فصل: فصل: يجمع صوراً في الاشتراك في الصّيد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يجمع صوراً في الاشتراك في الصّيد:

قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو رمياه معاً، فقتلاه، كان بينهما نصفين... إلى آخره".
11571- فنقول: لو رمى رجلان صيداً، نظر: فإن رمياه معاً، انقسم الأمر:
فإن كان جرح أحدهما مذففاً مجهزاً لو انفرد، وجرح الثاني كان لا يزمِن، ولا يذفّف، وتحققنا ذلك من صفة الجرحين، فالصيد لمن جُرحه مذفف؛ فإن الإثبات حصل بجرحه، ولا أثر لجرح الثاني.
وإذا وقع الجرحان معاً كما وصفناه، فالمذفِّف مملِّكٌ ذابح، ولا أثر للثاني في التحريم، وإنما يتعلق به أنه لو جرح إهاباً أو مزق لحماً، وكان ذلك يؤثر في التنقيص، فلا يجب على الجارح بذلك الجرح شيء، فإنَّ المسألة مفروضة فيه إذا وقع الجرحان معاً عن غير ترتيبٍ، فيصادف الجرح الذي لم يكن مذففاً صيداً مباحاً، فاستحال إثبات الضمان عليه.
وإن كان كل واحد من الجرحين مذففاً لو انفرد، فالصَّيد مباح، وهو بين الجارحَيْن نصفان، وكذلك لو كان كل جرح مزمناً لو انفرد، فالصيد بينهما، فإن لم يدركاه، فهو حلال بينهما، وإن أدركاه وذبحاه، فكذلك.
وإن كان أحد الجرحين مزمناً مثل إن كان كاسراً للجناح والثاني كان مذففاً، فالصَّيد حلال، وهو بينهما؛ فإن التذفيف إثباتٌ للصّيد مملك لو انفرد، والإزمان كذلك مملكٌ لو انفرد، فقد انتسب كل واحد منهما إلى ما يملك، والصَّيد حلال، ولا يتصوّر في إصابة الجرحين معاً تحريم يأتي من جهة الجرح.
نعم، قد يفرض تقصير في ترك الذبح، فلا يخفى حكمه، ولا يختلف الحكم بأن يكون كل واحد من الجرحين مملكاً أو أحدهما مملك. ولو قيل: حصل الإثبات بهما جميعاً، فالصّيد بينهما؛ فإنّهما اشتركا حقّاً في الإثبات، فاتجه التشريك.
11572- ولو أشكل الأمر؛ فجوزنا أن يكون الإثبات حاصلاً بهما، وجوزنا أن يكون حاصلاً بأحدهما، ثم لم نَدْرِ لو حصل بأحدهما فَبِمَن؟ فإذا التبس الأمر كذلك واعترفا بالالتباس، فالحل لا شك فيه على القواعد الممهدة، والصيد بينهما في ظاهر الحكم. وقد يطرأ في مثل ذلك أن يتحرج كل واحد منهما، ثم يجرّ ذلك وقفاً واصطلاحاً بعد ذلك واستحلالاً، ونظائر هذا كثيرة.
ولو كان أحد الجرحين مذففاً ولا ندري أن الثاني هل أثر في الإزمان والتذفيف؟ نقل أصحاب القفال عنه أن الصَّيد بينهما، فأُلزم على هذا ما لو تمالأَ رجلان على رجل وجرحه أحدهما جراحة تذفف لو انفردت، وجرحه الثاني جراحة لا يُدرَى هل تذفف لو قدر انفرادها، فهل يجب القصاص عليهما؟ فارتكب وقال: يجب القصاص عليهما، وهذا بعيد، وهو إيجاب القصاص مع الشك والتردّد في الموجِب، فالوجه تخصيص القصاص بمن صدر المذفف منه، وليس كما لو كان كل جرح مذففاً لو انفرد، وذلك بأن يشيرا بسيفيهما معاً، فيحُزّ أحدهما الرقبة، ويقده الثاني بنصفين، ويقع الأمران معاً، فليس أحدهما بالتزام القصاص أولى من الثاني.
ثم إذا ظهر عندنا نفي القصاص عمن شككنا في وجوبه عليه؛ من حيث وجدنا شيئاً نحيل عليه القصاص حقاً، فماذا نقول في مسألة الصيد وأحد الجرحين مذفف والثاني مشكوك فيه؟ هذا عندنا يَجُرُّ تردُّداً أيضاً، ولعلَّ الوجه أن يقال: نصف الصَّيد يسلم لمن جرحه مذفف، والثاني يوقف بينهما. وإن عجلنا ولم نقف خلصنا لصاحب الجرح المذفف نصفاً، وجعلنا النصف الثاني بينهما نصفين، فيخلص لأحدهما ثلاثة أرباع الصيد. والعلم عند الله. هذا كله إذا رميا وأصابا معاً.
11573- فأما إذا ترتب الأمر-والاعتبار بوقوع الجرح في هذا الباب لا بوقت الرمي- فإن وقع جرح أحدهما، ثم وقع بعده جرح الثاني، نُظر: فإن أزمن الأولُ، ثم أصاب الثاني، فهذا جرح ورد على جلد ولحم.
فإن لم يكن الجرح الأول مذفّفاً ولا مُزمناً، وكان الجرح الثاني مذففاً، فالصَّيد للثاني، ولا أثر للجرح الأول في حكمٍ من الأحكام.
وكذلك إن كان الجرح الثاني مزمناً بنفسه، من غير أن نقدر الجرح الأول، فالصَّيد للثاني، وحقه أن يدرك ويذبح إن كانت فيه حياة مستقرة.
ولو جرى الجرحان وترتب الثاني على الأول، وأشكل الأمر، فلم ندر أن الأول أزمن، ثم لحق الثاني وهو غير مذفف، فأفسد الصَّيد، أوْ كان الأول غيرَ مزمن، وكان الثاني مُزمناً، ولو كان كذلك، لم يفسد الصَّيد، فإذا اعتاص الأمر وأشكل، وكان حكم الصَّيد أن يفسد في أحد الاحتمالين، ولا يفسد في الثاني، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: في حِل الصَّيد قولان مبنيان على القولين في مسألة الإصماء والإنماء، ووجه التشبيه أن الصَّيد إذا غاب، فقد تعارض احتمالان في سبب موته:
أحدهما: مصلح، والثاني: مفسد، كذلك في مسألتنا. هذه طريقة.
ومن أصحابنا مَن قطع بالتحريم فيما نحن فيه، وفرَّق بين هذه الصورة، وبين صورة الإنماء، وقال: قد وجد في صورة الإنماء جُرح يحال الموت عليه، وإحالة الموت على الجرح السابق أصل في الشريعة، ولم يُوجد في المسألة التي نحن فيها أصل في التحليل، والأصل استبقاء الحظر والتحريم. ثم قال الصَّيدلاني في نصرة طريقة القولين: إنما يأتي الفساد من كون الجرح الأول مُزمناً، والأصل أنه غير مزمن، فليقع البناء على هذا، ولا بأس بما ذكره، ولكن الفقه في الفرق بين المسألتين.
11574- ومما يتعلق بصور الفصل أن الجرحين لو وقعا على الترتيب، ولم يزمن الأول، ولم يكن الثاني بحيث لو انفرد لأزمن، فإذا استعقب الثاني الإزمان، فالذي أطلقه الأئمة في الطرق أن الصَّيد للثاني؛ فإنّ جرحه استعقب الإذعان، وذكر الصيدلاني قولاً مخرجاً أن الصَّيد مشترك بينهما، ومن تأمَّل ما قدمناهُ من الفصول وما مهدنا فيها من الأصول، لم يَخْفَ عليه اتجاهُ كون الصَّيد مشتركاً بين الجارحَيْن، والوجه المشهور عن الأصحاب أن الصَّيد للثاني، إذ الجرح الأول أصابه والمصاب صيدٌ بعدُ، فطاح الجرح وسقط أثره، وصادف الجرح الثاني صيداً فأزمنه، فقيل هو للمزمن، والذي سبق وفاقٌ، " ورُبَّ ساع لقاعدٍ".
ثُمَّ فرَّعوا على ما رأوه المذهبَ، وقطعوا به، فقالوا: إذا جعلنا الصَّيد للثاني كما ذكرناهُ، فلو عاد الأول والمسألة بحالها ورمى الصَّيد مرة أخرى بعد الإزمان، فمات الصَّيد من الجراحات كلها، ولا إجهاز في شيء منها، فعلى الذي رمى أولاً وثالثاً الضمانُ، فإنه برمْيه الثاني-وهو الجرح الثالث: تسبب إلى إفساد الصَّيد، إذ الصَّيد صار مزمَناً بالجرح الثاني.
ثم الكلام في مقدار ما يجب من الضمان، وقد اختلف أصحابنا فيما يجب عليه، وأحسن ترتيب في تأدية الخلاف أن نقول: في وجهٍ يجب على المفسد قيمة الصيد مجروحاً جرحين: الجرح الأول؛ فإنه كان هدراً، والجرح الثاني، فإنه صدر من المثبت المالك.
وفي وجه نقول: يجب على هذا المفسد قسط، ولا يلزمه تمام القيمة. فإن أوجبنا القيمة، فذاك بيّن، وإن أوجبنا قسطاً، ففي التقسيط اختلاف الأصحاب، وهذه المسألة تناظر ما إذا جرح مسلم عبداً مرتداً، وأسلم، فجرحه مالكه، ثم عاد الأول وجرحه جراحة أخرى، فمات من الجراحات كلها، وقد ذكرنا طرق الأصحاب في ذلك في آخر الديات من فروع ابن الحداد، وحاصل القول على الإيجاز: أن من أصحابنا من يوزع على الجراحات، وهي ثلاثة، فعلى هذا نوزع في مسألة الصَّيد قيمةَ الصَّيد على الجراحات الثلاث، ونهدر ما يقابل الجرح الأولَ والثاني، ونوجب ما يقابل الجرحَ الثالث، وهو الثلث، فيجب على الذي جَرَحَ أولاً وثالثاً ثُلثَ القيمة.
والوجه الثاني-في مسألة العبد المرتد- أنا نُوزّع القيمة على الجارحَيْن، ولا نتعرض لأعداد الجراحات أولاً، فيقتضي ذلك التنصيفَ، ثم يسقط نصفُ القيمة، وهو ما يقابل الملك، والنصف الآخر موزع على الجرحين، إذ أحدهما في حالة الردّة، فيهدر نصف النصف، ويبقى نصف النصف، وهو الربع، فعلى هذا نقول في الصَّيد: نسقط نصف القيمة مقابلة جرح المالك المثبت للصيد، وننظر في النصف الثاني ونوزّعه على الجرح الأول والثالث، فنهدر ما يقابل الجرح الأول، فإنه أصاب صيداً مباحاً، لا حق لأحد فيه، ونوجب النصف، فيخرج منه إيجاب ربع القيمة.
ثم إذا أوجبنا قسطاً، وقلنا: إنه ثلث، أو ربع، فهل نضم إليه اعتبار الأرش؟ فيه التردد والاضطراب الذي مهدناه في مسألة كسر الصّيد.
11575- ومما نلحقه بآخر هذا الفصل أمر لا خفاء به، وهو أنه لو رمى الصَّيد رجلان، ثم اختلفا، فقال أحدهما: أنا المزمن، والصَّيد مِلكي، وقال الثاني: بل أنا المزمن، وليقع الفرضُ فيه إذا أُدرك وذبح، فإذا استبهم الأمر، وكان صدق كل واحد منهما ممكناً، فظاهر الأمر أن الصَّيد في أيديهما، وهما يتنازعان فيه، وهما بمثابة ما لو تنازعا في دار في أيديهما.
فصل:
قال: "ولو رمى طائراً، فجرحه، ثم سقط على الأرض... إلى آخره".
11576- إذا رمى طائراً فإن أصاب مذبحه أو جرحه جرحاً مذففاً، فلا تفصيل في سقوطه، فإنه يُذكى في الهواء، فليقع بعد هذا على الأرض، أو على الماء، وقد تمهد الحِلُّ.
فلو لم يذففه الجرح، فسقط ومات بأثر الجرح والصدمة، فقد قال الشافعي:
يَحِلّ؛ فإنَّها ضرورة الاصطياد، وإن ظهر عندنا موته بالجرح والصدمة، وهذا بمثابة ما لو جرح الرجل صيداً، وجَدَّ في طلبه، فلم يدركه إلا بعد الموت، فالصَّيد حلال، وإن أزمنه الجرح ووقع موته في مقدور عليه من غير ذبح، ولكن لما كان وقوع هذا غالباً في الصَّيد، احتُمل، ومبنى الصَّيد على احتمال مثل ذلك فيما يعم وجودُه.
فأما إذا وقع الطائر غيرَ مذفَّف في ماء، أو وقع على جبل، ثم تدهور منه، ولم يزل يتدهور من حجرٍ إلى حجر ويصادمها، فلا نقضي بحِله؛ فإن أمثال هذه الصورة ليس مما يحكم عليه بالغلبة في الوقوع، وإنما يحتمل الخروج عن القياس فيما يعم فيه الحاجة.
هذا ما ذكره الأئمة رضي الله عنهم، ولو قال قائل: الصَّيد في الجبل ليس من النوادر، ثم وقوع الطير في الجبل على هيئة التدهور ليس نادراً، وكذلك إذا توسّط الرجل البحر، وكان يرمي طير الماء، فلا يبعد السقوط على الماء، فإذا كان كذلك، فيتطرق إلى الصورتين إمكان احتمال ما يجري، ولكن الأصحاب أطلقوا القول، ويمكن أن يظن أنهم قالوه في الأمر الأعم.
ومما ذكروه أنه لو رمى طيراً على رأس شجرة، فانحط منه، وكان يقع من غصن على غصن، فهو حرام، وهذا مما يمكن أن يحكم عليه بالغلبة؛ فإن إصابة الطيور على الأشجار أغلب من إصابتها في الهواء، فهذا توجيه الاحتمال، مع تسهيل طريق تأويل كلام الأصحاب، وذلك بعد الوفاء بالنقل على الصحة.
ولو رمى طائراً في الهواء، فلم يجرحه، ولكن كسر جناحه، فسقط ومات، فهو حرام؛ فإنه لم يصبه جرح يحال عليه تأثيرٌ في الموت، والجرح لابد منه.
ولو أصاب الطائر جرحٌ ضعيف لا يؤثر مثله في الموت، ولكنه عطل جناحه، فإذا وقع على الأرض، فالذي أراه أنه حرام؛ فإن إحالة الموت على الوجبة والصدمة، وذلك الجرح عديمُ الأثر في الموت، والله أعلم.
فرع:
11577- إذا رمى صيداً بسهم أو غيره، فلم يجرحه، بل قتله بثقله، فهو حرام؛ إذ الجرح لابد منه، وكذلك لو صار بالثقل إلى حركة المذبوح، فالأمر على ما ذكرناه؛ فإن القطع بعد المصير إلى حركة المذبوح بمثابة القطع بعد سقوط الحركات، ولو أصاب الصيد طرفٌ من النصل، وجرح، وثقل السهم عليه عرضاً في مرِّه، فحصل الموت بالجرح والثقل، فهو حرام، وهو بمثابة ما لو أصاب الطائر من رجلين سهم وبندقة، وحصل الموت بالثقل والقطع، فهو ميتة لاشتراك المحرِّم والمحلّل في القتل.
وإذا أشكل الأمر، فلم ندر كيف حصل القتل، فالتحريم هو المحكوم به، فإنا تردّدنا في الحِل، وقد جرى السببان، فليس أحدهما أولى بأن يُعتقَد من الثاني، والتحريم أغلب.
وإنما اختلف قول الشافعي في فريسة الكلب إذا ماتت تحته ضغطاً وغمّاً، كما تقدم ذكرها، ومذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه، أنها تحرم، لأنها منخنقة، وقد حرّم الله المنخنقة، كما حرم الموقوذة. والله أعلم.
فصل:
قال: "ومن أحرز صيداً فأفلتَ منه... إلى آخره".
11578- هذا الفصل مشتمل على ما يُملَك به الصَّيد، والأصل فيه أنه إذا امتنع على الصَّيد ما به امتناعه عن التطلق والإفلات بسببٍ يُقصد مثله عُرفاً، فيصير الصَّيد ملكاً للصائد، فلو نصب شبكة قصداً، فتعقَّل بها صيدٌ، ملكه، ولو رمى صيداً، فأزمنه، ملكه، ومبنى الملك في المباحات على صورة اليد، وكان قد يظن الظَّانّ أن الملك في الصّيد لا يستقر إلا بإثبات اليد عليه، ولكن إثبات الصَّيد إثباتٌ لليد عليه، والآلة-إن كانت- بمثابة اليد.
هذا قولنا في الأسباب المقصودة.
ولو حاش الرجل صيداً، واضطره إلى مسلك، فقبض عليه مترصّد، فهو ملك القابض، إذا كان للصّيد مسلك ينطلق فيه، وليس كما لو لو أدخله بيتاً؛ فإنه يملكه؛ إذ هو بإدخاله إياه البيتَ سقط امتناعه.
ولو سقى الرجل أرضاً له، أو وقع الماء على أرضه من غير قصده، فتخطى فيها صيدٌ وتوحَّل، وصار مقدوراً عليه، فالذي رأيته للأصحاب أن صاحب الأرض لا يصير مالكاً بما جرى له؛ لأن مثل هذا ليس مما يقصد به الاصطياد، والقصودُ مرعيَّة في أمثال هذه التملّكات. وذكر الصَّيدلاني وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه وهو الذي اختاره وصحَّحه، والثاني: أن مالك الأرض يملك الصَّيد، كما لو نصب شبكة أو رمى صيداً، فأثبته.
وهذا الاختلاف فيه إذا لم يكن سقي الأرض مما يقصد به توحّل الصيود وتعقله، فإن كان ذلك مما يقصد به هذا، فهو بمثابة نصب الشبكة.
والأصل المرعي في ضبط محل الوفاق والخلاف ما قدمناه من كون الشيء مقصوداً في الاصطياد وخروجه عن كونه مقصوداً، فكلّ ما يقصد مثله، فإذا أثبت الصَّيد به ملكه المُثْبت، وما لا يقصد مثله، ولكن اتفق ثبوت الصَّيد به عن وفاق، ففي حصول الملك فيه الخلاف.
11579- وهذا يتضح بصُور نأتي بها، فلو دخلت ظبيةٌ دار إنسان، ولم يشعر صاحب الدار بها، فاتفق منه إغلاق الباب من غير شعور بالظبية، فمن راعى القصد، حكم بأن الظبية ليست مملوكة لصاحب الدار، ومن لم يُراع القَصْدَ، قضى بأنها مملوكة له؛ إذ لا خلاف أنه لو شعر بالظبية وأغلق البابَ قصداً فيصير مالكا لها.
ولو عشش طائر في ملك إنسان، وباض، وفرخ، فالدُّور لا تُبْنى لذلك، فإذا اتفق ما ذكرناه، فالبيض في العش مقدور عليه من غير تسبب إليه، وكذلك الفرخ مقدور عليه إلى أن ينتهض ويملك جناحيه، فمن راعى القصد، لم يُثبت الملك على البيض والفرخ، ومن لم يراع القصد، حكم بالملك، ثم بنى عليه أنه إذا طار، فهو ملك صاحب الملك وهو بمثابة طائر مملوك له يفلت وينحل رباطه، وبمثل هذه الصورة نتبيّن فساد قول من يثبت الملك من غير قصد، فإن الطيور تعشش وتفرخ على الأشجار التي تحويها الحدائق والبساتين، ثم تملك الفراخُ أجنحتها، وتطير، ولا يخطر لأحد أنها كانت مملوكة لأصحاب البساتين.
ومما يجب الاعتناء بدركه أن من انسلت منه شبكة، وثبتت، ثم اتفق تعقل صيد بها، فهذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه، وهذا يناظر إغلاق الباب على الظبية إذا دخلت الدار؛ فإنّ هذا إن كان عن قصد، فيحصل ملك الظبية، وإن كان عن غير قصد، ففيه الخلاف.
ولا بد من الإحاطة بصورتين في إثبات الملك: إحداهما- أن يتفق ثبوت الصَّيد بما يقصد بمثله إثباته، ولكن يحصل ذلك السبب من غير قصد إليه، كما ذكرناه من إغلاق الباب من غير شعور بكون الصَّيد في الدار، ومن ذلك انسلال الشبكة من مالكها من حيث لا يشعر وثبوتُها في مَدْرجة الصيود، وقد ذكرنا أن الصيد لو ثبت بما لا يقصد بمثله إثباته، فهل يقضى بالملك فيه؟ فعلى الخلاف. والصورة التي جدّدناها الآن من إغلاق الباب وانسلال الشبكة من غير قصد، فالخلاف يجري فيها، ولكنا نرى أن نُرتّب هذه الصورة على ما إذا ثبت الصيد نادراً بما لا يقصد إثباته.
والصورة الثانية- أن السبب إذا كان لا يقصد بمثله إثبات الصيود، وسبب ذلك أنه يبعد ثبوت الصّيود به، فلو قصد به الإثبات، فثبت، فقد أجرى الأصحاب الخلاف في هذه الصورة أيضاً، وسبب جريان الخلاف أن القصد فيه لا يصح؛ فإذا ضعف القصد، جرى الخلاف، وحق هذه الصورة أن ترتب على ما إذا اتفق الثبوت على الندور من غير توجه قصد إليه، فهذا ما أردنا أن نوضّحه.
11585- ثم تمام التفريع في ذلك أنا إن قلنا: لا يحصل الملك في الصّيد، فقد قال الأصحاب: صاحب الملك أولى به، وعَنَوْا به أنه ليس للغير تخطي ملكه والتوصّل إلى الصَّيد، فلو أخذه آخذٌ، فهل يملكه؟ فيه تردد مأخوذٌ من قول الأصحاب، وهو عندنا قريب المأخذ مما لو تحجّر الرجل مواتاً ليُحْييَه- فابتدر البقعة مبتدرٌ وأحياها، ففي تملكه وقد تم الإحياء خلافٌ قدمتُه في كتاب إحياء الموات، ووراء هذا نظر عندي؛ فإنَّ المتحجّر قصد بالتحجّر أن يتملك، فكان حقه آكد والذي حصل الصيد في ملكه لم يقصد تنجيز تملكه، ولا التسبب إليه؛ فكان الحكم لآخذ الصّيد بالملك أقربَ هاهنا والله أعلم.
وسأذكر صورة تنطبق على التحجّر، فأقول: إذا دخلت سمكة في بركة إنسان، فإن كانت البركة ضيقة وقد سَدَّ صاحبها بعد الشعور بالسمكة مَثْعبيها، وصارت السمكة منحصرة في مضيق بحيث يسهل أخذها، فهي مملوكة لصاحب البركة؛ فإنه تسبب إلى ضبط السمكة بمسلك معتاد. ولو كانت البركة واسعة، وقد سد المنفذين، ولكن أخذ السمكة من البركة فيه عسرٌ لاتّساع البركة، فلا نحكم له بالملك في السمكة، إن لم يوجد فيها ما يضبطها. ولكن إذا استفتح التوصل إلى أخذها، وقد سدَّ المنافذ، فقد حصل فيها نوعٌ من الانحصار، فهذا الآن يُضاهي صورة التحجّر، و فرْض الإحياء من غير التحجّر.
ومن دخل بستان إنسانٍ واصطاد فيه طائراً ممتنعاً، فلا خلاف أنه يملكه؛ لأن البُستان لم يَتَضمَّن ضبطاً للطائر، وليس اقتناؤه تسبّباً إلى الضبط، وما ذكرناه من التردد في صيد منضبط في ملك إنسان بجهةٍ لا يقصد بمثلها الضبط.
فرع:
11581- إذا أفلت من إنسان طائر مملوك له، لم يخرج عن ملكه بالإفلات، ولو حرّره قصداً، وحاول بذلك رفعَ اختصاصه به عنه، ورَدَّه إلى ما كان عليه من الإباحة قبل الاصطياد، فالذي ذهب إليه المحققون أن الملك لا يزول عنه، وذكر شيخي وغيره من الأئمة وجهاً آخر أن الملك يزول عنه، ويعود الصّيد كما كان؛ فإن سبب ملكه اليد، فإذا قطع اليدَ وأعرض عنها، أمكن أن يقال: عاد كما كان، وهذا ضعيف، وإن كان مشهوراً في الحكاية.
ولو ألقى كِسرة خبز، وأعرض عنها، فأخذها عاثر عليها، فهل يملكها؟ ذكر الأصحاب في ذلك خلافاً، ورتّبوه على مسألة الصيد، وقالوا: الأولى في هذه الصورة ألا يحصل الملك للقابض؛ فإنه يخالف الصَّيد، من حيث إن سبب الملك في الصّيد اليدُ، وقد أزالها قصداً.
وتمام البيان في هذا أن ما فعله إباحةٌ للطاعم في ظاهر المذهب؛ فإن القرائن الظاهرة كافية في الإباحة، ولكن إن رام الآخذ تملكاً، ففي ثبوت الملك ما ذكرناه.
ولو ألقى الرجل إهاب ميتة غيرَ مدبوغ، وأعرض عنه، فأخذه آخذ ودبغه، ففي ثبوت الملك له وجهان مرتبان على الخلاف في كسرة الخبز، وهذه الصورة الأخيرة أولى بأن يحصل الملك فيها للآخذ، فإن الأعراض يقوى عما ليس بملك، وتملك الدابغ يقوى على حسب قوة إعراض المعرض.
فصل:
قال: "ولو تحوّل من برجِ إلى بُرجِ... إلى آخره".
11582- إذا تحوّلت حمام من بُرجٍ، وهي مملوكة له إلى بُرجِ آخرَ مملوكة للغير، واختلط الحمام بالحمام، فليس للمالكَيْن أن يتهجما على التصرف مع اختلاط الملكين، والمسألة في الاشتباه وعُسْر التمييز، فإن باع أحدهما حمامة من صاحبه، أو وهبها منه، فالبيع والهبة خارجان عن القياس المرعي في بابهما، ولكن إذا عسر التمييز، وامتنعت القسمة، وانحسم التصرف، فهل يصح التمليك بالبيع والهبة للضرورة الداعية؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يصح لأنا قد نرفع التعبدات بالإعلام عند تعذره، ولذلك صححنا الجعالة والقراض، ومعاملاتٍ سواهما مشتملة على ضروب من الجهالة.
ولو باعا الحمام المختلطة، وهما لا يدريان أعيان ما لكل واحد منهما من الحمام؛ فإن كانت متساويةَ القيمة، وكانت الأعداد معلومة لكل واحد منهما، مثل إن كان لهذا مائة، ولهذا مائتان، فإذا اتفقا على بيع الحمام وتوزيع الثمن على الأعداد، فقد أطبق الأئمة على تصحيح ذلك، ووجهه بيّن.
وإن كان يجهل كل واحد منهما الأعداد التي هو مالكها، فإذا باعا الحمام المختلطة، فالوجه عندي الحكم بفساد البيع؛ فإن الصّفقة تتعدّد بتعدد البائعَيْن، ولا يدري واحد منهما ما يستحقه من الثمن؛ وإزالة الجهالة متعذّرة، وقد ينشأ من ذلك وجه في جواز البيع، والعلم عند الله تعالى.
ولكنّ السّبيل فيه أن يقول كل واحد منهما: بعتك الحمام التي في هذا البرج بكذا، فيكون الثمن معلوماً، وعدد الحمام مجهولاً، فيُحْتَمل الجهل في المبيع للضرورة؛ إذ لا سبيل إلى دفعه. ولو قالا: بعنا منك الحمام بكذا، فهذا ما لا أرى تصحيحه؛ فإنَّ دفْع الجهل عن الثمن بالطريقة التي ذكرتُها ممكن، فلا معنى لاحتمال جهل لا تلجىء إليه الضرورة.
11583- ثم قال الأئمة: إذا أفلتت حمامة أو حمامات معدودة، واختلطت بحمام ناحية وكانت مباحة للصائدين، فلا يحرم الاصطياد على أهل الناحية بسبب اختلاط حمامة أو حمامات معدودات؛ فإن حمام الناحية فيما نُصوّره ليست متناهية، ولا يتغير حكم ما لا يتناهى باختلاط ما يتناهى به، وهذا يناظر التباسَ أخت الإنسان من الرضاعة بنسوة لا يحصين؛ فإنه إذا اتفق ذلك، لم ينسدّ على الإنسان بابُ التزوج، مع ابتناء الأمر في الأبضاع على التغليظ.
والذي ذكرناه مفروض في اختلاط حمام محصورة بحمام غير محصورة.
ولو انتقلت حمامة أبراج مملوكة من بلدة إلى أخرى، فهذا في حكم اختلاط ما لا ينحصر بما لا ينحصر، والتصوير فيه إذا كان الحصر متعذراً، وإذا اختلطت المملوكات التي يتعذر حصرها بالمباحات التي يتعذر حصرها، ففي كلام الأئمة تردد في ذلك؛ فإن ما لا ينحصر بالإضافة إلى ما لا ينحصر كما ينحصر بالإضافة إلى ما ينحصر.
هذا وجهٌ.
ويجوز أن يقال: لا ينحسم باب الاصطياد في المباحات التي لا حصر لها استصحاباً لما كان، وهذا ما إليه صغو معظم الأصحاب، والأقيس الأول. وقد نجز ما أردناه في ذلك.
11584- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه فريسة السبع، إذا انتهينا إليها، وبنى الأمر على أنا إذا صادفناها واستلبناها من السبع، وهي في حركة المذبوح، فهي ميتة، وإن كانت فيها حياة مستقرة، فذبحناها، حلّت، وهذا مما تكرر مراراً في أحكامٍ، والمزني لما حكى ما ذكرناه، ظنّ أنّ الشافعي رضي الله عنه أثبت الذبح وإن كانت الفريسة في حركة المذبوح، فأخذ يعترض، والأمر على خلاف ما ظن؛ فإنه إنما أثبت الذبح إذا كان في الفريسة حياة مستقرة.