فصل: باب: جامع السير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: جامع السير:

11324- قال الشافعي في أول هذا الباب الذي ننتهي به: "القتال يختلف باختلاف المشركين، وهم قسمان: قسم ليس لهم كتاب، ولا شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان والنيران، وما استحسنوه، فهؤلاء نقاتلهم حتى نقتلَهم أو يسلموا، فالسيف عليهم إلى الإسلام. وهم المعنيون بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وإياهم عنى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله".
وقسم من المشركين لهم كتاب، كاليهود والنصارى، أو شبهة كتاب كالمجوس، فهؤلاء نقاتلهم حتى يسلموا، أو يقبلوا الجزية. قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
ثم أجرى الشافعي فصولاً قدمناها مستقصاة في قَسْم الغنائم، فلا حاجة إلى إعادة شيء منها، وإن جدّدنا تراجمها، لم يضرّ، فمنها أحكام الأسرى، وقد ذكرنا أن أمرهم مفوّض إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى قَتْلَهم، قَتَلَهم، وإن رأى رَقَّهم، أرقّهم، وإن رأى منّ عليهم، وإن أراد، فاداهم، وإن أراد أن يحبسهم حتى يُخمِّر رأيه فيهم، وهذا في الرجال. والذراريُّ والنساء يُرقُّون بنفس السبي.
ثم ذكر بعد ذلك السَّلَب، وكيفية قَسْم الغنائم، والقول في الفارس والراجل، وصحة القسمة في دار الحرب. والكلام في أن الأُجَرَاء والتجار والأسرى هل يستحقون السهمَ إذا حضروا الوقعة. وقد تقصينا جميع ذلك على أبلغ الوجوه في البيان.
فصل:
قال: "ولهم أن يأكلوا ويعلفوا دوابهم... إلى آخره".
11325- طعام المغنم فوضى بين الغانمين، ينبسطون فيه على حسب الحاجة، ولا يوقف على القسمة، والأصل في الفصل ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: "كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء " وروى عبد الله بن المغفل قال: "دُلّي جراب من جدار خيبر، فالتزمتُه، وفيه شحم ولحم، فأخذوني أصحابي، فكنت أجاذبهم، ويجاذبونني، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراءنا يبتسم، ولم ينكر علينا " وعن عبد الله بن عمر قال: "أصبنا في بعض الغزوات طعاماً وعسلاً، فأكلنا منه، ولم يُخَمَّس".
والمعتمد في مقصود الفصل الأخبارُ، والذي تخيله العلماء من الأمر الكلي أن حاجات الغزاة تمس إلى الطعام، والغالب أنهم لا يَلْقَوْنَ في ديار الحرب أَسْوُقاً قائمة، فأطلق الشرع أيديَهم فيما يصادفونه من طعام المغنم، ينبسطون فيه على قدر الحاجة، والفقيه لا يلتزم طردَ معاني الأصول على حدود الأقيسة، وإنما يَنْظم فيها أموراً كلية.
ومقصود الفصل يتعلّق بأنواعٍ: أحدها: في جنس ما يجوز التبسط فيه، والآخر- في المكان، والآخر- في حدّ من يجوز له الأخذ.
أما الجنس، فالمعتمد أن يكون مقتاتاً أو يكون علفاً تستقلّ الدّواب به، كالشعير والتبن وما في معناهما، فأما الأدوية والعقرات التي لا تستعمل إلا دواءً، فالأيدي مكفوفة عنها إلى أن تقسم؛ فإن مسيس الحاجة إليها تُلحق بالنوادر، حتى قال الأصحاب: لو مَرِض من الجند واحدٌ أو جمعٌ، فلا تصير الأدوية في حقهم كالأقوات والعلف. ولكن إنما يأخذونها بقسمةٍ أو بذل قيمة، كما لو مست الحاجة إلى الثياب وغيرها.
والمطعومات التي لا تعدّ للحاجات العامة ملتحقة بالأدوية كالسكّر، والفانيذ، وما في معناهما. وأما ما يطعم غالباً، وليس من الأقوات كالفواكه، ففي جواز التبسط فيها وجهان:
أحدهما: يجوز لما روينا مطلقاً عن ابن أبي أوفى أنه قال: "كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء". والوجه الثاني- أنه لا يجوز؛ لأن الحاجة لا تتحقق فيها، ويمكن أن نفصل بين ما يتسارع الفساد إليه، ويعسر نقله، وبين ما لا يتسارع الفساد إليه.
فإذاً الأقوات والعلف محلُّ التبسط، والأدويةُ والأطعمة التي لا يعم أكلها في أعيانها ملتحقة بالثياب، وفي الفواكه التي يعم اعتيادها الخلافُ الذي ذكرناه، فأما الحيوانات، فما تيسّر من سوقها تساق، والغنم تذبح، والأصح أن مسلكها مسلك الأطعمة؛ فإن الأغنام في الشرع كالأطعمة الضائعة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الأغنام الضالة، للسائل عنها: "هي لك أو لأخيك أو للذئب". وقال العراقيون: يجوز ذبحها وإن كان يتيسّر سوقها كما ذكرنا، ولكن هل يغرَم من ذبحها وأكلها قيمتها؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يغرَم كسائر الأطعمة. والثاني يغرم؛ لأنها لم تكن أطعمة في أعيانها، وإنما وردت الأخبار والآثار في أطعمة المغنم.
وهذا الوجه ضعيف، لأنه يمنع من تسليم جواز الذبح.
وقد نجز القول في الجنس.
11326- فأما الكلام في بيان الحاجة والتفصيل في التبسط، فالغانمون يأخذون من الأطعمة أقدار حاجتهم إلى الكفاية التامة، أما الزيادة على الحاجة، فلا.
ولو كان لواحد منهم من الأطعمة والعلف المستصحب ما فيه كفاية، فله الأخذ من طعام المغنم أيضاً في أصل الوضع، فإن الأخبار لا تفسير فيها، وإنما مقتضاها كون الأطعمة فوضى بينهم، فإن قيل: ما معنى ما ذكرتموه من الحاجة ومن معه كفايته لا حاجة به؟ قلنا: الحاجة إلى الاقتيات والعلف قائمة، فله صرف طعام المغنم إليها، وإمساكُ ما معه.
ثم قال المحققون: إذا قل الطعام، وازدحم الجند، وقد يُفضي الازدحام إلى النزاع، فإذا استشعر قائد الجند ذلك، أثبت يده على الطعام، وقسمه-إذا قل الطعام- ْعلى أقدار الحاجات، ويقول لمن معه ما يكفيه: اكتف بما معك، ولا تزاحم أصحاب الحاجات من الجند، وإنما كنت تشاركهم فيه لو أشبع الطعامُ.
ثم قال الأئمة: تُرعى حاجة الأكل والعلف فحسب، فلو مست الحاجات للغانمين إلى توقيح دوابّهم بالشحم الذي صادفوه، ففي المسألة وجهان: أظهرهما، وأصحهما- أن ذلك لا يجوز، ولا نزيد على الطعم والعلف، والتوقيح خارج من ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يمنع التوقيح؛ فإنه متصل بضرورة العلف. وهذا ضعيف غير معتد به، لأنه خارج عن التطعم والعلف، والأخبار فيها. وهو أيضاً نادر، وقد ألحقنا ما يطعم نادراً بالثياب، فما الظن بما لا يستعمل طعاماً. وهذا في التحقيق استعمال طعام في غير مطعم، ولأجل ذلك اختلف الأصحاب.
وقال الأئمة: لو ذبح الغانمون أغناماً ردّوا جلودها على المغانم، فإن أكلوا جلودها على لحومها سمطاً، فلا بأس، ثم ما يأكلونه، وينبسطون فيه غير محسوب على أحد، وكأن الشارع أضافهم عليه.
وقال المحققون: لو أتلف واحدٌ من الغانمين شيئاً من طعام المغنم، ضمنه، وكان ما يبذله مردوداً على المغنم؛ فإنه أتلف يوماً، ولم يستعمله في الجهة التي سوّغ الشرع استعماله فيها، وكان إتلافه بمثابة إتلاف الثياب وغيرها.
ولو أخذ بعضُ الغانمين ما يزيد على حاجته من الطعام، وأضاف عليه جمعاً من الغانمين، جاز؛ فإنه تولى تعبَ الإصلاح والطبخ، ورجع الطعامُ إلى الغانمين. ولو أراد أن يُطعم أجنبياً ليس من الغانمين، لم يكن له ذلك. وعلى الأجنبي الضمان، والمقدِّم إليه من الغانمين في حكم الغاصب يقدّم الطعام المغصوب إلى إنسان، ثم التفاصيل لا تخفى في علم الضيف وجهله.
11327- ولو أخذ بعض الغانمين شيئاً من الطعام، وأقرضه صاحباً له، فالأصح أن هذا الإقراض ليس بشيء؛ فإن الغانم لا يملك ما يأخذه وإنما له حق الانتفاع، والغانمون في أطعمة المغنم كالضيفان فيما قدّم إليهم، فليأكلوا، ويتمتعوا، فأما الإقراض والبيع، فلا مجيز له.
وذكر الصيدلاني وغيره من المعتبرين أن الإقراض يتعلق به حكم، فإن الآخذ مقدارَ الحاجة يصير أوْلى به، ويثبت له حق اليد فيه، وفائدة هذا الوجه أنه يطالبه بما أخذه أو بمثله، ما داما في دار الحرب، فإن اتصل الجند بدار الإسلام-كما سنصف، إن شاء الله تعالى، القول في المكان- فالمستقرض لا يرد على المقرض شيئاً، فإنه انقطعت حقوق الغانمين عن الأطعمة بالتعلّق بدار الإسلام.
والإمام يأخذ من المستقرض على هذا الوجه الضعيف ما استقرضه إذا كانت العين باقية، ثم إن أمكن ردُّه إلى المغنم، فعل، وإن تفرق الجند وعسر فضّ مُدٍّ من طعامٍ على مائة ألف، فقد قال الصيدلاني: الإمام يصرفه إلى خمس الخمس، عنى بذاك سهمَ المصالح، ويجعل كأن الغانمين أعرضوا عنه، وقيل: سبيله سبيل الفيء، وكأنه خرج عن حكم المغنم، وهذا ضعيف لا أصل له، إذ لو كانوا كذلك، لما وجب الرّد إلى المغنم إذا أمكن الردّ. وقد اتفق الأصحاب على وجوب ذلك.
فإذاً المذهب فساد القرض، وتفريعه أن المستقرض كالآخذ بنفسه، فإن أكله في دار الحرب، فلا تبعة، وإن بقي معه حتى تعلّق بدار الإسلام، فإنه يردّه إلى المغنم على تفاصيلَ سنذكرها إن شاء الله تعالى. والوجه الذي ذكره الصيدلاني أن للمقرض مطالبة المستقرض ما داما في دار الحرب، وهذا نص الشافعي: "فإذا خرج إلى دار الإسلام، فالردّ على الإمام " إذا كانت العين قائمة، فأما إذا أُكل واستُهلك، وتعلقا بدار الإسلام فالذي قطع به كل محقق أنه لا يطالَب المستقرض بشيء. وإن كانت العين قائمة، وتيسّر الردّ إلى المغنم ردّ، وإن تعذّر، ففيه التردّد الذي ذكرناه.
فخرج مما ذكرناه أن تصحيح القرض لا يفيد إلا مطالبة المقرض المستقرضَ ما دام في دار الحرب، فأما العين إذا كانت قائمة ردّها أو ردّ مثلها من طعام المغنم، وكأنه ألزمه بالإقراض أن يحصّل من طعام المغنم ما يماثل ما أخذه، فإن لم يكن في المغنم غير ما أخذ، وقد أُكل الباقي، ردّ ما أخذ، وإن أتلفه، فلا طِلْبَةَ عليه، إذا لم يكن في المغنم طعام، لأن حق اليد لا يضمن بالقيمة، كما لو قتل رجل كلبَ إنسان، أو أتلف عليه زبلاً.
ولو جاء بصاع من ملك نفسه، لم يأخذه المقرض، فإن ما جاء به ملك المستقرض، وما أعطاه لم يكن ملكَه، ومقابلة المملوك بغير المملوك لا تصح، فرجع الكلام إلى أن الإقراض يُلزم المستقرض ردَّ ما أخذ أو ردَّ مثله من طعام المغنم ما داما في دار الحرب، فإذا اتصلا بدار الإسلام، انقطعت التبعة بينهما.
11328- ولو باع واحدٌ من الغانمين صاعاً من طعام المغنم بصاع منه، فالقول في البيع كالقول في القرض. والوجه القطع بفساد البيع؛ فإنه تعاطٍ وتبادل كما يفعله الضيفان، فيسلم ضيفٌ لقمة إلى صاحبه، ويأخذ لقمة، ولا مؤاخذة، وعلى حسب هذا قيل: إذا تبايع الغانمان بما أخذاه صاعاً بصاعين، فلا بأس بذاك، وهو تبادل وليس بتبايع.
والصيدلاني لما ذكر في القرض ما ذكره، وعزاه إلى النص، قطع في البيع بأنه ليس بيعاً على الحقيقة، وشبه صورة البيع بما ذكرناه من التعاطي الجاري بين الضيفان، ثم ذكر فصل القرض على ما حكيناه.
وهذا تناقضٌ بيّن؛ فإن القرض إن كان يُلزم أمراً، فالبيع يجب أن يُلزم أحدَهما أن يردّ صاعاً إلى صاحبه لا بجهة البيع، فلو امتنع الآخذ من ردّ صاع، فيجب تنزيل هذا منزلةَ القرض في إثبات المطالبة، هذا لابد منه إن صح القول في القرض، وإن طردنا القياس، أفسدنا أثر البيع والقرض جميعاً، وهو الذي قطع به القاضي ومعظم المحققين. نعم. لو باع صاعاً بصاعين، وفرعنا على تنزيل البيع في إثبات حكم المطالبة في دار الحرب منزلة القرض، ففي هذا تدبّر، فإن سلم صاعاً لم يملك إلا طلبَ صاعٍ تشبيهاً بالقرض، وإن بذل صاعين، لم يطلب إلا صاعاً، ويحمل الزائد على البذل، فإنه لم يقصد ببذله إلزام عوض في مقابلته، هذا هو الممكن.
والتفريع محيط على الأصل الخارج عن الضبط والقياس.
11329- ومما نتكلم فيه المكان: فالجند ما داموا في دار الحرب ينبسطون في الطعام لما ذكرنا، وإن تعلّقوا بأطراف عُمران الإسلام، وتمكنوا من شراء الطعام والعلف، كفوا أيديهم، وإن تعلقوا بأطراف دار الإسلام، ولا عمارة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنهم لا ينبسطون؛ فإن الرخصة تثبت في دار الحرب لا غير
والثاني: أن التبسط جائز لدوام الحاجة.
ولو كانوا يجدون في دار الحرب ما يشترون من الأطعمة، فلم أرَ أحداً من الأصحاب يمنع التبسط بهذا السبب، ونزّلوا دار الحرب في أمر الطعام منزلة السفر في الرخص، فإن الرخص، وإن ثبتت في مقابلة مشقات السفر، فالمترفّه الذي لا كلفة عليه يشارك المشقوق عليه في سفره، فهذا ما يجب القطع به، إلا أن يدخل الجند في بلاد مضافة إلى الكفار يقطنها أهل الذمة والعهد، لا يشاركهم في المساكنة مسلم، فإذا كانت هذه الدار في قبضة الإسلام، وكان أهلها ملتزمين أحكامنا، فهي بمثابة ديار الإسلام في الحكم الذي نطلبه.
وإن كان الكفار معنا في مهادنة، ولا يستسلمون لأحكامنا، ولكنهم لا يؤذون من يطرقهم من المسلمين، وقد لا يمتنعون عن المبايعة والمشاراة، فإذا كان كذلك، فالأظهر وجوب كف اليد عن أطعمة المغنم إذا ظهر التمكن من تحصيل الطعام، وإن لم تكن ديار المعاهَدين المستمسكين بالهدنة مَعْزيّة إلى ديار الإسلام.
وإذا أخرجنا ديار أهل الذمة، وديار المعاهدين، فنعتبر بفَصْل طروقنا ديار الكفار، وهم يختلطون بنا في المعاملة، ولا عهد ولا أمان، فما ذكرناه من تصوير وجود الطعام عسر، فإن أمكن ولم يكن عهد، فجوابه ما قدّمناه.
11335- ومما يتصل بتتمة الفصل أن الغانمين إذا تعلّقوا بديار الإسلام وحرم عليهم ابتداء الأخذ، فلو كان معهم فضلاتٌ من الطعام التي أخذوها في دار الحرب، فهل يلزمهم ردّها؟ فظاهر المذهب أنه يلزمهم الردّ، وحكى الصيدلاني وغيره قولاً عن سِيَرِ الأوزاعي أنه لا يلزم الرّد، فإنه بقيّةُ مأخوذٍ على سبيل الإباحة، فلا يُمنع. فانتظم قولان:
أحدهما: وجوب الردّ، والثاني: أنه لا يجب الردّ. وكان شيخنا يفصّل بين ماله قدرٌ وقيمة، وبمثله احتفال، وبين كَسْر الخبز ونَفَض السُّفَر، وبقايا الأَتْبان في المخالي، ويقول: القولان في هذه الأشياء، فأما ما يُقصد، وينتحى، فمردودٌ وفاقاً، وغيره من الأئمة لم يفصّل هذا التفصيل.
وأنا أقول: إن حمل الغازي من الطعام ما يغلب على الظن مع السير الدائم وتواصل التناقل أنه يفضل منه شيء عند الاتصال بدار الإسلام، فهذا مردود، وليس له حكم الفضلات.
وإذا بانت الصور، فالخارج منه: أن ما ينفصل عن المحمول الذي يبعد مسيس الحاجة إليه في دار الحرب- مردود، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف، وما يفضل عن محمول لا يبعد استيعاب أكله في دار الحرب، فإذا اتفق الفضل، فهذا محلّ التردد، ثم للأصحاب طريقان: منهم من أجرى القولين وإن كان الفاضل بحيث يقصد إذا كان على الحدّ الذي ذكرناه، ومنهم من خصص بالفُتات والكَِسر، وإذا ضممنا التردد في محل القولين إلى أصل وضعهما، انتظم من المجموع ثلاثةُ أقوال: أحدها: الرّد، والثاني: أنه لا يردّ. والثالث: أنه يفصل بين ما يفضل، وبين النَّفَض والكِسر.
ثم إذا أوجبنا الرد، فإن كان ذلك قبل قسمة الغنائم، فالفاضل مردود إلى المغنم، ثم القسمة توصل كلَّ ذي حق إلى حقه. وإن قسمت الغنائم، وأمكن فض فاضل الطعام على نسب القسمة، فعلنا، وإن تفرق الغانمون، وعسر فضُّ هذا الفاضل النزر عليهم، فقد قال الصيدلاني: من أصحابنا من قال: هو مردود إلى سهم المصالح، وهذا فيه غفلة؛ فإن إخراج الخمس منه ممكن، وإنما هذا في الأربعة الأخماس، ثم ينقدح فيها الخلاف الذي ذكرناه في الإقراض.
ويبين بهذا أن استرداد العين من المستقرض إن كانت باقية في يده كيف يقع؟ وما سبيله؟ وحاصل ما تحققتُه وجهان:
أحدهما: أن حكم الاستقراض ينقطع بالتعلّق بدار الإسلام، ويصير المستقرض كآخذٍ لنفسه طعاماً إذا فضل منه شيء، ثم تخرج فيه الأقوال على تفاصيلها، ومن أصحابنا من قال: إذا كانت العين باقية في يد مستقرضها، فهي مستردّة قولاً واحداً؛ فإنه ما أخذ الطعام على حكم تبسط الغزاة، فإن استرددنا منه المستقرَض التقى التفريع على ذلك، والتفريعُ على فاضل طعام الغازي إذا لم يستقرض.
فرع:
11331- إذا لحق الجندَ مددٌ بعد انجلاء الحرب، وحيازة المغنم، فهل يشتركون في أطعمة المغنم حتى يتبسطوا فيها تبسط الغانمين؟ فيه وجهان لا يخفى على من أحاط بالأصول توجيههما.
فصل:
قال: "وما كان من كتبهم فيه طبٌّ... إلى آخره".
11332- الكتب المباحة في الإسلام، ككتب الطب والحساب، وما يحل تعلّمه- سبيلها سبيل سائر الأموال تقسم بعد التخميس على الغانمين، وأما الكتب المحرمة، فقد مثلها الأصحاب بكتب الشرك والهُجْر من الأشعار، ثم قالوا: إن تمكن الانتفاع بأوعيتها، مُحي ما لا يجوز تركه، وردّت الجلود والأوعية إلى المغانم، وإن لم يكن عليها جلود ينتفع بها، ولا أوعية، فسبيلها أن تمحى، وإذا كان لا يتأتى محو ما فيها إلا بالتمزيق والإحراق، فعلنا ذلك، ولم نتركها في أيدي الناس. هذا ما ذكره الأصحاب.
وفيه بقية نظر على المتدبّر، فأما الهُجر والخنا والفحش الذي لا خير فيه، فالأمر على ما ذكره الأصحاب، وأما كتب الشرك، فقد يخطر فيها للفطن أنها يُنتفع بها، على معنى أن الحاجة تمس إلى الاطلاع على مذاهب المبطلين، حتى إذا عرفت، اتجه الردّ عليها بمسالك الحق، فإن كانت تلك المقالات مشهورة، فالرأي إبطالها، وإن كان فيها ما لم يتقدم الاطلاع عليه، ففيه تردد واحتمال بيِّن.
11333- ثم قال الأصحاب: المباحات في دار الحرب كالحطب والحشيش والصيد سبيلها كسبيل المباحات في دار الإسلام، فهي لمن أخذها، وإذا كنا نقضي بأن الحربي إذا اصطاد من ديار الإسلام، يملك ما اصطاده، فلا يخفى أن ما يأخذه المسلم يملكه، والقصد بإيراد الفصل في هذا المكان، قطعُ ظن من يظن أن ما يؤخذ من الأموال المباحة بمثابة المغانم، لأنه لا يتصوّر الوصول إليها إلا مع الاستظهار بعُدّةٍ، فقد يحسب الناظر أن سبيل المأخوذ كسبيل الغنيمة، أو كسبيل الفيء، وليس كذلك؛ فإن المغنم والفيء ما كان ملكاً لأهل الحرب، فأظهَرَنا الله عليه، إما بقتال، أو برعب من غير إيجاف خيل وركاب، والمباحات هي التي لم يتعلّق بها ملك.
ثم قال الأئمة: إذا وجد في الصيد ظبية مقرّطة، أو مقرطقة، والمقرط الذي جعل في أذنه القرط، والمُقَرْطَق هو الذي جُزّ صوفه على علامة كالقَرْطَق، فنعلم أن هذه الظبية مملوكة لمن صادها، فإذا وجدناها في دار الحرب، فقد تساهل الأصحاب، وقالوا: سبيلها كسبيل الغنيمة. وهذا يجيء على مذهب المسامحة، فإن كل ما يؤخذ من أملاك الكفار لا يكون غنيمة، بل المغنوم ما يؤخذ قهراً بقتالٍ ومكاوحة، وقصدٍ ودفع، وما يتفق الظهور عليه من غير مناوشة وقتال، فسبيله سبيل الفيء.
والغرض مما نذكره يبين بتفصيلٍ:
فنقول: كل ما لو وجد في دار الإسلام، لكان لقطة، فإذا وجد في دار الحرب، فهو مُجرى على ملك الكفار، ثم أخذه يتصوّر من ثلاثة أوجه: أحدها: المغالبة، فما كان كذلك، فهو غنيمة، والآخر- أن يجري انجلاء الكفار عنه بإرعاب وإرهاب من غير إيجاف خيل وركاب، فما كان كذلك، فهو فيء، والثالث: أن يتفق أخذه من غير إرهاب، ولا قتال، وفي هذا القسم فضل تدبّر؛ فإن الأصحاب أجمعوا على أن من دخل دار الحرب مستخفياً وسرق شيئاً، فإنه يختص بما أخذه، وهذا مما ليس غنيمة ولا فيئاً خصصناه لصاحب اليد.
وعلى هذا القانون نقول: إذا وجدنا في دار الحرب مالاً ضائعاً، ولم نفرض فيه انجلاء كافر، وهو أن يكون الوصول إلى مكان ذلك المال ممكناً من غير عُدّة، فهو لصاحب اليد فإن لم يكن الوصول إليه ممكناً إلا بعدة، فالمأخوذ فيء؛ فإن قاعدة الفيء إما يؤخذ بقوة الجند أو بقوة الإسلام، من غير لُقيان قتالٍ، وما أخذنا بالقتال من أيدي الكفار، فهو غنيمة، وما ثبت عليه اليد من غير عُدّة، ولا قتال، ولا استنادٍ إلى قوة الإسلام، فذاك يجب أن ينحى به نحو السرقة.
وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في الفيء، ومعناه في قَسْم المغانم والفيء.
وتمام البيان في ذلك أنا إذا وجدنا مالاً ضائعاً على هيئة اللقطة، فلا نأمن أن يكون فضل عن المسلمين، فينبغي أن تُنشدَ الضالة، فإن عرفها مسلم، فهي لقطة مردودة عليه على الشرط المعروف في كتاب اللقطة. وإن لم يدّعها مسلم، والدار دار الحرب، فالكلام على التفصيل الذي ذكرناه. ثم إذا كنا لا نعرف في ديار الحرب مسلماً سوى الأجناد، فيكفي أنها تعرّف إليهم، ولا نؤاخذ بتقدير طروء تاجرٍ؛ فإن ذلك يطول. فإن كان وراء هذا المنتهى بقية، فلا شك أني استقصيتها في كتاب اللقطة.
فصل:
قال: "ومن أُسر منهم، فإن أشكل بلوغهم... الفصل".
11334-تقدّم القولُ في الأسرى وحكم الإمام فيهم واجتهاده في المن والفداء والقتل، والإرقاق، والفرق بين الذراري والنسوان، والمقاتلة، وأوضحنا أن الإمام إذا رأى قتل الرجال واستئصالَهم بالسيف، فمن وجده بالغاً، قتله، ومن استراب في أمره أمر بالكشف عن مؤتزره، فمن أَنْبت منهم قتله، وذكرنا في كتاب الحجر تردّدَ الأصحاب في أن الإنبات عينُ البلوغ أوْ أمارةُ البلوغ.
وقال الأئمة: نبات اللحية وشعر الإبط بمثابة شعر العانة، وإنما نكشف عن المؤتزر، إذا عدمنا شعر اللحية والإبط، وهذا متجه، ولكن اخضرار الشارب ما أراه معتبراً، والصُّدغ المعدود من شعر الرأس لا يشك أنه لا تعويل عليه، والعِذار المقابل للأذن من اللحية، وإذا خشن شعر الشارب كما طرّ، فهو كاللحية، وإن تزعم عند الكشف عن مؤتزره أنه استعجل بالمعالجة الإنبات، فإن جعلنا الإنباتَ عينَ البلوغ، لم ينفعه هذا، وإن جعلناه علامة البلوغ، فالمستعجَل منه لا يدلّ على البلوغ، ثم القول قوله مع يمينه، وهذه اليمين متضمنة للإثبات، وهي على خلاف قياس الأيمان، ولكن حقن الدم غالب، ولذلك حقنا دم المجوسي بالجزية، وإن لم نناكحه ولا نستحل ذبيحته، وجميع أحكام الأسرى قدمناها مستقصاة في القَسْم.
وهذا الطرف الذي ذكرته في الإنبات والاستعجال أحلته ثَمَّ على هذا الكتاب، وقد وفّيتُ به، وتمام حكم البلوغ مذكور في كتاب الحج.
فصل:
قال: "إذا التقوا العدوّ، فلا يولُّوهم الأدبار... إلى آخره".
11335- إذا تعارض الصفان، وتلاقى الجندان، وقابل كل مسلم من الكفار اثنان، فالفرار يحرم، وكان الأمر في الابتداء شديداً، كما اقتضاه قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال: 65]، فكان يجب على الواحد أن يقف لعشرة، فعظم هذا واشتد احتماله، فخفف الله تعالى عن المسلمين، وقال تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]، فاستقر الشرع على مصابرة الواحد لاثنين، والعشرة لعشرين. هذا هو الأصل.
والفرار وعدد الكفار غير زائد على الضعف مع إمكان المصابرة من الكبائر، وقد توعّد الله تعالى عليه بالوعيد الشديد، فقال عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ...} [الآية الأنفال: 16].
ولو التقى جمع من المسلمين بجمع من الكفار، وكان الكفار من الأبطال المنعوتين، وغلب على الظن أنهم يقتلون المسلمين لو صابروا، ولم يولّوا، فهل لهم أن يفرّوا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن لهم الفرار؛ فإن ما في هؤلاء من الأَيْد والنجدة يَبَرُّ معنىً على زيادة الأعداد-ولو زاد عدد الكفار على الضِّعف، لجاز الفرار- من حيث يُغَلِّب الغلبة، لا من حيث صورة العدد.
وإن زاد عدد الكفار على الضعف، وغلب على الظن غلبتهم، فيجوز الانهزام، وإن لم يغلب على الظن غلبتهم، فيجوز الانهزام لظاهر الحال، وهو الذي يغلب عليه سياق الآية المشتملة على التخفيف. ولو غلب على الظن أنا نغلبهم، بأن كنا أبطالاً، وكانوا مستضعفين، فظاهر المذهب، وجوب المصابرة؛ فإنَّ فرار الرجال الأبطال من الضعفة، وإن زادوا على الضعف، ولا حاجة إليه- ذلٌّ، وليس هذا كفرار المسلمين من أبطال الكفار، وعددهم غير زائد على الضعف؛ فإن الحاجة ماسة، ولا ذلّ في الفرار منهم.
وتمسك بعض الأصحاب بصورة العدد، واعتبار الغلبة، وجعلها وجهين، وقال: من اعتبر العدد، جوّز للمائة من أبطال المسلمين الفرار من مائتين وواحدٍ من الكفار، وإن كانوا مستضعفين بالإضافة إلى المسلمين، نظراً إلى العدد؛ فإن اتباع صفات الرجال عَسِرٌ، سيّما في القتال. ومن اعتبر غلبة الظن في الغلبة، قال: ليس لأبطال المسلمين أن يفروا، وإن زاد عدد الكفار على الضعف، إذا غلب الظن في الغلبة، وللمسلمين أن يفروا، وإن لم يزد عدد الكفار على الضعف إذا استشعروا من أنفسهم الضعف.
وهذا الترتيب غير مستحب، والأولى أن نقول: ليس لأبطال المسلمين الفرار من الكفار، وإن زادوا على الضعف إذا غلب على الظن غلبةُ المسلمين. وهل للمسلمين الفرار إذا قابلهم أبطال الكفار، وغلب على الظن غلبتهم، ولم يزيدوا على الضعف؟ فعلى الخلاف المقدّم.
11336- ومما يتصل بذلك أن الكفار لو لاقَوْا المسلمين وليس مع المسلمين سلاح، والكفار شاكون وعددهم غير زائد على الضعف، فإن لم يكن في موضع الالتقاء حجارة، جاز الفرار، وإن كان في الملتقى حجارة، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يجوز الفرار، ويجب مقاومتهم بالحجارة.
والثاني: يجوز الفرار؛ فإن الحجارة لا تقابل السيوف البواتر والرماح. ومنهم من قال: إن كانت معهم مقاليع، لزمهم المصابرة، وإن لم يكن، جاز الفرار. و هذا التردد خارج عندي على الأصل المقدّم، وذلك أن المسلمين إذا عدموا الأسلحة والكفار شاكون في السلاح، فالغالب غلبة الكفار، والغالب أن الأحجار لا تقابل الحديد، فهذا يخرج على القاعدة المقدمة.
ويتصل بهذا المنتهى أمرٌ هو تمام الغرض، وهو أن المسلمين إذا علموا أنهم ولو صابروا لم يُنكوا في الكفار، فلا خلاف في جواز الفرار هاهنا، فانه ليس في الوقوف إلا الاستقتال، وليس يرجع إلى الإسلام من هذا قوةٌ ونُصرة، وإنما التردد فيه إذا غلب على الظن غلبة الكفار، وقد يغلبون، وهذا أصل. قلنا: إذا لم يجدوا الحجارة أصلاً، فإنهم مِزعٌ بين السيوف البواتر، فوقع القطع هاهنا بالفرار.
وتمام غرض الفصل في نجازه.
11337- ثم إذا منعنا الفرار وحرَّمناه، فلا يمتنع التحرف للقتال، والتحيز إلى فئة المسلمين، كما قال تعالى: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16]، وأما التحرف للقتال، فمعناه أن يَلقى الكافر مسلماً في الصف، ويكون المجال ضيقاً على المسلم، فرأى في تدبير القتال أن يولّي الكافرَ ظهره ويستجرّه إلى فضاء ومتسع، حتى إذا اتسع مجاله عَكَر عليه، فله أن يفعل ذلك. وكذلك لو تحرّف من الميمنة إلى الميسرة لرأيٍ يراه، فهذا معدود من التحوّل في القتال، وليس من الهزيمة في شيء وتصويره بيّن، وتعليله واضح.
11338- وأما التحيز، فإنه يرجع إلى القصد وهو متصل بفرار محقق، والتحرّف ليس فراراً، وإنما هو مداورة في القتال.
ثم اختلف طرق الأئمة في التحيز-وهذا من أهم ما يجب الاعتناء به- فذكر الصيدلاني وصاحب التقريب وشيخي وأئمة العراق أن من ولّى، وقصد أن يتحيز إلى فئة، ويستنجد بهم، ويعود إذا عادوا، ففراره على هذا القصد لا يكون معصية، ولا فرق بين أن يكون بين تلك الفئة التي قصد التحيز إليها على مسافة شاسعة، وبين أن تكون قريبة من المعترك، وقال عمر بن الخطاب، وهو في دار الهجرة، يعني مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى الذي نحن فيه: "أنا فئة كل مسلم " وفي بعض التصانيف أن التحيز ينبغي أن يكون إلى فئة قريبة، وهذا هو الذي ذكره القاضي، وهذا كلامٌ مبهم.
وأنا أرى في هذا تفاوتاً واختلافاً بيناً بين الطرق، فنذكر ما فهمناه من معنى القرب على أقرب معتبر. ثم نذكر معنى التسوية بين القريب والبعيد، فأما اعتبار القرب، فلا ينبغي أن ينزّل على مسافة القصر، فإن هذا لا أثر له في الغرض المطلوب، بل معنى القرب أن يكون على القرب من المعترك فئة من المرابطين، وجمعٌ من المسلمين ذوي النجدة والبأس، بحيث يقدّر التحيزُ إليهم استنجاداً بهم حتى يدركوا المسلمين وينجدوهم، ولا يبعد أن يدركوهم والحرب قائمة.
هذا معنى التحيز إلى الفئة القريبة، وهؤلاء يقولون إذا بعدت الفئة، فليس التحيز إليهم استنجاداً في هذا القتال، وإنما هو تركُ القتال قصداً، وعزمٌ على الجهاد يوماً من الدهر إذا اتفق العود، ولو فتحنا هذا الباب فنسوغ مثلَه للجند بأجمعهم، وإن زادوا على عدد الكفار، وهذا يبعد على النسق الذي ذكرناه. وإذا حملنا التحيز على الاستنجاد بالفئة القريبة التي قد تلحق المعترك، فهذا قرين التحرف للقتال، وقد ذكر الله تعالى التحرف والتحيز في قَرَنٍ. هذا معنى القرب على هذه الطريقة.
ومن جوّز الهزيمة على قصد التحيز إلى الفئة البعيدة، فلا شك أنه فرار ناجز، وكان القصدُ في العَوْد بخلاف المصابرة، ويبطل على هذا إطلاق القول بأن الجهاد يتعين المصابرة فيه، ولا حاصل لذكر الضِّعف والزيادة عليه.
ولكن يعترض في هذا شيء حتى لا يتسع الفتق، وهو أن تجريد هذا القصد ليس أمراً يمكن مخادعة الله فيه، ووقوع إبرام العزم على العود في النفس من غير تردد إلا في مشيئة الله تعالى لا يمكن تكلف تحصيله، فهؤلاء-من الأصحاب- سوّغوا الهزيمة إذا وجد المنهزم في نفسه العزمَ على العود، ولابد من التفريع على الطريقتين حتى يتناهى وضوح كل واحدةٍ منهما.
11339- فأما من يجوّز الهزيمة إذا تحقق القصد في التحيز إلى فئة، فإنه يقول: لا يجب أن يشتغل بالعود والاستنجاد، ولا يتعين الاستبداد في ترشيح جمع، ولكن إذا اتفق الجمع، فهل يجب عليه الوفاء بالقصد الذي قدمه؟ هذا فيه نظر، فإن إيجابه وقد انتهى إلى أقصى الشرق أو الغرب في حكم القضاء لأمرٍ فات، وتصوير القضاء عسرٌ في الجهاد.
ومن ولّى الكفار دبره، وباء بغضب من الله، وتعرّض لأليم عقابه، لا يلزمه أن يعود إلى الجهاد، فكيف يلزم من قصد التحيز أن يحقق قصده؟ ومن نذر الجهاد، فسنذكر إن شاء الله تعالى أن النذر لا يؤثر في الجهاد على طريقة ظاهرة. وكذلك إذا نذر الصلاة على ميت، والقصد في العود لا يزيد على التصريح بالالتزام، ويعترض في هذا إشكال، وهو أن القصد إذا لم يجب الوفاء به في حكم اللغو الذي لا حكم له، فيجوز أن يقال: من فرّ متحيزاً، فحق عليه أن يعود إذا أمكن العود، ويجوز أن يقال: لا يجب ذلك، ولفظ الصيدلاني في مجموعه: "أنه متى فرّ على قصد أن يعود إلى الجهاد إذا وجد أعواناً وقوة، فليس بعاصٍ، وإنما العاصي من يفرّ على قصد ألا يعود، بل يعصي إمامه إذا أمره بالعود"، وظاهر هذا يدلّ على أن قصده لا يغير من أمره شيئاً، فإن الإمام مهما عين متمكناً من الجهاد، لزمه أن يمتثل أمره. وبالجملة المسألة محتملة، والاحتمال فيه ظاهر.
هذا إذا وقع التفريع على أن التحيز إلى الفئة البعيدة يحطّ مأثم الفرار، ووبال الهزيمة، فأما إذا حملنا التحيز على الاستنجاد بالفئة القريبة التي يمكن منها إنجاد أهل هذه المعركة، فهذا في نفسه مفهوم، وليس فيه ما يبيح الفرار، ومن آثار هذه الطريقة أنه إذا لم يكن في القرب فئة ذات نجدة، فتجب المصابرة، ويحرم الفرار. ويتسق على هذا المذهب وجوب المصابرة في معظم الصور؛ فإن كون الفئة القريبة ليس يعم بالنسبة إلى معركة القتال، بحيث يتوقع منها تدارك أهل المعركة.
ومما يجب الاعتناء به أنا إذا جوزنا التحيز إلى الفئة القريبة، فالذي أراه أن هذا إنما يجوز إذا استشعر المولِّي عجزاً من المسلمين مُحوجاً إلى الاستنجاد، فأما إذا لم يكن كذلك، وغلبهم غالب، فلا معنى للتحيز إلى فئة؛ إذ لا حاجة إلى التحيز، بل الحاجة إلى مصابرته أظهر، فإن انهزامه قد يُقلّ الجند، فإن كان يبغي إنجاداً، فلا ينبغي أن يُنْجز خرماً رقيقاً قد لا يُتدارك.
والذي أراه أن التحيز إلى الفئة البعيدة لابد فيه من هذا التفصيل؛ فإن المولِّي لو كان يغلب على الظن أن انهزامه-وإن قصد التحيز- يُقلّ الجند، ويقوي قلوبَ المشركين، وقد يؤدي الأمر إلى أن يتغشى الكفارُ المسلمين، فلا يجوز التحيز هاهنا.
والتحرّف للقتال إن جرّ مثل هذا، فلا يجوز أيضاً؛ فإن الإنسان قد يقصد التحرّف ثم لا يستمسك.
فهذا ما عندنا في هذا الفصل.
11340- ثم قال الأصحاب: المتحرّف للقتال مقاتل، وهو. كالواقفين أو كالمبارزين، فلا شك أنه يشرك في المغنم، والمتحيز إن ولّى، ثم انهزم الكفار قبل أن يفارق المتحيز جند الإسلام، شارك في المغنم، ولو فارق الجند مولِّياً متحيزاً، وانفض القتال بعد انفصاله، فهل يستحق من مغنم هذا القتال؟ فعلى وجهين.
هكذا ذكره الأصحاب.
وأنا أقول: إن كان يتحيز إلى فئة بعيدة، فلا يحل تخيل ذلك؛ فإنه منهزم قطعاً قبل الاستيلاء على المغنم؛ فيستحيل أن يشترك لقصده أن يعود بعد سنة؛ فإن ذلك العود والفئةُ بعيدة-إن كان- لا تعلّق له بهذا القتال- فلا يجرى الوجهان إذاً إلا إذا حملنا التحيز على الاستنجاد بفئة قريبة. فاذا فارق، ولم يتصل بالفئة، فأظفر الله المسلمين، وانفصل القتال، فإشراكه في المغنم محتمل؛ لأنه من وجه ليس بمحارب وليس كالمتحرّف المداور المخادع، ومن وجهٍ هو مستنجد، ثم يتضمن حكم هذا الجند في هذا المقام ما ذكرناه، من تحريم الفرار مع استئثار التحرف إذا لم يزد الكفار على الضعف، ولم يغلب على الظن غلبتُهم، كما تقدم تفصيله.
فأما إذا جوزنا الهزيمة، فالمصابرة أولى أم الهزيمة؟ نُظر: فإن لم يغلب على الظن أن المسلمين يُغلبون، فالمصابرة أولى، وإن جازت الهزيمة. وإن غلب على الظن أنهم يُغلبون، فالأولى الهزيمة، وترك التغرير بالأرواح، وهل يجوز الثبوت؟ نظر: فإن كان في الثبوت الهلاك المحض، من غير نكاية في الكفار، فلا يجوز. وإن لم يبعد النصرة والظفر، ولو قُتل المسلمون، فهو بعدُ نكاية ظاهرة في الكفار، ففي وجوب المصابرة وجهان. ذكرهما العراقيون، وهذا منتهى القول في ذلك.
فصل:
قال: "ونصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف المنجنيق... إلخ".
11341- هذا الفصل يستدعي تقديم القول في نساء الكفار، وصبيانهم، وإنه هل يحرم قتلهم، فنقول: قتل نساء الكفار وذراريهم من غير أن يصدر منهم قتال، ومن غير غرض ظاهرٍ في القتال محرّمٌ، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض الغزوات: "الحقوا خالداً، وقولوا له: لا تقتل ذرية، ولا عسيفاً، ولا امرأة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً مقتولة؛ فتغير لونه، وقال لمن بالحضرة:
أتراها كانت تقاتل؟ " فأبان أنها كانت تقتل إذا كانت تقاتل، وعند ذلك قال: "الحقوا خالداً... " الحديث.
ثم تحريم قتل الكافرة والصبي الكافر ليس لحرمتهما؛ إذ لو كان ذلك كذلك، لوجبت الكفارة على قاتلهما؛ فإن حرمات النفوس تمتحن بوجوب الكفارة، فتحريم قتل النساء والذريّة، يتعلق بالاستصواب الراجع إلى طريق الإيالة؛ من جهة أن سبيهنّ وإرقاقَهن أجدى على المسلمين من قتلهن، والاشتغالُ بقتال الرجال أولى من الاشتغال بقتال النساء والصبيان.
وإن كان في قتل النساء والصبيان من الكفار غرض ظاهرٌ في مقاصد القتال، نُظر: فإن لم يُقصدوا بأعيانهم، ولكن قُصدت القلعة بأسباب تعم آثارُها كالمنجنيق، وإرسال المياه، والرمي بالنيران، وما في معانيها، وكان لا يتأتى الفتح إلا كذلك، أو كان لا يتيسر إلا كذلك، والفتح بغير هذه الجهة يعسر ويطول، فيجوز التعلّق بهذه الأسباب. روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، وشن الغارة على بني المصطلق، وفيهم النسوان والصبيان فخرج من ذلك، أنه إذا ظهر الغرضُ، وانضم إليه أن النسوان غير مقصودين بأعيانهم، فلا مبالاة بهم، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنبيّت بلد العدوّ وفيه النساء والصبيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم منهم».
11342- أما إذا تعلّق غرضٌ بقتال النساء، وكانوا مقصودين، فالمقصود يتفصل بصورٍ نعدّها. ثم نذكر بعدها روابط: فإن تترسوا بصبيانهم، ونسوانهم، وهم مقيمون على مقاتلتنا، وربما يزحفون إلينا؛ فنقصدهم ولا نبالي بإصابة الأسلحة النساءَ والصبيان.
وإن كانوا يدفعون عن أنفسهم، ولا يقاتلوننا، واتخذوا النساء والصبيان تِرَسَةً وجَنَناً، وكان لا يمكن قصد الرجال إلا بإصابة التِّرسَة، فقد ذكر الأصحاب قولين، واختلفوا في صيغتهما: فقال القاضي وطائفة: في جواز قتل النساء والصبيان قولان:
أحدهما: يجوز قصدهم، كما يجوز نصب المنجنيق، والثاني: المنع فإن المترّسين بهم ليسوا مقاتلين.
والطريق الثاني- القطع بجواز إصابة النساء والصبيان تذرعاً إلى قتل المترَّسين، وفي كراهية ذلك قولان.
وإذا جمعنا الطرق، انتظم منها أقوال: أحدها: التحريم، والثاني: الجواز من غير كراهية، والثالث: رفع التحريم مع الحكم بالكراهية، ثم إن كرهنا في هذه الحالة، فإن كانوا متحصنين في قلعة وأمكن فتح القلعة من غير سببٍ يعم النسوان والصبيان على يسير، فلا يحرم نصب المنجنيق، وفي الكراهية خلاف، ولعل الأوجه الكراهية، إذا كان الفتح متيسراً من غير هذه الجهات.
فانتظم مما ذكرناه تحريم القتل من غير غرضٍ ومقصد إذا كان القتل مقصوداً، ولا تحريم ولا كراهية إذا ظهر غرضٌ، ولم يتجرّد القصد، كما ذكرناه في نصب المنجنيق.
وإن قصدوا بالقتل وكانوا اتخذوا النساء في القتال تِرسَة، ولو تركناهم، لخفنا مكروهاً، فهاهنا لا بأس ولا كراهية، بل لو كنا نخاف مكروهاً، فيجب قتلهم.
وإن تترسوا في غيبر القتال دافعين عن أنفسهم، فهذا محلّ القولين، ثم في صيغة القولين تردد، ثم المنخول من الكلام الأقوالُ التي ذكرناها.
هذا هو الترتيب المرضي، وزاد شيخنا وصاحب التقريب مسلكاً آخر، فقال: لو تترس المتحصنون بالقلعة بالصبيان والنسوان، وتيسّر الفتح من غير رمي التِّرَسَة، ففي جواز قصد التِّرَسة قولان:
أحدهما: الجواز منعاً لهم من هذه الحيلة، وأيضاً فإنهم أقاموهم أسلحة؛ فإن التِّرَسة من أقوى الأسلحة، فهم المغرِّرون بهم.
فإن قيل: ذكرتم الترس من غير قتال، ولم توضحوا تصوير ما تقولون في أصحاب القلعة إذا تترسوا، وكانوا لا يرموننا بسلاح، هل القول يختلف؟ قلنا: نعم، هذه صورة القولين. فإن قيل: الفتح يعسرُ إذاً. قلنا: نعم، إذا كانوا لا يقاتلوننا، وكان لا يتأتى الفتح إلا بقتل التِّرَسة، فنجاوز هذه القلعة، وتصوير هذا عسر؛ فإنهم إذا كانوا يقاتلون وراء التِّرَسة؛ فإنهم يقتحمون، وإن كانوا يقاتلون وراء التِّرسة، فلا عصام حينئذٍ، فقد اجتمع في هذه الصورة طريقتان متضادتان: إحداهما- أنهم إذا كانوا لا يقاتلون، فهل يجوز قتل النساء والصبيان؟ فعلى قولين. وإن كان الفتح لا يتأتى إلا بقتلهم. هذه طريقة. والأخرى على مضادتها، وهي أنا هل نقتلهم إذا كان الفتح يتأتى من غير أن يقتلوا؟ فعلى قولين. فهذا مجموع القولين في اختلاف الطرق.
وقد تمهد أصل المذهب في معنى تحريم قتل النساء والصبيان.
11343- ثم إن الأصحاب ذكروا على الاتصال بهذا الفصل كون المسلمين بين أظهر الكفار أو في قلاعهم، والتفصيل فيه إذا تترسوا بأسارى المسلمين، والغرض من هذا يبين بذكر صور سبقت أمثالها في أطفال المشركين ونسائهم:
فإن كان في القلعة التي نبتغي فتحها مسلم أو مسلمون، وكان فتحها لا يتأتى إلا بنصب المنجنيق، والأسبابِ العامة، نُظر: فإن كانت هذه الأسباب تنال المسلمين في القلعة لا محالة، فالوجه القطع بتحريم التمسك بهذه الأسباب.
وإن كان فيهم مسلم أو أعداد قليلون، وكان يغلب على الظن سلامتهم إذا كانوا متمكنين من التوقي، ففي جواز نصب المنجنيق والحالة هذه قولان:
أحدهما: المنع لمكان المسلم، وخيفةِ إفضاء الرمي إلى إهلاكه، وزوالُ الدنيا أهون عند الله من دم مسلم.
والثاني: أنه يجوز لغلبة الظن في السلامة والدارُ دار حرب، والكفار لا يعدِمون أسرى من المسلمين يبدِّدونهم في القلاع، فيصير ذلك ذريعة إلى التحصّن عن جنود الإسلام.
هذا تفصيل القول فيه إذا لم يكن المسلم معرّضاً لأسلحتنا بمرأى منا ومسمع.
11344- وأما إذا تترس كافرٌ بمسلم، نُظر. فإن كان المتترس لا يبغي مقاتلتَنا، وإنما يبغي الدفع، فإن أمكن قصده مع توقي المسلم، قُصد برمحٍ أو سيفٍ، أو غيرهما، مما يتمكن فيه الإنسان من وضعه حيث يشاء، وفي هذا احتراز عن السهم؛ فإنه غير موثوق به، وإن كان لا يتأتى قصد الكافر إلا بإصابة المسلم، فلا يحل إصابة المسلم، وإن كان الغرض مَنْ وراءه. هذا إذا كان المتّرِس غيرَ مقاتل.
وإن كان يقاتل وراء المسلم الذي يتّرس به، وعلم الواقف من المسلمين بإزائه أنه لو لم يقصد الترس، لزحف إليه الكافر، وأهلكه، فلا يحل-مع هذا التصوير- إصابةُ المسلم، والغايةُ المحذورة أن يقتل الكافر المسلمَ، وخوفُ الإنسان على نفسه لا يسلّط على قتل مسلم غيرِ جانٍ؛ ولهذا يحرم على المكرَه على القتل أن يقتل، فلو قَتَلَ في حالة الترس كما صورنا، باء بالإثم.
والأصح أن في استيجابه القصاص قولين، كالقولين المذكورين في المكرَه، ففي أصحابنا من قال: يجب القصاص على الذي قتل المسلم الذي يتّرس الكافر به قولاً واحداً، لأن فعل الكافر محطوط مرفوع من البَيْن؛ من جهة أن الخطاب منقطع عنه، فكان قتلُ المسلمِ المسلمَ مع ظهور الخوف بمثابة قتل المضطر مسلماً ليأكله؛ فإن السبب منحصر في القتل. والأصح طريقة القولين، ومن قطع بوجوب القصاص؛ فإنه يقول لا محالة: لو أكره حربيٌّ مسلماً على قتل مسلم يجب القصاص على المكرَه قولاً واحداً، وهذا بعيدٌ لا أصل له، ولا تعويل عليه.
11345- وتمام البيان في هذا يتعلّق بشيء ذكره العراقيون وذلك أنهم قالوا: التترس بالمسلمين إذا لم يكن عند التقاء الزحفين، فالتفصيل فيه كما ذكرناه، والصفوف قارّة في مقارّها، فأما إذا التف الصف بالصف، فتترس الكفار بأسرى المسلمين، وكان لا يتأتى مقاومة الكفار ما لم نُصب أسرى المسلمين، ففي جواز الإصابة منهم وجهان، ذكرهما العراقيون، وهذا يحتاج في تصويره إلى مزيد كشف، فما ذكروه فيه إذا كان الانكفاف عن الأسرى يُفضي إلى أن يُصطلم جند الإسلام، ثم يختل بانفلالهم ركنٌ عظيم، فهذا يتعلق بأمرٍ كلي، ولا يبعد أن نُجري الأمر في أشخاصٍ من أسرى المسلمين على مساهلة وتهوين؛ إذ لو لم نفعل هذا، لجرّت الحالة خَرْماً عظيماً في أمرٍ كلي، وحفظُ الكليات أولى من حفظ الجزئيات.
فانتهض مما ذكرناه قسمان في التقسيم الأول:
أحدهما: أن يكون المسلمون في القلاع، وقد فصلنا ذلك على بيان شافٍ، والقسم الثاني- فرضُ قتل المسلم إذا تترس به الكافر، وهذا ينقسم إلى فرض محصورين من الغزاة في مقابلة مترسين، ولو هلك الغزاة، لم ينخرم أمرٌ كلي، وإنما هو إتلاف أشخاص، وإبقاء أشخاص، فلا يجوز إصابة المسلمين على ما تفصّل، والآخر أن يُفرض التترس عند التفاف الزحفين، وكان بحيث لو ترك التعرض للتِّرسة، لخيف عليه اصطلام الجند وانخرام أمر كلي، فهذا موضع التردد في جواز قصد المسلم، كما حكيناه عن العراقيين.
وقد نجزت قواعد الفصل، وأعاد الأئمة في هذا المقام فصولاً قدمناها في الجنايات والديات، ومهدنا أصولها، ونحن نجتنب المعادَ جهدنا، ولكني أرى إعادة تلك الفصول لترتيبٍ حسنٍ ألفيناه لصاحب التقريب.
11346- فنقول: ذهب صاحب التقريب إلى أن الغازي إذا رمى سهماً إلى صف الكفار في دار الحرب، فأصاب سهمُه مسلماً: نُظر. فإن لم يَعرِف أن فيهم مسلماً، فإذا فيهم مسلم، ولم يسدّد سهمَه إليه، ولكن حاد السهم، ومال إليه، فأهلكه، فلا تجب الدية في هذه الصورة، وتجب الكفارة.
ولو علم أن فيهم مسلماً على الجملة، وسدّد سهمه نحوه، فأطنه، فمات، قال صاحب التقريب: تجب الدية في هذه الصورة قولاً واحداً، ولا يجب القود. ولو علم أن فيهم مسلماً ولم يقصده في عينه، وإنما قصد غيره، ولكن أصابه سهمه، ومِنْ قَصْده الكفار، فتجب الرقبة، وفي وجوب الدية قولان في هذه الصورة. هذا ترتيب صاحب التقريب، وهو حسن.
فإن قيل: أليس ذكر الأئمة أن من قتل مسلماً على زي مشرك في دار الحرب، فلا قود، وفي لزوم الدية قولان، وقد قطع صاحب التقريب أنه إذا قصده فقتله، يلتزم الدية؟ قلنا: يمكن أن يقال: لا اختلاف بين الطرق في ذلك، والترتيب أن نقول: إذا اجتمع شيئان، فتجب الدية قولاً واحداً، وإن فُقدا، لم تجب قولاً واحداً، وإن فقد أحدهما دون الآخر، ففي وجوب الدية قولان.
وبيان ذلك أنه إن علم أن فيهم مسلماً، واجتمع مع ذلك أنه قصده، وقتله، فتجب الدية قولاً واحداً، وإن حسبه كافراً. ولو عُدم الشيئان جميعاً، فلم يعلم أن فيهم مسلماً، ولا قصد عينه، ولكن أخطأ السهم إليه، ففي هذه الصورة لا تجب الدية قولاً واحداً، وإن قصده، فقتله جاهلاً، ولم يعلم أن فيهم مسلماً على الجملة، ففي وجوب الدية قولان؛ فإنه وُجد أحد الشيئين، وهو قصد القتل، وعُدم الثاني؛ فإنه لم يعلم أن فيهم مسلماً، وبمثله لو علم أن فيهم مسلماً، ولم يقصده في عينه، ولكن أخطأ السهم، ففي لزوم الدية قولان لوجود أحد الشيئين، وهو علمه أن فيهم مسلماً، ولم يقصده في عينه.
وما ذكره الأئمة من القولين فيه إذا قتل شخصاً مقصوداً، يمكن حمله على ما إذا لم يعلم أن فيهم مسلماً، فيتجرد القصد، فهو أحد الشيئين. هذا بيان هذه الطريقة.
ولكن ذكر جماعةٌ من الأصحاب قولين فيمن قتل مسلماً ظنه كافراً على زي الكفار في لزوم الدية، ودلّ كلامهم على أنه لا فصل بين أن يعلم أن فيهم مسلماً أو لا يعلم، وهذا فصلٌ قد قدّمته، ولكني أحببتُ إعادته للضبط الذي أشرنا إليه.
ثم كل من قتل شخصاً خطأ، فالدية على عاقلته، فإن لم يكن في القتل خطأ، ولكن درأنا عنه القصاص، لا لمعنًى في الكفاءة، ولكن لجهل كما صورناه، فإذا ألزمناه الدية، فهي عليه، أو على عاقلته؟ فعلى قولين، فإذا قتل مسلماً في دار الحرب على زي مشرك، وظنه مشركاً، أو قتل الجلاد من استوجب القصاص، ثم وضح أن مستحق القصاص كان عَفَا عن القصاص، فإذا ألزمنا الدية على تفصيل فيه، فهي عليه أم على العاقلة؟ فعلى قولين، وهذا يطّرد في كل قتلٍ لا خطأ في عينه، وإنما سبب اندراء القصاص ظنٌ وحسبان في القاتل.
فصل:
قال: "فأما قطع نخيلهم، وإحراقُ أموالهم... إلى آخره".
11347- إذا أراد المسلمون قطع النخيل التي في دار الكفر، وإحراق الأموال، نُظر: فإن كانوا يرجون أن تصير للمسلمين، لم يجز. وإن بعد الرجاء فيه، جاز ذلك، ولكن على شرط ألاّ يلهيَهم ذلك عن الاشتغال بالأهم، وهو القتال والتشمير لوجوه الحزم فيه، وقد روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخيلاً بخيبرَ والطائف»، «وأمر بقطع نخيل بني النضير، فنادى واحدٌ من الحصن: إن هذا فسادٌ يا محمد، وإنك تنهى عن الفساد، فتركه».
وفي هذا الفصل استدراك؛ فإن اليأس عن مصير الأشجار للمسلمين غير ممكن، حتى يخصص القطعُ بها، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخيلاً بخيبر والطائف، ثم صارت الناحيتان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، فقد يغمُض على ذلك إطلاق القول بأن قطع النخيل لا يجوز حيث نرجو أن يصير للمسلمين؛ فإنها ليست مملوكة لنا في الحال، وليست لها حرمة الحيوانات، فالكراهية ألْيق بهذا المقام من التحريم. والله أعلم.
ويمكن أن يقال: ما يتعلّق بالاستصواب، ويرتبط برأي الإمام، فما يراه صواباً، لا يجوز لنا مخالفته، كما لا يترك الولي ما يظنه غبطة للطفل. وفي المسألة احتمال على حالٍ. والعلم عند الله تعالى.
11348- وإن أدركونا، وفي أيدينا نساؤهم وصبيانهم، وعلمنا أنهم يستردونها، فلا يجوز لنا أن نقتلهم لنغيظهم، وفي مثل هذا المقام، تحرق الأموال، ويقطع النخيل، ولا نبالي.
ثم قال الأئمة: كما لا يحلّ لنا قتل النساء والولدان إذا أدركونا، فكذلك لا يحل لنا قتل البهائم رعايةً لحرمة الروح بخلاف الأموال والأشجار المثمرة وغير المثمرة، ويجوز عقر الفرس تحت الكافر؛ فإنه قد لا نتوصل إلى الكافر إلا بذلك، والفرس أداتُه وآلته، والأخبار في عقر الأفراس تحت الأبطال مشهورة.
فصل:
قال: "وإنما تركنا قتل الرهبان اتباعاً لأبي بكر الصديق... إلى آخره".
11349- أصحاب الصوامع والبيَع والرهابين والشيوخ الذين لا رأي لهم، والزمنى والعسفاء، وهم الأجراء والحرّاثون المشتغلون بشغلهم في الحراثة هل يجوز قتلهم؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة في أظهر الروايتين عنه. والقول الثاني- يجوز قتلهم.
توجيه القولين: من منع القتل، احتج بما روينا: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحقوا خالداً، وقولوا له: لا يقتل عسيفاً ولا امرأة»؛ ولأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال، فكانوا كالنسوان والصبيان.
ومن قال: إنهم مقتولون، احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا شيوخ المشركلين، واستحيوا شَرْخَهم» والشرخ الشباب.
ثم اختلف أئمتنا في وجه تنزيل القولين في الشيخ، فذهب المحققون إلى أنهما يجريان في الشيخ الفاني الذي لا يرجع إلى بطش، ولا إلى رأي، فأما من كان صاحب رأي، فهو مقتول قولاً واحداً. ومن أصحابنا من أجرى القولين في الشيخ ذي الرأي، إذا لم يكن من أهل القتال، وهذه الطريقة ضعيفة. ثم لا ينتهي صاحبها إلى الانكفاف عن قتل شيخ حضر الواقعة، وكان يدبّر الجند أو يَصلُح له، فمثل هذا مقتول، ويدلّ عليه قصة دريد بن الصِّمة. وقيل: إنه كان ابنَ مائة وخمسين سنة، فقتل في غزوة أَوْطاس. فأما إذا حضر الواقعة شيخ لا يرجع إلى بطش، ولا إلى رأي، فيجوز إجراء القولين فيه، ولا يمتنع القطع بقتله؛ لأنه بحضوره، ووقوفه مقاتلٌ.
11350- ثم إن قلنا: هؤلاء مقتولون، فلا شك أن سبيلهم سبيل المقاتلين، فتغنم أموالهم، وتسبي ذراريهم، ونساؤهم.
وإن قلنا: لا يقتلون، فكيف سبيل الرق فيهم؟ حاصل ما ذكره الأئمة في التفريع على هذا القول ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم يَرِقون بنفس السبي كالنساء والذراري.
والثاني: أنهم لا يَرِقون بنفس الوقوع في الأسر كالمقاتلة من الرجال، ولكن للإمام إرقاقهم، وليس له قتلهم، والوجه الثالث: أنهم لا يَرِقون ولا يُستَرقَّون، وكأن هذا القائل يلتفت إلى ما يقتضي الاحترام فيهم. وهذا سخيفٌ لا أصل له؛ إذ ليس للعسيف ما يوجب إجلالَ قدره؛ فإذا كانت النسوة-على أنهن لا يقتلن- يجري الرّق عليهن، فالامتناع من إجراء الرق على العسفان بعيد.
وإن ظن ظانٌّ أن منع جريان الرق يختص بالرهابنة، فهذا فيه تعظيم الكفر، ولا سبيل إليه، في حق المذهب، وهو مُمعنٌ في ترفيه الكفر وقد يشير فحوى قوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} [الحج: 40]، إلى ما يقرب من معنى الاحترام والله أعلم.
ثم إن كان يجري هذا في الرهابنة، فلا وجه لطرده في العسفان.
ثم إن قلنا: يجري الرق عن هؤلاء، فتسبى نساؤهم وذراريهم؛ فإن إجراء الرق عليهم تملُّك رقابهم، فإذا لم يبعد هذا، لم يبعد تملك أموالهم ونسائهم وذراريهم.
وإن قلنا: لا يجري الرق عليهم، فهل تغنم أموالهم؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا تغنم، وهذا ضعيف سخيف، مستنده تعظيم الرّهابنة، وتقدير الشرك جهةً حاقنة عاصمة، ومن كثر صغوه إلى هذه الجهة، فإنما يقترب من ورطة مُخْطِرة، فالأولى الميل إلى إخراجهم من أحزاب المقاتلة، وهذا يجب ألا يمنعَ اغتنامَ الأموال؛ فإن أموال النساء والصبيان مغتنمة، والحقُّ أَوْلى متّبع، وهذا تخبُّط جاء من الامتناع من إرقاقهم، ولو ثبت ذلك-وهيهات- فلا محمل له إلا الاحترام، ويجري على قياسه المنع من اغتنام الأموال على التضيق. وذكر القاضي في بعض التعاليق قولاً: إن ذراريهم لا تسبى، ونساؤهم يسبون، ولا يكاد يتضح الفرق بين الذراري والنساء.
وكان شيخنا يذكر طريقين في السُّوقة الذين لا يتعاطَوْن الأسلحة، ولا يمارسون القتال، وينزلهم منزلة العسفاء، وهذا وإن كان يتجه، فلم يتعرّض لذكره أحد من الأئمة، وإذا طردنا القولين فيهم، فالمقتولون من الكفار الأقلون، ومن قال في التفريع على القولين: لا تغنم أموال السوقة، فقد قرب من خرق الإجماع. هذا منتهى الفصل.
فصل:
11351- المسلم إذا نكح حربية في دار الحرب، ففي استرقاقها وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه لا تسترق لحرمة المسلم، ولما له من العصمة، والعُلقة فيها. والوجه الثاني- أنها مسترقة؛ لأنها حربية، والرق يرد على الرقبة، وحق المستمتع يتعلّق بالمنفعة. فلا تَضاد، فإن الموردين متغايران.
ولو أعتق المسلم عبداً كافراً والتحق بدار الحرب، وعليه ولاء المسلم، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يسترق؛ فإن في استرقاقه قطع ولاء المسلم عنه، والولاء إذا ثبت، لزم، فلم يقبل القطع، والنكاح عرضة للفسخ، فلا يمتنع انتفاؤه بسبب الاسترقاء، كما سنوضح ذلك في التفريع. إن شاء الله.
وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من أجرى الوجهين في استرقاق مُعتَق المسلم، وهذا غريب.
وكان شيخنا يقول: الزوجة الحربية للذمي مسبية، ومعتَقُه لو التحق بدار الحرب هل يُسبى؟ فعلى وجهين. ومعتَق المسلم لا يُسبى، وزوجته هل تسبى؟ فعلى وجهين، ويُثبت الخلافَ في الزوجية والولاء جميعاً.
ثم ما ذهب إليه الأصحاب، واختاره صاحب التقريب لنفسه أن زوجة المسلم إذا سبيت، انقطع النكاح بجريان الرّق على الزوجة، كما لو سبيت زوجة الحربي؛ فإن الإقهار بالإرقاق قطع الحقوق عن المسترقَّة، ولا فرق في ذلك بين زوجة الحربي وزوجة المسلم.
وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً أن زوجة المسلم إذا سبيت، انقطع النكاح بجريان الرّق على الزوجة، كما لو سبيت زوجة الحربي؛ فإن الإقهار بالإرقاق قطع الحقوق عن المسترقة، ولا فرق في ذلك بين زوجة الحربي وزوجة المسلم.
وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً أن زوجة المسلم إذا سبيت، تصير رقيقة بالسبي، وتبقى منكوحة للمسلم، وزعم هذا القائل أن ذلك ممكن، وإذا أمكن الجمع بين ثبوت الرق، وبين استبقاء النكاح، وجب القضاء بالأمرين. نقل هذا الوجهَ وزيّفه، ونسب الأصحابُ إليه، اختيارَ هذا الوجه الضعيف، وما أنصفوه؛ فإنه وافق في تضعيفه، واختار ما عليه الأصحاب، والخللُ في كتابه أنه لم ينبه على وجه التزييف.
وقال المحققون: لا تسبى إلا كافرة، والأمة الكتابية يستحيل نكاح المسلم عليها دواماً وابتداء، وهذا متجه لا دفع له، إلا أن يشترط صاحب هذا الوجه أن يزول الرق في مدة العدّة، إذا كانت مدخولاً بها، كما يشترط زوال الردّة في العدّة، إذا تقيد النكاح بالمسيس، ولم يصر إلى اشتراط هذا صاحب هذا الوجه، بل زعم أن النكاح يستمر، وهذا يبعد، وما يتجه في تضعيف هذا الوجه ما ذكرناه من أن الإرقاق اقتهارٌ يقطع كلَّ استحقاق. وقد ينفصل صاحب هذا الوجه عن زوجة الحربي، فإن الحربي مُقهَر في جميع أملاكه بخلاف المسلم، وهذا لا بأس به، إن اشترط زوال الرق في العدّة، وإذا سُبي الزوج والزوجة الكافران انْبَتَّ النكاح، وكذلك إذا سبي أحدهما، لم يختلف أصحابنا في شيء من ذلك.
وإنما حكى صاحب التقريب الوجه الغريبَ في زوجة المسلم؛ من حيث إنه غير مغلوب على حقه، وغائلة ذلك الوجه ما نبهنا عليه.
11352- ولو غنمنا زوجاً رقيقاً وزوجة رقيقة، كانا رقيقين في دار الحرب، فهل يرتفع النكاح بينهما؟ ذكر الأصحاب وجهين مشهورين والذي يبتدره الفقيه ارتضاءً واختياراً إبقاء النكاح؛ فإنّ تبدّل الملك عليهما بالاغتنام بمثابة تبدل الملك على الزوجين الرقيقين المسلمين بالبيع والإرث وغيرهما.
فإن قيل: فما وجه قول من يقول بارتفاع النكاح؟ قلنا: وجهه أن سيّد الأمة يَغْلِبُ قهراً على رقبة الأَمَة، ويمنعه بُضعها، وكان يترتب استباحة الزوج على ملك المولى، والانتقال بالأسباب الناقلة في الإسلام تجري على مذهب الخلافة، والسبيُ في حكم الإعدام للأول، وإخراجه من البَيْن، وليس القاهرُ بالاغتنام والسبي خلفاً للمقهور.
والأصح الوجه الأول.
ثم قال المحققون: لو كان الزوج والزوجة الرقيقان لأهل الحرب مسلمين، فغُنما، فالوجهان يجريان في انفساخ النكاح، كما ذكرناه.
ورأيت الأئمة قاطعين بأن المسلم إذا استأجر داراً استئجاراً صحيحاً من دور أهل الحرب، ثم غُنمت تلك الدار، وجرى عليها ملك الاغتنام قهراً، فحق إجارة المسلم لا ينقطع، وهذا يعضد الوجه الغريب الذي حكاه صاحب التقريب في منكوحة المسلم، ولكن المنكوحة تمتاز عن الدار المستأجرة بما ذكرناه من امتناع النكاح دواماً وابتداء على الأمة الكتابية، كما سبق تقريره، ومثل هذا لا يتحقق في الإجارة.
هكذا ذكره العراقيون.
وإذا قلنا: اغتنام االزوجين الرقيقين يوجب انقطاع النكاح بينهما، فلا يبعد أن نحكم بانفساخ الإجارة إذا غنمت الدار تحقيقاً لما ذكرناه من امتياز الملك بالقهر عن غيره من جهات التناقل.
11353- والذي يختلج في نفس الفقيه أن المسلم إذا نكح حربية، فقد أمّنها، والأمان يثبت العصمة، فكيف يجوز سبيها؟ وهذا لا حقيقة له؛ فإن الأمان إن صح يستحيل أن يَثبُت مؤبداً، كما سنصفه-إن شاء الله تعالى- في قاعدة الأمان على الاتصال بهذا- والنكاح مؤبدٌ، فإن ردّ السائل سؤاله إلى أنه هل يجوز سبي زوجة المسلم على الاتصال بالنكاح؟ أم تترك ولا تسبى إلى المدة التي يجوز امتداد الأمان إليها؟ قلنا: لا سبيل إلى هذا التفصيل؛ فإن من ينكح زوجة ليس يبغي عقد الأمان لها، وإنما يبغي له منكوحة أبداً، وليس في نكاحه إياها أمان إلى أمدٍ مع مزيد، بل القصد في النكاح على نسقٍ واحد، فإذا كان لا يمتنع السبي بعد مدة، فلا يمتنع السبي على الاتصال، وقد انتجز الغرض من الفصل.
فصل:
قال: "وإذا أمّنهم مسلم حُرّ بالغ... إلى آخره".
11354- الأمان نوعان: عام وخاص، والعام منه يختص بالولاة، وهو عقد الأمان لأهل بلدةٍ، أو ناحيةٍ، وسيأتي تفصيل ذلك في الباب المعقود لعقد المهادنات، إن شاء الله تعالى.
وأما الأمان الخاص، فمعناه عقد الأمان لشخص أو أشخاصٍ معدودين على ما سنقرر-إن شاء الله تعالى- في ذلك ضبطاً. وهذا مقصود الفصل، فنذكر من يصح أمانه، ثم نذكر حكمَ الأمان، ثم نذكر ما يحصل به الأمان، ثم نذكر أمد الأمان.
فأما من يصحّ منه عقد الأمان، فهو المسلم المكلف، فالإسلام لابد منه لينفذ تصرّفه على المسلمين. والمكلف ذكرناه لتصحيح العبارة، ويصحّ الأمان من العبد المسلم، سواء أذن له مولاه أو لم يأذن، ومعتمد المذهب الذي عليه تنشأ المسائل والتفاريع أن من كان من أهل الذب عن الإسلام بالقتال، فهو من أهل الأمان، إذا صحت عبارته، أو نفذت إشارته، والعبد من أهل القتال، ولكنه مستوعَب المنافع لحق المولى، ولو استمكن من تردية كافرٍ من شاهق في أثناء تردداته في مآرب السيد وحاجاته، فلا حرج عليه، وإذا وطىء الكفار بلاد الإسلام، فقد نقول: يتعين على العبد الكائن في الناحية أن يستفرغ وُسعه في الذَّب.
ومما تجب الإحاطة به في تحقيق الأمان أن الكافر يستفيد أماناً من المسلم الذي أمَّنه، وأَمَنة المسلم أيضاً. والأمان نقيض الإرهاب بالقتال، ولو ترك القتال-إذا لم يكن متعيناً-فالحاجات تمس إلى التردّدات في أقطار ديار الكفار إلى الأمان. ثم إذا انتظم الأمان، اقتضى ذلك العموم، فإن من يحرم على مسلم قتله، فالمسلمون أجمعون بمثابته، والمحجور عليه لسفه كالمطلق. والمجنون ليس من أهل الحل والعقد، والذي قطع به الأئمة أن الصبيّ كالمجنون في أنه لا يصح منه عقد الأمان.
وذكر بعض المصنفين أن الأمان يصح من الصبي المميّز؛ فإنه لا ضرار فيه، ولا تبعة، فكان كالوصية والتدبير، وهذا بعيدٌ لا أصل له.
والمرأة كالرجل في صحة الأمان، فإنها على الجملة-وإن كانت لا تقاتل- من أهل إعانة الرجال على القتال بالرأي والمال. وكذلك القول في الزَّمْنى والشيوخ. وقد أجارت زينب زوجَها أبا العاص، وذكرت ذلك لما تحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح، فقال صلى الله عليه وسلم: «أجرنا من أجرت». هذا تمام القول فيمن يكون من أهل الأمان.
11355- فأما حكم الأمان، فالذي انعقد له الأمان لا يُتعرض له، وللمال الذي معه، وأما أمواله الغائبة عنه، فمطلق الأمان لا يتضمن عصمتَها، فتغنم حيث تصادَف، وأما الأموال التي معه، فإن جرى لها تعرّض في الأمان، اشتمل عليها الأمان، وإن لم يجر لها تعرّض، وإنما قال المسلم: أمنتك، فالرأي الظاهر اختصاص الأمان بحقن دمه وعصمة رقبته من السبي، والأسر. وليس هذا كعقد الذمة؛ فإن مطلقه يتضمّن عصمة الأموال، كما سيأتي ذلك مشروحاً-إن شاء الله تعالى- في كتاب الجزية.
وشبّبَ بعض أصحابنا بأن الأمان يتناول الأموال التي هي مع الكافر، وسلك فيه مسلك التقرير، فقال: يبعد أن يجوز سلب ثياب من أمّنه مسلم، وإذا بعد ذلك، فالمال الذي في رَحْله بمثابة الثياب التي على بدنه، ولا خلاف في تصحيح عقد الأمان مع التصريح بالتخصيص بالدم والنفس، والذمةُ لا تعقد كذلك، كما سيأتي، إن شاء الله عزوجل.
وهذا التردد يرجع إلى حكم اللفظ وما يقتضيه إطلاق الأمان، والأصح أن مطلَقَه لا يتناول المال الذي معه، وأجرى الأئمة هذا التردّد في زوجاته، وذراريه الذين هم معه، ثم إذا حُقن دمُه بالأمان، فلو قتله قاتل، فالوجه عندنا القطع بأنه يضمن بما يُضمن به المعاهَد والذمي، وليس حقن دم المؤمّن بمثابة تحريم قتل الحربية؛ فإن الحربية ذاتُ الشرع دفع القتلَ عنها في حالٍ، وبسط الأيدي إلى سبيها وإرقاقها، فليس ارتفاع القتل عنها للأمان. فهذا حكم الأمان.
11356-فأما ما يصح به الأمان، فإن جرى لفظٌ مشعر، فذاك، وإن أشار مسلم، بإثبات الأمان لكافر، وأفهم بإشارته، جرت الإشارة مجرى العبارة-باتفاق الأصحاب- مع القدرة على العبارة. وهذا مبناه على الاتساع، وقد تمس الحاجة إلى إبدال العبارة بالإشارة، أو إلى الاكتفاء بالكتابة، ثم لم يُخصص هذا بقيام الحاجة، حتى يجري مجرى العلّة المطّردة المنعكسة.
ومما يجب الاعتناء به أن انعقاد الأمان يستدعي علمَ المؤمَّن به وقبوله، حتى لو أمّن المسلمُ كافراً، وهو جاهل بالعقد، لجاز لكل من ظفر به قتله واسترقاقه، ولو علم بإيجاب عقد الأمان له، فلم يقبله، وردّ، فلا يصحّ الأمان، فإن قبله، انعقد الأمان حينئذٍ.
ولو جرى الأمان من مسلم، ولم يبلغ الخبر الكافر، فابتدره هذا الذي أمّنه، جاز؛ فإن الأمان لا استقلال له قبل بلوغ الخبر.
وإن خاطب كافراً بأمانٍ، ولم يقبل ولم يردّ، فهذا فيه تردّد، والرأي الظاهر أنه لابد من قبوله، ثم لا يشترط أن يعبر عن القبول، بل لو أشار له، أو بدت عليه مخايل القبول، كفى ذلك؛ فإن أصل الأمان إذا كان لا يفتقر إلى القول ممن هو من أهل القول، فالقبول في معناه.
ثم الأمان لا يلزم الكافر وإن قبله؛ فإنه لا يزيد على الذمّة، وللذمي أن ينبذ إلينا الذمة ويلتحق بدار الحرب، وكذلك القول في المؤمَّن، وهو لازم من جانب المسلم المؤمِّن، كما تلزم الذمّة من جانب الإمام.
11357- ومما يتصل بهذا أنا سنذكر-إن شاء الله تعالى- ما ينقض الذمةَ من الأمور الصادرة من الذمي في كتاب الجزية، ونذكر أن توقع الخيانة لا يوجب نبذَ الذمة، وإذا خاف المسلم المؤمِّن خيانةً ممّن أمّنه، نبذ إليه الأمان؛ فإن المبيح للأمان لآحاد الناس ما يتوقع من انتفاع المؤمِّن بأمان الكافر، فإذا كان لا يأمن الكافر، فلا خير في الأمان، وقد نصّ الرب تعالى على ذلك، فقال عز وجلّ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، والآية في المهادنة، كما سيأتي وصفها-إن شاء الله تعالى- فإذا جرى هذا في المهادنة، فأمان الآحاد بذلك أولى، وهذا يتم إذا ذكرنا المهادنة والذمة في موضعهما.
ولو أمن المسلم كافراً، فقبل أَمْنه، وقال: لست أؤمنك مني، فكن آخذاً حذرك مني، وقد قبلت أمانك لي، فهذا ردٌّ للأمان؛ فإن الأمان لا يصح في أحد الطرفين دون الثاني. ولعلّ سبب اشتراط القبول هذا.
ولا خلاف أن الأمان يقبل التعليق بالأعذار، وسيأتي من ذلك قدرٌ صالح في مسألة العِلْج إن شاء الله تعالى.
11358- فإذا تمهدت هذه القواعد، انعطفنا على الأمان بالإشارة، لنذكر مسائل كانت تستدعي تقديم ما قدّمناه.
فلو أشار مسلم في الصف إلى كافرٍ، فانحاز ذلك الكافر إلى المسلمين؛ معوّلاً على إشارته، فإن قال المشير: أردت الأمان، وقال الكافر: فهمتُ الأمان، فهذا كافر مستأمن لا يُتعرض له.
ولو قال: ما أردتُ الأمان، وقال الكافر: ما فهمت الأمان، فهو كافر وقع في قبضتنا بلا أمان، فنقتله أو نسترقه.
وإن قال المسلم: ما أردت الأمان، وقال الكافر: فهمت الأمان، بلغ المأمن، ولم نتعرّض له، فإن قال المسلم: أردت الأمان، وقال الكافر: ما فهمت الأمان، فهذا في حكم أمانٍ غير مقبول، وقد ذكرنا أنه لا يصح، فيقتل أو يفعل به ما يفعل بالأسراء.
هذا ما ينعقد به الأمان مع ما يتصل به.
11359- فإن قيل: جوّزتم لآحاد المسلمين أن يؤمنوا آحاد الكفار، فما قولكم فيه إذا وقع في الأسر كافر أو كفار، فأراد بعض الغانمين أن يمنن على بعض الأسارى؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك. والفرق بين المنّ والأمان أن المن يجري بعد تعلّق الحقوق بالأسرى، فلا ينفذ التصرف فيه إلا من ذي أمر، وهو الإمام، أو المستند إليه، والكافر المؤمَّن الحربي لم يتعلّق به حق لمستحق.
فإن دخل بلاد الحرب طائفةٌ، وغنموا وأسروا، ثم إنهم أرادوا المن على الأسرى، قلنا: ليس لهم ذلك، فإن الإمام قد يرى إرقاقهم، كما يتعلق برقابهم حق الخمس. وهذا يعارضه أن الإمام إذا من، فقد أبطل حقوق الغانمين، ولكن لا يبعد أن يرتبط هذا باستصواب ذي الأمر، ونظره، فإنهم بالوقوع في الأسر صاروا أموالاً، والتصرف في الأسرى من الأمور الخطيرة التي لا يدري فيها إلا ذو الأمر، ولا يستبد بها الآحاد.
11360- ومما نرى إلحاقه بهذا المنتهى أنا إذا صححنا أمان المسلم، فلا نشترط أن يرجع من أمانه مصلحة على أهل الإسلام، ولا يتصوّر اشتراط هذا في كافرٍ يؤمّن، ولكن كما لا نفع لأمانه، لا وقع لبقائه حربياً. وإذا كنا لا نرعى إظهار مصلحة في حق المسلمين، فلا نطالب المؤمَّن بغرض له يبديه في الأمان؛ فإن تكليف إظهار الأغراض الخاصة عسر؛ على أن هذا يجري غير متعلّق بمجالس الحكام وأصحاب الأمر. نعم، يشترط ألا يكون في الأمان المعقود ضرر عائد إلى المسلمين، فلو أمن طليعةَ الكفار، أو جاسوساً، كان الأمان باطلاً.
ثم الوجه ألا يُثبت هذا الأمان له حقَّ التبليغ إلى المأمن؛ فإن دخول مثل هذا في ديار الإسلام جناية، فحقُّه أن يغتال بها، والعلم عند الله تعالى.
11361- ومما أبهمناه وهذا أوان تقريب القول فيه أنا قلنا: إنما يؤمِّن المسلم محدودين، ولسنا نرى عدداً نقف عنده، فنقول: ما ذكره الأئمة في ذلك أن الأمان ينبغي أن يكون بحيث لا ينسد بسببه الجهاد في جهة من الجهات، وهذا يُبيِّن أن الأمان لو عُقد لأهل الناحية، فهو مردود، وإن فرض عقده لآحادٍ، أمكن فرض الغزو في الناحية، مع ترك التعرض للمؤمَّنين، هذا ما ذكره الأئمة، وسرّه أن الجهاد شعار الدين، والدعوة القهرية، وهو من وجهٍ من أعظم المكاسب للمسلمين، ومن أظهر مجالب الأموال لبيت المال، فينبغي ألا يَظهرَ بأمان الآحاد انحسامٌ ولا نقصان يُحَسّ.
ولو أمن مائةُ ألف من المسلمين، مائةَ ألفٍ من الكفار، فكل واحدٍ لم يؤمن إلا واحداً، ولكن إذا ظهر انحسامٌ أو نقصان، فأمان الكل مردود، وقد يختلف الأمر بأن يكون المؤمنون في قُطرٍ، أو يفرضوا متبدّدين.
وقال قائلون: لو أمّن المسلمُ آحاداً على مدارج الغزاة في المنازل والمناهل، ولولا الأمان، لانبسطت أيدي الغزاة، وإذا فرضت هذه الصورة، وانكففنا عن الغنيمة، عسر مَسير العسكر، واحتاجوا إلى نقل العلف والزاد، فالأمان على هذا الوجه مردود، وهو من الأمان المضرّ.
11362- فأما القول في المدة المرعية في الأمان، فعقد الأمان، بمثابة المهادنة، حيث لا ضعف بالمسلمين، وسنذكر أن المهادنة والحالة هذه من ذي الأمر تصح أربعةَ أشهر، ولا تجوز سنة، وفيما دون السنة ووراء الأربعة الأشهر قولان. فكذلك الأمان، فإن قيل: أليس للإمام إذا استشعر ضعفاً أن يهادن الكفار عشرَ سنين؟ قلنا: نعم. ولكن ذلك النظر إلى الإمام، ولا يرقى نظر الآحاد إلى دَرْك الضعف والقوة في أجناد المسلمين، فالأمان مبني على أقل الدرجات في المهادنة في المدّة.
فرع:
11363- إذا أمن المسلم امرأة، فقد قال القاضي: يخرج في ذلك جوابان، بناء على أنه إذا صالح صاحب الراية أهلَ حصن فيها نسوان لا رجل بينهن، وقد أشرفن على أن نسترقهن، فبذلن مالاً، فهل يسقط حق الاسترقاق؟ فعلى وجهين: ووجه البناء أن النسوة يتبعن الرجال، ويبعد أن يفرض استقلالهن باستفادة الأمان من الرق. فإن أسقطنا حق استرقاقهن بمال، فلا يبعد أن يسقط حق استرقاق واحدة أو محصورات بأمان واحد من المسلمين.
وقد نجزت معاقد المذهب في الأمان. ولها مسائل ستأتي في فصل العلْج، على أثر هذا، إن شاء الله تعالى.
11364- ومما أغفلناه، ونرسمه فرعاً: الأسير إذا أمّن كافراً، فهل يصح أمانه أم لا؟ فيه خلاف بين الأصحاب. والوجه أن نقول: إن كان مكرهاً على الأمان، فهو مردود، وإن كان مختاراً في إنشاء الأمان، فمن أصحابنا من قال: يصح ذلك منه؛ فإنه مسلم مكلف أنشأ الأمان اختياراً، ولم يجرّ ضرراً، فيصحّ.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح، فإن شرط الأمان أن يكون المؤمِّن على أمان، ولا يتحقق الأمان في حق المأسور.
التفريع على الوجهين: إن قلنا: يصح أمانه، فلا كلام، وأمانه كأمان المطلَق، وإن قلنا: لا يصح أمانه في حق المسلمين، فهل يصير ملتزماً بحكم الأمان في حق نفسه، فعلى وجهين:
أحدهما: لا يلزمه حكم الأمان، كما لم ينفذ في حق غيره؛ فإن الأمان لا ينفذ على الخصوص. الثاني- أنه ينفذ أمانه عليه في حق نفسه؛ فإن سبب الرّد في حق الغير أنه مقهور مأسور، فلا ينفذ أمانه على المطلقين، ولا يبعد من مقتضى هذا أن يصح إلزامه في حق نفسه.
والذي يجب الإحاطة به في تمام ذلك أن المأسور لو أمن من أسره، فالوجه ألا يصح ذلك، وجهاً واحداً، وإنما التردّد الذي حكيناه فيه إذا أمّن من ليس هو أَسَره من آحاد الكفار. وأطلق بعض من لا يعتاد طلب الحقائق، وجهاً في تصحيح أمانه لآسره إذا أنشأه ولم يُكرَه عليه. وهذا لا أصل له. فانتظم منه أن الإكراه على الأمان يُبطله لا شك فيه، وإذا لم يكن إكراه، فأمن غيرَ الآسر، فعلى الخلاف، وإن أَمَّن من أسره، فالمذهب البطلان، وفيه الوجه الضعيف الذي حكيناه.
فصل:
قال: "ولو أن علجاً دلّ مسلماً على قلعة... إلى آخره".
11365- العلج يعبر به عن الكافر الغليظ الشديد، وهو من المعالجة، ومعناها المجالدة، وسمي العلاج علاجاً لدفعه الداء، والعلج يدفع بأيْده عن نفسه، وفي الحديث: «الدعاء والبلاء يعتلجان في الهواء» أي يضطربان، ويتدافعان، فيدفع الدعاء البلاء.
وهذه المسألة نصوّرها أولاً، فنقول: إذا لجأ إلى المسلمين علجٌ من الكفار، وقال: أدلّكم على قلعة، وذكر فيها جاريةً، وشرط أن القلعة إذا فتحت، فهي له، فإذا قبلنا ذلك، والتزمنا استفراغ الطاقة والإمكان في الوفاء، فهذه المعاملة هل تصح؟ وكيف سبيلها؟ هذا تصوير المسألة.
وحكمها يستدعي تجديدَ العهد بتقديم أصول من الجِعالة، وقد نُجري فيها ما لم نُقدّم ذكره، فنقول: أولاً- لا خلاف أن عقد الجِعالة بين المسلمين لا يصح إلا على جُعل معلوم مقدرر على تسليمه، فكل ما يصح ثمناً وأجرة، وصداقاً، فهو الذي يصح أن يكون جُعلاً، فلو كان مجهولاً أو غير مقدورٍ على تسليمه أو غير مملوك للجاعل، لم يصح، حتى لو قال: إن رددت عبدي الآبق، فلك مما أصطاده كذا، ومما أحتطبه كذا، فالجعالة فاسدة، للجهالة، فإن عمل على حكم هذا العقد، لم يبطل عمله، وله أجرُ المثل؛ لأنه لم يخض في العمل على شرط التبرع به.
وإذا ثبت الجعلُ صحيحاً، وكان عيناً مملوكة، كائنة مقدوراً على تسليمها، فقال إن رددت عبدي الآبق، فلك هذا الثوبُ، جاز. والأصح أنه لا يتعلق استحقاق المجعول له بالجعل أصلاً، ما لم يتم العمل، وليس كالأجرة في الإجارة؛ فإن الإجارة معاوضة محضة، مبناها على اللزوم، وهو صنف من البياعات، ومبنى الجعالة على أن يتوقف استحقاق الجعل على إتمام العمل، ثم يجعل الاستحقاق بعقد العمل على أثره، ولا يستند إلى ما تقدم تبيّناً.
11366- ثم إذا تمَّ العمل لم يخلُ: إما إن كانت العين قائمة أو تالفة، فإن كانت تالفة، فلا يخلو: إما أن تتلف قبل الردّ، أو بعده، فإن تلفت قبل الردّ، فلا يخلو: إما أن يردّه عالماً بتلف المسمى، أو جاهلاً به؛ فإن علم بتلف العين، وأنشأ العمل بعد التلف والعلمِ، فلا شيء له؛ لأن المعاملة معقودة على استحقاق تلك العين، فإذا تلفت، وأنشأ العمل، فلا متعلق لعمله، وهو في حكم المتبرع.
وإن جهل العامل التلف، وعمل، فله أجرُ المثل؛ لأنه لم يتبرع بالعمل، هذا إذا تلف قبل العمل.
وإن تلف المسمى بعد الرد، فلا يخلو: إما أن يتلف بعد المطالبة، أو قبلها، فإن تلف قبل المطالبة بها، ففيما يرجع العامل إليه قولان، كالقولين في الصداق المعين، إذا تلف قبل القبض، وفيه قولان، عنهما يتشعب معظم مسائل الصداق. أحدهما- أنه مضمون بالعقد، فيجب عند فرض التلف مهرُ المثل، فعلى هذا في مسألتنا يُضمن الجعل بالعقد، فإذا تلف، فالرجوع إلى أجر المثل، وهذا يناظر مهرُ المثل، والقول الثاني- أن الصداق مضمون باليد، فتجب القيمة أو المثل إن كان مثلياً، وكذلك يخرج هذا القول في الجعل إذا تلف، والغرض تنزيله منزلة الصداق في جهة الضمان.
فإن قيل: ما وجه التشابه؟ قلنا: وجهه أن المنفعة في الجِعالة فائتة بعد تسليم العمل على وجهٍ يستحيل تداركها، كما أن البضع بعد العقد في حكم الفائت، فاقتضى ذلك جريان القولين في الأصلين، ولا يبعد عندنا القطع بأن الجعل مضمون ضمان العقد؛ من جهة أنه رُكن الجعالة، وليس الصداق رُكنَ النكاح، وهذا يوجب القطع هاهنا بضمان العقد. والعلم عند الله تعالى.
ولو تمم العامل العملَ، وطالب بالجعل، وهو قائم، فلم يسلّمه الجاعل، فقد تعدى، فلو تلف في يده، فإن قلنا: إنه مضمون باليد، فالجواب كما تقدم، وإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، فقد قال القاضي: تلفه بعد الامتناع بمثابة إتلاف الجاعل الجعلَ بنفسه. ثم هذا بمثابة ما لو أتلف البائع المبيع، وفي المسألة قولان:
أحدهما: أن حكمه حكمُ ما لو تلف بآفة سماوية، فينفسخ العقد، ويرجع العامل إلى أجر المثل، والثاني: حكمه حكمُ ما أتلفه الأجنبي، فعلى هذا هو بالخيار بين الفسخ والإجازة، ولا يخفى عاقبة الإجازة والفسخ.
والذي يجب فيه فضل تدبّر أن موجب ما ذكرناه، وهو بعينه كلام القاضي أن الحبس على عدوانٍ مع تصوّر التلف بالآفة السماوية ننزله منزلة الإتلاف، ويلزم على هذا المساق أن يقال: إذا توفر الثمن على البائع، وتوجهت الطِّلبَة بتسليم المبيع فأبى معتدياً، وتلف المبيع، يكون هذا بمثابة ما لو أتلف البائع المبيع. وهذا فيه احتمال وفضل نظر، من جهة أن الإتلاف إذا لم يوجد، فاليد القائمة يد عقد، ولهذا لا يتصرف المشتري في المبيع الكائن في يد البائع، في الصورة التي ذكرناها. وإن وفّى الثمن واستحق الانتزاع، فإذا كانت اليد قائمة على هذا الوجه، فتغليب ضمان العقد أولى، حتى يقال: التلف بالآفة السماوية يوجب انفساخ العقد، ومقتضى هذا ألا يُخرَّج القولان في إتلاف البائع المبيع.
فهذه مقدمات ذكرناها في أحكام الجعالة.
11367- والآن نعود بعدها إلى مسألة العِلج، فنقول: كافرٌ في دار الحرب، قال: أدلكم على قلعة فيها أموال وغنائم، فإذا فتحتموها، فأعطوني الجارية الفلانية، ووصفها وسماها. فقد قال الأصحاب بأجمعهم: هذه الجِعالة جائزة، وإن كانت على جُعل غيرِ مملوك، ولا مقدورٍ على تسليمه، ولا شك أن مثل هذه الجِعالة لا تصح بين المسلمين فيما لا يتعلّق بالكفار، وسبب تصحيح هذه المعاملة فيما يتعلّق بالكفار أن الإمام قد لا يتهدَّى في دار الحرب إلى القلاع، وربما لا يتهدّى المسلمون إليها في الغالب، فتمس الحاجة إلى دلالة كافر، فإذا لم يرض الكافر إلا بما سمَّى، فالحاجة تقتضي تصحيحَ المعاملة، إذا قيل: الجهالة تحتمل في الجعالة لمسيس الحاجة، فإذا اضطررنا إلى إثبات فعلٍ يخالف القياس الدائر بيننا، اتبعنا الحاجة.
ولو كان الدال على القلعة مسلماً وشرط مثلَ الشرط الذي حكيناه صادراً عن العلج، فالمذهب الأصح بطلانُ هذه المعاملة معه، إلا على شرط المعاملة بين المسلمين.
وفي بعض التصانيف أن هذه المعاملة تصح معه كما تصح مع العلج؛ فإن مبنى جوازها على مسيس الحاجة إليها، ولا يفرق في ذلك بين المسلم والكافر.
وهذا كلام مبهم عندنا، والوجه أن نقول: حكينا تردد الرأي في أن الوالي لو استأجر مسلماً على الغزو هل يصح؟ فإن منعنا الاستئجار، فلا معنى لهذه المعاملة مع المسلم، فإن ما يأتي به يقع جهاداً منه، فلا يستحق عليه أجراً. ثم كما لا يستحق الجارية المسماة في القلعة، لا يستحق أجر المثل.
وإن قلنا: يصح من الوالي استئجار واحد من المسلمين على الغزو، فهل تصح هذه المعاملة معه، كما تصح مع الكافر؟ فعلى وجهين قدمنا ترجيحهما.
11368- ثم إذا حضر الإمام بابَ الحصن، وحاصرها، فلم يتفق الفتح، نظر: فإن قال العلج الدال: إن فتحتموها، فلي الجارية، فلا يستحق إذا لم يتفق الفتح شيئاً؛ فإنه علّق استحقاقه بالفتح، فإن اشترط الجارية، ولم يقيد المعاملة بالفتح، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أنه لا يستحق شيئاً؛ فإن رضاه بالجارية بمثابة التصريح بذكر الفتح؛ إذ لا يتعلق التوقع بتسليم الجارية إلا من جهة الفتح، فصار كما لو قيد بالفتح.
وفي بعض التصانيف وجه آخر أنه يستحق أجر المثل للدلالة؛ لأنه عمل لنا عملاً ولم يرض بأن يكون متطوعاً.
وهذا الكلام فيه اختلال، لا يبينه إلا تفصيل، وهو أنه لو دلّ، واكتفى بالجارية، وذكر الفتح صريحاً أو لم يذكره، ولكن اكتفى بالجارية، فإذا حصرنا الحصن، وكان القتال ممكناً، فلم نقاتل، فهل يستحق الدالّ والحالة هذه شيئاً؟ هذا محلّ التردد؛ فإنه يقول: دللتُ، وفعلتُ ما علي، فقصّرتُم. وينقدح أن يقال: لا شيء له، للتعلق بالفتح تصريحاً، أو تعريضاً. ويجوز أن يقال: يستحق الدالّ أجرَ المثل؛ من جهة أنه استتم عمله.
وإن حصرنا القلعة، فلم يكن القتال ممكناً، وكان بحيث لا يُطمع في افتتاحها إلا باتفاقٍ نادر، فالوجه هاهنا، القطعُ بأنه لا يستحق شيئاً؛ لأنه ما دلنا على ممكن.
وإن كان القتال ممكناً على الجملة، ولم يكن الفتح مقطوعاً به، فقاتلنا، فلم يتفق الفتح، فهذا يُبنى على ما إذا لم نقاتل أصلاً. فإن قلنا: إذا تُرك القتال أصلاً، مع إمكان الفتح، لم يستحق شيئاً، فلأن لا يستحق هاهنا أولى، وإن قلنا: الدّالّ لا يستحق، فإذا قاتلنا، فإن حصل اليأس، وبذلنا المجهود، فهذا يقرب منه، إذا بان لنا اليأس، كما حصرنا، وإن لم يحصل اليأس، ولكن تبرّمنا بالقتال، أو استنفرَنا أمرٌ انزعج الجند له، فهذا محل التردد.
وبالجملة: ينبغي أن تؤخذ هذه المسألة من هذه المآخذ التي أشرنا إليها.
11369- وإن فتحنا القلعة ووجدنا الجارية التي شرطناها للعلج، فيجب تسليمها إليه، والوفاء به، ولا يسوغ منعُها.
وإن لم نجدها، نُظر: فإن كان أخطأ العلج في ظنه كونَ الجارية في القلعة، أو كانت، ولكن تقدم موتها، أو كانت ميتة يوم المعاقدة مع العلج، أو لم يخلقها الله تعالى، فقد قال الأئمة: لا شيء للعلج في هذه الصورة؛ فإنه اكتفى بجارية ظنها، وقد أخلف ظنه، فحبط عمله.
وإن وجدناها لكنها ماتت بعد المعاقدة فللأئمة طرق نسردها، ثم نجمعها على العادة في أمثالها.
قال قائلون: إن ماتت بعد الظفر بها، غرمنا القيمة للدلالة، وإن ماتت قبل الظفر، فقولان، والفرق أنه إذا ظُفِر بها، فقد دخلت في يد الإمام أو صاحب الراية، ووقعت في قبضته، فيغرم قيمتَها.
وقيل: إنها تلفت من ضمانه.
والطريقة الثانية: أنها إذا ماتت قبل الظفر، فلا ضمان. وإن ماتت بعد الظفر، فقولان:
أحدهما: أنه يجب الضمان لموتها تحت أيدينا، فينبغي أن تكون محسوبة علينا.
والثاني: أنا لا نضمن شيئاً؛ فإن الجارية المذكورة ليست عوضاً في الحقيقة، وليست على حقائق الأعواض، وإنما أجرينا فيها عِدَةً؛ فإن اتفق الوفاء بها، فذاك، وإلا فلا ضمان. نعم يجب الوفاء إذا أمكن، وإن فرض تقصيرٌ، فمنتهاه المأثمُ، وتركُ الواجب.
وقال العراقيون: لا فرق بين أن تموت قبل الظفر أو بعده، ففي الصورتين جميعاً قولان في أنا هل نغرم للعلج قيمة الجارية.
وإذا جمع الجامع الطرق، انتظم أقوال: أحدها: الضمان في الحالتين قبل الظفر وبعده.
والثاني: انتفاء الضمان فيهما. والثالث: وجوب الضمان بعد الظفر، ونفيه قبل الظفر. هذا حاصل ما ذكره الأئمة.
11370- وقد يتطرق إلى ما ذكرناه مزيد بحث، وهو أن يقال: إذا فتحنا القلعة، واستمكنا من تسليمها، فلم نسلّمها حتى ماتت تحت قبضتنا، فيظهر وجوب الغرم هاهنا.
ولو فتحناها، وماتت قبل تمكننا من تسليمها، فهذا فيه تردّد، من جهة أنها ماتت من وجهٍ بعد الفتح، وماتت من وجهٍ آخر قبل التمكن، وغايتنا أن نبذل كنه المجهود فيها، هذا لابد منه مع ما قدّمناه، ثم يعود فيه ما ذكرناه مقدمة في أحكام الجعالات، من تلف العين المجعولة جعلاً قبل الطلب وبعده، وقد ذكرنا في تلف العين قبل الطلب، وبعد العمل قولين في أن المضمون القيمة أو أجر مثل العامل، وهذا الخلاف يجري هاهنا إذا أثبتنا الضمان، وإن فرضنا الطلب والاستمكان، فهذا يناظر ما إذا كانت العين قائمة، وجرى التقصير في تسليمها، مع توجه الطلب بها، فلا بأس من التنبه لما ذكرناه.
11371- ومما يتصل بتقاسيم المسألة أنا إذا وجدناها، ولكنها كانت مُسْلِمة، فالذي ذهب إليه المحققون أنا نغرم قيمتها للدالّ سواء أسلمت قبل الظفر أو بعده، بخلاف الموت، فإنا فصلنا المذهب فيه كما تقدّم، والفرق أنها إذا أسلمت، فالإمام هو الذي يحول بين العِلج وبينها، بحكم الإسلام، وإلا فالتسليم بحكم المشاهدة ممكن فيها، فيغرم قيمتَها بالحيلولة، وإذا ماتت، فليس صاحب الأمر هو الحائل بينهما، وإنما وقعت الحيلولة بأمرٍ خارج.
وفي بعض التصانيف: في إسلامها وجهان:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: أنا ننزل إسلامها منزلة الموت، ثم في الموت التفصيل المقدّم، وهذا ضعيف، ووجهه على بعده، أن الإسلام صيرها كالمعدومة، وشرط الجارية للعلج وإن كان مطلقاً، فمعناه التقييد ببقائها على الكفر، فإنا إنما نتمكن لو بقيت كافرة، فإذا أسلمت فلا تَمَكُّن.
ويمكن أن يقال: إذا أسلمت قبل الفتح، فهذا بمثابة الموت، لأنا لا نملكها إذا فتحنا القلعة، ولم نقدّر استحقاقها بالشرط، فكان ذلك بمثابة ما لو صادفناها ميتة، وإن أسلمت بعد الفتح؛ فإنها تبقى مملوكة، فيتجه هاهنا القطع بالغُرم للعلج، ولا يتجه غيره؛ فإن المنع يعود إلى مراعاة حكم الشرع والملكُ عليها ثابت، فإنها رقَّت لما وقع الفتح، ثم أسلمت من بعدُ.
11372- ولو فتحنا القلعة، فلم نجد غير تلك الجارية، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنا نسلّم الجارية إلى العلج وفاء بالشرط، إذ لا مانع من التسليم.
والثاني: لا نسلّم؛ فإن هذا في التحقيق فتحٌ للعلج، ولا أَرَبَ لنا فيه، وهذا التردد الذي ذكرناه فيه إذا لم نؤثر تملك القلعة أو لم نتمكن منها، لأنها محفوفة بالكفر، ويعسر تخليف جمع يقومون بحفظها عن الكفار. فأما إذا ملكنا القلعة، وأدمنا اليد عليها، فيجب القطع بتسليم الجارية.
11373- ولو حاولنا الفتح، فلم نستمكن، واستفزّنا أمرٌ، ورأينا أن مثل ذلك يُبطل حق العلج، فلو اتفق لنا عودٌ إلى القلعة في كَرّةٍ أخرى، فاتفق الفتح فيها واستمكنا من الجارية، فهل نوجب تسليمها إلى العلج؟ ذكر الأصحاب وجهين، ووجه التردد والاحتمال لائح.
ولكن لابد من التفصيل، فإن عدنا واستمكنا في العودة بالأعلام التي أقامها العلج، ولولا تقدم دلالته، لما عدنا، فيظهر هاهنا تسليم الجارية إليه، والمصير إلى أنه لا حكم لما تخلل من المحاولة، وترك المقاتلة. وإن اتفق ونحن نؤمّ بقعة أخرى وقوعنا على القلعة، من غير استمساك بأعلام استفدناها من دلالة العلج، فهاهنا يظهر الاحتمال في أنا هل نسلم الجارية إذا تمكنا منها والشرط مطلق، والأصح أنا لا نسلّمها؛ فإن المعاملة الجارية بيننا، وإن كانت مطلقة، فهي من طريق العُرف وفهم الخطاب متقيّدة باتصال الفتح بالدلالة، وهذا الظهور جرى منقطعاً.
وبالجملة ليس تخلو حالة من الأحوال التي فصلناها عن احتمال، ولا يعجِز الفطن عن إجراء الخلاف فيها وترتيب البعض منها على البعض، ولسنا نطوّل بذكرها.
ولا خلاف أنه لو انتهى إلى القلعة طائفة أخرى لم تكن في المعاملة، فلا يلزمها شيء، وإن تمكنت من الجارية، وإن كانت هذه الطائفة تلتفت إلى الأعلام منا ونحن تلقيناها من العلج، فلا يلزمهم شيء؛ فإنه لم يجر منهم التزام وخوض في المعاملة.
ويبقى الكلام في أنا إذا لم نفتح-وربما كان الفتح ممكناً لو أطلنا المحاصرة- فهل نغرم للعلج؟ وهذا مما تقدم تفصيله.
ولو جاوز الإمامُ القلعة، ثم ردّ جمعاً من الجند الذين كانوا معه، فإن ردهم على القرب، واتفق الفتح؛ فالوجه تنزيل هذا منزلةَ ما لو أقام حتى فتح.
وإن جاوز القلعةَ، وانقطع عنها بحيث يبعد الرجوع إليها من غير استمساك بالدلالات التي ذكرها العلج، فأبان للراجعين تلك العلامات، فانقلبوا، وفتحوها، فهذا بمثابة ما لو رجع هو بنفسه.
وإذا أحاط المرء بمقتضى اللفظ في هذه الجِعالة، لم يخف عليه محلُّ الوفاق والخلاف.
11374- ثم حيث يغرم الإمام للعلج أجر المثل، أو قيمةَ الجارية على التفاصيل التي تقدّمت، ففي المحلّ الذي يأخذ منه ما يغرَمه للعلج الخلافُ الذي قدّمناه في محل الرضخ، ففي وجه يخرج ما يبذلُ للعلج من سهم المصالح، وفي وجه يُخرجه من رأس المغنم، ووجه ما ذكرناه بيّن.
11375- ولو جرت المعاملة كما وصفناه، وحاصر صاحب الراية أهلَ الحصن، واقتضى الرأي أن يصالحهم على أن صاحب القلعة وأهلَه في أمان، فلما فتحوا القلعة على موجب هذا الصلح؛ بان تلك الجارية من أهل صاحب القلعة، فقد تصدّى لنا صلحٌ يجب الوفاء به، ومعاملة سبقت مع العلج يتعين تحقيق المقصود منها، فالوجه أن نقول لصاحب القلعة: قد شرطنا لفلان هذه الجارية؛ فإن رَضِيتَ تسليمَها إليه، غَرِمنا لك قيمتها، فإن رضي، فذاك، وإن لم يرض، قلنا للدالّ: قد صالحناه على أن نؤمّن أهله، والجارية المشروطة من أهله، فإن رضيتَ بقيمتها، بذلناها لك، فإن رضي، فذاك، وإن لم يرض، قلنا لصاحب الجارية: إما أن تسلم الجارية، أو تعودَ حرباً، فنردّك إلى القلعة، فاستوثق منها، وأغلق بابها، وارجع إلى ما كنت عليه، ثم نعود إلى القتال، فإن اتفق الفتح، سلمنا الجارية، وإن لم يتفق الفتح، فالكلام على ما مضى.
11376- ثم استنبط الفقهاء من هذه المسألة فوائدَ: إحداها- تصحيح جعالة جعل مجهولٍ غير مقدور على تسليمه. والثانية- أن الأمان مع الجهل بتفصيل العدد، في الذين يؤمنون جائز؛ لأن أهلَ صاحب الحصن مجهول العدد.
11377- قال الأصحاب: ويجوز الأمان مضافاً إلى عدد معلومٍ مع الجهل بالأعيان، وذلك أن يؤمِّن من أهل القلعة خمسين أو مائة فيكون التعيين إلى شخصٍ، وروي: "أن عمر صالح أهل قلعةٍ على أن مائة من أهل القلعة في أمان، وكان عمر يحب أن يظفر بصاحب القلعة من غير أمان، فأخذ صاحبُ القلعة يختار المائة من أهل القلعة، ويعدّهم، ويعينهم، وعمرُ يدعو ويقول: اللهم أنسِه نفسَه، فعدّ مائة، ونسي نفسه، فعرض عليه الإسلامَ، فلم يسلم، فحز رقبته".
11378- ومما يُتلقى من أطراف هذه المسألة: أن الصلح إذا عارضه عذرٌ يعسر الوفاء به معه، فيجوز للإمام ردّه ونبذه، كما ذكرناه في مصالحة صاحب القلعة، على أن يؤمّن أهله، ثم كانت المشروطة من أهله.
فصل:
قال: "وإن غزت طائفة بغير أمر الإمام... إلى آخره".
11379- الذي يقتضيه الإذن ألا ينتهض جمعٌ من المسلمين للجهاد إلا صادرين عن رأي الإمام أو نائبه، فلو لم يراجَعوا، فدخلوا دار الحرب، فغنموا أموالاً، فهي مخموسةٌ، سواء كانت الطائفة ذاتُ نجدة وعُدّة، أو كانت طائفة يسيرة، وإن دخل رجل أو رجال دار الحرب مختفين، وسرقوا من أموال الكفار وأحرزوه، فالمذهب المشهور أنهم ينفردون بما سرقوه، ولا يخمّس ما ثبتت أيديهم عليه.
وقاعدة المذهب في ذلك تستدعي ثلاثةَ أشياء: أحدها: في أصل المغنم، والثاني: في المسروق على ما صورناه، والثالث: في المال المظفور به المحظور لكونه فيئاً.
أما المغنم، فهو ما يحصل في أيدي المقاتلة، بالمكاوحة، فاليد فيها ثابتة، ولكن الأملاك غير مقصودة؛ إذ الجهاد وملاقاة أعداء الدين، مع التغرير بالمهج لا يجوز لأجل المال، فلا يجوز إلا لإعلاء كلمة الله، والذب عن دين الله تعالى، ثم المغانم إن حصلت، فهي في حكم التبع، ولذلك تسقط حقوق الغانمين بالإعراض؛ فإنهما لم تُقصد بالاستيلاء بالأيدي، وكل ما يملك بالاستيلاء، فللقصد فيه تأثير، وسنوضح هذا في فصلٍ معقودٍ في أملاك الغانمين، إن شاء الله تعالى. ثم ما يكون مغنوماً، فهو مخموس لا محالة.
وأما المسروق، فمقصودٌ بالتملك في عينه، فيثبت فيه ملك السرّاق، والأصح أنه غير مخموس، وسبيل الأخذ على هذا الوجه من أموال الكفار كسبيل الاصطياد، وما في معناه من الجهات التي يُقصد الملك فيها باليد.
ومن أصحابنا من قال: المأخوذ على جهة السرقة مخموس كالغنيمة، وهذا ضعيف، لا أصل له. ولكن حكاه شيخي، وكان يقول: يتميز المسروق عن المغنوم بتأكد الملك في المسروق كما استقرت اليد عليه، حتى لو أراد السارق الإعراض عنه، لم يسقط حقه، بخلاف المغانم. ولعلنا نعيد هذا في الفصل المعقود في أملاك الغانمين، إن شاء الله تعالى.
وأما المظفور به من غير قتال، فهو على ما تقدّم التفصيل فيه، وهو متميز عن المسروق من حيث إن المسروق حصله السارق بيده، وإن لم يكن قتال، ويده أقوى من يد الغانم؛ فإنها مقصودة. وذلك ما أردنا أن نبين.
11380- ثم ذكر الشافعي رحمه الله فصلاً في السرقة من الغنيمة، وهذا قد قدّمنا أصله، ومعظم ما يتفرع عليه في كتاب السرقة عند ذكرنا السرقة من المال المشترك، والأخذ من الأموال العامة، وفي هذا الفصل زوائد هينة، ولكنها متعلقة بحقيقة ملك الغانمين، فأخرتها إلى ذلك الفصل.
ثم ذكر إحياء الأرض الموات في بلاد الحرب، وقد قدّمناه مستقصى في إحياء الموات.
11381- وقال: "ما فعله المسلمون بعضهم ببعض في دار الحرب لزمهم حكمه... إلى آخره".
قصد بهذا الفصل الرّد على أبي حنيفة في مصيره إلى أن من قارف من المسلمين موجبَ حدّ في دار الحرب، لم يلزمه الحد؛ فإن الشافعي من مذهبه أن أحكام الله تعالى على المسلمين جاريةٌ في دار الحرب جريانَها في دار الإسلام، والحدود تجب على الذين يقترفون موجباتها، وكذلك القول في العقوبات التي يستحقها الآدميون كالقصاص، وحدّ القذف، ومما أجراه الردّ عليه في قوله: "من أسلم، ولم يهاجر، فقتله مسلم مع العلم بإسلامه عمداً، فلا قصاص عليه".
ولا فرق في المغارم والعقوبات وقواعد التكليف بين الباب والباب، وكيف يستحسن الإنسانُ المصير إلى أن الصائرين إلى دار الحرب من دار الإسلام تنحلّ عنهم عُرى أحكام الإسلام، ولا يلتزمون منها ما يُلزِمُه أهلَ الحرب.
واختلف نص الشافعي في أن الإمام هل يقيم الحد على من استوجبه من المسلمين في دار الحرب، فاضطرب أئمتنا، فقال قائلون: في كراهة ذلك قولان، ولا أحد يصير إلى التحريم.
وقال قائلون: النصان منزلان على حالين، فإن كان لا يخاف افتناناً، أقام الحد، وإن خاف فتنة، فلا نؤثر إقامةَ الحد، وذلك بأن يتداخل المحدود مغيظةٌ، وقد تكون سبب انقلابه، وقد يكون شريفاً في قومه، فيحملهم ما يجرى على سيدهم على الانفلال، فالنهي عن الإقامة محمول على مثل هذه الصورة. وإن ظهر وقوع ما أشرنا إليه، وغلب على الظنّ كونُه، فالظاهر عندي، أنه يجب اجتنابه، وحد الكراهية لا ينتهي إلى المباح الذي وصفناه، ولكن إن كان التوقع على ندور، أو لم يكن غالباً في الظن، فهذا مظنة الكراهية، وإن غلب وظهر، فالأوجه الاجتناب.
ثم ذكر الشافعي رحمه الله كلاماً في الذين لم تبلغهم الدعوة إذا انتهينا إليهم.
وهذا مما قدمته على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب الديات، عند ذكري أبدال نفوس أهل الملل وأقدار دياتهم.