فصل: كتاب الأشربة والحد فيها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الأشربة والحد فيها:

قال الشافعي رحمه الله: "كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام... إلى آخره".
11200- التعرض لما يحل ويحرم من الأشربة والأطعمة سيأتي في كتاب الأطعمة، إن شاء الله تعالى، وغرض هذا الكتاب ذكر تحريم المسكرات، وما في معناها، ومذهبنا أن كل ما أسكر كثيره، فهو نجس. والقليل منه كالكثير في التحريم. والمسكر ما يخبل العقل ويطرب، والمحرم باتفاق العلماء الخمرُ المطلقة، وهي المتخذة من عصير العنب إذا كان نيّئاً، واشتد وغلا وقذف بالزَّبَد، ثم إسكار ما يسكر كإشباع ما يشبع وإرواء ما يَروي. ومذهب أبي حنيفة مشهور مذكور في الخلاف، مردود عليه بالأخبار والآثار وطرق الاعتبار.
ثم من شرب مسكراً، فقد تعاطى محرماً. وسبيل القول في الحد أن ما وقع الوفاق على تحريمه من الخمور؛ فلا خلاف في تعلق الحد بشربه، وهو الذي قال الفقهاء: يكفر مستحله. والمعنيّ به أنه يكفر من علم أنها محرمة شرعاً واستحلها؛ فإنّ استحلالَه لها مع العلم بأن تحريمها ثابت في الشرع ردٌّ للشرع، ورادُّ الشرع مكذبٌ للشارع، وإطلاق القول بتكفير مستحل الخمر لم يصدره الفقهاء عن ثَبَتٍ وتحقيق، وكيف يُكفَّر من خالف الإجماع، ونحن لا نكفر من ردّ الإجماع، بل نبدّعه ونضلّله؟ والسرّ اللطيف في ذلك أنا نكفر من يصدق المجمعين في نسبتهم ما ذكروه إلى الشرع، ثم يرده.
وأما وجوب الحد، فلا شك فيه. فإن أسلم وكان قريب عهد بالإسلام، لم يبلغه تحريم الخمر فيما زعم، فجهله يدرأ الحد عنه، وهو بمثابة ما لو تعاطى شراباً حسبه حلالاً، ولم يشعر بكونه خمراً. وإن علم التحريم وجهل الحدَّ، حُدّ.
وأما الأشربة المسكرة التي أباحها أبو حنيفة؛ فقد قدمنا قول الشافعي في إقامة الحد على الحنفي مع قبول شهادته، ونقلنا خلاف الأصحاب في كتاب الحدود، وفصلنا بين استحلال الحنفي النبيذ وبين استحلال الذمّي الخمر.
11201- قال الشافعي: "من شرب شراباً ظنه غير مسكر فسكر، ومرت عليه مواقيت صلوات، فلا قضاء عليه " وأجمع الأصحاب أنه أراد بما قال أن ما يظنه غير مسكر في جنسه، فيكون كالمغمى عليه تمرّ عليه مواقيت الصلوات. فأما إذا علم أن جنسه مسكر، وظن أن قدره لا يسكره، فإذا سكر لم يُعذر، ويلزمه قضاء الصلوات التي تمر عليه مواقيتها في حالة السكر. وقد تمهدت هذه الأصول فيما سبق.
11202- والذي نرى الاعتناء به التداوي بالخمر عند فرض مسيس الحاجة إليه.
وقد أطلق الأئمة المعتبرون أقوالهم في الطرق أن التداوي بالخمر محرم، وأن التداوي بها محذور، وهذا كلام مبهم متروك على إشكاله. ونحن نذكر ما بلغنا من كلام الأصحاب وننقله على وجهه، ثم نَجري على دأبنا في البحث والتنقيح وردّ الأمر إلى ما يجب تنزيله عليه.
قالوا: من غُصَّ بلقمةٍ ولم يجد شيئاً يُسيغها إلا الخمر، فيجب تعاطيها، ومن أكره على شرب الخمر، لزمه شُربُها إذا خاف على روحه، أو ما يحل محل الروح.
وقد تقدم تفصيل القول في الإكراه.
فلو أشفى بسبب العطش، ولم يجد ما يطفىء غُلته إلا الخمرَ، تعيّن عليه شُربُها، كما يتعيّن على المضطر أكلُ الميتة. هذا قول الأصحاب أجمعين.
ثم تعرضوا للتداوي بالخمر وأجرَوْا ترتيبَ المذهب على أن التداوي بالأعيان النجسة سائغ كالترياق، وفيه لحوم الحيات وما في معناها من المعاجين التي تشوبها الأعيان النجسة، ورأَوْا الخمرَ مستثناة من الأعيان لتخصيص الشرع إياها، ثم من آثار التغليظ فيها الحدُّ، واسترْوَحوا في ذلك إلى ما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن التداوي بالخمر، فنهى عنه. وقال: "إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".
ثم بلغنا عن آحادٍ من الأئمة المتأخرين التشبيب بجواز المعالجة بالخمر من غير تدوين ذلك في تصنيف، وإنما ترامزوا به ترامز المتكاتمين. فهذا مسلك النقل.
11203- ومسلك التحقيق فيه: أن التداوي بالأعيان النجسة عندنا بمثابة تعاطي الميتة بسبب الضرورة، والحد الذي يجوز أكل الميتة له سيأتي في كتاب الأطعمة، إن شاء الله.
والقدر الذي نذكره هاهنا أنا نشترط العلم بأن تعاطيه يدرأ الضرورة، ثم في حد الضرورة كلامٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
فالتداوي الذي يتلقى من الأطباء في غالب الأمر لا يبلغ هذا المبلغ قطعاً. والبصير المتبحّر في الطب لا يجزم قضاءً على المريض. وهو المعني بقول بقراط: "التجربة خطر والقضاء عسر". والمراد أن القضاء بماهية المرض ثم بعلاج ناجع فيه عُسر؛ فإن صناعة الطب أسندها مُسندون إلى التجارب، وهي مُخطِرة، مع اختلاف القوى والخَلْق، والعاداتِ التي سبقت المرور عليها، وأسندها المحققون إلى القياس ودَرْكه، والاطلاع عليه أعسر مُدركاً من كل معضل في المدارك، فكيف يتحقق القضاء من الطبيب على بتّ هذا، والحذّاق مجمعون على إقامة الأبدال في الأدوية، وقد صنف فيها العاري كتاباً معروفاً.
ثم إن تحقق ما ذكرناه-وهيهات- فالحكم بأن ينفع ويُدِرّ العافية لا سبيل إليه؛ فإن التعويل على القوة، وهي خوانة تخون، فلا سبيل-والحالة هذه- إلى إطلاق القول باستعمال الأعيان النجسة، فإن فُرض ظهور الحاجة، وغلبةُ الظن بالنفع، فيجوز استعمال الميتة في هذه الحالة، وقد قدمنا من كلام الأئمة أن الخمرة تستعمل حيث يحل تعاطي الميتة، فلا معنى لوضع المذهب على الفرق بين الخمر وغيرها.
ومما قَضَّيت العجبَ منه أن المتأخرين أوردوا حديثاً ولم يعوه، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن التداوي بالخمر، فلم يجب عنها بل قال: "لم يجعل الله شفاءكم فيما حُرم عليكم " فلم يخص الخمر بمزية، بل أبان أن كل محرم، فهو كالخمر المسئول عنها، فلا يجوز الهجوم على التداوي بها بناء على غير ثَبَتٍ في جلب نفع ودفع ضرر.
11204- ووراء ذلك إشكالٌ وانفصالٌ عنه، وهو التتمة، ولا يتأتى الغرض إلا بفرض كلام يدركه من شدا شيئاً من صناعة الطب، وليس يضرنا تبرّم الجاهل به، فنقول: من حميت منه أجرام القلب وفاتحته الحمى المحرّقة، وبدت مخايل المدقوقين، فلا خلاف بين أهل الصناعة أن لحوم السرطان إذا طبخت بماء الشعير، فهي أنجع علاج، ثم انفكاك الحمى المحرقة عسرٌ غيرُ موثوق به. فهذا مما حصل فيه العلم بأنه العلاج، ولا ثقة بالزوال، بل لا بظنٍّ فيه غالب. فهذا موضع النظر، وهو محلّ التردد، يجوز أن يقال: لا يسوغ الإقدام عليه، فإن الانتفاع به غيبٌ، وهو كردّ السّغب، وسورة الجوع بأكل شيء من الميتة، أو كإساغة غُصة أو تطفئة غُلة بمقدارٍ من الخمر، وهذا يعتضد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم». وكذلك امتصاص ألبان الأُتُن من أطبائها.
ويجوز أن يقال: هو مباح، فإنه لو ترك كان في تركه غَرَر، ولا يسوغ تعريض الأرواح للخطر، بسبب الامتناع عن تعاطي النجاسة؛ وما حرمت النجاسات إلا إكراماً للآدميين حتى يتقذروا، ويتعففوا، وهذا الغرض لا يعارض خطر الروح، ثم لو فرضت مثل هذه الحالة في التداوي بالخمر، فلستُ أعتقد بينها وبين لحوم السراطين فرقاً، وإن كان المنقول عن الأصحاب الفرق مع أنهم أطلقوا الكلام، ولم يفصلوه.
وسمعت شيخي في بعض مجالس الإفادة يقول: إن الخمر في المعاجين تلتحق بالأعيان النجسة وأما إذا استعملت في نفسها، فهي تنفصل حينئذ عن الأعيان النجسة، والذي يحقق ذلك أن من شرب كوزَ ماءٍ وقعت فيه قطرات من خمر، والماء غالب بصفاته، لم يحدّ، وقد تقصَّيت ذلك في كتاب الرضاع، عند ذكر اللبن المشوب، فليطلب في موضعه.
فإذا خفي الخمر في المعاجين، سقطت ماهية الخمر، وصارت عيناً نجسة، وهذا حسنٌ. على أن الرأي السديد على ما قدمناه في المنع من التداوي بكل نجس إذا لم يقطع به أو لم يعلم مثله، وإن علم أنه ناجع، فيجوز من غير فرق. وإن علم أنه العلاج والنفع مغيب، ففيه التردد. وفي كلام القاضي ما يشير إلى تجويز التداوي، وإن أبهمه ولم يفصله؛ فإنه قال: لو شرب على قدر التداوي، لم نحدّه، وهذا يشير إلى تسويغ التداوي.
وقد نجز ما ذكرناه.
فصل:
قال: "ولا يحدّ إلا بأن يقول: شربت الخمر... إلى آخره".
11205- مقصود الفصل بيان ما يَثْبُت به حدُّ الشرب. فنقول: إن أقر بأنه شرب الخمر، ثبت الحد عليه. وفيه غائلة سنشير إليها. ولو شهد الشهود على إقراره، فالجواب كذلك. ولو شهدوا أنه يشرب الخمر، فالحكم ما ذكرناه، ولو قالوا: شرب من شرابٍ في قدحٍ شرب الغير منه، فسكر، فهذا بمثابة ما لو شهدوا على أنه شرب المسكر، ولو وجدناه سكراناً، لم نحدّه؛ لجواز أن يكون قد أُوجر الخمر، أو أجبر على تعاطيها، وكذلك إذا وجدنا رائحة الخمر تفوح من نكهته، لم نحده، لما ذكرناه، ولا نسائل، ولا نلح في المباحثة.
وأما ما أشرنا إليه من غائلة الفصل، فهو أن الإقرار بالشرب متردد بين شربٍ يقع إجباراً وشرب يقع اختياراً، وقد أطلق الأصحاب القول بأن الإقرار بشرب الخَمر يُثبت الحدّ، وذكروا مثلَ ذلك من الشهادة على شرب الخمر. وهذا فيه إشكال، لما ذكرناه من التردد.
وقد ذكر أصحابنا خلافاً في أن الإقرار بالزنا هل يكفي في إثبات الحد، أم لابد من التفصيل، والزنا عبارة عن جريمة، وشرب الخمر عبارة عن جريمة، فإنا قد نوجب شرب الخمر؛ فإذاً يحمل لفظ الإقرار والبينة على التردد، ووجه التردد في اللفظ ما ذكرناه، أما وجه الحكم بثبوت الحد، فهو أن الإنسان لا يقر على نفسه بالشرب وكان مكرهاً، فإطلاقه الإقرار قرينةُ أنه كان مختاراً، حالة محل التصريح، وكذا القول في الشهود.
والأوجه عندي أنه لا يثبت الحد ما لم يقع التعرض للاختيار. والعلم عند الله تعالى.

.باب: حدّ الخمر ومن يموت من ضرب الإمام:

11206- حقنا أن نصدّر هذا الباب بأحاديثَ وآثارٍ، ثم نُنْزل المذهبَ عليها.
روي أنه صلى الله عليه وسلم أُتي بسكران، فقال: "اضربوه، فضربوه بالأيدي، والنعال، وأطراف الثياب، وحثُوا عليه الترابَ، ثم قال؛ بكّتوه، أي عيّروه ووبِّخوه- ثم قال: أرسلوه".
فلما كان في زمن أبي بكر أُتي بسكران، فأَحضر الذين شاهدوا ذلك، فقوّموه بأربعين جلدة، أي عدّلوه بها، وكان يَجلد في أيام خلافته أربعين، وكذلك عمر في صدر خلافته. ثم تتايع الناس في شرب الخمر، فجمع الناس، واستشارهم، فقال: "إن الناس تتايعوا في شرب الخمر، واستقلوا هذا القدر من الحدّ، فماذا تَرَوْنَ؟ وكان عليّ رضي الله عنه فيهم، فقال: "أرى أن يجلد ثمانين؛ فإن من شرب، سكر، ومن سكر، هذى، ومن هذى، افترى؛ فأرى أن يبلغ حدَّ المفترين"، وكان يجلد عمر في بقية زمانه ثمانين، وجلد عثمان في خلافته ثمانين.
فلما آل الأمر إلى علي، عاد إلى أربعين، وقال: "ليس أحدٌ أقيم عليه حدّاً، فيموت، فأجد في نفسي منه شيئاً من أن الحق قتله، إلا شارب الخمر، فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن مات منه، فالدية على عاقلة الأمام، أو قال: في بيت المال " فالشك من الشافعي، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر حتى جُلد الشارب أربعين، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر، فاجلدوه، فإن عاد، فاجلدوه، فإن عاد، فاقتلوه» والقتل منسوخ بالإجماع في ذلك. وإنما نقل القول البعيد عن الشافعي في القتل في الكرّة الخامسة في السرقة.
11207- فإذا ثبتت هذه الأخبار، وقد استقصينا طرقها في الخلاف، فنقول: أجمع الأصحاب على أن الشارب يجلد بالسياط، ثم قال الأئمة: لو رأى الإمام ضرب الشارب بالنعال، وأطراف الثياب، كما نقل عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاز ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ولم يثبت فيه نسخ، ولم يعدل الصدّيق عنه إلا على تعديلٍ وتقريب صدر عن اجتهاد، والسبب الذي سوّغ ذلك للصدّيق أنه لم ير لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ضبطاً يسير إلى التحديد، وعلم أن ما كان كذلك، فللاجتهاد فيه مساغ. فإذا جاز العدول إلى السياط، فلئن يجوّزوا الضرب بالنعال وأطراف الثياب أولى. ثم الضرب معدلاً بمقدارٍ أمكنُ من تقدير ضربات ملتبسة بأربعين.
فإذا ساغ للصدّيق ما فعل، فلا منعَ من الرجوع إلى الأصل، هذا هو المذهب.
وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر أنه لا يجوز لنا الضرب بالنعال وأطراف الثياب؛ فإنا كُفينا مؤنة التعديل، وقد بعد العهد وتناسخت العصور، ونحن لو ضربنا بالنعال بين أن نحط عن القدر المستحق، وبين أن نزيد. وهذا وإن أمكن توجيهه، فالمذهب غيره، وقد نقله العراقيون، وزيفوه.
ولو رأى الإمام أن يجلد الشارب ثمانين تأسياً بما استقر عليه رأي أمير المؤمنين عمر، فالذي ذكره شيخي ومعظم الأئمة أن ذلك سائغ، على ما سنوضحه بالتفريع، إن شاء الله تعالى.
وقال القاضي: الصحيح من مذهبنا أنه لا مزيد على ما رآه الصدّيق في زمنه؛ من أنه عدله الشهادة الذين شاهدوا ما جرى في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان مستندُ حكمه ما ذكرناه. والذي رآه عمر رأيٌ له، ونحن لا نلتزم أن نتبع آحاد الصحابة رضي الله عنهم، إلا ما نراه معتقداً بأوجه المسالك، ثم قال: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يجوز تبليغ الحد ثمانين، فانتظم وجهان إذاً في هذا الطرف.
ولا خلاف أنه لا يجوز أن يتلقى من تردد الصحابة رضي الله عنهم في ذلك جواز المزيد على الثمانين.
11208- فإذا تبين ما يعاقب به الشارب، فنحن نذكر ما يتعلق بعقوبة الشارب لو أفضت إلى الهلاك.
قال الأصحاب: لو وقع الضرب بالنعال وأطراف الثياب، وأفضى إلى الهلاك، فلا ضمان. هكذا قاله الأصحاب، ولا شك أن من منع ذلك على الوجه الغريب الذي حكاه العراقيون؛ فإنه يثبت الضمان، ثم نفى الأئمة الضمان وهو مشروط بوقوع الضربات على حد يُعدَّل بأربعين جلدة من غير مزيد.
ثم قال الأئمة: إن جلدَ الإمامُ الشاربَ أربعين تأسياً بالصدّيق، فأفضى إلى الهلاك، ففي وجوب الضمان قولان:
أحدهما: يجب، لما روينا عن علي رضي الله عنه، أنه قال: "إلا الشارب، فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفيه معنىً، وهو أنه معدول عن المنقول عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما يستقيم لو لم يصح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلد الشارب أربعين، وقد روى الأثبات ذلك. فعلى هذا إن صح الخبر يجب نفي الضمان كما يجب ذلك في حد الزنا، وحدّ القذف.
فإن لم نوجب الضمان، فلا كلام، وإن أوجبناه فالذي ذهب إليه أهل التحقيق أنا نوجب عليه الضمان بكماله؛ من جهة اتفاق العدول عما كان إلى جنسٍ آخر، وإذا اختلف الجنسان، امتنع التقسيط، ولم يتجه إلا نفيُ الضمان أو إيجابُه وكمالُه.
وذكر العراقيون وجهاً آخر أن الإمام يضمن ما بين الضرب بالنعال والضرب بالسياط، فإنه يكون أشدَّ إيلاماً وأنجعَ وقعاً، فيقدر بينهما شيء بالتقريب والاجتهاد، ويلزم ذلك القدر، وهذا الذي ذكروه في نهاية البعد، والمذهب ما ذكرناه. وقد بان حكمُ الضمان فيه إذا جلد الشارب أربعين، أو أمر حتى ضرب بالنعال وأطراف الثياب.
11209- وأما إذا جلده ثمانين على رأي عمر رضي الله عنه، فمما نذكره في ذلك أن الأربعين المضمومة إلى أربعين غريبة في وضع الحدود والعقوبات؛ فإنا إن قدرناها من الحدّ، كان محالاً؛ فإنها زائدة على ما جرى في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن الصديق، مع الاتفاق على التعديل بالأربعين، فإذا لم تكن من الحد، فضم تعزير إلى الحد بعيد، وتبليغ التعزير مبلغ الحد بعيد، والممكن في الجواب عما ذكرناه أن التعزير رآه من رآه لما يتعلق بالتصدي للافتراء والهذيان، وحد المفترين ثمانون، والأربعون الزائدة ناقصة عنها.
وإذا حصل التنبه لما ذكرنا، وجلد الشارب ثمانين، فإن رأينا تمام الضمان لو حصل الموت بالأربعين، فلا إشكال، وإن لم نوجب الضمان بالأربعين، وهو الظاهر، فلا إشكال أنا نوجب الضمان بالثمانين. ثم اتفق الأصحاب على التنصيف، فنوجب شَطر الضمان، ونهدر شطره؛ إذ الزائد مثلُ المزيد عليه.
ولو زاد الجلاد سوطاً على حدٍّ محدودٍ، لا اجتهاد فيه، كحدّ القذف مثلاً، فإذا فرض الموت، وجب الضمان للزيادة. ثم في قدره قولان مشهوران:
أحدهما: أنا نسلك طريق التنصيف، ولا ننظر إلى أعداد الجلدات بل يعدّل الضمان: يوزع بين الحق والباطل، فيهدر نصفه، ويثبت نصفه، وهذا كما لو جرح رجل رجلاً مائة جراحة، وجرحه آخر جراحة واحدة، فإذا خرجت الروح، فالدية نصفان، توزيعاً على الجنايتين ولا نظر إلى أعداد الجراحات.
ولو أمر الإمام الجلادَ أن يضرب ثمانين، فامتثل أمر الإمام، لم يتعلّق الضمان بالجلاّد أصلاً، وإن كان مختاراً غير مكره؛ لأن فعله يضاف إلى الإمام، وسنذكر إن شاء الله تعالى في الجلاّد كلاماً شافياً، في الأصل الذي يعقب هذا الفصل.
11210- وإذا لم نعلق الضمان بالجلاد في مسألتنا، فإنا نعلقه بالإمام، ثم يجب شطر الضمان على قولٍ، وتمامه على قول.
ولكن إن أوجبنا الضمان بالأربعين، فلو أمر الجلادَ بالثمانين، فضرب أحداً وثمانين، فينتظم من الأصول-إذا فُرض الموت- في هذه الصورة أوجه: أحدها: أن الدية تقسط وتبسط على الجلدات، فنجعل أحداً وثمانين جزءاً، في مقابلة أربعين جلدة، فنوجب أربعين على الإمام، لأمره بالأربعين الزائدة- وإذا أضفنا على الإمام، فهو على عاقلته أو على بيت المال، وفيه كلام يأتي إن شاء الله عز وجل، وتجب واحدة من أحدٍ وثمانين جزءاً على الجلاد. هذا وجه.
والوجه الثاني- أن نجعل الضمان نصفين؛ توزيعاً على الحق والباطل، ونسقط نصفاً، والنصف الثاني نوجب منه نصفاً على الإمام، نصفاً على الجلاد.
والوجه الثالث: أنا نسقط نصفاً، ونوجب من النصف الثاني أربعين جزءاً على الإمام، وجزءاً على الجلاد.
والوجه الرابع- أنا نجعل الدية أثلاثاً، فنهدر ثلثاً، ونوجب على الجلاد ثلثاً، ونعلق بالإمام ثلثاً.
وهذه الوجوه مستندةٌ إلى الأصول إلا وجهاً واحداً، وهو قوله: نهدر نصفاً ونجعل النصف أحداً وأربعين جزءاً، بين الإمام والجلاّد؛ فإن هذا جمع بين التنصيف واعتبار عدد الجلدات، وهذا فيه اختلاط. والأمر فيه واضح.
فصل:
قال: "وإن ضرب أكثر من أربعين... إلى آخره".
11211- مضمون هذا الفصل الكلامُ في تعليق الضمان إذا أخطأ الإمام، فنقول: ما يصدر عن الإمام مما لا يتعلق بمصالح الإمامة، ولكنه من خواص أفعاله، فهو منه كآحاد الناس، فلو رمى سهماً، فأصاب إنساناً، فهذا خطأ منه، والدية على عاقلته بلا خلاف. وإن تعمّد قتلاً موجباً للقصاص، استوجب القصاص. ولا خفاء بهذا.
والفصل غير معقودٍ له.
11212- فأما ما يعرض من أخطائه في استيفاء الحدود والتعزيرات، وإقامة
السياسات، التي هي على شرط السلامة، كما سنفصل ذلك من بعدُ، إن شاء الله تعالى، وإنما الغرض الآن اعتقاد الضمان حيث يجب، فإذا لم ينسب الإمامُ إلى تقصيرٍ بيّن، وإنما جدّ واجتهد، ولكنه زلّ وأخطأ، فاقتضى الشرعُ الضمانَ، نُظر: فإن كان ذلك في مالٍ، ففي تعلّق الضمان قولان:
أحدهما: أنه يتعلّق بمال الإمام.
والثاني: أنه يتعلّق بمال بيت المال، يعني السهمَ المرصد للمصالح، وسنوجه القولين إذا استوعبنا الصور والتقاسيم.
فإن كان الخطأ في نفسٍ، فقولان:
أحدهما: أن الدية على عاقلة الإمام، كما لو جرى منه الخطأ في أفعاله التي تخصه.
والثاني: أنها تتعلق ببيت المال.
التفريع:
11213- إن حكمنا بأن الدية مضروبةٌ على عاقلته الخاصة، فالكفارة في ماله؛ فإن العاقلة لا تتحمل الكفارة. وإن قلنا: الدية مضروبة على بيت المال، ففي الكفارة وجهان:
أحدهما: أنها على الإمام؛ فإن التحمل لا يتطرق إلى الكفارة، ولذلك لا تتحملها العاقلة الخاصة حيث تتحمل العقل.
والثاني: أنها في بيت المال؛ فإن المعنى الذي يوجب صرفَ الدية إلى بيت المال التخفيفُ عن الإمام، وعن عاقلته، وهذا يعم الكفارة والدية.
ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من القولين فيه إذا لم يظهر تقصير الإمام في الواقعة، فإن ظهر تقصيره، فلا خلاف أن ما يلزم لا يُضرب على بيت المال، وهذا يتبين بمثالين، فنقول: الحامل إذا زنت لا يقام الحدّ عليها، فلو أقام الإمام الحدّ على علمه بالحمل، فالغُرة إذا ألقت الجنين لا تضرب على بيت المال، بل تضرب على عاقلته الخاصة، وإنما خصصنا هذه الصورة بالذكر، لأن العمد المحض لا يتصوّر في الجناية على الجنين، ومع ذلك لم نضرب الغرة على بيت المال، وفي هذا لطيفة، وهي أن الإمام إذا أقام الحد على الحامل، فهو في الحيد عن حكم الصواب عامد، ولكنه في الجناية على الجنين على حدّ شبه العمد، وهذا التنبيه كافٍ. والمقاصد بكمالها تستوفيها الصور، ثم تضبطها التراجم على أثر الفصل.
توجيه القولين في الأصل:
11214- من قال إن خطأ الإمام في إقامة أحكام الإمامة مضروب على بيت المال احتج بأن الوقائع المرتفعة إلى الإمام لا تعد كثرةً، ولا يتصوّر أن يستقلّ الإمام بالعصمة فيها، فلو كانت الغرامات المتعلقة بما يقع من خطئه مضروبة على ماله، أو على عاقلته، لافتقر، وأفضى الأمر إلى ما لا يطاق، وهو نائبٌ عن المسلمين، فاعل عنهم، وتعلّقه بالمسلمين كافة كتعلّق الجلاّد به، ثم الضمان محطوط عن الجلاد إذا لم يصدر من جهته عدوان، فينبغي أن يُحَطَّ عن الإمام.
هذا وجهُ هذا الوجه.
ومن قال بالوجه الثاني: احتج بأنه نُصب ليكون هو الناظر، ثم هو نائب المسلمين في الصواب، وأما الجلاّد، فإنه سيف الإمام، ولا نظر له، وقد يشهد لهذا القول ما روي أن عمر بن الخطاب ذكر عنده أن امرأة من نساء الأجناد يغشاها الرجال بالليل، فأرسل إليها عمر يدعوها، وكانت ترقى في درج، ففزعت فأجهضت ذا بطنها، فاستشار عمر رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: إنك مؤدِّب، ولا شيء عليك، فقال علي رضي الله عنه: إن اجتهد، فقد أخطأ، وإن لم يجتهد، فقد غشَّك. عليك الدية"، فقال: "عزمتُ عليك لتقسمها على قومك" قيل: أراد بذلك عاقلة نفسه، وأضافها إلى علي إكراماً له وإعزازاً، وإعراباً عن اتحادهما. وقيل: أراد قوم علي لأنهما كانا من قريش يجتمعان في كعب بن لؤي بن غالب.
واختلف في قول علي: إن اجتهد، فقد أخطأ، فقال بعض المتكلفين: أراد بذلك الرسولَ، معناه: إن اجتهد الرسول في رعاية الوقت والمكان في تأدية الرسالة، فقد أخطأ، وإن لم يتعرض لتخيّر مكان وزمان، فقد غش. وهذا بعيد.
والصحيح: أنه أراد بما قال عبدَ الرحمن بنَ عوف. وكان قد يغلظ البعض على البعض القولَ في المناظرات.
11215- وإذا تمهد القولان وتفريعهما، فإنا نذكر صوراً ونخرّجها على ما مهدنا: فإذا ضَرَبَ في الشرب أربعين، فمات المحدود، وأوجبنا الضمان، ففي المسألة قولان. وإن جلد الشاربَ ثمانين، وقلنا: له ذلك على شرط سلامة العاقبة، ففي تضمينه قولان أيضاً؛ فإنا نجوز له من طريق السياسة أن يفعل ما فعل، والتعزيرات إذا أفضت إلى الهلاك، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى إن لم يظهر تقصيره فيها، ففي محل الضمان قولان، وإن ظهر سرفُه ومجاوزته الحد، فهذا يختص به قولاً واحداً- والتعويل على ما قدمناه من ظهور التقصير، ووقوعِ الأمر خطأ في الاجتهاد في إقامة السياسة.
11216- ومن الصور التي نذكرها ملتحقة بخطأ الإمام أنه لو شهد عنده على العقوبة شاهدان، فعليه البحث عن أحوالهما، فإن لم يفعل وترك البحث، وأجرى العقوبة، فالذي جاء منه ليس من خطأ الأئمة؛ فإنه تناهى في التقصير، وترك ترتيبَ الخصومة، والقيامَ بما هو مأمور به من البحث والتنقير، فإذا بانا عبدين أو فاسقين أو كافرين، فالإمام يختص بالضمان إذا حكم، قولاً واحداً.
وإنما يتردد نظر الفقيه في وجوب القصاص، والأظهر الوجوب إذا تحقق الزلل؛ فإن الهجوم على القتل ممنوع منه بالإجماع، وقد يُحتمل أن يقال: أسند القتل إلى صورة التثبت، فيندفع القصاص، وهذا له التفاتٌ إلى صورتين يضطرب الرأي فيهما: إحداهما- أن يقتل الإنسان مسلماً في ديار الكفر على زي مشرك، ثم يبين أنه كان مسلماً، فلا قصاص، وفي الدية قولان.
والصورة الأخرى: أن يقتل مسلماً في ديار الإسلام على زي المشركين، ففي وجوب القصاص قولان، وقيام الشهادة وصورتها لا ينقص عن زي مشرك في دار الإسلام، ومن الصور الناظرة إلى هذه المسائل، ما لو قتل رجلٌ رجلاً، وقال: حسبتُه قاتلَ أبي. فهذه مسالك النظر ومجامع الرأي، وليست غرضَ الفصل.
11217- فأما إذا بحث عن أحوال الشهود، ولم يظهر منه تقصير، ثم بان الشهود عبيداً، أو كفرة، أو مراهقين، فلا شك في وجوب الضمان، ثم يعود القولان في أن الضمان يتعلق بعاقلة الإمام المختصين به، أم يتعلّق ببيت المال، وقد تقدم التوجيه والتفريع.
والذي نزيده أن الأئمة قالوا: إذا جرى الغرم، ثبت الرجوع على الذين تصدَّوا للشهادة، والسبب فيه أنهم تعرّضوا لمنصب ليسوا من أهله، حتى جرّ ذلك قتلاً أو إتلافَ مال، ونحن نقول: من ليس من أهل الشهادة، وعلم ذلك من نفسه، فليس له أن يتعرّض لإقامة الشهادة، وإن كان صادقاً، فهذا سبب الرجوع، وأشبه أصلٍ بما نحن فيه الغرم الذي يثبت على المغرور في قيمة الولد مع ثبوت حق الرجوع على الغارّ، ولعلّ الشاهد أقوى في هذا المعنى، لأنها تحمل القاضي حمل اضطرار، والمغرور مستبيح لا ضرورة به. هذا هو المذهب الظاهر.
11218- وذكر بعض المحققين وجهاً آخر أنه لا رجوع على الشهود، وذلك أن القاضي أُتي من تقصيرٍ خفي في البحث، فارتبط الضمان بجهته وانحصر، وليس كالغار والمغرور، وذلك أن المغرور لا يُلزمه الشرعُ بحثاً، بل له الجريان على ظاهر الحال، والشرع يُلزم القاضي التناهي في البحث، فإذا وقع ذلك، كان محمولاً على ترك البحث، فإن لم نُثبت الرجوعَ، فلا كلام.
وإن أثبتنا الرجوعَ، نُظر: فإن كان الشاهد كافراً، فالرجوع عليه بيّن، ويرجع على الكافرَيْن اللذَيْن شهدا في الحال، وإن بان الشاهدان عبدين، والتفريع على إثبات الرجوع، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الرجوع به يتعلق بذمّة العبدين يُتبعان به إذا عَتَقا. والوجه الثاني- أن المرجوع به يتعلق برقابهم؛ فإن هذا غرمٌ يلزمهما عن جهة معاملة صَدَرُها عن رضا من له الحق، وإنما يتعلق بذمة العبد ديون المعاملات الصادرة عن رضا أصحاب الحقوق من غير إذنٍ من السيد، والشهادة بهذه المثابة.
وهذا متجه، ولكنه غريب عديم النظير؛ من جهة أنه جناية قولية ليس فيها اضطرار محقق، وإنما الأمر مظنون.
فأما إذا بان الشاهدان مراهقين، وقد يمكن التباس ذلك-بأحوالٍ تعرض فيهما من بقول الوجه، وطول القامة وغيرهما من الصفات- على القاضي، ولم يتعرض الأصحاب للمراهقَين، والمفهوم من فحوى كلامهم أن لا رجوع عليهما، إذ لا قول لهما، بخلاف الكافرَيْن، والعبدَيْن.
ثم قال: "ويجوز تعليق الضمان بهما، إذا قلنا: قول العبد بمثابة الجناية، فإن الجناية الحسيّة تصدر من الصبيان صُدورَها من البالغين".
11219- ولو بان الشاهدان فاسقَيْن، ففي انتقاض القضاء خلاف واختلاف، على ما سيأتي في الشهادات، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا بانتقاض القضاء-كما إذا بان الشاهدان كافرين أو عبدين، أو مراهقين- فالقاضي يغرم إذا أضفنا الغرم إليه، ولا تقصير في الظاهر. هو إشارة منا إلى القولين في أن الغرم يختص به أو بعاقلته، أم يتعلق ببيت المال، وهل بيتُ المال له الرجوع على الفاسقين؟
فإن قلنا بالرجوع على الكافر والعبد، ففي الفاسق تفصيل. فإن كان ما رآه القاضي فسقاً مجتهداً فيه، فلا رجوع على الفاسق قولاً واحداً؛ فإنه مصر على شهادته وعلى أنه من أهل الشهادة.
ولو كان ما فُسّق به مما يوجب التفسيق وفاقاً، ففي هذا نظر: فإنا بلغنا عن مذهب أبي حنيفة أن الفاسق من أهل الشهادة، وقيل: إنه استثنى من ذلك حدّ الزنا، وقيل: إن كان فاسقاً كذوباً يغلب على القلب كذبه، فليس من أهل الشهادة. وأطلق أبو حنيفة كونَ الفاسق من أهل الشهادة، وكذلك قضى بانعقاد النكاح بحضور فاسقين، وجعل الفاسق من أهل اللعان، ولا تعويل على مذهبه في طلب القواعد، فإنه حكم بانعقاد النكاح بحضور محدودَيْن في القذف، ولم يجعل المحدود من أهل اللعان.
ولنا عَوْصاء بالتنبيه على ذلك أن الأصحاب أطلقوا أقوالهم بأن القاضي لا يرجع على الفاسق؛ فإن الفاسق من أهل الشهادة على رأيٍ. وهذا فيه نظر؛ فإن العبد من أهل الشهادة عند شطر الأمة، وهو من أهل الرواية بلا خلاف، فينبغي أن يكون مأخذ هذا من أصل آخر، وهو أن نقول: إن كان التفسيق مجتهداً فيه، فلا رجوع بما ذكرناه، وإن كان التفسيق بما يوجب التفسيق وفاقاً، فيحتمل أوجهاً: أحدها: ثبوت الرجوع بما ذكرناه في الكافر والرقيق.
والثاني: أن لا رجوع أصلاً، لأن الفاسق مأمور بكتمان فسقه، والعبد والكافر مأموران بإظهار حالهما. والثالث: أنه إن كان مستسرّاً بالفسق مكاتماً، فلا رجوع، وإن كان معلناً بالفسق غير مبالٍ به، فهو كالرقيق، وهذا يقرب من اختلاف الأصحاب في أن المعلن بالفسق لو شهد، فردّت شهادته ثم أظهر العدالة وأعاد الشهادة، ففي قبول تلك الشهادة خلاف.
هذا منتهى القول في الصور التي أردنا ذكرها في غلط الإمام. ثم ذكر الشافعي على أثر هذا الكلامَ على الجلاد، وهذا لائق بهذا المنتهى.
11220- قال: "وليس على الجالد شيء... إلى آخره".
الجلاد سوطُ الإمام وسيفُه، فإذا قَتل وقَطع وجَلد- وهو يُصدر جميعَ أفعاله عن أمر الإمام- فلا يتعلّق به ضمان إذا لم يكن مطلعاً على حقيقة الحال، وإنما يَتَّبِع، ويرتسم، ولا يُشترط أن يكون مكرهاً؛ فإنا لو شرطنا ذلك، ضاق التصرف على الإمام، واحتاج إلى التكفل بالجلاد، والتوثق منه بالحبس، وذلك يخالف قاعدة الشرع وسِيَر الأولين، ولو راعينا الإكراه، لخرّجنا الجلاد على اختلاف الفقهاء في المكرهين. فقد تأسس الشرعُ على أن الجلاد لا ينتاط به غرمٌ ولا طِلْبَة، وأمرُه من النوادر؛ فإنه قاتلٌ مباشر مختار، لا يتعلّق به في القتل بغير حق حكم، والكفارة من أسرع أمرٍ يثبت في القتل، ولا كفارة على الجلاّد.
ثم ينشأ من هذا أن الإمام إذا ظلم، وأمر بالقتل من غير إكراه، فالقصاص واجب عليه، فإنا إذا أقمنا الجلاد سيفاً، فالإمام في حكم الضارب به، ويترتب على هذا الأصل أن الجلاد ليس عليه بحث، وإنما عليه انتظار المراسم والابتدار إليها؛ إذ لو تعيّن عليه ذلك، لما تولى الأمرَ إلا ذو نظر. وذلك يطول. ثم ما ذكرناه في الإمام الحق.
فإن فرض متغلبٌ في الدهر، وشغورُ الزمان عن الإمام، فالقول في ذلك يطول، وقد نرى تعليق الأحكام بالمتغلّب، وهذا عمرةُ أحكام الإيالة، وقد فرّعنا أبوابها في الكتاب المترجم (بالغياثي).
11221- ولو علم الجلادُ أن القتل ظلم إجماعاً، وهو مختار، فإذا قتل، التزم القصاص، فإنه إنما يؤجر بالامتثال فيما يعلم كونَه حقاً، أو فيما يعتقده حقاً، وهو يتبع فيه رأي الإمام تقليداً، فأما إذا علم أن القتل ظلم، فلا يحل له الإقدام، ولا إكراهَ حتى يُخرَّجَ فعلُه على تردّد العلماء، وإذا كان كذلك، فلا ضمان على الآمر؛ فإن أمره حيث صوّرنا ليس إجباراً، والمباشرة تامة، فلا أثر للسبب معها.
ولو قتل الجلاّدُ رجلاً، ثم قال: كنت أعتقد تحريم قتله، ولكني قلتُ: لعل الإمامَ اعتقد تحليله على رأي بعض العلماء، وتصوير ذلك أن حُرّاً لو قتل عبداً، فقتله الجلاّد بأمر الإمام، وهو يعتقد أن الحرّ لا يقتل بالعبد، والإمام كان يرى وجوب القصاص على الحرّ، فهل يضمن الجلاّد؛ من حيث إنه خالف اعتقاد نفسه؟ ذكر العراقيون في ذلك وجهين:
أحدهما: أنه يلزمه الضمان، اعتباراً بعقده، وكونِه مختاراً.
والثاني: لا يلزمه اعتباراً باعتقاد الإمام. ثم قالوا: إذا علّقنا الضمان بفعل الجلاّد، فهو قصاص؛ فإنه قتل حُرّاً بغير حق على موجَب عقده، وصار كما لو فعل ذلك من غير أمر الإمام. وإن قلنا: الحكم لاعتقاد الإمام، فلا شيء على الجلاد أصلاً، وكان لا يبعد لو درأ القصاص وأثبت المال والكفارة. ولكن الذي ذكروه هذا.
11222- وهذا التردد ينتج كلاماً، وهو أن الجلاّد هل له أن يخالف عقدَ نفسه، ويتبع عقد الإمام؟ فعلى وجهين. فإنا قلنا: لا ضمان عليه مع كونه مختاراً، فهو مبني على أن له أن يُقدم عليه، ولهذا نظائر: منها أن يقضي القاضي الحنفي للشافعي بشفعة الجوار، أو بالتوريث بالرحم والرّد، فهل يحل للمقضي له ما يجرى القضاء به؟ فيه اختلاف، رمزنا إليه فيما تقدّم، وسنذكر أصله وحقيقته في آداب القضاء، إن شاء الله عز وجل. وامتثال الجلاد أمر الإمام فيما نحن فيه أَوْجَه، وإن كان يخالف عقده، لأن أمر الإمام مطاعٌ ممتثل، وحقه أن يُتّبع، وإقامة العقوبات ليست حقَّ الجلاّد، وإنما هو فيها متابع متَّبِع، والمقضي له بالشفعة على خِيَرته في ترك حق نفسه، وكان الوجه ألا يحلّ له ما يجرى القضاء به إذا خالف عقده، فإن القضاء لا يغير أحكام البواطن، وهذا ظاهر في الفرق.
والوجه عندنا القطع بأنه لا يحلّ للشافعي أن يأخذ ما يخالف معتقده، ورَدُّ الخلافِ إلى أنه هل يمنع من ذلك ظاهراً؟ فيقال: إن دعواك هذه باطلة، بمخالفتها عقدك؟ ويجوز أن يقال: لا يتعرض له في ظاهر الأمر، لجواز أن يكون منتحلاً هذا المذهب. فأما ذكر الخلاف في الاستحلال باطناً، فبعيد، والتردد الذي ذكرناه في الجلاد متجه لما أشرنا إليه من الاتباع ومعاونتِه على ما يريد إمضاءه موافقاً لعقده.
11223- ثم صوّر العراقيون صورة على عكس ما تقدّم، فقالوا: لو كان الإمام لا يعتقد وجوب القصاص على الحر بقتل العبد، ولكنه أمر بقتله بغير فحصٍ وتجسيس، ولو اطلع، لمنع قتله، وكان الجلاد يعتقد أن الحرّ مقتولٌ بالعبد، فإذا قتله على موجب عقد نفسه.
قالوا: إن قلنا في المسألة الأولى: إنا نعتبر رأي الإمام، ففي هذه المسألة يجب القصاص، اعتباراً برأي الإمام، فإنه لو اعترف حقيقةَ الحال، لما أمر بالقتل، والجلاّد عارف إن لم يكن الإمام عارفاً، وقد فرّط لما لم يُخبر الإمامَ، فصار كأنه قتل بنفسه من غير إذنٍ من الإمام.
وإن قلنا في المسألة المتقدمة: إن الاعتبار بعقد الجلاد، ففي هذه المسألة احتمال عدم إيجاب القصاص على الجلاد؛ تعويلاً على عقده، وقد وجد الأمر من الإمام على الجملة. وهذا الوجه عندي ضعيف في هذه الصورة؛ فإن الجلاد مختارٌ عالم بحقيقة الحال والإمام لو أُخبر، لما أمر، فلا يبقى لأمر الإمام هاهنا أثر الاستتباع، والسبب فيه أن الإمام لا يفوِّض إليه الاجتهاد، وإنما استعمله للعمل فحسب، فإذا امتنع عمله بعقده، واقترن بأمر الإمام جهله بحقيقة الحال، صار الجلاّد مستقلاً بالقتل.
ثم لو أَخبر الإمامُ الجلادَ بأنه ظالم، فتابعه الجلاد، فعليه الضمان. وهذا على القطع فيه إذا كان الإمام مُكرِهاً، والجلاد محمولاً مكرهاً، ثم يخرج فيه تفاصيل الإكراه. فأما إذا كان الجلاد مختاراً، فلا يتوجه الضمان على الإمام قطعاً، وهذا لا خفاء به. وعلى هذا الوجه فصّله الأصحاب، والصيدلاني، وهو مما لا يتمارى فيه.
فصل:
قال: "ولو خاف نشوز امرأته... إلى آخره".
11224- للزوج تأديب زوجته إذا نشزت، والأب يؤدب ولده، والمعلّم يؤدب الصبي، ولكن هؤلاء المؤدِّبين مطالبون شرعاً بأن يقتصروا على ما يقع التأديبُ به، على شرط السلامة، وتحقيق هذا أن التأديب لو كان لا يحصل إلا بالضرب المبرِّح الذي يُخشى من مثله الهلاك، فلا يجب تحصيل التأديب، وليس هذا بمثابة عمل الأجير في تحصيل الغرض الملتمس منه في العين المملوكةِ المسلَّمةِ إليه؛ فإن المستأجِر إذا التُمس منه ما لا يتأتى تسليمه إلا بعيب يلحق العين المسلّمة إليه، فإذا حصل الغرض، ولحق العيب، لم يجب الضمان، على الرأي الظاهر، كما فصلناه.
وإن كان التأديب يحصل بما لا يُفضي إلى الهلاك، يباح تحصيله، وإن لم يجب.
وقال المحققون: إذا كان لا يحصل التأديب إلا بالضرب المبرِّح، فلا يجوز الضرب الذي لا يبرّح أيضاً، فإنه عريٌّ عن الفائدة. ثم إذا اعتقد المؤدب أنه اقتصر واقتصد، واتفق الهلاك، فنعلم أنه مخطىء في ظنه، فإن القتل لم يحصل إلا لمجاوزته الحدَّ.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن قتيل التعزير مضمون، فإن كان التعزير على حدّ الإسراف، فهو قتلُ عمد إذا كان يُقصد بمثله القتل غالباً، وإن كان بحيث لا يقصد به القتل، فهو شبه عمد، وليس خطأ. وإن كان التحصيل في الأصل جائزاً. وهذا من لطيف الكلام.
11225- وأما الإمام إذا عزر، فأفضى تعزيره إلى الهلاك، فنقدم على هذا القولَ في أن التعزيرات هل تُستحَق؟ أطلق الأئمة الأقوال بأنها لا تجب، وهي مفوّضة إلى الإمام، واستدلوا بترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعزيراتٍ في وقائعَ أساء أصحابها آدابهم.
وهذا الكلام لا مزيد عليه، ولكنه يحتاج إلى فضل بيان، فليس ما ذكرناه من التفويض إلى الإمام تخيّراً صدَرُه الإرادة من غير سبب، ولكنْ حقٌّ على الإمام أن يرعى مصالح الخلق، فإن رأى إقالةَ عثرةٍ، وجرَّ ذيل الصفح على هفوة، فليفعل ذلك. ولا يسوغ والحالة هذه التعزير، وإن غلب على ظنه أن وجه الاستصلاح في ضرب من تعرّض للتعزير، فحق عليه أن يضرب.
والحدود تتميز عن التعزيرات بأنها إذا ثبتت، فلا اجتهاد ولا تردد فيها، وقد قطعت النصوص رأيَ كل ذي رأي فيها، فلا وجه إلا إقامتُها إذا حُقت، وإن ثبت ما يدفع ويدرأ، فلا وجه للإقامة، والتعزيراتُ مفوضة إلى الاجتهاد. هذا مراد الأئمة لا غير.
ثم قتيل التعزير مضمونٌ؛ من جهة أن الإمام يجب عليه الاقتصار في التعزير على المبلغ الذي لا يُهلك، كما ذكرناه في تعزير الزوج، والولي، والمؤدب، فهذا مأخوذ على الإمام، وهو مؤاخذ بما ذكرناه، وليس هذا عن جهة خروج التعزير عن المقدار المتلقى من التوقيف، فإنا لا نضمِّن الدافع إذا رأيناه مقتصراً على حاجة الدفع، وإن لم تكن أبوابه محدودة توقيفاً، ولكن قيل: لا موقف لك، فاتبع حاجتك في الدفع، وإن أتى على القاصد.
وليس للإمام أن يعزر إلى حصول القتل، بل إلى حصول التأدّب.
11226- ومما تردد الأئمة فيه أن التعزير إذا تعلق بحق الآدمي، مثل أن يُعرِّض بقذف محصن، أو يصرّح بقذف من ليس بمحصن، أو يكرر القذف بزنا قد حُدّ فيه، فهذه التعزيرات متعلّقةٌ بحقوق الآدميين، فإذا طلبوها، فهل للإمام ألاّ يقيمها، إذا رأى الصفح، والتجاوز أولى؟ اختلف أئمتنا: فصار صائرون إلى أنه لا خِيرةَ للإمام، وحقٌّ عليه أن يسعف الطالبَ قياساً للتعزير في هذه المقامات على الحدود إذا وَجَبَتْ.
ومن أصحابنا من قال: لو رأى الإمامُ الصفحَ والسعي في الإصلاح، فعل، كما يفعل في الأمور العامة. وهذا الوجه أعوص من الأول؛ فإن مقدار التعزير إلى الإمام، والتغليظ بالقول من التعزير، ونحن لا نعتقد تصوّر صورة لا يرى الإمام فيها رأيه؛ فإن من أساء أدبه بالجهات التي ذكرناها لا نسكت عنه، ولا نُكره على مقابلة سوء أدبه. فيؤول هذا إلى أن الإمام لو أراد الاقتصار من التعزير على كلامٍ، فهل له ذلك؟
ومما يتعلّق بهذا أن المُؤْذَى بالتعريض أو التصريح لو عفا ورأى الإمام أن يؤدبه حقاً لله تعالى؛ حتى لا يستجرىء على أمثال ما صدر منه؟ فهذا فيه تردّدٌ نجمعه إلى آخر، وهو أن من استحق الحدّ أو استحق القصاص لو عفا عن حقه، فهل للإمام أن يعزره بما يراه استصلاحاً؟ فيه تردّد.
وإذا ضممنا صور التعزير إلى صور الحدود، انتظم منها أوجه: أحدها: أن الإمام لا يضرب إذا عفا صاحب الحق.
والثاني: له أن يعزر نظراً إلى الصلاح الكلي.
والثالث: أنه لا يعزر في مقام الحدّ إذا عفا مستحِقُّه؛ لأنه غير مفوّض إلى اجتهاد الإمام إذا طلب؛ فلا يفوّض إليه الأمر إذا عفا المستحِق، والتعزيرات في قاعدتها مفوضة قدراً ومحلاً إلى اجتهاد الإمام.
هذا مقدار ما أردناه في ذلك، وفي المبالغ المرعية في التعزيرات كلام للأصحاب يأتي في الباب، إن شاء الله.
فصل:
قال: "وإذا كان برجل سِلْعَةً، فأمر السلطان بقطعها... إلى آخره".
11227- هذا الفصل قد يعدّ من الجليات، وفيه غوائل، أكثرها يتعلّق بالزلل في التصوير ونحن لا نألو جهداً في البيان، إن شاء الله عز وجل. فنقول: أولاً السِّلعة غدد تخرج بعضوٍ من الأعضاء، لا تكون مفضيةً إلى ضرر، ولكنها تشوّه الخَلْق، وتسوء، وقد يُخشى منها الإفضاء إلى أمرٍ مخوف، فإذا تأكَّلَت جارحةٌ، وكانت تتداعى، فلا يخفى أن قطعها إذا استصوبه أهل البصائر مما يؤثر في الدفع على ما سنفصل ونصف.
ونحن نفرض ما نريدُ من ذلك في البالغ المستقلّ المالك لأمر نفسه، ثم نعود إلى أحكام الولاة، فنقول: إذا لم يكن في قطع السِّلعة خوفٌ، فأراد صاحبها قطعَها لإزالة شَيْن، فلا حرج عليه في ذلك. ولو كان في قطعها تخوّف، وليس في بقائها إلا الشين، فلا يحل للإنسان أن يقطعها من نفسه؛ فإن التعرّض للخوف لا يعادل الشَّيْن.
ولو كان في قطعها خوف، فنقول في تفصيل ذلك: إن كان لم يظهر الخوف في القطع، وظهر الخوف في التبقية، فيجوز القطع لا خلاف فيه، فإن قطع من نفسه، جاز، وإن أمر من يقطعها منه، فللغير أن يقطعها بأمره؛ فإنه أمير نفسه، وتصرّفه على هذا الوجه أولى من تصرّف الغير في الغير، وهو بمثابة الأمر بالحجامة والفصد، وما في معناهما.
وإن كان في القطع خوف، وفي التبقية خوف، ومقادير الخوف وأوزانه لا تعتدل، فإن كان الخوف في التبقية أكثرَ وأغلبَ على الظن، وكان في القطع خوف أيضاً، فالذي صار إليه الأصحاب في الطرق أن له أن يقطع، ويأمر بالقطع لاستفادته غلبةَ الظن، على ما وصفناها، وإن استوى الأمران، واعتدل الخوفان، ولم يترجح أحدهما على الثاني، فقد كان شيخي يختار أنه لا يحل له القطع هاهنا؛ إذ لا فائدة فيه، والعواقب مغيبة.
وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا معترض عليه إذا اعتدل الأمران، ولم يُخْلِ الأصحابُ الصورة عن خلاف أيضاً، فاستبان لي في الصورتين من كلام الأصحاب أوجه: أحدها: أن القطع إذا كان مخوفاً، لم يجز، والثاني: أنه جائز في الصورتين، والثالث: أنه يجوز إذا كان خوفُ التبقية أغلبَ، ولا يجوز إذا اعتدلا في الظن.
وإن كان خوف القطع أغلب، فلا خلاف أنه لا يجوز.
واتفق الأصحاب على أن من عظمت الآلام عليه، وصار بحيث لا يستقل بها، فليس له أن يسعى في إهلاك نفسه، ولذلك إذا كان به عِلَّة مُهلكة، وقد قيل لا خلاص، فليس له أن يذبح نفسه بسبب مذفِّف، ولو أُضرمت النار في إنسان وكان لا يطيق الصبر على لفحاتها فأراد أن يلقي نفسه في بحر ورأى ذلك أهونَ، فهذا قد اختلف فيه أبو يوسف ومحمد، وراجعنا شيخنا في ذلك، فقال: له أن يبتدئ مهلكاً باختياره. وفي المسألة احتمال؛ فإن الإحراق مذفف، وكذلك الإغراق، والرأي ما ذكره شيخنا.
هذا رأينا في المستقل وما يجوز له من القطع وما لا يجوز.
11228- وأما تصرّف الولاة، فإن أراد السلطان أن يقطع أنملة من مستقلٍّ بنفسه مُطْلَقٍ، فليس له ذلك، فإن النظر فيه يَدِق، وهذا بمثابة ما لو رأى الوالي أن يفصِد حيث يرى الطبيب ذلك، فليس إليه هذا، والناس موكولون في هذه المصالح إلى رأيهم، حتى قال الأئمة: لو قطع الإمام ما ذكرناه من بالغ على الكره منه، فأفضى إلى الهلاك، التزم القود، فهذا بيّن.
11229- فأما القول في المَوْليّ عليه، فهذا موضع التأمل التام. فنقول: إن فرضنا أكَِلَةً أو سِلْعة بطفلٍ أو مجنون، فنتكلم في تصرّف الولي الخاص فيه، ونتكلم في تصرف السلطان. فأما السلطان، فإنه ولي الطفل والمجنون إذا لم يكن له ولي خاص، فله بنظره أن يأمر بالفصد والحجامة، فإن كان قطعُ السِّلعة على النسق الذي وصفناه فللسلطان الأمر به؛ فإنه والٍ، وإذا كان يلي مالَه خيفة أن يضيع، فلأن يلي بدنه في جهات المعالجات أولى؛ فإن أبدان الحيوانات عرضةٌ للتغايير، وعِللها في أُهبها، فلو أهملت، لأدى إلى الهلاك، وقد نقل الأصحاب مطلقاً أن السلطان لا يقطع السلعة، ولم يريدوا هذه الصورة؛ فإنها من المعالجات.
فأما إذا كان قطع السلعة مُخطِراً وكانت تبقيتُها مُخطِرةً أيضاً، ومست الحاجة إلى النظر في تغليب أحد الظنين، فهاهنا قال الشافعي: لا يقطع السلطان السلعة والأَكِلة.
ونقتصر على هذا القدر الآن من الكلام في السلطان، ثم نعود إليه بالإتمام.
فأما الأب والجد أبو الأب، فقد أطلق الشافعي قوله: بأنه يقطع الأَكِلَة في هذه الصورة، ولم يرد بها صورة المعالجة، حيث لا ضرار في القطع؛ فإن ذلك يسوغ للسلطان، كالفصد والحجامة، فلا يخفى جوازه للولي الخاص. فأما إذا تعارض خطران في القطع والتبقية، فعند ذلك قال الشافعي: "للولي الخاص أن يقطع إن كان القطع صواباً".
وسبب هذا أن الإقدام على القطع يحوج إلى نظرٍ دقيق لا يصدر إلا من شفيق متناهٍ في الشفقة، وهذا يضاهي الاستصلاح بالتزويج، فأب الأب يزوّج ابنته البكر استصلاحاً، وإن كان يوقعها في رق الأبد، ويزوّج من طفله. والسلطان لا يملك ذلك؛ فإن التزويج يحتاج إلى نظرٍ دقيق مفوّض إلى الولي الخاص الشفيق، فإذا تصوّرت الصورة، فتمام القول أنا حيث نجوّز للرجل القطع أي يقطع من نفسه نجوّز للولي أن يقطع من طفله، وحيث لا، فلا. وقد ذكرتُ تردّداً عند استواء الخوفين من أن الإنسان هل يقطع من نفسه، ولعل الأظهر هاهنا ألا يقطع من طفله، والعلم عند الله تعالى.
11230- ونحن ننعطف بعد هذا التصوير إلى أمور في الضمان، أما المستقل إذا أمر الغيرَ بالقطع منه، فقطع، وأفضى إلى الهلاك، فقد قال الأئمة: لا ضمان على القاطع المأمور، وهذا فيه إذا كان القطع جائزاً، وليس كما لو أباح يده، أو أمر بقطعها، فقطعها إنسان، وأفضى القطع إلى الهلاك، فإن في ضمان النفس قولان تقدم ذكرهما، والفرق أن القطع المسوَّغ لغرضٍ يستحيل أن يجرّ ضماناً على القاطع المأمور، ولو قيل هذا، لامتنع القاطعون من القطع. وأما إباحة اليد، فلا غرض فيها، والقطع محرم في نفسه.
وأما الإمام إذا قطع من صبيٍّ سلعة حيث قلنا: لا يجوز له قطعها، فقد قال الأصحاب: تجب الدية، وفي القود قولان، وإن كان يجوز للأب القطع في هذا المقام؛ لأنه قطع قطعاً لا تقتضيه ولايته؛ فصار كالقطع من بالغ. ثم قيل: إذا لم نوجب القود، فالدية في ماله، وهذا هو الظاهر، وسبيله كسبيل من قتل إنساناً على زيّ مشرك في ديار الإسلام حسبه كافراً، وكان مسلماً، ففي وجوب القود قولان، والمذهب أنا إذا أوجبنا الدية، لم نضربها على العاقلة، وقد قدّمتُ في ذلك فصلاً حاوياً مشبِعاً.
وإذا قلنا: للأب أن يقطع، فالذي أطلقه الأصحاب قاطبة أنه إذا قطع وأفضى إلى الهلاك، فلا ضمان على الأب. قال القاضي: الذي عندي هو أنه يضمنه بالدية، وإنما يباح له ذلك بشرط سلامة العاقبة، وهذا بمثابة الضرب للتأديب.
وهذا عندي غير سديد؛ فإن الضرب للتأديب أُمر به على شرط الاقتصار على ما لا يقتل، وإذا جُوِّز للأب أن يقطع مع الخطر في القطع، فإلزامه الضمان محال، ويبعد كل البعد أن يسوغ للأب أن يعالج ولده المجنون بالفصد، ثم يقال: إذا أفضى إلى الهلاك يضمنه، والمتبع في التأديب ما ذكرناه.
وقال الأئمة: إذا ختن الوالد ولده على حسب المصلحة، فاتفق الموت منه، فلا ضمان عليه، وقال القاضي: الذي أراه وجوب الضمان، وهذا الذي قاله في الختان أوجه؛ فإن الختان لا يجب في حق الصبي والمجنون كما سنصفه، وليس من المعالجات التي لو تركت، لجرّ تركها فساداً في البدن، فلا يمتنع ما قاله القاضي في الختان. وسنعود إن شاء الله تعالى إلى هذا في فصل الختان على أثر هذا.
فصل:
قال: "ولو كان رجل أغلف... إلى آخره".
11231- الختان واجب عند الشافعي في الرجال والنساء، والمستحَق من الرجال قطع القُلْفة وهي الجلدة التي تغشى الحشفة، والغرض أن تبرز، ولو فرض مقدار منه على الكَمَرَة لا ينبسط على سطح الحشفة، فيجب قطعه، حتى لا يبقى جلد متجافٍ متدلٍّ.
والمقدار المستحق في النساء، ما ينطلق عليه الاسم، وفي الحديث ما يدل على الأمر بالإقلال، قال صلى الله عليه وسلم لخاتنةٍ: "أشمي ولا تنهكي " أي اتركي الموضع أشمّ، والأشمّ المرتفع، والقطع يقع في أعلى المدخل على لحمة بادية، ولا حاجة إلى الإطناب في وصفها.
وقال أبو حنيفة: الختان لا يجب أصلاً في الرجال، ولا في النساء.
ثم مؤنة الختان من مال المختون.
ومعتمد المذهب أن الختان قطع عضو، فلو لم يجب، لم يجز، ولا ينبغي أن نفهم منه أنه كافٍ، لا يجوز لو لم يجب لما فيه من خوف، ولكن لكل جزء حي من الإنسان حرمة الحياة، فلا يجوز فصلها بغير حق، وليس كالأخذ من الشعور والأظفار؛ فإنها ليست على حقيقة الحياة، وإن اختلفت المذاهب في ثبوت حكم الحياة لها.
ولو كان الرجل على خلقة من الضعف بحيث لو ختن لخيف عليه، فلا يجوز أن يختن، ولكن ينتظر التمكن من الختان، حتى يغلب على الظن السلامة.
وقد قال الأئمة: لا يجب الختان قبل البلوغ، لأن الصبي ليس من أهل أن تجب عليه العبادات المتعلّقة بالأبدان، فما الظن بالجرح الذي ورد التعبد به، وليس هذا كالعدّة؛ فإنه لا تعب عليها منها، وإنما هي مضي الزمان.
فإذا بلغ الرجل أقلفَ، وبلغت المرأة غيرَ مخفوضة، ولا عذر، فلا يجوز تأخير الختان، فإذا ظهر ذلك للسلطان، أَمر بالختان، فإن أبى، أُجبر عليه، فإن جرّ ذلك هلاكاً، فلا ضمان على السلطان هاهنا؛ فإن ما فعله استيفاء شعار الدين من ممتنعٍ عن إقامته.
ثم إن ختن السلطان طفلاً لا ولي له في اعتدال الهواء، حيث يجوز للأب-لو كان- أن يختن، فإن أفضى إلى الهلاك، فلا ضمان، كما لو عالج بالفصد والحجامة على حسب المصلحة، وقال القاضي: يجب الضمان، وهذا محتمل؛ فإنه ليس من قبيل المعالجات، والختان ليس واجباً في الحال، ووجه ما ذكره الجماهير أن الختان لابد منه، فإجراؤه في الصغر والبدن غض رخص، والمختون مقدار صغير أولى، فيلتحق من هذا الوجه بالمعالجة، وطرد القاضي ما ذكره من الضمان في وجوب الضمان على الأب إذا ختن الطفل، وهذا في الأب أبعد، وقد صح في الخبر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحلق رأس المولود، ويعق عنه، ويختن في السابع من ولادته".
ولو ختن السلطان في حر شديد، أو برد مُفْرط، فأدى إلى الهلاك، نص الشافعي على أنه يضمن، ونص على أنه لو أقام الحد في الحر الشديد أو البرد، فأدى إلى التلف لا يضمن، وقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في النفس، وتردّد الطرق؛ فلا نعيده.
والنص الذي ذكره في السلطان يجري في الأب إذا ختن في الحر الشديد، والبرد المفرط، فإن جرى خلافٌ في نفي الضمان عن السلطان، فالأب أولى بانتفاء الضمان عنه؛ فإن الختان في حقه كالحدّ في حق الإمام؛ من حيث إنه يتولاه هو.