارم. فهذه جمل من أحكامهم.
10996- ثم إنا نذكر بعد ذلك بيان ثبوت هذه الأحكام وانتفائها إذا اختل شرط من الشرائط المعتبرة، فنقول: إذا تمسك قوم بتأويل ولا نجدة لهم، فلا يثبت لهم القتال بالأمور التي ذكرناها أصلاً. نعم، لو كان منهم من يصلح لأن يحكم فحكّموه، فهذا مما اختلف القول فيه، وهو جارٍ في آحاد المسلمين الذين هم تحت الطاعة، والفقه فيه إذا لم يكن لهم نجدة، فالطاعة مستمرة عليهم، وما يبدونه إذا استخلَوْا بأنفسهم هذيان يُعزَّرون عليه.
وغرضنا الآن أن نبين انتفاء الأحكام عنهم وسنذكر ما يتصل بهم من رأي الإمام.
فأما إذا عظمت الشوكة، ولم يكن لهم تأويل أصلاً، فالذي أطلقه الفقهاء أنه لا تنفذ أحكامهم؛ فإن عماد البغي التأويل، وكأنهم إلى أن يُكشف الحق لهم معذورون فيما أضمروه من التأويل، وليس هذا الطرف مضطرب الفقهاء، فإنا إذا فرضنا خلوّ ناحية عن نظر الإمام بسبب استيلاء أصحاب العُدَد، فلو عطلنا أحكامهم، لتفاقم الضرر، وهذا في القطر بمثابة ما لو خلا العصر عن صالحٍ للإمامة، وقد مهدنا أصول ذلك في المجموع الملقب (بالغياثي).
فأما إذا لم ينصبوا إماماً، فقد أشرنا إلى ما فيه مقنع في هذا الطرف.
فهذا بيان أحكام الذين لا يستجمعون الشرائط المعتبرة في أهل البغي.
10997- ثم نذكر بعد هذا تمهيد القول في الذين يقاتلهم الإمام من طوائف المسلمين، أما أهل البغي، فإنه يقاتلهم على تدريجٍ نَصفُه، فالوجه أن يبعث إليهم عاقلاً فطناً رقيقاً، ويقول لهم عن الإمام: ماذا ينقمون؟ فإن ذكروا مظلمةً ردّها، ولا يألوهم نصحاً، ويقول: عودوا إلى الطاعة، تكن كلمتكم وكلمة أهل الدين واحدة، فإن فاؤوا، فذاك، وإلا آذنهم بقتال، ولا يحل له أن يَبْغَتَهم به، لما سنصفه.
وهذا الترتيب بيّن في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى}[الحجرات: 9] والمراد إن طلبت مزيداً بعد وضوح حجة الله، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، على ما سيأتي الشرح في دفع الصائل، في بابٍ، إن شاء الله، ومن آثار قتال الدفع الاقتصارُ على الأدنى فالأدنى، فإذا أمكن الدفع بالقول، فلا معدل عنه، وإذا أمكن الدفع باليد من غير شهر السلاح، فيجب الاقتصار على الأقل.
وظاهر هذا قد يخيّل إلى المبتدي أنا لا نسير لهم، وليس كذلك؛ فإن الإمام إذا آذنهم بالحرب، سار إليهم، والسبب، فيه أنه يدفعهم عن القطر الذي استولَوْا عليه. هذا وجهٌ ظاهر، فإن انكشفوا عنه-وكلمتهم واحدة بعدُ- اتبعهم بنفسه أو بجنوده، فإن قيل عن ماذا يدفعهم وقد انكشفوا؟
قلنا: الطاعة محتومة عليهم، وهم مطلوبون بها، وعليهم بذلُها للإمام، فإذا أبدَوْا صفحة الخلاف، كانوا منزَلين منزلة مانعٍ أمراً للإمام طلبه منهم، وإذا فرض الامتناع فيما هذا سبيله، فليس إلا أن يستسلموا أو يقاتلوا، وقد جعل الرب سبحانه وتعالى منتهى القتال مع الفئة الباغية الفيئة إلى الطاعة، فقد قال عز من قائل: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وسنعقد فصلاً مفرداً في كيفية مقاتلتهم، وإنما نحن الآن في عقد الجُمل وتوطئة الضوابط.
10998- والذي يقتضي الترتيب ذكرَه الآن القولُ فيما تتلفه الفئة العادلة في القتال على البغاة، وفيما تتلفه الفئة الباغية على أهل العدل، فنقول: لا خلاف أن ما يتلفونه على أهل العدل في غير حالة القتال، فهم ضامنون له مطالبون به بعد تقدير الفيئة والرجوع به إلى الطاعة؛ فإنهم ملتزمون للأحكام، وليسوا كأهل الحرب، وكذلك ما يتلفه أهل العدل في غير حالة القتال، فالسبيل فيه ما ذكرناه؛ فإن الطائفتين لا يرَوْن إتلاف الأموال في غير حالة القتال، وإنما تعتقد كل طائفة أنها محقة في القتال غيرُ ضامنة لما يُفضي إليه ترتيب المقاتلة، فإذ ذاك يظهر الوفاق والخلاف على ما سنفصله.
فأما ما تتلفه إحدى الطائفتين على الأخرى في حالة القتال، فلا تضمن الفئة العادلة؛ فإنها مقاتلة بحق، وهل تضمن الفئة الباغية ما تتلفه على الفئة العادلة؟ فعلى قولين: أظهرهما- أنه لا ضمان عليهم، وهذا مذهب أبي حنيفة، وتعلق الشافعي بما روى ابنُ شهاب الزهري أنه قال: "كانت في تلك الفتنة دماءٌ يُعرف في بعضها القاتل والمقتول، وأتلفت فيها أموال، ثم سكنت الحرب، وجرى الحكم على الممتنعين، فما علمته اقتص من أحد، ولا غرّم أحداً ما أتلفه".
وهذا القول يتوجه بمصلحة كلية، وهو أن الفئة الباغية مدعوون إلى الطاعة رفقاً وعنفاً، والذي تقتضيه الإيالة تقديم الرفق وتأخير العنف، وهو ترتيب الدفع، وإذا جرت معارك واقتتال جنود، فلو علم الممتنعون أنهم مطالبون بالتبعات إذا فاؤوا واستسلموا، فقد يكون هذا داعيةً لهم إلى الاستمرار على العصيان؛ ولهذه الحكمة حُطت الطلبات عن أهل الحرب إذا أسلموا، وإذا كان جريان الكلام في الإيالات، فهذه الفنون أحرى بالتمسك بها من الأقيسة الجزئية، وبمثل هذا نفذنا أحكام البغاة حتى لا يعظم الضرار.
والقول الثاني- أنهم يضمنون ما يتلفون في حالة القتال؛ فإنهم ليسوا محقين في إقامة القتال وما أتلفوه يوصف بأنه متلَفٌ بغير حقّ، صَدَر إتلافُه من ملتزمِ الأحكامِ، والذي يُعارِضُ به هذا القائلُ ما قدمناه من الأمر الكلي: أن ما أتلفته الفئة الباغية في غير القتال في بَيَاتٍ وشن غارات من غير فرض قتال، فهم مطالبون به، وإن كان قد يؤدى هذا إلى ما ذكرناه في نصرة القول الأول.
وهذا القائل يقول: إنما قبلنا شهاداتهم، لأن ردها يأتي من ناحية تمكّن التهمة، والتهمة تأتي من ناحية ارتكاب محظور العقيدة.
وأما تنفيذ قضاء قاضيهم، فليس فيه كبير متعلّق؛ فإنا في الرأي الأظهر قد نصحح التحكيم من الذين هم تحت الطاعة.
والأصح القول الأول.
10999- ثم إن لم نوجب ضمان الأموال، فلا شك أنا لا نوجب القصاص لأنه أولى بالاندفاع.
وهل نوجب الكفارة على الباغي بقتل من يقتله من أهل العدل؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يجب؛ طرداً للإهدار وقطْع التبعات، والوجه الثاني- أنها تجب؛ إذ هي أسرع وجوباً من القصاص والدية؛ ولذلك أوجبناها على القاتل بسهم الغرب، كما تفصّل في موضعه، وإن لم يلتزم قصاصاً ولا دية، فإن قلنا: يجب على البغاة الضمانُ فوجوب الكفارة ظاهر.
وفي القَوَد وجهان:
أحدهما: لا يجب لتعرضه للسقوط بالشبهات، وما تمسكوا به من التأويل شبهة.
ثم إن أوجبنا القصاص وآل الأمر إلى المال، فالدية في مال القاتل. وإن لم نوجب القصاص لمكان التأويل، فلا شك في وجوب الدية على هذا القوله الذي نفرع عليه، والدية سبيلها سبيل دية العمد التي لا تتأجل وتتعلق بمال القاتل، أو سبيلها سبيل دية شبه العمد، حتى تتأجل وتضرب على العاقلة؟ هذا أصل مهّدته في كتاب الجراح والديات، وهو يناظر ما لو قتل الرجل إنساناً على زيّ الكفار رآه في دار الإسلام، ففي القصاص قولان، فإن لم نوجبه، ففي ضرب الدية على العاقلة قولان، فإن ضربنا عليهم، فلا شك في تأجيلها.
والرأي الظاهر أنها مغلّظة كدية شبه العمد. ومن أصحابنما من ألحقه بالخطأ المحض.
وهذا بعينه-يجري حيث انتهى التفريع إليه- في قتل العادلِ الباغيَ.
ولا خلاف في أن ما حصل بأيديهم من أعيان أموال البغاة مردود عليهم.
ومما يجب الاعتناء به أن أصل التردد في الضمان مختص بما يجري إتلافه بالقتال، حتى لو فرض إتلافٌ في القتال ليس من ضرورة القتال، فهو ملتحق بما يجري إتلافه قبل القتال.
فهذا بيان جملة من مقاتلة أهل البغي وأحكام ما يجري حالة القتال من إتلافٍ وقتلٍ.
11000- وقد ضمِنّا أن نذكر وجوه قتال الإمام مع طوائف المسلمين، فنذكر مقاتلة أبي بكر رضي الله عنه مع أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي: "أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان: قسمُ مانعي الزكلاة أهل ردّة، لا من جهة ارتدادهم عن الدين، ولكن من جهة ارتدادهم عن الطاعة " وتأسى في إطلاق لفظ الردة بما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
" مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأب النفاق ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات، لهاضها "
ولقد كان الذين سُموا أهلَ الردة قسمين: قسم كفروا بالله عز وجل بعد إيمانهم، مثل طليحة، والعنسي، ومسيلمة، وأصحابهم، وقسم ارتدوا عما لزمهم من حق أداء الزكاة، والردة لفظة عربية، وأطلقها المتقدمون على مانعي الزكاة. ثم الذين منعوا الزكاة ما كانوا خارجين عن الإيمان، وقاتلهم أبو بكر، والمناظرة التي جرت بينه وبين عمر رضي الله عنهما مشهورة، إذ قال عمر: كيف تقاتل أقواماً يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم» فقال أبو بكر: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا بحقها» والزكاة من حقها، والله لا أفرق بين ما جمع الله، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} والله لو منعوني عقالاً وفي بعض الروايات عَناقاً مما أدوا إلى رسول الله، لقاتلتهم عليه".
ثم استدَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي أبي بكر، وتبين أنه قاتلهم، وهم مؤمنون، وقال بعض من وقع في الأسر منهم: والله ما كفرنا بعد إيماننا، ولكن شححنا على أموالنا، وأشعارهم وأراجيزهم في هذه المعاني.
وكان يقول بعضهم: أدينا الزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت صلاته سكناً لنا، وليست صلاة غيره سكناً لنا.
وترتب على هذا الأصل أن كل من امتنع عن أداء حقٍّ إلى الإمام استيفاؤه، فالإمام يستوفيه منه، وإن لم يكن فيه امتناع، حبسه وأرهقه إلى أداء الحق. وإن تجمع قوم وامتنعوا عن أداء ما إلى الإمام استيفاؤه، فالحال يُفضي إلى دعائهم إلى الطاعة، فإن أصروا، فليس إلا القتال؛ إذ لا سبيل إلى تركهم على تمردهم وتفردهم وخروجهم عن الطاعة.
وكذلك إذا توجهت تبعات وغرامات، ففُرض الامتناع.
11001- فالقول الضابط: أن من يمتنع عن بذل الطاعة فإن لم يكن ذا منعة، قهره السلطان وحَمَله على توفية ما عليه، فإن تجمعوا وصاروا أصحاب شوكة ومَنَعة، فلا سبيل إلى الترك. ولا طريق إلى تحصيل الطاعة إلا بالقتال، وإنما يُقاتَل أهل البغي لهذا؛ من حيث إنهم امتنعوا عن الانقياد، وأبدَوْا الاستقلال والاستبداد.
ثم لو فرض: الامتناع من أقوام، وأفضى الأمر إلى القتال، نُظر: فإن لم يكونوا أصحاب امتناع، ولكنهم استجرؤوا، واستقتلوا بلا تأويل، أو تمسكوا بتأويل، فما أتلفوه في القتال مضمون عليهم، والقصاص واجب إذا استدّت الطاعة، فعلى من يقتل منهم القصاص، وهذا مقطوع به في قاعدة المذهب؛ قال الشافعي رضي الله عنه: قتل ابنُ ملجم عليّاً متأولاً، فاقتُص منه، وقيل: تأويله أن امرأةً ذكرت له- تسمّى قطام- أن علياً قتل طائفة من أقربائها، ووكّلته بالاقتصاص منه وبنى عبد الرحمن ابنُ ملجم على مذهب مشهورٍ لأهل المدينة في أن طلب القصاص
لا يتوقف على رضا جميع الأولياء- هذا معنى تأويله.
وإن كان في الفئة الممتنعة مَنَعة، فما يتلفونه في القتال، إن كان عن تأويل، فهم بغاة، وقد مضى التفصيل فيهم، وذكرنا أن الأصح أنا نكتفي بالتأويل والمنعة، ثم من ضرورة المنعة اتباع مُقدّم، فأما نصب الإمام، فالرأي الظاهر عندنا أنه ليس من شرائط البغاة.
وإن لم يكونوا متمسكين بتأويل به مبالاة، ولكن كانوا أصحاب شوكة، ففيما يتلفونه في القتال على أهل القتال طريقان: من أصحابنا من قطع بأنهم يضمنون، إذ لا تأويل معهم، ومن أجرى القولين، وهو ظاهر النص، فإن المعتمد من جهة المعنى في إسقاط الضمان عنهم تسهيلُ الأمر عليهم، وتيسيرُ طريق الدعوة بقطع التبعات، وهذا متحقق في أهل المنعة دون شرذمة لا منعة لهم.
11002- وأجرى الشافعي رحمه الله ترديد القول في أهل الردة إذا اجتمعوا واستمسكوا بعُدة، فأتلفوا في القتال ما أتلفوا، فإذا أسلموا واستكانوا، ففي تضمينهم ما أتلفوه قولان.
ثم قال قائلون: هم أولى بنفي الضمان عنهم لمضاهاتهم أهل الحرب، وهذا وإن ذكره طوائف من الأئمة غيرُ مرضيّ؛ فإن المرتد في التزام الأحكام كالمسلم، ولم يوجد منهم إلا المنعة، ولو صح التعويل على ما ذكرناه، لوجب أن يقال: ما يتلفونه في غير حالة القتال لا يضمنونه كأهل الحرب، وليس الأمر كذلك، فلا خلاف أنهم يضمنون ما يتلفون في غير حالة القتال، فالوجه تلقي هذا من عُدّة أهل الردة، لا من كفرهم.
ثم ينقدح طريقان:
أحدهما: القطع بأنهم يضمنونه. والثانية- إجراء القولين، ومانعوا الزكاة لم يكونوا على تأويل، ولا حاصل لما نقل عن بعضهم أنه لا سكن في صلاة أبي بكر؛ فإن أخْذ الزكاة لا يعتمد سكون قلب المؤدِّي إلى صلاة الآخذ.
11003- ونحن الآن ننظم قولاً وجيزاً، فنقول: القتالُ يتبع الامتناعَ عن الطاعة.
وتنفيذُ القضاء، والأحكامِ التي قدمنا ذكرها يتبع الشوكةَ والتأويلَ.
وإجراءُ الخلاف في ضمان ما يُتلَف في حالة القتل يتبع الشوكة المحضة، فإذا لم تكن شوكة، قطعنا بالضمان مع التأويل، وعليه استشهدنا بقتل ابن ملجم علياً.
ومن أبدى من آحاد الناس طعناً في الإمام، عُزِّر على قدر سوء أدبه، وإن شبب بذلك ولم يَبُح، فهل يعزّر؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: للإمام أن يعزره إذا أدى اجتهاده إليه، حسماً للمادة وردّاً لأوائل الأمور، والدليل عليه أنه يحرم عليه أن يشبب، وإذا حرم عليه، ساغ منعه.
ومن أصحابنا من قال: لا يعزره ما لم يصرح، واستدل بما روي «أن رجلاً قال وعليٌّ في الصلاة: لا حكم إلا لله ولرسوله» وشبب بإسقاط طاعة عليّ رضي الله عنه، فلما تحلل عن صلاته، قال: «كلمة حق أريد بها باطل» ولم يعزره.
وأما الخوارج إذا أظهروا آراءهم، وأكفروا الإمام وأتباعَه، فإن لم يكن لهم منعة، فالكلام فيهم، وفي أهل الأهواء ليس بالهيّن، وهو من أعظم أركان الإيالة الكبيرة، ولعلنا نجمع فيها قولاً، وإن نابذوا الإمام، فقد اختلف أصحابنا فيهم: فمنهم من جعلهم كأهل الردة، ومعناه أنا لا نقيم لما استمسكوا به من عقدهم وزناً، ولا نقول: إنهم متعلقون بتأويل حتى تَنفُذَ أحكامُهم، كما تنفُذ أحكامُ البغاة، وهذا هو الأصح.
ومنهم من جعل ما تعلقوا به بمثابة تأويل البغاة، وهذا ساقطٌ لا أصل له؛ فإن فساد عقدهم كفساد عقود أهل الردة، وإن كنا لا نكفرهم على الرأي الظاهر.
وقد انتجز ما أردنا أن نصدّر الكتاب به من التوطئة وتمهيد الأصول.
11004- ثم إنا نعود إلى ترتيب (السواد) قال الشافعي رضي الله عنه في فصل المرتدين: "وسار إليهم أبو بكر بنفسه حتى لقي أخا بني بدر الفزاري، فقاتله ومعه عمر، وعامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "
وإنما أراد عيينةَ بنَ حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، واختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: كان هو من جملة الموافقين لأبي بكر، ولما سار أبو بكر يريد قتال أهل الردة، التقى به، فقال له: أنت إمام المسلمين، فإن صدرت فلا إمام بعدك، فارجع أنت لنقاتلهم دونك، فمن قال بهذا قرأ: فقاتل ومعه عمر: أي قاتلهم عيينة مع عمر، ومنهم من قال: كان عيينة من المخالفين المانعين الزكاة، ومن قال بهذا، قرأ: فقاتله ومعه عمر: أي قاتل أبو بكر عيينة ومعه عمر.
فصل:
قال الشافعي: "والفيئة الرجوع عن القتال... إلى آخره".
11005- وهذا مما قدمناه، فالقتال مع الفئة الباغية مردود إلى رجوعهم إلى أمر الله، واستمساكهم بالطاعة، والغرض من عقد هذا الفصل الكلامُ في كيفية مقاتلتهم، وقد تمهد أن قتالهم مبنيٌّ على الدفع.
ومن آثار هذا الأصل أن من انهزم منهم، لم يتبع، ومن أثخن بالجراح، لم يذفّف عليه، وقال أبو حنيفة: يتبع مدبرهم ويذفف جريحهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود يوماً: «يا ابن أم عبد! أتدري ما حكم الله تعالى فيمن بغى من هذه الأمة؟» فقال: الله ورسوله أعلم. فقال عليه السلام: «ألا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ولا يقتل أسيرهم». ودخل حسين بن علي على مروان فقال له ما رأيتُ أكرم من أبيك: ما ولَّينا ظهورنا يوم الجمل حتى نادى مناديه: "ألا لا يتبع مدبر، ولا يذفّف على جريح".
ومعتمد المذهب أن القتال للامتناع، ولا امتناع في منهزم، ولم يصدر منه ما يوجب القتل، ولذلك لا امتناع في مثخن.
ولو انهزم البغاة في ظاهر الأمر، وقصدُهم التحرّف للقتال، فإن القتال قائم، وحكمه دائم، وإن قصدوا التحيّز إلى فئة، فهذا مما يجب إنعام النظر فيه: فنقول: ما قدمناه من أنه لا يتبع منهزم أردنا به الأفراد إذا تبدّدوا مفلولين، فأما إذا ولّى الجند تحت الراية، وما انفلّوا، ولكنهم ولّوْا ظهورهم، فلا ينكف الإمام عنهم، ولكن لا ينكأ فيهم بالسلاح، بل يطلبهم إلى أن يؤوبوا إلى الطاعة، والواحد إذا انفلّ، فقد سقطت منعته وشوكته، واعتضاده بالجمع، وكذلك لو تشتّتوا بدداً، وارفضّ الجمع حتى لا يتوقع اجتماعهم، فلا يتبعهم.
فانتظم مما ذكرناه أن التعويل على ردّهم إلى الطاعة، أو فلّ شوكتهم وإبطال عُدتهم.
ولو ولّوْا متحيزين إلى فئة، فإن كانت قريبةً منهم، اتبعناهم، وإن كانوا أفراداً وأسرناهم، فلا يتعرض لهم بالأسلحة، كما ذكرناه، وإذا كنا نتبعهم وهم متحيزون إلى فئة قريبة، فلأن نتبعهم وهم مجتمعون تحت رايةٍ أولى، فإنا جعلنا تفرقهم في الانهزام وصوبُهم فئة يتحيزون إليها بمثابة استمرارهم على القتال.
ولو بعدت الفئة التي إليها التحيز، فقد ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنهم يتبعون كما لو قربت الفئة، والثاني: لا يتبعون، والوجهان يجريان فيه إذا تفرقوا مفلولين. وإذا كانت الصورة كذلك، فلا يكادون يلتامون إذا بعد المُعَرِّي.
11006- ونحن من هذا المنتهى نذكر كيفية المقاتلة، فقد يظن من لا يطلب حقائق الأشياء أنا نصطف في مقابلتهم، فإذا قصدونا، ندفعهم، وقد رأيتُ هذا لطائفة من المعتبرين، وهذا زلل منهم، لم أذكره لبعده من المذهب، وذلك أنا وإن أطلقنا أن قتالهم دفعٌ، فالمراد دفعهم عن العصيان، والاستعدادُ له؛ فإذا رأيناهم مُعدِّين، سرنا إليهم وزحفنا إليهم، ومن ضرورة هذا مفاجأتهم.
ومما يتصل به أنا لو اصطففنا حتى يلْقَوْناْ، فقد يُفضي هذا إلى أن يتغشَّوْنا، وقد ذكرنا أن القتال ليس على صورة قتال رجل ودفعه، وربما يكون تارك البداية معرِّضاً نفسه للهلاك، وإليه أشار عليّ رضي الله عنه إذ قال: "حدِّدوا سيوفكم، وقاربوا بين الخطى، ولاحظوا شذراً، وعليكم بالرواق والمقيت".
والذي يجب مراعاته أنه إن أمكن الأسر، فلا قتل، وإن أمكن الاقتصار على الإثخان، فلا تذفيف، وهذا الفن من التدريج تجب مراعاته، وإذا التحمت الفئتان، فلا ضبط، وهذا المعنى يتحقق في تساوي الصائل والمصول عليه، فما الظن بالتحام فئتين عظيمتين.
وخرج مما ذكرناه أن المنهزم ينقسم إلى من يُتبع وإلى من لا يُتبع، وهم مستوون في أنهم لا يقصدون بالأسلحة، وترتيبُ القتال على ما بيّناه.
فإن قيل: كيف قتل عليّ أهل النهروان؟ قلنا: "كانوا خوارج نابذوه وانسلّوا عن طاعته وتوثبوا على واليه، وقتلوه، فبعث إليهم أن يسلموا قاتله، فقالوا: كلنا قتلة، فبعث إليهم، فقال استسلموا، نحكم عليكم، فأبَوْا، فسار إليهم بنفسه، وقتل أكثرهم " قيل: لم يفلت منهم أكثر من اثنين، وبلغ القتلى أربعة آلاف وقتل ذا الثُّدَيَّة، وصدق الله وعد رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ قال في القصّة المشهورة: "سيخرج من ضِئْضِئ هذا الرّجل أقوام...
الحديث " إلى أن قال: "وأنت قاتلهم يا عليّ وآياتهم أن فيهم رجلاً ذا ثُدَيّة عليها شعيرات تتدَرْدر فلما صُرع القتلى أمر عليّ بطلبه، فطلبوه، فلم يجدوه، فنزل عليّ بنفسه، وكان يفتش القتلى، فوجد ذا الثديّة على طرف وادٍ، فكبّر وكبّر المسلمون معه".
11007- ومما يتصل بذلك أن طائفة إذا خرجوا عن طاعة الإمام وقتلوا واليه فالقاتل مقتول، والذي ذهب إليه الجماهير أنه يقتل قصاصاً، وذكر العراقيون وجهاً أنه يقتل حدّاً، لأنه لم يجن على رجل واحدٍ، بل خرق حجاب الهيبة، ومقامه هذا فوق مقام من يقتل في المحاربة.
وتمام البيان في هذا أن من قاتل الوالي، ولم يقصد استبداداً بالنفس ورجوعاً إلى عُدَّة المخالفة، فسبيل مثله سبيل القصاص، وإن انضم إلى ذلك الخروج عن الطاعة والرجوع إلى استعداد المخالفة، ففيه الخلاف، والأصح القطع بأن القتل الواجب قصاصٌ.