فصل: باب: ضمان البهائم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ضمان البهائم:

قال الشافعي رحمه الله: "الضمان على البهائم وجهان... إلى آخره".
11259- مقصود الباب يحصره قسمان كما ذكره الشافعي أحدهما- القول فيما تتلفه البهائم إذا انتشرت، وليس معها ملاكها.
والثاني: الكلام فيه إذا أتلفت شيئاً ومالكها معها.
فإن لم يكن المالك معها، وكان سيّب البهائم وانتشرت في المزارع، وأفسدت منها، فالذي يبتني عليه الفصل أن مالك البهيمة إذا انتسب إلى التقصير في التسييب، ولا ينسب مالك الزرع إلى التقصير في الحفظ، فالضمان يجب على مالك البهيمة.
هذا أصل الباب.
وإن لم يكن من صاحب البهيمة تقصير في التسييب، وكان التقصير من صاحب الزرع في ترك الصَّوْن المعتاد، فلا ضمان.
ومعتمد الباب: "أن ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائطَ قومٍ، وأفسدت زرعاً لهم، فرُفعت القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى بأن على أرباب الأموال حفظَها بالنهار، وعلى أرباب المواشي حفظها بالليل". فما أتلفته البهائم بالليل، فهو ضامن على أهلها: معناه فهو مضمون على أهلها. وهو كقولهم: سرٌّ كاتم. أي مكتوم.
ثم قال الأصحاب: إذا تمهد المقصود، واعتضد بخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالرجوع فيما يكون تقصيراً من كل جانبٍ إلى العادات، والعادة الغالبة أن المواشي تسرح نهاراً في المراعي، وأرباب الزرع يحفظون زرعهم بالنواطير والحفظة المترتبين. ثم إن أرباب المواشي يردّدون مواشيهم إلى مرابضها، ولا يتركونها تنتشر ليلاً، فإن هي انتشرت، فالتفريط معزيٌّ إلى ملاكها، ويلزمهم الضمان، حتى قال الأصحاب: إن كان العادة في بعض الأقطار على العكس من ذلك، فكانت المواشي ترسل ليلاً لترعى، وتربط نهاراً، والزروع تحفظ ليلاً، فالأمر ينعكس. والمتبع التفريط، كما ذكرناه. هذا أصل المذهب.
وحكى الشيخ أبو علي قولاً: أنا نتخذ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجوعنا، فلا نعدل عنه، ولا ننظر إلى اختلاف عادات البلاد، فكل ما يقع نهاراً، فلا ضمان على ملاك البهائم، وكل ما يقع ليلاً، فعليهم الضمان؛ فإن تتبع العادات عسير، فالوجه البناء على غالبها، وترك المبالاة بما يندر.
11260- ومما يتصل بما نحن فيه أن قائلاً لو قال: إن المواشي، وإن كانت ترسل نهاراً؛ فإنها لا تخلو عن راعٍ مراعٍ لها، ولا تسيّب من غير مراقبة، وإذا كان كذلك، فمن يرعاها يجب أن يكلأها، وقد تتسع المزارع حتى يعسر حفظها بالنواطير، وحفظ المواشي بالرعاة أقربُ في حكم الاعتياد.
وهذا متجه إن راعينا العادة، والوجه فيه أن نقول: هذا قول من لم يُحط بوضع الفصل، فإنا قلنا: مضمون الباب قسمان:
أحدهما: في بهائم مسيبة لا حافظ معها، والآخر- فيه إذا كان معها من يكلؤها. فإذأ فرض الفارض مواشٍ عليها راعٍ مالكاً كان أو أجيراً، فلا خلاف أن ما تُتلفه يجب الضمان فيه، على ما سنشرحه في القسم الثاني، إن شاء الله تعالى. فإذاً هذا القسم في بهائمَ لا راعي معها. فإن قيل تسييبها غير معتاد، فليس كذلك إذاً. وقد يعتاد التسييب في المواشي الممتنعة من صغار السباع كالإبل والبقر والخيل، وقد تسيب الأغنام حيث لا ذئاب ولا سباع، ففي مثل ذلك نقول: لا تفريط على المسيب.
فإذا اندفع السؤال يتكرر التصوير، فلو صوّر مصوّر التسييب في الأغنام تضييعاً، ففي هذا نظر، فإن التضييع-إن كان- آيل إلى الأغنام، فلا يُعد هذا عدواناً على المزارع، ولا أُبعد أن يفصل الفاصل بين أن تتسيب في مواتٍ بعيدةً عن المزارع، ثم يتفق انتشارها إلى أطراف المزارع، وبين أن يرسلَها في أطراف المزارع. فإن فعل ذلك من غير راعٍ، فإنها تنتشر، ويعد مثل ذلك تسبُّباً إلى إفساد الزرع.
ومن اتخذ الخبر معتبره، لم يلتفت على هذه التفاصيل.
11261- والمذهب الصحيح اتباع المعنى، وتنزيل الخبر على ما وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه، وإذا كنا نتبع المعنى، فيبعد كلَّ البعد ألا ينسب أرباب المواشي إلى التفريط إذا أرسلوها في إيتاء الزروع، وتركوها غيرَ مرعية؛ فإن هذا على القطع يخالف العادة، والوجه أن تبعد عن المزارع، ثم قد تتسيب إذا لم تكن في مشابع ومواضع يتوقع ضياعها، وأرباب الزرع يحفظون أطراف الزرع حتى لا تنعكس عليها المواشي المسيبة.
ومما ذكره المفصلون المتبعون للمعنى: أن البساتين إذا كانت عليها أغلاقها، وأبوابها، أو كانت الزروع في محوطات على هذه الصفة، فالعادة جارية بردّ الأبواب، والاستيثاق بالأغلاق، فلو ترك أربابُ البساتين الأبوابَ مفتوحةً بالليالي، فانتشرت فيها المواشي، فقد قال الأصحاب: لا ضمان؛ تعويلاً على تفريط ملاك البساتين، ومعنى تفريطهم خروجُهم عن العادة، وتركُهم الاحتياط مع سهولة اعتياده.
فإن قيل: فقد فرط أرباب المواشي في إرسالها أيضاً. قلنا: نعم. ولكن تضييع البساتين مستقلٌّ في إسقاط الضمان، ولا نظر بعد هذا إلى تفريط ملاك المواشي. ثم لا تفريط في إرسال المواشي ليلاً في حق أصحاب البساتين إن جَرَوْا على الاعتياد، حتى لو لم يكن إلا البساتين، فلا تفريط في إرسال البهائم ليلاً، وإن كان في الموضع بساتين ومزارع ضاحية، فإرسال البهائم تفريط في المزارع، وليس تفريطاً في البساتين. وقد تمهد أصل المذهب فيما تتلفه المواشي إذا انتشرت، ولا حافظ معها.
11262- ونحن نضبط القسم الثاني، ثم نذكر فروعاً، فنقول: إذا كان صاحب البهيمة معها، فالغالب فيما تتلفه البهيمةُ سبَق مفصلاً في الباب المشتمل على الأسباب المقتضية للضمان. ولكنا نعيد معاقد المذهب، فنقول: ما تتلفه البهيمة مما يُقدّر التصوّنُ عنه بالرعاية والحفظ، ولا ينسدّ به رِفقُ الطروق، فهو مضمون. ثم قال الأصحاب: يضمن الراكب ما تتلفه البهيمة بيديها إذا خبطت، وبرجليها إذا رَمَحت ورفست، وبفمها إذا عضّت، وقضَوْا بأنه يضمن بهذه الجهات إذا كان قائدها أو سائقها معها.
وقد ضمَّنَّا ضبط المذهب قيوداً، وفي ذكر معناها تمام الغرض، فنقول: لا سبيل إلى منع البهائم من الطروق، ثم في طروقها فسادٌ لا سبيل إلى دفعه، ولا يمكن التحرّز منه، فإنها تثير الغبار لا محالة، ثم يتعلق بما يثور من الغبار ضِرار في ثياب البزَّازين، والفواكه وغيرها، ولكن ذلك محتمل، وقد ظهر الأمر في ذلك حتى انتهى إلى أن هذا لا يُعلم ضراراً إلا إذا رُدَّ النظر إليه، وكذلك ممشاها في الشتاء، وكثرة الوحول والأنداء، تطيّر رشاشاً، لا يمكن دفعه بالتحفظ، فذلك القدر لا ضمان فيه؛ فإن في تقدير الضمان فيه منعها من الطروق، وفي منعها من المرافق التي يدنو بعضها من الضرورة ما يَبَرّ على ضِرار رشاشها. نعم المفرط منه قد يمكن التصوّن منه، كأن يجري على رِفْق، ولا يجري على مجتمع الوحول.
وما يجرّ ضِراراً لا يمكن دفعه، ولكن مثله غير معتاد، فإذا جرى، تعلّق الضمان به. وبيانه أن الإبل تقاد مقطّرة، ولو تركت أرسالاً، واستَبقَت في الأسواق، لخرج أمرها عن الضبط، وإمكان التصوّن. ولكن هذا النوع لا حاجة فيه، فسبيله أن يمنع أصلاً.
وكذلك الدابة النَّزِقَة التي لا تنضبط بالكبح والترديد في معاطف اللجام ولا يتأتى ضبطها، فلا جَرَمَ لا تركب في الأسواق، وينسب راكبها إلى الإتلاف؛ فإن مثل هذه الدابة تركب في متسع الصحراء، فما كان كذلك، فلا ضرر في منعه، فيمنع، فإن اتفق، علَّقْنا الضمان به. فما أمكن الضبط فيه إذا لم يتفق الضبطُ، تعلّق الضمان به، وما لا يمكن ضبطه بالتصوّن، ولو منعنا أصله، لانسدّت المرافق، فذاك محتمل لا ضمان فيه. وعلى صاحب الدابة بذلُ المجهود، وعلى صاحب المتاع صون المتاع.
هذا ضبط هذا القسم، وقد مهدناه مطوّلاً مفصلاً فيما تقدّم. وهذا الكلام الوجيز ينبّه على جميع ما تفصل.
فرع:
11263- إذا انتشرت هِرَّةٌ لإنسان، وأهلكت طيوراً، أو عاثت في قدورٍ، فقلبتها، فقد اضطرب الأصحاب فيه، فقال قائلون: لا يتعلق الضمان بها، فإن العادة ما جرت بربط السنانير، وعمت العادة بحفظ الطيور والقدور وأمثالها عنها.
ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان على صاحب الهرّة على الجملة؛ فإنه إن عسر ربطها، لا يعسر سدّ المنافذ حتى لا تنفذ منها إلى دور الجيران، ثم الذين أوجبوا الضمان اختلفوا: فقال قائلون: ما تتلفه نهاراً، فعلى صاحبها الضمان، وما تتلفه ليلاً، فلا ضمان؛ فإن الأشياء تحفظ عن الهرّ ليلاً، ولا يحتاط فيها نهاراً. فإذا تقدّر التلف نهاراً، فالتفريط غير منسوب إلى أصحاب الطيور وما في معناها.
ومن أصحابنا من يعكس ذلك، فيقول: ما تتلفه ليلاً يضمنه ربُّها؛ فإن أكثر شرِّها وانتشارها بالليل، إذا نام الحفظة، والأعين الكالئة، فينبغي أن يحتاط ربها، وما تتلفه نهاراً، فالتفريط فيه على ملاك الطيور؛ من حيث غفلوا عن مراقبتها.
وما ذكرناه في هرّة لا تعهد ضارية، فأما إذا ضَرِيتْ بالإفساد، وقتل الطيور، فأول ما نذكره فيها أنها إن كانت لم تقتل، وإن كانت مسيبة، فقد قال القفال: لا تُقتل أيضاً؛ فإن الاحتراس، والاحتراز منها ممكن، فتُدفع، فإن أتى الدفعُ عليها، فلا حرج.
وقال القاضي: إذا ظهرت ضراوتها، وبان شرها في إهلاك الأموال والطيور، فيجوز قتلها كما يقتل الكلب العقور. ثم قال: لا يختص جواز قتلها بوقت ظهور شرها، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمر بقتل الفواسق في الحل والحرم"، ولم يخصص بوقت بدوّ شرها، وشرُّها في الأموال أو في البهائم، فإن مما أُمر بقتله الغراب والحدأة، وإن كان شرهما في ضِرارٍ وفي أمور تتعلق بالمعايش.
وهذا متجه، فإن اتفقت ضراوة الهرّة، التحقت بالمؤذيات، فمساق هذا الكلام يتضمن جواز قتلها، وإن كانت ربيطة. وليت شعري ماذا نقول في الحدأة المَصِيدة التي اختص بها من اصطادها، وهي في قفصه أو رباطه، فهل يحلّ قتلها؟ الحديث يقتضي جوازَ قتلها، ولا يجري الملك فيها، كما لايجري الملك في الحشرات، ولا يحلّ إذاً على هذا اقتناؤها، بل على من يستمكن منها أن يقتلَها. وإن بعد هذا عن فهم الناظر ضربت له اقتناء الأسد مثالاً، وإن كان مربوطاً مقيداً، فكذلك المؤذيات من الحشرات، فعلى هذا تقتل الهرّة، وإن كانت ربيطة. وقد انتظم لي من كلام الأصحاب أن الفواسق مقتولات؛ لأنه لا يعصمها الاقتناء، ولا أثر للاختصاص فيها، ويلحق بها المؤذيات بطباعها، كالأُسْد والنمور، وما في معانيها.
11264- وما لا يؤذي بطبعه، وفي جنسه ما يؤذي، والمؤذي منه يقبل التأديب، فإذا لم تكن مؤذية لم تقتل، وإذا اتفق فيها مؤذٍ، فإن كان عن وفاقٍ لا عن ضراوة، فتُدفع في وقت صيالها، ولا تُتْبع إذا أُتْلِفت، وما ظهر منها التولّع والضراوة، فإن كانت مسيبة ففي قتلها في غير حالة القصد كلام للقفال والقاضي، وفي قتلها وهي ربيطة على مذهب القاضي تردّد: يجوز أن تلتحق بالفواسق، ويجوز ألا تلتحق، وذكر بعض المصنفين أن الكلب العقور الضاري بالعَقْر، بمثابة الهرّة المؤذية، في التفصيل الذي ذكرناه. وهو غير سديد؛ فإنّ الكلب العقور إن لم يكن فيه منفعة، فهو بمثابة الفواسق، وإن كان فيه منفعة، فيشبه أن يكون كالهرّة في التفاصيل، وهي على الجملة أولى بالقتل؛ لأن عَقْرها، وعدوانها عظيم. وقد يتعلق بالناس وكبار البهائم.
فرع:
11265- إذا اقتضت العادة ربطَ البهائم ليلاً، فربطها مالكها، ولم يقصر في الاحتياط المعتاد في الرباط، فانسلّت، فأفلتت وانتشرت، وأفسدت الزرع، فالحكم فيها كالحكم في الدابة المركوبة إذا حرنت وانسلت من عِنانها في نفارها، وأفسدت، وقد تقدّم ذلك في باب الاصطدام.
فرع:
11266- إذا دخلت البهيمة المزرعة، فهيجها صاحب الزرع، فوقعت في زرع الجار، قال الأئمة: إن اقتصر على تنفيرها من زرع نفسه، فلا ضمان عليه، وإن اتبعها بعد الخروج من زرعه حتى أوقعها في زرع الجار، توجّه الضمان.
ولو كانت مزرعته محفوفة بمزارع الناس، وكان لا يتأتى إخراجها إلا بإدخالها مزرعة الغير، ولم يكن طريقٌ ومسلك إلا دخول زرع الغير، والمزرعة متصلة بالمزرعة، فسوق الدابة، وإخراجُها، وإدخالها في مزرعة الغير، وليس للإنسان أن يجعل مال غيره وقاية مال نفسه، فإنْ فَعَلَه كان ظالماً-والمزارع ليست لصاحب الدابة، حتى تنتشر الظنون وتتقابل الخيالات- فالذي أراه أن هذا الطارد المخرجَ للدابة مهلكٌ لزرع الغير على سبيل المباشرة، وترْكُ البهيمة تنتشر سببٌ من مالكها، والمباشرة تغلب السبب، فعلى صاحب الزرع أن يترك البهيمة، ثم يُغرِّم صاحبَها ما تتلفه.
وينشأ من هذا أن البهيمة لو انتشرت انتشاراً مضمَّناً في مزرعة إنسان، وتمكن المالك من طردها، فتركها حتى أفسدت، فالذي يليق بمضمون الباب أنه يطردها، فإنّ ترك الطرد مع التمكن تضييع، وإذا كنا نحط ضمان زرعه لتركه الباب مفتوحاً؛ من حيث إنه مضيع، فالذي يليق بما نحن فيه أنه بترك الطرد مُضيِّع.
فإن قيل: ما بال الأروش تتعلّق برقبة العبد، ولا تتعلق برقبة البهيمة حيث يتعلّق الضمان بفعلها؟ قلنا: الضمان في البهيمة محالٌ على تقصير المالك، والبهيمة كالآلة، والعبد ملتزمٌ ذو ذمة، وأقرب ما يؤدي منه ما يلزمه رقبتُه. فإن تُصوّر عبدٌ أعجمي يضرى ضراوة السبع، فهل يتعلق الأرش برقبته؟ خلافٌ قدّمناه في الأصول السابقة.
فرع:
11267- إذا وقفت الدابة، فبالت وراثت، فالبول منها والروث لا يتعلّق بهما ضمان في الممرّ، وهذا لا سبيل إلى دفعه، فأما إذا اتفق مزيد انتشار بسبب وقوف الدابة، فقد قال الأصحاب: إن كان الطريق ضيقاً، فوَقْف الدابة عدوان، وما يترتب عليه يقتضي الضمان، وإن كان الطريق واسعة، فَوقْفُ الدابة معتاد، ووقوفها كمشيها. وهذا عندنا يلتفت على مسألة في باب الاصطدام، وهي إذا اصطدم الماشي بالواقف، فهل ينسب إلى الواقف عدوانٌ؟ فيه كلام، وما ذكرناه منزل عليه.
فرع:
11268- إذا كان يسوق دابة عليها حطب فتخرَّق به ثوب، فإن كان الذي تخرق ثوبه بصيراً مقابلاً، ووجد مُنْحَرَفاً، فلا ضمان، فإن التقصير منه، وإن كان مستدبراً، فإن أعلمه سائق الدابة، فلم يتحرز، فلا ضمان، وإن لم يعلمه حتى تخرق ثوبه ضمن؛ فإن الإعلام في مثل ذلك معتاد.

.كتاب السِّيَر:

11269- السِّيَر جمع السِّيرة، والكتاب مترجم بالسير، فإن الأحكام المودعة فيها متلقاة من سِيَر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته. والسِّير من سار يسير.
والفِعلة للهيئة كالجِلسة والقِعدة، والرِّكبة. والسنةُ: الطريقة. فأحكامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمهيدُه الشرعَ شُبّه بالطريقة الموضحة، ووقع التعبير عنها بالسيرة أخذاً من السَّيْر.
والأصل في الكتاب القرآنُ، وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم، والإجماع.
قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وقال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] وقال تعالى في آية أخرى {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] والآيات المشتملة على الحث على قتال المشركين كثيرة. وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» وسِيَرُه في مغازيه أصل الكتاب.
وأجمع المسلمون على أنا مأمورون بمجاهدة الكفار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأموراً بالمتاركة والاقتصار على الدعوة والصبر على الأذى، والدفع بالتي هي أحسن. والآيات الواردة في هذه المعاني كثيرة، فلما هاجر إلى المدينة، وكثر المسلمون، وعظمت الشوكة، أُمرنا بالجهاد، فشمَّر لله تعالى ذبّاً عن الدين، واستحث أصحابه على مجاهدة الكافرين، فتتابعت الغزوات، وكان الحرب سجالاً ينال المسلمون، ويُنال منهم. ثم أظهر الله تعالى دينه، ونصر نبيه، وهزم الأحزاب، ومهّد الأسباب.
11270- وذكر الشافعي في السِّيَر الكبير، المشاهيرَ من غزواته صلى الله عليه وسلم، فنذكرها تأسياً بما ذكره الشافعي. والحاجة تمسّ إليها لإيضاح التواريخ، وإسناد الأخبار إليها، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرواية الظاهرة بمكة ثلاثَ عشرةَ سنة، فلما هاجر إلى المدينة لم يجر في السنة الأولى قتال، وجرت في السنة الثانية غزوة بدر، واتفقت في الثالثة غزوة أحد، وفي السنة الرابعة اتفقت غزوة ذات الرقاع، وفي السنة الخامسة غزوة الخندق، وفيها قَتَل عليٌّ عمرو بنَ وُدّ، وهزم الله الأحزاب بالريح، وجرت في السنة السادسة غزوة بني النضير، ومُرَيْسيع، وفيها قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فصُدّ من الحُديبية. ثم في السنة السابعة جرى فتح خَيْبر، وعاد إلى مكة وقضى العمرةَ، وفي السنة الثامنة فتح مكة، وسار إلى هوازن، واتفقت خَرْجته في السنة التاسعة إلى تبوك، وفيها أقر أبا بكرٍ على الحجيج، فحج بهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا همّ بغزوة وَرَّى بغيرها، ولم يورِّ في غزوة تبوك، بل باح حتى يأخذ الناس أنفسهم لبعد المسافة، واتفقت تلك الخَرْجة في شدة الحر، وبالغ في استحثاث المسلمين وتحريضهم، ونهيهم عن التثبيط، وقيل صحبه في تلك الخَرْجة ثلاثون ألفاً، وتخلف عنه أقوامٌ.
والمتخلفون ثلاث فرق: المنافقون، والمسلمون الذين كانوا لا يجدون أهبة الخروج، وتخلّف قادرون أيضاً استثقالاً للخروج في الحرّ. وهؤلاء كانوا ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، فنزل على الجملة في شأن المخلَّفين قولُه تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ...} [التوبة: 120]، ونزل في شأن المنافقين: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81].
وأمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا يُصغي إلى كلامهم إذا رجع إليهم، ولا يأذن لهم في الخروج، فقال عز وجلّ: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} [التوبة: 83] فقال المنافقون: إن محمداً يجرّنا ويحرمنا الغنائم، فنزل قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ...} [الفتح: 15]، ونزل في شأن الثلاثة الذين تخلفوا مع القدرة ووجود الأُهبة: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ...} [التوبة: 93]، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يعتذروا خجلاً واستحياءً، وربطوا أنفسهم على سواري المسجد، وقالوا: "لا نَحُلُّ نفوسنا حتى يَحُلَّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أَحُلُّهم حتى يَحُلَّهم الله عز وجلّ»؛ فنزل قوله
تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ...} إلى قوله تعالى {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 117، 118] ونزل في بيان العاجز عن الخروج قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى...}[التوبة: 91]، وقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ...} [التوبة: 92].
وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حجةَ الوداع، وفيها نزلت آية التكميل، وعاش صلى الله عليه وسلم بعد أن قضى حجه اثنين وثمانين يوماً، واتفقت له غزوات ليست من المشاهير، وهي مذكورة في المغازي.
ثم إن الشافعي أكد في صدر الكتاب طرفاً من أحكام الهجرة، والرأي ألا نخوض فيها؛ فإنها ستأتي مجموعة في باب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، وذكر من لا يكون من أهل فرض الكفاية في الجهاد، ورأيت هذا الفصلَ لائقاً بالباب الذي يلي هذا الباب؛ فأخرته إليه.