فصل: باب: ما أحرزه المشركون من أموال المسلمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما أحرزه المشركون من أموال المسلمين:

11382- صدّر الشافعي الباب بالمسألة المشهورة في الخلاف مع أبي حنيفة، وهي إذا استولى المشركون على أموال المسلمين، وأحرزوها بدار الحرب، فمذهبنا أنها باقية على ملك مالكها من المسلمين، فلا يملكها المشركون بالاستيلاء عليها، ومهما وقع الظفر بها، فهي مردودة على ملاكها، ثم إن وقعت في أيدي الغانمين من المسلمين، فإن تبينا قبل القسمة، فالخطب يسير، فتردّ، وإن كان بعد القسمة، وسهل نقض القسمة، نقضناها، ورددنا الأعيان على أصحابها، وانتحينا القسمة بعد ردها.
وإن لم يكن نقضُ القسمة ممكناً، فالوجه استرداد تلك الأعيان من أيدي من وقعت في أيديهم، ثم يعوِّض الإمامُ من استُردّت العين منه من بيت المال، والخلاف في المحلّ الذي يخرج منه مثل ذلك، لا يجرى هاهنا حسب جريانه في الرضخ والمغارم التي تقع قبل القسمة، فالوجه أن يُغرم من المال العام، وهو مال المصالح. فأما الرجوع على الغانمين-وقد تبدّدوا- متعذّر، وجهات المصالح متسعة، والمسألة مشهورة مع أبي حنيفة.
فصل:
قال: "وإذا دخل الحربي إلينا بأمان، فأودع وباع... إلى آخره".
11383- إذا دخل الحربي دار الإسلام، وأودع عندنا ودائعَ، وبايع الناس، وثبت له قروضٌ وأثمان في الذمم، ثم إنه التحق بدار الحرب ناقضاً عهده، أو خرج إليه بإذن الإمام، أو لم ينقض عهده، ولكن خرج لشغلٍ ليقضيه، فإن خرج غيرَ ناقضٍ عهدَه، وترك أمواله، فلا شك أن تبقى الأموال في أمانه في زمان حياته، وإن مات، فسنذكر ذلك بعدُ في أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل.
وإن خرج إلى دار الحرب ناقضاً عهده، فقد ذكر الصيدلاني وغيره من أئمة المذهب ثلاثةَ أوجه في الأموال التي خلفها: أحد الوجوه- أنه لا يُنقض الأمانُ في أمواله، ما دام حياً، وربما كان يقطع شيخي بهذا الوجه، ووجهه أنه يثبت لماله حكم الأمان، كما ثبت له، ثم انتقض الأمان في حقه بالالتحاق بدار الحرب على قصد نبذ العهد، فنحكم في الأموال الباقية عندنا بالبقاء على حكم الأمان.
والثاني: ينتقض العهد في الأموال التي خلفها؛ فإن المال اكتسب الأمان من جهة المالك، فإذا لم يبق للمالك عهد وأمان، لم يستقل المال بحكم الأمان.
والوجه الثالث: أنه ينظر، فإن لم يَعقِد للمال أماناً على حياله، وإنما عَقَد الأمان لنفسه، ثم تعدى حكمُ الأمان إلى ماله، فإذا انتقض العهد في نفسه، انتقض العهد في ماله؛ فإنه ثبت تابعاً، فزال بانقطاع المتبوع وإن ثبت الأمانُ للمال مقصوداً، كما أثبته لنفسه، فإذا انتقض العهد في نفسه لم ينتقض العهد في ماله، والأولان يعممان في النفي والإثبات، ولا يفصلان بين أن يجري الأمان للمال مقصوداً وبين أن يثبت تبعاً. وهذه الأوجه الثلاثة يفرع عليها الحياة، وحكم الممات.
11384- ونبدأ بتفصيل الحكم في الحياة، فإن قلنا: الأمان باقٍ للمال، فلا نتعرض لماله، ولو دخل ديار الإسلام واستردّ أمواله، كان له ذلك، ولم يجز التعرض له، وإن لم نجدد له عهداً، فماله هاهنا سببُ تَسلُّطِه على دخول دار الإسلام، وهو بمثابة ما لو دخل كافرٌ دارَ الإسلام ليسمع الذكر، ويبحثَ عن الدين، ويتقبَّله إن ظهر له، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ} [التوبة: 6]، فقال العلماء: ليس المراد أن يُعقَد له أمانٌ ثم يدخل، ولكن قصدُه هذا يؤمنه، وهو في أمان الله تعالى، ومقصود الآية إعلامُنا أنه مؤمّن. وكذلك لو دخل كافر ديار الإسلام رسولاً، فتصدّيه للرسالة يؤمِّنه، وإن لم يُعقد له أمانٌ، كذلك عود الحربي لأجل أمواله سائغ من غير تجديد أمان.
ثم قال الأئمة: ينبغي أن يعجل تحصيل أغراضه، ولا يعرّج على أمرٍ. وإن زاد على الحد الذي ذكرناه، تصدى للقتل والأسر.
وإن قلنا: لا أمان لماله، فهو مأخوذ فيئاً؛ فإنه مال كافرٍ مظفور به من غير إيجاف خيل وركاب، فالتحق بالفيء.
وهذا الطرف من الفصل فيه أدنى التباس. ونحن نفصله ونكشفه، فنقول: إذا أراد المستأمَن أن ينبذ إلينا العهد، فلا شك أنا نُبلغه المأمنَ، ولا نتعرض لأمواله التي يستصحبها؛ فإنه في علقة من الأمان بها استمساكه إلى أن ينتهي إلى مأمنه، فإذا استصحب أمواله، فحكمها حكم نفسه، وإذا التحق بدار الحرب، وخلّف عندنا أموالاً، ففيها الخلاف، ولو فارق الأموال المخلّفة، ولم يستصحبها ولم يلتحق بعدُ بالمأمن، فكيف سبيل أمواله المخلّفة؟ الوجه عندي أنها في أمان، فإن مالكها بعدُ في أمان، وإنما التردد إذا انقضت عُلقةُ الأمان في حقه بأن التحق بدار الحرب.
ويجوز أن يقال على بعدٍ: إذا فارق الدار، وانقطع عن الأموال، يجري الخلاف، بخلاف الأموال التي في صحبته؛ فإن من ينبذ إلينا العهد، وإن كنا نبلغه المأمن، فهو من وجهٍ خارج من الأمان؛ إذ لو أراد أن يرجع، ويتوطن من غير أمانٍ جديد، لم يكن له ذلك، فكأنّ ما يُطلَقُ من الأمان، يُبَذْرِقه إلى دار الحرب.
ومما تجب الإحاطة به، فيما أَبهم الأصحابُ: إذا عاد بجميع ماله على الوجه الذي نقول فيه: يبقى الأمان في المال، فلا ينبغي أن يتخذ ذلك المالَ، أماناً له يرجع إليه، ويأخذ البعض، ويُبقي البعض، ويتردّد في ديار الإسلام من غير أمانٍ يتجدد، ولو فعل ذلك، امتدت أيدي المسلمين إليه. نعم، لو دخل ولم يستمكن من استرداد الأموال، وانقلب ثم عاد، فلا بأس عليه. والغرض أنه يقتصر على قدر الحاجة، في استرداد الأموال.
فكل ما ذكرناه تفريع الحكم في حالة الحياة.
11385- فأما إذا خلّف عندنا أموالاً، ولحق بدار الحرب، ومات في دار الحرب، فإن لم ينقض العهد في خروجه وطروقه، وإنما خرج لبعض وطره في شغلٍ، ثم يعود، فلا شك أن ماله في أمان ما دام حياً، فهاذا مات، فهل يصرف إلى ورثته؟ ظاهرُ المذهب أنه مصروف إلى ورثته كما لو مات هاهنا في العهد على أمواله؛ فإن أمواله مردودة إلى ورثته، وإن كانوا حربيين لا عهد لهم، ولا أمان بيننا وبينهم.
هذا هو المذهب.
فأما إذا كان التحاقه بدار الحرب بعد نبذ العهد إلينا، فإن قلنا: أموالُه عندنا فَيْء في حياته، فلا يخفى أنها تكون فيئاً بعد وفاته، وإذا كنا لا نصرفها إليه وهو حي، فلا شك أنا لا نصرفها إلى ورثته بعد موته.
وإن قلنا: إن أمواله مردودة عليه في حياته، فإذا مات، وقد كان نبذ العهد إلينا، ففي أمواله حيث انتهى التفريع إليه قولان في الأصل:
أحدهما: أنها تصرف إلى ورثته كما كانت تصرف إليه في حياته.
والقول الثاني- أنها تصير بعد موته فيئاً؛ وذلك أنا كنا نعلّق أمان ماله بعُلقة أمانه على معنى أنه يعود، فيأخذها. فإذا مات وقد كان نبذ إلينا العهد في الحياة، وانضم إليه مماته وفواتُه؛ فيضعف أثر الأمان في حكم المال، وقد أطلقنا هذين القولين الآن، وسنذكر-إن شاء الله تعالى- في أثناء الفصل وجهَ مأْخذ القولين، وتصرّفَ الأصحاب.
وقال قائلون: إذا خرج المعاهد إلى دار الحرب، ولم ينبذ عهده، ولكن أراد قضاء وطرٍ وعودةٍ بعدُ، فإنه إذا مات في دار الحرب، ففي أمواله التي عندنا قولان، كالقولين فيه إذا نبذ العهد، والتحق، فانتظم قولان، في الذين نبذوا، وطريقان في الذي خرج لشغل، ثم اتفق موته في دار الحرب.
11386- ومما يجب الاهتمام به في مسائلِ هذا الفصل أن الحربي إذا أمّناه، وأوح عندنا أموالاً-كما ذكرناه- ثم خلّف الأموال، ونبذ العهد، والتحق بدار الحرب، وسُبي، فضرب الرق عليه، وعاد إلى أيدي المسلمين رقيقاً، فكيف حكم الأموال التي كان أودعها عندنا قبل الالتحاق وقبل الاسترقاق؟ فنذكر في هذه الصورة حكمَ ماله في حياته، وهو في نفسه مسترق، ثم نذكر حكم ماله إذا مات رقيقاً.
فأما تفصيل القول في أمواله حالة حياته، فنقول: إن لم نر لأمواله أماناً إذا التحق بدار الحرب، فلا إشكال في أن أمواله المخلَّفة فينا فيءٌ. وإن فرّعنا على أنه يبقى لأمواله حكمُ الأمان إذا التحق بدار الحرب، ويبقى في قضية الأمان في حياة ذلك الملتحق النابذ للعهد، فهذا ما دام على نعت المالكين، فإذا وقع في الأسر، ورفَقْناه، فالذي يجب تحصيله ونقله-على قولنا: إن أمان المال يبقى لو لم نسترقّه- قولان:
أحدهما: أنا نقف ماله، وننتظر عاقبةَ أمره، فإن مات رقيقاً، وقعت المسألة في القسم الذي التزمنا بيانه، وهو أن يموت رقيقاً، وإن عَتَق، رُدّ المال إليه، وجعلنا طريان الاسترقاق مع اتفاق العتاق بمثابة تماديه في نقض العهد، فإذا زال، عاد الأمر إلى ردّ المال إليه، فهذا قولٌ، وحاصله وقفٌ. وله عاقبتان بينا إحداهما، وأجلنا الأخرى.
والقول الثاني- أنه إذا استُرق، فالأموال التي خلّفها فيءٌ؛ فإنه انضم إلى نبذ العهد خروجُه عن كونه مالكاً، فوهى الأمان في المال وانبتَّ، وإن كان يبقى لو بقي مالكاً، وهو قولٌ متجه منقاس.
فأما إذا استُرِق، ومات رقيقاً، فنقول: أولاً- لا مطمع لسيده في ملك الأموال، ولا تعلق له فيها، والمنصوص عليه في هذه الصورة أنها تصير فيئاً. هذا هو النص، وليس كما لو مات حراً بعد نبذ العهد؛ فإن الشافعي نص على قولين في أنا هل نصرف الأموال إلى الورثة، فأجرى قولين، ثم قطع هاهنا بأن تلك الأموال فيء، والفرق متضح؛ فإن التوريث ثَمَّ إن قلنا به، فهو توريث من حرّ، وهاهنا لو صرفنا المال إلى الورثة، لكنا صرفناه إليهم توريثاً عن رقيق، وهو غير جارٍ على القاعدة، فاتضح الفرق.
11387- ولكنْ للشافعي نصٌّ في مسألة تساوي هذه، والنص على المخالفة، وتلك المسألة مقصودة في نفسها، وقد أجلناها من كتاب الجراح إلى هذا الفصل، وقلّما يوجد في المعضلات مثلُها؛ فإنه يشترك فيها-كما سنُفصّلها- أصول متعارضة.
فالرأي أن نأتي بها ونبالغ في كشفها، وتنزيل فروعها على أصولها، ثم إذا لاحت المسألةُ، انعطفنا بعدها على غرضنا من الأموال التي استُرق مالكها.
وصورة المسألة أن يجني مسلمٌ أو ذمي على ذمي، فيقطع يديه مثلاً، ثم يلتحق الذميّ المجني عليه بدار الحرب، ويصير حرباً لنا، ثم يقع في الأسر، ويرى صاحب الأمر أن يضرب عليه الرق؛ فإذا رَقَّ-وتعيّن مالكه ضرْباً للمثل- والجراحة القديمة به، وسرايتها دائمة، فما الذي يجب على الجاني؟ وما يصرف إلى السيد؟ وإن فرض فاضل، فإلى من يصرف؟
فالذي يقتضيه الترتيب أن نذكر أولاً ما يلتزمه الجاني، ثم نذكر من يصرف إليه، والقول فيما يلتزمه الجاني يستدعي تجديد العهد بتراجم الأصول؛ فإن المسألة تلتفت إليها.
منها أن من قطع يدي عبدٍ قيمته مائتان من الإبل، ثم عتق ومات، فلا خلاف أن الجاني لا يلتزم أكثر من الدية نظراً إلى المآل، وهذا من الأصول الممهَّدة، وهو النظر إلى المآل في المقدار.
هذا مذهب الشافعي وأصحابه.
وقال المزني فيما نقله عنه الناقلون: يجب على الجاني أرش اليدين، مائتان من الإبل، وقد نبهنا على هذا في الجراح، وذكرنا غائلتَه، وغرضُنا الآن الاقتصارُ على تراجم.
ومن الأصول المقدمة أن من قطع يدي مسلم ورجليه، ثم ارتد المجني عليه، ومات مرتدّاً، فالمذهب أنه لا يجب على الجاني إلا ديةٌ واحدة.
وقال الإصطخري: يجب عليه أروش الأطراف، وهذا مما مضى مبيَّناً.
ومما يُحتاج إليه في المسألة التي انتهينا إليها أن من جرح مسلماً، فارتد المجروح، ثم عاد إلى الإسلام، ومات بتلك الجراحة مسلماً، ففي وجوب القصاص على الجاني تردّدٌ؛ فإن أوجبناه، فلا شك أن الدية تكمّل إذا آل الأمر إليها، وإن لم نوجب القصاص، فالمنصوص عليه أنه يجب تمام الدية، وخرّج ابن سريج قولاً أنه يجب ثلثا الدية، ويهدر ثلثها، فوزَّع الدية على حالتي الضمان، وحالة الإهدار، المتخللة، وذكر بعض الأصحاب قولاً آخر أنا نهدر نصفاً، ونوجب نصفاً.
11388- فإذا تجدد العهد بما ذكرناه، عدنا إلى مسألتنا التي صورناها. وهي: إذا جرح مسلم ذمياً، فنقض المجني عليه العهدَ، والتحق بدار الحرب، والسرايةُ باقية، فاستُرِق، ومات في يد مالك رقّه بتلك السراية، فحاصل ما نقله الأصحاب فيما يجب على الجاني ثلاثةُ أقوال: الأولان منهما منتظمان:
أحدهما: أن الجاني يلتزم أقلَّ الأمرين من أرش الجناية، أو قيمة الرقيق، ونقدر أرش الجراحة دية يهودي، والرجوع في القيمة إلى السوق، فيجب على هذا القولِ على الجاني الأقلُّ من الأرش أو القيمة. والقول الثاني- أنه يجب القيمة بالغةً ما بلغت، ولا نظر إلى الأرش.
وحكى القاضي، والإمام والدي قولاً ثالثاً، أن الجاني يلتزم أرش الجناية بالغاً ما بلغ، ولا نظر إلى مقدار القيمة. وهذا أضعف الأقوال توجيهاً.
توجيه الأقوال:
11389- من قال: يجب أقلُّ الأمرين، احتج بأن قال: إن كانت القيمةُ أقلَّ، فالاقتصار عليها خارج على اعتبار المآل، وهو من أصول المذهب، وقد صارت الجراح نقصاً، وإن كان الأرشُ أقلَّ، فلا وجه لإيجاب زائدٍ؛ لأن المجني عليه بعد الجناية صار مباحاً، والرق نتيجة الإباحة، ومن استحق الرقَّ، فاستحقاقه طارئٌ على إباحةٍ قاطعةٍ للعهد السابق، فيبعد أن يضمن الجارح قبل الإباحة مزيداً بسبب رقٍّ ترتب على الإباحة، وحق من يملك مباحاً أن يكتفي بما يصادفه. هذا توجيه هذا القول.
ومن أوجب القيمة، استمسك باعتبار المآل، وقال للقائل الأول: إنك تنظر إلى القيمة إذا كانت أقلَّ. فإذا توجه النظرُ إليها، تعين اعتبارها، وكان الرق بعد الحرية في العاقبة كالعتق فيه إذا جنى على عبدٍ ثم عتق ومات.
وأما من قال: يجب أرش الجناية بالغاً ما بلغ، فليس لهذا اتجاه إلا على المذهب الذي حكيناه للإصطخري فيه إذا قطع رجلٌ يدي رجل ورجليه، ثم ارتد المجني عليه، ومات، فإنه يوجب أرش الجراحات، وإن زادت على الدية؛ مصيراً إلى أن الإباحة بعد الجناية، تمنع اعتبار المآل؛ من حيث لو اعتبر المآل، للزم الإهدار، فعلى هذا يتجه إيجاب أرش الجراحات بالغاً ما بلغ.
فإن قيل: كيف وجه التشبيه؟ والذي ارتد في مسألة الإصطخري مات مرتداً، والمجروح في مسألتنا مات رقيقاً مضموناً؛ قلنا: وإن كان كذلك، فالرق مرتب على الإباحة وهو نتيجة الإباحة.
11390- وبقي وراء الأقوال مباحثة وإشكال متلقى من أصلٍ من الأصول التي ذكرناها، وهو أن من جرح مسلماَّ، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، ومات في الجراحة، فإن قلنا: تجب الدية الكاملة، فلا إشكال في مسألتنا، وإن رأينا على التخريج أن نوجب بعض الدية، ونهدر بعضها، لمكان الإهدار الطارئ، فعلى هذا يجب إنعام النظر في مسألتنا، من جهة أن سراية الجراحة بقيت، وهو حر ثم استرق بعدها، فحقُّ تلك السراية ألا يُضمن موجبها، فنقول: يستعمل هذا الأصل على الأقوال، فإن قلنا: الاعتبار بالقيمة، فلا نظر إلى أرش الجناية، فعلى هذا يخرج أن نقول: يجب ثلثا القيمة، أو نصف القيمة، كما ذكرنا هذا في مسألة طريان الرّدة.
وإن قلنا: الواجب على الجاني أرش الجراحة بالغاً ما بلغ، فلا يعترض هذا الإشكال على هذا القول، ولا نظر إلى الإهدار بعد الجراحة، ولا نظر إلى المآل بحال.
وإن قلنا: على الجاني أقلُّ الأمرين من أرش الجراحة أو القيمة، فالوجه أن نقول: على الجاني أقلُّ الأمرين: من الأرش أو نصفُ القيمة في قولٍ، أو ثلثي القيمة في قول، فنعتبر المناسبة في استخراج الأقل على النسبة التي يقتضيها التخريج في القيمة إذا قلنا: الاعتبار بالقيمة.
هذا نجاز القول فيما يلتزمه الجاني.
11391- والكلام وراء هذا في أن ما يلتزمه الجاني إلى من يُصرف؟ نرسل في هذا ما ذكره المحققون، ثم نذكر مستدركا قريباً بيّناً: فإن قلنا: على الجاني أقلُّ الأمرين من الأرش أو القيمة، فهو مصروف إلى ورثة المسترَق، هكذا نصّ الشافعي؛ فإن الأرش إن كان أقل، فقد جرى في حالة الحرية قبل الإباحة، وتولّج بينها وبين الرق إباحة فاصلة، فالأرش مصروف إلى الورثة، وإن كانت القيمة أقل، فهذا سمّي قيمة، وهو في التحقيق بعضٌ من الأرش، وكأن الأرشَ نَقَصَ بنظرتنا إلى المآل، فإذا كنا نصرف الأرشَ إلى الورثة بالتقدير الأول، وهو مثل الجناية، فالناقص أولى بالصرف إليه.
ووراء هذا غائلة، ولكن بيان المسألة عند نجازها.
وإن قلنا: الواجب قيمة المسترق بالغة ما بلغت، فمقدار الأرش من القيمة يصرف إلى الورثة؛ فإن ذلك ثبت بسبب الجناية، في الحرية، وأما الفاضل من القيمة، فإنه مصروف إلى المولى، وإن كانت القيمة مثلَ الأرش أو أقلَّ منه، فهي بجملتها مصروفة إلى الورثة، وإن قلنا: يجب الأرش بالغاً ما بلغ، ولا نظر إلى القيمة، فالوجه القطع بأنه مصروف إلى الورثة، لا حظ للسيد فيه.
وقال القاضي: يصرف مقدار القيمة من الأرش إلى السيد، ويصرف الفاضل إن فضل شيء إلى الورثة، وهذا غلطٌ صريح؛ فإنا إذا أوجبنا الأرش بالغاً ما بلغ، فلسنا نلتفت إلى القيمة، ولكن صاحب هذا القول يعتقد أن طريان نقض العهد يمنع اعتبار المآل؛ فإن الرق وإن أحدث ضماناً، فهو مترتب على الإباحة كما سبق تقديره، فإذا كان مقتضى هذا القول قطعَ النظر عما بعد الجناية، وحق مستحق الرق يتعلّق بالرق، فإنا إذا لم نعتبر القيمة، ولم نلتفت إليها، فيستحيل صرف شيء من الأرش إلى السيد، بل يتعين صرف الأرش بكماله إلى الورثة على موجب النص.
فالوجه أن نقول: إن حكمنا بإيجاب الأرش، فهو مصروف إلى الورثة على مقتضى النص، وإن قلنا: الواجب القيمة بالغة ما بلغت، فإن كانت قدرَ الأرش، أو أقلَّ منه، فهو مصروف إلى الورثة، وإن كانت أكثر من قدر الأرش، فمقدار الأرش مصروف إلى الورثة، والفاضل مصروف إلى السيد.
هذا هو التفريع القويم على الأقوال.
وعلينا بقايا في هذه المسألة.
11392- ولكن حان أن نرجع من هذه المسألة إلى ما كنا فيه قبل الخوض في هذه من أحكام الأموال التي أودعها ثم استرِق: ظاهر النص أن تلك الأموال فَيْءٌ إذا مات المسترَق على رقه، وقبل أن يموت فيه قولان. هذا هو النص في الأموال.
ونصَّ في مسألة الجراحة أن الواجب على الجاني مصروفٌ إلى ورثة المسترَق أو بعض ما يجب، كما فصلنا في التفريع على الأقوال الثلاثة في مسألة الجناية، ولا فرق؛ فإن المجروح مات رقيقاً، والمسترَق الذي كانت له أموالاً مات رقيقاً، والتوارث من الرقيق بعيد، غير جارٍ على القولين في المواريث، وإن أسندنا الإرثَ إلى ما قبل جريان الرق، كان هذا توريثاً من حي، ويستوي فيما نبهنا عليه أرش الجراحة والمال.
فقال أصحابنا: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج-إذا اتصل-: أحد القولين- أن الأموال والأرش على ما تقدم التفصيل فيءٌ، فإنها أموالاً متلقاة من كافر من غير قتال، وقد عسر تقدير الميراث؛ من جهة أن التوريث من الرقيق غير ممكن، والتوريث في حالة الحياة، لا سبيل إليه، وهذا عندي أقيس القولين.
والقول الثاني- أن الأموال مصروفة إلى الورثة، وكذلك الأرش على ما فصلنا التفريع على الأقوال الثلاثة، ووجهه أن الأموال كانت مبقّاة فينا على حكم أمانٍ ونقضُ مالكها العهد لم يُبطل الأمانَ في المال؛ فإن هذه التفريعات بجملتها مجراة على أن حكم الأمان يبقى في الأموال، ثم لو مات الحربي عليها، فقد ذكرنا قولين في أنه هل يورث، وصححنا التوريث منه، فالاسترقاق ينبغي ألا يحُلَّ أمانَ المال، كما لم يحُلّ نبذُ العهد أمانَ المال، وإذا لم يحُل أمان المال، وتعيّن ألا يُصرفَ إلى جهة الفيء، ثم لا مسلك أخص به من مسلك التوريث، فاقتضى مجموعُ ذلك الصرفَ إلى الورثة.
فأما امتناع التوريث من الرقيق، فذاك من تفاصيل شرعنا، والكفار لا يتعبدون بتفاصيل الشرع إيقاعاً وابتداءً، ومن زعم أنهم مخاطبون عَنَى بذلك ربطَ المأثم بهم في ردّهم الشرع المشتمل على تفاصيل الأحكام، ثم يتعرضون لاستيجاب العقاب على كلّ محرّمٍ في الشرع اقتحموه، وكل واجب تركوه، فأما ربط ما يتعلق بهم بقواعد الشرع وشرائطها، فلا سبيل إلى التزامها، فقد جرى القولان في الأموال، والأروش الذي كنا نصرفه في مسألة الجناية إلى الورثة.
11393- فإن قلنا: الأموال والأروش مصروفة إلى مصارف الفيء، فلا كلام.
وإن قلنا: هي مصروفة إلى الورثة، ففي طريق الصرف إلى الورثة تردد عندي، يجوز أن يقال: لا يصرف إليهم إرثاً، وإنما يصرف من حيث لا يؤخذ منهم، فالمال في أمانٍ غير منحلّ. وهذا يناظر ما إذا قلنا: من مات وبعضه حر وبعضه رقيق، فالأموال التي خلصت له بسبب الحرية مصروفة إلى مالك الرق في بعضه، وليس هذا توريثاً، وإنما هو صرف مال إلى أخص الجهات، حيث يعسر إجراء قوانين الميراث، ولذلك أقمنا السيد مقام العبد المقذوف بعد موته في طلب التعزير، وليس هذا من التوريث، ولكنه استمساك بأخص الطرق.
ولو استدّ نظر الناظر، استبان له أن التوريث بابٌ من التخصيص أيضاً؛ فإن الأموال إذا زال عنها مالكها المختص، ولا سبيل إلى تعطيلها، فالوجه إقامة من يختص بالميت مقامه في نسب أو بسبب كما تقتضيه قواعد الفرائض، هذا مسلكٌ.
ويجوز أن يقال: هذا توريث. وقد صرح بذلك النص، وأطلقه الأصحاب، ثم على هذا تردد سيأتي شرحنا عليه، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: ليس ما ذكرناه توريثاً، فلا محاشاة من المصير إلى أن المال يصرف إلى الأخصِّين يوم الموت، وإن قلنا: هذا توريث، فينقدح فيه وجهان:
أحدهما: أن نقول: نتبين استناد استحقاق الورثة إلى ما قبل جريان الرق، فإن قيل: هذا توريث من حيٍّ. قلنا: هو كذلك. والعبارة القريبة من النظم أن نقول: هذا توريث يناظر مسألةً ذكرناها في الجراح، وهي أن من قطع يد مسلم ثم ارتد المجني عليه ومات مرتدّاً، فقد قال الشافعي: لوليه المسلم القصاصُ في الطرف، فهذا في التحقيق خلافةٌ أثبتها بين المسلم وبين المجني عليه لمّا كان مسلماً، فإنه لو اعتبر حالة الممات، لكان مورِّثاً مسلماً من كافر، ولا يرث المسلم المرتد عندنا.
والذي يحقق ما ذكرناه أن من استُرق ومات، فقد زالت أملاكه بالرق، كما يزول ملك الحي بالموت، فكان الرق المتقدم على موته في معنى الموت، فأثبتنا الخلافة متصلة بمُزيل الملك، وإن لم تكن متصلة بالموت نفسه.
11394- وقد أجرينا في أصول هذه المسألة أموراً بديعة من أدناها: أنا قلنا: من جنى على عبدٍ ثم عَتَق، فالواجب الدية، ويصرف قسط منها، أو كلُّها إلى من كان مالكاً قبل الموت، وإن كان مستحق الرق لا يستحق من بدل الحرية شيئاً، والدية بدل الحر.
ثم إنا خصصنا ما ذكرناه من الخلافة بحال الموت، لأن الرقيق، وإن لم يكن مالكاً، فالملك له متوقع، ولا إرث ما لم ينقطع التوقع.
هذا بيان هذه المسألة.
فإن قيل: أين يقع التوريث من الرقيق من صرف شيء من الدية إلى من كان مالكاً في مسألة طريان العتق؟
قلنا: شرط استحقاق الورثة حريةُ من يُتلقى الاستحقاق منه، كما أن شرط استحقاق المالك رقُّ المجني عليه، وقد تقدم الرقُّ في مسألة طريان العتق، ولم نجد سبيلاً إلى إبطال حقّ مُستحِق الرق، وإن زال الرق بالعتق؛ لأن العتق لا ينعطف على ما فات بالجناية. وفي مسألتنا ما فات في زمن الحرية أو مُلك في زمن الحرية، فالرق لا ينعطف عليه. والحكم السابق لا سبيل إلى إبطاله بما يَلْحق، على ما قررناه.
فالتقت المسألتان في التحقيق. وإن تقدّمت الحرية في أحدهما، وتأخرت في الأخرى، فالمسألتان مفترقتان من الصورة مجتمعتان في الحقيقة.
ومما كان يذكر شيخُنا متصلاً بهذا الفصل أنه لو أعتق الذمي عبداً، وثبت له الولاء عليه، ثم نقض العهدَ، والتحق بدار الحرب، فوقع في السبي، فأرققناه. فإن مات رقيقاً، فلا حظ للسيد في ولاء مواليه ومعتَقيه إذا كان ذمّياً، كما لاحظ له في المال، وهو لما رَقَّ خرج عن أن يكون مستحِقاً للولاء، فحكم ولاء المعتقين كحكم الأموال.
وقد ذكرنا مصارف أمواله.
وهذا الكلام مفهوم في نفسه. ولكن ليس على الحد الذي أُحبه، فإن غاية البيان لا يتأتى في الوَلاء إلا بعد الإحاطة بأصله، وقد تركت وخلَّفت فيما تقدّم غوامضَ من أحكام الوَلاء، وأنا أرجو من الله تعالى أن آتي بقواعد الوَلاء في بابٍ من كتاب العتق على وجهٍ لا يغادر مشكلة، إن شاء الله عز وجل.
ثم قال: لو أعتق مالكُ المسترَق، فهل ينجرّ الولاء إليه؟ فعلى وجهين. وهذا يستدعي الإحاطة بجر الولاء وموضعه، وسيأتي ذلك كله في موضعه من باب الولاء إن شاء الله تعالى.
وإذا انتهينا إلى ذلك الباب أعدنا هذه المسائل في الولاء، وتداركنا ما فيها من إبهام، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ومن خرج إلينا منهم مسلماً... إلى آخره".
11395- من خرج إلينا مسلماً من الكفار قبل الظفر به، عصم دمه وأحرز ماله ولا فرق بين العقار والمنقول، فلو كانت له أموال في دار الحرب لم نعرض لشيء منها، ولا فَصْل بين مالٍ ومال. فأما الأولاد، فإن كانوا صغاراً ثبت لهم حكم الإسلام تبعاً، وإن كانوا كباراً، فلا يلحقهم من عصمة إسلام أبيهم شيء؛ فإنهم مستقلون، فإن أرادوا العصمة، فليسلموا، والإسلام لا يجري مجرى العهود والمواثيق التي تعقد للواحد مرة والجمع أخرى، وإنما هو اتصافٌ بالدين، ثم مالُ المسلم معصوم كدمه، والمتعلقون به يُعصمون لإسلامهم لا لإسلام من ينتمون إليه.
وهذا على وضوحه يزداد بياناً بأن نفرّق بين الإسلام والذمة، فنقول: من عقدنا له الذمة تعدّت قضية الذمة إلى زوجاته وبناته الكفار، كما تتعدى إلى أمواله؛ فإنه بذمته يبتغي أن نُقرّه مع أهليه في دار الإسلام، والبنت الكبيرة لا تقبل الجزية بنفسها، فاندرجت تحت الذمة المعقودة للذمي.
ومن أسلم من الكفار، وله بنت كبيرة حربية، فعصمة إسلام الأب لا تلحقها؛ فإنها متمكنة من الإسلام انفراداً، فلْتُسلم، وهي من طريق التقريب والتشبيه في الإسلام تنزل منزلة الابن الكبير في الذمة، فإن الذمّي لا يستتبع بنيه في الذمة، بل إن أرادوا العصمة، فليقبلوا الجزية بأنفسهم. فلما تُصوّر استقلالهم لم يتبعوا في الجزية، والبنت في الاستقلال بالإسلام كالابن، وهذا وإن أطلناه، فهو بينٌ عند الفقيه، لكنا نرى ألاّ نُغفل في تمهيد الأصول جليَّاً ولا خفيّاً.
11396- ولو بدت تباشير الفتح في القلعة التي حاصرناها، فمن أسلم قبل حقيقة الفتح، عصم نفسه وماله، وتعدّت العصمة إلى صغار أولاده، من حيث يلحقهم الإسلام على جهة التبعية. واحتج الشافعي في ذلك بقصة ابني سَعْية، كانا من بني قريظة، فخرجا مسلمين لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصما بإسلامهما أموالهما وصغار أولادهما، وابنا سَعْية هما: ثعلبة وأُسيد، وسبب إسلامهما معروف.
ولو كان الذي أسلم زوجَةً حربية، فقد قدمنا الخلاف في أن زوجة المسلم هل تُسبى؟ فذلك الخلاف يعود، ولو كان للذي أسلم ولدٌ مجتنّ في بطن حربية، فإن كانت زوجتَه، فقد مضى الكلام فيها، وإن لم يكن عليها زوجية، فهي مسبية مسترقة، والجنين الذي في بطنها، لا يرق، من جهة أن الإسلام لحقه، وهو موصوف بالإسلام، فلا يلحقه السبي والرق، كالمولود المنفصل.
وخالف أبو حنيفة في مسائل مما ذكرناه منها: أنه قال: من أسلم، فماله المنقول لا يغنم، وعقاره يغنم. وقال: لو اشترى مسلمٌ دخل دار الحرب عقاراً، فهو مغنوم، وإن كان مِلكَ المسلم. والجنينُ في بطن الأم يلحقه الرّق عنده إذا سبيت الأم.
وحكمُ الذمي، وحكم أمواله الكائنة في دار الحرب سيأتي مستقصىً في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى، وسنذكر أحكام المعاهدَ والفرقَ بينه وبين الذمي في هذه القضايا التي أشرنا إليها.
والإسلام بعد الأسر، ممّا سبق القول فيه في كتاب القَسْم، وبينا نص الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: "إذا أسلموا بعد الإسار رقّوا " وأوضحنا تأويل ذلك، وقد روي أن عُقيلياً أُسر، فأسلم بعد الإسار، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو قيلت قبل هذا، لأفلحتَ كل الفلاح».
فصل:
قال الشافعي: "قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عَنْوة... إلى آخره".
11397- حقيقة مذهبنا في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة مستعداً للقتال لو قوتل؛ ولكنه لم يقاتل، فأمّن أهلَ مكة على جملةٍ، ثم على تفاصيلَ، وأمر بقتل رجالٍ مخصوصين كان عزم على قتلهم، وأمر بقتل القَيْنتين؛ فهذا ما جرى، وقتل خالدُ بنُ الوليد بين الصفا والمروة طائفةً من بني نُفاثة، وقيل: كانوا بيتوا خزاعة المستجيرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقع الرضا، ولما رأى بريق السيوف على الميسرة، والمؤمرُ عليها خالد بنُ الوليد، قال: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد"، وفي الحديث " أنه ودى القتلى من عند آخرهم، حتى ميلغة الكلب".
فمن قال: دخل مكة عَنوة على معنى أنه مُنع، فقاتل، فليس الأمر كذلك، ومن أراد بدخوله عَنْوة أنه دخلها بعُدّة على هيئة الاستمكان من القهر، فهذا حق لا ينكر، وما جرى من القتال فيه وصفناه. وليس في الخلاف في هذه المسألة كثير فائدة.
والذي جرى الرسم بذكره في أطراف هذه المسألة، القول في عقار مكة.
وعَقارُها وعِراصها المحياة كلها مملوكة، كالدور في سائر البلاد، يصح بيعها، وتنفذ جميع تصرفات الملاك فيها.
ومذهب أبي حنيفة أن بيع عقار مكة مردود، ولهم اضطراب، لا حاجة بنا إلى نقله.