فصل: فصل: في أَسْر البغاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في أَسْر البغاة:

11008- إذا أسرنا منهم أسيراً، لم نقتله صبراً، خلافاً لأبي حنيفة، ولكنه يحبس حتى تضع الحرب أوزارها، فإن بايع الإمامَ خُلِّي، وإن أصر على غُلَوائه، فرجعت الفئة الباغية إلى الطاعة، خلّينا سبيل هذا الأسير؛ فإنه لا يتأتى منه الاستقلال بالمخالفة بعد تفرق كلمة الفئة الباغية، ولو أسرنا منهم أسيراً، فانجلى ذلك القتال، وما زالت شوكتهم، وكنا على اتباعهم، وعلى انتظار الكرّة منهم، فلا يُخلَّى الأسير والحالة هذه.
ولو ظفرنا بنسائهم، لم نتعرض لهن بالأسر، وإن وقعن في ضبط الجند، خلّينا سبيلهن، هذا هو المذهب الظاهر.
وذهب أبو إسحاق المروزي فيما نقله العراقيون إلى أنّا نحبسهن؛ فإن في حبسهن كسر قلوبهم، وحملهم على الطاعة.
ولو انهزم البغاة متحيزين إلى فئة، فإن كانت كلمتهم واحدة، وكان مسيرهم تحت الراية الجامعة، فقد ذكرنا أنا لا نخلّي الأسرى، وإن تحيّزوا إلى فئة قريبة، فكذلك، وإن تفللوا أفراداً وتحيزوا إلى فئة بعيدة، ففي وجوب تخلية الأسرى وجهان، وذكر العراقيون وجهاً عن بعض الأصحاب أنه مهما انقضى القتال خُلِّي الأسرى من غير فرق، وهذا بعيدٌ، لا أصل له، ولابد من التفصيل الذي ذكرناه.
ولو وقعت بأيدينا أموال، لم تكن من قِبَل الأسلحة، فهي مردودة عليهم، وإن ظفرنا بخيلهم وسلاحهم، لم نردها حتى ينقضي القتال، كما ذكرناه في تخلية الأسرى، والعبيدُ من أقوى العُدد، فسبيلهم كسبيل الأسرى والأسلحة.
والمراهقون إن كانوا يقاتلوننا، فسبيلهم كسبيل العبيد، وإذا لم يبلغ الصبيان مبلغ القتال، فهم ملتحقون بالنسوان، وقد سبق القول فيهن، ولا يطلب من الصبيان بيعةٌ؛ إذ لا قول لهم، وليس على النسوان بيعة إلا بيعة الإسلام.
فصل:
قال: "ولو استعان أهل البغي بأهل الحرب... إلى آخره".
11009- مضمون الفصل مسألتان: إحداهما- استعانة أهل البغي على أهل العدل بأهل الحرب، واستعانتهم بأهل الذمة على أهل العدل.
فأما إذا استعانوا بأهل الحرب علينا، فلا أمان لأهل الحرب في حقوقنا؛ فإنا وإن كنا ننفذ أحكام البغاة، فشرط تنفيذها أن تكون موافقة لموجب الشرع والدين، ولا أمان مع القتال، فيستحيل أن ينفُذ أمانهم علينا.
ثم ما يتلفه أهل الحرب لا تضمين به؛ لأنهم في حقوقنا أهل حرب، ثم قال الأئمة المراوزة: يُتبع منهزمهم يعني أهل الحرب، ويذفّف على جريحهم، وتُغنم أموالهم، وحكي عن القاضي أنه قال: لا يتبع مدبرُهم ولا يذفّف على جريحهم، لأنهم صاروا من أهل البغي بالأمان، فيثبت لهم حكمُ أهل البغي، وهو عندنا زلل ولا يثبت لأهل الحرب في حقوق أهل العدل أمان، ولا عُلْقة أمان، وهم بمثابتهم لو انفردوا بمقاتلة المسلمين.
واشتهر اختلاف الأصحاب في أنه هل ينعقد لهم أمان في حق أهل البغي: فمنهم من قال: ينعقد لهم الأمان؛ فإنهم أمّنوهم، ومنهم من قال: لا ينعقد الأمان على الصحة في حقوق البغاة أيضاً؟ فإنه معقود على الفساد، والأمان لا يتبعّض، ثم إن صحّحنا الأمان لهم، فلا كلام، وإن لم نصحّحه، فليس للبغاة أن يغتالوهم؛ فإن ما جرى منهم أمان فاسد، والأمان الفاسد يمنع الاغتيال لهم، فهم مردودون إلى مأمنهم.
ولو قال أهل الحرب-وقد وقعوا في الأسر-: ظننّا أنه يحل لنا مقاتلتكم والاستعانةُ بنا، وهؤلاء حسبنا أنهم الفئة المحقة، وقالوا: ظننا أنهم استعانوا بنا في مقاتلة الكفار، وما حسبناكم مسلمين، فهذا موضع الخلاف المشهور: قال قائلون من أئمتنا: نصدّقهم إذا احتمل ما قالوه، ونعاملهم معاملة البغاة، فنقتلهم مقبلين ولا نقتلهم مدبرين، ونُبلغهم المأمن، وهذا هو الظاهر.
ومن أصحابنا من قال: نقتلهم حيث ثقفناهم، ومجرد ظنون الكفار لا يؤمّنهم، وقد ذكرنا أنه لا أمان على أهل العدل.
هذا كلامنا في استعانة أهل البغاة بالكفار الحربيين.
11010- فأما إذا استعانوا بجماعة من أهل الذمة، فإن قالوا: قد علمنا حقيقة الحال، ولم نرد بالقتال إلا أن ننال منكم ونستأصلَ شأفتكم، فينتقض العهد بهذا، ويُقتلون مدبرين ومقبلين، وتُغنم أموالهم، ولا يُبْلَغون المأمن، ولا يضمّنون ما أصابوا؛ فإنهم أهل حربٍ.
وإن قالوا: ظننا أنه يحل لنا مقاتلتكم، وذكروا حالةً يمكن صدقهم فيها، فللأصحاب في هذا تردد: أولاً- قالوا: إن ادّعَوْا أنهم كانوا مكرهين على حضور المعركة، فلا نحكم بانتقاض عهدهم، ونقاتلهم مقاتلةَ البغاة: مقبلين غير مدبرين، وإن لم يدَّعوا الإكراه، وزعموا أنا اتبعنا هذه الفئة على علم، ولم نخرج عن متابعة المسلمين كلهم، فحاصل ما ذكره الأئمة في ذلك يستدعي تقديم أصولٍ.
وهذا فصل ألحقه معظم الأصحاب بالظواهر، وفيه تشعيث وغوص في أعماق الفقه، لا يتأتى الانتهاء إليه من غير تمهيد أصول، وتفصيل فصول، فنقول: الكلام فيما يوجب نقض عهود أهل الذمة يأتي مستقصىً في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى، ونحن نذكر من ذلك المقدارَ الذي تَمَس إليه حاجتنا في بيان ما يختص بهذا الكتاب:
فما يصدر منهم ينقسم أولاً قسمين:
أحدهما: أن يؤثروا الالتحاقَ بدار الحرب، ونبذَ العهد إلينا، فلهم ذلك ولا نجبرهم على الوفاء بالذمة، هذا متفق عليه، وكان من الممكن من طريق المعنى أن نقول: الذمة إذا انعقدت فكما يلزمنا إدامتها لهم واستدامتها عليهم، فيلزمهم الوفاء بها، حتى إن حاوبوا نقضها، لم يُمكَّنوا، ولكن اتفق الأئمة على أنه لا مُعتَرض عليهم إذا نبذوا العهود، وسنذكر شرّ ذلك في الجزية، إن شاء الله عز وجل.
ثم من أثر رفع الحجر عنهم ألا نغتالَهم، ولا نتعرضَ لأموالهم وذراريهم، ونبلغهَم في حكم الأمان مأمنهم، فإذا انتهَوْا إلى مكانٍ يقطنه ذوو نجدة من الكفار فتنقطع آثار الأمان حينئذ. هذا قسم.
11011- والقسم الثاني- ألا ينقضوا العهود، ولكن يأتوا بأمرٍ يخالف العهد، وهذا ينقسم قسمين:
أحدهما- أن يخرجوا عن الطاعة، ويُبدوا صفحة الخلاف، وذلك بأن يمتنعوا عن إجراء الأحكام عليهم، ونهايتُهم في هذا أن يجتمعوا وينصبوا علينا قتالاً، ويلتحق بهذا القسم امتناعُهم عن أداء الجزية، وليس هذا من غرضنا الآن.
والطرف الذي هو مقصودنا من هذا القسم خروجُهم عن المؤالفة والاستسلام لما يجري عليهم من الأحكام، والمشاقّةُ نهايتها أن يبدوا القتال، فلا خلاف أن هذا ينقض العهد.
والقسم الثاني- جنايات عظيمة تصدر منهم متعلقةً بأهل الإسلام، كالزنا بالمسلمة، أو قتل مسلم، أو جرحه، ففي انتقاض عهدهم بصدور هذه أوجه، وغرضنا أن نذكر ما يضبطها، فإذا أتَوْا بجرائم عظيمة، ولما ينتهوا بسببها إلى سلّ اليد عن ربقة الطاعة، ولم يُبدوا امتناعاً عن إجراء الأحكام عليهم، فهذا محل التردد في انتقاض العهد، وما لا يبلغ هذا المبلغ من سوء أدب، وإظهار خمر، وتظاهر بإبداء شعار، فلا ينتقض العهد به على تفاصيلَ ستأتي، إن شاء الله.
فإن كان انتقاض العهد بالجهاد والخروج عن الطاعة، ونصب القتال، فالمذهب الذي عليه التعويل أنا نقاتلهم على أماكنهم، ونغنم أموالهم ونقتلهم، ولا نبلغهم مأمناً، ولا خلاف أنهم إذا استشعروا ظلال السيوف، ووقعَ الحتوف، فطلبوا ذمةً مبتدأة، عقدناها لهم، وسنعطف على هذا القسم.
11012- ولو انتقض عهدهم بسبب لا يمكن نسبتهم فيه إلى قصد الهتك والتهجم على حريم الإسلام، كما سنصفه من بعدُ، إن شاء الله ولكنهم على الجملة أوصلوا أذى إلى المسلمين عن جهل؛ فإذا نفذ الحكم بانتقاض الذمة، فهل نغتالهم أو نبلغهم مأمنهم؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما في الجزية إن شاء الله.
ولو انتقض عهدهم-على مذهبٍ- بسببِ عظائمَ صدرت منهم في آحاد المسلمين، فلا خلاف أن موجب تلك القضية يجري عليهم، حتى إن قَتلوا، اقتصصنا منهم، وإن أتلفوا، غرّمناهم.
وكان لا يبعد من طريق القياس أن يقال: إذا حكمنا بانتقاض عهدهم، صاروا حرباً لنا، ولا حُكم على الحربي وقد حصل نقض العهد مع موجِب القصاص، ولكن أجمع الأصحاب على استيفاء حقوق المسلمين منهم، ولو لم نسلك هذا المسلك، وفرعنا على المذهب الذي انتهينا إليه، للزم ألا يستوجب ذمي قصاصاً بقتل مسلم، فإذاً إجراء الموجبات والقضايا في الجرائم من أحكام الذمة السابقة، وإن كان لا يبعد أن نبلغهم المأمن-وقد نبذوا العهد- لآثار الأمان السابق، وإجراء الأحكام-وإن انتقض العهد- من بقاء الذمة السابقة، وهذا مما يلزم، فلا سبيل إلى دفعه. نعم، لو نبذوا العهد وأظهروا الخلاف ونصبوا القتال، فصاروا حرباً لنا، ثم قتلوا، فلا قصاص حينئذ ولكن نتبعهم ونقتلهم حيث نثقفهم.
ثم إذا حصل انتقاض العهد، بهذه الأمور الخاصة، فهل نغتالهم أو نبلغهم المأمن؟ فعلى قولين مرتبين على القولين فيه إذا انتقض عهدهم بسبب أبدَوْا فيه جهلهم عذراً كما سنصفه إن شاء الله، وهذه الصورة أولى بألا يُبلغوا فيها المأمن لما ارتكبوه من الجرائم، وإن كانت في وقائع خاصة.
فانتظم من ذلك أنهم لو نبذوا إلينا العهد من غير أذى، فنقطع بتبليغهم مأمنهم، ولو نقضوا العهد وآذنوا بقتالٍ وأمرٍ يشعر بالخروج عن الطاعة الكلية، فالمذهب أنا لا نبلغهم مأمنهم ونغتالهم وأموالهم. وأبعد بعض أصحابنا فذكر هاهنا قولاً أنا نبلغهم إذا انكفوا عن الأذى، وهذا أخذوه من أنهم لو طلبوا الذمة نجيب إليها.
وإن حكمنا بانتقاض عهدهم بسبب أظهروا فيه عذراً ممكناً، ففي تبليغهم مأمنهم قولان، وإن نقضنا عهدهم لجرائمَ خاصة فأحكام تلك الجرائم مجراة عليهم في حقوق المسلمين، وفي تبليغهم مأمنهم قولان. هذه مقدمات مست الحاجة إليها.
11013- ونحن نعود بعدها إلى استعانة البغاة بأهل الذمة في مقاتلة أهل العدل، ولابد من ذكر الأقسام وباستيعابها يحصل استيفاء الأحكام، فنقول: إن كانوا مكرهين، فالذمة لا تزول، ولكنا نقاتلهم مقاتلةَ البغاة، وينقدح في هذا القسم غامضةٌ لا يتأتى شرحها الآن.
وإن قالوا: علمنا بأن الذين استعانوا بنا بغاة، وما كنا مكرهين، فلا شك أنه ينتقض عهدهم لِما أظهروا من القتال على علم من غير عذر.
وإن قالوا: ظننا أن الفئة المستعينة بنا هي العادلة، وقدّرنا أنهم المحقون-ومن الممكن أن يخطر ذلك لهم؛ فإن الفئة العظيمة من بغاة المسلمين على هذا العقد- فهل ينتقض عهدهم وهم على جهلهم؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه ينتقض بصورة القتال، وهذا هو الذي وعدنا أن نذكره؛ إذ أجرينا في المقدمات إمكانَ انتقاض العهد مع التمسك بعذر، وكذلك لو قالوا: ظننا أنهم استنجدوا بنا على الكفار، وما حسبناكم مسلمين-وأمكن صدقهم- ففي انتقاض عهدهم قولان: فإن قلنا: ينتقض العهد لصورة القتال، فلو كان الإمام شرط عليهم ألا يقاتلوه، فإذا قاتلوه عن جهلٍ، فهل ينتقض عهدهم؟ فعلى وجهين:
أحدهما: ينتقض؛ لأن العهد كان مشروطاً بشرط؛ فلا يبقى مع تخلف الشرط.
والثاني: لا ينتقض؛ فإنّ شرطَ الانكفاف عن القتل محمول على الإقدام عليه عمداً على علم.
ولو قالوا: ظننا أن المسلمين إذا تفرقوا واستعان بنا فئة منهم على فئة، فعلينا أن نذب عن الناحية التي نحن قاطنوها، ولم نعتقدهم مبطلين، فهذا الاحتمال أبعدُ؛ فإن في النفوس التمييزَ بين المحق والمبطل.
وإن كان فئة، لا يقاتلون، وإنما يقاتل البعض دون البعض، فإذا ذكروا مثل هذا، فالأوجه انتقاض العهد، وأجرى بعض أصحابنا القولين في الانتقاض على التفصيل الذي ذكرناه.
11014- ونعود الآن إلى أوائل الكلام، فنقول: إن انتقض عهدهم على علم من غير عذر، فلا خلاف أنا نقتلهم مقبلين ومدبرين، وقد ذكرنا أن القول الذي عليه التفريع أن هؤلاء يُبلغون المأمن، ثم ما أتلفوا بعد إظهار القتال لا يضمنونه، لأنهم أهل حربٍ، وقد انتقض عهدهم قبل صدور الإتلاف منهم، وإن حكمنا بانتقاض العهد في صور الجهل-حيث يقيمون عذراً- فقد ذكرنا قولين في أنهم هل يُبلغون المأمن؟ فإن قلنا: لا يبلغون المأمن على أحد القولين، فنقتلهم مقبلين ومدبرين، ونذفِّف على جرحاهم، فإنه يُفعل ذلك بهم بعد انقضاء القتال.
وإن قلنا: نبلغهم مأمنهم، فهل نقتلهم منهزمين؟ اختلف أصحابنا في المسألة؛ فمنهم من قال: لا نقتلهم منهزمين، كما لو انقضى القتال، والتفريع على أنا لا نغتالهم، ومن انهزم، فقد ترك القتال، ومن أصحابنا من قال: نقتلهم منهزمين، ونذفّف؛ فإن هذا من بقايا القتال، وكأنه عقوبة لهم في مقاتلتهم، وقد ذكرنا أن العقوبات تقام عليهم، وما أتلفوه في القتال-والتفريع على أنهم يبلغون المأمن- فهل يضمنونه؟ الظاهر عندنا أنهم يضمنونه؛ فإنهم في بقية من الأمان؛ ولهذا نبلغهم مأمنهم؛ ويستحيل أن نلتزم أمانهم، ولا نلزمهم ما يتلفون، فيخرج من ذلك أنهم ما صاروا أهل حرب على الإطلاق، وقد نرى في بعض المجموعات أنا إذا حكمنا بانتقاض عهدهم لا يضمنون ما يتلفون، وهذا لا يعد من المذهب، ويحمل على هفوة صادرة عن قلة الفكر.
وإن قلنا: إن عهود أهل الذمة لا تنتقض في صورة الجهل، فهم على ذمتهم إذا انقضى القتال، والكلام في أنهم هل يلتزمون ما يتلفون في حالة القتال؟ قال الأئمة رضي الله عنهم: يلزمهم ضمان ما يتلفونه حالة القتال ولا يخرج فيهم القولان المذكوران في أهل البغي، فإنا حططنا الغرم عنهم في قولٍ؛ استعطافاً لقلوبهم؛ وقَطْعاً للتبعات الثقيلة التي تمنع من الرجوع إلى الطاعة، وهذا المعنى لا يتحقق فيهم، وبالجملة ليسوا من المؤمنين، والله أمرنا بالإصلاح بين المؤمنين، ولم يذكر تَباعةً بدمٍ ولا مال، فيختص هذا التخفيف بهم، ولكنا لا نقتلهم مدبرين؛ فإنا نفرّع على أن ذمتهم باقية، والذمة حاقنة للدم، فسبيلهم في القتل كسبيل أهل البغي لا نتبع مدبرهم ولا نذفف على جريحهم، ولكنا نضمّنهم ما يتلفون.
ثم إن أوجبنا القصاص على أهل البغي، ففي إيجابه على أهل الذمة-والتفريع على أن ذمتهم غير منتقضة- وجهان:
أحدهما:أنا نوجب القصاص عليهم، كما قطعنا بإيجاب الغرم فيما أتلفوه.
والثاني: أنه لا يجب القصاص عليهم لمكان الشبهة المقترنة بأحوالهم.
فهذا نجاز الفصل في أحكام أهل الذمة إذا أعانوا البغاة على أهل العدل.
وقد انتهى بانتهاء هذا الفصل مقصود الكتاب، ونقل المزني فصولاً سهلة المُدرك قريبة المأخذ نجمعها في فصل واحد.
فصل:
قال الشافعي رحمه الله: "ولو أتى واحد منهم تائباً، لم يقتص منه... إلى آخره".
11015- هذا عَطَفه على أهل الذمة، وأراد المسلمين من أهل البغي، والدليل عليه أنه علّل فقال: "لأنه مسلم محرم الدم"، ثم ذكر سؤالاً وناظر به مناظرةً، وليس فيه أمر يتعلق بمقصودنا، وذكر طرفاً من الكلام في كيفية دفع الواحد يصول على الإنسان في نفسه أو ماله، هذا يأتي في باب الصيال، إن شاء الله.
11016- ثم قال: "لا ينبغي أن يستعين الإمام على أهل البغي بمن يرى قتلهم مدبرين "-كأصحاب أبي حنيفة ومن يوافق مذهبه مذهبهم-.
إذا كان الإمام يرى رأينا ويذهب إلى ما نذهب إليه، فلا ينبغي أن يستعين بمن يخالفه في كيفية مقاتلة أهل البغي، فإنهم لا يتحاشَوْن إذا احمرّ البأس أن يتجرؤوا على ما يستحلون، وكذلك لا يستعين الإمام بالكفار عليهم، لأنهم يستحلون قتلهم على الوجوه كلها، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] ولهذا لا يجوز للإمام أن يتخذ جلاّداً مشركاً لإقامة الحدود على المسلمين.
وأما الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين، فهي جائزة على الجملة، وفي تفصيلها كلام سيأتي في السِّيَر، إن شاء الله.
ثم قال رضي الله عنه: "لا يُرمَوْن بالمنجنيق ولا بالنار... إلى آخره "
11017- منع الشافعي مقاتلتهم بالأسباب العظيمة الفاحشة التي تصطلمهم، وتأتي عليهم من غير بُقيا، وإنما يجوز نصب المنجنيق وما في معناه والمقاتلة بالنيران مع الكفار؛ فإنا نستحل قتل الكفار جرياً على موجب قوله عز من قائل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] والمقاتلة مع أهل البغي ينبغي أن تكون مع الإبقاء عليهم.
وهذا مما يجب التنبه له، فإنا ذكرنا فيما تقدم أنا إذا اصطففنا في مقاتلتهم، لم يكن القتال على حد دفع صائل على مصول عليه، حتى لا نبدأ بهم، وإن بدؤوا بنا، اقتصرنا على حد الدفع، هذا مما لا يمكن، ولو فرضنا افتتاح ذلك، كان استقتالاً، وتعرّضاً للهلاك، ولكن للقتال مع محاولة الاستيلاء والإبقاء عليهم مبلغاً يُنْتَهى إليه، ويوقف، فلا يزاد عليه. ولقصد الاستئصال والاصطلام حد يعرفه أهله، فرأى الشافعي رضي الله عنه نصبَ المنجنيق وإرسالَ السيل على معسكرهم يبعد أن يقاتلوا به، وإضرامُ النيران فيهم من قصد الاصطلام.
فإذن ليتخيل الفقيه مراتب: إحداها- الاصطلام، وهو مع الكفار، والأخرى- الاقتصار قدر الحاجة في الدفع، وترك الابتداء، هذا بين الصائل والمصول عليه، كما سيأتي، إن شاء الله. والآخر- القتال مع أهل البغي، وفيه الإبقاء، وفيه قصد كسر شوكتهم لردهم إلى الطاعة، ولو ابتدؤوا فنصبوا علينا مثل ذلك، قاتلناهم، ولو أحاطوا بنا وعلمنا أنهم يقعون بنا إن لم ندفعهم، فندفعهم، فإنا نبيح هذا في دفع الصائل الواحد إذا كان لا يندفع إلا به.
ومما يتعلق بهذا أنهم لو تحصنوا ببلدة مسوّرة وكان لا يتأتى الاستيلاء عليها إلا بالأسباب التي ذكرناها، فنقول: إن كان في البلدة رعايا والأسباب التي ذكرناها تأتي عليهم، فلا نستحل إقامةَ الأسباب المصطلمة.
وإن لم يكن في البلدة إلا المقاتلة، فإن تمكن الإمام من هدم السور، فليفعل، وإن كان لا يتأتى ذلك-وهم يدافعون على السور- إلا بأن يقتلوا بأسباب تنافي المعنى الذي ذكرناه من الإبقاء، فالذي أراه أنه لا يجوز قتلهم بهذه الأسباب العظيمة، كالإحراق ونصب المنجنيق، وفتح السيول الجارفة؛ فإن الإمام إنما ينظر للمسلمين فيما يفعل، وتركُ بلدة في أيدي طائفة من المسلمين-وقد يستمكن من حيل في محاصرتهم، والتضييق عليهم- أقربُ إلى الإصلاح العام من اصطلام أمم.
فإن قيل: كان عليّ رضي الله عنه يقاتل البغاة مقاتلة من يصطلم، فلا يُبقي، وقيل: إنه قتل ليلة الهرير بنفسه ألفاً وخمسمائة. قلنا: كان البغاة على حد من الجد في القتال لو لم يقابلوا بما كان يفعله علي رضي الله عنه لاصطُلم وأتباعه، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: ومعاوية جاد في القتال منتصفاً أو مستعلياً.
11018- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه تنفيذ أقضيتهم، وقد قدمنا هذا، والقولُ الجامع فيه أن ما وافق من قضائهم إجماعاً، أو مذهباً مجتهداً فيه مظنوناً، فهو منفّذ غيرُ مردود.
والذي نزيده تفصيلُ القول في كتب قُضاتهم، والذي يعتمد في ذلك أنهم إذا أبرموا قضاء، وكتبوا إلى قاضينا باستيفاء ما ثبت عندهم، فإنا نقبل الكتاب، ونعمل بموجَبه على وفق الشرع.
وإن سمع قاضيهم بينةً وكتب إلينا يلتمس تنفيذ الحكم بها، ففي قبول كتابهم على هذا الوجه قولان:
أحدهما: أن قاضينا يقبل، ويحكم على حسب ما يعمله القاضي من أهل العدل إذا كتب إليه قاضٍ من أهل قضاة بلاد أهل العدل، وهذا هو القياس؛ فإنا إذا نفّذنا أقضيتهم، فلا معنى بعد ذلك للتلوّم والتردد والامتناع في التفاصيل.
والذي يوضح ذلك أن الكتب إنما ترد في الذين يتصلون بديارنا، فإذا كنا ننفّذ أقضيتهم حتى لا تتعطل أحكام الرعايا في ديار البغاة، فلو رددنا كتب قضاتهم، لتعطلت أحكام المتصلين بنا.
والقول الثاني- أنا لا نقبل كتب قضاتهم إذا لم يكونوا قد أبرموا الأحكام، فإنا لو قبلناها، لكنا معهم متعاونين، وليس لأهل العدل أن يعاونوا أهل البغي فيما يقيم مناصب قضاتهم وولاتهم، والأقيس الأول.
وذهب بعض أصحابنا إلى طرد القولين فيما أبرموه واستعانوا فيه بالاستيفاء، وهذا ذكره شيخنا وصاحب التقريب
وكنت أودّ لو فصل فاصلون بين الأحكام التي تتعلق بالبغاة وأصحاب النجدة والامتناع، وبين ما يتعلق بالرعايا.
11019- ثم ذكر الشافعي أن شهادة أهل البغي مقبولة، فإنهم يعتقدون بتأويل، كما تقدم ذكره، واستثنى الخطّابية، ولا تعلق لهذا بأحكام البغاة، والخطابية يرون الكذب كفراً، ويعتقدون أن من أخبرهم من أهل دينهم باستحقاق شيء، فلهم أن يشهدوا له جزماً، والقول في ذلك يأتي في كتاب الشهادات، إن شاء الله، وفيه نتكلم في أهل البدع والأهواء.
11020- ثم قال الشافعي: "وإن قُتل باغ في المعترك غُسّل وصُلِّي عليه " والأمر على ما ذَكر، أنا إذا ظفرنا بقتيل من البغاة، غسلناه وصلينا عليه ودفناه، ولا نُثبت له رتبة الشهادة. وأبو حنيفة لا يرى غسلَهم والصلاةَ عليهم؛ تغليظاً عليهم، وأما القتيل من أهل العدل، ففيه قولان:
أحدهما: أنه تثبت له مرتبة الشهادة كقتيل المشركين.
والثاني: لا تثبت له مرتبة الشهادة المسقطة للغسل والصلاة. وقد ذكرنا هذا في كتاب الجنائز عند ذكرنا الشهداء ومراتبهم.
11021- ثم قال: "يكره لأهل العدل أن يتعمدوا قتل ذوي الأرحام " والأمر على ما ذكر، فحقّ على الإنسان أن يجتنب قتل ذوي الأرحام ما وجد إليه سبيلاً، ولا فرق بين أن يكونوا من المحارم، أو لا يكونوا منهم، ونحن نكره ذلك في الكفار، فلا نرى للمسلم أن يختار قتل من هو من ذوي أرحامه، " وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه عتبة، ونهى أبا بكر عن قتل ابنه يوم أحد".
وما ذكرناه كراهية متأكدة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته»، وروي أنه عليه السلام كان يقول يوم دخل المدينة على بعير: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. فسمع عبد الله بن سلام ذلك فأسلم، وقال: هو نبي حق».
فإن قيل: خصصتم تغليظ الدية بقتل ذي الرحم المحرم، وهاهنا علقتم الكراهية بقتل ذي الرحم؟ قلنا: ما قدمناه في التغليظ تفصيل المذهب، ثم ذلك أمرٌ محتوم مخالف للقياس، اتبعنا فيه آثاراً، وهذا بيان كراهية في التوقي، ربطناه بالأخبار الواردة في صلة الأرحام. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]
ثم ذكر التوارث بين من يقتل من إحدى الفئتين قتيلاً من الفئة الأخرى، وقد استقصينا هذا في الفرائض فلا نعيده.
ثم ذكر فصولاً تتعلق بالأمان، وهذا يأتي في كتاب السير على أبلغ وجه، إن شاء الله عزوجل.