فصل: كتاب الحدود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الحدود:

11041- الحد في اللغة: المنع، ومنه سُمي البواب حداداً، وحدود الأشكال أطرافها؛ لأنها فواصل يُمنع بها اختلاط المحدود بغيره، ولما نزل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] أبدى المنكرون هراء، وقالوا: لم نسمع بهذه العِدّة في الحدَّادين، أي في البوابين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقاس الملائكة بالحدَّادين»، فأرسله مثلاً. ومنه سميت العبارات عن الحقائق حدوداً، وبه يسمى الحديد حديداً لامتناعه عن تولّج شيء فيه، والحدّ مصدر حدّ يحُد ولا يجمع، وهو اسم للعقوبة المقامة على مستوجبها، فإن جُعل اسماً جُمع حدوداً، وهي مأخوذة من المنع، فإنها زواجر عن ارتكاب الموبقات.
11042- ثم الحدود في قواعدها ثلاثة أصناف؛ الجلد، والقطع، والقتل.
وأما الجلد؛ فيقع حداً في الزنا، والشرب، والقذف. فحد الزنا مائة جلدة مع التغريب، كما سيأتي الوصف عليه، وحد الشرب على أصل المذهب أربعون جلدة، وحد القذف ثمانون. وحد الزنا والشرب لله عز وجل، وحد القذف للمقذوف.
والعبد في الحدود الواقعة في الجلد على النصف من الحر.
وأما القطع فحد السرقة، وحد قطع الطريق، وهما لله تعالى، والعبد والحر فيهما بمثابة.
وأما القتل فينقسم إلى الرجم والقتل، فأما الرجم، فحد المحصن في الزنا.
والقتل يقع في قطع الطريق حداً على من قَتل، وهو واجب على المصرّ على الردة.
ثم وَضْعُ الحدود على التنكيل، والمعاقبةُ على ما سبق، والزجر عن احتقاب أمثال تيك الكبائر في المستقبل. فإن لم يكن قتلاً، أفاد زجر المحدود وزجرَ غيره، وإن كان قتلاً، فهو عقوبة على المحدود وزجرٌ لغيره، وقيل: المرتد وإن لحق بالحدود، فليس في معناها؛ فإنه دعاء بالسيف إلى الإسلام، وهو بمثابة دعاء الكفار إلى الإسلام، إلا أنهم قد تقبل منهم الجزية، والمرتد مدعو إلى الإسلام، فإن التزمه، فذاك، وإلا فالسيف واقع به.
11043- ثم إن الشافعي أفرد لكل صنف من أصناف الحدود كتاباً، وافتتح الكلام في حد الزنا، وقد ورد في حد الزنا آيتان، إحداهما: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}[النساء: 15] والأخرى قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا} [النساء: 16] فظاهر الآية الأولى يدل على اكتفاء النساء بالنساء، وظاهر الآية الثانية يدل على اكتفاء الرجال بالرجال، وقد قيل: الآيتان في الجنسين جميعاً، ولكن المراد بمضمون الآية الأولى التعرض للثُّيَّبِ، فجرى فيها تخصيص النساء بالذكر، لأنهن أحرص على الزنا من الثيب من الرجال، والآية الثانية في الأبكار، والأبكار من الذكور أحرص على الزنا من الأبكار من النساء.
وبالجملة الآيتان ليستا مشتملتين على بيان حكم الزنا افي الجنسين جميعاً، الأولى تضمنت الأمر بالحبس وانتظار حكم الله تعالى. والثانية اقتضت الإيذاء مطلقاً من غير تفصيل.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبادة بن الصامت: «خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجمٌ بالحجارة» وظاهر الحديث الجمع بين الجلد والرجم، في حق الثيب، وقد صار إلى ذلك أصحاب الظاهر، واتفق العلماء المعتبرون من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم على أن المحصن لا يجلد ويقتصر على رجمه.
ثم اختلف هؤلاء، فذهب الاكثرون إلى أن هذا كان فنُسِخ. وقال بعض أصحابنا: الحديث فيمن زنى بكراً، فلم يُجلد حتى ثاب وزنى ثيباً، فنجمع عليه بين الجلد والرجم، وهذا وجه سيأتي ذكره، إن شاء الله، فإن الزنا إذا تكرر من الشخص، ولم يتخلل بينهما استيفاء الحد، اقتصرنا على حد واحدٍ.
وإن اختلف جنس الحد باختلاف الحالتين في زنيتين، فزنى بكراً ثم زنى ثيباً، ففي التداخل وجهان: أصحهما- الاكتفاء بالرجم. فإن جرينا على الوجه الآخر، لم يصح حمل الحديث عليه من وجهين:
أحدهما: أن حمل الألفاظ العامة المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تأسيس الأصول لا يسوغ حمله على الشواذ، هذا وجه.
والثاني: أنه ذكر البكر صنفاً وذكر الثيب صنفاً، وما ذكره هؤلاء جمع حالتين لشخص واحد، وهذا استكراه في التأويل، لا يسوغ مثله. وقال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
والأصل في الرجم ما روي عن عمر أنه قال: "لولا أني أخشى أن يقال: زاد عمر في كتاب الله عز وجل لأثبتُّ على حاشية المصحف ما كنا نقرؤه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، إن الله كان عزيزاً حكيماً".
ورُوي أن رجلين كانا يتساوقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله تعالى وأذن لي في أن أتكلم، فأذن له في الكلام، وقال: إن ابني كان عسيفاً لهذا، فزنا بامرأته، فسألت من لا يعلم، وقال: على ابنك الرجم، ففديته بمائة شاة ووليدةٍ، ثم سألت رجالاً من أهل العلم فقالوا: على ابنك جلد مائة وتغريب عام. فقال صلى الله عليه وسلم: «لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: أما الشاء والوليدة فرَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها». وقصة ماعز مشهورة، وكذلك قصة الغامدية.
وأجمع المسلمون على أصل حدّ الزنا، وإن اختلفوا في التفاصيل.
11044- نبتدىء فنقول: الزنا قسمان: زنا البكر وزناً الثيب. فزنا البكر موجَبه الجلد والتغريب، والجلد مائة والتغريب عام. وإنما يستوجب المائةَ وتغريبَ العام البالغُ العاقل الحر الذي لم يُصِب في نكاح صحيح. والتغريب من الحد، والأصل فيه الأخبار والنصوص، وليس في القرآن باتفاق علماء المعاني ما يثبت استقلالاً في بيان الحد، وإذا كان كذلك، لا يظهر منه الحكم بالاقتصار على المذكور، ويتعين الرجوع إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونحن نذكر التغريب، وما يتعلق به. فالحر يُغرّب، وفي تغريب العبد قولان:
أحدهما: أنه يغرب كالحر، والثاني: لا يغرب. فإن في تغريبه رفعُ يد السيد عنه، أو اضطرارُه إلى أن يتغرب معه، والعبد جليب لا يؤثر فيه التغريب.
التفريع:
11045- إن حكمنا بأنه لا يغرب، فنقتصر على جلده خمسين، وإن قلنا: إنه يغرب، فللتغريب مسافة نذكرها وزمان، فأما المسافة، فالعبد فيها كالحر، وأما الزمان، فمدة تغريب الحر سنة، وفي العبد قولان: أصحهما- أنه على النصف من الحر، فنغرّبه ستة أشهر، كما أنه على النصف منه في الجلد. والقول الثاني- أنه يغرب سنة؛ فإن ما يتعلق بالمدد والطباع لا يُفرَّقُ فيه بين العبد والحر كمدة العنة والإيلاء.
وهذا كلام سخيف؛ فإن امتحان العُنة ودركَ الضرار يتعلق بالجبلات، وهي لا تختلف بالرق والحرية، والتغريب تعذيبٌ، والعبد في الجلد على النصف من الحر، وإن كانت جبلّته في استدعاء الزجر كجبلة الحر، فليكن في التغريب بهذه المثابة. هذا قولنا في العبد والحر.
11046- فأما الحرة، فإنها تغرب كالرجل إذا زنت بكراً، فإن ساعدها الزوج أو واحد من محارمها، أُخرجت، وإن لم يساعدها زوج ولا محرم، فهل نغربها وحدها مع ظهور الأمن؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا نغربها؛ لأن هذه سَفْرة واجبة، فكانت كسفرة الهجرة إذا أسلمت حربية، وخافت أن تفتتن عن دينها؛ فإنها تخرج وحدها، كما سيأتي في كتاب السير، إن شاء الله.
والثاني: أنها لا تغرب وحدها؛ فإن الغرض من التغريب تأديبها بأدب الله تعالى، وإذا خرجت وحدها، تهتكت، وكشفت جلباب الحياء عن وجهها، فإن أمكن استئجار واحد من محارمها ليخرج معها، فعل ذلك.
ثم اختلف أصحابنا، فقال بعضهم: الأجرة مأخوذة من مالها، وقال آخرون: هو من بيت المال. والوجهان في ذلك كالوجهين في أن أجرة الجلاّد على المحدود أم هي في بيت المال؟ وسيأتي ذكر ذلك، إن شاء الله تعالى.
ولو لم يرغب واحد من محارمها في الخروج معها، وقلنا: إنها لا تخرج
وحدها، فهل للسلطان أن يجبر واحداً من محارمها على الخروج بأجرة معها؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنه ليس له ذلك، فإنه في الحقيقة تغريبُ مَحْرَمٍ غيرِ مجرم، والتغريب عذاب على الزانية.
والثاني: أن له أن يُجبره؛ وذلك استعانة منه فيما لابد منه. والإمام إذا استعان بأحد من المسلمين، لزم الانقياد له.
وقد نجز القول في أصناف من يغرب.
11047- ويلتحق بما ذكرناه أن الغريب يغرّب إذا زنا، قطعاً لوهم من يتوهم أن التغريب في حقه غير مؤثر، فإنه إذا لم يكن في وطنه، فالبلاد كلها في حقه بمثابة واحدة؛ وذلك أن قواعد الحدود لا تنقض بما يفرض في آحاد الأشخاص؛ على أن الغريب قد يألف بقعةً، ويشق عليه مفارقتُها، والغرض الأظهر من التغريب التنكيل، وهذا المعنى يستوي فيه المتوطن والغريب.
11048- ثم نتكلم الآن في مسافة التغريب. اتفق الأئمة على أنها تبلغ مسافةَ القصر؛ إذ لو قصرت عن هذا المبلغ، لتردد عليه أخبار الأهلين والمخلَّفين، ولم يحصل به إيحاش الغربة، ولا ضبطَ وراء المرحلتين.
ثم وراء ذلك تردّد: ففي بعض التصانيف أن الإمام إذا عيّن تغريبه إلى بلد، لم يسيبه فيها حتى ينفلت حيث يشاء، وهذا تصريح بأنه يمنع من الانتقال عن البلدة التي عُيّنت له، ولم يذكر ذلك أحد من أئمة المذهب. وإنه عندي باطل؛ فإنه جَمْعُ حبسٍ إلى تغريب، ولم يشهد لهذا سُنَّةٌ ولا قياس، وإذا غُرِّب في جهة وأظهر التنكيل به، فلا مانع من أن يتطوح في البلاد.
ثم في كلام الأصحاب تردد من وجه آخر، وهو أن الإمام لو عين لتغريبه صوب الشرق، فقال المغرّب: غرِّبوني في صوب الغرب، فمن أئمتنا من قال: إذا عيّن الإمام صوباً، فلا معدل عن الجهة التي يعينها، وهذا غير سديد. والغرض أن يبعد عن الموضع الذي غربناه فيه مرحلتين، فليأخذ أيَّ صوب شاء.
وإذا زنا الغريب، غربناه من موضع الزنا، فإن فرعنا على أن الإمام لا يعيِّن صوباً، وأبطلنا حبسه في الموضع الذي يُغرَّب إليه، وهو مارٌّ على وجهه، فلا يكاد يظهر أثر التغريب، ولا يكاد يظهر-والحالة هذه- إلا إظهار التغريب والإرهاق إليه.
وقد قال الأصحاب: لو كان بينه وبين وطنه مرحلتان لا نغرّبه إلى وطنه؛ فإن هذا ضد التغريب، ولكن نغرّبه إلى جهة أخرى، فإن غربناه إلى بلدةٍ، فانتقل إلى وطنه فهذا موضع وقوف الناظر، ولا وجه إلا ما ذكرناه، وإن كان يؤدي إلى تغربه من الوطن سنة ووجهه إلى الوطن.
11049- وفيما يعترض في الفكر أن المُغرَّب لو عاد إلى مكان التغريب قبل انقضاء السنة ومكث مدة من حيث لا يُشعر به، فإذا اطلع الوالي عليه غربه، وفي بطلان ما مضى من زمان التغريب قبل العود نظرٌ للمفكر؛ فإن الغرض الأظهر من التغريب الإيحاش بالغربة، وهذا إنما يحصل إذا تواصل الإيحاش والتغرب، يحققه أن الجلاد لو جلد الزاني مائة جلدة في عشرة أيام، لم يُعتدّ بما تقدم من الجلدات؛ فإن الإيلام الحاصل بالمائة المتواترة لا يحصل إذا فرقت الجلدات، وتخللت الفترات المريحة، وسنذكر هذا عند ذكرنا كيفية الجلد ونعت السياط، إن شاء الله. والمسألة في التغريب محتملة على الجملة، والعلم عند الله تعالى، وقد نجز بيان حد الأبكار إذا زنَوْا على الجملة، وستأتي مسائل على ترتيب الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
11050- وأما زنا الثيب، فموجبه الرجم بالحجارة، والثيب هو الذي أصاب في نكاح صحيح، فإذ ذاك يلتزم الرجم إذا زنا.
والإسلام ليس من شرائط الإحصان عندنا، فالذمي إذا استجمع الصفات التي ذكرناها ورضي بحكمنا رجمناه، وقصة اليهوديين ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم مشهورة.
ثم لا يحصل الإحصان بالوطء في ملك اليمين وفاقاً، أما الوطء في نكاح فاسد، أو على وجه الشبهة، ففي حصول الإحصان قولان: أصحهما- أنه لا يحصل. ثم الصفات الثلاث-البلوغ، والعقل، والحرية- لا ترتب فيها، والمقصود اجتماعها.
فأما الإصابة، فقد اختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: يشترط أن تحصل ممن تجمعت فيه الصفات الثلاث حتى لو حصلت الإصابة في الصغر أو في حالة الجنون، أو في حالة الرق، فلا اعتداد بها، ولا تحصل الثيوبة بها. وكما نشترط وطئاً كاملاً في جهةٍ كاملة نشترط حصول الوطء من كاملٍ لاستجماع الصفات الثلاث.
ومنهم من قال: لا ترتيب فيه كما لا ترتيب في سائر الصفات. وإذا اجتمعت الصفات الثلاث في أحد الزوجين وعُدِمت في الثاني، فالتحصين يحصل. وهذا كما إذا كان الزوج حراً بالغاً عاقلاً، وقد أصاب زوجته الرقيقة، فيحصل التحصين فيه.
وذكر صاحب التقريب في إصابة الصغير وجهين، وكذلك في تمكين المرأة الزوج الصغير، وهذا ليس بشيء إذا تم الوطء؛ فإن المراهِقة مطلوبة بالوطء، وإذا وطئت في نكاحٍ، عدّ ذلك من أكمل الوطء في أكمل الجهات. فإن أراد من يظهر الخلاف وطءَ صغيرةٍ لا يُشتهى مثلُها، أو صغيرٍ لا تشتهيه النساء، فهذا فيه احتمال، وقد ذكرت في باب التحليل من كتاب النكاح طرفاً صالحاً في هذا.
ولا خلاف بين أصحابنا أن الثيب إذا زنا ببكر رُجم، وإن كانت تيك تجلد، وكذلك لو كان الأمر على العكس من هذا.
وقد نجز توطئة حد الزنا في الثيب والبكر.
11051- ثم قال الشافعي: "إذا رجم الزاني غُسل وصُلي عليه ودفن في مقابر المسلمين؛ فإنه مسلم، فكان كالمقتول قصاصاً " ثم قال: "ويجوز للإمام أن يحضر رجمه، ويتركَ... إلى آخره".
الوالي بالخيار، إن شاء حضر موضع الحد، رجماً كان أو جلداً، وإن شاء لم يحضر. وكذلك إذا ثبت الزنا بالشهود، لم يلزمهم أن يحضروا. وقال أبو حنيفة: إن ثبت الزنا بالإقرار، فعلى الوالي أن يحضر، وإن ثبت بشهادة الشهود، فعليهم أن يحضروا.
ثم اشترط إذا حضر الوالي أن يبدأ بالرجم، وإذا حضر الشهود أن يبدؤوا، ونحن نستحب الحضورَ من الشهود لنفي التهمة، ولا نوجبه، وقد ثبت الحد على ماعز، فلم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجْمَه، وذلك بيّن في قصته إذ روي أنه لما مسه ألم الأحجار، قال: "ردوني إلى محمد، فإن قومي غرّوني وقالوا: إن محمداً ليس بقاتلك، وولّى هارباً، فأدركه رجل بلَحْي جمل، فأثبته، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "هلا تركتموه يفر من عذاب الله تعالى"، وفي رواية: هلاّ رددتموه إليّ لعله يتوب".
فصل:
قال: "وإن أقر مرة حُدّ... إلى آخره".
11052- إذا أقرّ بالزنا مرة واحدة-كما سيأتي وصف الإقرار، إن شاء الله تعالى- ثبت الحد، ولا يشترط التكرار في الإقرار، خلافاً لأبي حنيفة.
ثم أجمع أصحابنا على أنه مهما رجع عن الإقرار، لم نحده. وإن رجع في أثناء الحد، انكففنا عنه، ورجوعه أن يقول: كذبت فيما قلت، أو رجعت، وهو يريد تكذيب نفسه. ولا يشترط في قبول رجوعه عن الإقرار أن يذكر سبباً في الإقرار والرجوع. وقال مالك: لا يُقبل الرجوع المطلق عن الإقرار، فإن ذكر شيئاً ممكناً، قُبل حينئذ، وذلك مثل أن يقول: حسبت الإتيان دون المأتى زنا، ثم تبين لي. ونحن لا نشترط هذا.
واختلف القولُ في أن من أقر بسرقة توجب القطع، ثم رجع عن إقراره، فهل يسقط القطع عنه بالرجوع عن الإقرار أم لا؟ والأصح أنه يسقط قياساً على حد الزنا.
ووجه القول الثاني أن السرقة متعلقة بحق الآدمي، والرجوع فيه غير مقبول، ونحن قد نتبع الحدَّ الحقَّ في موجَب الإقرار، والدليل عليه: أن العبد إذا أقر بسرقة مال، فإقراره مقبول في إيجاب القطع عليه، وقد يقبل إقراره في المال المسروق على أحد القولين، وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى.
ولو أقر بالزنا ثم لم يرجع عن إقراره مصرحاً بتكذيب نفسه، بل قال: دعوني، لا تحدّوني، فهل يجعل ذلك بمثابة الرجوع عن الإقرار؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب، والأظهر أن هذا لا أثر له؛ فإنه صرح بالإقرار، ولم يصرح بالرجوع عنه. هذا إذا ثبت الحد بالإقرار.
فأما إذا ثبت بشهادة الشهود فالحد يقام على المشهود عليه.
11053- ولو تاب، ففي سقوط الحد عنه بالتوبة قولان للشافعي: أصحهما- أنه لا يسقط؛ إذ لو أسقطناه، لصار ذلك ذريعة إلى إبطال حكم الحد؛ إذ الغرض منه الردع، ولا يعجز مرتكب ما يوجب الحد عن إظهار التوبة، ثم الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. والقول الثاني- أن الحد يسقط بالتوبة؛ فإنه عقوبة تثبت حقاً لله، وحقوق الله تعالى تبنى على أن تسقط بالتوبة.
ولا خلاف في سقوط الحدود عن قطاع الطريق إذا تابوا قبل الظفر بهم، وفي قبول توبتهم بعد الظفر بهم قولان، كما سيأتي ذكره في سائر الحدود. وهذا يذكره الفقيه أخذاً من نص القرآن عظيم الوقع؛ فإنه عز من قائل قيّد توبة أهل المحاربة بما قبل الظفر، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34].
ولو وجب الحد، وثبت وجوبه، فهرب من تقرر الحد عليه؛ فقد ذكر أصحابنا في سقوط الحد وجهين. واستشهدوا في نصرة أحد الوجهين بقصة ماعز، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من اتبعه وأثبته، وأحَبَّ أن لو كان تُرِك.
فإن قيل: في الحديث " هلا تركتموه يرجع إليّ لعله يتوب " وقد زيّفتم قول من يقول التوبة تُسقط الحد؟ قلنا: نعم، ذلك القول في نهاية الضعف، وإن كان مشهوراً، وليس يليق بمذهب الشافعي مع محافظته على حفظ القواعد أن يثبت إظهارَ التوبة ذريعة إلى إسقاط الحدود كلها، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة ماعز " لعله يتوب " حمله بعض الحذاق على الرجوع عن الإقرار، وأصل التوبة في اللسان الرجوع، وكان قد ثبت الحد على ماعز بإقراره.
فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله». ولو كان الحد لا يسقط بالتوبة، لكان فيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريض على كتمان حقٍّ واجبٍ لله تعالى. قلنا: لا يمتنع أن تكون توبة المستتر الذي لا يبدي صفحته بمثابة توبة قاطع الطريق قبل الظفر به.
وفيما ذكرناه احتمال؛ فإنّ سبب قبول توبة المحاربين عطفُهم على الطاعة، وردُّهم بالاستمالة إليها. وهذا المعنى لا يتحقق فيما ذكرناه، والمسألة محتملة.
وتمام الحديث يدل على أن التوبة بعد ظهور وجوب الحد لا تنجع، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في تمام الحديث: "فإنه من يبدي لنا صفحته نقيم عليه حد الله تعالى". وهذا نص في أن التوبة لا تنفع.
11054- وقد عاد بنا الكلام إلى تفصيل القول في الهرب، وقد ذكرنا فيه اختلافاً، واضطرب أئمتنا في تنزيله: فقال قائلون: الخلاف في الهرب إنما يجري إذا كان الحد ثابتاً بالإقرار، فأما إذا ثبت بالبينة، لم ينفع الهرب.
وقال قائلون: الخلافُ جارٍ سواء ثبت الحد بالبينة أو بالإقرار.
وذكر بعض الأئمة مسلكاً حسناً في ذلك، فقال: الخلاف في أن الهارب هل يتبع؟ فأما المصير إلى أن الحد يسقط به، فلا، ولو امتنع من عليه الحد عن الاستسلام لإقامة الحد عليه، فقد ألحقه الأصحاب بالهرب؛ فإن كل واحد منهما امتناع، وقد قيل: "رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شارب خمر، فهمّ بإقامة الحد عليه، فولى ولاذ بدار العباس، فلم يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم". وحكاية الأحوال عرضةُ الاحتمال، فلا يبعد أن يقال: كان ثبت عليه الحد بإقراره، ثم رجع وولى.
فرع:
11055- إقرار الأخرس بالزنا مقبول، وإشارته كعبارة الناطق. وقد ذكرنا تحقيق ذلك في كتاب اللعان، ولو قامت عليه البينة بالزنا، حُدّ عندنا، خلافاً لأبي حنيفة. وله بدائع في الأخرس يقضِّي اللبيب منه العجب؛ فإنه قال: لو زنى وهو ناطق، ثم خرس، سقط الحد. ولو زنى بخرساء وهو ناطق لا يحدّ، وسنجمع في آخر الكتاب، إن شاء الله مسائل الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة. وغرضنا بذكرها إذا انتهينا إليها أن نضبط ما يؤثّر في إسقاط الحد وما لا يؤثّر، وعندها نتبين مجامع الشبهات، ومحلَّ الوفاق والخلاف، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "وصفة الرجم أن يضرب بالحجارة والمدر... إلى آخره".
11056- الرجم بيّن المعنى، ولو ضُربت رقبة من يستحق الرجم، وقع ما جرى حداً، ولكن فعل ما فيه ترك الواجب؛ فإنّ غرض الشارع المَثُلةَ بالزاني بالجهة التي نص عليها، وقتله بالسيف تخفيف عنه، وعلى هذا لو قُصد بصخرة عظيمة من فوقه، فالواحدة تذفِّف عليه، ولا يجوز ذلك، ولو كان يُرمى بحصى الخذف؛ فيطول الأمر عليه، وهذا أيضاً غير جائز؛ فإنه زيادة في عذابه، فلْنرْمه بالأحجار التي يُرمى بأمثالها للقتل.
ثم يختلف الأمر في هذا؛ فقد تصيب الأحجار مقاتله، فيموت في قرب من الزمان، وقد يتمادى، وذلك لا يدخل تحت الضبط.
ثم الرجم يقام في الحر الشديد، والبردِ المفرط، والمرضِ المدنف؛ فإن الرجم إهلاكٌ؛ فلا وجه للإبقاء على مرجوم. وإنما يَرعَى الإمامُ التحرز عن أسباب الهلاك، إذا كان الحد جلداً.
قال الأئمة: إذا ثبت الزنا بالإقرار، فينبغي أن يؤخر رجمه عن شدة الحر والبرد، والسبب فيه أنه ربما يرجع عن إقراره إذا مسه حر الحجارة. ولو اتفق هذا، فقد يهلك ببوادر الأحجار التي أخذت منه مأخذها؛ فيتحتم رعاية هذا.
وهذا لا يتحقق إذا ثبت الزنا بالبينة؛ فإنا لا نبني الأمرَ على رجوع الشهود.
11057- ولو كان الحد جلداً، فحقٌّ على الإمام أن يرعى جهةَ المحدود، والزمانَ الذي يقام الحد فيه، فلا يقيمه في شدة حر، ولا في شدة برد، ويحبسه إلى أن يعتدل الزمان.
وأما مراعاة المحدود في نفسه؛ فلو كان مريضاً مرضاً يُرجى برؤه، أُخّر إقامة الحد حتى يبرأ، ويستبلّ، وإن كان لا يرجى برؤه، وقد يكون مُخدَجاً ضعيف الخَلق، لا يحتمل الجلد أصلاً، فكيف السبيل فيه؟ اعتمد الأئمة في ذلك حديثاً نرويه، ثم نتبعه تفصيل المذهب، روي: "أن رجلاً مُخدَجاً رُئي على امرأة، وكان يخبُث بها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجلد مائة. فقالوا: يا رسول الله هذا لو جُلد مات. قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عِثْكالاً عليه مائة شِمْراخ، فاضربوه به».
وقد اضطرب كلام الأئمة في هذا الفصل، ونحن نذكر ما ذكروه، ثم ننبه على غامضة المذهب، ثم نوضح ما عندنا، إن شاء الله.
11058- قال الصيدلاني: نأخذ غصناً عليه مائة فرع، ونضربه به. ولا يشترط أن تمسه الفروع كلُّها، بل يكفيه أن ينكبس بعضها على بعض بحيث يثقل بسببها الغصن على المضروب، ويناله بهذا السبب أدنى التثقيل، ولو كان على الغصن خمسون فرعاً، ضربناه مرتين، فاقتضى كلامه رعاية إلحاق الأذى به، كما ذكرناه.
وفي بعض التصانيف أنه لا يؤلم بالضرب، واتفقت الطرق على أن الوضع عليه ليس كافياً، ولابد من المقدار الذي يسمى ضرباً. هذا ما وجدناه من كلام الأئمة.
ومما نُقضِّي العجب منه مجاوزتهم أمثال ذلك من غير مباحثة، مع ظهور الإشكال فيه.
وأنا أقول: الأسواط التي تقام الحدود بها سيأتي وصفها، إن شاء الله، في باب مفرد في آخر الأشربة، فإن كان مستوجب الحد مستقلاً بالضرب بها، فلا كلام.
وإن كان لا يستقل بالضرب بها، وكان قد يستقل بأسواط خفيفة- دون ما سنصفه من سوط الحد- فليت شعري أنوجب الضرب بالأسواط الخفيفة؛ فإنها أقرب إلى صورة إقامة الحد من الضرب بالعِثكال أو الغصن ذي الفروع؟ وهذا محل النظر، والذي أراه أنه يجب الضرب بالأسواط الخفيفة.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه إذا ضعف عن احتمال سياط الحد، فليس يجب إلا الضرب بالعِثكال، كما تقدم وصفه.
ومما يجب التنبيه له أن المقدار الذي ذكروه من الضرب بالعثكال ما أراه زاجراً إذا لم يكن فيه إيلام يتوقع مثله من بدن المُخدَج، كموقع السياط الموصوفة من بدن الأيِّد المحتمِل، هذا لابد منه، وإلا يبطل حكم الحد.
وقد قال الأئمة: من حلف ليضربن فلاناً مائة سوط، فضربه بعِثكال عليه مائة شمراخ، كفاه ذلك، وبرّ في يمينه. وهذا ذكروه والمحلوفُ عليه قوي، واتبعوا فيه سنة الله تعالى في قصة أيوب عليه السلام، إذ قال عز من قائل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44].
ولا يمكن أن يُتَلقَّى ما نحن فيه من ذلك الأصل، مع ما ذكرناه من جريانه على الصحيح ذي المِرّة، فالوجه أن نعتبر الأسواطَ وما ينال القويَّ من الضرب بها، ثم نعتبر في كل شخص ما يحتمله، مع رعاية النسبة التي فهمناها في الأصل.
وأما الحديث الوارد في المُخْدَج في الحد؛ ففي آخره ما يدل على أنه كان في نهاية الضعف، إذ قالوا: لو ضربناه لتفتّت، فجرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المقتضى.
وقد نجز ما أردناه نقلاً وتنبيهاً.
أما الاكتفاء بانكباس بعض الأغصان على بعض مع ما فيه من التثقيل، فالأمر بالضرب بالعكثال مصرِّح بالاكتفاء بما ذكره الأصحاب؛ فإن انبساط الشماريخ والغصون يبعد وقوعاً ويندر كوناً، فالأمر الظاهر يقتضي ما ذكروه.
ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن المريض لو كان بحيث يحتمل مائة جلدة ولكن لو فرقت عليه في أيام، فلا يصير أحد إلى إيجاب ذلك، ولكن يجب إقامة الممكن وتخليةُ سبيله وإراحتُه عن انتظار العقوبة.
هذا منتهى القول في ذلك، وتمام البيان سيأتي في باب صفات سياط الحدود، إن شاء الله عز وجل.
11059- ثم إن كان به مرض مرجو الزوال؛ فالوجه ارتقاب زواله، ثم لا سبيل إلى تخليته.
وهذا فيه فضلُ نظر، فإن ثبت الحد بالبينة، فيتجه حبسُه، كما تحبس الزانية الحامل. وإن ثبت الحد بالإقرار، فالحبس محتمل عندي؛ لأنه إن كان لا يستسلم لحد الله، يهون عليه الرجوع عن الإقرار، ويشهد لذلك حديث الغامدية، فإنها لما أقرت بالزنا وكانت حاملاً، لم يحبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خلاّها حتى تضع... الحديث. و هذا يقوى جداً إذا قلنا: من هرب عن حد الله تعالى، لم نتبعه.
ويجوز أن يقال: يُحبس المقِرُّ حتى يستقلَّ باحتمال الحد، فإن رجع عن إقراره، خلّينا سبيله.
ولا خلاف أن القصاص لو ثبت، واقتضت الحالةُ تأخيرَ الاستيفاء، فإنا نحبس من عليه القصاص، كالذي ثبت عليه بالبينة، والذي تلقيته من كلام الأئمة أن المشهود عليه يحبس، والعلم عند الله تعالى.
ثم إن ظهر لنا أن المرض لازم يبعد زواله، وانتقلنا إلى الضرب بالعِثكال، كما وصفنا، فلو اتفق البرء من ذلك المرض على الندور، فالذي قطع به الأصحاب أن ما مضى كافٍ، ولا نعيد الحد بعد البرء والاستقلال، وقد ذكرنا تردداً في أن المعضوب إذا برأ على الندور بعدما استأجر أجيراً، وحج عنه، فهل يسقط فرض الإسلام عنه أم لا؟ وليس الحد كذلك؛ فإن مبناه على الاندفاع بالشبهة، والمُقام منه كافٍ معتد به، لا يتغير موجَب الاعتداد به.
11060- ثم قال الشافعي وأصحابه: إذا كان الحد جلداً، فينبغي ألا يقيمَه الإمام في شدة الحر والبرد، ولكن يرعى في ذلك زمانَ الاعتدال، وهذا مما يجب صرف الاهتمام إليه، ولا وصول إلى الغرض منه إلا بذكر ما قاله الأصحاب على وجهه، ثم الرجوع بالمباحثة.
قالوا: إذا أقام الحدَّ في شدة الحر والبرد، فهلك المحدود، فلا ضمان على الإمام، هكذا نص الشافعي هاهنا، وقال فيمن امتنع من الاختتان: "لو ختنه الإمام، فأفضى إلى هلاكه، يجب الضمان " فاختلف أئمتنا على طريقين: منهم من قال: في المسألتين قولان، نقلاً وتخريجاً:
أحدهما: أن الضمان يجب؛ فإن الإمام ترك ما أُمر به من تأخر الحد، وارتقاب اعتدال الهواء، فكان ذلك تقصيراً منه.
والثاني: أنه لا يجب الضمان؛ فإن الهالك قتيلُ الحد، والحقُّ قتله.
ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرّق بينهما، فقال: استيفاء الحدود إلى الأئمة، فإذا أقاموها، لم يؤاخذوا بمواقعها، والختان لا يتولاه الولاة، وإنما يتعاطاه المرء من نفسه، أو يقوم به في صباه وليّه، فإذا خاض الإمام فيه، فهذا كان على شرط سلامة العاقبة، هذا ما ذكروه.
11061- وطريق المباحثة فيه أنا إذا قلنا: لا يجب الضمان إذا مات المحدود، فلا شك أنا لا نوجب على الإمام تأخير إقامة الحد إلى اعتدال الهواء؛ فإنا لو أوجبنا ذلك، لكان معتدياً إذا لم يؤخر، وكان الضمان يجب، فإن أوجبنا الضمان، فينقدح وجهان:
أحدهما: لا يجوز إقامة الحد في الحر والبرد، ولأجل هذا يضمن إذا أفضى التعجيلُ إلى الهلاك.
ويجوز أن يقال: إذا أوجبنا الضمان لم يُمنع الإمام من التعجيل، ولكنا نكره ذلك، ونقول: إن فعلته، تعرضت لفَرْض الضمان، كما نطلق ذلك في التعزيرات، وتأديبِ الأبِ ولدَه، والأستاذِ تلميذَه، والفقهُ ربط الضمان بالمنع عن الفعل، وقد ذكرنا أن الموجب للضمان في التعزير أنا نتبيّن أن التعزير المهلك لم يكن على الاقتصاد المأمور به؛ إذ لو كان كذلك، لما أهلك.
ومما يجب الاعتناء به-وهو سر الفصل- أن التعزير هو على قدرٍ يغلب على الظن أنه لا يُهلك، فأما جلد مائة، فلا يمكن إطلاق هذا الاعتبار فيه، فإن من ضرب إنساناً مائة جلدة على الحد الواجب في الحد، فقد نقول: إنه مما يُقصد به القتل، فإذا وقع عمداً، وأفضى إلى الهلاك، لم ينقص عن قطع أنملة، وهذا مقام يجب التثبت فيه.
ويحتمل أن أقول: الحد هو الذي لا يغلِّب على الظن إهلاكَ المحدود، وإن كان لا يغلِّب السلامةَ منه، وكأن المقصودَ من الحد إيقاعُ عذاب بالمحدود: إن كان يسلم منه، فذاك، وإن هلك، فالحق قتله؛ ولهذا نص الشافعي على تجويز إقامة الحد في شدة الحر والبرد.
فالضعيف هو الذي يقتله الجلد لا محالة، والقوي هو الذي لا تندر سلامته، وليس الشرط أن يندر هلاكُه.
ويجوز أن يقال: ينبغي أن يكون الحد بحيث لو صدر من جانٍ عامد، لما استوجب القودَ به؛ من حيث إنه لا يقصد به القتل غالباً، والتردد في الضمان بسبب إقامة الحدّ في الحر والبرد جاء من هذه الجهة، ومن لم يحط بذلك، فليس على بصيرة من فقه الفصل.
وينتظم مما ذكرناه من العقوبات: منها قتلٌ، ولا نظر فيه، ومنها تعزير ويجب فيه نهاية التوقّي مما يتوقى منه الهلاك، ومنها الحد بالجلد، وهو على التردد الذي ذكرناه في أنه هل نشترط أن تغلب السلامة منه أو لا نشترط ذلك. ولا بُعْد لو قُدِّر حدٌّ ليس قتلاً، ومثله لو فرض من جانٍ، وأفضى إلى الهلاك، لكان قتلاً موجباً للقود، وهذا كقطع اليد والرجل في السرقة. وقد انتهى المقصود من الفصل موضَّحاً مستوفىً، والله ولي التوفيق.
فصل:
قال: "ولا يجوز على الزنا واللواط وإتيان البهائم إلا أربعة... آخره".
11062- مقصود الفصل بيان حكم اللواط وإتيان البهائم، فنقول: ظاهر النصوص على أن الحد يجب على من يأتي الذكور.
وذكر الأئمة قولاً مخرجاً أنه لا يجب الحد باللواط، وإنما الواجب فيه التعزير.
ومن أوجب الحد، احتج بمذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه اشتهر عنهم التغليظَ على اللائط، حتى لو ادعى مدعٍ انتشار ذلك في أكثرهم، لم يكن مجازفاً، وإنما خلافهم في كيفية العقوبة- على ما سنذكر ما تمس الحاجة إليه في التفريع.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في اللائط والمأتي: "اقتلوا الفاعل والمفعول به".
ومن أراد توجيه قول التعزير تمسك بطريقٍ من الشبه، وهو مذكور في مسائل الخلاف، وإن قلنا: واجب اللواط التعزير، فسنفصل التعزيرات في باب الأشربة، إن شاء الله عز وجل.
وإن قلنا: واجب اللواط الحد، فعلى هذا القول قولان:
أحدهما: أن سبيله كسبيل الزنا، يرجم فيه الثيب المحصن، ويجلد البكر، وقيل هذا مذهب ابن الزبير، ووجه القياس فيه لائح. والقول الثاني- أن اللواط يوجب القتل على البكر والثيب؛ إذ لم يفصل الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به " وكذلك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأقدمون رضي الله عنهم لم يفصلوا، وأوجبوا القتل. واختلف في كيفيته، فروي عن علي أنه قال في اللائط: "يُردَّى من شاهق، ويُعلى بالأصخار"، ولم يفصل. وروي قريب من ذلك عن أبي بكر رضي الله عنه.
فإن قلنا بالفرق بين المحصن وغيره، فالوجه اعتبار ذلك في الفاعل، ولا معنى لاعتباره في المفعول به، ولعل الوجه قتْلُه على كل حال، هذا تنبيه، وقد يخطر أنه لا يقتل، ويُجلد ويغرب، ويجوز أن يشبه جانبه بجانب اللائط في الفرق بين الثيب والبكر.
فإن قلنا: يقتل صاحب هذه الفاحشة فاعلاً كان أو مفعولاً به، ففي كيفية القتل قولان:
أحدهما: أنه يرجم كالمحصن إذا زنى.
والثاني: أنه تضرب رقبته.
وهذا الاختلاف يوجه بتردد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صار إلى كل مذهب مما ذكرناه صائرون من الصحابة رضي الله عنهم، إلا التعزير، فلم يكتف به أحد منهم.
فقد انتظم في اللواط أربعة أقوال: أحدها: الرجم في كل حال.
والثاني: ضرب الرقبة. والثالث: الفصل بين المحصن وغيره. والرابع- الاقتصار على التعزير.
11063- وإتيان المرأة الأجنبية في دبرها بمثابة اللواط، وقال قائلون: هو بمثابة الزنا والإتيان في المأتى.
11064- وإذا أتى الرجل غلامه المملوك؛ فالمذهب: القطع بأنه بمثابة اللواط بغير المملوك، في التزام ما تقدم تفصيله، وأبعد بعض أصحابنا فجعل إتيان الرجل غلامه المملوك بمثابة وطئه أخته المملوكة، وفي وجوب الحد قولان سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى.
وهذا غير سديد؛ فإن الملك على الجملة يؤئر في إباحة الإتيان في المأتى؛ فإذا حرم بسببٍ، جاز أن ينتهض الملكُ شبهة في إسقاط الحد، وأما إتيان العبد المملوك، فليس فيه تخيل الإباحة على جهةٍ، فلا أثر للملك فيه.
11065- وإذا أتى الزوج زوجته في دبرها، فالمذهب أنه لا يلتزم الحد. وأبعد بعض أصحابنا، فألزمه ما ألزم اللائط. وهذا لا أصل له.
11066- فأما إتيان البهائم؛ فالمنصوص عليه أن واجبه التعزير، واستنبط بعض أصحابنا قولاً من نص الشافعي نذكره: أن الحد يجب على آتي البهيمة، وذلك النص أن الشافعي قال: "لا أقبل على إتيان البهيمة إلا أربعة من العدول"، وقرن بينه وبين اللواط والزنا في الذكر في اشتراط العدد الأقصى، فنظم الأصحاب قولين، وقالوا: أصحهما- وجوب التعزير. والقول الثاني- أنه كاللواط. وقد تفصل القول فيه.
فإن قلنا: إنه كاللواط، ففي قتل البهيمة وجهان:
أحدهما: أنه لا تقتل من جهة أنها لا تنسب إلى ارتكاب جريمة، ولا يفرض الزجر في جنسها، والثانى- أنها مقتولة، وقد روى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به. فقيل للراوي: ما ذنب البهيمة؟ فقال: إنما تقتل حتى لا تذكر". وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً- أنها إن كانت مأكولة اللحم، ذبحت، وإن لم تكن مأكولة اللحم، لم يجز قتلها، وهذا التفصيل لا بأس به.
فإن قلنا: تقتل البهيمة، نُظر: فإن كانت محرمة اللحم، فهل يجب قيمتها؟
فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجب؛ لأنها مستحقةُ القتل شرعاً، وهذا ضعيف؛ فإنها ما أجرمت، وإبطال مالية مالكها منها بعيد عن قياس الأصول. فإن قلنا: يجب قيمتها لمالكها، ففيمن عليه القيمة وجهان:
أحدهما: أنها على الذي أتى البهيمة؛ فإنه الساعي في إهلاكها.
والثاني: أنها في بيت المال. وهذا يقرب من التردد المذكور في أجرة الجلاد.
وإن كانت البهيمة مأكولة اللحم، فهل يحرم أكلها إذا ذبحت؟ فعلى وجهين:
أصحهما- أنها لا تحرم، والثاني: أنه يحرم أكلها؛ فإن من أصول الأطعمة أن كل حيوان وجب قتله، حرم أكله، كما أن كل حيوان حرم قتله حرم أكله، فإن حرمنا أكلها، فقتْلُها تفويتها، والكلام فيها كالكلام في قتل البهيمة المحرمة اللحم، فإن قلنا: لا يحرم أكلها، فلا يجب إلا ما ينقصه القتل إن أوجبنا القيمة في البهيمة المحرمة، ثم الخلاف فيمن يجب عليه أرش النقصان على ما تقدم.
ثم كل إتيان يوجب الحد، فلا يثبت إلا بأربعة من الشهود، وإن حكمنا أنه لا يوجب الحد بعضُ ما ذكرناه كإتيان البهيمة واللواط على القول البعيد المخرّج، فهل يثبت بشهادة عدلين حتى يصير المشهود عليه مستوجباً للتعزير أم لابد من أربعة من العدول؟ فعلى وجهين. ونص الشافعي على أنه لابد من أربعة من الشهود، هكذا ذكر هاهنا، وقد صرح في كتاب الشهادات بأن إتيان البهيمة ليس بزنا، وقال: إذا شهد الشهود بالزنا استفسرهم الحاكم، لأنهم قد يعُدّون إتيان البهيمة زناً، هذا تمام القول في هذا الفن.
فصل:
قال: "فإن شهدوا متفرقين قبلتهم... إلى آخره".
11067- الكلام الوافي البالغ في تحمل الشهادة على الزنا، وعدد الشهود، وكيفية إقامة الشهادة، والرجوع عن الشهادة قبل استيفاء العقوبة وبعدها، وما على الراجع كله يأتي مستقصىً مجموعاً في باب الرجوع عن الشهادة، في كتاب الشهادات إن شاء الله عز وجل.
والذي نذكره هاهنا في شهود الزنا إذا لم يتمّوا أربعاً، أو تموا، ثم رجع بعضهم، أو كانوا فسقة، أو عبيداً، أو كفاراً، فإنا لم نذكر هذا في كتاب اللعان؛ فنقول هاهنا: إذا شهد ثلاثة على الزنا ولم يساعدهم رابع، أو شهد واحد على الزنا وجاء مجيءَ الشهود، ففي وجوب الحد قولان:
أحدهما: أنه لا يجب حدّ القذف؛ فإنهم جاؤوا مجيء الشهود، والذي يعضد ذلك أن لكل واحد منهم أن يُقدم على إقامة الشهادة، والحد عقوبة جريمة، وإذا أقدم ثلاثة على الشهادة، فكيف ينقلبون قَذَفَة بامتناع الرابع؟
والقول الثاني- أنهم قذفة والشاهد فيه حديث عمر وقصة أبي بَكْرة وهي مشهورة مذكورة في الخلاف.
ومسلك المعنى أنا لو لم نقم الحد على الشهود إذا لم يكمل عددهم، لاتخذوا صيغ الشهاداتِ ذريعةً في القذف والوقيعة في الأعراض.
ولو شهد أربعة من العدول ثم رجع واحد منهِم عن الشهادة أو رجع ثلاثة من الشهود وأصرّ واحد، فالراجعون إذا كذّبوا أنفسهم قَذفة يُحدّون، والمستقر على الشهادة لا يُحدّ عند المراوزة؛ فإن العدد كمل والبينة تمت، ثم رجع من رجع، فعليهم وبال الأمر، واختصوا به دون المستقر على الشهادة.
وذكر العراقيون طريقين:
أحدهما: ما ذكرناه، والآخر- أن المسألة على قولين في المصرّين على الشهادة، كما لو لم يكمل العدد ابتداء. وهذا بعيد جداً، ثم إن لم يكن من هذه الطريقة البعيدة بُدٌّ، فيجب ذكرها إذا فرض الرجوع قبل نفوذ القضاء، أما إذا نفذ الحكم، ورجع من رجع، فلا يجوز أن يكون في المستقرين على الشهادة خلاف؛ فإنا في الغرامات التي سيأتي تفصيلها لا نوجب على المستقرين على شهاداتهم شيئاً، وإنما نخصص ما نوجبه بالراجعين، وإذا فرض الرجوع قبل نفوذ القضاء، فقد يظن ظان أن البينة لم تكمل، إذا عدمت قبل جريان القضاء بها.
ولو شهد شهود على الزنا في ظاهر الحال، ثم بانوا عبيداً أو كفاراً، فقد قطع المحققون بأنهم قذفة يُحدون؛ لأنهم ليسوا من أهل الشهادة، وإذا بطل منصب الشهادة، لم يبق إلا ذكر الزنا، وذكر الزنا من غير شهادة قذف.
11068- ولو بان الشهود الأربعة فسقة، فالتفصيل فيهم أنهم إن كانوا معلِنين بالفسق غير مكاتمين فيه، ولم يكن فسقهم مما يتوصل إليه باجتهاد، ففي المسألة قولان، ذكرهما ابن سريج:
أحدهما: إنهم قذفة كالعبيد والكفار، والثاني: أنه لا حد عليهم؛ فإن في العلماء من يجعل الفاسق من أهل الشهادة.
وإن كان الفسق الذي يرد القاضي به شهادتهم مجتهداً فيه، نُظر؛ فإن كان مظنوناً لا يُقطع به، وقد يرى القاضي التفسيق بما قد يرى غيره أنه لا يقع التفسيق به، فإن كان كذلك، فلا يُحدون بلا خلاف، فإنا لو حددناهم-وقد جاؤوا مجيء الشهود في ظاهر الحال/قطعاً- لكنا معارضين مقطوعاً به بمجتهد فيه، ولا يبعد أن يدرأ حد الزنا عن المشهود عليه باجتهاد، فأما إيجاب الحد عليهم بمظنون، ومنصبهم منصب الشهادة فلا سبيل إليه.
وإن ردت شهادتهم بفسق يكتمونه ويستخفون فيه من الناس، فهل يكونون قذفة؟ فيه وجهان مرتبان على الوجهين في المعلنين، وهاهنا أولى بألا يحد حد القذف، بل هو ظاهر المذهب، والدليل عليه أنهم لو شهدوا في مال أو غيره، فردت شهادتهم، ثم حسنت حالتهم، فأعادوا الشهادة رُدّت معادة، كما رُدّت ابتداء، ولو جاء عبيدٌ مجيء الشهود، فردت شهادتهم؛ ثم عَتَقوا، فأعادوها، قُبلت منهم معادة، ولو رُدت شهادة معلنين بالفسق، لا يأنفون منه ولا يتعيرون به، ثم حسنت حالتهم، وظهرت عدالتهم فأعادوها، ففي قبول الشهادة المعادة وجهان.
ويمكن أن نجعل هذا ضبطاً فيما نحن فيه، فيقال: كل من ردت شهادته وإذا زايل حالتَه، ثم أعاد الشهادة لا تقبل شهادته المعادة، فإذا شهد على الزنا مع كمال العدد، ثم اطلع على تلك الصفة، وردت شهادته، فلا يكون قاذفاً، وإن كان على صفة لو شهد عليها ثم زايله فأعادها، قبلت منه، فإذا شهد على الزنى، فردت شهادته على الصفة التي ذكرناها، فهو قاذف، لأنه ليس من أهل الشهادة، وتصدّيه لها باطل فلو شهد على الزنى أربعة، ثم بان أن فيهم من يعادي المشهود عليه، فردت شهادته، فليس قاذفاً؛ لأن رد الشهادة بالعداوة مجتهد فيه، وقد ذكرنا أن الفسق المجتهد فيه إذا اتفق رد الشهادة به لا يصير المردود قاذفاً، مع كمال العدد. فهذا ضبط القول فيما ذكرناه.
11069- ثم ذكر الشافعي على الاتصال بهذه القاعدة مسائلَ نذكرها، ونذكر ما فيها: إحداها- أنه إذا شهد أربعة أن فلاناً زنى بامرأة، فشهد اثنان منهم أنه زنى بها وهي مطاوعة، وشهد اثنان أنها كانت مكرهة، أما المرأة، فلا حد عليها، وقد تعرض لمطاوعتها، ونسبتها إلى الزنا شاهدان، ولم يكمل العدد على هذه الصفة، ففي حد القذف عليهما القولان المقدمان، فإن قلنا: يحدان لما خرجت شهادتهما عن أن تكون شهادة، والقاذف مردود الشهادة إلا أن يتوب، ثم يستبرأ، على تفاصيلَ ستأتي إن شاء الله، فعلى هذا لا يحد الرجل وإن شهد أربعة على زناه؛ لأن اثنين منهما قاذفان، لا تقبل شهادتهما.
فإن قلنا: لا يحدان، فقد تمت الشهادة على الرجل، فهل يلزمه حد الزنا بشهادة الأربعة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب أكثرهم إلى وجوب الحد عليه، لأنه اجتمعت شهادة أربعة من الشهود على زناه، وهو على موجب شهاداتهم زانٍ: أكره المرأة أو طاوعته، ومن أصحابنا من قال: لا يجب الحد على الرجل لاختلاف الشهادة في صفة الفعل الصادر منه، وسيأتي لهذا نظائر في كتاب الشهادات إن شاء الله عز وجل.
فإن قيل: إذا قلنا: لا يحد الرجل، فهل يحد الشهود في حقه؟ قلنا: ما ذهب إليه أهل التحقيق أنهم لا يحدون في حقه؛ فإن عددهم كامل على زناه، وهم من أهل الشهادة، وإنما رددنا شهادتهم، فلم نقم الحد عليه لأمر خفيٍّ مجتهَد فيه، وقد ذكرنا أنا إذا رددنا الشهادة لأمر مجتهد فيه مع كمال العدد، فلا نجعل الشهود قذفة.
11070- ثم قال الشافعي: "وإن شهد عليها بالزنا أربعة... إلى آخره".
وصورة المسألة: إن شهد أربعة على زنا امرأة، فتُشهِد أربعَ نسوة عدول على أنها عذراء، فلا حد عليها؛ لأن الحد يُدرأ بالشبهة، وقيام العذرة مما يغلِّب على الظن أن الزنا لم يجر، ولكن لا حد على الشهود؛ لأن العذرة قد تعود، ويستحيل أن يحدّوا مع هذا الإمكان، فالمرأة لا تحد؛ لأن عذرتها شبهة ظاهرة في نفي الزنا، والحد مما يسقط مع الشبهة، والشهود لا يحدون لما ذكرناه.
ولو شهد أربعة على أنه زنى بها مكرهة، وشهد أربعة أنها عذراء، دفع الحد عن الرجل المشهود عليه بالزنا والإكراه؛ لأن العذرة إذا ثبتت عارضت ظهور الزنا على المناقضة، فإن ادعت المكرهة الوطء على الإكراه، فلها المهر، وثبوت العذرة لا يدرأ المهر؛ فإن المهر لا ينتفي بالشبهة.
ولو شهد أربعة من الشهود على زنا فلان بفلانة، ولكن عيّن كل واحد منهم زاوية من زوايا البيت للزنا، فلا يثبت الزنا لاختلاف الشهادات، ولكن كل واحد منهم شهد على زناً لم يساعَد عليه؛ فيخرج فيهم قولان في وجوب حد القذف؛ فإن العدد لم يكمل في الشهادة على زنية واحدة.