فصل: فصل: في الغيار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في الغيار:

11477- اتفق الأصحاب أنا نأمر الكفار بالتميز عن المسلمين بالغيار، وتفصيل ذلك إلى رأي الإمام، وقال الأصحاب يمنعون من ركوب الخيل، ويكلّفون ركوبَ الحمر، والبغالُ النفيسة التي يتزين بركوبها في معنى الخيل، وينبغي أن تتميز مراكبهم عن المراكب التي يتزين بها الأماثل والأعيان من أهل الإيمان. وقيل: ينبغي أن تكون ركابهم الغَرْز وهو ركاب الخشب، ثم يضطرون إلى أضيق الطُرق، فلا يمكنون من ركوب سَرارة الجادّة إذا كان يطرقها المسلمون، وإن خلت عن زحمة الطارقين من المسلمين، فلا حرج.
ثم تكليفهم التميز بالغيار واجب؛ حتى لا يختلطوا في زيّهم وملابسهم بالمسلمين فيكرموا إكرامهم، ويفاتحوا بالسلام.
وما ذكرناه من تمييزهم في الدّواب والمراكب مختلف فيه: فقال قائل: تكليفهم التميّز بها حتم كما ذكرناه في الغيار، ومنهم من جعل ما عدا الغيار أدباً؛ ثم إذا رأى الإمام ومن إليه الأمرُ ذلك، فلا معترض لهم، وليس يسوغ إلا الاتباع.
وهل يجب على المرأة منهم أن تتميز بالغيار إذا برزت؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن ذلك لا يجب، لأن بروز النساء محمول على النادر، وذلك لا يقتضي تميزاً في الغيار.
وإذا دخل الكافر حمّاماً فيه مسلمون، وكان لا يتميز عمن فيه بغيار وعلامة، فالذي رأيته للأصحاب منعُ ذلك، وإيجاب التميز في هذا المقام أولى؛ لأن الكافر ربما يلوث الماء ويفسده على حكم دينه، بحيث لا يُشعَر به.
ودخول الكافرة الحمام الذي فيه المسلمات من غير غيار يُخرَّج على الخلاف الذي ذكرناه.
وكان شيخي يقول: لا يمنع أهل الذمة من ركوب خسيس الخيل، ولو ركبوا البراذين التي لا زينة فيها لخسّتها، والبغال على هذه الصفة، فلا منع، والحمار النفيس الذي يبلغ ثمنه مبلغاً إذا ركبه واحد منهم، لم أر للأصحاب فيه منعاً، ولعلهم نظروا إلى الجنس ومن الكلام الشائع: ركوب الحمار ذُل وركوب الخيل عِزّ، والعلم عند الله تعالى.
11478- ثم ذكر الشافعي " أن الأمام أَوْ مَنْ إليه الأمر من جهة الإمام في الناحية يأمر حتى يُثبت أسامي أهل الذمّة في ديوان، ويكتب فيه حُلاهم ويعرِّف عليهم عرفاء "؛ حتى لو مات واحد منهم بان بموته نقصان ما كان يخصه، ولو بلغ واحد منهم أثبتت جزيته في الديوان، ولا يخفى مضمون هذا الفصل، ومقصوده، ووجوب رعايته لشدة الاحتياج إليه في مراعاة الضبط.

.فصل: يجمع مسائل في عقد الذمة خلت عنها الفصول:

وهي تخامر فكرَ الفطن إذا لم تكن مجموعةً عنده، وتجرّ إليه إشكالاً، فنقول:
11479- على الإمام ألا يقبل الجزية ابتداءً مع ظهور توقع الشر ممن يَبْذلها، وهذا يظهر من وجوهٍ: منها أن جماعةً من أهل النجدة لو توسطوا الخِطّة، وطلبوا أن يُقَروا فيها بالجزية، ولا يؤمن أن يناكبوا ويتضامّوا، ولو فعلوا ذلك، لم يؤمن استيلاؤهم على الناحية، فحقٌّ على الإمام أن يرعى هذا ومثلَه، والرأي إن أراد قبول الجزية أن يبدِّدهم في البلاد، ويأمر من يراعيهم، ولو غلب على ظنه أن الرجل الفرد الذي يبتغي الجزية طليعةٌ أو جاسوس، فلا يقبل منه الجزية.
والمعتبر في القاعدة أنه إذا غلب على رأي الإمام وظنِّه توقّع الشر، فليس له أن يعقد الذمة، وإذا لم يظهر له ضرر، عقدها، وأثبتت الجزية، وذكر الأصحاب أنهم لو كانوا يضيقون المساكن والمرابع ومرافق البلدة بكثرتهم، وكانوا لا يحاذرون من جهة نجدتهم، فهذا محتمل، والجزية مقبولة.
11479/م- ولو عقد الوالي الذمة، ولم يذكر مقدار الجزية، فالأصح فسادُ الذمة، وأبعد بعض الأصحاب، فصحّحها، ونزّلها على أقل الجزية، وهو دينار في السنة. وهذا غير سديد.
11480- وذكر بعض الأئمة قولين في الذمة المؤقتة وأطلق بعضُهم وجهين فيها:
أحدهما- أنها فاسدة؛ فإن مبنى الذمة على التأبيد في وضعها، فلا يجوز تغيير وضع الشرع ومخالفة العهود.
والثاني: تصح الذمة. ولسنا نعني العهدَ؛ فإن العهد العريّ عن الجزية لا يجوز إلا مؤقتاً، على ما سيأتي التفصيل في المهادنة، إن شاء الله تعالى، وإنما المعنيُّ ذمةٌ مشتملة على ضرب الجزية فُرض تخصيصها بسنة أو سنتين، فالظاهر المشهور المنع، ومن صحح والتزم، لم يعدم القياس. ثم أثر التصحيح الالتزامُ، ووجوبُ الوفاء بموجب التأقيت.
ولو أفسدنا الذمة، قضينا بأنها غير لازمة، ولكنهم لا يُغتالون، ويُبْلغون المأمن، وإن طلبوا ذمة مؤبّدة أُسعفوا بها.
ولو أقت الوالي الذمةَ إلى وقت مجهول مثل أن يقول: أُقرّكم بالذمة ما شئت، فمن لم يمنع التأقيتَ، لم يمنع هذا، ومن منع التأقيتَ على صيغة إعلام الوقت اختلفوا في هذا، وسبب الاختلاف ما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل الكتاب في جزيرة العرب: أقركم ما أقرّكم الله " والوجه منعُ هذا منا إذا منعنا التأقيت، وحملُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على توقع النسخ، وكانت جملة الأحكام القابلة للنسخ في زمنه على التردد من جهة إمكان النسخ، وهذا لا يتحقق من غيره.
ولو قال في عقد الذمة: أقركم ما شئتم، فهذا جائز لا منع فيه؛ فإنه مقتضى العقد؛ فلأهل الذمة المشيئة في نبذ العهد إلينا متى شاؤوا، فالتفويض إلى مشيئتهم تصريحٌ بموجب العقد.
11481- ولو عقد الإمام لهم الذمة، ثم رابه منهم أمر لو ظهر في الابتداء، لما عقد الذمةَ، ولكن لم يتحقق، فهل له أن ينبذ العهد إليهم والحالة هذه؟ ذكر المحققون وجهين:
أحدهما: أنه يجوز بل يجب كما تجب رعاية ذلك في الابتداء.
والثاني: لا يجوز؛ فإن الذمة إذا لزمت، بَعُدَ أن نجوّز الهجوم على نقضها من غير ثبت.
وهذا عندي فيه إذا كان الأمر المحذور مما يمكن تداركه، فأما إذا كان يتوقع أمر يعظم أثره، ويخاف منه ما يبعد تداركه، فيجب القطع بنبذ العهد إليهم في الدوام، وهذا بيّن في حكم الإيالة.
11482- ولو عقد الإمام ذمةً على الفساد وذكر الجزية، فمن مقتضى الفساد في الذمة ما قدمناه من أنه لا يلزمه الوفاء، قال الأئمة: إذا لم يصح عقد الذمة، فلا تثبت الذمة المسمّاة، وإنما الرجوع إلى دينار على كل حالم في السنة، حتى لو بقوا على حكم الذمة عندنا سنة أو أكثر، فالكلام على ما ذكرناه من مقابلة كل سنة بدينار في حق كل رجل، فقد قدمنا أن عقد الذمة إلى صاحب الأمر، ولو تولاّه آحاد المسلمين، لم يلزم، ولم يثبت ولكن سبيله كسبيل الأمان، فلا اعتبار، ويُبلغ المؤمن المأمن، كما نفعله في الأمان.
11483- ولو بقي الكافر سنة على حكم أمان الواحد من المسلمين، ففي وجوب الجزية عليه وجهان، ثم إن أوجبناها، فهي دينار في السنة.
ولو اندس واحد من الكفار فيما بيننا وبقي سنة أو سنتين، ثم شعرنا به وعثرنا عليه، فالذي رأيته للأصحاب أنا لا نأخذ منه شيئاً لما مضى، ولا نجعله بمثابة من سكن داراً سنة مغتصباً؛ فإن عماد ثبوت الجزية القبول، وهذا الداخل المتولّج فينا حَربي، لا أمان له، فلا يتحقق إلزامه من غير التزام، فإذا عثرنا عليه فإن لم يبذل الجزية ولم نبذل الذمة، قتلناه على مكانه، وغنمنا ما معه؛ فإنه حربي لا أمان له، ولو بذل الجزية، يعني التزمها، وطلبَ الذمةَ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنا نبذلها له، وذكر شيخي وغيره في مثل هذا المقام وجهاً أن الجزية لا تؤخذ؛ فإنه مأسور مقدور عليه واقع في القبضة محفوف بنجدة الإسلام، فكان بذل الذمة كبذل الأسير، وقد ذكرنا هذا في حكم الأسرى، وهذا وجهٌ حسن، لا ينبغي أن يغفل الفقيه عنه فيما يجريه من التفاصيل.
11484- ولو دخل الحربي دارنا، وزعم أنه رسول، لم نكلفه إثبات الرسالة بحجة، ولا حجة إلا تصديقُه فيها، وليت شعري ما أقول ولا كتاب معه، وقد غلب على الظن كذبه؛ فإن مخايل الرسل لا تخفى، هذا فيه احتمال، والعلم عند الله تعالى.
ولو ذكر الكافر أنه دخل مستجيراً ليسمع الذكر، فهو مصدّق، ولا تعرض ولا اعتراض. ولو ذكر الحربي أن واحداً من المسلمين أمّنه، فهل يصدق في ذلك، أم يكلف إثباتَه بالحجة؟ فيه اختلاف ذكره العراقيون: من أصحابنا من قال: لا يصدق؛ فإن الغالب على من يعتمد أماناً أن يستوثق فيه ببينة؛ إذ ذاك ممكن.
11485- ومما يدور في الخلَد أن الإمام لو أراد أن يبني الجزية على التبعيض في الأخذ في السنة، حتى يطالب في كل شهر بقسطه من الدينار، أو بما اتفق التزامه، فهذا فيه احتمال مأخوذ مما إذا مات الذمِّي في أثناء السنة، أو أسلم، فهل نقول: يستقر قسط من الجزية في مقابلة ما مضى من أيام السنة؟ فيه قولان ووجه البناء عليهما بيّنٌ.
فهذا ما حضرنا من المسائل التي شذت وانسلّت عن ضبط الأصول في أحكام الذمة.
فصل:
قال: "وليس للإمام أن يصالح أحداً منهم على أن يسكن الحجاز... إلى آخره".
11486- روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» وقال: «لو عشت إلى قابل، لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» ثم لم يعش وانقلب إلى رضوان الله تعالى، ولم يتفرغ لذلك أبو بكر؛ للأمور المهمة التي وقعت في زمانه، فلما استخلف عمر ومضى صدرٌ من خلافته أجلاهم، وضرب لمن يقدم منهم تاجراً مقام ثلاثة أيام، وقيل إنما رجع إجلاؤهم إلى ذِكْره لأنه كان بعث ابنه عبد الله إلى خيبر فسحروه، فتكوّعت يده، وقيل: أخرج عمرُ من الجزيرة زهاء أربعين ألفاً من اليهود، فالتحقوا بأطراف الشام. هذا هو الأصل.
ثم مضمون الفصل فيه انتشار، فلابد من تفصيل الغرض، وإيقاعه في فصول.
11487- فليقع الكلام أولاً في ضبط الجزيرة وذكرها، فنقول: الطريقة المشهورة أن الجزيرة تعني مكة، والمدينة، واليمامة ومخاليفَها المنسوبة إليها، ثم قال الأئمة على هذه الطريقة: الطائف ووَجّ وما يعزى إليهما منسوبة إلى مكة معدودة من الجزيرة، وألفيتُ في التقريب التهامة، والغالب على الظن أنها تصحيف اليمامة؛ فإني لم أر لليمامة ذكراً، وهي من الجزيرة باتفاق الأصحاب، ولا شك أن خيبر من الجزيرة، ومنها الإجلاء في زمن عمر وهي من مخاليف المدينة.
وأما أهل العراق فقد قالوا: الحجاز: مكة، والمدينة، واليمن. والحجاز من الجزيرة، وجزيرة البحر تمتد إلى أطراف العراق من جانب، وأطراف الشام من جانب، وسميت هذه الرقعة المتسعة جزيرة لإطافة البحر بمعظم جوانبها واتصالها بالأنهار العظيمة كدجلة والفرات من جانب العراق، فكأنها مكفوفة عن البقاع بالمياه، ثم قالوا: والحجاز من جملة الجزيرة، ومعناه ما ذكرناه.
وكان شيخي يقول: "الحجاز والجزيرة واحد، والذي نقل في الأخبار: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم في اللفظ للحجاز".
وهذا تردد في اللفظ، والذي يدخل تحت الضبط ما نصفه: فلا خلاف بين الأصحاب أن الموضع الذي يمنع الكفار من الإقامة فيه لا ينتهي إلى أطراف العراق والشام، سواء سمّي جزيرةً أو لم يسمّ، وإنما المواضع التي يُنهى الكفار عن المقام فيها على طريقة المراوزة: مكة والمدينة واليمامة، وعلى طريقة العراقيين: مكة، والمدينة، واليمن، والمخاليفُ حكمها حكم البلاد في جميع الطرق، وقد يتجه عدّ اليمن من الحجاز؛ لأنه مجتمع العرب وفيها العرب العاربة. هذا منتهى القول في بيان الموضع الذي يمنع الكفار من الإقامة به.
وأما الطرق المعترضة التي لا تنسلك في أوساط البلاد المعدودة من الحجاز، ولكنها بين بلدة منها وبلدة، فمن أصحابنا من ألحقها بالحجاز، ومنع الإقامة فيها، وهذا سديد على رأي من يعين البقاعَ وانتساب البعض منها إلى البعض، ويخرِّج عليه المنع من الإقامة بين مكة والمدينة، وإن لم يكن موضع الإقامة منسوباً إلى إحدى البلدتين، وكذلك القول في الطرق القاصدة إلى اليمامة.
ومن أصحابنا من لم يلحق الطرق بالحجاز، وهذا قد يخرج على اعتياد مجتمع العرب؛ فإن الطرق ليست مجتمع العرب، وإنما هي جادّتهم، ومحل طروقهم، وقد انتجز الغرض في بيان الحجاز الذي يمنع الكفار من المقام فيه.
11488- ثم نأخذ بعد هذا في فن آخر قائلين: الحجاز ينقسم إلى حرم مكة وغيره، فأما حرم مكة، فيمنع الكفار من دخوله وتخطيه، وإن قصدوا التجاوز، والانتقال، حتى قال الأئمة: لو وفد رسولٌ، لم يجز أن يؤذن له في دخول الحرم، وإن كان يجوز أن يؤذن للكفار في دخول مساجد البلاد، بل يخرج الوالي إليه، أو يخرج إليه من يوثق به، وكذلك إن أتى مستجيرٌ يستمع الذكر، فسبيله كسبيل الرسول.
والمعتمد فيما ذكرناه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28]، والمراد إن خفتم انقطاع التجاير عنكم، وخفتم لأجل ذلك عَيْلة، فاطردوهم واعتصموا بفضل الله تعالى، ثم لا يختص المنع بخِطة مكة، بل يتعلق بالحرم وفاقاً، وحرم المدينة ليس في معنى حرم مكة، وإن كنا قد نلحقه بحرم مكة في الصيود والمنع من عضد الأشجار، فسبيل المدينة كسبيل اليمامة في المقصود الذي نحن فيه.
فأما ما عدا حرم مكة، فلا يمتنع فيه على الكفار طروقها على هيئة الانتقال، ويحرم عليهم الإقامة، ولا يمتنع أن يؤذن لهم في دخولها مجتازين، وإن مكثوا في قرية أو بلدة، فلا يزيدنّ مكثُهم على مكث المسافرين، وهو ثلاثة أيام، من غير احتساب يوم الدخول ويوم الخروج، ولو كانوا يتناقلون من بقعة إلى بقعة ولو قيست أيام تردُّدهم، لزادت على مقام المسافرين، فلا بأس؛ فإن خِطة الحجاز لا يمكن قطعها بثلاثة أيام، حتى قال الصيدلاني وغيره: لا نكلفهم أن يجروا في انتقالهم على المنازل المعهودة، فلو قطعوها فرسخاً فرسخاً، وكانوا يقيمون على منتهى كل فرسخ ثلاثة، فلا منع ولا حجر.
11489- ويليق بذلك القول في المرض والموت، فمن مرض من الكفار في الحجاز وأراد الإقامة حتى يُفيق، ويستبلّ، نظر: فإن أمكنه أن ينتقل مع مرضه، كُلّف الانتقال، ولو كان يُخاف عليه الموت لو بَرِح، تُرك إلى أن يبرأ، ولو كان يناله مشقة عظيمة، وقد لا يغلب على الظن الموت، فوجهان: أصحهما- تكليف الانتقال.
ولو مات كافر في الحجاز، فإن كان في نقل جيفته مشقة عظيمة، واريناه مواراة الجيف، وإن كان على طرف الحجاز، نُقل، وإن كان دفنه أهلُه، ففي نبش قبره ولحده مع التمكن وجهين:
أحدهما: أنه يترك لأنه كالمعدوم الممحَق وإلى البلى مصيره، وليس يبعد عندنا ألا نمنع نبش قبره. ولو دخل كافر الحرم من غير إذن، ولكن كان معه تعلق بأمان، فمرض، أخرجناه من الحرم وإن أدى إلى هلاكه. ولو دفنه أهله على اختفاءٍ في الحرم، فكما شعرنا به ننقله، وإن تفتت، جمعناه ونقينا الحرم منه. وهذا نجاز القول في هذا الفن، ونأخذ بعده في غيره، فنقول:
11495- ما أطلقناه من جواز الدخول مشروط بالأمان، ولا يخفى هذا على المحصِّل، ولكن لا يضر بيانه، فالحربي لو دخل الحجاز أو غيرَه من البلاد، نُظر: فإن كان مستجيراً، أو رسولاً، فحالتُه تؤمنه شرعاً، ولا حاجة إلى عقد الأمان، وإن لم تكن رسالة ولا استجارة، فدخل الحربي للتجارة، فالتجارة لا تؤمنه، فإن كان في أمان مسلم، لم نتعرض له اغتيالاً.
وإن أراد صاحب الأمر أن يؤمن التجار حتى يدخلوا بلاد الإسلام، فليفعل، فلا يتأتَّى الأمان العام إلا من جهة صاحب الأمر؛ فإن الواحد من المسلمين إذا قال: أمنت من يدخل دار الإسلام تاجراً، لم نصحّح ذلك منه؛ فإنا أوضحنا أن أمان الآحاد للآحاد، والأمن العام إلى الإمام، ومن ينصبه الإمام. ولو زعم الكافر أنه ظن التجارة أماناً، لم نبال به واغتيل، وأُخذ مالُه، ولا معوَّلَ على ظنه، إذا لم يكن له مستند.
ولو كان الكفار سمعوا واحداً من المسلمين يقول: من دخل تاجراً، فهو في أمان، فاعتمدوه، فلا شك في فساد الأمان، ولكن هل يثبت لهم حكم الأمان إذا ظنوه صحيحاً؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يثبت؛ لأن الأمن العام لا يُحتمل من الآحاد، ولو أثبتنا عُلقة الأمان، فقد أثبتنا فائدة الأمان، وإنما يحتمل إثبات العُلقة في الأمان الفاسد إذا كان ثابتاً على الخصوص. والوجه الثاني- لا يخفى وجهه.
ولو عَقدَ واحدٌ من المسلمين ذمةً لكافر، فلا شك في فسادها، والوجه القطع بأن عُلقة الأمان تثبت للكافر؛ فإن هذا عقدٌ خاص، وإن كان فاسداً. وقد انتجز التنبيه على التشراط الأمان.
والذمي لا حاجة له إلى الأمان في دخول الحجاز إذا كان ينتقل فيها ولا يقيم، والذمة في حقه كافية.
فنٌّ آخر
في تعشير أموال الكفار، وهذا غمرة الفصل.
11491- فنقول: لا يجوز توظيف مال على من دخل رسولاً أو مستجيراً، ولا فرق في ذلك بين الحجاز وغيره من البلاد، والسرّ فيه أن المال يثبت بالشرط، والرسول والمستجير لا يتوقف أمرهما على شرط، فلا ينتظم إلحاق مال بهما. فأما غير الرسول والمستمع للذكر، فلا يجوز للإمام أن يأذن للحربيين حتى يدخلوا بلاد الإسلام، ويترددوا فيها من غير غرض فيه صلاح للمسلمين، والمستجير والرسول متعلّقان بغرض الإسلام؛ فإن الرسول لابد منه في الدول، والمستجير نأمل إيمانَه، فأما التردد لأغراض كافرٍ من غير حصول مقصود، فلا سبيل إليه، فيضرب الإمام على من يطرق منهم ضريبةً في تجايرهم، ونحن نذكر ما ذكره الأصحاب، ثم نحرص على الضبط.
قال الأئمة: المعاهد إذا دخل بلاد الإسلام تاجراً، أخذنا منه عُشر ماله، هذا ضربه عمر رضي الله عنه.
ولو دخل المعاهَد غيرََ الحجاز من غير تجارة، ولكن كان أمَّنه مسلمٌ، لم يطالَب بشيء، وإذا لم يكن بتجارة فإن دخل الحجاز على هذه الصورة، فهل يطالب؟ فيه وجهان، وسبب الاختلاف تعظيم الحجاز، وما ثبت له من الاختصاص، ثم إن أوجبنا شيئاً، فلا متعلّق غير الدينار، وهو أقل الجزية.
وهذا عندنا باطل، والوجه القطع بأنه لا يضرب على غير التاجر شيء، ولا أحد يصير إلى تعشير جميع ما معه من ثياب ومركوب.
هذا في المعاهد.
فأما الذمي فلا ضريبة عليه إذا اضطرب في غير الحجاز من بلاد المسلمين؛ فإن الجزية كافية في تثبيت الأمانِ والعصمةِ المؤبدة في النفس والمال.
ولو دخل الذمي أرض الحجاز تاجراً، ضربنا عليه نصف العشر، وهذا منقول من نص قضاء عمر.
ومن أهم ما يتصل بهذا المنتهى أن نقول: لا يثبت العشر من غير شرط في أصل المذهب، لا خلاف في ذلك إنما التردد في المعاهد في غير الحجاز. وإن دخلوا الحجاز بأمان تجاراً ولم يتفق شرطُ ضريبة عليهم، فقد ذكر العراقيون وجهين: أصحهما- أنه لا شيء عليه، جرياً على ما ذكرناه من اشتراط الضرب والتصريح بإثبات الضريبة، والوجه الثاني- أن العشر مأخوذ منهم، ووجهه عندنا اتباع قضاء عمر، حتى كأنا نعتقد قضاءه ضرباً على من سيكون بعده في حكم القاعدة المثبتة.
11492- ثم إذا وضح هذا، ألحقنا به فناً آخر، فنقول: صح أن عمر رضي الله عنه ضرب عليهم في تجايرهم العشر-يعني المعاهدين- وضرب عليهم في الميرة نصف العشر، وأراد بذلك تكثير الميرة، فقال الأئمة: إذا رأى الإمام حطّاً من العشر في صنف تمَس إليه حاجةُ المسلمين، فلا بأس تأسياً بعُمَرَ في قضائه، ثم إن رأى رَفْعَ الضريبة حتى تتسعَ المكاسب، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: له ذلك جرياً على ما ذكرناه من المصلحة.
والثاني: لا يجوز ذلك، ولابد من أخذ شيء وإن قل، ولعل هذا هو الأصح.
ثم قال الأئمة: لا مزيد على العشر؛ فإن عمر قنع به، مع ظهور سطوة الإسلام، فدل على أنه رآه الأقصى. وفي بعض التصانيف أن الإمام لو أراد أن يزيد على العشر، جاز له أن يزيد، وانتظم مما ذكرناه أن الأسقاط على المصلحة فيه خلاف، والأصح المنع، والحط من العشر جائز وفاقاً على شرط المصلحة، وفي الزيادة على العشر خلاف.
11493- فن آخر: قال الأئمة: إذا أخذ الإمام من تاجر ما يراه، فلو أراد أن يكرر عليه الأخذ من ذلك المال في تلك السنة، لم يكن له ذلك، فلتكن الضريبة على المال بمثابة الجزية في السنة الواحدة، ولو جاؤونا بتجارة فعشّرناها، فجاؤونا بأموالٍ أُخر في كرّة أخرى، فلا شك أنا نعشرها، وإنما نمتنع عن التثنية في المال الواحد، ثم إذا أخذنا الضريبة في مال وأراد المعاهد التردد، أعطيناه جوازاً مُؤرَّخاً حتى لا يتعرض له العشارون في السنة.
وذكر العراقيون وجهين في ترديد مالٍ إلى الحجاز في سنة مرتين فصاعداً:
أحدهما: أنا نثني العشر لتعظيم الحجاز. وهذا رديءٌ، ثم شَرْط هذا الوجه أن يخرج من الحجاز ويعود، فأما إذا كان يتردّد فيه، فلا نثنّيه.
قلت: من لم يضبط المأخوذ بعشرٍ، فلا يبعد على أصله تكريره العشر في سنةٍ أخذاً من تكثير الضريبة، لا من تكريرها، وإذا جاز تكثيرها، فالضريبة التي رأى الإمام ضربها هو بالخيار فيها إن شاء استوفاها دفعة واحدة وإن شاء استوفاها بدفعات.
فرع:
11494- المرأة المعصومة بذمة زوجها أو بذمة قريبها إذا كانت تتردد متّجرة، فحكمها في تعشير ما معها كحكم الذمي المعنيّ بالذمة، فلا يؤخذ من تجايرها شيء في غير الحجاز، وإن دخلت الحجاز، فهي بمثابة الرجل، كما قدمنا ذكره.