فصل: فصل: فيما يطرأ على الرماة من النكبات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: فيما يطرأ على الرماة من النكبات:

11681- قاعدة الفصل أنَّ السهم إذا أفرط تباعده أو سقط دون المقصود بمسافة بعيدة، فهذا يحمل على سوء الرمي، فهو محسوب على الرامي في الرشق، ولا يرد السهم إليه ليرميَه مرة أخرى؛ مَصيراً إلى أن ما أساء فيه غيرُ معتد به، وما يحمل على نكبةٍ لا ينتسب الرامي فيها إلى تقصير، فذلك السهم غير محسوب عليه. هذه قاعدة الفصل، وهي تبين بتفصيل المسائل.
فإن سلمت الآلة والْتوت يد الرامي، فهذا من تقصيره، والسهم محسوب عليه، وقال الأصحاب: إذا انقطع الوتر أو انكسر القوس، فهذا من النكبات. والتفصيلُ الحسن فيه للعراقيين قالوا: إن تجانب السهم على إفراط، لم يحسب على الرامي، كذلك إن وقع دون الغرض بمسافةٍ بعيدة، ولو وقع بالقرب من الغرض، بحيث لا يستبعد إصابة مثله، فهل يحسب السهم من أرشاق الرامي؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه غير محسوب عليه؛ لأجل النكبة المعترضة.
والثاني: أنه محسوب لوقوعه على حدٍّ غير بعيد عن توقع الإصابة، فكأن النكبة لم تكن، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي.
ثم إن كان السهم محسوباً عليه إذا لم يُصب، فلو أصاب، فلا شك أن الإصابة محسوبة له معدودة من القرعات المشروطة، وإن قلنا: لا يحسب السهم عليه من الرشق لو لم يُصب، فإذا أصاب السهم فهل تحسب الإصابة له؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه محسوبة له، وهو الذي قطع به المراوزة؛ لأن الإصابة مع النكبة تدلُّ على نهاية الحَذاقة، وأيضاً فالإصابة مشروطة، وقد وقعت، والتوجيه بهذا أولى.
والوجه الثاني- أنها لا تُحسب له كما لا تُحسب عليه لو لم يُصب، وأيضاً فإنَّ الإصابة مع انكسار الآلة تُحمل على الوفاق؛ فإن الرمي لا ينبني إلا على سداد الآلة وبقائها.
16682- هذا بيان حظ الفقه من هذا الفصل، وبعده نظر لابد من التنبه له، وذلك أن الأئمة عدّوا انقطاع الوتر وانكسار القوس نكبةً وبنَوْا عليها التفصيل الذي ذكرناه، والوتر لا ينقطع إلا بعد مروق السهم على الموضع الذي يسدده الرامي عليه، وكذلك لا ينكسر القوس إلا بعد نفوذ السهم، وسبب انكسارها صدمةُ الرجوع، فإن انقطع الوتر في النزع، وأفلت السهم من غير حل الرامي شِصَّه، أو انكسر القوس في النزع فذلك نكبة لا شك فيها، ومن لم ينتبه لهذا، فهو جاهل بالرماية، ولم نأت بما ذكرناه مخالفةً للفقهاء، ولكنهم ذكروا فقه النكبة وجنسها، ولم يفصّلوها، ولو تبيّن لهم ما ذكرناه، لحكموا فيه بأن ما يقع بعد نفوذ السهم لا يُعدّ نكبة، وقلما ينقطع الوتر بعد حل الشص من رامٍ ماهرٍ إلا ويقرب السهم أو يصيب، فهذا ما يجب التنبه له.
وانكسار السهم ينقسم فإن كان لِوَهاءٍ فيه غير محسوب، فهو نكبة، وإن كان لسوء الرمي، فهو خُرقٌ، والسهم محسوب، وذلك بأن يخلي الفُوقَ في النزع عن الوتر، فهذا ترك تحفظ، وسوء رمي، وهو مُخْطِر، وكذلك إذا أفرط في النزع حتى انتهى النصل إلى كبد القوس، ونشب فيه وتكسَّر وتشظى، فهذا قلة تحفظ، وسوء رمي، وإذا بان فقه الفصل، فلا معنى للإطناب.
11683- ولو رمى فاعترض بين السهم في مَرّه وبين الغرض بهيمة، فأصابها السهم، فهذا عارض، والسهم غير محسوب، ولو مرق السهم، وأصاب الغرض، فوجهان، ولعل الأصح أنَّ الإصابة محسوبة له؛ فإنَّ السهم لا يمرق ولا يصيب إلاَّ مع رعاية السداد في الرمي على أبلغ وجه في الإمكان.
وأما هبوب الرياح، فالتفصيل فيه أن هبوب الريح إن اقترن بابتداء الرمي، فلا مبالاة به، والسهم إن زهق أو مال محسوب عليه، لأنه ابتدأ الرمي مع الريح، فكان هو المقصر، وللرماة نيقة في تسديد السهم مع جريان الريح، وذلك بوضع النصل في المنظر مائلاً قليلاً، حتى إذا انضم إلى الميل صَرْفُ الريح السَّهمَ استدَّ على الغرض.
ولو نفذ السهم، فهجمت ريح، فإن كانت رُخاءً ليّنة؛ فلا أثر لها؛ فإنَّ السهم لا يميل بمثلها، وإن هجمت ريح عاصفة بعد نفوذ السهم، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه معدود من النكبات، وقد مضى تفصيلها.
والثاني: أنه لا يعدّ من النكبات؛ فإنا لو فتحنا هذا الباب، لطال المراء والنزاع، ولا يخلو عن الريح الهواءُ، ويندر هجوم الريح الشديدة؛ فإنه تظهر مباديها، ثم تشتد، والسهم أسرع مَرّاً من الريح، فالوجه حسم ذلك.
ولو انقطع السهم حيث يُعَدُّ ذلك نكبةً، وأصابتْ قطعة منه الغرض، فإن انقلب وأصاب الغرض بفُوقه أو بعَرْضه، فلا يحتسب هذا؛ فإن الإصابة هي التي تجري على استدادٍ في السهم، فإذا انقلب، فلا احتفال بالمماسة التي جرت.
ولو حصلت الإصابة بقطعة مستدّة على سمت طول السهم، فهل تحتسب الإصابة؟ فعلى الوجهين المذكورين في النكبات المعترضة.
ثم اختلف أصحابنا وراء ذلك، فقال قائلون: إن أصاب الجانبُ الذي فيه النصل بل أصاب النصلُ، فهو الإصابة التي فيها الخلاف، ولو أصابت القطعة التي فيها الفوقُ من غير انقلاب، ولكن أصاب موضع الانقطاع، فلا يحسبُ ذلك وجهاً واحداً.
ومن أصحابنا من عكس هذا، وقال: إن أصابت قطعةٌ الفُوقَ مستدةً، فهذه إصابة، وفي احتسابها خلاف؛ فإن هذه القطعة هي المقروعة بالوتر، ولا معنى للرمي إلا قرع الفوق بالوتر، والقطعة التي فيها النصل إذا باينت السهم، لم يبق فيها تحامل اعتمادات الوتر على سداد، فإصابتها وفاق، والمسألة محتملة كما وضحناها.

.فصل: في بيان الإصابة المشروطة:

11684- إذا شرط أصحاب النضال إصابة القرطاس، فليست الإصابة خافية، ولكن لا تُحسب الإصابة عَرْضاً، وكذلك إذا انقلب السهم وأصاب فُوقُه، فهذا غير محسوب؛ فإن ذلك لا يُعد إصابةَ السهم المرمى، ولو أصاب السهم شجرة مائلة عن قُبالة الغرض، أو جداراً، ثم ارتد، وردّته الصدمة إلى سنن الغرض، وأصاب فهذا فيه تردّدٌ، والأصح أنه لا يعتد به، فإن سبب الإصابة الصدمة، وإلا فالسهم في مَرِّه مائل عن سنن المطلوب، ولولا الصادم، لبعد موقعه عن القرطاس.
ولو كان السهم على السنن، ولكن صدم الأرضَ قبل الوصول، وارتد من الأرض، وأصاب، فقد اختلف الأصحاب في ذلك أيضاً، وجعلوا الاعتداد بالإصابة في هذه الصورة أولى؛ فإنَّ السهم واحتكاكه بالأرض يدل على انخفاض ممره، وطلب خفض السهم نهاية الحَذاقة، وهو أول الرماية وآخرها.
والأصح عندنا أنَّ الإصابة غيرُ معتد بها، فإنَّ السهم إذا احتك بالأرض، فقد انتهى أثر رَمْي الرامي، وبان أنه سدَّد سهمه على هذا الموضع، ولم يشعر، وما كان من ارتدادٍ، فهو بعد انتهاء السهم.
ولا خلاف بين الرماة أنَّ ذلك غير محسوب، وإنما التردد للفقهاء، ويمكن أن يخرج هذا على العادة وأنها هل تُتّبع؟ فإن اتبعناها، فلا يُحتسَب بها، وإن لم نتبعها، فهذا يُسمى إصابة، وعلى الرامي القصاص إذا قصد إنساناً وأصاب كذلك.
ولو أصاب السهمُ وارتد من الغرض، فالإصابة محسوبة بلا خلاف، ولا يشترط الخزق والثبوت والمشروط الإصابة.
وإذا كان المشروط الإصابة-كما ذكرنا- فأصاب السهمُ طرف الغرض، وخزقه، نظر: فإن تفطّر الطرف وجِرمُ السهم في حيز الغرض بكماله، فهو محسوب، فإن كان بعض جِرم السهم في حيز الغرض، والبعض منه خارج، ففيه خلاف بين الأصحاب، ولعل الأوجه أنه إصابة.
11685- ولو وقع التشارط على الخوازق والخواسق، فالإصابة لا تكفي حتى يحصل الخروج المشروط، ولو وُجد الخَزْق على الطرف، فهو كما ذكرناه إذا كانت الإصابة هي المشروطة، وكان شيخي يقول: "إذا كان المشروط الخازق، ولم يكن كل السهم في حيز الغرض، فهذا أولى بالا يحتسب ممّا إذا كان المشروط الإصابة؛ فإن هذا قد لا يُسمى خزق الغرض، وإنما هو شق طرفه". وهذا خيال لا حاصل له، والذي يعترض في الخاسق المشروط شيئان:
أحدهما: أن السهم لو أصاب الغرض وخرقه ومرق منه لحموته وقوته، فقد ذكر صاحب التقريب والإمام قولين في أن هذا هل يحتسب خاسقاً:
أحدهما: لا يحتسب ما لم يثبت في الغرض، وهذا لا أعرف له وجهاً، ولكني رأيت الرماة يميلون إلى هذا، فالاعتداد به؛ فإن الخزق قد حصل، والمروق بعده زيادةٌ تُشعر بالقوة.
والثاني: أن السهم يحسب، وهو القياس الذي لا دراء له، وهو منطبق على مقتضى اللفظ ومعناه.
ولو كان المشروط الخاسق كما ذكرناه- فأصاب السهم سهماً كان في الغرض، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من احتسبه، وربما كان يقطع به شيخي.
ومنهم من قال: لا يحتسب، وهو مقتضى اللفظ، وعلى هذا إن أصاب خَزْقاً في الغرض، وثبت فيه، فمنهم من احتسبه، ومنهم من لم يحتسبه؛ فإن النصل صادف هواء الثقب، ولم يؤثر في خزق، والمشروط الخزق. والأفقه عندنا الاعتداد به إذا كان السهم في قوته بحيث يخرق لو أصاب موضعاً صحيحاً؛ فإن الغرض من ذكر الخَزْق ألا ينبو السهم، ومن ضرورته الإصابة، وليس معنى اشتراط الخاسق أن يرجع الغرض في حق الرمي إلى مواضع لم تُصبها السهام من الغرض؛ فإن هذا في التحقيق قد يرد الغرض إلى نصفه، وهذا يستبينه الفطن، إن شاء الله تعالى. والمسألة محتملة.
11686- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو أصاب الجريدة، وهي السعفة التي ينتصب الغرض عليها، فقد فصل العراقيون ذلك؛ فقالوا: إن شرطا إصابة الشَّن الذي على وسط الهدف، فلا تحسب إصابة الجريدة.
وإن شرطا إصابةَ الهدف، وهو الترس الذي الشَّن في وسطه، فإصابة الجريدة محسوبة؛ فإنها متصلة بالغرض اتصال إثبات، وهي بمثابة جزء من الغرض، وذكر شيخي قولين في هذه الصورة الأخيرة، وهما متجهان:
أحدهما: وهو الذي ذكره العراقيون- أنه إصابة إذا كان المشروط إصابة الغرض.
والثاني: أنه غير محسوب؛ فإن الجريدة تُسمى عماد الغرض وقائمته، وليست من الغرض. والمسألة محتملة. والأوجَهُ ما ذكره العراقيون؛ فإن قائمة السرير من السرير، ويجوز أن ينفصل عن ذلك فيقال: قائمة السرير من الخشب الذي منه السرير.
فصل:
11687- إذا وقع التشارط على احتساب القريب، جاز، فإن أبانوا مقدار القرب بشبرٍ أو فترٍ، أو قِيدَ سهم، ولم يعتدّوا بما يقع وراء ذلك، فشرطهم متبع، وكأن الحد الذي راعَوْه من القُرب هو الغرض المطلوب، والقرطاس في وسطه لتسديد النظر، فلو شرطوا الاحتساب بالقريب على الجملة من غير تعرض لضبط، ففي صحة المعاملة وجهان: الأصح- أنها لا تصح؛ للجهالة، والقرب لا ضبط له.
والثاني: أنها تصح.
ثم في تفريع ذلك وجهان:
أحدهما: أنه يحمل على قِيد سهم، وهذا كلام سخيف، لا أعرف له قياساً، ولا أمراً يرجع إلى عادة الرماة، وصاحبه يدعي أن هذا حد القُرب في عادة الرماة. ومنهم من قال: مطلق القرب محمول على الاعتداد بالقرب، فالأقرب، بتأويل أن القريب يُخرج البعيد، ثم هؤلاء اختلفوا على وجهين آخرين: فقال بعضهم: إذا اتفقت سهام قريبة لأحدهم، والبعضُ أقرب من البعض، وأبعدها أقرب من أقرب صاحبه، فالسهام بجملتها محسوبة له.
ومنهم من قال: أقربه يُسقط أبعده أيضاً.
وكل ذلك خبطٌ، والذي يجب القطع به أنه لابد من ذكر ذلك وضبطه بالشرط، والرماة يعتادون إبانة ذلك.
ولو ذكروا مقدار القرب، وتعرضوا للغرض والقرب منه، فالسهم الذي يثبت أسفل الغرض على الحد المشروط من القرب، أو على جانبه قريب محسوب، والسهم الذي يقع فوق الغرض، ويثبت على حد القرب المشروط محسوب على الأصح.
وذكر شيخي قولين:
أحدهما: ما ذكرناه، وهو الذي يجب القطع به، والثاني: أنه لا يحسب، فإنه يشير إلى الزهوق والسهم الزاهق لا يعتد به، وكان يشير في هذا إلى عادة الرماة، ولا أصل له؛ فإن القُربَ محقّق، والسهمُ سديد ثابت، وفي الرماة من يستحسن ما يقع فوق القرطاس.
وإذا شرط القريب، فوقع السهم بالقُرب من الغرض، ولم يثبت، فهذا غير محسوب؛ فإن القريب وجب أن يثبت أو يصيب ثم يرتد، فإذا لم يُصب، فهو ساقط، والمعنى يُحسب القريب احتساب السهم المصيب لحيّز القُرب، فقد ذكرت أن القُرب إذا ضبط، فكأن الغرض قد اتّسع.
11688- وممَّا كان يذكره شيخي أن المناضلة إذا عقدت على احتساب القريب، ووقع التعرض لمنتهى القُرب ضبطاً بالشرط، فمقتضى المعاملة أن يُخرج قريبُ أحد المتناضلين ما هو أبعد منه من سهام صاحبه، إن كان ذلك البعيد في حد القُرب المضبوط المشروط.
وأنا أقول: إن شرطوا أن يُخرج الأقرب ما وراءه، فالشرط متّبع، وإن لم يكن لهذا تعرض، فليس في معنى احتساب القريب ما يشعر بإخراج الأقرب ما فوقه؛ فإن لم يثبت للرماة في ذلك عادة مستمرة، فالوجه الاحتساب بكل ما يقع على حد القُرب المعتبر، وإن ثبت في ذلك عادة للرماة، فيجتمع موجب اللفظ وحكم العادة، فإن اعتبرنا العادة، حكمنا بإخراج الأقرب ما فوقه.
وفي هذا يتبين أمرٌ به انكشاف أغراضٍ، وهو أن القُرب لو كان مفهوماً في عادة الرماة معتبراً بِقِيد سهم، فإخراج القريب يحمل على العادة الجارية، وهذا لا يُدرج تحت القولين، بل هو في معنى حمل الدراهم المطلقة على النقد الغالب، من جهة أن القريب لا ضبط له في اللسان، واللفظ المبهم تبيّنه قرينة الحال، كذلك القول في القريب؛ فإنه لا ضبط له في وضع اللغة، فإن صح ضبط في العادة على اطرادٍ، كانت العادة قرينة اللفظ، فأما إخراج الأقرب لما فوقه، فليس من باب تفسير لفظ مبهم، فلا يصح أن يكون هذا قرينةً للّفظ مفسرةً له، فيثبت القريب مضبوطاً والمسألة مفروضة في الضبط، فالكلام مستقلٌّ إذاً، ولكن يعارضه عُرفٌ يليق بالاستصلاح، فخرج القولان، وهذا كالقولين فيمن يُبدأ به؛ إذ ليس في اللفظ تعرض للبداية، ولا يصير اللفظ مع العادة مشعراً بها، فبقي لفظٌ مستقلٌّ وعادة تعارضه.
11689- ومما نذكره في فصل القريب أن التناضل إذا وقع على احتساب القريب، فقرب سهم من القرطاس، ولم يلق ما يثبت فيه، فهذا قريب، ولكن أهم أمر فيه التصوير، فإن كان القرطاس مفرداً، ولم يكن وراءه ترس أو تراب، فاشتراط القريب لا يحمل على ما يقرب في مرِّه، فاذا وقع التشارط كذلك، اتبعناه، ولكن هذا لا يراه أحد، ولا يعتاده جيل من الرماة، غير أن شرط القرب-والحالة كما وصفناها- تصريح بوضع المعاملة على خلاف العادة، ونحن إنما نتبع العادة في قولٍ إذا كان اللفظ مطلقاً، فأما إذا صرح اللفظ بمناقضة العادة، ولم يخالف مقتضىً شرعيّاً، فلا تعويل على العادة. وهذا بمثابة البيع بدراهم غريبة موصوفة، غير الدراهم الجارية في عرف المعاملة، ولو كان القرطاس أمام تراب أو ترس، فلا يتصور الاحتساب بقريب لا يلقَى الترابَ في مرِّه، فإن وقع الشرط كذلك، عاد التفصيل الذي ذكرناه، وإلا فالقريب لابد وأن يثبت فيما وراء القرطاس، ثم القول في القرب والبعد ما ذكرناه.

.فصل: مشتمل على أنواع القسي والسهام، والتعامل عليها:

11690- فنقول: تقدم أنَّ التناضل على جميع أجناس القسيّ والسهام جائز، ونحن نصدر هذا الفصل بأمور متفق عليها: أجمع الأصحاب على جواز التناضل مع اختلاف أجناس القسيّ، فلا يمتنع أن يرمي البعضُ عن القوس العربية، والبعض عن الفارسية، وهذا بمثابة المسابقة بين البراذين والعتاق العربية، وسنختم هذا الفصلَ، إن شاء الله تعالى بطرف من الكلام في هذا، ونعطفه على أصول المسابقة، وإذا كان لا يمنع المسابقة بين البرذون والعربي، مع أن التعويل في المسابقة على الفرس، والتعويل في الرماية على الرامي، فاحتمال اختلاف الأنواع في القسي أقرب، والمسابقة بين الفرس والحمار والبغل-إذا جوزنا التسابق على الحمر والبغال- بعضها مع بعض مختلف فيه:
فمن أصحابنا من منع المسابقة بين الفرس والحمار والبغل؛ لاختلاف الجنس والتفاوت العظيم، ثم ذكر الفقهاء في مناظرة الفرس والحمار، السهم والمزراق، وأَجْرَوْا وجهين في جواز التعامل بينهما في إصابة مُعيَّنٍ شاخص، ورأَوْا هذه المعاملة أقربَ إلى الجواز؛ لما أشرنا إليه من ظهور التعويل على الرمي والرامي فإن قيل: لم قلتم التعويل في المسابقة على الفرس، والتعويل في المناضلة على الرامي؟ قلنا: لسنا ننكر أثر الفارس، ولكن الأثر الأغلب محال على الفرس، وليس المقصود من الركض تعلم الفروسية، فإن الفروسية لا تتعلم بهذه الجهة، وإنما تتعلم بمعرفة الرياضة ثم كيفية الرِّكْبة والهيئة، وضبط العِنان في الخبب والهرولة، والإدارة على الحلقة المسماة (آورد)، والغرض الأظهر من ركض الخيل تضميرها وتمرينها على العدو، وهذا لا يحصل إلا بالركض، وأما القسي فلا تصلح بالرمي، وإنما يصلحها القواس، والغرض تمرن الرامي على الرمي، والعبارة القريبة في الفرق: أنَّ الفرس حيوانٌ يعدو باختياره، وليس على الفارس إلا تزجيته، والاختيار كله في الرمي للرامي.
11691- ومما نقدمه أنَّ التعامل إذا وقع على القسي العربية، فأراد أحد المتناضلين أن يُبدّل القوس العربية بالفارسية، لم يكن له ذلك لما بين الفارسية والعربية من البَوْن البعيد، والفارسية أشدّ، والرمي منها أسدّ، ومدى سهمه أبعد، ونحن لا ننكر أثر الآلة، وإن كان التعويل على الرامي.
ولو وقع التناضل على القسي الفارسية، فأبدل أحدُهما القوسَ بعربية، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن ذلك جائز؛ فإنه انتقل من الأجود إلى ما دونه، فليس فيما فعل إجحاف.
والثاني: لا يجوز ذلك حسماً لإبدال الجنس بالجنس، وقد يكون أعرف بالرمي على القسي العربية وأمهر فيها، فالوجه حسم ذلك بالكلية.
ولو وقع التناضل من غير تعرضٍ لتعيين نوع من القسي: نُظر، فإن كانت الناحية تشتمل على الأنواع والترامي غيرُ نادرٍ بالجميع، فقد اختلف أصحابنا: فقد ذهب بعضهم إلى أن المناضلة المطلقة فاسدة في مثل هذه البقعة؛ فإنها أنشئت على الجهالة، مع تفاوت الغرض، واختلاف المقصد، وهذا ما مال إليه صاحب التقريب، ووجهه بيّن. وذهب الأكثرون من الأصحاب في طرق العراق وغيرها إلى تجويز المناضلة المطلقة.
فإن أفسدنا، فلا كلام، وإن حكمنا بالصحة، وهو الذي صار إليه الجمهور، فقد قال العراقيون: لابد وأن يقع الترامي على نوع واحد، فإذا أخذ واحدٌ العربية، امتنع على الآخر أَخْذُ الفارسية، ثم قالوا: الخيرة إليهما في تعيين نوعٍ يريدانه.
وهذا كلام مبهم، لا أقنع بمثله، وإشكاله يبين بسؤال، وهو أن قائلاً لو قال: إذا اختار أحدهما العربية، واختار الثاني الفارسية، وتنازعا، فكيف التفاصيل؟ وليس أحدهما أولى من الآخر، وهذا يُفضي إلى تعذر إمضاء العقد. هذا هو السؤال. والجواب عنه عسرٌ.
والوجه بعد بيانه أن نقول: إن حكمنا بلزوم هذه المعاملة، فالوجه أن نحكم بأن الإطلاق فيه مفسدٌ؛ لإفضائه إلى ما وصفنا، وليس ذلك كفرض اختلاف المتبايعين في الثمن والمثمَّن؛ فإن اختلافهما في حكم النادر الذي يطرأ، وليس من مقتضيات العقد، والمعاملة التي نحن فيها تُفضي لو صحت إلى الخيرة التي ذكرها العراقيون، ثم ينشأ منها التنازع لا محالة، فقد أدت المعاملة بمقتضاها إلى ما يوجب رفعها. وإن حكمنا بأن هذه المعاملة جائزة، فلا يمتنع على ذلك الحكمُ بانعقاد العقد، ثم إن توافقا على نوع، فذاك، وإن تمانعا، فالمعاملة عرضة الفسخ، وليس جريان الفسخ فيه مناقضاً لوضعه.
فهذا إيضاح الخلاف، وتنزيله على الأصل الذي لابد منه.
ومما نقدمه أن الأنواع إذا اختلفت ووقع التراضي من المتناضلين على الترامي على الأنواع المختلفة، فهو جائز.
11692- وانتظم من مجموع ما قدمناه أنَّ التوافق على نوع يمنع العدول إلى ما هو أعلى منه، وفي العدول إلى ما دونه خلاف.
ولو وقع التوافق على التناضل على نوعين، جاز بلا خلاف، وفي الإطلاق-وفي الناحية نوعان، أو أنواع- خلافٌ منزل على الوجوب والجواز، فلو اتحد النوع في الناحية، فالعقد المطلق منزل عليه، كما أن الدراهم المطلقة منزلة على النقد الغالب.
ولو كان الترامي على نوع معلوم، فتشارطا على ألا يُبدل واحد منهما قوسَه، فنقول: أولاً إن لم يجز في ذلك ذكر، فالإبدال سائغ بلا خلاف، سواء فرض اختلال في القوس أو لم يفرض، وعند ذلك يظهر انفصال النضال عن السباق؛ فإن الفرس المتعين للمسابقة لا يبدل بغيره، والقوس المتعينة تبدل بغيرها من نوعها، والمعتمد في الفرق ما قدمناه، من أنَّ التعويل في المسابقة على الفرس وفي النضال على الرامي.
فإذا وضح هذا في القوس، فلو شُرط تعيين القوس، ومُنع إبدالها، فالأصح أن هذا الشرط فاسدٌ؛ فإن الرامي قد تطرأ عليه أمور خفية، هو أعرف بها، فتُحوجه إلى إبدال القوس، وفي حسم هذا تضييق وإرهاق لا فائدة فيه، وهو قريبٌ من تعيين الصاع في السلم.
ومن أصحابنا من قال: يصح الشرط، ويجب الوفاء به، على ما سنصفه في التفريع، إن شاء الله تعالى، ويحتج هذا القائل بأنه قد يظهر غرض بيّن في تعيين القوس؛ فإن إبدال القوس اللينة بالشديدة يتفاوت تفاوتاً قريباً من إبدال العربية بالعجمية.
التفريع:
11693- إن حكمنا بإفساد الشرط، فهل تَفسد المناضلة أم يُلغى الشرط، ويقدّر كأنه لم يكن؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب ومهد ضبطاً حسناً في ذلك، وقال: كل شرط لو فرض طرُحه لاستقل العقد بإطلاقه، فيجري فيه الوجهان إذا فسد، وكل ما لو طُرح، لم يستقل العقد، فإذا فسد، فلابد من فساد العقد، فهذا مثل ألا يذكر في المسابقة غاية، ولا في المناضلة قرعات، فالمعاملة فاسدة، لا وجه إلى تصحيحها مع تقديرها، وسبيل طلب الصحة ابتداء عقد على شرط الشرع.
وإن قلنا يصح تعيين القوس، فتقديره ألا يبدل القوس ما بقيت، فإن انكسرت، فكيف الوجه؟ إن وقع الشرط على أن لا إبدال إلا إذا انكسرت، فيصح العقد وينزل على هذا المقتضى، وإن وقع الشرط على أن لا إبدال، وإذا تكسرت القوس، انقطعت المعاملة، فيجب الحكم بفسادها، فإن هذا إبلاغ في تعيين الآلة، وحقها ألا تتعيّن.
11694- هذا منتهى الغرض في ذلك، وقد وعدنا أن نذكر مسائل في المسابقة من هذا النمط، فنقول أولاً: إذا تعينت الأفراس في التسابق، فلا إبدال بوجه على ما تمهد من ارتباط المعاملة بالخيل أو الإبل، وهي العمدة والعماد، ولو تعاقدا المسابقة من غير إحضار الأفراس، واعتمدا الوصف فقد قال العراقيون: يجوز ذلك، ثم قالوا إذا كان التعويل على الوصف، فيجب أن يحضرا فرسين من نوع واحد، إما من العتاق أو البراذين، قالوا وهذا إذا لم يجر لها ذكر، وجرت المسابقة على الإطلاق، والمسابقة المطلقة مع وجود البراذين والعتاق في الناحية، كالمناضلة المطلقة مع وجود القوس العربية والعجمية في الناحية.
ولو لم يُحضرا فرسين ورضيا بالتسابق على البرذون والعربي، جاز ذلك كما يجوز ذلك في النوعين من القوس إذا وقع التراضي بالتناضل عليهما.
وهذا الذي ذكروه سديد لو صحت المسابقة من غير تعليق بأعيان الخيل. وكان شيخي يقطع باشتراط تعيين الخيل في المعاملة؛ فإن المعول في المسابقة على أعيانها، وفي هذا احتمال ظاهر، والأوجه ما ذكره العراقيون. والعلم عند الله تعالى.
واختلاف السهام وإن اتّحد نوعُ القسي كاختلاف نوع القسي، وبيانه أن الرمي بنبال الحُسْبان التي تسمى نازك إنما يكون على القوس الفارسية، ولكن لابد من إلحاق آلةٍ بالقوس، فيخرج القوس عن طريق الرمي باليد، ويصير مع الآلة المتصلة بها كنوع آخر من القوس وكذلك قوس الجَرْخ مع قوس اليد، والجَرْخ مع النازك مختلفان، وهذا مستبين عند أهل المعرفة، وكان شيخي يُلحق بهذه المسائل المسابقة بين الإبل والخيل، ويقول: هي أقرب من المسابقة بين الخيل والحمر؛ من جهة اجتماع الخيل والإبل في كونهما أصلين في المسابقة.
ومع هذا الخلافُ قائم في جواز المسابقة؛ لمكان اختلاف الجنسين، وليس كاختلاف النوعين، نحو اختلاف البراذين والعتاق، وكان يتردد بين البغال والحمر، وليس يخلو ذلك عن خلاف. وهو أقرب من الخيل والحمر.