فصل: كتاب السرقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب السرقة:

11086- الأصل في أحكام السراق قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] واشتمالها على ذكر أصل الجريمة والحد. وتفصيلُ مكان السرقة، والمقدارُ، وصفةُ السارق والمسروق منه تُتلَقَّى من السنن وغيرِها من مدارك الشرع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لو سرقت فاطمة، لقطعتها»، وقال: «لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده، ويسرق الحبل، فتقطع يده» وحمل بعض المتكلفين البيضة على المغفر، والوجه حملها على جنس البيض ومثل ذلك منساغ في قصد التعليل.
والسرقة في اللسان: الأخذ في استزلالٍ ومخادعة، والمصدر السَرق والسرقة، والعلماء مجمعون على قواعد الكتاب، والمطلوب منه يتعلق بالمقدار الذي يسمى نصاب السرقة، وجنس المسروق.
والكلام في الحرز.
ومعنى السرقة، وذلك يتعلق بكيفية الإخراج.
والقول في الشبهات الدارئة.
ثم الاختتام بما يثبت السرقةَ من بينةٍ وإقرار.
ووراء ذلك بيان القطع والمقطوع في السرقة.
هذا مجامع الكتاب.
ونحن نذكر التقويم من أجناسِ الأموال، ثم ضوابطَ القول في الحرز، ثم معنى السرقة والإخراج، ونحرص أن نتبع ترتيب السواد.
11087- قال الشافعي: "القطع في ربع دينار... إلى آخره".
ذهب داود إلى أن القطع يتعلق بالقليل والكثير، وذهب علماء الشريعة إلى أن القطع يتعلق بنصابٍ، ثم اختلفوا: فذهب أبو حنيفة إلى أن النصاب دينار، أو عشرةُ دراهم، ثم التقويم عنده بالدراهم، والذهب في نفسه لا يقوّم بالدراهم، ولا يقوّم به شيء.
وقال مالك: النصاب ثلاثة دراهم، أو ربعُ دينار، والتقويم بالدراهم، كما حكيناه عن أبي حنيفة.
وقال النَّخَعي، وأبو ثور،..............................
وابن شُبْرمة: النصاب خمسة دراهم، وقيل: هذا مذهب علي.
ومذهب الشافعي أن النصاب ربعُ دينار، ولم يعيّن الدراهمَ، ومعتمد المذهب حديثُ عائشة، وهو مذكور في الخلاف، ولو سرق من الذهب الخالص ربعَ مثقال، ولكن كان لا يسوى ربعَ دينار مضروب، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن القطع لا يجب، وهو الأظهر؛ فإن الوارد في الحديث ربعُ دينار، والدينار اسم للمضروب وبه الاعتبار.
ومن أصحابنا من قال: إذا سرق ربعَ مثقال من الذهب الخالص، فلا سبيل إلى تقويمه؛ فإنه ليس جنسَ الدينار، والأصح الأول، وينبني على هذا التردد أن من سرق خاتماً وزنه سدس مثقال، وقيمته ربع دينار، فكيف حكمه؟ إن رددنا الاعتبار إلى الدينار، فنوجب القطعَ، ونعتقد الخاتم سلعة، وإن لم نر تقويم الذهب بالدينار، لم نوجب القطع لنقصان وزن المسروق عن الربع.
ولو سرق ثوباً وما في معناه، فلا خلاف أن التقويم بربع دينار.
وقد يخطر للفطن أنا إذا أوجبنا القطع بربع مثقال من الذهب الإبريز، وإن كانت قيمته دون المضروب، فنتخذ ذلك مرجعاً في اعتبار المالية، وهذا خبطٌ؛ فإن التقويم لا يقع إلا بالمضروب والسبيكة لا ضبط لقيمتها، وهي متقوّمة، وما يتقوم لا يقوّم به، ولست أنكر أن التقويم بربع دينار يوهن ذلك، فليكن كذلك، فإن الضعيف يضعف بالتفريع.
ولو كان المسروق عَرْضاً تبلغ قيمته بالاجتهاد ربعَ دينار، فقد يوجب الأصحاب الحدّ، والذي أرى القطع به أنه لا يجب ما لم يقطعوا بأن القيمة لا تنقص عن هذا.
والذي ذكره الأصحاب من اعتبار التقويم محمول عندي على الرجوع إلى المقومين، ثم لهم اجتهادٌ وقطعٌ، ولو قطع بذلك أقوام لا يُزكَّون، فلا إشكال، ولو قطع بذلك جماعة معدودون لا يبعد الزلل عليهم، فهذا فيه احتمال؛ من جهة أن الشهادة على السرقة معرضة لهذا، وهي مقبولة، والفرق إن أردناه أن شهود السرقة يُسندون شهادتهم إلى العِيان، بخلاف أقوال المقوّمين، فانتظم من هذا أنهم إذا ترددوا-وإن أجرَوْا عن غلبة الظنون- فلا قطع، وإن قطعوا وكانوا عدداً لا يزكَّوْن، وجب القطع. وإن قطع عدلان منهم، ففيه التردد.
وقد نجز القول في نصاب السرقة.
11088- فأما الكلام في المسروق، قال الشافعي: "إن عثمان رحمه الله قطع في أُترجَّة قيمتها ثلاثةُ دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار... إلى آخره".
القطع يتعلق بكل مملوك تام الملك، ولا نظر إلى تعرضه للفساد، ولا إلى أصله، فيتعلق القطع بالفواكه الرطبة، خلافاً لأبي حنيفة ويتعلق بالمملوكات التي أصلها الإباحة كالصيود والخشب والحشائش، وما في معانيها، خلافاً لأبي حنيفة في خبط ومناقضات، وتعويلُ المذهب على تحقيق الملك في الحال، ولسنا نلتزم الكلام في الأشياء الموقوفة، وما يَضعُف الملك فيه، وما يتطرّق إليه الشبهات، كأموال بعض الناس في حقوق البعض، وكأموال بيت المال، وإنما غرضنا الكلام على الأجناس، وتلك الفصول ستأتي في مواضعها، إن شاء الله عز وجل.
11089- فأما الكلام في الحرز، قال الشافعي: "وجملة الحرز أن ينظر إلى المسروق... إلى آخره".
هذا الفصل مما يجب الاهتمام بضبطه؛ فإنه القطب الأعظم في الكتاب، وليس فيه ضبطٌ توقيفي، ولا معنىً يدركه قياسٌ جلي. فنقول: السرقة إخراج مالٍ مصون بحرز مثله عن حرزه، ووضع الشرع على أن يستفرغ المالك الوُسعَ في صون ماله، ثم إذا كان كذلك، والسراق لا يرجعون إلى شوكة وعُدة، وإنما مبنى أمرهم على الاختزال فيبعد أن يُؤْثروا التهجم على الحرز، والتعرض للخطر لمقدارٍ نزر تافه، وإذا عظم قدرُ المال، فقد ينتهض ذوو العرامة للتعلق بأسباب الاحتيال ومصادمة الأغرار، فرَدَعَهم الشرع بشَرعْ القطع، ثم الحرز لا يتصور ضبطه بتوقيفٍ، فورد مطلقاً محمولاً على ما يعد حرزاً، ويعد صاحبه غير مضيع، ثم النهايات ليست مرعية.
فانتظم من ذلك أن ما يعدّه الناس حرزاً، فهو حرز في الشرع، وما لا فلا، ويترتب على هذا اختلاف الاحتراز باختلاف أجناس الأموال؛ فإن أعيان الدراهم والدنانير تعدّ ضائعة في عرصات الدور، بخلاف المفارش والأواني، وذلك في التحقيق يخرّج على القاعدة؛ فإن الدراهم إذا لم تكن في المخازن تشوّفَ إليها طالبوها، بخلاف ما يثقل محمله، أو تقل قيمته، ولذلك اطردت العادة بالإحراز بالمخازن.
والاصطبل حرز الدواب على نفاستها، وقد لا نراه حرز الثوب؛ من جهة أن إخراج الدواب منها يظهر، ويبعد الاستجراء عليه، وما يخف محمله بخلافه؛ فانبنت الأمور على الرجوع إلى العادة، وما يعد فيها صوناً، وما لا يعد صوناً، وبان أنا لا نشترط أقصى الإمكان، ولا نكتفي بما يكون حرزاً للمال على الجملة.
11090- ثم جماع القول في الحرز-إذا رمنا التفصيل- لا يخرج عن سببين:
أحدهما: التعويل على اللَّحْظ والمراقبة، وقد يداخله مراعاة المعنى الآخر.
والثاني: التعويل على الحصانة والوثاقة، ولابد أن يداخله اعتبار الملاحظة، فأما ما يعتمد النظر والمراقبة، فله شرطان:
أحدهما: ألا يكون اللاحظ المراقب مستضعفاً، والآخر- أن يكون الملحوظ بحيث لايطرقه جمعٌ يعسر المراقبة معهم بسبب مزدحمهم، وبيان ذلك أن من كان في الصحراء لا يعد ضائعاً فيها لقرب الغوث منه إن قُصد، فإذا كان يلحظ متاعاً، فهو محرز باللحظ، وهو على التحقيق مصون بالمنعة والقوة وإمكانِ الاستنجاد، ولكن من ضرورة ذلك اللحظ.
فأما إذا وضع متاعه في مسجد يكثر فيه المختلفون، أو في شارع يكثر فيه الطارقون، فهذا مختلف، فإن انفرد بالملاحظة، ثم فرضت السرقة، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أن المال ضائع، والثاني: أنه محفوظ؛ لأنه ملحوظ، ولكن لا ينكر مسيس حاجة اللاحظ إلى مزيد إدامة في اللحظ، وليس هذا الخلاف من كون المحل مشتركاً؛ فإن عماد هذا النوع من الحرز اللحظُ، لا المكان، فلا أثر لكون المكان مشتركاً، فإنما ينشأ الخلاف من قصور اللحظ في الضبط مع ازدحام الطارقين.
ولو فرض وضع المتاع في شارع، ولم يختص باللحظ صاحب المتاع، ولكن كان المتاع ملحوظاً بلحظ جمع من اللاحظين، يتعاونون على صيانة الأمتعة، فإذا كان كذلك، صار عدد اللاحظين في معارضة الطارقين، كلاحظٍ في الصحراء في معارضة طارق، ولهذا قال الأصحاب: الأمتعة ليلاً يبعد صونها باللحظ إلا في المواسم التي يتعاون فيها ملاك الأمتعة على التلاحظ.
ومما يتعلق بهذا أن المتاع الملحوظ في الصحراء لو نام صاحبه، فهو ضائع؛ فإن عماد صونه اللحظ، وقد انقطع بالنوم، ولو استدبره أو ذهل ذهولا ظاهراً يقطع مثلُه اللحظ، فكذلك. ولكن لا يتصور أن يُسرقَ المتاعُ إلا بموافقة رعاية السارق للفرص وتطبيقِه رعايتَه على فترات لطيفة للاّحظ، فإذا جرت السرقة، أوجبت الحدّ؛ فإن هجوم الآخذ على ما يتخيله من فترة كهجومه على الحرز، فيما يقرّبه من الغرور وقد يزلّ في تخيله الفترة وقد يعود اللّحظ في الأثناء، وهو غالب، والقدر الذي ذكرناه كافٍ في تأصيل هذا الطرف.
11091- فأما الحرز الذي عماده حصانة البقعة، وعُسْرُ الوصول منها إلى المال المصون بها، فالرجوع فيه إلى العادة، والدور الموثقة بالأغلاق والأبواب أحراز، وكذلك الحوانيت التي تعد حصينة، ثم لا تستقل الأبنية بالأحراز ما لم تكن على حظوظٍ من المراقبة، على موجب العادة.
وبيان ذلك أن الدار وإن كانت حصينة لو فرضت في قريةٍ، وفرض انجلاء أهلها، فالدار بما فيها ضائعة، وذلك أن التسبب إلى التسلق بالسلالم والاستمكان من النقْب حيث لا مراقب مبطلٌ معنى الحرز، حتى لا يفرض حرز مستقل بنفسه، إلا إذا تكلفنا تصوير قلعة متعلّقة بقُلّة جبل لا طريق إليها، ولا طروق عليها، وهذا يعسر، فإن صاحبها لابد أن يقدر على الوصول إليها، فإذا لم تكن مرقوبةً، يتيسر إعداد مثل العُدد التي للمالك في التوصل إليها.
وقال الأئمة: الدار الخالية في طرف البلد ضائعة، فإنها لا تكون منوطة بمراقب، وإذا كانت محفوفة بدورٍ يقطنها سكان، فهي حرز مصون، والدكاكين البادية في الأسواق ضائعة إذا لم تكن ملحوظة من الحراس أو الملاك.
ثم قال الأئمة: إذا كان صاحب الدار في الدار والأغلاق وثيقةٌ، فما في الدار مُحْرَز، وإن نام المالك؛ فإن الغالب أنه يتنبه بالأسباب التي يقدمها السارق للوصول إلى داخل الحرز.
وإن لم يكن الباب مغلقاً ونام، نُظر: فإن كان ليلاً، فالدار ضائعة إذا لم تكن محروسة بالحراس، ومن في معانيهم، وإذا كان كذلك، فيرجع الحرزُ إلى اللَّحْظ، وإن فرض ذلك نهاراً، فالغالب أن الشارع يطرقه الطارقون، فإذا نام صاحب الدار نهاراً، والباب مفتوح، ذكر الأصحاب وجهين في ذلك، وذكر الشيخ أبو علي نسقاً آخر، فقال: إذا كان باب الدار مفتوحاً، وصاحب الدار فيها يَلْحظ متاعَه، فتغفّله سارقٌ فدخل وسرق، ففي وجوب القطع وجهان، وذكر في ذلك جوابين للقفال في درسين، وعلينا أن ننبه على بيان كل مسلك.
فأما من ذكر وجهين في النائم فيهما فيه إذا كان باب الدار لافظاً في شارع مطروق، فقد يتخيل الاكتفاء في الصون بالطارقين، وتوسط الدور، والأحراز مهيبةٌ في حق السراق، فإن لم يكن باب الدار مطروقاً، وقد نام صاحب المتاع، والباب مفتوح، فلا خلاف أنه ضائع، وما قطعنا به من نوم صاحب المتاع في الصحراء وجهه يبين به، وسبيل الفرق واضح.
وأما ما ذكره الشيخ أبو علي من الوجهين في يقظة صاحب الدار، فطريقه أن من يكون متيقظاً في دار نفسه فمعظم اعتماده على الدار، لا على اللحظ، وعماد الكائن في الصحراء اللحظُ، فإذا فرض تغفل في الدار، فسبب التردد فيه ظهور الفتور في اللَّحظ، حتى لو فرض في الدار من اللحظ ما لو فرض في الصحراء، لكان حرزاً، فلا شك أن المال مُحْرزٌ، فإن اللحظ كاللحظ، والدار إن لم تزد حرزاً لا تنقص عن الصحراء. نعم، إن قال السارق: كان صاحب المتاع لاَ يحُدّ في اللحظ حدَّ صاحب الصحراء، فقد يضطرب الرأي في المصدَّق.
ولعلنا نذكر طرفاً من هذا في الفروع، فإذاً ما حكيناه من النوم والخلاف فيه محمله التعويل على طروق الطارقين، وما ذكرناه من التردد في يقظة صاحب الدار محمول على اعتبار ترك الحدّ في اللحظ.
ولو فتح الفاتحُ البابَ للدار، وأذن للناس في الدخول لتجارة، أو غيرها من الأغراض، حتى صارت الدار محلاً لازدحام الداخلين، فاللحظ في مثل هذه الحالة بمثابة اللحظ في الشوارع والمساجد، وقد مضى تقسيمها وتفصيلها، ولا نظر إلى كون الدار مملوكة لصاحب المتاع، ولا إلى كون المسجد والشارعِ مشتركين، وما ذكرناه ليس متلقى من إذنه، إذ لو دخل داره جمعٌ بغير إذنه، فالكلام في حفظ المتاع على ما ذكرناه.
هذا منتهى تأصيل الأحراز وتمهيدها، وفي هذا القدر مَقْنع، ولكنا نذكر مسائلَ (السواد) ونُخرِّجها على ما مهدناه ونرسُم الفصولَ على المعتاد في أمثالها.
فصل:
قال: "وإن كان يقود قطار إبل... إلى آخره".
11092- من كان يقود قطاراً من الإبل-وقيل أكثرها سبعة- قال الأئمة القطار محرز بالقائد، إذا كان الإبل تمشي على استدادٍ، ولو كان يدور في منحرف الطريق، فالذي يغيب عن عين القائد لو التفت ليس محرزاً. وقال أبو حنيفة: إن قادها، فالمُحْرز هو البعير الأول، وإن ساقها، فالجميع محرز به. وإن ركب واحداً، فمركوبه وما أمامه وواحد من ورائه محرزٌ به، وهذا المذهب منتظم.
والذي أطلق أصحابنا فيه إشكال، وأنا أعلم قطعاً أنه مُنزَّل على ما سأذكره، فإن كان القائد لا يلتفت إلى القطار، وكان يُمشي الإبلَ في مكانٍ خالٍ، فلا يتحقق الصَّوْنُ إلا في البعير المقود، وإنما قال أصحابنا ما قالوه فيه إذا كان يقود القطارَ في سوق آهلٍ، فالإبل مصونة بأعين اللاحظين، ولو فرض ازورار في السوق نفسه، فالإبل مصونة باللحظ أيضاً. وإن فرض استتار بعض القطار بسكةٍ لا لاحِظَ فيها، فذاك ضائع حينئذ، ولا يجوز أن يعتقد الأمر إلا كذلك، وليس ما جئنا به مخالفاً لما ذكره الأصحاب، ولكنه بيان له، وبالجملة الإبل مصونة باللحظ، وقد مهدنا فيه ما فيه مَقْنع.
ثم قال: "إن أناخها حيث ينظر إليها... إلى آخره".
11093- ذكرنا النظر في الصحراء، ولا معنى لتكثير الصور.
والأغنام الملحوظة من الراعي إذا كان نظره متصلاً مصونةٌ، وإن انسرح طرفه، ثم أعرض في زمن لا يتصور أن يلحق مثله لاحق، فالأغنام مصونة باللحظ الأول.
ثم قال: "ولو ضرب فسطاطاً... إلى آخره".
11094- الأخبيةُ والخيام ليست أحرازاً في نفسها، والتعويل فيها وفيما تحويه على اللحظ والمراقبة، وقد سبق التحقيق فيما عماده اللحظ، وقد يطرأ في ذلك تنضيد الأمتعة والاستيثاق فيها بضوابط الحبال، وليس ذلك لاعتقاد كون الربط حرزاً، ولكن قد يؤثر الربط في ترك نهاية الحدّ في اللحظ، وما عندي أن من أحاط بما ذكرناه يخفى عليه خافية في الأحراز، والخيمةُ في نفسها لو سُرقت، فهو متاع ملحوظ، وقد تقدم التفصيل فيه.
وإذا كانت الإبل والبهائم مصونة باللحظ، فأحمالها مصونة باللحظ، وقد انتجز القول في الأحراز تأصيلاً وتفصيلاً.
11095- ونحن نفتتح الآن القولَ في معنى السرقة وكيفيةِ الإخراج من الحرز، ويتصل به هتكُ الأحراز، انفراداً واشتراكاً، فنحن نذكر هتكَ الحرز، وما يتصل به، ثم نذكر الإخراج من الحرز، فنقول:
من انفرد بنقب الحرز، ثم دخل وأخرج نصاباً، فهو سارق مستوجبٌ للحد، وفي ذلك ما يجب التنبه له، فإنه لما نقب، وقد خرج الموضع عن كونه حرزاً، والكلام فيما عماده التحصين، فجرى إخراجه عما ليس حرزاً، وكان لا يمتنع من طريق المعنى ألا يستوجبَ القطعَ؛ لأنه أبطل الحرز، ثم أخذ مالاً ضائعاً، ولكن أجمع العلماء على وجوب الحدّ إذا اتصل الإخراج بالنَّقب؛ فإن أفعاله المتواصلة في حكم الفعل الواحد، وأثبتنا هذه المسائل على العادة، ومن وصفناه يعدّ سارقاً من حرزٍ، ولا ينسب صاحب الحرز والمتاع إلى تضييعٍ.
ولو نقب الحرزَ ومرّ، وعاد بعد ليلة أو ليالٍ، ودخل من فتح النقب وأخرج، فإخراجه الآن منقطع عن هتكه الحرز، فإن شعر صاحب الحرز بالنقب، فقد ضيع الدار وما فيها، ولو لم يشعر، أو نقب السارق، ورد لَبِنَه بحيث لا يظهر النقب، وعزم على أن يعود في الليلة القابلة، ويدخل من النقبَ الذي يُعده ولا شعور ولا تقصير، فهذا محتمل جداً، فإن نظرنا إلى تواصل الأفعال، فقد انفصل الدخول والإخراج عن الهتك، وإن نظرنا إلى حكم الاعتياد، فالأمر الكلي لا يوضّح فصلاً بين أن يتصل الإخراج بالنقب، وبين أن ينفصل على الحد الذي صورناه.
11096- ولو حضر الحرز رجلان، فنقب أحدهما، وانفرد بالنقب، وأخرج الثاني المتاعَ، أما الناقب، فلا قطع عليه عندنا؛ لأنه ليس سارقاً، وأبو حنيفة يوجب القطع عليه بعلة كونه رِدْءاً وعوناً للسارق، وأما من أخرج المتاع، فالذي قطع به المراوزة أنه لا قطع عليه، فإنه أخرج المتاع من حرز مهتوك.
وذكر العراقيون وجهين في وجوب الحد عليه:
أحدهما: ما ذكرناه، والثاني: أن الحد يلزمه، كما لو نقب بنفسه، وأخرج، وهذا يتأكد بالقاعدة الكلية؛ فإن الحدَّ شُرع زاجراً، ولو كان النقب من واحدٍ، والإخراجُ من آخرَ غيرَ موجب للقطع، لصار هذا ذريعةً هيّنة ليست في حكم النوادر، ولا في حكم الأمور العسرة، والشافعي لا يحتمل أمثالَ هذه الذرائع إذا كانت تصادم القواعد الكلية.
ولو اشترك رجلان على النقب ودخلا الحرزَ، واشتركا في الإخراج، فقد قطع الأصحاب بوجوب القطع عليهما، إذا كان المخرج نصابين، كما سنصف هذا الفنَّ من بعدُ، إن شاء الله، واشتراكهما في الإخراج بمثابة انفراد الرجل الواحد بالنقب والإخراج.
ولو اشتركا في النقب، ثم انفرد أحدهما بالدخول والإخراج، فالقطع يجب على هذا المنفرد بالإخراج وجهاً واحداً لمشاركته بالنقب، فصار كأنه انفرد بالنقب والإخراج.
ورأيت في بعض التعاليق عن شيخي وجهين في أنهما إذا اشتركا في النقب وانفرد أحدهما بالدخول والإخراج هل يجب القطع عليه؟
ولا شك أنه لا قطع على الذي لم يشارك في الإخراج، وإنما شارك في النقب، والوجهُ القطع بإيجاب الحد على من أخرج منهما، فإن النقب إذا وقع بهما كان كل واحد منهما كالمنفرد بجميع النقب؛ بدليل أنهما لو اشتركا في النقب والإخراج قُطِع، فلا تعويل على ما حكيته عن بعض التعاليق.
11097- وتمام البيان في هذا الفن أنا إذا ذكرنا الاشتراك في قطع اليد في باب القصاص تناهينا في التصوير، وصورنا تحاملاً منهما على حديدةٍ واحدةٍ، حتى لو قطع أحدهما من جانب وقطع الآخر من الجانب الآخر والتقت الحديدتان، فليس ذلك اشتراكاً في القطع، ولكن انفرد كل واحدٍ منهما بقطع بعض اليد.
وإنما جدَّدنا ذكر هذا لنفْصله عن الاشتراك في النقب، فلا يشترط في تصوير الاشتراك في النقب أن يأخذَا آلةً واحدة، ولكن لو كان أحدهما يخرج لبنة والآخر أخرى، حتى استتما التنفيذ، فهما مشتركان، فإنا لا ننكر أن المرعي في هذا الباب التعاون على النقب، ولا تشتدّ عناية الفقيه هاهنا بتصوير الاشتراك؛ فإن النقب ذريعةٌ إلى المقصود، وليس عينَ السرقة، والفقيه من يطبق صور الأصول على أقدار الأغراض فيها.
ومن اعتبار التعاون صار أبو حنيفة إلى إيجاب القطع على الردء، وفي بعض التصانيف أنا نشترط في النقب حقيقةَ الاشتراك على النسق الذي ذكرناه في الاشتراك في قطع اليد، وهذا ضعيف، ثم مقتضاه أنهما إذا تعاونا وكان هذا يخرج لبنة وذاك أخرى، فلا قطع على واحدٍ منهما، وكأنهما صادفا الحرز منقوباً.
11098- ولو اشترك الرجلان في النقب كما ذكرناه، ثم دخل أحدهما الحرز ووضع المتاع في وسط النقب، وأخذه الآخر من حيث وضعه الداخل، ففي المسألة قولان مشهوران:
أحدهما: أنه لا قطع على واحدٍ منهما؛ فإن الداخل لم يتمم الإخراج، والخارج الآخذ لم يأخذ من حرز تام. والقول الثاني- أنه يجب القطع عليهما؛ لاشتراكهما في الإخراج. وقطع الصيدلاني بنفي القطع عنهما، وزعم أن كل واحدٍ منهما يسمى السارقَ اللطيف.
وإن كانت المسألة بحالها، وأخرج الداخل يده بالمتاع في النقب إلى خارج، فأخذه الخارج الواقف، وجب على الداخل دون الخارج.
ولو قرّب الداخل المتاع من النقب، وهو في حدّ الدار أو البيت، لم يُخرج يده من النقب، فأدخل الخارج يده وأخرج المتاع، فالقطع على الخارج؛ فإنه تناول المسروق وهو في حد الحرز، فأخرجه منه.
هذا تفصيل القول في هتك الحرز على الانفراد والاشتراك، مع صدور الشركة من الناقب أو من غيره.
11099- ونحن الآن نذكر التفصيل في السرقة، ومعنى إخراج الشيء من الحرز:
فإذا دخل السارق الحرز وأخرج المسروق. فهذه سرقة، وإن لم يدخل الحرز، وألقى في الدار محجناً فتعلق به إناء أو ثوب، فأخرجه من الحرز، وجب القطع؛ فإن الإخراج من الحرز قد تحقق، فلا أثر لدخول السارق وخروجه، ولو دخل الحرز، ورمى المتاع إلى خارج الحرز؛ فإن خرج وأخذه، فالذي صدر منه سرقة على التحقيق، وإن رمى المتاع إلى خارج، ولم يأخذه وتركه حتى ضاع، أو أخذه آخذ آخر، أو اطلع عليه صاحبه، فأخذه، فالمذهب وجوب القطع على هذا؛ فإنه بإلقائه قد أخرج المتاع من الحرز.
وقال أبو حنيفة: لا يجب القطع على الملقي إذا لم يأخذ ما ألقاه، أو لم يأخذه مُعينه وردؤه، وفي بعض التصانيف وجهٌ أنه لا قطع على الملقي إذا لم يأخذه، وهذا بعيد، لا أعتد به، ولو فرعنا عليه، فألقاه إلى خارج الحرز، فأخذه صاحبه ومُعينه، فالوجه أنه لا يجب القطع على الملقي إذا كنا نعتبر أخذَه، ويجوز أن يقال: إذا أخذه الواقف خارج الحرز بإذنه، فهذا كافٍ في إتمام مقصوده على هذا الوجه الضعيف الذي نفرع عليه، ولا أصل لهذا الوجه.
ولو وقف خارجَ الحرز وأرسل محجنه، فعلق بطرف منديلٍ، فأخرج ذلك الطرف، ثم تركه ولم يفصله، ولم يخرج كله؛ إذ شُعر به مثلاً، فالذي وجدته للأصحاب أن هذا ليس بإخراج، وإن كان القدر البارز لو فصل، لكان نصاباً؛ فإن هذا لا يسمى إخراجاً من الحرز. والعلم عند الله.
ولو فتح أسفل كُندوج، فاندفع ما فيه، فالمذهب الأصح أن الخارج إذا بلغ نصاباً، وجب القطع على فاتح الكندوج، وذهب بعض أصحابنا إلى أن ما انفصل وخرج لا يضاف إلى إخراج الفاتح؛ فإن هذا تسبّبٌ وليس إخراجاً حقيقةً، وهذا ضعيف، لا أصل له، والوجه القطع بوجوب الحد؛ لأنه المخرِج في الإطلاق، ولولاه، لما خرج من الكندوج شيء.
11100- ولو كان في الحرز بهيمة فوضع عليها المتاع، نظر: فإن استاقها بسَوْقه إياها، فهذا إخراج من الحرز يتعلق القطع به، ولا نظر والحالة هذه إلى أن يتصل خروج الدابة أو ينفصل، فإذا افتتح سَوْقَها وأخرجها، فهو مخرِج للدابة وما عليها، وإن وضع الحمل على الدابة، ولم يسُقها، فسارت الدابة بنفسها، وخرجت من الحرز بما عليها، فللأصحاب طرق: منهم من قطع بأن واضع الحمل عليها ليس سارقاً؛ من جهة أن البهيمة ذات اختيار، وقد انفصلت بنفسها.
وقال العراقيون: إن تراخى مسيرُها عن وضع الحمل عليها، ثم افتتحت المسير، فلا حدّ، والإخراج غير مضافٍ إلى السارق، وإن خرجت الدابة على الاتصال بوضع الحمل عليها، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الإخراج مضاف إلى الرجل، كما لو ساقها، والثاني: أنه ليس مضافاً إليه، بل هو مضاف إلى اختيار البهيمة.
وذكر بعض الأصحاب مسلكاً آخر، فقال: إذا اتصل مسيرُها بوضع الحمل عليها، فالرجل منتسب إلى الإخراج، وإن تراخت البهيمة، ثم سارت، فوجهان.
وحقيقة هذا يُحْوِج إلى تجديد العهد بمسألة فتح القفص عن الطائر مع تصوير الطيران، وحاصل ما ذُكر ثَمَّ في إيجاب الضمان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجب الضمان أصلاً، اتصل الطيران أو انفضل، والثاني: يجب الضمان اتصل أو انفصل، والقول الثالث: أنه إن اتصل الطيران وجب الضمان، وإن تراخى، لم يجب.
فالآن نقول: في مسألة الحمل على الدابة ومسيرها، وتحقيق السرقة من الرجل طريقان للأصحاب: منهم من نزل هذا الحكمَ المطلوبَ منزلة الضمان في مسألة الطيران حتى يخرج الأقوال الثلاثة، وتقريب القول فيه أن فتح القفص يُهيج الطائر والحمل على البهيمة والأرباط يَهِيجُها للسير، فقد تساوى المأخذان.
ومن أصحابنا من قطع فيما نحن فيه بنفي السرقة، وإن تردد القول في مسألة الطائر في الضمان، والسبب فيه أن التسبب مضمِّنٌ في الغصوب والإتلافات، والسرقة تعاطي الإخراج بالنفس، وهذا المعنى لا يتحقق مع اختيار البهيمة. ولو فصل فاصل بين بهيمة مطمئنة لا نِفارَ بها، وبين بهيمة ذاتِ نِفار، لكان هذا وجهاً في الاحتمال، وهذا الفرق يمكن إجراؤه في فتح القفص وحل الرباط عن طائر أليفة أنيسة، فإنها إذا كانت مطمئنّة، فاختيارها الغالب، وإذا كانت نفورة، فقد يتجه الحمل على التنفير بفتح باب القفص، وحل الرباط.
11101- ولو دخل السارق الحرز وفيه ماءٌ جارٍ، فوضع المتاع عليه حتى خرج به من الحرز، فالذي أطلقه الأصحاب أن هذا إخراج من الحرز؛ إذ الماء لا اختيار له في جريانه والملقَى عليه يخرج معه لا محالة.
فإن قيل: إذا شرطتم تولِّي الإخراج وأنكرتم حصول السرقة بالسبب، فلم تجعلوه سارقاً، وهو متسبب، قلنا: السبب الظاهر يُلْحق بالمباشرة فيما يبنى على المباشرة، ولذلك يجب القصاص على المكرِه، كما يجب على المباشر، فإذا لم يكن للماء اختيارٌ، فالتسبب والمباشرة لفظان يؤديان إلى التعلق بما يحصّل الخروج لا محالة من غير أن يعزى إلى اختيار غير السارق.
وقد يرد على هذا أنا إذا قلنا: من فتح كندوجاً أو دِنّاً، فانثال وسال منهما ما يبلغ نصاباً، فلا قطع من جهة التسبب، فيتجه لا محالة أن نقول على هذا القياس: لا قطع على السارق إذا وضع المتاع في الماء، فإن صح ذلك الوجه في الكندوج، تعيّن مثله في الماء.
والوجه القطع بما قطع الأصحاب به في الماء، والاستدلالُ به في تضعيف الوجه المحكي في الكندوج.
11102- ولو دخل السارق الحرز وأكل من الطعام ما بلغ نصاباً، وخرج، فلا قطع؛ فإنه أتلف في الحرز ما أكله، ولم يخرجه.
ولو تعاطى دُرّة، فبلعها، وخرج فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مخرج للدّرّة سارق لها، وهذا هو الصحيح، بخلاف الطعام، فإنه يفسد كما غاب عن الفم، والدرّة لا تفسد. والوجه الثاني- أنه لا يكون سارقاً؛ فإن ما بلعه الإنسان لا يدري إلى ما يؤول إليه، فقد أتلف الدرّة إذاً. والوجه الثالث: أنه إن خرج وخرجت الدّرةُ منه، فهو مخرجِ لها سارق، وإن لم تخرج، فلا نجعله سارقاً، فإنما نتبين أنها فسدت وانمحقت.
11103- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو دخل الحرزَ وفيها شياه، فأخذ شاةً لا تبلغ نصاباً فتبعها شاة، وهي بمجموعها تبلغ نصاباً ويزيد، فقد قال الشيخ أبو علي: إن كانت الشاة بحيث تتبع هذه الشاة إما لكونها أماً لها وهي سِخال، أو لكونها هادياً في القطيع، فيجب القطع. وإن لم يكن الأمر كذلك، ولكن اتفق خروجها مع تيك الشاة، فلا قطع.
وهذا الذي ذكره كلام مبهم والرأي عندنا تخريجها على مسألة الحمل على الدابة ومسيرها؛ فإن هذه الحيوانات مختارة على الجملة، ثم يقع في التفاصيل الغلبةُ على الظن في مسيرها ونقيض ذلك، والاتصال والانفصال، فلْيخزج هذا على ما تقدم، فلا فرق.
هذا كلام بالغٌ في الإخراج من الحرز ومعناه، ويتصل به فصل هو منه، وله تعلق بتفاصيلَ في الأحراز، ونحن نأتي بها في فصل مفرد، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "وإن أخرجه من البيت والحجرة إلى الدار... إلى آخره".
11104- مقصود الفصل يتم بالكلام في دارٍ وبيوتها، وفي خانٍ وبيوتها وحُجرها.
فأما القول في الدار يدخلها السارق، فإذا أخرج المتاع من بيت إلى العَرْصَة، ولم يخرجه من الدار، نظر: فإن كان البيت مفتوحاً، أو كان غلقه ضعيفاً، وكان باب الدار مفتوحاً، فالمتاع ضائع غيرُ محرز؛ ذلك أن عماد الحفظ الحصانةُ، لا اللّحظُ، فإن كان باب البيت مفتوحاً، وبابُ الدار مغلقٌ موثقٌ فإذا أخرج المتاع من البيت إلى الصحن، نظر: فإن كان ذلك المتاع لا يحرز بالعرصات، فهو ضائع، إذا لم يكن في مخزن يليق به، وإن كان المتاع بحيث يحرز بالعرصات والأبنية الظاهرة والبيت المفتوح، فإذا أخرج المتاع إلى العرصة، لم يكن سارقاً؛ لأنه لم يخرجه من حرز، وهو بمثابة ما لو نقل المتاع من جانب العرصة إلى جانب.
وإن كان البيت مغلقاً، فالبيت حرز في نفسه، والمتاع مما يُحرز بالعَرْصَة، فإن أُغلق عليه بيتٌ، فهو زيادة إيثاق، فإذا فرض الإخراج من البيت إلى العرصة، نظر: فإن كان باب الدار مفتوحاً، فالإخراج من البيت إلى العرصة سرقة موجبةٌ للقطع؛ فإن العرصة ضائعة بسبب فتح الباب، والبيت حرزٌ للمتاع المخرَج منه، فقد أخرج متاعاً من حرزه إلى موضع ليس بحرز، وهذا معنى السرقة.
فإن كان باب الدار مغلقاً، وكان باب البيت مغلقاً أيضاً، وكل واحدٍ من البيت والدار حرزٌ تام في المتاع المخرج، فإذا فرض الإخراج من البيت المغلق إلى العرصة التي كان بابها مغلقاً، ففي وجوب القطع وجهان:
أحدهما: أنه يجب نظراً إلى الإخراج، والثاني: لا يجب؛ لأن الموضع الذي نَقَل المتاع إليه لم يكن مضيعة، فهذا نقل من حرز إلى حرز، والسرقة الموجبة للحد هي الإخراج من حرز إلى مضيعة، وما ذكرناه فيه إذا كان المتاع بحيث يحرَز بعرصة الدار.
فأما إذا كان المتاع بحيث لا يحرز بالعرصة، وكان في المخزن المستقل بكونه حرزاً؛ فأخرجه إلى عرصة الدار، فإن كان باب الدار مفتوحاً، فالذي جرى سرقةٌ موجبة للحد.
وإن كان باب الدار مغلقاً، فأخرج المتاع من البيت إلى العرصة، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين اللذين ذكرناهما في المتاع الذي يحرز بالبيت والعرصة في مثل هذه الصورة: فإن قلنا ثَمّ: يجب القطع بالإخراج من العرصة، فلأن يجب في هذه الصورة أولى، وإن قلنا: لا يجب القطع بتلك الصورة، ففي هذه الصورة وجهان. والفرق أن الدار مضيعة بالإضافة إلى الدراهم والدنانير، فالإخراج من المخزن إلى العرصة إخراج من حرزٍ إلى مضيعة، وليس كذلك الصورة الأولى؛ فإن المتاع فيها أُخرج من حرزٍ إلى حرز.
فإن قيل: هذا الفرق ظاهر، فما وجه الخلاف؟ قلنا: باب الدار وإن كان مغلقاً على العرصة، فهو مزيد إيثاق للمال الموضوع في المخزن، فهي تتمة الحرز، فإذا فرض إخراج من البيت إلى العرصة، فالعرصة، وإن لم تكن حرزاً بنفسها، فهي مزيد استيثاق للحرز إذا كان الباب مغلقاً عليها.
ومن الأصحاب من يقول: لا تتم السرقة إلا بالإخراج من تمام الحرز.
وإذا جمعنا بين هذه المسألة، وهي إخراج الدراهم من المخزن إلى العرصة المُغلقة بابها، وبين إخراج ثوب من الفرش من بيت مغلق إلى العرصة، انتظم في المسألتين ثلاثة أوجه: أحدها: وجوب القطع فيهما، والثاني: انتفاء القطع فيهما.
والثالث: الفرق بين أن يكون المخرج إلى العرصة مما يحرز بالعرصة، وبين أن يكون مما لا يحرز بالعرصة.
11105- ووراء ذلك بحث به تمام البيان وهو أن السارق لو تسلق الجدار وتدلّى إلى العرصة، وأخرج المتاع من البيت إلى العرصة، فالأمر على ما ذكرناه، وإن فتح الباب، وكان مغلقاً، ثم أخرج المتاع والدراهم من البيت إلى العرصة بعد فتح بابها، فكيف السبيل؟ هذا فيه نظر من جهة أن الحرز الذي يهتكه السارق في حكم الحرز الدائم، ولولا ذلك، لما أوجبنا القطع على من نقب الحرز، ثم دخل فأخرج؛ فإنه بنقبه أخرج الحرز عن كونه حرزاً، هذا وجهه.
ولكن لو قدرنا بقاء العرصة على الحرز، فقد يجرّ هذا تخفيفاً عن السارق، إذا قيل: أَخرجَ من حرز إلى حرز. وإن حكمنا بانتهاك حكم الحرز في العرصة، فإذا أخرج من البيت إليها، استوجب القطع، ونحن جعلنا الحرز في حق الناقب السارق حرز التعلق تغليظاً عليه، فقياس هذا الفقه أن نجعل العرصة مضيعة ليلتزم الداخل بالإخراج من البيت إليها القطعَ.
والمسألة محتملة؛ من جهة أن ما أقمناه للتغليظ أو لغيره لا يمتنع أن ينفع السارقَ من وجهٍ، إذ ليس مبنى الباب على التغليظ، وإنما جعلنا الناقب إذا سرق سارقاً؛ لأن صورة السرقة في الغالب كذلك تكون، والذي يتسلق بمرقاةٍ أو حبل وعُقَدٍ ومحجن يُخرج الحرزَ مع تلك الآلة عن كونه حرزاً، فكان ذلك أيضاً تقديم هتك الحرز على الإخراج، فجرى ذلك على حكم الضرورة في تصوير السرقة، فلا نلتزم هذا الأصلَ في كل صورة.
وقد انتهى الكلام في الدور وبيوتها.
11106- ونحن نبتدىء الآن القولَ في الخانات ذوات الحجر والبيوت، فنقول: إذا أُخرج شيء من عرصة خانٍ، وكان بحيث يُحرَز بالعرصة والباب مغلق، نظر: فإن أخرجه بعضُ سكان الخان، فلا قطع؛ فإن العرصة ليست ممنوعة عن سكان الخان، وهذا متضح إذا كان فتح الباب هيناً على الخارج، بأن يكون الإيثاق بالسلاسل والمرازب.
فأما إذا كان الباب موثقاً عن السكان، وعليه حارس بيده مقاليد الأغلاق، فإذا كان المخرج للمتاع يحتاج أن يعاني من الكلفة ما يعانيه من يحاول دخول الخان من خارج، فهذا فيه تردد: يجوز أن يقال: يجب القطعُ للإخراج من حرزٍ لا سبيل إلى الخروج منه من غير تسبب إلى هتك الحرز، وحقيقة السرقة التسبب إلى الإخراج من الحرز، ولهذا قلنا: من أرسل محجناً له وأخرج متاعاً من كُوّة، كان سارقاً، وإن لم يدخل الحرز.
ويجوز أن يقال: لا قطع؛ لأن يد ساكن الخان تتوصّل إلى المتاع. وصورة الحرز ما يمنع الآخذ من الأخذ، ويكون متضمناً حيلولة بين من يبغي الأخذ وبين المتاع، والمتاعُ الموضوع في العرصة ليس مصوناً عمن يسكن الخان، والدليل عليه أن من استحفظ إنساناً في متاعٍ، ونهاه عن النقل عن موضعه-وكانت المسألة مفروضة في الخان- ولو نقله المستحفَظ، لكان متعدياً ضامناً. فلو فرض من المودَع التعدي بنقل الوديعة والاختيار بهتك الحرز والإخراج منه، فيبعد أن يجب القطع عليه؛ لأن المتاع في يده. كذلك المتاع الملقى في العرصة، وإن لم يجر فيها استحفاظ فتمكُّن ساكن الخان من الوصول إليه في حكم السرقة يُلحقه بالمودَع، وإن لم يكن مودَعاً. هذا كلامنا في الساكن يسرق من العرصة ويخرج.
11107- فأما إذا احتال سارق ودخل الخان، وأخرج المتاع، وهو محرز، فلا شك في وجوب القطع عليه.
فأما إذا سرق بعضُ السكان من بعض، وكان كل واحد في بيت محرز عن أصحابه، فإذا أخرج بعضُ السكان شيئاً من بيتِ ساكنٍ، فهو سارق، وصحن الخان في حق السكان كالسكة بالإضافة إلى الدور التي أبوابها لافظة إلى السكة.
ولو دخل سارق من خارج وأخرج شيئاً من بيتٍ إلى الصحن، فقد قال الأصحاب: تفصيل القول في هذا الفصل كالقول في إخراج متاع من بيتٍ في الدار إلى عرصة الدار، وقد مضى ذلك مفصلاً؛ فإن الخان بالإضافة إلى الخارج منه كدارٍ ذات بيوت وحُجر، فإن قيل: إذا كانت الدار لافظة الباب في سكة منسدّة، وعلى رأس السكة درب، والسكة ملك لملاك الدور، فما قولكم فيه إذا دخل سارق وأخرج شيئاً من دار إلى السكة الموثقة بالدرب إيثاق عرصة الخان ببابه؟ قلنا: ما رأيناه للأصحاب أن هذا سرقة ثابتة، وليس هذا خالياً عن احتمال؛ فإن السكة المملوكة لملاك الدور كعرصة الخان لملاك البيوت أو لسكانها.
وقد انتهى الكلام في هذا الفن، ونجز مقصود الفصل.