فصل: فصل: معقودٌ في السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: معقودٌ في السلام:

11351- قال الأئمة: السلام من السنن التي تأكد الأمر فيها، وصحَّت الأخبار في الأمر بإفشاء السلام. ثم قال العلماء: من سلّم على جمع من المسلمين، فإن أجابه واحدٌ منهم، كفى ذلك، وإن لم يجبه أحدٌ حَرِج القوم من عند آخرهم، فابتداء السلام سنة مؤكدة، وجوابه فرض على الكفاية، ثم هو مختص في المخاطبين بالسلام، لا يقوم غيرهم مقامهم، حتى لو سلّم رجل على جمع وعيّنهم لتسليمه، فسكتوا، فردّ عليه من لم يخاطبه بالسلام، فالفرض لا يسقط بذلك عن المخاطبين، وقولنا: الجواب فرض كفاية كافٍ في بيان هذا، فإن الجواب إنما يصدر عمن تعلّق به الخطاب، وإذا أتى بلفظ السلام من لم يخاطَب، فهذا ابتداءٌ، وليس بجواب.
11352- ثم قال الأئمة: سنة السلام على الكفاية في وضعها، كما أن جواب السلام على الكفاية، وبيانه أنه إذا التقى جمعان، فسلم واحد من جمعٍ على الجمع الآخر، كفى ذلك في إقامة السنة، كما أن واحداً من المخاطبين لو أجاب، كفى جواب الواحد، وسقط الفرض عن الباقين، ولو سلّم رجلٌ على رجلٍ معين، تعين عليه جوابه، فقد انقسم جواب السلام في أصله إلى ما يتعين، وإلى ما يثبت فرضاً على الكفاية، كما انقسم الجهاد.
وبالجملة لا يثبت شيء على الكفاية إلا ويتطرّق إليه التعيين، فتجهيز الموتى والصلاة عليهم وتدارك المحتاجين إلى غير ذلك من فرائض الكفايات، يتعين إذا حضره مسلمٌ واحد. وظهور هذا يغني عن البسط.
وغرضنا الآن أن نبين أن من خصص واحداً بالسلام عليه، فلا مُخاطَبَ غيرُه، ولا جواب إلا منه، والجواب لابد منه.
ثم صيغة السلام لا تخفى، واللفظ المشهور " السلام عليكم". وكذلك لو قال: عليكم السلام. وكان شيخي يقول: لو سلّم على واحد، فالأولى الإتيان بصيغة الجمع تعرّضاً لمخاطبة الملائكة، وهذا يعضده أنا نستحب للمتحلل من الصلاة أن يقول: "السلام عليكم " كيف كان. وتأويل ذلك مخاطبة الملائكة، وصيغة الجواب أن يقول: وعليكم السلام. وإن أحب قال: والسلام عليكم. وعطفُ الجواب على السلام حسنٌ، ولو ترك العطف، وقال: السلام عليكم، كفى ذلك، وكان جواباً.
ثم قال الأئمة: ينبغي أن يكون الجواب متصلاً بالسلام اتصالاً يُرعَى مثله بين الإيجاب والقبول في العقود؛ فإنه إذا تطاول الفصل المتخلل، خرج الكلام عن كونه جواباً، والواجب هو الجواب لا السلام.
ولو قال المجيب: عليكم، فالرأي عندنا ألا يكتفى بهذا، فإنه ليس. فيه تعرّضٌ للسلام، وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، قال جماهير المفسرين: أجيبوا بأحسن من السلام، أو حيوا بمثله، حتى إذا قال المسلِّم: السلام عليكم، فالأحسن أن يقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله. فإن لم يَزِدْ، فلا أقل من أن يقول: وعليكم السلام.
وقال بعض أصحابنا: إذا قال المجيب: "عليكم " من غير عطف، لم يكن جواباً، وإن قال: "وعليكم"، كان جواباً مسقطاً للفرض؛ فإنه منعطف على قول المسلّم، فكان راجعاً إلى معناه.
11303- ولو استغرق قوم بشغل، فقد لا نرى لمن يمرّ بهم أن يسلم عليهم، كما سنفصله، إن شاء الله تعالى.
ثم قال الأصحاب: إذا سلّم-ولا نرى له أن يسلّم- لم يستحق جواباً؛ فإن وجوب الجواب منوطٌ باستحباب السلام.
ثم القول في الأحوال التي لا يستحب فيها السلام يستدعي تفصيلاً، فإن كل إنسان على حالة لا تجوز أو لا يليق بالمروءة القربُ منه فيها، مثل أن يكون على قضاء حاجة، أو يكون متبذلاً في الحمام يتدلّك ويتنظف، فلا سلام في هذه الأحوال. وإن كان القوم في مساومة أو غيره من شغل الدنيا، فلا يمتنع السلام لهذا، إذ لو امتنع به، لانحسم إفشاء السلام، فإن معظم الخلق في شغل.
وكان شيخي يقول: إذا كان الإنسان يأكل، فلا ينبغي أن يسلم عليه من يقرب منه، وهذا فيه بعض النظر، ويجوز أن يحمل كلامه على ما إذا كان في فيه طعام، فإن ردّ الجواب قد يعسر ويطول الفصل إذا مضغ ما في الفم وازدرده. ويبعد أن نكلفه ألا يزدرده ويلفظه، فأما إذا وقع السلام بعد البلع، وقبل رفع اللقمة الأخرى، فلا يبعد أن يقال: يستحق بالسلام الجواب؛ فإنه لا عسر فيه، والعلم عند الله تعالى.
11304- ولا يحل لرجل أن يسلّم على امرأة أجنبية ليست من المحارم، وإن سلم، لم يكن لها أن تجيب. وقد ذكرتُ جملاً من أحكام السلام في كتاب الجمعة، عند ذكري الاستماع إلى الخطبة والإنصات.
قال شيخي أبو محمد: تشميت العاطس مستحب، وهو على الكفاية كابتداء السلام، ثم لا يجب جواب التشميت، ولعل السبب فيه أن التشميت لمكان العطاس بالعاطس ولا عطاس بالمشمت.
فصل:
قال: "ومن غزا ممن له عذر أو حدث له بعد الخروج عذر... إلى آخره".
11355- قد قدمنا المعاذير التي تُخرج الرجل عن التصدي لفرض الجهاد على الكفاية، وهذا الفصل معقود في طريان المعاذير بعد الخروج، فنقول: إذا أثبتنا سفر الجهاد بإذن الأبوين، وإذنِ صاحبِ الدَّيْن، ثم رجع صاحبُ الدين، أو رجع الأبوان، وبلغ الخارج خبر الرجوع، نُظر: فإن بلغه خبر الرجوع عن الإذن قبل التقاء الزحفين، وتقابل الصفين، وكان الرجوع والانقلاب ممكناً، فحقٌّ عليه أن يرجع؛ فإن الجريان على حكم الإذن ليس محتوماً، والآذِن بالخيار: إن شاء أن يستمرّ على إذنه، استمرّ عليه، وإن أراد أن يرجع، كان له أن يرجع عن إذنه، وإذا رجع عن الإذن، وتمكن المأذون له من الرجوع، لزمه الرجوع.
وإن بلغه خبر الرجوع عن الإذن، وقد التقى الزحفان، نظر: فإن كان رجوعه يُخافُ منه انفلالٌ في الجند، فيحرم عليه الرجوع، وإن كان لا يتوقع من رجوعه انخرام وفتنةٌ يرجع أثرها إلى الجند، ففي جواز الرجوع والحالة هذه وجهان:
أحدهما: يجوز الرجوع لجواز الإذن، ولا ضرر في الرجوع.
والثاني: لا يجوز الرجوع؛ فإنه لابس القتال ووقف في الصف، ولو فتحنا هذا الباب، لتعدى تجويزُه إلى انفلال الآحاد، والتعلق بالمعاذير، ثم يفضي الأمر إلى انخرامٍ يعظم أثر وقعه، فالوجه حسم هذا الباب بالكلية.
ثم اختلف أصحابنا في صيغة الوجهين، فقال قائلون: الوجهان في جواز الرجوع، وقال آخرون: الوجهان في وجوب الرجوع. وينتظم من الوجهين والتردد في صيغتهما ثلاثة أوجه: أحدها: يجب الرجوع؛ لانقطاع الإذن، وبلوغ الخبر به.
والثاني: لا يجوز الرجوع، وتجب المصابرة. والثالث: أنه يجوز الرجوع، ويجوز المصابرة لتقابل ملابسته القتال وانقطاع الإذن، فقد تعارض نقيضان، فيسقط أثرهما جميعاً، وتبقى الخِيَرةُ بعدهما، وهذا الوجه اختاره القاضي.
ولو أنشأ السفر نحو الجهاد، وأبواه كافران، فأسلما، أو حدث له دَيْنٌ، فهذا في حكم الطوارئ، فيلتحق الترتيب في الرجوع بما ذكرناه من رجوع الأبوين، والصورة مفروضة فيه إذا لم يأذن الأبوان بعد الإسلام في الجهاد، ولم يأذن صاحب الدَّين الجديد.
ولو أذن الأبوان، ثم رجعا وهو في الطريق، ولكن عسر الرجوع عليه لمخاوف يمتنع العبور عليها من غير جمعٍ واستعداد، فالرجوع غير ممكن، ولكن إذا عسر الرجوع، فيمتد إلى الجهاد ويُتم الغرضَ عازماً على أن ينقلب مع الجند إذا انقلبوا، أم يمكث حيث انتهى إليه؟ الوجه أن نقول: إن عسر المكث كما عسر الرجوع، فلا طريق إلا أن ينبعث مع الجند، ثم يرجع برجوعهم، وإن أمكنه أن يتعلق بقرية ويمكث فيها إلى أن يرجع أصحابُه، فيتعيّن ذلك؛ فإن نهيه تضمن أمرين أحدهما- ترك التحرك إلى الجهاد، والثاني: الإقبال على الرجوع، فإذا تعذر الرجوع، فالوجه ترك المسير في جهة الجهاد، فإن ذلك ممكن.
11306- ومن الأعذار الطارئة المرض، فإذا طرأ قبل الوقوف، جاز الرجوع، وإن طرأ في أثناء الجهاد، فإن كان الرجوع يورث انفلالاً واختلالاً في الجند، فلا يجوز أن يرجع أصلاً، وإن خاف الموت والهلاك. وإن كان لا يخاف انفلالاً، ففي جواز الرجوع وجهان، ولا يجري هاهنا إلا منع الرجوع أو جواز الرجوع، فأما وجوب الرجوع، فلا ينقدح، بخلاف ما قدّمناه في مسألة رجوع الأبوين.
11307- ثم تكلم أصحابنا في ملابسة فروض الكفايات. ونحن نأتي بمجموع كلامهم، وننزله على مدارك الصواب.
فأما من لابس الحرب ولا عذر، وهو من أهل القيام بفرض الكفاية، فلا يجوز أن ينصرف من غير عذر، سواء كان في انصرافه خرمٌ أو لم يكن. هذا ما اتفق أصحابنا عليه، وأطلقوا أقوالهم بأن الجهاد يصير متعيناً بملابسة الحرب على من هو من أهل فرض الكفاية، وإن فرض عذرٌ وخيف انفلالٌ، فلا سبيل إلى الرجوع. فإن ثبت عذر يمتنع به الخروج، ولا خيفة، ففي الرجوع بعد الملابسة التردد الذي حكيناه.
وأما ملابسة العِلْم مع إيناس الرشد، فقد حكينا عن طوائفَ من الفقهاء أنه يمتنع الانكفاف. وأوضحنا أنه غلط، وليس العلم في حكم الخصلة الواحدة التي يفرض التلبس بها، فلا ينتهي الأمر إذاً فيه إلى التعيّن بسبب الملابسة. نعم قد يتعين على الإنسان الانتدابُ للطلب، والاستتمام إن خاض، إذا لم يكن في القطر رشيدٌ غيره، والحاجة ماسة. وليس هذا من آثار ملابسةٍ أو خوضٍ في الأمر.
وأطلق أئمتنا القول بأن من تحرّم بصلاة الجنازة، تعيّن عليه إتمامها، وهذا فيه فقه؛ من جهة أن الصلاة مفروضة، وقد تعلّقت بعين المصلي، ولم تكن متعلّقة به قبل الخوض، فيتعلق الإتمام بها؛ فإنها في حكم الخصلة الواحدة، وحكى من تُعتمد حكايتُه عن القفال: أن صلاة الجنازة لا تتعين بالشروع، فإن الشروع لا يغير حقيقة المشروع فيه، ولذلك لا يلزم التطوّع بالشروع فيه.

.فصل: يجمع مسائل نصوّرها بمبادىء النصوص في المختصر، ونذكر ما يحصل الإقناع به فيها:

قال: "ويَتوفَّى في الحرب قتلَ أبيه... إلى آخره".
11358- يكره للغازي أن يقتل ذا الرحم فصاعداً، وتتأكد الكراهية إذا انضم إلى الرحم المحرمية، وتزداد تأكداً كلما ازداد المقتول قرباً، وقد روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه عتبة، ونهى أبا بكر عن قتل ابنه عبد الرحمن، وروي أن عبد الله بنَ أُبي بنِ سلول لما كثر أذاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بقتله، بلغ ذلك ابنَه عبدَ الله، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: بلغني أنك أمرت بقتل أبي، وقد علمت العربُ شفقتي على أبي، فأخاف لو قتله واحد لتداخلني حميةُ الجاهلية، فأقتل مَن قتله، فأدخل النار، فأذن لي حتى آتيك برأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تفعل. نُداريه ما دام يعاشرنا».
قال الشافعي: "لا يجوز أن يغزو بجُعلٍ... إلى آخره".
11359- ليس للواحد من المسلمين أن يستأجر مسلماً على الغزو، وهذا متفق عليه، وقد فصَّلتُ في كتاب الصداق ما يجوز الاستئجار عليه، وما لا يجوز، وألحقتُ هذا بما لا يجوز الاستئجار عليه. ثم إذا فرض الاستئجار على الفساد، وانطلق المستأجَر، وحقق المستدعَى منه، فلا يستحق الأجرة؛ فإن الجهاد يقع عمن تعاطاه، وهو بمثابة ما لو استأجر الرجل على الحج صرورةً لم يحج عن نفسه، فإذا حج الأجير، ونوى مستأجِره على ظن أن الحجة تنصرف إليه، فالحج ينصرف إلى فرض الأجير، ولا يستحق الأَجرة المسماة.
وذكر أصحابنا تردّداً في صورةٍ، وهو أن الاستئجار على الحج إذا صح، وكان الأجير حج عن نفسه حجة الإسلام، فإذا صح عن مستأجِره وانعقد الحج عنه، ثم صرف الإحرامَ إلى نفسه على اعتقاد أن الإحرام ينصرف إليه بقصده وصرفه، فلا شك أنه لا يصرفُ إليه، ويقع صحيحاً عن المستأجِر. وهل يستحق الأجير الأجرة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يستحقها لتحصيله مرادَ المستأجِر
والثاني: لا يستحقها بقصده إيقاعَ الحج عن نفسه.
والصرورة إذا نوى مستأجِره، فلا شك أنه لا يستحق الأجرة المسماة؛ فإنها إنما تستحق في الإجارة الصحيحة، واستئجار الصرورة فاسد، والمذهب الذي لا يسوغ غيره أنه لا يستحق أجرةَ المثل أيضاً، لأنه عمل لنفسه، فيستحيل أن يستحق أجرةَ المثل بمجرد القصد، وأجرةُ المثل إنما تُستحق بالعمل، وليس كما إذا صرف الأجيرُ الحجَّ عن نفسه؛ فإنا في وجه ضعيف أسقطنا أجرته بقصده؛ فإنه يملك إسقاط الأجرة بطرق، وظن صاحبُ هذا الوجه أن قصده من المسقطات. فأما استحقاق أجر العمل بمجرد القصد، فمحال اعتقادُه والمصير إليه.
وإذا تمهد ذلك، بان منه أن المستأجَر على الجهاد لا يستحق على مستأجره أجر المثل، كما لا يستحق عليه الأجرة المسماة؛ فإن الجهاد يقع عن الأجير، فاستحال أن يستحق على عمله الذي وقع له أجرة على غيره.
11310- فإن قيل: هل للسلطان أن يستأجر من المسلمين من أراد استئجاره، ثم يعطيه الأجرة من سهم المصالح؟ قلنا: هذا ما اضطرب فيه أصحابنا، فصار صائرون إلى جواز ذلك، وهو الذي ذكره الصيدلاني، وصرّح به، ومهّده أصلاً، وفرّع عليه.
ونحن ذكرناه أيضاً في قَسْم الفيء والغنائم، وأطلقناه ولم نفصله.
وذكر القاضي أن الاستئجار الذي ذكره الأصحاب من جهة السلطان ليس استئجاراً على الحقيقة، فإن الجهاد يقع على المجاهد، وما يصرف إليه من حق بيت المال، فهو حق المستحِق له إذا تصدى للجهاد، وعَدِمَ تمامَ الأهبة والزاد، وهذا الذي ذكره القاضي هو القياس الذي لا يجوز غيره.
وإذا جمع الجامع ما ذكرناه الآن، وما قررناه في أول كتاب الصداق، انتظم له من المجموع كلام تام.
11311- قال الشافعي: "ومن ظهر منه تخذيلٌ للمؤمنين... إلى آخره".
يحرم على الإمام أن يستصحب متخذِّلاً، وهو الذي يحسّر القلوب، ويلقي الأراجيف، ويصرف قلوب المقاتلة عن القتال، وشرُّ مثل هذا الرجل ليس بالهين؛ فإن النفوس مائلة على وفق الطباع، فيخشى أن يُتَّبع، ثم إذا حضر المخذل بنفسه، ردّه الإمام، فإن اتفق حضوره، وهو مشهور بالتخذيل، فقائلٌ: لم يستحق سهماً ولا رضخاً، ولو قتل قتيلاً من الكفار، لم يستحق سَلَبَه، فإنه ممنوع عن حضوره، فلا يستحق بحضوره، ولا بما يستحقه في حضوره شيئاً. فإن قيل: قد ردّد الشافعي قوله في الفرس الضعيف الأعجف الرَّزَاح، وإن استحقاق سهم الفارس هل يتعلق به. وقد نص الشافعي على أن الإمام يمنع من أدخل دارَ الحرب مثلَ هذا الفرس، ثم اختلف قوله في استحقاق السهم به، فهلاّ أجريتم هذا التردّد في المخذِّل؟ قلنا: ضرر المخذل عظيم، وأدنى ما يعاقَب به أن يُحرَمَ فوائدَ المغانم، وأما الفرس إذا حضر، فلا ضرر، وقد يقع التهيب به إذا وقع في الصف، فتردّد القول لذلك.
والمخذل لو تاب، فتوبته مقبولة، ولكن لابد من استبرائه ليعود إلى استحقاق السهم، وذلك ممكن بأن يمتحن في السرّ والعلن.
11312- ثم قال الشافعي: "وواسعٌ للإمام أن يأذن للمشرك أن يغزو... إلى آخره".
للإمام أن يستعين بطائفة من الكفار، على مقاتلة طائفة، إذا علم أنهم لو غدروا وانحازوا إلى الكفار، لكان للمسلمين استقلالٌ بمقاومتهم، وإن كانوا بحيث لو انضموا إلى الذين يقصدهم، لعسرت مقاومة الفئتين، فلا ينبغي أن يستعين بهم، وقد روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع في بعض الغزوات»، «واستعان بصفوان وما كان أسلم بعدُ في غزوة حنين».
فإن قيل: أليس روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أريد أن أجاهد معك، فقال: أمسلمٌ أنت أم مشرك؟ فقال: مشرك، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا أرغب في المشركين» فردّه. قلنا: تمام الحديث «أنه عاد ثانياً، وذكر مثلَ ما ذكر أولاً، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وردّه، فلما عاد الثالثة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسلم أنت أم مشرك؟ فقال: مسلم، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم»، والغالب أنه توسّم فيه الميلَ إلى الدين، وكان يردّه رجاء أن يسلم، فتحققت فراستُه وصدق، فكان ما جرى من المرادّة محمولاً على تحصيل هذا المعنى.
ثم جوّز أئمتنا الاستعانة بالمشركين على التفصيل المقدّم، ولم يجوّزوا استصحاب المخذِّل قط، فإنا قد نظن ظناً ظاهراً أن الكفار يذبّون عن مساكنهم في الإسلام وديارهم، فإذا كانوا تحت قهرنا على ما فصلنا، لم يمتنع الاستعانة بهم. وأما المخذل، فلا خير فيه، وهو ضرر كله.
11313- ثم ذكر الشافعي جوازَ استئجار المشرك على القتال. وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من هذا. ولكنا نعيد الفصل، ونَزيدُ أموراً، ونتدارك أطرافاً في الكلام لابد من التعرّض لها. فنقول: أما الاستئجار، فجوازه مبني على أن الجهاد لا يقع عن الكافر، وإنما المانع من استئجار المسلم على الجهاد أن الجهاد يقع عنه، فيبعد استئجاره على فعلٍ يقع عنه، وقد ذكرنا الكلام على إطلاق الأصحاب القولَ بأن للإمام أن يستأجر المسلمين على الجهاد، وتكلمنا عليه بما ينبغي.
11314- وهذا الفصل مقصور على استئجار أهل الذمة: فلا امتناع إذاً من الجهة التي ذكرناها في المسلم، ولكن قد يعترض نوع آخر من الإشكال، وهو أن الاستئجار إنما يصح إذا كانت الأعمال مضبوطة، وما يشتمل عليه القتال من الأعمال ليس مضبوطاً، ولأجل هذا المعنى اضطرب أصحابنا، فقال قائلون: هذه جعالة، وقال آخرون: تصح الإجارة، وإن كانت الأعمال مجهولة، وهذا ظاهر النص، وإليه مصير الجماهير، وهو معلل بوجهين:
أحدهما: أن المقاصد هي المرعية، ومقصود هذه الإجارة لا يقع إلا على الجهالة، ولا يتأتى فيها التعرّض للإعلام.
والثاني: أن المعاملات التي تجري في القتال سيّما إذا كانت المعاقدة مع الكفار تحتمل أموراً لا تحتملها التصرفات الجزئية، والشاهد في ذلك مسألة العلج على ما ستأتي مشروحة-إن شاء الله عز وجل- في دلالته على القلعة.
والذي يحقق هذا أن حكم الجعالة أن المستعمَل المجعول له له الخيار في ترك عين العمل، فإن حكمنا بأن هذه المعاملة جعالة، لزم أن يجوز للمشركين بعد الوقوف في الصف أن ينصرفوا أو يتركوا العمل، وهذا الذي جوّزناه يُفضي إلى خَرْمٍ عظيم، لا سبيل إلى احتماله، فلا وجه إلا حمل المعاملة على الإجارة، واحتمال ما فيها من الجهالة.
وقد يرد على هذا الكلام سؤال وجواب عنه، وهو أن أهل الذمة لو حضروا بإذن الإمام، ثم أرادوا الانصراف بعد التقاء الزحفين، فالرأي أنهم يمنعون من ذلك لما فيه من الضرار، وإن لم يكونوا من أهل الجهاد، لا إذا كان فرضاً على الكفاية، ولا إذا تعين. ولكن سبب منعهم من الانصراف ما في ذلك من النكاية في المسلمين، فلا يبعد حمل المعاملة على الجعالة، حتى يحتمل مافيها من الجهالة، ثم يمتنع انصرافهم لما ذكرناه من امتناع انصرافهم لو خرجوا من غير جعل ولا أجرة إذا وقفوا في الصف.
11315- ولو أراد الإمام أن يستأجر عبيد المسلمين على الجهاد فهذا بناه الأئمة على أصلٍ. والترتيب فيه أنا إن جوّزنا للإمام أن يستأجر المسلمين الأحرار على ما صار إليه طوائف من الأصحاب، فيجوز أيضاً استئجار عبيد المسلمين.
وإن منعنا استئجار الحرّ المسلم، فاستئجار العبد خرّجه الحذّاق على الخلاف الذي حكيناه في أن العبيد هل يتعين عليهم الجهاد إذا وطىء الكفار طرفاً من بلاد الإسلام؟ فإن قلنا: يتعين عليهم، فهم إذاً من أهل القتال، فإذا وقفوا في الصف وهم مسلمون يتعين عليهم المصابرة ديناً، فيكون استئجارهم بمثابة استئجار الأحرار. وإن قلنا: العبيد لا يتعين عليهم الجهاد إذا وطىء الكفار بلاد الإسلام، فقد بان أنهم ليسوا من أهل الجهاد، حتى يفرض وقوع الجهاد عنهم إذا اصطف الحزبان، فاستئجارهم كاستئجار أهل الذمة.
11316- ومما يتعلق باستئجار أهل الذمة أن الإمام لو لم يستأجرهم، وأخرجهم قهراً، فقد أساء، فإذا كلفهم الخروجَ والقتال، فإنه يلتزم أجرَ مثلهم، فإن أخرجهم قهراً، كما وصفنا، ثم خلاّهم، فعليه أجرتهم من وقت الإخراج إلى وقت التخلية، ولا يضمن أجر مثله بعد التخلية إلى أن يعود إلى وطنه، لأن منفعته عادت إلى يده، فلئن كان يبغي الرجوعَ إلى وطنه، فليفعل ما بدا له.
ولو استسخر الإنسانُ حُرّاً، غرِم له مثلَ أجر منفعته، وإذا حبسه ولم يستعمله، ففي المسألة وجهان ذكرناهما في الغصوب، وليس ما ذكرناه من تخلية الكافر بمثابة الحبس؛ فإن الكافر غيرُ ممنوع عن التقلب بعد التخلية، بخلاف الحرّ المحبوس؛ فإن منفعته تفوت عليه، ومن قال: لا ضمان على حابس الحر، فمتعلّقه أن منفعته تَلِفَتْ تحت يده، ولم يتلفها عليه الحابس بالاستعمال والاستئجار.
11317- ومما أجريناه في قَسْم الغنائم، ونحن نعيده الآن: أن أهل الذمة إذا حضروا الواقعة بإذن الإمام، فيستحقون الرضخ، وإن حضروا بغير إذن الإمام، أو نهاهم الإمام، فلم ينزجروا، وحضروا، فللأصحاب اضطرابٌ في ذلك: والمسلك المرضي أنهم لا يستحقون الرضخ إذا لم يكن شهودهم وخروجهم بإذن الإمام، أو بإذن من إليه الأمر؛ فإنهم ليسوا من أهل الذب عن الإسلام، ثم إذا لم يكن إذنٌ، فلا فرق أن يحضروا من غير نهي وزجر، وبين أن ينهاهم صاحب الراية، فيشهدوا مراغمين.
ومن أصحابنا من قال: إذا شهدوا من غير نهي وزجر، ولا إذن، فلهم الرضخ؛ فإنهم بالعهد المؤبد صاروا على الجملة من أهل الدار، ولم يبد منهم تخذيل. حتى تردد هؤلاء الأصحاب في استحقاق المراغمين المزجورين. وهذه الطريقة ضعيفة.
والعجب أنا اقتصرنا عليها في قسْم الغنائم، ولم نذكر الطريقة الصحيحة، وقد أتينا بها الآن، وكتاب القَسْم وكتاب السِّير تتداخل فصولهما، فإذا ألفى الناظر نقصاناً في أحد الكتابين، فليدبّر ذلك الفصلَ من الكتاب الثاني.
11318- ولو قهر الإمام طائفةً من المسلمين، وأخرجهم إلى الجهاد، لم يستحقوا أجر المثل؛ فإنهم من أهل الجهاد، فالجهاد يقع عنهم، هكذا ذكره الصيدلاني وغيره، وهذا يدلّ دلالة ظاهرة على أن استئجار المسلمين على الجهاد غيرُ لازم، والعجب أن الصيدلاني قطع باستئجار المسلمين للإمام، ثم قال: لو أخرجهم قهراً، لم يلزم لهم أجر، ولو صح جواز الاستئجار، فالظاهر أنه لو أخرجهم قهراً، أدّى أجرَ مثلهم من المال الذي لا يؤدى منه الأجر المسمى، والله أعلم.
وإذا كان الجريان على الأصح، وهو امتناع حقيقة الاستئجار، فيطّرد على هذا أنه من سمى شيئاً للمسلمين، فهو تجهيز لهم وإمداد بالعتاد والزاد، فعلى هذا إذا قهرهم وأخرجهم لم يستحقوا أجراً.
قال الصيدلاني: لو عين الإمام شخصاً، وألزمه غسل الميت ودفنَه، فليس لذلك المقهور أجرٌ على عمله، وهذا الذي ذكره فيه فضل تدبر؛ فإنا نقول: إن كان لذلك الميت تركة، فأجرةُ من يتولى هذه الأعمال من تركته، فإذا قُهر شخصٌ والحالة هذه، استحق المقهور الأجر.
وإن لم يخلف الميت شيئاً، وكان في بيت المال متسع لتجهيز الموتَى، فيجب ذلك على الإمام من مال بيت المال، وإن لم يكن، فأراد الإمام أن يعين واجداً، فلا معترض عليه، وإذ ذاك يتجه أن يقال: لا أجر له.
وقد قدمنا أن الإمام لو عين طائفة، وأمرهم بالخروج للجهاد، لم يكن لهم أن يخالفوه، ثم هو في نفسه لا يلي شيئاً من أموره على الخِيرة العريّة عن الاجتهاد والنظر، وإنما يتعين غير المرتزقة إذا حَقت الحاقة، ومست الضرورة، فإن لم تكن، اكتفى بإنهاض المرتزقة، فإنهم المستعدون لهذا الشأن.
11319- ولو أخرج الإمام أهل الذمة قهراً، أو حملهم على القتال، التزم لهم أجر المثل، كما ذكرناه، فإن أخرجهم قهراً، فلم يقفوا يوم القتال، فلهم أجر مثل الذهاب، وإن وقفوا ولم يقاتلوا، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لهم أجر الوقوف، قال: بدليل أنه يتعلّق به استحقاق السهم، ومنهم من قال: الوقوف ليس بعمل يتعلّق به الأجر، وإن كان يتعلق استحقاق السهم إذا صدر من أهله. والمسألة محتملة، فإن لم نجعل الوقوف عملاً نظر: فإن لم يكونوا تحت حبس المسلمين، فلا شيء لهم على مقابلة الوقوف. وإن كانوا محبوسين ممنوعين عن الانكفاف، فسبيلهم كسبيل الحرّ المحبوس الذي لا يستعمل، وقد ذكرنا الخلاف فيه.
ولو كان المخرَج قهراً عبيداً، فلهم أجرهم، وإذا حبسوا على الوقوف ولم نر الوقوفَ عملاً، فحبس العبيد يوجب الأجرَ بخلاف أجر الحر.
11325- ثم اختلف أصحابنا في أن الإمام يبذل الأجر من أي مالٍ، يعني أجر المقاتلة؟ أما إذا قُهروا أو استُئجروا، فمن أصحابنا من قال: يُخرَج أجرهم من رأس مال الغنيمة، فإن أثر قتالهم تعلّق بحيازة المغنم، ومنهم من قال: يعطيهم الإمام من سهم المصالح.
11321 ثم إذا وضح أن الإمام يستأجر الذمي، فلو أراد واحد من المسلمين أن يستأجر ذمياً ليجاهد، فالذي أطلقه الأصحاب أنه لا يجوز؛ لأنه لا مدخل للنيابة في الجهاد، وليس لآحاد المسلمين التصرف بالمصلحة العامة. وهذا فيه احتمال عندنا تخريجاً على استئجار المسلم على الأذان، ولا فقه في انفصال أحد البابين عن الثاني بثبوت الفرضية في أحدهما بعد ما تحقق استواؤهما في أن النيابة لا تتطرق إلى واحد منهما.
11322- ثم قال الشافعي: "ويبدأ الإمام بقتال من يليه من الكفار... إلى آخره".
والأمر على ما ذكره. وقد صرح القرآن بها. قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ووجه المصلحة في ذلك ظاهر، ثم ظاهر الأمر أن ما ذكرناه على المعتاد الغالب، فإن لم يكن من الأقرب خوف، واقتضت الإيالة تجهيزَ جندٍ إلى الأبعدين لغائلة محذورة منهم. فعلى الإمام في ذلك ما يقتضيه الرأي، وقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، وخلَّف بني قريظة، وهم على باب المدينة.
11323- ثم ذكر الشافعي باباً مترجماً بالنفير، ومضمونه تحقيق كون الجهاد من فروض الكفايات إذا كان الكفار قارّين، وهذا قد تقدّم مفصلاً، فلا حاجة إلى إعادة شيء من مضمون هذا الباب.