فصل: باب: حكم المرتد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: حكم المرتد:

قال الشافعي رضي الله عنه: "من ارتد عن الإسلام إلى أي كفر كان... إلى آخره".
11022-كلمة الردة إذا صدرت ممن ليس بمكلَّف كالصبيان والمجانين، فلا حكم لها، وسبيلها كسبيل صدور الإسلام منهم على ما تقدم ذكرهم في كتاب اللقيط.
فأما المكلف من المسلمين إذا صدرت منه الردة، أُجبر على الإسلام بالسيف، فإن امتنع، ضربت رقبته، ولا فرق بين الرجل والمرأة، والحر والعبد. وخلاف أبي حنيفة في ردة المرأة مشهور.
11023- والسكران إذا ارتد، فردته مُجراة على قياس أقواله في العقود والحلول، وقد ذكرنا طرق الأصحاب فيها.
والحاصل المتعلق بغرضنا قولان على طريقة مشهورة:
أحدهما: أن ردته كردة الصاحي.
والثاني: أن ردته ملغاة. والقولان جاريان في جميع أقواله.
ومن أصحابنا من رأى التغليظ عليه، وخصص القولين بما لا يتعلق بالتشديد والتغليظ، فعلى هذا تثبت الردة منه إذا تلفظ بكلمة الردة، ثم الصحيح إجراء القولين في عوده إلى الإسلام. ومن أصحابنا من قال: لا يصح منه ما لَه، ويصح منه ما عليه، فلم يصحّح إسلامه وصحّح ردته.
ثم قال الشافعي رحمه الله: إذا حكمنا بردته، فينبغي ألا نقتله حتى يُفيق، ونعرض الإسلام عليه، فعساه يرجع، فلو تاب ورجع في السكر، فإن قلنا: لا تصح توبته، فوجودها كعدمها. وإن قلنا: تصح توبته، فلو أفاق، عرضنا عليه التوبةَ مرة أخرى حتى يأتي بها على ذُكر وخُبْر وبصيرة.
فلو ابتدره إنسان وقتله؛ فقد ذكر بعض الأصحاب خلافاً في أنه هل يضمنه كما يضمن به المسلم إذا قتله؟ فالذي ذهب إليه المحققون: أنه يضمنه؛ فإنه قتله بعد التوبة المحكوم بصحتها، وذكر بعض الأصحاب قولاً في إهداره، وزعم أنه مأخوذ من مسألة، وهي إذا حكمنا بإسلام مولود، وكان علوقه على الكفر، ولكن أسلم أحد الأبوين أو كلاهما، فإذا بلغ فقتله إنسان قبل أن يعرب عن نفسه بالإسلام، ففي وجوب الضمان، خلاف ذكرناه في كتاب اللقيط، ووجه التقريب عند هذا القائل أن الإسلام الحاصل بالتبعية إسلام حُكميّ، وكذلك الإسلام الحاصل في السكران إسلام
حُكميّ، لم يصدر عن ثَبَتٍ في الاعتقاد.
وهذا ليس بشيء. فإنا إذا صححنا إسلامه، فهو متأصل في الإسلام ليس تابعاً لأحد، فإن قيل: لم يصدر إسلامه عن عقد ثابت، قيل: كذلك صدرت الردة منه في سكره، فلا فرق بينها وبين التوبة عنها، وإن ذكر هذا القائلُ هذا القولَ البعيد فيه إذا كان قد ارتد صاحياً، ثم سكر وأسلم، فقد يتضح الكلام هاهنا بعض الاتضاح، ولكن لا معول عليه مع حكم الفقيه بتصحيح الإسلام من السكران، وتنزيل أقواله وأفعاله منزلة أقوال الصاحي وأفعاله، ولسنا نفرع على هذا القول الضعيف؛ فإنه لا مستند له من القوانين.
وقد نجز الكلام فيمن تثبت الردة بقوله.
11024- ولا حاجة إلى تفصيل القول فيما يكون ردة من الأقوال، وإنما يغمض الكلام في تكفير المتأولين من أهل البدع، وليس ذلك من فن الفقه.
ونحن نقول بعد هذا: الأفعال إذا دلت على الكفر، كانت كالأقوال، وذلك إذا رأينا من كنا نعرفه مسلماً في بيت الأصنام وهو يتواضع لها تواضع العبادة، فهذه عبادة كفر. وقد يُجري الأصوليون الأفعالَ المتضمنة استهانةً عظيمة مجرى عبادة الأصنام، كطرح المصحف في الأماكن القذرة، وما في معناه. والقول في ذلك يطول، وهو من صناعة الأصول.
وفي بعض التعاليق عن الأمام شيخي: أن الفعل المجرد لا يكون كفراً، وهذا زلل من المعلِّق، أوردته للتنبيه على الغلط فيه.
11025- وسبيلنا بعد ذلك أن نتكلم في التوبة على الردة، فنقول: أولاً التوبة مقبولة عن كل كفرٍ، وتقبل توبة الزنديق، ومن كان يُظهر مذهب الباطنية، وإن كان يبوح بوجوب التقيّة، وما يظهره من التوبة يمكن تنزيله على قاعدة التقية، ولكن مذهب الشافعي أن توبة الزنادقة والباطنية مقبولة، ولا يبقى بعد الحكم بإسلام الكفار تحت السيف لمفصِّل رأيٌ في التفصيل، مع أن الظاهر القريب من اليقين أن الكفار لم يحدثوا اعتقاد الحق، إذ يغشاهم المسلمون.
وكذلك من ارتد إلى دين اليهود أو النصارى، ثم عصبناه لنضرب رقبته، فتاب، فتوبته مقبولة، والظاهر أنه جاء بها لِما استشعره من الخوف، وقد روي أن أسامة أشرف على جمع من الكفار في العُدّة التامة، فأسلم واحد منهم لما سلّ السيف عليه، فقتله أسامة؛ فاشتد نكير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة؛ فقال: إنما قاله فرقاً مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلا شققت عن قلبه؟».
وقال مالك: توبة الزنديق مردودة، وأضاف الأصحاب هذا إلى الأستاذ أبي إسحاق رضي الله عنهما، والصحيح عندنا من مذهبه: أن الزنديق إن حُمل على التوبة، فتوبته مردودة. وإن رأيناه في استخلائه يظهر تخضُّعاً للإسلام وتعظيماً له وتندماً عما كان تقدم منه من انتحال الزندقة، وتبين بقرائن الأحوال، والأمر كذلك أنه لا غرض له، إلا الرجوع إلى المسلك الحق، فالتوبة مقبولة على هذا الوجه إذا اطلعنا عليه منه.
وهذا التفصيل حسن؛ فإنه لو رُدّ رجوع الزنديق من كل وجه، فلا يبقى له طريق إلى الرجوع. وليس يمتنع أن يظهر الحقُّ لزنديق، كما لا يمتنع أن يتزندق مسلم.
ومذهب الشافعي قبول توبة الزنديق وإن كان مجبراً عليها اعتباراً بتوبة كل مرتد، فلو ارتد المسلم، ثم عاد، ثم ارتد مرة أخرى؛ فمذهب الشافعي وأصحابه قبول توبته، وإن تكرر ذلك منه، ولا ضبط في أعداد المرات.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: إنما تقبل التوبة في الكرة الأولى، فإذا ارتد مرة أخرى، لم تقبل توبته أصلاً. وهذا من هفواته الفاحشة، ولا مبالاة بها.
11026- ونحن نذكر بعد ذلك استتابةَ المرتد، والتفصيلَ فيها. فنقول: الوجه مراجعتُه وعرضُ التوبة عليه، وهل نمهله ثلاثة أيام لعله يتوب؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنا لا نمهله، وهو مذهب المزني؛ فإنه محمول بالسيف على الإسلام، وإسلامه يناقض هذا المعنى، ولا حياة في لحظة في الإصرار على الردة. والقول الثاني- أنا نمهله ثلاثة أيام، وهو فيها محبوس، ولا نمنعه الشراب والطعام.
ومعتمد هذا القول مذهب عمر رضي الله عنه، روي أن رجلاً قدم عليه من الشام، فقال له: هل من مَغْرَبَةِ خبرٍ؟ فقال: لا، إلا إن نصرانياً أسلم، ثم ارتد، فقتله أبو موسى الأشعري. فرفع عمر يديه نحو السماء، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل أبو موسى، هلا حبستموه في بيت ثلاثاً تلقون إليه كل يوم رغيفاً، لعله يتوب "؟، ووجهه من جهة المعنى أنا نرجو عوده إلى الإسلام، وهو أقرب إلى الصلاح من ابتدار قتله.
ثم التقييد بالثلاث مأخوذ من قول عمر، ثم هي مدة ثابت بها خيار الشرط، ومال إلى التأقيت بها أقوال في مسائل: كإمهال تارك الصلاة، وكالفسخ بسبب العتق تحت الزوج المملوك، ونفي المولود، وإمهال المُولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق، وإمهال المعسر بالنفقة. هذه المسائل يجرى فيها قول في الإمهال ثلاثاً.
11027- فإذا تبين أصل القولين؛ فقد اختلف أصحابنا في تنزيلهما، ونحن نذكر ترتيباً يجمع مسالك الأصحاب، فنقول: القولان في وجوب الاستتابة، فإن أوجبناها، فلا كلام، وإن لم نوجبها، فهل نستحبها، أم لا يجوز الإمهال أصلاً؟ فعلى وجهين. وعلى الأقوال كلها لو ابتدر مبتدر وضرب رقبة المرتد، فهو هدر، وإن أنّبنا المبتدر. كذلك لو قتله قاتل قبل الاستتابة. وإذا لم نر الإمهال، ففي وجوب الاستتابة تردد عندنا.
ولو حُق قتله على الطرق كلها، فقال: اعترضت لي شبهة فأزيلوها، فهل نناظره فيها ساعين في إزالة الشبهة وإظهار الحق؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أن ذلك واجب. فإن إقامة الحجاج على كل ذي شبهة سهل.
والثاني: أنا لا نفعل ذلك؛ فإن مسالك الشبهة قد تدقّ مداركها، فيطول الكلام في المرادّات، وقد يذكر شُبهاً كثيرة من أول العَقْد إلى آخره ولا يُفصل الاعتراض فيها في سنة، فلا معنى لالتزام ذلك. فإن قيل: كيف طريقه إذا اعترضت له شبهة؟ قلنا: يمكنه أن يبقى على إظهار الإسلام، ثم يستفيد الأجوبة عن الشبه من أئمة الصناعة؛ فإن ذلك معتاد في أهل الإسلام وطلبةِ العلم منهم.
وقد نجز القول في التوبة عن الردة.
فصل:
قال: "ويوقف مالُه إذا ارتد وله مال... إلى آخره".
11028- اختلف قول الشافعي في أن من ارتد هل يزول ملكه بنفس الردة، أم كيف السبيل فيه؟ وحاصل ما تلقاه الأئمة من كلام الشافعي ثلائة أقوال: أحدها: أن الملك يزول بنفس الردة، كما يزول استحقاق النكاح قبل الدخول. والقول الثاني- أنه لا يزول ملكه إلى أن يموت، أو يقتلَ مرتداً، وليس ملك اليمين كالنكاح، فإن إدامة نكاح المرتد على المسلمة يتضمن غضاً من الحرمات، وإن فرضنا ارتداد الزوجين فالمرتدة في المعنى كالمسلمة في هذا المأخذ. والقول الثالث: أن الملك موقوف، فإن عاد إلى الإسلام، تبثنّا أنه لم يزل بالردة، وإن قتل مرتداً أو مات على الردة، تبيّنّا أن الملك زال بنفس الردة، والردة في العمر في ملك اليمين كمدة العدة إذا فرض طريان الردة بعد تقيد النكاح بالمسيس.
11029- فإذا ثبتت الأقوال، فالتفريع عليها: فإن حكمنا بأن الملك يزول بالردة فالتصرفات التي تستدعي ملكاً مردودة من المرتد، ولو كان التزم دَيْناً قبل الردة بجهة من الجهات، فديونه الثابتة قبل الردة مؤداة من الأموال التي ارتد عليها، وهذا متفق عليه بين الأصحاب؛ فإن الردة وإن أزالت الملك، فحقها أن تكون كالموت؛ إذ الموت مزيل للملك، ثم الديون الثابتة في حالة الحياة تتعلق بما يخلّفه الميت، وهي متقدمة على حقوق الورثة، فلتقدم على حقوق أهل الفيء، بل هذه الديون أولى بالتعلق بالمال من جهة أن الزوال بالردة عرضة للارتفاع؛ لأن المرتد إذا أسلم عاد ملكه، والموت يزيل الملك على البتات، ويثبت حق الورثة على اللزوم. ولا خلاف أنّا ننفق على المرتد من ماله ما بقّيناه.
وهل يتعلق بماله نفقات أقاربه الذين يلتزم المسلم نفقاتهم؟ ما ذهب إليه جماهير الأصحاب أن نفقاتهم تؤدى من ماله في حياته، فإن مات مرتداً أو قتل، فإذ ذاك يصرف الباقي إلى أهل الفيء.
وذهب الإصطخري إلى أن نفقات الأقارب لا تتعلق بماله على هذا القول، فإن سبيلها أن تتعلق بالملك، ولا ملك للمرتد على القول الذي عليه التفريع، والدليل عليه أنها تسقط بالموت، وإن كانت علائق الديون تتعلق بالتركة، وهذا الذي ذكره هو القياس الجلي.
ولو أتلف المرتد مالاً، فهل تؤدى قيمة المتلف من ماله؟ والتفريع على زوال ملكه- قال القاضي: يجوز أن يخرج ذلك على الخلاف في أن نفقة الأقارب هل تتعلق بماله إلى اتفاق بيان أمره.
ولو اكتسب المرتد على هذا القول-بأن احتش أو احتطب- فالوجه: تثبيت الملك، ثم ظاهر القياس أن الملك يثبت لأهل الفيء ابتداءً، كالعبد يكتسب بهذه الجهات؛ فإن الملك يحصل فيما يحصل بالاحتشاش والاحتطاب والاصطياد للمولى، ويجب أن يكون القول في شرائه كالقول في شراء العبد بغير إذن المولى، وكذلك الكلام في قبول الهبة كالكلام في قبول العبد الهبة من غير إذن السيد.
ثم إذا عاد إلى الإسلام عاد ملكه، كالعصير تزول المالية بانقلابه خمراً، فإذا عاد خَلاً عاد مالاً، وكالبيضة تبطل المالية فيها بانقلابها مَذِرةً، فإذا صارت فرخاً، عادت يوماً، وجلد الشاة تبطل المالية فيه إذا ماتت الشاة، ثم إذا دُبغ، عاد مالاً.
فإذا قلنا: الدين السابق يؤدَّى من المال، فلو كان قد رهن عيناً من الأعيان، فالرهن لا ينفك بردته حتى يقضي الدين، وكل ذلك متفق عليه، هذا تفريعٌ على قول زوال الملك.
11030- وإن قلنا: الملك باق مع الردة، فللسلطان أن يضرب عليه حجراً لأهل الفيء على الجملة، واختلف أصحابنا في أنه هل يصير بنفس الردة محجوراً عليه من غير احتياج إلى ضرب الحجر؟ فمنهم من قال: لا يصير محجوراً عليه ما لم يحجر عليه الوالي.
وبنى أصحابنا هذين الوجهين على أن الرجل الرشيد إذا صار سفيهاً، فطريان هذا المعنى عليه بعد الرشد هل يوجب اطراد الحجر عليه، أم هو مطلق إلى أن يحجر القاضي عليه؟ فيه خلاف مشهور في كتاب الحجر، فإن قلنا: لا يصير محجوراً بنفس الردة، فجملة تصرفاته نافذة من غير أن يُتعقب بالنقض، وإن قلنا: يصير محجوراً عليه لو ضرب السلطان عليه حجراً، فما الذي يمتنع عليه من التصرف؟ اختلف أصحابنا في منزلة الحجر في حقه؛ فمنهم من قال: سبيله إذا جرى الحجر عليه كسبيل المبذر السفيه؛ لأنه أتاه الحجر من صفة في نفسه، فالتعويل على رعاية حقه. ومنهم من قال: سبيله سبيل المحجور عليه بالفَلَس، وقد مهدنا في الكتب تصرفَ السفيه وتصرفَ المفلس، وتشبيهُه بالمفلس موجَّهٌ، بأن المرعي حقوق أهل الفيء.
وتمام البيان في ذلك أنا إذا قلنا: لا يصير محجوراً عليه في الحال، فالمذهب أن تصرفاته نافذ، كما قدمناه، وقال بعض أصحابنا: تصرفاته كتصرفات المريض مرض موته؛ لأن السيف قريب منه.
وهذا مأخوذ مما قدمناه في كتاب الوصايا، وهو أن من قُدّم للاقتصاص منه، فأعتق ووهب، فهل يكون ما صدر منه بمثابة التبرعات في مرض الوفاة؟ فيه اختلاف.
وهذا الوجه عندي باطل هاهنا، فإن دفع السيف متعلق باختيار المرتد، وهو متمكن من إظهار كلمة الإسلام، ولتمكنه من إظهارها نقتله إذا أصر، ولم يظهرها.
ثم من ألحقه بالمريض، فلا ينبغي أن يقدر له ثلثاً؛ فإن حقوق أهل الفيء كحقوق الغرماء، ولا تفريع على الوجوه الضعيفة.
11031- وإن فرعنا على قول الوقف؛ فالحجر على ما ذكرناه، فإنا إذا كنا نثبت الحجر على التفاصيل المتقدمة تفريعاً على أن الردة لا تزيل الملك، فالحجر-وهو وقفٌ- بقول الوقف أليق، ولو فرض منه تصرف قبل حكمنا باطراد الحجر عليه، فكل تصرف لا يقبل الوقف، فهو غير صحيح منه على قول الوقف، وكل تصرف يقبل الوقف يصح منه موقوفاً، فإن قُتل مرتداً بان بطلانه، وإن عاد إلى الإسلام، بانت صحته، وكل تصرف يختلف القول في قبوله الوقف، فهو خارج على الخلاف في هذه المسألة، وقد نجز الكلام في أملاكه وتصرفاته.
11032- والمرتد لا يرث أحداً، لا كافراً ولا مسلماً ولا مرتداً، ولا يرثه أحد فيه كفر أو عُلقة للإسلام، فيمتنع توريث المسلم منه وتوريثه من المسلم، بما فيه من الكفر، ويمتنع توريث الكافر منه وتوريثه من الكافر لما فيه من عُلقة الإسلام.
11033- ثم قال الشافعي رحمه الله: "ويقتل الساحر إن كان ما يسحَر به كفراً"، وهذا كما قال. واستقصاء القول فيما يوجب التكفير لا يليق بهذا الفن. وعن عمر أنه قال: "اقتلوا الساحر والساحرة"، وروي أنه أمر بقتلهما، وقَتلت أم سلمة جاريةً لمّا سحرتها بسُمّ.
11034- قال: "ومن قتل مرتداً قبل أن يستتاب... إلى آخره " أراد أنا وإن أوجبنا الإمهال أياماً، فلو ابتدر مبتدر، فقتل المرتد، فلا قود، وعُزّر.
وكذلك إذا قتله كما بدرت منه كلمة الردة قبل الاستتابة فنحكم بالإهدار، ويعزر من فعل ذلك للافتيات على الإمام، وكل هذا مما سبق تمهيده.
فصل:
إذا شهد شاهدان على ردة شخص؛ فقال المشهود عليه: كَذَبا في شهادتهما، أو قال: ما ارتددت، فالشهادت مسموعة، والحكم بالردة نافذ، ولا يقبل تكذيب الشاهدين، ويقال: الخطب يسير؛ فجدد الإسلام، فإذا فعل، زال حكم الردة بعد انقضائها. وأثر ما ذكرناه أنه لو كانت له زوجة غيرُ مدخول بها، فقد بانت بالشهادة.
وتجديدُه الإسلام لا يرفع الحكم الطارئ، ولكن سبيله سبيل المرتد.
فلو شهد الشاهدان كما ذكرناه، فقال المشهود عليه: كنت مكرهاً فيما صدر مني، نُظِر؛ فإن كانت قرائن الأحوال تصدقه في دعوى الإكراه: مثل أن كان في أسر، أو محفوفاً بجمع من الكفار يظهر الاستقصاء منهم، فإذا كان الأمر كذلك؛ فالقول قول المشهود عليه مع يمينه، وإنما نصدقه لظهور الأحوال، ثم نحلّفه؛ لأنه لا يبعد اختياره للتلفظ بكلمة الردة مع ما وصفناه من الأسباب التي تغلّب على الظنون الإكراه، وإن لم يُظهر المشهود عليه الأحوالَ الدالة على الإكراه؛ فظاهر المذهب أن دعوى الإكراه لا تُسمع منه.
وهذا يستدعي مزيد كشف سيأتي في كتاب الشهادات، إن شاء الله عز وجل؛ إذ الشهادة المطلقة على العقوبة مسموعة محمولة على الصحة كالشهادة على البيع ونحوه، وذكر بعض الأصحاب قولاً مخرجاً ضعيفاً: أن الشهادة لا تقبل ما لم تشتمل على ذكر الشرائط المرعية في الصحة، فالشهادة على الردة تخرج على هذا، فإن ما تحصل الردة به عَسِر المُدرك، لا يستقل به إلا خواص العلماء، فإذا أطلق الشاهد لفظ الشهادة في الردة، فهل يقع القضاء بها؟
الظاهر أنه يقع القضاء بها، ويخرج في المسألة القول الذي ذكرناه، وخروجه في هذا المقام أوضح وأولى؛ لما في التكفير وأسبابه من اضطراب العلماء، فإذا لم تُقبل الشهادة، لم نحكم بالردة، والوجه قبولها، والحكم بالردة. وسيأتي استقصاء ذلك في كتاب الشهادات، إن شاء الله عز وجل.
11035- فلو قال الشاهدان: نشهد بأنه تلفظ بالردة، ولم يطلقا الشهادة بأنه ارتد، فلو قال المشهود عليه: صدقا، ولكني كنت مكرَهاً، قال شيخي أبو محمد: قوله مقبول؛ فإنه ليس يناقض الشهادة، ولا يتضمن تكذيبها؛ فإن المكره يتلفظ، والذي يشهد عليه الشاهدان التلفّظ بالردة، ثم قال: الحزم أن يجدد الشهادتين.
فإن قتله قاتل والحال كما وصفناها قبل أن يجدد الشهادتين، فهل يضمنه؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه لا يضمنه؛ لأن لفظ الردة قد ثبت، ولم يتعرض الشاهدان للإكراه ولا للاختيار، والأصل في أحوال الناس الاختيار، فكل لافظ فهو في إنشاء لفظه مختار، والأصل براءة ذمة القاتل، وقد وجدنا مستنداً للإهدار. والقول الثاني- أنه يضمنه بالقصاص أو الدية؛ فإن الردة لم تثبت، والأصل حكم الإسلام. وهذا يقرب من القاعدة المسماة تقابُل الأصلين.
وفي هذا فضل نظر؛ فإن ادعى المشهود عليه أنه كان مكرهاً، وحلف على ذلك، فالوجه عندنا: القطع بأنه مضمون؛ فإن اللفظ وإن ثبت- فقد ثبت الإكراه بالحجة، وإن لم يحلف أو لم يدّع، وجرت الشهادة على اللفظ، ثم فُرض القتل قبل تجديد كلمة الإسلام، فهذا فيه احتمال، والذي أراه: تنزيل القولين على هذه الصورة.
فصل:
11036- لو مات رجل كنا عهدناه مسلماً، وخلف ابنين مسلمين، فقال أحدهما: مات أبي كافراً، وقال الثاني: مات مسلماً، ولا بينة، فالذي قال: مات مسلماً، تسلم إليه حصتُه من الميراث، والذي قال: مات أبي كافراً، نظر فيه: فإذا ذكر لفظاً في الكفر لا يُتمارى فيه، وزعم أنه سمعه في آخر العهد يذكره، فلا شك أنه يكون محروماً من الميراث، وتكون حصته مصروفة إلى الفيء؛ فإنه مؤاخذ بإقراره، ولو أنه قال: مات كافراً ولم يذكر تفصيلَ كفره، فما حكم حصته؟
ذكر الصيدلاني والإمام والدي قولين في المسألة:
أحدهما: أنه تصرف حصته إلى جهة الفيء؛ فإنه أقر بكفره، فيؤاخذ بإقراره، فأشبه ما لو فَصَّل الكفر. والقول الثاني- أنا لا نحرمه الميراث، بل نصرف حصته إليه، هكذا ذكر شيخنا هذا القول، وهو فحوى كلام الصيدلاني، ووجهه: أنه لم يفصل الكفر، ولم تثبت الردة بقوله، إذ لو ثبتت، لصرفت حصته إلى أهل الفيء؛ فإذا لم تصرف، فلا وجه إلا التوريث، وإلغاء اللفظ الذي جاء به ومن ورث مالاً، لم يمكنه إسقاط حقه مما ورثه بالامتناع عن قبوله.
وذكر صاحب التقريب هذين القولين على وجه آخر، فقال: أحد القولين- أن حصته تصرف مصرف الفيء، والقول الثاني- إنه لا يصرف إلى الفيء، وقد أطلق الكفر ولم يفصله، ثم قال: كما لا نصرفه إلى الفيء لا نصرفه إليه، بل نقِفه، فإن فصّل وذكر كفراً محقَّقاً، صرفنا الحصة إلى أهل الفيء، فإن لم يتعرض للتفصيل، فيبقى المال موقوفاً إلى أن نتبين. وهذا الذي ذكره صاحب التقريب أقيس، وأشبه بالأصول، وهو الذي ذكره العراقيون.
فرع:
11037- قال صاحب التقريب إذا أسر الكفار مسلماً، وأكرهوه على التلفظ بالكفر، فتلفظ به، فلا نحكم بكفره. فلو ثبت ذلك عندنا من حاله، ثم بلغنا أنه مات ولم يتجدد علمٌ آخر؛ فحكمه حكم المسلمين، يرثه المسلمون ويرثهم.
فلو عاد إلى بلاد الإسلام-وقد وضح منه ما قدمناه- فإن الوجه: أن نعرض عليه الدينَ وإظهار الإسلام، فإن أتى بما نطلبه، فلا كلام، وإن أبى، ولم يظهره، قال: فنحكم بردته، فإنه قد انضم امتناعه الآن إلى ما سبق منه من لفظ الكفر، فيدل ذلك على أنه كان مختاراً في ابتداء لفظه. ومن أكره على شيء، فخطر له أن يأتي به مختاراً، فلا حكم للإكراه، فإذا سبق منه اللفظ ولحق الامتناع عن التلفظ بالإسلام، كان ذلك آية بينة في أنه كان مختاراً عند اللفظ، قطع به صاحب التقريب، وهو الذي ذكره العراقيون.
وفيه احتمال عندي ظاهر، فإنه لم يسبق منه اختيار، والأمر محمول على ظاهر الإكراه، ويلزم منه دوام حكم الإسلام، ومن كان حكم الإسلام له مستمراً، فامتناعه عن تجديد الإسلام لا يغير الحكم بالإسلام.
فرع:
11038- قال العراقيون: إذا أسر الكفار مسلماً، فارتد فيهم مختاراً، وتحقق ذلك عندنا، ثم صح عندنا أنه كان يصلي صلاة المسلمين في دار الحرب، قالوا: نجعل ذلك إسلاماً منه، بخلاف ما لو صلى كافر في ديار الإسلام؛ فإن ذلك لا يكون إسلاماً؛ إذ الصلاة في دار الإسلام قد تشوبها مراعاة المراءاة بخلاف دار الحرب، وهذا الذي ذكروه غير صحيح.
والوجه في قياس المراوزة القطع بأنا لا نحكم له بالإسلام كما لو صلى في دار الإسلام. ثم ما ذكروه يقتضي أن يقولوا: إذا رأينا كافراً أصليّاً في دار الحرب يصلي على هيئة صلاة الإسلام، فنحكم بإسلامه، لما ذكروه في حق المرتد. ولو قال قائل بهذا، لكان صائراً إلى مذهب أبي حنيفة، فإنه يجعل الصلاة من الكافر إسلاماً، وهذا ما لا سبيل إلى القول به.
وتلك المسألة فيها غموض، وإن تناهينا في تقرير حقيقتها، فإنا ذكرنا أن من الأفعال ما يوجب الكفر، كالتقرب إلى الصنم، فالذي ذكره العراقيون في أن الصلاة تكون إيماناً في الصورة التي ذكروها في البعد كما حكيناه عن شيخنا في أن التقرب إلى الصنم لا يكون كفراً، ولا تعويل على الأمرين جميعاً.
فصل:
قال: "ولا يُسبى للمرتدين ذرية... إلى آخره".
11039- مضمون هذا الفصل الكلام في أولاد المرتدين. فنقول أولاً: إذا التحق المرتدون رجالاً أو نساء بدار الحرب، لم نثبت لهم حكمَ أهل الحرب بوجه، ومهما ظفرنا بهم ولم يُسلموا، ضربنا رقابهم، ولا نسترقهم، ولا نسبي النساء منهم.
فأما أولادهم، فالولد الذي حصل العلوق به في الإسلام، فالردة الطارئة لا تغير حكمه، سواء فرض ارتداد الأبوين بعد الانفصال، أو قدر ذلك والجنين مجتن، فحكم الإسلام لا يزول؛ إذ الإسلام يستتبع الولد لقوته وسلطانه، والردة لا تستتبع المولود.
ولو حصل العلوق بالولد في حالة الردة-وذلك بأن تعلق مرتدة من مرتد، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها: أن للولد حكم الردة، نظراً إلى الأبوين، والقول الثاني- أن الولد في حكم الكافر الأصلي، فإنه لم يباشر الردة ولا الإسلام، وأبواه ليسا مسلمين. والثالث: أن حكمه حكم الإسلام لما في أبويه من عُلقة الإسلام، ولذلك يجبران على العَوْد إلى الإسلام، وما أتلفه المرتد في حالة الردة، فهو مطالب به، والصلوات التي تمر عليه مواقيتُها- مقضيةٌ، وكل ذلك من آثار علائق الإسلام، والمغلّب في المولود حكم الأصل.
فإن قلنا: أولاد المرتدين بمثابتهم، لهم حكم الردة؛ فلا يُسبَوْن كما لا يسبى آباؤهم، وإن حكمنا لهم بالإسلام، فلا شك أنهم لا يُسبَوْن، وإن قلنا: هم بمثابة الكفار الأصليين، فلا يمتنع أن يُسبَوْا ويُسترقوا، أو تقبل منهم الجزية إذا بلغوا، وأحكامهم أحكام الكفار الأصليين في كل معنى، ولا فرق عندنا بين أولاد المرتدين وبين أولاد أولادهم، خلافاً لأبي حنيفة؛ فإنه قال: أولاد أولاد المرتدين يُسبَوْن، وأولادهم لا يُسبَوْن.
11040- ومما ذكره الأصحاب على الاتصال بهذا أن المعاهدين والذميين إذا نقضوا العهود، والتحقوا بدار الحرب، ولهم أولاد في دار الإسلام، فحكم العهد مستدام فيهم؛ فإن الآباء لما عوهدوا أو عقدت لهم الذمة، ثبت حكم الذمة للأولاد. ثم لا تنتقض حرمة العهد والذمة في حقهم، وإن نقضه الآباء. فإذا بلغوا، فإن قبلوا الجزية، أقررناهم بها في دار الإسلام، وإن أبَوْا أن يقبلوا، لم نقتلهم، وألحقناهم بمأمنهم، ولا نُلزمهم الجزية بهذا، خلافاً لأبي حنيفة.
وهذا الفصل سيعود مستقصى في كتاب السير، وفيها نذكر أحكام ما يخلّفون عندنا من الأموال، والتفصيلَ فيه إذا صاروا حرباً لنا، فأرققناهم كما وقعوا في الأسر، وهو من الفصول المعروفة، والقدرُ الذي ذكرناه في أحكام أولادهم رمزٌ هاهنا، واستقصاؤه بين أيدينا، والله المستعان.