فصل: فصل: يجمع القول في الإكراه والنسيان الواقعين حالة الحنث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يجمع القول في الإكراه والنسيان الواقعين حالة الحنث:

11775- فنقول: عماد الحنث ثلاث صور، والمسائل بعدها ملحقة بها، فإذا حلف لا يدخل داراً، فحمل مكرهاً، وأدخل الدار، فالمذهب الذي قطع به المعتمدون أنه لا يحنث؛ لأن الذي جرى لا يُسمى دخولاً، وليس هذا من صور الإكراه، بل هو من باب عدم الحِنْث صورةً؛ إذ لا يُسمى ما وجد به دخولاً، وإنما هو إدخال، وينتظم النفي والإثبات فيه؛ فإنه يقال: فلان ما دخل بل أُدخل.
وذكر صاحب التقريب عن بعض الأصحاب مسلكاً بعيداً في تخريج هذه الصورة على قولي الإكراه، واعتل هذا القائل بان قال: لو أَمَر حتى حُمل وأُدخل، حَنِث، فاستبان أن هذه الصورة ملحقة بالدخول مشياً في حالة الاختيار، وكل صفة تقتضي الحنث وحَلَّ اليمين لو صدرت عن اختيار، فإنها تقتضي الخروج على القولين لو اقترن بها الإكراه.
وهذا الذي حكاه بعيد، وفيه غفلة عن مُدرك المعنى، وذلك أنه إذا أمر حتى حمل وأدخل، فهذا في الحقيقة ليس دخولاً، ولكن غلب في العرف والصورة هذه النظرُ إلى المقصود، وهو الحصول في الدار، وكثيراً ما يميل العرف الغالب إلى المقصود، فإذا حمل مكرهاً، فلا قصد له حتى نجعل الدخول في الدار مقصوده، ولم يوجد منه فعل، فاليمين في ظاهرها معقودة على الفعل، فالوجه القطع بما قطع الأصحاب به، وإذا حمل بإذنه، فهذا بمثابة ما لو ركب دابّة ودخل الموضع المحلوف عليه راكباً، فحركات الدّابة مضافة إلى الراكب، فلو حمل من غير أمره وأدخل، ولكنه كان قادراً على أن ينسلّ ويتراخى ويزجر الحامل، فسكت، فهذا فيه تردد ظاهر للأصحاب: ألحقه الأكثرون منهم بحالة الاختيار والأمر؛ فإن الحال يشعر برضاه، والمتبع صدور الحصول في الدار عن الرضا، ومن أصحابنا من ألحق هذه الصورة بما إذا حمل مكرهاً. هذه صورة.
11776- الصورة الثانية- أن يقول: لا أدخل، ثم يحمل على الدخول، ويتحقق الإكراه-على ما مضى تفصيل الإكراه في كتاب الطلاق- فإذا دخل بنفسه مكرهاً واليمين مطلقة، ففي حصول الحنث قولان ذكرناهما في الطلاق.
11777- الصورة الثالثة- أن يحلف، ثم ينسى اليمين، ويقدم على ما هو صورة الحِنث ناسياً ليمينه، ففي حصول الحِنث قولان تقدم ذكرهما، وللأصحاب خلاف في ترتيب الناسي على المكره: فمنهم من يجعل الناسي بالحنث أولى لاختياره في المحلوف عليه، ومنهم من يجعل المكره بالحنث أولى لذكره اليمين، وعموم قوله لا أدخل، وهذا مما تقدم أيضاً.
11778- فإذا تمهدت هذه الصور ألحقنا بها مسائل، وهي مقصود الفصل، فلو قال: "والله لأشربن ماء هذه الإداوة غداً"، فأريق ذلك الماء قبل مجيء الغد من غير اختيار الحالف، فهل يحنث؟ ذكر الأصحاب قولين في الحنث، وقربوهما من المكره، وكان شيخي يقول: هذه الصورة أولى بألا يتحقق الحنث فيها من قِبل أن الشّرب في الغد-وقد أريق الماء في اليوم- غيرُ ممكن، والمكره على الدخول يتصوّر منه أن يمتنع من الدخول. فإن قيل: ما وجه تخريج القولين والحالة كما وصفتموها؟
قلنا: إذا قال: لا أدخل، فالبِرّ في ترك الدخول، فإذا دخل، فقد تحقق عدم البرّ اسماً ولفظاً إلى أن يحكم الفقيه بما يقتضيه الحكم، وأما إذا قال: لأشربن غداً، فبرّه في مقتضى الاسم، وهو أن يشرب، فإذا لم يشرب، فلا برّ، فقد تحقق عدم الشرب، كما تحقق الدخول، فهذا هو الوجه. والذي ذكرناه سؤالاً يقتضي ترتيب القولين في مسألة الشرب على أصل القولين في الإكراه.
ومما يتعلق بأصل القول في الإكراه أن اليمين يصح عقدها بما لا يدخل تحت اختيار الحالف، ولا يعد من فعله، كاليمين تُعلّقُ على طلوع الشمس وغروبها، هذا صحيح غير ممتنع.
11779- ولو علّق اليمينَ بفعل الغير مثل أن يقول: والله لا يدخل فلانٌ الدارَ، ثم وجد منه الدخول مخالفاً للبر في اليمين، فاليمين تنحلّ، وتجب الكفارة، ولا فرق بين أن يكون ذلك الدخول على اختيارٍ من ذلك الشخص، أو كان مكرهاً فيه، فلا أثر للإكراه والاختيار في حق من لم يحلف، وإنما يقع الفصل بينهما إذا تعلّقت اليمين بفعل الحالف. هذا أصل متمهّد.
وقد ذكرت في كتاب الطلاق مسائل فيه إذا جرى الحلف متصلاً بعلم من ذكر فعله، أو عدم فعله، وكان يتوقع أن يكفه اليمين، فإذا جرى إكراه في حق ذلك الشخص، والحالة هذه، ففي هذا تفصيل قدّمته، فلا أعيده، والذي ذكرناه فيه إذا لم يقصد الحالف أن يمنع ذلك الشخص بيمينه عن الفعل، وإنما أراد عقد اليمين على الإخبار عن وجودٍ أو عدمٍ في الغيب، وعداً ذكره ثم أكده باليمين. وقد قال صاحب التقريب: لو حلف على غريمه، فقال: بالله لا يفارقني غريمي حتى أستوفي حقي منه، ثم فرّ الغريم ففارقه، قال: في المسألة قولان، واليمين معقودة على فعل الغير.
وهذا مأخوذ على صاحب التقريب؛ من جهة أنه أطلق إجراء القولين، ولم يفصل، والوجه أن يقال: إذا لم يقصد منع الغريم، فالحنث يحصل إذا وُجدت المفارقة منه؛ حملاً لعقد اليمين على الوعد وتأكيده، وإن أراد أن يمنعه بما أسمعه من يمينه؛ فإذا فرّ كما ذكرناه، فهو في فراره مختار، والمفارقة موجودة على اختيار، فتخريج القولين والحالة هذه لا وجه له أيضاً، وإن قيل: قصده بالحلف أن يمنعه من ْمفارقته، فإذا فر وهو قادر على مساوقته، أو على ردِّه وضبطه، فالحنث يحصل أيضاً، قولاً واحداً.
وإن أفلت منه على وجهٍ لا يُنسب فيه إلى التقصير، فلا يبعد في هذا الطرف إجراء القولين إذا تخيلنا مقصود اليمين منعه من المفارقة، وقد يجري مثل هذا في العرف، فللمسالة إذاً محامل: أحدها: عقد اليمين على الوعد، والآخر- عقد اليمين ليمتنع الغريم بسبب اليمين، واستقصاء هذا في مسائل الطلاق، والوجه القطع بالحنث، والصورة الأخيرة عقد اليمين والمراد منعه، ولو أطلق ولم يذكر محملاً، فاللفظ في الإطلاق محمول على الوعد لا غير.
11780- ومن الصور التي نلحقها بما مهّدناه من الأصل، وهو من مسائل الكتاب أنه إذا قال: لا أسلم على زيد فلو سلم عليه في اختلاط الظلام، وهو ذاكر ليمينه، ولم يعلم أنه زيد، بل حسبه شخصاً آخر، ففي الحنث قولان مرتبان على ما لو نَسِيَ يمينه، وهذه الصورة-وهي إذا جهل زيداً عند تسليمه، وكان ذاكراً لليمين- أولى بالحنث، والدليل عليه أن من نَسِي الصوم، وأكل، لم يفطر، ومن كان يأكل ظاناً أنه في بقية من الليل، وهو ذاكر للصوم، أفطر على ظاهر المذهب، فرقاً بين أن يجهل الصوم على ذكر له وبين أن ينسى الصوم، فكذلك القول في الحنث.
ولو سلم على قوم وزيدٌ فيهم، ولم يعلم أنه فيهم، وهو ذاكر ليمينه، ففي هذه الصورة قولان مرتبان على القولين فيه إذا سلم عليه قصداً، ظاناً أنه غير المحلوف عليه، والصورة الأخيرة أولى بألا يحنث فيها؛ لأنه لم يقصد زيداً بعينه، ولم يسلم عليه تعييناً.
ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً، وهو فيه مع جماعة، ولم يعلم به الحالف، ففي الحنث قولان مرتبان على القولين في السلام، وهذه الصورة أولى بالحنث من نظيرتها في السلام؛ فإن دخول البيت فعل لا يقتضي التخصيص، والسلام قول ذو صيغة قابلة للتخصيص والتعميم.
ولو قال: لا أسلم على فلان، فسلم على قومٍ والمحلوف عليه فيهم، وعلم أنه فيهم، ولكنه استثناه بالنية، وقصد السلام على الباقين، فقد قال العراقيون: إنه لا يحنث، وقطعوا القول به، ووجهه بيِّن، لأنه وجه سلامه على من أراد منهم، واللفظ محتمل للتخصيص كما قدمناه، قال شيخي: في المسألة احتمال إذا لم يستثنه لفظاً؛ فإن مخاطبة جمعٍ بالسلام توجهاً إليهم في حكم النص في إرادتهم؛ فإنه إذا أشار إلى عَبيد، وقال: هؤلاء لفلان، ثم زعم أني استثنيت واحداً منهم، فالوجه ألا يقبل ذلك منه، قال العراقيون: لو سلّم عليهم، مع علمه بأن المحلوف عليه فيهم، ولم يستثنه بالنية، ولا قصد إدراجه تحت عموم السلام، قالوا: في
الحنث قولان:
أحدهما: أنه لا يحنث؛ فان اللفظ يحتمل التعميم والتخصيص، وهذا ساقط على قياس طريقنا.
والوجه القطع بأنه يحنث عند الإطلاق، إذا كان عالماً بصورة الحال، ولم يستثن لفظاً، ولا عقداً، واللفظ العام يجري على عمومه ما لم يُخصص، قال صاحب التقريب إذا حلف لا يسلم على فلان، فسلم على قومٍ، وهو فيهم، وعزله بالنية، لم يحنث، وهذا لعمري منقول الأصحاب وما قطعوا به، وفيه الاحتمال الذي أبداه شيخنا، وهو غير معتد به.
11781- ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً فيه قوم، وهو فيهم أيضاً، وعلم ذلك، ولكنه عزل المحلوف عليه بالنية، وقصد الدخول على غيره، فهل يكون هذا بمثابة ما لو عزل المحلوف عليه عن السلام في مسألة السلام؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنه لا يكون كذلك، بل يحنث في مسألة الدخول؛ لأن الدخول فعل، فلا يتصور منه تخصيصه بواحد، أو بجمعٍ من الكائنين في البيت، والسلام لفظ معرض للتخصيص والتعميم.
والوجه الثاني- أن التخصيص ممكن بالقصد في مسألة الدخول أيضاً؛ إذ قد ينتظم أن يقول الداخل إذا روجع: ما دخلت على هذا، ولم أقصده، بل دخلت على هؤلاء المشايخ، فلا يمتنع هذا، والنيات إذا وَجَدَتْ مساغاً في الأيمان، فاحتمالها متسع.
وفي هذه المسألة سِرٌّ، لابد من التفطن له، وهو أنه في ابتداء العقد لو أراد بقوله: لا أدخل على فلان، أني لا أقصد الدخول عليه، ولا أقصده بالدخول، ثم اتفق دخوله على حسب ما صوره صاحب التقريب، فالوجه القطع بأنه لا يحنث؛ لأنه عقد اليمين على هذا الوجه، فاتبعنا عَقْده، وقصده؛ فإنا ذكرنا أن ما يتسع لقبول التديين، فهو مقبول في اليمين بالله تعالى، والذي ذكره صاحب التقريب فيه إذا أطلق يمينه، ولم يُخصصها بقصدٍ ثم وُجد منه هذا التخصيص عند الحنث، ولا تخصيص في عقده وحلفه الأول، فهذا ما أردنا ذكره.
ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، ثم دخل البيت، وهو فيه عالماً بمكانه، وكان في البيت وحده، فعزله بنيّته، وقصد شغلاً آخر سوى الدخول عليه، ففي تحنيثه وجهان ذكرهما القاضي مبنيان على ما ذكرنا عن صاحب التقريب، وهذا يبُنى على أن التخصيص بالدخول هل يمكن في ذلك؟ والمسألة مُحتملة، وهذا كما إذا دخل البيت لشغل من حمل شيء أو وضع شيء وقصد ذلك، وعزل المحلوف عليه، أو قصد الدخول مع عزله، ليقعد أو يرقد، كل ذلك خارج على الخلاف.
ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً، ولم يعلم أن فيه فلاناً، فظاهر المذهب أنه لا يحنث، والسبب فيه عدمُ قصده، وإن الدخول عند بعض الأصحاب مما يقبل التخصيص قصداً؛ فإذا انضمّ عدم علمه إلى تعرض هذا المقصود لقبول التخصيص، ظهر منه انتفاء الحنث، وقال الربيع: يحتمل أن يقال: سبيله كسبيل الناسي ليمينه، وهذا تخريج صححه معظم الأصحاب، ووجهه بيّن.
فصل:
قال: "ولو حلف ليأكلن هذا الطعام غداً... إلى آخره".
11782- مقصود هذا الفصل يتعلق بالأصول التي مهّدناها في الإكراه والنسيان، فإذا قال: لآكلن هذا الطعام غداً، فلا يخفى تصوير وجهِ البرّ، فلو فرض تلف الطعام، أو تلف الحالف، نظر: فإن جاء الغدُ والطعام باق، والحالف متمكن، فأخّر الأكلَ، فتلف الطعامُ، أو مات الحالف-وفي النهار بعدُ بقية- فظاهر المذهب القطع بتحنيثه؛ فإنه تمكن من تحقيق البرّ فأخّر.
ومن أصحابنا من خرّج تلف الطعام وموت الحالف في أثناء الغد على خلاف الأصحاب في أن من أخّر الصلاة عن أول وقتها، ومات في أثناء الوقت، فهل يعصي، ووجه التشبيه أن الصلاة مؤقتة بوقت مُتّسع، والبرّ مؤقت أيضاً، فقرب مأخذ الكلام في المسألتين، والأصح عندنا القطع بالتحنيث، والصحيح الحكم بأنه لا يعصي بتأخير الصلاة إذا مات في أثناء الوقت، والفرق أن الأيْمان معتمدها اللفظ، والذي أخر عن أول وقت الإمكان يسمى من طريق اللفظ مخالفاً تاركاً للبرّ، والتأقيتُ في الصلاة مبناه على إثبات الفسحة والتخفيف، فاللائق به ألا نُعصِّي المؤخِّر.
ولو تلف الطعام الذي حلف على أكله غداً قبل مجيء الغد، فقد ذكرنا إجراء الأصحاب القولين في ذلك؛ فإن حكمنا بأنه لا يحنث-وهو الأصح- فإن الحنث إنما يتجه عند تصوّر البرّ، واليمين ليست معقودة على وعد غيبي، وإنما المقصود بها تأكيد الإقدام على أمرٍ، فالوجه ألا يحنث إذا لم يتصوّر البرّ، وإن قلنا: يتعلق الحنث بهذه الصورة، فمتى يحنث؟ في المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يحنث غداً، فإن اليمين مضافة إلى الغد، فكأن لا يمين قبله.
والثاني: أنه يحنث في الحال؛ لأن البرّ صار مأيوساً منه؛ فلا معنى للتوقف والحالة هذه، وقد ذكرنا هذا النوع مستقصىً في كتاب الطلاق، إذا علّق الرجل الطلاق بمستحيل قيّده بوقت منتظر، مثل أن يقول: إن لم أصعد السماء غداً، فعبدي حُر، أو امرأتي طالق، فهل يعجل الطلاق، أو العتاق في الحال؟ فيه خلاف مشهور، وهذا ذاك بعينه.
التفريع:
11783- إن حكمنا بأنه يحنث في الحال، فلا كلام، وإن أخرنا الحنث إلى الغد، فمتى يحنث غداً؟ فعلى وجهين آخرين:
أحدهما: أنه يحنث كما مَرّ وقت يسع الأكل، لو كان المأكول باقياً.
والثاني: أنه لا يحنث ما لم تغرب الشمس من الغد؛ فإن الوقت أُثبت للاتساع في طلب البرّ، وهذا الوجه ضعيف في هذا المقام؛ فإنا إن أخرنا الحكم بالحنث إلى الغد، فسببه أنا نعتقد انعقاد اليمين في الغد، فأما انتظار غروب الشمس بناء على الفسحة، وقد فات الإمكان، فبعيد لا أصل له.
11784- ولو قال: لآكلن هذا الطعام غداً، ثم إنه أكله في يومه؛ فإنا نحنّثه؛ فإنه المتسبّب إلى تفويت البرّ، ثم متى يحنث؟ فيه الخلاف الذي قدمناه.
ولو أكل بعض الطعام وبقَّى بعضه، حَنِث أيضاً؛ لأن البرّ إنما يحصل بأكل جميع الطعام في الغد؛ فإذا تعذّر هذا باختياره، كان كما لو أكل الجميع.
ولو قال قائل: إن كنتم تؤخرون الحنث إلى الغد، فلا تعتبروا بالأكل في اليوم، وإن كان عن اختيار، فإنه اختيار في غير الوقت المعتبر، قلنا: حقُ هذا السؤال أن يستمسك به في تضعيف ذلك الوجه، والمذهب الحكم بحصول الحنث في الحال، ثم فائدة الاختلاف في تعجيل الحنث وتأخيره النظر في صفة الحانث في التفريع على أن الاعتبار بحالة الحنث في صفة الكفارة، أو بحالة الأداء، ولو صام وقد حكمنا بالحنث أجزأه، وإن لم نحكم، لم يجزئه؛ فإن الصوم لا يقدم على وجوبه.
فصل:
قال: "ولو حلف ليَقضينه حقه... إلى آخره".
11785- إذا قال: لأقضين حقك غداً، فمات صاحب الحق قبل دخول الغد، فالبرّ ممكن بأن يؤدي ما عليه إلى ورثته، والمسألة فيه إذا قال لأقضين حقك، فأما إذا قال: لأقضينّك حَقّك، فإذا مات، فقد عسر الأمر لكونه علق القضاء بالمخاطب، ثم التفصيل فيه، كما تقدم في مسألة الأكل، فإذا قال: لأقضبن حقك غداً، فمات الحالف قبل دخول الغد، ففد تعذّر منه القضاء، واليمين معقودة على فعله في القضاء، فقال الأصحاب: موت الحالف قبل الغد كفوت الطعام المحلوف عليه قبل الغد، ووجه التماثل بيّن، ولكن تصوير الحنث-وقد مات الحالف- أبعد، ولا خروج لهذا إلا على الخلاف في أن الحنث يتعجل أو يتأخر، فإن قلنا: يحصل الحنث غداً، فلا وجه لتحنيث ميت. وإن قلنا: يحصل الحنث في الحال، فإذ ذاك يجري الخلاف، والأصح في فوت الطعام وفوت الحالف قبل الغد ألاّ يحصل الحنث.
11786- ثم ذكر صوراً في الاستثناء بيّنةً نرمز إليها: فإذا قال: لأقضينّك حقّك غداً إلا أن تشاء، فمعناه إلا أن تشاء تأخيره، فإذا جاء الغد وشاء تأخيره، لم يحنث بالتأخير، وإن لم يشأ، أو مات، وحصل اليأس من مشيئته، تحقق الحنثُ على التفاصيل المقدمة.
ثم نَقل عن الشافعي أنه قال: إذا قال: لأقضينّك حقّك إلا أن يشاء زيد، فمات زيد، لا يحنث، قال المزني: عَطْفُ هذه المسألة على المسألة المتقدمة غيرُ صحيح؛ فإن المسألة المتقدمة على هذه مفروضة في موت صاحب الحق قبل مجيء الغد، وقد قال: لأقضينّك حقّك غداً، فإذا مات قبل مجيء الغد، تعذّر الوفاء بالبرّ، وإذا قال: إلاّ أن يشاء زيد، فمات، فإنما يتعذر بموته المشيئة، فإذا تعذّر الاستثناء، اتجه البرّ والحنث، فالوجه أن نقول: إذا مات زيد، فقد زال بموته الاستثناء، فإن قَضى حقه غداً، بز، وإن لم يقض حَنِث.
قلنا: هذا الذي ذكره المزني صحيح، لا يجوز غيره، ولكن لم نر هذا العطفَ في شيء من كتب الشافعي، والخلل في النقل، ووضع المسائل، وقيل: قال الشافعي: إذا مات زيد وصاحب الحق قبل مجيء الغد، فلا حنث، فحذف المزني ذكر صاحب الحق.
فصل:
قال: "ولو حلف ليقضينّه عند رأس الهلال... إلى آخره".
11787- قال الأصحاب: إذا قال: لأقضينّك حقّك عند رأس الهلال، فشرْطُ برّه أن يقضيه مع الاستهلال، فلو قدم، كان ساعياً في منع البرّ، فإن البرّ منوط بإيقاع القضاء مع الاستهلال، فإذا قدم، فقد فات البرّ، وإن أخر على اختياره، تحقق الحنث، فليقع مع أول جزء من الهلال، وهذه المسألة فيها انتشار من قِبل أن إيقاع القضاء مقترناً بأول جزء من الوقت الذي ذكره عسير، ومراعاة ذلك لا تفي بها القوة البشرية، فما الوجه والأمر كما ذكرناه؟ وعُسْر ضم النية إلى أول النهار تضمّن جَعْلَ جملة الليل وقتاً للنية، ولم يُكلّف الخلقُ إيقاعَ النية في وقت يعسر عليهم إيقاعها فيه، وقيل: لا يتأتى تمام الصوم إلا بأخذ طرف من الليل، كما لا يتأتى استيعاب الوجه إلا بأخذ أجزاء من الرأس.
وهذا الذي تخطاه الأصحاب من أعسر مواقع الكلام، وأنا أقول فيه: عماد اليمين تنزيلها على العُرف، وإذا قال: لأقضين عند رأس الهلال، فالمعنيُّ به بذل المجهود في ضم القضاء، وذلك يتأتى بإحضار الحق عند مستحقه ومبادرة التأدية عند الاستهلال، فإذا فرض أدنى استئخار مع استفراغ الوسع، فما أرى ذلك حنثاً؛ فإن الناس لا يطلقون هذا، وهم يكلفون أنفسهم دركَ الأولية التي لا اطلاع على حقيقتها بالمُنّة البشرية، وإذا كنا نُنْزل اسمَ الرؤوس على الرؤوس المعتادة ونَحيد عن حقيقة اللغة، فما ذكرناه أولى في حكم العُرف، ولكن غاية الاحتياط ما ذكرناه من إحضار المال عند مستحقه ومراقبة الاستهلال، وإن لم نعن رؤية الهلال، فقد يَغُم الهلال على الناس، فيستكملون الشهر الماضي ثلاثين يوماً، فالمعني بالهلال أول جزء من الشهر، وهو أول جزء من الليل، ثم سبيله ما ذكرناه.
وقد ذهب ذاهبون من العلماء إلى أنا نوسّع الأمرَ على الحالف الليلة ويومها، وهذا خارج عن الاعتدال، وقد لاح أنه قصد الضم، فهذا ما عندنا في ذلك.
11788- ثم نقل المزني عن الشافعي أنه قال: "لو حلف لأقضينه عند رأس الهلال، أو إلى رأس الهلال " والجمع بين هاتين الجملتين مشكل؛ فإن ظاهر قوله: إلى رأس الهلال، إيقاع القضاء قبل رأس الهلال، ومعناه بسط الأداء على الأوقات المتقدمة على رأس الهلال وقوله: (عند) يقتضي الضم، والتقديمُ يفوّت البرّ.
وقد تعرض المزني بعد نقل الجمع بين الكلمتين للاعتراض الذي ذكرناه، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فقال المحققون: إن كانت المسألتان مطلقتين، فلا شك أن الفقه ما ذكره المزني، وإن زعم أنه أراد بقوله: "إلى رأس الهلال " مع رأس الهلال، ففي قبول ذلك وجهان:
أحدهما: أنه لا يقبل، فإنَّ (إلى) صريح في المدّ والبسط والتأقيت والحدّ، وهي مناقضة للضم والجمع.
والثاني: أن ذلك مقبول منه؛ فإنَّ (إلى) لا يمتنع إطلاقها بمعنى الجمع إذا لم تكن قرينة، قال الله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}[آل عمران: 52] معناه مع الله وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] معناه مع أموالكم.
وهذه الطريقة غير مرضيّة؛ فإن (إلى) محتملة لمعنى مع؛ فإذا نوى الحالف ذلك، فلا معنى للاختلاف في القبول؛ فإنا نكتفي في محامل الأيمان بالله تعالى بمواقع التديين في مسائل الطلاق والعتاق.
وقد ذكر بعض أصحابنا وجهاً أن مُطلَق هذا اللفظ محمولٌ على معنى (عند) لما ذكرنا، وقد أشار القاضي إلى هذا الوجه، وكل ذلك خبط، فالوجه القطع بالفرق بين المسألتين في الإطلاق، والمصيرُ إلى أنه لو نوى الجمع، نزلت يمينه على نيته، وما سوى ذلك وإن ذكره الأئمة، فلا وجه له.
ومما يبلغ منّي المبلغ التّام استشعاري أن تجري الوجوه على نسق واحد، ويكثر فيها الهفوات وترك نقلها إخلال بالمبسوطات، وترك التنبيه على ما ذكرتُه خبط وتخليط.
11789- ثم قال: ولو قال: "إلى حين، فهذا ليس بمعلوم"، والأمر على ما قال، فإذا قال: لأقضين حقّك إلى حين، انبسط هذا على منتهى أمَد الإمكان من غير تحديد.
ولو قال: إلى دهرٍ، أو إلى حِقَبٍ، أو إلى عصرٍ، أو إلى وقتٍ، فكل ذلك منبسط على الأبد وأقصى الأمد، وإنما يتحقق الحنث عند تحقق التعذر، وفي الفصل على ظهوره غائلةٌ، لابد من التَّنْبيه لها، والتوصُّلِ إليها مع أن إيضاح الغرض يحصل بسؤال وجواب: فإن قيل: قد ذكرتم في مسائل الطلاق أنه إذا قال الرجل لامرأته: إذا مضى حين، فأنت طالق، فإذا مضى أقل زمان قُضي بوقوع الطلاق، فإذا قال: لأقضينّ حقك إلى حين، وجب أن ينبسط القضاء على الحين الذي إذا انقضى وقع الطلاق بانقضائه في قوله: "إذا مضى حين، فأنت طالق " والدليل عليه أنه إذا قال: إذا مضى شهر، فأنت طالق، فيقع الطلاق إذا مضى شهر كامل، فلو قال: لأقضين حقك إلى شهر، انبسط القضاء على شهر، فَليَكُن القول إلى حين على هذا النسق.
وهذا مشكل جداً، ويمكن فرض لفظ المضي في اليمين بالله تعالى، فإذا قال:
إذا مضى حينٌ، لأقضين حقك، فيجب القضاء بأن البرّ في إيقاع القضاء بعد أدنى وقت، كما أن الطلاق يقع بعد أدنى وقت إذا قال: "إذا مضى حين، فأنت طالق " وليس ينقدح في هذا جواب يستقيم على موجَب اللّسان، إلا أن الأيْمان منزّلة على العرف، فإذا قال: لأقضين حقك إلى حين، اقتضى هذا فُسحةً من غير ضبط في النهاية، وإذا ثبتت فسحة عرفية من غير نهاية، اقتضى ذلك أبد الأبد، والمعنيّ بالأبد مدّة البقاء، وتصوّر القضاء، ولو طلب طالب أن يحمل لفظ الطلاق على أمثال ذلك، لم يقبل منه، وللتعبد في صريح الطلاق أثر بيّن، فهذا ما نراه.
ووراء هذا سؤالان:
أحدهما: أنه إذا قال: إذا مضى حين لأقضين حقك، فمقتضى ما ذكرناه الفسحة بخلاف الطلاق، فإذا قال: والله لأقضين حقك إذا مضى حين، كان ذلك على الأبد، وهذا مما لا يجوز غيره، فقد اتضح الغرض في اليمين، وارتدّ الإشكال إلى الطلاق.
فإن قيل: هلا قلتم: إذا قال: "إذا مضى حين، فأنت طالق " لا يقع الطلاق بأقل وقتٍ يمضي؟ قلنا: هذا الآن إشكال في الطلاق، والممكن في الانفصال عنه أن الطلاق إيقاع، والبرّ والحنث تحقيقُ موعد أو إخلاف موعد، وفي الطباع عدم القطع بالخلف ما أمكن محملٌ في التصديق، والطلاق إيقاع، فيعتمد أوائل الصفات، والمشكل في الطلاق أنه إذا قال: "إذا مضى دهرٌ، فأنت طالق"، يقع الطلاق بانقضاء أقل وقت، وهذا أمرٌ لا أهتدي إليه، وقد أبديت فيه خبطاً في كتاب الطلاق.
فصل:
قال: "ولو حلف لا يشتري، فأمر غيره... إلى آخره".
11790- إذا حلف لا يشتري، أو لا يتزوج، أو لا يطلق، أو لا يبيع، فلو وكل بهذه الأشياء، فتعاطاها الوكيل بإذنه، لم يحنث الموكِّل.
ولو قال: "لا أضرب فلاناً"، وكان ممّن يتعاطى مثلُه الضربَ، فأمر غيره حتى ضرب، لم يحنث، وإن كان محتشماً لا يتعاطى الضرب بنفسه، فأمر غيره حتى ضرب، فالنصّ، وما إليه مصير الأصحاب أنه لا يحنث، إذا كان اللفظ مطلقاً، وقال الربيع: إذا حصل الضرب بأمر من لا يتعاطى الضربَ، كان ذلك بمثابة صدور الضرب منه.
وهذا وإن ألحق بالمذهب بعيدٌ، لا تعويل عليه، ثم إنما يجري في الفعل الذي وصفناه وأمثاله، فأما العقود، فيتعاطاها العظماء والأماثل.
ولو قال الرجل: لا أبني بيتاً، وكان لا يحسن البناء، أو لا أطين السطح، وهو ممن لا يُحسنه، فتخريج الربيع في أمثال هذه الصورة أظهر.
ولو قال: لا أتزوج، فانتصب وكيلاً، وقبل نكاح امرأة لموكله، لم يحنث، وليس ما جاء به تزوّجاً منه، وإنما هو سفارة، والنكاح مضاف إلى الموكل، وسِرُّ الفصل أنه عقد اليمين على التزوج المطلق، ولا يصح من الوكيل بالتزوج مطلقُ لفظ التزوج حتى يضيفَه، وما لا يستقل إلا مضافاً لا يندرج تحت المطلق الذي لم يضف.
والغرض من هذا يبينُ بصورتين، فإذا قال زيد: لا أتزوج، وقال عمرو لا أتزوج، ثم وكل زيد عمراً حتى يقبل له نكاح امرأة، فلا يحنث الموكل، ولا الوكيل، أما الموكِّل؛ فلأنه، لم يتعاط التزوّج، بل تزوّج الوكيلُ له، وأما الوكيل لم يتزوج مطلقاً، فلم يحنث واحد منهما، وقد قطع الأصحاب بهذا في الطرق.
11791- وذكر الصيدلاني هذا على هذا الوجه، فوافق الأصحابَ، ولكن وقع في كتابه ما يخالف هذا صريحاً، وأنا أذكره على وجهه، وأُنبه على الزَّلل فيه: قال: ولو قال: "والله لا أكلم امرأة تزوجها زيد، فقبل وكيل زيد له امرأةً، فكلمها الحالف، حنث". هكذا قال، ثم أكّد وعَلَّل، وكرّر، وأنا أسوق معنى كلامه، قال: المعني بالتزوج التسبب إلى تحصيل الزوجة، ولا أثر للتعاطي فيه، والموكِّل قد حصل على زوجةٍ إذا قبل الوكيل النكاح له، ثم قال: التزوج في مجرى العرف بمثابة التَملُّكِ، ولو قال: لا أكلم عبداً ملكه زيد، فوكل زيد وكيلاً حتى اشترى له عبداً، فإذا كلمه الحالف، حَنِث؛ بخلاف ما لو قال: لا أكلم عبداً اشتراه زيد، فإذا وكل وكيلاً حتى اشترى له عبداً، لم يحنث الحالف بمكالمته.
هذا كلامه، وهو على القطع خطأ على المذهب، والأصحاب بأجمعهم نصّوا على خلاف ذلك، وقَضَوْا بأنه إذا حلف لا يكلم امرأة تزوجها فلان، فوكل فلان من يقبل له نكاح امرأة، لم يحنث الحالف بمكالمتها، ولست أنكر أن ما ذكره الصيدلاني وجهٌ من الكلام، ولكنه مذهب أبي حنيفة رضوان الله عليه؛ فإنه فصل بين لفظ التزوج ولفظ الشراء، فقال: التزوج في اليمين محمول على تحصيل الزوجة إما بتعاطي القبول، وإما بالتوكيل به إذا قبل الوكيل، بخلاف الشراء، والعجب أن الصيدلاني ذكر بعد هذا الردّ على أبي حنيفة رضي الله عنه في التزوج، وجاء بما يناقض هذا الكلام، فلا اعتداد إذاً بما ذكرناه له، وهو هفوة أطلنا الكلام في بيانها، فإنا (مجموعه) في المذهب معتمد؛ فما يندر فيه من زَللٍ يوشك أن يُعتمد، فأبلغنا في التنبيه لذلك.
11792- ولو قال: "والله لا أشتري " فاشترى له وكيله، لم يحنث وفاقاً، ولو قال الوكيل: والله لا أشتري، ثم توكل واشترى لموكله مطلقاً، ولم يسم الموكِّل، ولكنه نواه، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه يحنَث، وإن لم يملك ما اشترى، لأنه يُسمّى مشترياً، وقوله: "اشتريت " يناقض قوله: "والله لا أشتري " ويمينه مطلقة، وقوله في إنشاء العقد مطلق.
وذكر القاضي هذا الوجه كما ذكره الأصحاب، وذكر من طريق التخريج وجهاً آخر أنه لا يحنث؛ لأنه مستناب، وليس مشترياً لنفسه، والعقد ينصرف إلى موكله، فكان انصرافه إليه شرعاً بمثابة صرفه العقد إليه لفظاً.
ولا شك أن الكلام مفروض في اليمين المطلقة، وهذا التردد في الوكالة بالشراء، وما في معناه من العقود التي لا يشترط ذكر الموكِّل فيها، والوكيل بالتزويج خارج عن ذلك؛ لأنه يسمي موكله لا محالة. نَعم، لو قال: "والله لا أزوج فلانة " ثم توكل وزوجها وكيلاً تزويجاً صحيحاً، حَنِث في يمينه؛ لأنه زوجها حقاً، والتزويج بالوكالة كالتزويج بالولاية في الصيغة وحكم الاسم، والوكيل بالتزويج بمثابة الوكيل بالبيع، وإنما يختلف البابان في الوكيل بالتزوج والوكيل بالشراء.
فصل:
قال: "ولو حلف لا يفعل فعلين... إلى آخره".
11793- قد تبين في مسائل الطلاق أن من علق الطلاق بشرطين فصاعداً، لم يقع الطلاق إلا باجتماع الصفات والشرائط، والسبب فيه أن الشرائط إذا عُقّبت بالجزاء، اقتضت صيغةُ الشرط ارتباط الجزاء بجميع ما تقدم شرطاً، وما يسميه الفقهاء تعليقاً هو الشرط بعينه.
فإذا وضح هذا، رجعنا إلى غرضنا في اليمين، فإذا قال مشيراً إلى رغيفين: "والله لا آكلهما " أو صرّح، فقال: "لا آكل هذين الرّغيفين"، لم يحنث ما لم يأت عليهما جميعاً، لأنه علق يمينه على التثنية، فتعلّق البر والحنث بهما.
ولو قال: والله لا آكل هذا الرغيف، وهذا الرغيف، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يحنث إلا بأكلهما، كَمَا لو عبر عنهما بصيغة التثنية قائلاً: لا آكل هذين الرغيفين.
وهذا قد يعترض فيه إشكال من جهة أن المعطوف إذا ارتبط بفعلٍ صُدّر الكلام به، كان صدر الكلام في حكم المستأنف مع المعطوف، فإذا قال الرجل: رأيت زيداً وعمراً كان التقدير رأيت زيداً ورأيت عمراً، فإذا قال: والله لا آكل هذا الرّغيف، وهذا الرغيف، أو قال: والله لا آكل هذا الرغيف ولا أكلم زيداً، فالتقدير: والله لا آكل هذا الرغيف، والله لا أكلم زيداً، ولو كرر اليمين تحقيقاً، لانفردت كل يمين عن الأخرى، ولاستقلت كل واحدة بمعقودها ومقصودها، ثم ترتب عليه أنه يحنث بأحد المذكورين في اليمين المربوطة به، وليست صيغ الأيمان بمثابة صيغة الشرط، هذا هو السؤال، وأقصى ما ذكره الأصحاب أن الاسم المعطوف على الاسم بمثابة الاسمين المجموعين في صيغة التثنية، هذا وجه التنبيه، والإشكالُ قائم في المسألة، وما قطع به الأصحاب ما نقلته، والعلم عند الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو قال: والله لا أشرب ماء هذه الإداوة... إلى آخره".
11794- إذا قال: لأشربن ماءَ هذه الإداوة، فالبر في شرب الكل، وإذا قال: لا أشرب ماء هذه الإداوة، لم يحنث إلا بالنزف، وشُربِ الكُلِّ، وإن قال: لأشربن من ماء هذه الإداوة، فالبر يحصل بشرب البعض؛ فإن (مِنْ) صريح في اقتضاء التبعيض، ولو قال: لأشربن ماء هذا النهر، فلا شك أن استيعاب ماء النهر بالشرب غير ممكن، فإذا كان لفظه مطلقاً على هذا الوجه، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: هذا عقد يمين على غير ممكن، ولا يتأتى طلب البرّ فيه، كما لو قال: لأصعدن السماء، هذا وجهٌ، وهذا القائل يقول: لو شرب من ماء النهر، لم يبرّ.
ومن أصحابنا من قال: قوله لأشربن ماء النهر معناه لأَرِدَنَّه، ولأشربن من مائه، ومن شائع الكلام: فلانٌ شرب الدِّجلة، معناه شرب منها.
11795- ثم جمع الأئمة فصولاً في الباب متماثلة قريبة المأخذ، ونحن نذكرها ونستعين بالله تعالى، فإذا قال: لأصعدن السماء، فقد قال محالاً، ولكن يلزمه الكفارة على الفور، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه يحكم بانعقاد يمينه، ثم يحكم بانحلالها، وسبب الانعقاد أنها معقودة على المستقبل، والله تعالى قادر على أن يُقدر عبده على الرُّقي في السماء، ولكنا أَيسنا من حصوله، فانعقدت اليمين بما قدمناه من انتظام اللفظ، وانتجز الحِنث لليأس من البرّ.
وقال قائلون: تجب الكفارة، ولا نحكم بانعقاد اليمين؛ فإن سبب حَلِّها مقترن بها لو قُدّر حَلٌّ وعَقْد، وهذا القائل يقول: الكفارة إنما تلزم إذا حَنِث الحالف في اليمين المنعقدة على ممكن، لمخالفة المحلوف عليه الحلف، ومن قال: لأصعدن، فمعنى الحنث قائم، والرجل منتسب إلى ترك التعظيم.
ولو قال: "لأقتلنّ فلاناً"، وهو عالم بأنه ميت، فقد قال أصحابنا: هذا بمثابة ما لو قال: لأصعدن السماء، وبمثله لو قال: والله لأشربن ماء هذه الإداوة، ولم يكن فيها ماء، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: اليمين لا تنعقد، بل تلغو، ولا تجب الكفارة، وليسَ كالحلف على الصعود؛ فإن في مقدور الله تعالى الإقدار على ذلك، وكذلك قتل الميت مقدور لله تعالى، بتقدير أن يحييه ليقتله الحالف، وأما شرب ماء الإداوة ولا ماء، فمستحيل كيف قدر.
وذهب الأكثرون إلى أن الكفارة تلزم، ثم اختلفوا في أن اليمين هل تنعقد أم لا.
11796- ولم يختلف الأصحاب في أن من قال: "والله ما قتلت وما فعلت " وكان قد فعل أن الكفارة تلزم، وهذه يمين الغموس، وليس من الحزم أن نسلم للخصم انتفاء الكفارة إذا قال: لأشربن ماء الإداوة بناء على أن الماء معدوم، ولو فتحنا هذا الباب، ونفينا الكفارة إذا كان المحلوف عليه بحيث يستحيل تصويره، فيلزم منه أن نقول: إذا قال الحالف على الماضي: "والله ما فعلت"، وكان فعل، لا يلزمه الكفارة؛ لأن ما فعله يستحيل أن يقدّر عدمه بعد وجوده، وليس ذلك من المقدور، فيجب انتفاء الكفارة. وقد أجمع الأصحاب على وجوب الكفارة في يمين الغموس.
فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه وجوب الكفارة في يمين الغموس، ثم لا يتجه عندنا الحكم في الغموس بالانعقاد، فإنا إن كنا نمنع انعقاد عقد لاقترانه بما يحله، فالغموس في عينه خُلف، فيستحيل فرض الانعقاد فيه، ولكن وجوب الكفارة لا يتوقف عندنا على تقدير عَقْدٍ وحَل، كما قررناه في (الأساليب).
وإذا حلف ليفعلن ما لا يستريب أنه ممتنع، ولكنّ وقوعَه ليس خارجاً عن قبيل المقدورات، فالكفارة تلزم، وفي الحكم بالانعقاد خلاف أشرتُ إليه، ومعظم الأصحاب على أن اليمين تنعقد، وتنحل، كما انعقدت على الفور، وهذا كقوله: لأصعدن السماء، أو لأقتلن فلاناً، وكان ميتاًً، وإن كان الحلف على محال ليس فيه إمكان، فالمذهب وجوب الكفارة، ثم لا يتجه الحكم بانعقاد اليمين بل يجب صرف وجوب الكفارة إلى مخالفة التعظيم-على حكم الخُلْف- لاسم الله تعالى المذكور تأكيداً على صيغة الحلف.
ومن أصحابنا من لم يوجب الكفارة، لانحسام مسلك الإمكان من كل وجه.
ولو قال: "والله لأصعدنّ السماء غداً " ففي تحنيثه في الحال خلاف مشهور بين الأصحاب، وقد قدمنا توجيه الخلاف بما فيه مقنع.
ومن الصور المعترضة أنه لو قال: لأقتلن فلاناً، وكان يحسبه حياً، ثم تبيّن أنه كان ميتاً حالة الحلف، فقد قال الأئمة: في وجوب الكفارة قولان مأخوذان من تحنيث الجاهل والناسي، ووجهه أنه عَقَد اليمينَ وهو يعتقد الإمكان، فخرج الخلاف على ما قدمناه، وليس كما لو كان على علم من موته، فإنه يكون مجرداً قصده إلى عقد اليمين على ممتنع.