فصل: باب: من له عذرٌ بالضعف والضرورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: من له عذرٌ بالضعف والضرورة:

11271- الجهاد ينقسم فيقع فرضاً على الكفاذية، وقد يتعين، وجرت منا إحالات على هذا الكتاب في إيضاح فروض الكفايات، ولابد من الوفاء بالمواعيد ببسطه، ولو بسط؛ فإنه من أعظم أركان الإيالة. ولكنا نذكر معاقدها ومأخذها، وننبه بذكر جُملها على تفاصيلها، ومعظم مسائلها مفرّقة في الكتب. والغرض المطلوب هاهنا التعرضُ للجوامع.
فنقول والله المستعان: المنشأ الكلي به للفرائض الثابتة على الكفاية أن الله تعالى فطر الدنيا داراً، وأجرى فيها ابتلاءً وامتحاناً واختباراً، وأسكنها آدم وذريته عُمَّاراً، وأراد إبقاءهم إلى انقضاء عمر الدنيا، فقدر أرزاقهم، وقيض لها ملكاً دوّاراً وسحاباً مدراراً، وقدّر أرزاق الخلائق على ما شاء وأراد، وأثبت الشرائع تكاليفَ على العقلاء، ولولاها لتهالكت الناس، وتعطلت الأرزاق، على ما أوضحنا ذلك في مفتتح الكتاب، ثم تنشَّأت في قاعدة التكاليف فروضُ الكفايات في الأمور الكلية المتعلقة بمصالح الدين والدنيا، فأما ما ينشأ من أصل الدين، فالقيام بإدامة فرض
دعوتين: حجاجية وقهرية، فأما الحجاجية، فعمادها العلم، والقهرية هي الجهاد في سبيل الله تعالى.
وأما ما يتعلق بالمعاش ومصالحها، فقد قيض الله تعالى الأسباب وألهم الخلائق ما يستصلحون به معايشهم في الحراثة والبيع والشراء، وما في معانيها وجبل النفوسَ على التشوف إليها، حتى لم يحوَج حملةُ الشريعة على استحثاث أهل الدنيا على عمارتها، وتهيئة ما فيها من أسباب المكاسب. وقال المحققون: لو فرض انكفاف الخلق عنها، لحَرِجوا من حيث إنهم يكونون ساعين في إهلاك أنفسهم.
والمناكح من الأمور الكلية، وبها بقاء النوع، فلا حاجة إلى الاستحثاث عليها؛ فإن النفوس مجبولة على التشوف إليها.
11272- ثم إذا تبين أصل الغرض في الدعوتين، فبعدهما أمور كلية تتعلق بالإدامة والإبقاء، وهذا ينقسم: إلى مصالح الأبدان، وإلى مصالح الأديان.
فأما مصالح الأديان بعد ظهور الإسلام في الخِطة، فيتبعها فنٌّ يترجم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو كتابٌ برأسه لم يهتم به الفقهاء، وبسَطَ مضمونَه الأصوليون، والحاوي لمقاصد هذا الكتاب: الأمر بواجبات الشرع، والنهي عن محرّماته. وذلك شطران: يتعلق أحدهما بالولاية، وهي الأمور القهرية، وأحكام الإمامة. ولا نطمع في الوفاء بها.
والشطر الآخر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير مكاوحة وشهر سلاح، فهذا على الناس كافة، إذا علموا صدَرَ أقوالهم عن ثبت، ولا يشترط أن يكون القائم بذلك مجتهداً؛ إذ يتعلق بالولاة أمر العلماء ونهيهم، وإذا زاغوا، أقام العلماء أَوَدَهم. فهذا ما يتعلّق بالأديان.
11273- وما يتعلّق بالأبدان سترُ العراة وإطعام الجائعين، وكفُّ الأذى عن المغبونين، وإغاثة المستغيثين، فكل ما ينتهي إلى الضرورة، ففرضٌ على الكافة القيام به.
ثم اختلف أرباب الأموال فيما فوق سدّ الضرورة إلى تمام الكفاية التي يجب نفقته على من يلتزم النفقة. فقال قائلون: يتحتم الكفاية في ذلك حتى لا يبقى ذو حاجة. وقال آخرون: المفروض على الكفاية إزالة الضرورة، وما ذكرناه بعد تفريق الصدقات على المستحقين، وبعد أن يشغُر بيتُ المال عن السهم المُرْصد للمصالح العامة، فإذ ذاك يثبت فرضُ الكفاية على أصحاب الثروة والمقدرة.
ثم ألحق الشرع احترام الأبدان بعد الموت برعايتها في الحياة، فأوجب-على الكفاية- التجهيزَ، والمواراة على هيئة الاحترام، ثم ثبت بالشرع-غير مستندٍ إلى هذه- الأمرُ بالغُسل والصلاة، فليسا من شرائط الحرمات الحالّة محلّ ضرورات الأحياء، ولكن المتبع الشرعُ.
وما يؤدي إلى شهر السلاح- إذا تعاطاه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلا ينتصب له إلا الإمام، ثم الذين يلونه من جهته، يلتحقون بالتشمير في الأمر بالمعروف.
والقيامُ بتحمل الشهادة وإقامتها من فروض الكفايات، وهو متعلق بمعاونة القضاة في الإنصاف وطلب الانتصاف، وله تعلّق بإصلاح المعايش.
11274- ثم ثبت في الشرع شعائر ظاهرة، ولو فُرض ارتفاعها، لشاع منها انطواء الصدور على استهانة. وهي منقسمة إلى ما هو من فروض الكفايات، وإلى ما اختلف العلماء فيه، فأما ما يلتحق بفروض الكفايات، ممّا يقع قبيلُه فرضَ عين-وألحقه الأئمة بهذا- إحياءُ الحَرَم في السنة بالحج. وأما ما اختلف العلماء فيه، فكالتأذين، والجماعات للصلوات في غير يوم الجمعة، وكل هذا مذكور على الاستقصاء في أماكنها.
11275- ثم ثبت فرضٌ على الكفاية لا تضبطه الكليات التي أشرنا إليها، ولكنه متلقى من إجماع الفقهاء، وهو ردّ السلام، وقد جرى رسم الفقهاء باستقصاء القول في هذا الكتاب.
ونحن نتأسى بهم هاهنا. فنذكر أولاً بعد ذكر هذه الجوامع حقيقةَ فروض الكفايات، ثم ننعطف عليها، ونلقُط منها ما نرى استقصاءَ القول فيه للإيفاء بهذا الكتاب، وهي: الجهادُ، وطرفٌ صالح من تعلم العلوم، واستقصاء القول في السلام وردّ الجواب، فأما باقي الفروض، فمنقسمة، بعضها مستقصاة، وبعضها شطره فيما يأتي، إن شاء الله عز وجل.
11276- فنقول: فرض الكفاية كما نبهنا عليه، يتعلّق بالأمور الكلية، وغرضُ الشارع تحصيله في عينه، وفرض العين يتعلق بالشخص المتعيَّن له، والغرض تكليفه به، فالمعين معني بالفرض، وفرض الكفاية معني بالتحصيل. ثم إذا قام به من فيه كفاية، سقط الفرض عن الكافة، فإن تعطل حَرِج بتعطيله المطالبون به، والقول في ذلك يطول، ولكنا نذكر مقداراً مقنعاً، فلا تعويل على قول من يتكلم بما لا يحيط بحقيقته.
فنقول: إذا تعطل فرض كفاية في قُطْر حَرِج أهلُ الخِطة، وليس هذا مذهباً لذي مذهب، ولكني ذكرت ما يتفاوض به الأغبياء، حتى أعقبه بذكر الحق، فإذا عُطِّل فرضٌ من فروض الكفاية، حَرِج بتعطيله المطالَبون بالبحث عنه، فينال الحرج الخبير، ثم يتعدى منه؛ من جهة ترك البحث إلى أهل الحارة، ويختلف هذا بكبر البلدة، وصغرها، وإذا بلغ تعطيل فروض الكفايات مبلغاً تتقاذف السمعة بها إلى البلاد، فعليهم أن يسعَوْا في التدارك. فإن لم يفعلوا نالهم الحرج، وهكذا على التدريج الذي ذكرناه إلى أن يعم الخِطة، ولا يتحقق هذا بفرض وفروضٍ معدودة.
وحقُّنا الاقتصارُ على التنبيه.
11277- ثم قال المستقلّون بالعلوم الكلية: ينبغي أن يكون. أرباب القيام بفروض الكفاية على التبادر إليها، لا على التواكل فيها؛ فإن ذلك يجرّ التعطيل لا محالة.
ومما لا نجد بُدّاً من ذكره في ذلك أنه لو قام بفرضٍ جمعٌ، والفرض كان يسقط ببعضهم، فلكلّهم مقام القيام بالفرض، فإنهم اشتركوا أولاً في الصلاح لها، ويشتركون آخراً في الحرج لو تعطل على التدريج الذي ذكرناه، فإذا لابسوه، لم يكن البعض منهم أولى بالاتصاف بإقامة الفرض. نعم، وقد تعرض مسائل فقهية مرّت مستقصاة في مواضعها، ونحن لا نكتفي بالإشارة إليها:
منها أنه لو صلى على الميت جمعٌ وقَضوا الصلاة، ثم صلى جمع آخر، فإذا لم نمنع ذلك، فالوجه أن نجعلهم بمثابة المقارنين الأولين في الصلاة؛ فإن التنفل بصلاة الجنازة لسنا نرى له أصلاً في الشرع، وقد تقصيت هذا في الجنازة، وهذا إنما يفرض في صورة نادرة؛ فإن إيقاع الجماعة ليس مما يفرض تكريره، وكذا ما في معناه.
وعلينا أحكام كلية في فروض الكفايات، ونحن نجري ما لابد منه في الأصول التي سنلقطها، ونخصها بالبيان، إن شاء الله، فهذا منتهى الغرض في ذلك.
وقد حان أن نفي بالكلام في الجهاد، ثم في العلم، ثم نختتم الكلام بالقول في السلام.
11278- فأما القول في الجهاد؛ فإنه يثبت فرضاً على الكفاية، ويثبت فرضاً على الأعيان، فأما حيث يكون فرضاً على الكفاية، فهو إذا كان الكفار قارّين في ديارهم غيرَ متعلّقين بأطراف ديار الإسلام، فمقاتلتهم فرض على الكفاية، ثم قال الفقهاء: يتعين على الإمام أن يقيم في كل سنة قتالاً مع الكفار، ويجب أن يُغزي إلى كل صوب منهم جنداً إذا أمكن ذلك، وزعموا أن فرض الكفاية يسقط بقتال واحدٍ في كل صوب، كما سنفصل هذا إن شاء الله، وتمسكوا فيه بأن السنة مدّةُ الجزية، فلا يجوز تعريتها عن الجهاد.
والمختار عندي في هذا مسالكُ الأصوليين، وهم لم يَرْوا التخصيص بالسَّنة، ولكن رأَوْا أن الجهاد دعوة قهرية، فيجب إدامته على حسب الإمكان والإطاقة، حتى لا يبقى إلا مسلمٌ أو مسالم، والذي ذكره الفقهاء محمول على ما يجري به العادة الوسط من طرفي العجز ونهاية الإمكان، والغالب أن الأموال والعُدد لا تواتي لأكثر من تجهيز جندٍ في كل صوب. والرجال إذا اصطلَوْا بنار القتال، ونالوا ونيل منهم، فلا يعودون هم ودوابّهم إلى الاستعداد التام إلا في مدة السنة، ومجالب الأموال جارية في الغالب على هذه المدة، فالوجه تنزيل كلام الفقهاء على ذلك.
فأما إذا أمكنت العُدّة، وكثر الجند، ورغب المطّوّعة، والكفارُ يجد الإمام منهم في أوساط السنة الغِرّةَ، واستشعار الفشل فلا يليق بالقواعد الكلية، وقد تجمعت الأسبابُ تعطيل الفُرص، وهي تمرّ مرّ السحاب، فلا وجه إلا هذا.
ثم القول في هذا يتعلق بمفاتحتهم بالقتال، وبالاحتراس عنهم، فأما الاحتراس، فتجب إدامته بلا فتور، وذلك بعمارة الثغور، وإعداد الكُراع والأسلحة، ونصب المرابطين.
ومما يليق بما نحن فيه أن الاكتفاء بنفس الجهاد لا سبيل إليه، ولا وفاء ببث الأجناد في جميع أطراف ديار الكفار؛ فإن التمكن من هذا عزيز الكون نادر الوجود، ولكن ينبغي أن يكون شوفُ الإمام إلى أن يغزي إلى كل جهة من الأجناد ما ينشر منهم النكاية أو الرعب في ذلك القطر، وإن أمكن من استئصال شأفة الكفار في رقعة الأرض، فليفعل، وإن لم يتمكن من إغزاء جنود، فليبدأ بالأهم فالأهم. هذا أصل القول في ذلك.
11279- وقد اختلف الفقهاء في أن الجهاد هل كان متعيناً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، أم كان فرضاً على الكفاية؛ فقال قائلون: كان متعيناً عليهم، وكان النَّافرون مقيمين للغزو، والمقيمون بالأمر حارسين للمدينة، وكانت ثَغْرَ الإسلام.
وقال قائلون: تعيّن الجهاد على ذوي النجدة منهم، لكثرة الكفار، وقلة المهاجرين والأنصار.
وقال قائلون: كان يتعين على الذين يعينهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستجيبوا.
فإن حملنا الأمر على هذا الوجه على القلّة، فلا اختصاص؛ فإن ذلك قد يفرض في زماننا، كما سنصفه إن شاء الله عز وجل. وإن قلنا: كان الغزو فرضاً عليهم من غير علّة ولا قلة، فهو إذاً خاصِّيّة، ولا يكاد يثبت هذا بنقلٍ موثوق به، ولا باستفاضةٍ تغني عن النقل. ولو عين الإمام في زماننا قوماً، فحقٌّ عليهم أن يذعنوا، فإنهم لو سلّوا أيديهم عن الطاعة، لانتثر النظام، وتزعزعت القاعدة، فلابد إذاً من ارتسام مراسم الإمام.
ثم إنه يرعى فيهم بصفة المناوبة، ولا يتحامل على طائفة بتكرير الإغزاء مع ترويح الآخرين وتركهم إلى الدَّعة.
فإذا تعلّق الكلام بمحض أحكام الإمامة، فالأولى الانكفاف. وأجمع موضوع لنا في أحكام الإمامة، مع الإيجاز والتنصيص على غوامض أحكام الأئمة الكتاب المترجم (بالغياثي).
11280- فإذا تمهد ما ذكرناه من فروض الكفاية فإنا نذكر على الاتصال بهذا المنتهى الصفات المرعية فيمن يكون من أهل هذا الفرض. والكلام في ذلك يتعلّق بقسمين:
أحدهما: في الصفات التي تعدّ من اللوازم، والثاني: الكلام في الأعذار الطارئة.
فأما القول في اللوازم، فالعبد ليس من أهل فرض الكفاية في نفسه، وإن أمره مولاه بأن يقاتل، فما الرأي فيه والأمرُ من المولى جازم؟ والوجه أنهم لا يلزمهم طاعته؛ فإنهم ليسوا من أهل هذا الشأن بأنفسهم، والمِلك لا يقتضي التعرّض للهلاك، فليس القتال من الاستخدام المستحَق للسيد على العبد المسترقّ، ولا يجوز أن يكون في هذا خلاف، وإذا لم نوجب الدفع على المسلم المقصود، على التفصيل الذي قدّمناه للفقهاء، فلا يجب على العبد أن يدفع عن سيده، إذا كان في الدفع مُعرضاً نفسه للهلاك، ولا أثر للملك في هذا الباب، ولا حظ للسيد في دم عبده، على معنى أن يعرضه للتلف. نعم له استصحاب عبده ليخدمه في السفر ويسوسَ الدابة، كدأبه في الظعن والإقامة.
والمرأة ليست من أهل هذا الشأن، والكلام في فروض الكفاية.
والصبي غيرُ مكلف، والمجنون كالبهيمة. وقد قال عبد الله بن عمر: "عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربعَ عشرةَ سنة، فردّني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنة، فأجازني في المقاتِلة".
والذمي لا نخاطبه بمجاهدة الكفار، فإنه بذل الجزية لنذب عنه، لا ليذب عنا.
فإذاً إنما يكون الشخص من أهل فرض الكفاية في الجهاد إذا كان بالغاً عاقلاً حراً مسلماً ذكراً. فهذا قولنا في هذا القسم.
11281- فأما الموانع الطارئة، فنحن نأتي عليها واحداً واحداً، ولا نلتزم الجريان على ترتيب (السواد) حتى يتمهد أصل الكتاب.
فمما يجب اعتباره الزاد والراحلة، فلا يكلف الإنسان أن يمشي مجاهداً، كما لا نكلّفه أن يمشي حاجاً، وهذا في المسافة الطويلة، فأما إذا قرب المسافة، فلا أثر للرَّحل فيها مع الأيْدِ والقوة، ولابد من نفقة الذهاب، وإن كان ذا أهلٍ وعَيْلة، فلابد من إعداد النفقة لهم.
وقال المحققون: لابد من نفقة الإياب إذا كان الرجل ذا أهلٍ وولد، على حسب ما ذكرنا في سفر الحج، ولا يجوز غير ذلك. فإن قيل: هلا قلتم: لا تعتبر نفقة الإياب؛ فإن هذا سفرُ الموت، فلا ينبغي أن يبنى على توطين النفس على الإياب.
قلنا: لا سبيل إلى إلزامه توطينَ النفس على الموت، والأصل بقاؤه، وهو الذي يحدّث الإنسان به نفسَه، ولو لم يكن معه أهبة الرجوع، لجرّ ذلك تشتتاً في الرأي، وانكساراً في المُنّة.
وإن لم يكن له أهل، ففي اشتراط نفقة الإياب في الحج وجهان، وهما جاريان في سفر الغزو، ولا يبعد ترتب الوجهين في الغزو على الوجهين في الحج؛ من جهة أن المعتمد في اشتراط نفقة الإياب في الحج الميل إلى الوطن، وهذا ضعيف في أصله، فيتناهى وهاؤه في سفر الغزو.
11282- ومما يشترط في هذه السفرة العُدّة والسلاح، فإنها عتاد القتال، وذكر الأصحاب فرقاً بين سفر الغزو وسفر الحج، والقول فيه إذا كان الغزو فرضَ كفاية، فقالوا: يشترط في وجوب سفر الحج أمن الطريق، ولا يشترط ذلك في سفر الغزو؛ فإن الغزاة على المخاوف مصيرهم، ومصادمتها مقصودهم. وهذا فصله المحققون من الأصحاب، فقالوا: إن كانت المخافة من طريان طلائع الكفار، فالأمر كذلك، وإن كان الخوف من المسلمين المتلصصين، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنا لا نشترط زوال هذا الخوف.
والثاني: أنا نشترط ذلك، فإن من تطيب نفسه بملاقاة الكفار ربما لا يطيب نفساً بملاقاة المسلمين. والصحيح الذي إليه ميلُ النص والأئمة أنا لا نشترط ذلك؛ فإنّ قصد المتلصصة من فروض الكفايات، ولعله أهم.
11283- ومما تجب مراعاته الديون، فإن كان على الرجل دين حالّ، فلا بَراح ما لم يقض الدين، إلا أن يرضى صاحبُ الدين، ثم في ذلك نظر، فإن أبرأه مستحق الدين، فلا دين، ولا نظر، وإن لم يُسقط الدين، ولكن رضي، فله الخروج.
وهل يلتحق بأصحاب فرض الكفاية؟ فيه احتمال وتردّد، والأظهر أنه يلتحق بهم.
ولو كان الدين مؤجلاً عليه، فإن أراد المسافرة إلى غير الغزو، مثل أن يريد الحج أو غيره من المآرب التي لا تُبنى على مصادمة المَتالف والمَخاوف، فليس لصاحب الدين أن يمنعه، ولكن إن أراد الخروج معه ليطالبه إذا حلّ الدين، فليفعل على شرط ألا يُداوره مداورة الملازم؛ فإن ذلك غير جائزٍ في الديون المؤجلة، ولا فرق بين أن يقرب إليها الأجل أو يبعد، ولا يعتبر ما بقي من الأجل بالأمد الذي ينتجز في مثله السفر، وكل ذلك متفق عليه، ولا مطالبة ولا مؤاخذة قبل الأجل.
فأما سفر الغزو، فإنه مُخطِر، ولو فرض القتل، فيحلّ الدين، والترتيب في ذلك أنه إن خلَّف هاهنا وفاء بالدين، فلا منع، وإن لم يخلف وفاء بالدين، فهل لمستحق الدين منعُه من الخروج؟ فعلى وجهين: أقيسهما- أنه لا يمنعه؛ لما مهدناه من أن المطالبة لا تحل قبل حلول الأجل وإذا لم تكن مطالبة، فلا مؤاخذة، ولا اعتراض.
والوجه الثاني- أن له أن يمنعه لما أشرنا إليه، من ابتناء السفر على المصير إلى مصرع الموت. وذكر بعض الأصحاب وجهاً فيه إذا خلّف وفاءً أن له أن يمنعه أيضاً، وهذا على نهاية الضعف والبعد.
فينتظم ثلاثة أوجه: أحدها: لا منعَ، وهو الأصح.
والثاني: له المنع من غير تفصيل، وهو أضعف الوجوه، والثالث: أنه إن ترك وفاءً لم يمنعه.
وقال قائلون من أئمتنا إذا كان من عليه الدين من المرتزقة، فلا يمنع؛ فإنه مترتب لهذا الشأن، بخلاف ما إذا لم يكن من المرتزقة، وإذا ضممنا هذا التفصيل إلى الأوجه التي قدمناها، صارت الأوجه أربعة.
هذا منتهى القول فيما يتعلّق بالديون، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في معركة القتال يوماً: «من وضع سيفه في هؤلاء مقبلاً غير مدبر، حتى قتل، فله الجنة». فقال بعض الأنصار، وكانت بيده تمرات يأكلها: ليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ورمى بالتمرات، واخترط سيفه، وكسّر غمده، وانغمس في العدوّ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا أن يكون عليك دين»، فعاد وانغمس حتى قتل. فهذا ما يتعلّق بالدين.
11284- ومما تجب رعايته في الخروج إلى الجهاد الموصوف بكونه فرض الكفاية رضا الوالدين. قال الشافعي: "وبإذن أبويه لشفقتهما".
فنقول: إذا كان أبواه مسلمين، لم يكن له الخروج إلى الجهاد دون إذنهما.
والأصل فيه ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أريد أن أجاهد معك، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألك أبوان؟ فقال: نعم. قال: فكيف تركتهما؟ قال: تركتهما وهما يبكيان. قال: ارجع إليهما، وأضحكهما كما أبكيتهما» وفي بعض الروايات: «ففيهما فجاهد». وهذا الذي ذكرناه متفق عليه، وهذا محتوم ليس من قبيل الاستحباب، فلابد من رضا الوالدين إن كانا مسلمين.
فأما إذا كانا مشركين، لم يفتقر الخروج إلى الجهاد إلى إذنهما؛ لأنه يجاهد أهل دينهما. وقد قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15]؛ مَنَع من طاعتهما في أصل الشرك، وكذلك الجهاد مع أهل الشرك. وقد غزا أبو حذيفة عبدُ الله بنُ عتبة بنِ ربيعة، مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه كان كافراً من كبار قريش، ولا شك أنه كره ذلك. وغزا عبد الله بنُ أبي بنِ سلول مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخفى كراهةُ أبيه؛ فإنه كان يخذّل الأجناد، حتى خذل ثلث الجند عام أحد، فكيف كان يرضى بخروج ابنه.
هذا قولنا في سفر الغزو الواقع فرض كفاية، فأما إذا استجمع الابن الأوصاف المعتبرة في استطاعة الحج، فلا خلاف أنه يجوز له الخروج، وإن سخط أبواه؛ فإنه منتهض لسفرة متعينة عليه، وليست سفرة الموت، وإن كان وقوع الموت متوقعاً في كل نفس.
11285- فأما الخروج لطلب العلم، فسنذكر تفصيلاً في طلب العلم، ولكن ننجز هاهنا ما يتعلّق بالسفر، حتى تجري الأسفار في نظام التفصيل الذي نريده.
فإن أراد الرجل أن يسافر لطلب العلم المتعيَّن عليه-كما سيأتي إن شاء الله تعالى- فلا يحتاج إلى الاستئذان، فإذا كنا لا نعلّق سفرة الحج بالإذن مع أنه يقبل التأخّر، فسفر التعلم فيما لابد منه أولى بألاّ يفتقر إلى الإذن.
فأما الحظّ الذي يتعلّق من العلم بإفادة الغير، وهو الترقي إلى رتبة المجتهدين، فالتفصيل فيه أنه إن كان في القطر والناحية من يستقل بالفتوى، فخروج الإنسان ليس خروجاً يندرىء به الحرج، فإن الحرج مرفوع باستقلال مُفتي الناحية، فهل يجوز الخروج ليكون هو من جملة المفتين أيضاً من غير إذن الوالدين؟ فعلى وجهين: أصحهما- الجواز؛ فإن الإنسان مطلقٌ لا حجر عليه، فلو حرمنا عليه الخروج دون رضا الوالدين؛ لكان ذلك مفضياً إلى حبسه ومنعه من الانتشار في أرض الله تعالى، سيّما إذا كان يبغي رتبةً شريفة، ودرجة منيفة، والغالب أن نفوس الأبوين لا تطيب بفراق الولد.
وما ذكرناه في سفر الغزو في حكم المخصوص الذي يُتّبع فيه ولا يقاس عليه، وفيه اختصاصٌ بالمصير إلى مصرع الموت، فيكثر لأجل ذلك تحرز الأبوين، وهذا لا يتحقق في سائر الأسفار، هذا إذا كان الخروج بحيث لا ينال من تركه حرج.
فأما إذا كان الفتوى معطلة، فالحرج ينبسط على كل متأخر عن التشمير، فإذا ابتدر من فيه رُشد، وهو يدرأ عن نفسه الحرج، فلا حاجة إلى استئذان الأبوين بلا خلاف، ويلتحق هذا بالعلم المتعيّن. وإن خرج أوْ همّ بالخروج أقوام، وكان هو من الهامين بالخروج، والفوزُ برتبة الفتوى غيبٌ، فلا يُدرى من ينالها، فالأصح أنه لا يحتاج إلى الاستئذان أيضاً، وفيه وجه بعيد أنه لابد من استئذانهما، فإن في الناهضين كثرة، فإذا كان هو أحدَهم، وليس على ثقة من الفوز بالمراد، فقد يظن الظان أن تنجيز برّ الوالدين أولى.
فانتظم في العلم مراتب: أحدها: الخروج لطلب العلم المتعين، وليس فيه اشتراط الإذن، والثانية- الخروج لنيل رتبة الفتوى، وفي البلد من يستقل بها، وفيه خلاف مشهور، والأقيس جواز الخروج من غير إذن. والثالثة- أن يتخلف الناس عن طلب العلم، وينتهي الأمر إلى لحوق الخروج بالخروج للعلم المتعين، فلا حاجة بالخارج إلى الإذن. والرابعة- أن ينتهض للطلب منتهضون، فمن له أبوان هل يحتاج إلى الاستئذان؟ فيه وجهان: أصحهما-أنه لا يحتاج، والوجه الآخر- ضعيف. والقول في تفصيل العلم يأتي إن شاء الله.
11286- فأما إذا أراد الإنسان الخروج لتجارة أو غيرها من الأغراض، فقد أطلق القاضي أن الأسفار المباحة لابد فيها من إذن الوالدين، وهذا كلام مبهم، فلا شك أنه أراد السفر الطويل؛ فإن الخروج للنُّزه وغيرها دون مسافة القصر مطلقة قطعاً، وأما الأسفار الطويلة، فإن كان فيها تعرّض لخوفٍ ظاهر، فلابد من إذن الأبوين، كسفر الجهاد، بل هو أولى بالافتقار إلى الإذن، لأنه ليس فرضاً على الكفاية.
وركوب البحر فيه تفصيل قدّمته في كتاب الحج على الشرائط المعروفة فيه، فقد يظهر إن لم نوجبه للحج، فلابد لراكبه من إذن أبويه، وإن أوجبنا ركوبه لسفر الحج على الشرائط المعروفة فيه، فقد يظهر أنه يجب اعتبار رضا الوالدين، في السفر المباح في البحر؛ لأن شفقتهما إذا انضمت إلى ذكر أهوال البحر، ثار منها ما يثور منهما في سفر الجهاد. والعلم عند الله تعالى.
فأما الأسفار في البر والطرق آهلة، والأمن غالب، فالذي أراه أن ما لا يطول فيه زمان الذهاب والإياب، وإن كان يبلغ مرحلتين وأكثر، لا يحرم، وما يطول فيه الأمد، ففيه احتمال، ويجوز أن ننظر إلى الخروج إلى المواضع التي تتواصل الرفاق إليها قاصدة وإلى ما لا يتصوّر ذلك فيه، وهذا بمثابة الخروج إلى الرّبى.
هذا لا يعدّ سفراً منقطعاً. والخروج إلى مصرٍ انتهاضٌ إلى بقعة لا يتواصل الرفاق إليها، فيكون ذلك سفراً منقطعاً، ويقرب التحرز فيه من التحرز في سفر الجهاد، وينضم إلى هذا القبيل أن السفرة ليست واجبة في نفسها.
فخرج مما ذكرناه أن السفر القصير لا يجب أن يكون فيه خلاف. والسفر الطويل المباح على التردّد في كل صورة.
وإن استبعد مستبعد وجوب استئذان الأبوين، فإني أخشى أن يكون هذا من استمرار الإلف بالاستبداد بالنفس، وحكم الدين طلبُ البر بالوالدين. قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...} [الآية الإسراء: 23]، وفي الآية لطيفة لا يتفطّن لها إلا موفق، وهي أنه تعالى أبان أنه لا معبود غيره، ثم ذكر برّ الوالدين على أثر عبادته، ونبه على أنه تِلوُ عبادته تعالى، ومن أدنى آثار ذلك طلب رضا الوالدين في الأسفار المباحة. وهذا منتهى الأمر في ذلك.
وليس يبعد عندي إلحاق الأجداد والجدّات بالوالدين فيما ذكرناه من اشتراط الرضا، ولا يبعد تنزيل الأبوين الكافرين منزلة المسلمين في غير سفر الدِّين، يعني الأسفار المباحة، والأمور الدنياوية.
11287- ومما يُرعى في الجهاد الواقعِ فرضَ كفاية المعاذيرُ التي تتصف النفوس بها. قال الشافعي في صدر الباب: قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى...} [الآية التوبة: 91]. وقد أبنَّا أنها نزلت في طائفة من المتخلفين عن غزوة تبوك للضعف والعجز، وقد نزلت آيتان في سورتين، وصيغ الكلام فيهما متقاربة، والمقصود مختلف. قال الله تعالى في سورة النور: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وقال في سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [الفتح: 17].
والمراد برفع الحرج في سورة النور أنه لا حرج على الموصوفين بالعلل التي ذكرناها في مؤاكلة من ليس لهم تيك العلل، فللأعمى أن يؤاكل البصير، وإن كان قد لا يتأتى منه مراعاة الأدب في تقدير اليد وإعمالها فيما يليه، ولا يخفى أن الأدب أن يأكل الإنسان مما يليه، وقد روي: "أن ابن عباس كان يؤاكل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغره في جفنة فيها ثريد، فمد يده إلى ما يلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله يده وقبلها، وردّها إلى ما يليه، وقال: كل مما يليك " فلما رفعت الجفنة أحضرت تُميرات، فالتزم ابن عباس الأكل مما يليه، فلطف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «كل من حيث شئت، فإنها غير لون» وروي مطلقاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تأكل من ذروة الطعام؛ فإن البركة في أعلاها»، فلا حرج على الأعمى في مؤاكلة البصير، وفي لطف معنى الآية أمر البصير بألا يتبرّم بمؤاكلته.
ثم قال الشافعي: قال الله تعالى: {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} وهذا يحمل على سوء جلسة الأعرج في المؤاكلة، وقد يتأذى به من على جانبه، فرفع الله الحرج على المعنى الذي ذكرناه، حتى لا ينزجر من به العرج، ولا يتبرم السليم.
وقال عز من قائل: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وهذا على المعنى الأول، ثم قال تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61]، وأظهرُ مقال في ذلك: رفعُ الحرج في أكل الإنسان وحده، وقد ورد في الأخبار: «شر الناس من أكل وحده» وهو مفسر بتمام الحديث، إذ قال: «ومنع رفده». ثم قال تعالى {أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ} [النور: 61]، فعدّ الأقارب.
وظاهر الآية أن من أكل من طعام المسلمين إذا دخل بيوتهم، فلا حرج. وللآية معنيان:
أحدهما: أن يحمل الأمر فيه على العموم، وكأن المراد كونوا كذلك، ولْتسمح نفوسكم، فإنه سبب التداخل والتوادّ. هذا وجه.
والثاني: أنه تعالى أراد الذين تطيب نفوسهم إذا عوملوا بذلك، فأما من لا تطيب نفسه، فلا يجوز ذلك معه. وذكر الله تعالى الصديق، ومعناه يخرج على الوجهين، روي أن سفيان بن عيينة حضر جماعةٌ من الأصدقاء داره، وكان غائباً، والباب مغلق، ففتحوا الباب، ودخلوا ووضعوا السفرة وجلسوا يأكلون، فدخل عليهم سفيان، فأخذ يبكي، فقيل له: ما يبكيك، فقال ذكرتموني صحبة أقوام مضَوْا، وعاملتموني معاملة الصالحين، ولست منهم. هذا بيان آية المؤاكلة.
11288- وأما الآية التي في سورة الفتح، فهي في الجهاد. قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ...} إلى آخر الآيات والمراد بالآية رفع الحرج عن هؤلاء المعذورين
المذكورين في سياق الآية. ونحن في الجهاد الذي يقع فرضاً على الكفاية، فالأعمى لا يتصدّى لهذا، وكذلك الأعرج. أطلق الأصحاب هذا تعلّقاً بظاهر القرآن، وقال العراقيون: إن كان القتال على صورة الترجّل، فالأعرج لا يندب إليه في إقامة فرض الكفاية. وإن كان القتال ليس على صورة الترجل، فإن العرج لا يؤثر في حق الفارس.
والذي صرح به المراوزة أنه محطوط عنه التصدّي لفرض الكفاية في الجهاد؛ لأن الراكب قد يُحوَج في مضايق القتال إلى الترجل، وعقرُ الدابة وعِثارها ليس من النادر، فمن لم يكن مستقلاً إذا نزل، فهو على غرر. هذا هو القول في العرج، وكان شيخي يقول: هذا في العرج البين. فأما إذا كان يغمز الرجل، وكان به أذى ظَلْع، فلا أثر له، وهذا عندنا مضبوط بما لا يظهر له أثر في محاولة المكاوحة، ومداراة القرب في الترجل للقتال.
ثم قال عز من قائل: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} والمراد من به مرض يعجزه عن الانتهاض والاستقلال بالقتال أو كان على حالةٍ يتأتى منه القتال وجوداً، ولكنه يفضي إلى أنه يعجِز أو يهلك. فإن قيل: ليلتزم القتالَ، ثم إن مات منه، فليكن شهيداً، كما لو استشهد في المعترك.
قلنا: الظاهر عندنا أنه لا يكون كذلك، فإن مَنْ به من المرض ما وصفناه، فالظاهر أنه في أثناء الأمر يعجِز ويقتل ذلاً ويصير دريئة لرماح الكفار، وليس للقتال منتهى يضبط، فقد يتمادى، وقد ينجلي على القرب. هذا هو الذي يظهر عندنا، والله المستعان.
وقد انتجز القول في المعاذير التي رأيناها ملتحقة بالقسم المشتمل على ما يطرأ، وقد مضى القول فيما رأيناه معدوداً من اللوازم. وكل ما ذكرناه في الجهاد الواقع فرضاً على الكفاية.
11289- فأما القتال الموصوف بكونه فرضَ عين، فقال الفقهاء في تصويره: إذا وطىء الكفار طرفاً من بلاد الإسلام، تعين دفعهم، وأتى نقلةُ الفقه بتخاليط، وأمور تشعر بقلّة الدراية، فنَلْقَى في الكتب أنه يتعين على كل من بلغه الخبر من المسلمين أن يطيروا إليهم جماعاتٍ ووحداناً، حتى ينجلوا، وليس الأمر كذلك، على هذا الإطلاق.
ونحن نذكر المسلك الحق ونفصله، فنقول: أولاً- أما أهل تلك الناحية، فيتعين عليهم الدفعُ إذا استولى عليهم الكفار، ثم لِما ذكرنا من الدفع معنيان لابد من تصوّرهما، والوقوف عليهما:
أحدهما: التأهب للقتال إذا تمكن منه أهلُ الناحية، وقدروا على التجمع والاستقلال، وأخذ أُهَب القتال. هذا وجه في معنى الدفع نذكره، ونستقصي ما فيه، إن شاء الله تعالى. فإن كانوا لا يقاومون ولا يحدّثون أنفسهم بالمقاومة ما لم يتأهب معهم العبيد، فحق عليهم أن يتأهبوا، ولا حاجة إلى مراجعة السادة؛ فإنهم يدفعون عن الناحية ديناً، وبهذا يتبين أن العبد من أهل القتال والاشتغال به. وأما النسوان والحالة هذه فإن لم يكن فيهن مُنّة، فلا معنى لتأهبهن، ولعل حضورهن يجرّ على المقاتلة شرّاً إذا جدّ الجدّ.
فأما إذا أمكن استقلال الرجال الذين هم أهل فرض الكفاية، قبل أن يطؤوا ديارنا، وأمكن أن يُصطلموا، ولا ثقة بعواقب الأمور في الحروب، ولو اعتضدوا بالعبيد، لقويت القلوب، وعظمت المُنَّة، ففي هذه الصورة وجهان:
أحدهما: أن العبيد ينطلقون ولا يراجعون السادة، وحق عليهم ذلك.
والثاني: لا يفعلون؛ إذ الكفاية مقدّرة في غيرهم. والعبيد ليسوا من أهل الكفاية. والكفار قارّون، فلا يتعين عليهم القتال.
وإذا وطئوا بلادنا، وهذا فيه إذا أمكن استقلال الأحرار، فإن لم يكن، فالأمر على ما ذكرناه من القطع بتعين القتال عليهم.
ولو كان في نسوة أهل الناحية قوة ودفاع، فهن كالعبيد في التفصيل الذي ذكر.
هذا وجه في معنى الدفع. وحاصله يرجع إلى أنه الدفع عن الناحية والانتهاض لإخراجهم من الأرض التي وطئوها.
11295- المعنى الثاني- أن يبغت الكفار المسلمين بحيث لا يتأتى من المسلمين أن يتأهبوا، فحقٌّ على كل من وقف عليه كافر أو كفار أن يدفع عن نفسه بأقصى ما يقدر عليه، إذا كانوا يعلمون أنهم يُقتلون لو أُخذوا. وهذا يعم الأحرار والعبيد والنساء.
وإن كان لا يبعد أن يؤسروا ثم لا يتسبب الأسر إلى طلب الفكاك، ولو أظهروا امتناعاً، لقتلوا، فهذا ركن من فصل الهزيمة على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
والذي نذكره هاهنا أن القتل إذا كان متحققاً، وهو مع الاستسلام؛ فإن المكاوحة استقتال في هذا المقام، وإن علمت المرأة أنها لو استسلمت، لامتدت إليها الأيدي، ولو بذلت جهدها في الدفع؛ قتلت، فيظهر أن نُلزمَها الدفعَ؛ فإن من أكره على الزنا، لم يحل له الإقدام إليه ليدفع القتل عن نفسه، ويجوز أن يقال: إذا كانت غيرَ مقصودة بالفاحشة، وإنما تظن ذلك إذا سبيت، فلها الاستسلام في الحال في الأسر. ثم إن تمكنت من الدفع عند القصد، دَفَعت.
هذا قولنا في أهل الناحية.
11291- ومن تمام الكلام فيه أن أهل الناحية لو كان فيهم كثرة، وكان في خروج البعض كفاية، فابتدر من فيه كفاية، فظاهر المذهب أنه يتحتم على الباقين أن يخرجوا أيضاً، والسبب فيه أن هذه عظيمة من العظائم اشتد حث الدين على دفعها، فلو لم تزد على حدّ الكفاية، لما حصل غرض الشرع، ولكانت هذه الواقعة بمثابة ما لو كان الكفار قارّين في ديارهم. وإذا كان لا يطير إلى الكفار إلا أهل الكفاية، فبالحري أن يستجرىء الكفار على دخول ديار الإسلام علماً منهم بأنّا لا نلقاهم إلا بمثلهم في العدد والعدة. وهذا هو الظاهر.
ومن أصحابنا من قال: إذا تلقاهم من فيه ثَمَّ كفاية، لم يبق على الباقين أمر، ولا يلحقهم حرج، والغرض أن يدفعوا. وكل ما ذكرناه في أهل الناحية.
11292- فأما الذين ليسوا في تلك الناحية، فنتكلم في الأقرب منهم فالأقرب، ونقول: إن كان في أهل الناحية كفاية واستقلال بالقتال، فالذين قربوا منهم، وكانوا دون مسافة القصر ينزلون-إن وجدوا الزاد- منزلة أهل الناحية، إذا قام بالدفع مَنْ فيه الكفاية.
وإن لم يكن في أهل الناحية كفاية، فيتعين على الأقربين أن يطيروا إليهم، وإذا قلنا؛ إنهم بمثابة أهل الناحية، لم نغادر من البيان المقصود شيئاً في طوارىء القوة والضعف.
فأما الذين يقعون من الناحية على مسافة القصر فصاعداً، فإذا بلغهم الخبر، نُظر: فإن لم يكن في أهل الناحية، وفي الذين يلونهم كفاية، تعيّن عليهم أن يتطيَّروا إليهم، ثم الأظهر هاهنا أنه إذا طار إليهم قوم فيهم كفاية، سقط الحرج عن الباقين.
ومن أصحابنا من قال: يتعين على كافة أهل الناحية التي صورناها أن يطيروا ويتسارعوا إليهم؛ فإن هذا يمنع التخاذل والتواكل، ولو بنينا الأمر على الكفاية وقد جدّ الجد وليس هذا مما يقبل الأناة، بخلاف القتال الموضوع لإقامة فرض الكفاية، والكفار قارّون، فلا ينتظم دفع هذه العظيمة مع المصير إلى الاكتفاء بخروج البعض، لما في الطباع من الانحباس عن القتال، وإذا فرض ذلك، فإلى أن يظهر للكافة لحوق الحرج، ربما تجري عظائم من القتل والأسر، واهتتاك الحرمات، فالوجه الإيجاب على الكافة إذا لم يكن بين أيديهم إلى ما يلي الكفار من فيه كفاية، وهذا يترتب على ما ذكرناه في أهل الناحية إذا كان فيهم كفاية، وكان البعض منهم يستقلّ بالأمر.
وما ذكرناه من الخلاف في البعد مرتب على ما ذكرناه في أهل الناحية والذين يقربون منهم، فإن كنا نكتفي في أهل الناحية بمن فيه كفاية، فهذا في البعيدين أولى، وإن لم نكتف في أهل الناحية، ففي الذين يبعدون وجهان، ثم ينبني على الوجهين في البعيدين ما نذكره، فإن بنينا الأمر على الكفاية، أخرجنا العبيد والنساء، وإن قلنا: عليهم أن يخرجوا بجملتهم-وإن كان في بعضهم كفاية- ففي العبيد والنسوان وجهان، إذا كان في النسوان مُنّة، ولا خلاف أن الخبر إذا بلغهم، لم يكن لهم أن يلبثوا تعويلاً على حركة من هو أبعد منهم؛ فإن بلوغ الخبر يوجب انزعاجهم؛ إذ انزعاج من وراءهم مغيّب، وبقاء الكفار مستولين على ديار الإسلام-في لحظةٍ- عظيمةٌ في الإسلام.
وكل ما ذكرناه فيه إذا بلغ الخبر من على مسافة القصر، ولم يكن في أهل الناحية كفاية.
11293- فأما إذا كان فيهم كفاية، وقد شمروا، فالذي ذهب إليه المحققون أنا لا نلزمهم أن ينزعجوا؛ فإنهم على البعد من الناحية، وفي أهل الناحية كفاية. وهذا ما قطع به القاضي وكل منتسب إلى التحقيق؛ إذ لو لم نقل هذا، للزمنا أن نقول: إذا انتشر الخبر إلى أقاصي الخِطة، توجه على أهل الإسلام قاطبة أن يتحركوا، وهذا بعيد.
وذهب طوائف من أئمتنا إلى أنه يجب على الذين بعدوا أن يتحركوا، ويصيرُ أهلُ الإسلام في هذا بمثابة أهل الناحية، ثم ينتهض الأقرب، فالأقرب لا محالة، والخبر على هذا الترتيب ينتشر، ثم إذا انزعج الذين يبلغهم الخبر، فلا يزالون عليها ولا يتهاونون إلى أن يلقاهم خبر الكفاية، وهذا التدريج في الوقوع يحقق الاستبعاد الذي ذكره المحققون.
11294- ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن أصحاب التحقيق قالوا في الذين يقربون من الناحية: يكفي فيهم اعتبار الزاد؛ إذ لا استقلال إلا به، والمركوب لا معوّل عليه في السفر القصير سيما في المهم العظيم، فأما من يبعد عن الناحية، فقد قال هؤلاء: يعتبر في حقهم الزادُ والمركوبُ كالحج، وفيه وجه أنه لا يعتبر، وليس كالحج، فإن الحج على التراخي، والأمر فيه أهون، وهذا الذي نحن فيه اجتمع فيه التعيين كما ذكرناه، ووجوب البدار، ورجوع الأمر إلى بيضة الإسلام.
وقد ذهب ذاهبون من العلماء كمالكٍ وغيره إلى أن المركوب ليس شرطاً في سفر الحج، فلا يبعد أن يُعْتَبر في هذا السفر ما اعتبره مالك في سفر الحج.
التفريع:
مَنْ شَرَطَ المركوبَ، فلا يخفى تفريع مذهبه، ومن لم يشترط المركوب، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين في أنا هل نشترط الزاد أم نقول: يخرجون إلى أن يفرّج الله تعالى، ولو هلكوا لِعَدمِ الزاد، فإلى الهلاك مصيرهم، وأجرهم على الله تعالى. وهذا عندنا بعيد؛ فإن الاستقلال بغير زاد غير ممكن، وليس في أمرهم بالنهوض مع بعد المسافة إلا هلاكهم من غير فائدة تعود إلى المسلمين.
فقد انتظم هذا الفصل موضحاً كما ينبغي، وانكشف ما فيه من عماية وإشكال.
11295- ونحن نلحق بهذا المنتهى شيئين:
أحدهما: أن الكفار لو أسروا جمعاً من المسلمين، فهل يجب أن نزحف إليهم، كما نفعل ذلك لو وطئوا طرفاً من بلاد الإسلام؟ هذا فيه تردد؛ من جهة أنا لو أوجبنا ذلك فرضاً على العين، لزمنا ألا نفرق بين جمعٍ من الأسراء وبين أسير واحدٍ، حتى نقول: إذا وقع مسلم في الأسر، تحركت جنود الإسلام، وهذا قد يبعد بعض البعد، ويخالف السِّير.
فإذا حصل التنبّه لما أشرنا إليه، فالوجه عندنا القطع بإحلال استيلائهم على المسلمين محل استيلائهم على دار الإسلام، وذلك أن دار الإسلام إنما يجب دفعهم عنها تعظيماً للمسلمين، فإذا حصل الاستيلاء على المسلمين، فالبدار إليهم أولى وأهم، ولكن قد تختلف الأحكام باختلاف الصور، فيظن من لا يتفطّن لدرك الحقائق أن الأمر يختلف.
وبيان ذلك أنهم إذا أسروا واحداً أو جمعاً، وهم على القرب من ديار الإسلام، طرنا إليهم، وإن توغلوا في ديار الكفر، فلا يتأتى التسارع إليهم، وخرقُ ديارهم، وقد لا يستقلّ بهذا جنود الإسلام؛ فإن أُحوجنا إلى ترك التسارع إليهم، فعن ضرورة وأناةٍ عاملون حاذرون على تقديم وجه الرأي؛ فلو صار مَلِكٌ عظيم إلى طرفٍ من بلاد الإسلام، وعلمنا أنه لا يُلقَى إلا بالراية العظمى، فلا نتسارج إلى دفعهم طوائف وآحاداً، فإن الرأي أولى بالمراعاة من كل شيء. فإذا كان ترك التسارع يفضي إلى هلاك الأسرى، مستشهدين؛ فإنا لا نستفيد بالتسارع استردادهم. هذا آخر ما أردنا إلحاقه.
11296-
والثاني: أن الكفار لو استولوا على مواتٍ أو جبل بعيد عن أوطان المسلمين وديارهم وقراهم، ولكنه يعدّ من بلاد الإسلام، فالذي رأيته للأصحاب أنهم يُدفعون كما يُدفعون عن الأوطان، وفي هذا بعض النظر عندي؛ فإن الديار تشرف بسكون المسلمين، فإذا لم تكن مسكناً للمسلمين، فتكليف أهل الإسلام التهاوي على المتالف، والتسارع على الهلكة فيه بعض البعد. وقد نجز الفصل.
11297- ومما أُقضِّي العجبَ منه تجاوز الأئمة عن كشف أمثال هذه الفصول، والقناعة بإجراء الأمور على ظواهرها. وتلك الغوائل دفينةٌ فيها، ولا أشبه كلامهم فيها إلا بنَدَبٍ على جرح وراءه غور وتأكّل.
وانتهى بما ذكرناه كلامنا في كلّي الجهاد حيث يكون على الكفاية، وحيث نَصِفُه بالتعيين. وهذا القدر فيه مقنع في التمهيد والتوطئة.
وكنا وعدنا أن نتكلم في فروض الكفايات في الجهاد والعلم والسلام، وقد وفّينا بالموعد في الجهاد، ونحن الآن نعقد فصلاً في العلم.
فصل:
11298- طلب العلم مقسم قسمين:
أحدهما: مفروض على الأعيان، والثاني: يثبت على سبيل الكفاية، فأما ما يتعين طلبه، فهو ما يبتلى المرء بإقامته في الدين في الأوقات الناجزة، وبيان ذلك أن من بلغه أن الصلاة مفروضة، وهي ذات شرائط، فلا يتصوّر الإقدام عليها والقيام بشرائطها إلا بالإحاطة بالشرائط والأركان، وليس من الممكن أن يعرف عقد الصلاة فيكتفي به، ويتحرّم ويبقى حيرانَ لا يدري ما يفعل، فكل ما يتعيّن الإقدام عليه يتعين العلم بشرائطه، وأركانه، ثم إن ما نعني العلومُ الظاهرة بما يستمر. وقد يقع في الأركان والشرائط نوادر، ولو كُلّفنا العلم بها، لعظم الأمر، ولانْقطع الخلق عن إصلاح المعاش، لاشتغالهم بطلب العلم فيما يتوقع وقوعه.
وإن كان الرجل مبتلى بالنكاح والمعاملات، فعليه طلب العلم بما يجب عليه في ظواهر الأمور التي هو يلابسها على الحدّ الذي ذكرناه من وظائف العبادات.
وذكر أرباب الأصول تصدير ما يتعين بأحكام العقائد، ولست أرى العلم بها واجباً عينياً، وإنما المتعين على كل واحد اعتقاد مصمم صحيح، فلا وجه إلا الاقتصار على مسالك الفقه. هذا بيان ما يتعين طلبه من العلم.
11299- فأما ما يقع فرضاً على الكفاية، فهو ما يزيد على المتعيَّن إلى بلوغ رتبة الاجتهاد؛ فإن قوام الشرع بالمجتهدين، وهذا الفصل يتعلّق بفصولٍ عظيمة مستندة إلى قواعد الأصول، ومن أرادها على حقائقها، فليطلبها من مجموعاتنا في الأصول.
ولو قيل: العلم المترجم بالكلام هل يُستلحق بفرائض الكفايات؟؟ قلنا: لو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفوة الإسلام، لكنا نقول: لا يجب التشاغل بالكلام، وقد كنا ننتهي إلى النهى عن الاشتغال به، والآن قد ثارت الآراء، واضطربت الأهواء، ولا سبيل إلى ترك البدع، فلا ينتظم الإعراض عن الناس يتهالكون على الردى، فحق على طلبة العلم أن يُعِدّوا عتاد الدعوة إلى المسلك الحق والذريعة التامة إلى حل الشُّبه، ولما مسّت الحاجة إلى إثبات الحشر والنشر على المنكرين، وإلى الرد على عبدة الأصنام، صار من فروض الكفايات الاحتواء على صيغ الحجاج، وإبداء منهاجه. ولا شك أن هذه الآراء الفاسدة لو بُلي الناس بها، لأقام الشرع حجاج الحق من منابعها.
فإذاً علم التوحيد من أهم ما يطلب في زماننا هذا، وإن استمكن الإنسان من ردّ الخلق إلى ما كانوا عليه أولاً، فهو المطلوب وهيهات، فهو أبعد من رجوع اللبن إلى الضرع في مستقر العادة.
وإذا ذكرنا هذا المقدارَ، فالمقدارُ المتعيَّن عقدٌ مستقيم على تصميم، ولا نوجب على آحاد الناس بأن يستقلّوا بأدلّة العقول، وتتبع الشبهات بالحَلِّ، فمن استراب في عقدٍ، فعليه أن يدأب في إزاحة الشك إلى أن يستقيم عقدُه، ولست أضمّن ذكر العقائد التي نوجب حصولها على الاستقرار لآحاد المسلمين؛ فإن ذلك يطول. والوجه عندي قطع الكلام في ذلك على هذا المقدار.
11300- ثم لا يخفى أن المفتي الواحد لا يقع الاكتفاء به في الخِطة، ويجب أن يكون في كل قطر من يُراجَع في أحكام الله تعالى. ثم قال الفقهاء: يجب أن يعتبر في هذه مسافة القصر، فإذا سكن مجتهدٌ بُقعةً، استقل به من هو على مسافة القصر منه في الجوانب، وليس من الحزم الكلام في المفتي والمستفتي؛ فإنه من لُباب الأصول.
ثم قال طائفة من الفقهاء لم يتعنَّوْا في طلب الحقائق: من خاض في التعلّم وأونس رشدُه، فلا يبعد نيله الرتبة المطلوبة، فيتعين عليه إتمام ما خاض فيه، ولو ارعوى، كان تاركاً فرضاً متعيناً.
وهذا غلط صريح عند المحققين؛ فإن العلوم ليست جملة واحدة، بل كل مسألة مطلوبة في نفسها، وهي مغايرة لما قبلها وبعدها، فلا يتحقق بالخوض فيه حكمُ الخوض فيما له حكم الاتحاد، ولا تعويل على تشبيه ما ذكرناه من الوقوف في الصف؛ فإنه إنما يتعين المصابرة ثَمَّ، لما في الانصراف من الانخرام والضرر العظيم، وكسر قلوب الجند، ولا يتحقق مثل هذا في العلم، فالوجه أن يعدّ هذا من نوادر بعض الفقهاء التي لا مصدر لها عن ثَبَت وتحقيق. وسنعود إلى طرفي من هذا-إن شاء الله عز وجل- في فصلٍ يأتي بعده.