فصل: كتاب السبق والرمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب السبق والرمي:

11601- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سبْق إلاَّ في خُف أو حافر أو نصل». والسبْق المال الذي يُخرج في مقابلة المسابقة والمناضلة. والسبْق بسكون الباء مصدر سَبَقَ. والسَّبَقُ بفتح الباء بالإضافة إلى السبْق بسكونها قريبٌ من القبْض والقبَض والنَّقْض والنقَض والخَبْط والخَبَط، وإن لم يكنه.
ومذهب الشافعي أن المالَ المخرج-على تفاصيلَ ستأتي مشروحة إن شاء الله- مستحق بالسبْق والنضْل، وخالف في ذلك أبو حنيفة رضوان الله عليه وأرضاه في رواية مشهورة، ولا شك أنه راغم الأخبار الصحيحة، وروي أنه قال بأصل المعاملة، واختار أنها جائزة، وهذا قريب، وهو قولُ الشافعي، وللكتاب ركنان:
أحدهما: المسابقة، والثاني: المناضلة.
وقد صدر الشافعي الكتاب بالمسابقة، وذكر أصولها، ثم اندفع في المناضلة وأحكامها، ولا يكاد تتمحض واحدة عن الاستشهاد بالأخرى، ونحن نحاول الجريان على ترتيبه بعد أن نُمهِّد أصلاً فيهما يتعلق ببيان الخبر والاستنباط منه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سبْق إلا في خُف أو حافر أو نصل» وأراد بالخُفّ الإبل، وبالحافر الخيل في ظاهر ما يظن، وأراد بالنصل السهم في ظاهر الظن، والمعنى الذي تخيله الأصحاب التحريض على تعلم الفروسية والرماية كما قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، قيل: القوة هي الرَّمي. ولا غَناءَ في إعداد القسيّ والسهام مع الخُرق، وعدم العلم بكيفية الرماية، وكذلك لا غناء في إعداد الخيل من غير معرفة بالفروسية، فالإعداد يُشعر بالتوصّل إلى ما لا غنى عنه في التعلم، فهذا ما ذكره الأصحاب.
ثم لا خفاء بأن الإبل معيّنة، وهي ذات الخفاف، والخيل كذلك، وهي ذات الحوافر، فيجوز المسابقة على الإبل، ويجوز على الخيل، وتفارق الإبل الخيلَ في استحقاق السهم في المغنم؛ فإن استحقاق السهم لا يتحقق إلا بالخيل، نعني الزائد على سهم الرجّالة، واستوت الخيل والإبل في جواز المسابقة عليها، وهذا قد يختلج في الصدر؛ فإن المسابقة عليهما قد أثبتتهما عدتين للقتال، ولكن لا مطمع في تقريب أحد الحكمين من الثاني، ولا خلاف بين الأصحاب في افتراق القاعدتين.
والممكن في الفرق أن الخيل متهيئة للانعطافات التي هي عماد القتال، وبها يتم الكر والفر والتدْاور، وسهم القتال يليق بعُدد القتال، وليس في الإبل ما أشرنا إليه، وإن كان فيها غناءٌ على حال، وما فيها كافٍ في التحريض على تعلم ركوبها وإجرائها.
11652- ثم يطرأ في التفريع ما يندرج تحت الاسم ويوجد فيه المعنى، وما لا يندرج تحت الاسم ويوجد فيه المعنى، وما لا يندرج ويبعد عن مسلك المعنى.
وهذه الأقسام نبتديها بعد شيئين:
أحدهما: الاكتفاء بجنس الخيل وجنس الإبل، وإن لم يكن فيما يقع التسابق عليه كثير عَدْوٍ وركْض؛ تعويلاً على الجنس، وقد نسلك هذا المسلك في جنس الخيل في استحقاق السهم. هذا أحد الأمرين.
والثاني: أنا نظن ظنّاً غالباً أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لم يُرد بالحافر إلا الخيل وبالخُفّ إلاَّ الإبل.
فإذا تَمَهَّدَ هذا قلنا: الفِيَلة ذوات خفاف، وقصْدُ القتال فيها ظاهر، ولكن من حيث يبعد أنها خطرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذُكر الخُفَّ، ذكر الأصحاب فيها خلافاً، وقالوا الأصح جواز التسابق عليها؛ لاندراجها تحت الاسم واشتمالها على المعنى المطلوب، والمسابقة على البغال والحمر على الاختلاف، وهي أبعد من الفِيَلة، من جهة المعنى، فإنها لا تُغني غناء الخيل في القتال، وإنما المطلوب منها تعلم الرِّكبة والهيئة في الثبات، وهذه الصفات هي الأصول، وقد لا يتأتى الهجوم على ركوب الخيل دون تعلم ما ذكرناه على الحمر والبغال، ولا شك أنَ ما ذكرناه بالإضافة إلى ركوب الخيل يخالف غَناء الفيلة بالإضافة إلى الإبل، ولكن اسم الحافر يتناول الحمر والبغال، فاقتضى ما ذكرناه ترتيب الحمر والبغال على الفيلة، ووجه الترتيب ما نبهنا عليه.
وقد ذكرنا في استحقاق السَّهم قولين في الفرس الرَّازح الذي ليس فيه إلا الشهود والإرعاب، ولا يبعد على مذهب تتبع المعنى أن يجري مثله في المسابقة، فإن كانت الخيل معيّنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر الحافر هاهنا ذكر الفارس ثَمّ، واسم الفرس يشتمل الجنس.
فهذا وجه التصرف فيما يدخل تحت الاسم لغةً مع غلبة الظن، بأنه لم يخطر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذْ أطلق لفظه في الخُف والحافر.
والترامي بالزانات والمزاريق بالإضافة إلى السّهام يقرب من الفيلة بالإضافة إلى الإبل، وهي دون الفيلة إذا نسبت إلى الإبل، إذا قُدِّرَ نسبتُها إلى السَّهم، وفوق الحمر إذا نسبت إلى الخيل، وإنما ألحقناها بالسهام لاندراجها تحت اسم النّصل الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يخطر للإنسان في إمكان قصد التعميم عدول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل والخيل إلى الخف والحافر، وهذا في النصل أظهر؛ فإنَّ الكناية عن الإبل والخيل في الخف والحافر أشهر من الكناية عن السهام بالنصل.
وقد نجز القول في مرتبة من المراتب الثلاث التي ذكرناها.
11653- فأمَّا المسابقة بالأقدام وبالزواريق في الماء، فإنَّها خارجة عن الإرادة المظنونة، وعن الاسم من طريق اللفظ، ولكن تخيل الأصحاب إلحاقَ ذلك من طريق المعنى بالخف والحافر، وأظهروا خلافاً، وهو مرتب على ما يقع في المرتبة الأولى، وهذا أولى بألا تصح المعاملة فيه من جهة خروجه عن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان شيخي يقرب التدْوَارَ بالسيوف من النصال، ويحرص على أن يدرجها تحت الاسم؛ فإن اسم النصل يتناول السيف، كما يتناول الزانات ولا يخفى غَناءُ السيف، فهو الآلة الكاملة في لسان أهل النجدة. وهذا الذي ذكره ظاهر في الغَناء، ولكن يبعد إدراج السيوف تحت اسم النصل المطلق.
والترامي بالأحجار والمقاليع يقع في المرتبة الثانية؛ فإنها على غناء ظاهر، وليست تدخل تحت الاسم.
11654- وأما ما يقع في المرتبة الثالثة، فهو بمثابة التسابق على الطيور والحمامات الهادية وهي خارجة عن الاسم، وغناؤها نزر، وإذا تكلفناه، أشرنا إلى الكتب وفيها نقل الأخبار في الاستنفار.
فهذا بيان قواعد المذهب.
وألحق شيخي الصراع بالمرتبة الثانية وهو عظيم الوقع عند تَواخُذِ الرجال في ضيق العناق، وقيل: هو الأصل الطبيعي، والسكين نِفَارٌ منه، والسيف نِفَارٌ من السكين، والرماح نِفارٌ من السيف، وبعدها الرمي.
وأنواعُ القسي ملحقة بالنصول لا تردد فيها، كالجروخ والنازك ورمي المسلات والإبر، ولئن شذت مسألة بالضوابط التي ذكرناها ننبه عليها.
11655- ونحن نختتم الكلام بسؤال وجواب عنه، فإن قيل: من أدخل من الأصحاب كلّ ما فيه غناء في القتال تحت جواز المعاملة قياساً على المسابقة والمناضلة فكيف اعتذاره عن ضبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقسيمه المُدار بين النفي والإثبات؛ إذ قال: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل "؟ وهذا السؤال واقع سيّما على من أجرى الخلاف في المرتبة الثالثة، ثم الممكن فيه أنه أخرج كلامه عليه السلام على الغالب المعتاد، وقصد التنصيص على المعظم من آلات الجِدّ، لنفي ما عداها من التقامر على الهُزء واللعب، وما لا خير فيه، والعلم عند الله، وقد تمهد الأصل المطلوب، ونحن نعقد بعده فصلاً في السَّبَق ومن يخرجه ومن يستحله.
فصل:
11656- السبَق هو المال المخرج، ثم يفرض فيه ثلاث صور: إحداها- أن يُخرج الإمامُ من مال المصالح ما يراه، ويقول للمتسابقَيْن وللمتناضلَيْن: من سبق منكما أو من فاز بالنضال، فله هذا المال، فهذا جائز على هذا الوجه، لا خلاف فيه، ولا حاجة إلى فرض محلِّل؛ فإنَّ جملة المتسابقين والمتناضلين على صورة المحلِّل، فإنَّ المحلل من يستحق لو فاز، ولا يُستَحق عليه لو تخلف، وجملتهم بهذه المثابة.
11657- ولو أخرج المال واحدٌ من عُرض الناس، وقال: من سبق منكم، أو فاز، فهذا المال له، فذلك جائز وفاقاً، كما يجوز من الإمام، وهذان الوجهان لا خلاف فيهما على المذهب.
ثم نذكر حكماً من أصول الكتاب متعلقاً بهذين القسمين، ثم نذكر القسم الثالث، ونذكر ما يليق به.
فإذا شرط من يُخرج السبَق جميع المال للسابق، جاز، وهو الأصل، وإن شرط بعضه للسابق، وبعضه للمصلِّي وهو الذي يلي السابق، نظر: فإن شرط الكل للمصلي، فالمذهب أن ذلك باطل، لوجهين:
أحدهما: أنَّ المطلوب السبْق، والآخر- أن السبَق مأخوذ من السبْق وهو لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مشعر بالسبْق.
ومن أصحابنا من قال: يجوز شرط السبَق بكماله للمصلي، لأن ضبط الفرس في شدة العدو على مقام المصلّين حِذقٌ في الفروسية. وهذا الوجه ضعيف، وقد يؤدي إلى أن يطلب كل واحد الانخناس، فلا يحصل الغرض من الركض.
ولو قسم مخرج السبَق المالَ على السابق والمصلّي، وجعل نصيب السابق أكثر، فالمذهب الذي قطع به معظم الأئمة جواز ذلك، ووجه المصلحة فيه لائح. وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن ذلك لا يجوز والسبَق للسابق، فإذا شرط لغيره، لم يصح، ولم يستحقه.
فإذا كان ما شرط للمصلّي أكثر مما شرط للسابق، فهو كما لو كان الكل مشروطاً للمصلي، ولو سوَّى بين السابق والمصلِّي في الترتيب، كان كما لو فضّل المصلي على السابق.
وكل ما ذكرناه فيه إذا اشتمل مكان التسابق وهو المسمى الحَلْبة على فرسانٍ، فلو كان يتسابق رجلان فالمصلي فِسْكِل، ولا خلاف أنه لا يجوز تخصيص الفِسكِل بالسبَق، فإنما التردد الذي ذكرناه فيه إذا اشتمل المكان على السابق والمصلّي وغيره.
ولو كان يرى مُخرج المال فضَّ ما أخرجه عليهم على التفاضل، والفضل للسابق، ثم للمصلي ثم للذي يليه، هكذا، فالأصح جواز ذلك إلا فيمن يأتي فِسْكِلاً؛ فإن في صحة اشتراط شيء له-وإن قل قدره- خلافاً بين الأصحاب متجهاً، فمنهم من منع؛ فإن أحداً لا يعجِز عن مقام الفِسكِل، فقد يكتفي بالقليل ويضن بفرسه، فيتخلف، ومنهم من جوّز، لأنه على حال يتعب ويدأب، فلا يبعد ألا يخيب على قدر كدِّه وجهده.
فخرج من مجموع الترتيب أن الفِسكِل لا يخصص بالسبَق، ولا يفضّل على متقدمٍ عليه، ولا يسَّوى بينه وبينه وفاقاً، وصرْفُ شيءٍ إليه على شرط أن يكون أقل من حصص كل سابق عليه ففيه الخلاف. ويجوز تخصيص السبَق بالسابق، بلا خلاف، فإذا أُثبت للمصلِّي شيء، والفضل للسابق، فالمذهب الجواز، وفيه شيء بعيد حكاه صاحب التقريب.
وإن خصص المصلِّي بالكل أو بالأكثر، أو سوى بينه وبين السابق، فالمسألة على الخلاف، والأقيس المنع وإن اشتهر الخلاف.
ولو فرض ما ذكرناه في الثالث الذي يسمى التالي، أو الرابع الذي يسمى المُرتاح، فهو على الخلاف، على شرط ألا يكون فِسْكِلاً.
وقد تَمَّ المرادُ فيما قصدنا إلحاقه.
11658- والقسم الثالث في إخراج السَّبَق أن يُخرج أحد المتسابقين مالاً، وهذا يفرض على وجهين:
أحدهما: أن يكون المخرِج أحدَهما، على تقدير أنه إن سبق أحرز ما أخرجه، وإن سبقه صاحبه، فاز بالمال. والقسم الثاني- أن يخرج كل واحد منهما مالاً على تقدير أن من سبق أحرز ما أخرجه، واستحق ما أخرجه صاحبه.
فأما الصورة الأولى في القسم الثالث، فهي مجوّزة بلا خلاف، فإن من لم يخرج يستحق، ولا يُستحق عليه، وهذا هو المعتمد في تصحيح المعاملة، وسبب اعتماده أنه يخرجها عن صور القمار؛ إذ ليس فيها استحقاق على هذا النّسق.
فأما الصورة الثانية من القسم الثالث: وهي أن يخرج كل واحد منهما مالاً، ويقع التشارط على أن من سبق أحرزَ ما أخرج، واستحق ما أخرجه صاحبه، فهذا قمار باطلٌ لا خلاف فيه.
فلو أدخلا بينهما ثالثاً، وشرطا أنه إن سبق، استحق المالين، فهذا هو المحلِّل، ثم يُنظر: فإن وقع الشرط على تخصيص المحلّل بالاستحقاق إن سبق، وعلى ألا يستحقَّ أحدُهما مالَ صاحبه، بل لا يستفيد بسبقه، إلا إحراز ما أخرجه، فهذه المعاملة جائزة وفاقاً، وهي على حكم الصورة الأولى من القسم الثالث، وهو إذا أخرج أحدهما المال دون الثاني، فلا فرق بين أن يُخرج رجل واحد وبين أن يُخرج رجلان إذا كان المستحِق من لم يُخْرجِ.
فلو وقع التشارط على أن المحلِّل إذا سبق، استحق السبَقَين وإن سبق أحد المُسبِقَين أحرز ما أخرج، واستحق ما أخرجه صاحبه، ففي جواز المعاملة على هذا الوجه قولان:
أحدهما: أنها تصح على هذا الوجه، ويجب الوفاء بالشرط؛ لأن الغالب في تعامل الناس هذا.
فإن قال قائل: يجب تخصيص المعاملة بغرض التعليم والتعلّم، وهذا يحصل بأن يكون أحدهما مسبَّقاً. قيل: التسابق قد يجري بين المتكافئين، بل يشترط أن يكونا متقاربين، كما سيأتي شرح ذلك في الفرسين، والراميين، فإذا كانا متكافئين، لم يسمح أحدهما أن يخرج المال دون الثاني، فهذا يؤدي إلى تعطيل المعاملة، ولكن إذا لم يكن محلِّل، كانت المعاملة على صورة القمار، وإن تخلل المحلِّل، مالت المعاملة عن مضاهاة القمار؛ إذ ليس في جنس القمار دخول محلل.
والقول الثاني- أنه لا يجوز تقدير استحقاق كل واحد منهما على صاحبه؛ فإنه لو اتفق سبق أحدهما، كان استحقاقه على صورة القمار، فوجب تخصيص الشرط بالمحلِّل إذا أخرج كل واحد منهما مالاً، وعبّر الأئمة عن القولين بعبارة تصلح للضبط والتحقيق فيما قدمناه، فقالوا: "المحلل يحلِّل لنفسه، أم يحل لنفسه وللمستبقَيْن إن فرض السبق من أحدهما"؟ فعلى ما ذكرنا من القولين.
11659- ثم إذا فرض مُسبقان ومحلِّل، فيقع التسابق على صورٍ، وأحكامها تتلقّى من الأصل الذي قدمناه، وقد يتعلق التفريع بأمر آخر يتعلق باللفظ، ونحن نذكر المراد في صورة ثم نخوض في التفاريع:
فإذا قيل: لا سبَق إلا للمحلِّل، وقد أخرج المُسْبقان ماليهما، فسبَقَ أحد المُسْبقين، وصلّى المحلِّل وجاء المسبق الثاني فِسكِلاً، فالسابق يحرز ما أخرجه، ولا يستحق، وهل يستحق المحلل سَبَق الفِسكِل؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يستحق؛ فإن السبَق للسابق، والسابق هو الذي ليس مسبوقاً، والمحلِّل مسبوق بأحد المُسْبِقَين، فخرج منه أن المُسْتقَيْن أحرزا سَبقَيهما، الأول لسبْقه، والثاني لأن المحلل مسبوق بالأول.
والوجه الثاني- أن المحلل يستحق سبَق المُسْبِق الفِسكِل؛ لأنه جاء سابقاً له، متقدماً عليه، فهو بالإضافة إلى الفِسكِل سابق. وهذان الوجهان مأخوذان من مطلق شرط السبَق للسابق، فرجع التردد إلى موجب اللفظ، وما ينشأ من الخلاف عن الأصل الأول يرجع إلى الفقه والحكم، وهو أن المُسْبق هل يستحق مال صاحبه؟ أم يختص بالاستحقاق المحلِّلُ؟
11660- ثم تتفرع الصور، وتتركب الوجوه المختلفة من هذين الأصلين، والغرض يبين بثمان صور: فإذا تسابق مُسْبقان ومحلِّل، نظر: فإن أتَوْا الغاية معاً على التساوق: من غير سَبْق، فلا استحقاق، وقد أحرز كل مُسْبق ما أخرجه. هذه صورة.
والثانية- أن يسبق المحلِّل، ثم يأتي المسبقان وراءه متساوقين، فالمحلل يأخذ السبَقين.
والثالثة- أن يأتي المسبقان معاً، ثم يأتي المحلل، فلا استحقاق؛ وقد أحرز كل واحد ما أخرجه.
الرابعة- أن يسبق أحد المُسبقين، وتلاه الثاني، وجاء المحلل فِسْكِلاً، فيحرز السابق ما أخرجه، ويخيب المحلل، وهل يستحق السابق ما أخرجه صاحبه؟ فعلى قولين ذكرناهما في الأصل الأول.
الخامسة- إذا سبق المحلل، وتلاه أحد المستبقين، وجاء الثاني فِسكِلاً، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّ المحلل يستحق السبَقَيْن؛ فإنه سبقهما جميعاً، وهذا هو الأظهر.
والثاني: أن المحلل يستحق سبَق المصلّي، والمصلّي يستحق سَبَق الفِسكِل؛ فإنه سابقه، وهذا ضعيفٌ لا أصل له، فإنه وإن كان سابقاً للفِسكِل، فالمحلل أيضاً سابقٌ له، فلا معنى لتخصيص سَبق الفسكل بالمصلي. والوجه الثالث: وهو أمثل من الثاني- أن سَبق الفِسكِل بين المحلل والمصلي، وهذا رديء أيضاً؛ فإن فيه تسوية بين السابق والمصلي أخذاً من مطلق اللفظ، وهذا لو صُرح به، كان بعيداً، فما الظن بالتلقي من مطلق اللفظ؟
فخرج من ذلك أن المحلل يستحق سبَق المصلي بلا خلاف، وفي سبَق الفِسكل أوجه: أصحها- أنه للمحلل، ويلي ذلك أنه بين المحلل والمستبق الذي جاء مصليّاً.
والثالث: أنه للمصلي، وهذا ساقط لا اتجاه له.
والسادسة- إذا جاء المحلل مع أحدهما متساوقين والآخر فِسكِلٌ. فإن قلنا: المحلل يحلّل المال لنفسه، فالسبَق له، وإن قلنا: إنه يحلّل لنفسه وللمستبق فسبَقُ الفِسكِل بينهما؛ فإنهما سابقان.
السَّابعة- إذا سبق أحدهما، ثم جاء المحلّل مع الآخر معاً، فلا يستحق المحلّل شيئاً، وهل يستحق المستبق السابق سَبق صاحبه؟ فعلى قولين.
الثامنة- إذا سبق أحدهما، وصلى المحلل، وجاء الآخر فِسكِلاً، فقد أحرز السابق ما أخرج. وفي سبَق من جاء فسكلاً أوجه: أحدها: أنه للسابق، وهو على قولنا أن المُسبق يستحق السبَق، وعلى حملنا للسْبق على حقيقته. والوجه الثاني- أنه لا استحقاق وهذا يَخرجُ حسناً على قولنا: لايستحق المُسْبق السبَق، والمحلِّل مسبوق، وليس بسابق، فينقطع الاستحقاق عنهما. والثالث: أن سبَق الفِسكِل بين السابق وبين المحلل فإنّ كُل واحد منهما سابق للفسكل، وهذا يخرج على تحليل السبَق للمسْبق وعلى أن المصلّي له حكم السبْق بالإضافة إلى الفِسكِل، وهذا الطريق ضعيف.
وفي المسألة وجه رابع، وهو أن سَبَقَ الفِسكِل للمحلِّل، وهذا ضعيف؛ فإنا نثبت له حكم السبق وهو مسبوق، وله خروج إذا ضُمَّ إليه أن المُسْبِق لا يستحق شيئاً، فكأنه لا أثر لسبقه في الاستحقاق، فإنما أثره في الإحراز. وهذا بيان الصور ويتهذب به ما قدمناه من الأصول، ونحن بعد ذلك نعقده فصلاً في جواز المعاملة ولزومها.
فصل:
11661- ظهر اختلاف القول في أن المعاملة التي الكتاب معقود لها جائزة أم لازمة؟ أحد القولين- أنها جائزة كالجعالة، والثاني أنها لازمة كالإجارة، ثم اختلف طرق الأئمة في تنزيل القولين، وبيان محلهما، فقال الإمام شيخي وطبقة من الأئمة لو كان المُسْبِق أحدَهما، فالعقد لا يلزم في جانب من لم يضع سبَقاً أصلاً قولاً واحداً، ومهما أراد أن ينكف، فلا معترض عليه؛ فإنه المستحِق ولا يُستحق عليه، وهذا كما أنَّ العقد يكون جائزاً من جانب المرتهن والمكاتب، فإنما القولان في حق من وضع السبَق لو أراد الامتناع بعد العقد، ورام الفسخَ، فهل له ذلك؟ فعلى ما ذكرناه من القولين. هذا مسلك.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في لزوم المعاملة في حق من أخرج السبَق وفي حق من لم يخرجه؛ فإن الذي وضع السبَق، رام أن يستفيد من عمل صاحبه في الرّمي والفروسية، فكأنه في مقام مستأجر يبذل الأجر، والذي يُطلب عملُه في مرتبة الأجير، فإن سلكنا الطريقة الأولى، فالمحلل بين مُسْبقين لا يلزمه الوفاء، وإن عممنا القولين فيمن يخرج السبَق وفيمن لا يخرجه، فقد أجرينا قولي اللزوم والجواز في المحلل؛ فإن من لم يخرج السبَق، فهو على صورة المحلِّل.
هذا بيان القولين.
وتنزيلهما، وتوجيههما: هو أن من حكم بالجواز، اعتبر بالجعالة؛ فإنَّ المقصود من هذه المعاملة لا ينضبط؛ إذ لو كانت في المناضلة والمشروط القرعات، فلا ضبط، فقد تتوالى من الأخرق، وقد يعرى عنها أرشاقٌ من الحاذق، والجواز لائق بالعقد الذي مقصوده مجهول.
ومن نصر قول اللزوم، احتج بأن هذه معاملة مقصودة، ومبناها على اشتراط الضبط في المبدأ والمنتهى، والأرشاق وكيفية الفوز بالمبادرة أو المحاطة، فيبقى وراء ذلك اتفاق القرعات، وهذا القدر محتمل؛ فإن الجهالة اللائقة بمقصود العقد لا تلحق العقد مما يشتمل على المجاهيل، ولذلك قضينا بلزوم المساقاة وإن كان الجزء المشروط من الثمار للعامل المساقي مجهولاً.
التفريع بعد التنزيل والتوجيه:
11662- فنذكر ضمان السبَق إن كان مالاً موصوفاً في الذمة، ونذكر الرّهن به، فالذي ذهب إليه الجماهير أنا إن حكمنا بلزوم المعاملة، صححنا الضمانَ والرهنَ إذا كان المشروط ملتزماً في الذمة، وإن حكمنا بجواز المعاملة، فالسبَق فيها بمثابة الجعل في الجعالة وفي جواز ضمان الجُعل في الجعالة قبل تمام العمل قولان مشهوران في الترتيب الجديد، فإن قلنا: لا يصح الضمان، فلا يصح الرهن، وإن قلنا: يصح الضمان، ففي صحة الرهن بالسبَق وجهان، والرهن أبعد قليلاً عن الثبوت، ولذلك صححنا ضمان العهدة على النص، ولم نصحح الرهن بها على مذهب الجمهور.
فينتظم في الضمان والرهن ثلاثة أوجه: أحدها: أن الرهن لا يثبت والضمان يثبت، والوجه عندنا التسوية بين الرهن والضمان في هذه المسألة، بخلاف ضمان العهدة، فإن ضمان العهدة أُثبت لمصلحة بيّنة لا تنفك عنها حاجة مشترٍ، ثم لا ضرار على الضامن؛ فإنه لا يتوجه عليه المطالبة قبل بَدْو الاستحقاق، ولو جوزنا الرهن، لاحتبس المرهون عن التصرفات، وكان ذلك حَجْراً مستداماً على المالك، فلا سبيل إلى احتمال هذا، ولا يتضح على هذا الوجه فرق بين الرهن والضمان في السبَق، وليس من شيم الفقهاء أن يعتقدوا الفرق بين أصلين لافتراقهما في مسألة، بل الوجه اتباع المعاني.
وذكر القفال طريقة فقهية مرضية في الضمان نستاقها على وجهها، ثم نذكر بحثاً يتم البيان به، قال رضي الله عنه: نحن وإن حكمنا بلزوم المسابقة، فإذا كان المُسبِقُ أحدَ الرجلين، فلا يجب عليه تسليم المال إلى صاحبه قبل ظهور فوزه به، لم يختلف أصحابنا في ذلك، وليس كالأجرة المسماة في الإجارة المطلقة، فإنه يجب تسليمها إلى المكري إذا سلم المكري الدار، وإن كانت المنافع توجد شيئاً فشيئاً، ولا يجب تسليم السبَق إلى الذي وضع له السبَق إن فاز وسبق، حتى يبين فوزه، وهذا يشعر بأن السبَق لا يُستحق إلا بالشرط الذي نيط الاستحقاق به، فإذا لم يكن السبَق واجباً، ففي ضمانه قولان مبنيان على أن ما لم يجب وثبت سبب وجوبه هل يصح ضمانه؟ والذي نحن فيه أبعد من ضمان نفقة الغد، فإن الأمر محمول على استمرار النكاح واطراد الطاعة، وهذا لا يتحقق في المسابقة؛ فإنَّ سَبْق من شُرط له السبَق ليس أمراً معلوماً ولا مظنوناً، ولكنه غيب.
هكذا قال رضي الله عنه. وهو حسن بالغ.
وإنما انْقطعت هذه المعاملة عن مشابهة الإجارة؛ لأن مبناها على الخطر الذي يضاهي القمار لولا المحلل، ومعنى الخطر يؤول إلى تحقيق التعليق، فالاستحقاق معلق بما شرط.
11663- ويتصل بهذا البحثُ الموعودُ، فنقول: لا يبعد عندنا أن يكون استحقاق السبَق موقوفاً مراعىً، فإذا سَبَق من شُرط له السبَق، تبيّنا أنه استحق ذلك بالعقد، وهذا هو الذي يليق بلزوم المعاملة، ثم إذا تبيّنا الأمرَ على الوقف، فيمكن أن يقال: ضمان السبَق كضمان العهدة، ولكن هذه عهدة تنجز الرهن؛ فإنها ستبدو على القُرب، وليست كعهدة المبيع، ثم إذا ردّدنا القولَ في جواز الضمان على قول اللزوم، فلو قال قائل: إذا لم يكن السبَقُ مستحقاً، فيجب ألا يكون العمل مستحقاً، وإذا انتفى تنجّزُ الاستحقاق، التحق هذا بالجواز، وهذا السؤال هو الذي حملنا على تقريب الأمر بالحمل على الوقف، وهذا لا يشفي الغليل، والوجه أن نقول: إن لزم الشيء، فلزومه على حسب ما يليق بوضعه، ووضعه الخطر، فاللزوم فيه يرجع إلى الوعد، ووجوب الوفاء به.
وقد نجز تفريع الضمان على اللزوم والجواز.
11664- ومما يبنى على القولين القبولُ: فإن ألزمنا المعاملة، فلابد من القبول؛ إذ لا سبيل إلى إلزام الإنسان عملاً بقولٍ يصدر من غيره.
وإن قلنا: العقد جائز، فالمذهب أنه لا حاجة إلى قبول الغير العمل، وفيه وجه ضعيف أنه لابد من القبول، وقد أجرى أصحابنا هذين الوجهين في الجعالة المعلّقة بمعيّن، وهي أن يقول لمعين: إن رددت عبدي الآبق، فلك كذا، فلا خلاف أن الجعالة المبهمة لا يُتخيلُ فيها قبول، وهي أن يقول: مَنْ ردَّ.
والسبَقُ يجب أن يكون معلوماً، سواء حكمنا بلزوم المعاملة، أو بجوازها، فإنا إن ألزمناها، فالسبق مشبه بالأجرة، وإن حكمنا بجوازها، فالسبَق مشبه بالجُعل في الجعالة.
وقد انتهى الغرض من هذا الفصل.
ونحن نرى أن نعقد فصلاً في حكم هذه المعاملة إذا فسدت.
فصل:
11665- إذا فسدت المعاملة فكيف سبيلها؟ الوجه أن نفرض فسادها من فساد السبَق، ثم نُلحق به وجوهَ الفساد، فنقول: إذا فسد السبَق لكونه مغصوباً، أو مجهولاً، أو خمراً، واستتم المشروط له العملَ، وأتى بما هو سبب الفوز لو صح السبَق، فأول ما نبدأ به اختلاف الأصحاب في أن الفائز بفعله هل يستحق شيئاً؟ فمن أصحابنا من قال: لا يستحق شيئاً أصلاً، ووجهه بيّن؛ فإنّ مقتضى العقد التعليق والغرر، فلينحصر الاستحقاق على السَّبَق إن أمكن استحقاقه، وإن لم يمكن، فلا شيء له، وهذا يتأكد بأن العامل يستحق بعمله، والعمل في المسابقة يرجع معظم نفعه إلى السابق؛ فإنه يتمرّن بعمله، كما يستفيد مَن يجاريه من مجاراته، فرجع الاستحقاق إلى الشرط والمشروط، وخرج المستحَق عن قياس الأبدال حتى يرجعَ عند فسادها إلى عوض شرعي. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني- أن العوض-وإن فسد- إذا تمم المشروطُ له العملَ الذي به يستحق، فيثبت له العوض؛ فإنَّ عمله إذا تم، يلتحق بالأعمال المقابَلة بالأبدال، والدليل عليه أن القراض إذا فسد، استحق المقارض أجر مثله، وإن كانت المعاملة على الغرر في إصابة ربح إن اتفق. وللأول أن يجيب عن القراض، ويقول: رجوع النفع من عمل المقارض ظاهر بخلاف المسابقة.
التفريع:
11666- إن حكمنا بأنَّ الفساد يوجب الرجوع إلى بدل، فينظر في السبَق: فإن كان غير قابل للتقويم، فالرجوع إلى أجر مثل السابق، ثم لا يعتبر المقدار الذي يسبق به، بل يعتبر ركضُه أو رميُه؛ فإنه بمجموع عمله، توصّل إلى السّبْق والفوز.
وإن كان السبَق مما يقبل التقويم، بأن كان مغصوباً، فقد اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بالرجوع إلى أجر المثل قياساً على الإجارة إذا فسدت بفساد العوض وتوفرت المنفعة، وهذا القائل يفصل بين ما نحن فيه وبين الصداق وبدل الخلع؛ فإن مبنى النكاح والخلع على ألا يفسدا بفساد العوض، وإذا لم يفسدا، بَعُد الرجوعُ إلى قيمة ما لم يفسد. ورأى الشافعي في قولٍ الرجوع إلى قيمة الصداق أولى. والمسابقة تفسد بفساد العوض، فيتعين الرجوع إلى أجر المثل؛ فإن المنفعة مستوفاة على الفساد، وهذا فقه لا بأس به.
وقال آخرون: إذا أمكن تقويم البدل، خرّجنا المسألة على قولين:
أحدهما: أن الرجوع إلى أجر المثل.
والثاني: أن الرجوع إلى قيمة السبَق، والقولان كالقولين في بدل النكاح والخلع، ووجه ذلك أنَّ الصداق ليس على حقائق الأبدال؛ لما لا يخفى في موضوع الصداق، كذلك السبَق ليس على حقائق الأعواض، ولهذا تخيل بعض الأصحاب أنه لا مرجع إلى شيء بعد فساد الشرط، فكان الرجوع إلى قيمة المسمى متجهاً؛ من حيث إن منفعة السابق لم تتلف عليه، ولم يظهر انتفاع الغير بها، وكان حَصْرُ النظر في البدل أفقه وألْيق بوضع هذه المعاملة.
فهذا تفصيل القول في فساد المعاملة وحكمها إذا تم العمل فيها.
11667- ولو فسدت المعاملة لا من جهة العوض، ولكن من جهالة في الأمد، أو غيرها مما سنصف، فإذا فرض السبْق على الجهالة من أحدهما، فيعود الترتيب الذي ذكرناه حرفاً حرفاً من غير تباين، وليس هذا كفساد الصداق بما يرجع إلى العقد؛ فإنا قد نقطع ثَمَّ بالرجوع إلى مهر المثل، وذاك الفقه أبديناه في موضعه، ولا ينقدح مثله فيما نحن فيه؛ فإن الذي يحملنا على اعتبار البدل تعذرٌ أبديناه في اعتبار المنفعة، وهذا لا يختلف، وتستوي الصور فيه.