فصل: باب: من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه:

قال الشافعي: "من حلف على غريمه ألا يفارقه... إلى آخره".
11797- إذا حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفيَ حقَّه، فلا يخفى ما يتعلق من البر، والحنث بفعل الحالف إن فارقه مختاراً ذاكراً، أو ناسياً، أو مكرهاً، ولا يخفى الحكم لو اختُطف، وحُمل، وفرّق بينه وبين الغريم، وغرض الفصل الكلام فيه إذا كانت المفارقة من الغريم المحلوف عليه، ولأصحابنا طريقان: فذهب الأكثرون إلى أن الغريم الذي ذكره الحالف لو فارق، لم يحنث الحالف؛ لأنه لم يعقد اليمين على فعل الغريم، وإنما عقد اليمين على فعل نفسه، ولم يوجد منه فعل في المفارقة، ثم صور الشافعي فرار الغريم وترك المسألة على العادة، فإن من يبغي ملازمة غريمه لا يترك غريمه يفارقه على اتئادٍ، وإنما تقع المفارقة فيه على هيئة الفرار، ولكن لو لم يتفق فرارٌ، وفارق الغريمُ على التؤدة، والحالف ماكث لا يبرح، فلا يحنث أيضاً على هذه الطريقة، لما ذكرنا من أنه لم يوجد منه فعل، ثم لا نظر إلى فرار الغريم، ولا إلى اتئاده، فإن فعله ليس محلوفاً عليه. هذه طريقة.
وذكر صاحب التقريب، وبعض المصنفين أن الغريم إذا فارق مكان الحالف متمكناً من مساوقته، فمكث، ولم يساوقه، كان ذلك بمثابة فعله في الفراق؛ فإنّ ترك المصاحبة مفارقة، والشاهد لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام علق لزوم البيع بتفرق المتبايعين عن مجلس العقد، إذ قال: "ما لم يتفرقا " ثم لو فارق أحدهما المجلس، ومكث الثاني، كان ذلك تفرقاً منهما بمثابة ما لو أخذ كل واحد منهما صوباً، وافترقا بأبدانهما، ثم قال هؤلاء: هذا فيه إذا كان الحالف الناكث على استمكان واختيار، فتَرَكَ المساوقَة، فأما إذا فرّ غريمه، وعجز عن مساوقته، فهذا يُخرّجُ على قَوْلَي الإكراه.
وهذه الطريقة مستهجنةٌ لا أصل لها، والمعتمد المسلكُ الأول، لما قدمناه.
11798- ثم إذا فرعنا على الطريقة الأولى، فلو كان الحالف وغريمه يتماشيان مصطحبين، وصورة الحلف كما تقدم، فوقف الحالف، والغريم على سجيته في المشي، فقد نقل عن القاضي أنه يحنث بالوقوف في هذه الصورة، وليس كما لو كانا ساكنين في مكان، ففارق الغريمُ، واستدام الحالف السكونَ، وذلك لأن الحالف إذا سكن في المكان الذي كان فيه، فإنه ليس مستحدثاً صنفاً من الفعل يصير به منتسباً إلى الفراق. وإذا كانا يتماشيان، فوقف عن المشي، كان ذلك إحداثَ فعلٍ مؤثر في الفراق، فلا يبعد أن يسمّى فراقاً؛ فإن الواقف عن المشي قد يقول: كنت أماشي فلاناً، فوقفت، وفارقته، وقد لا يتحقق هذا فيه إذا كانا في مكان ساكنين فمشى أحدهما وسكن الثاني.
وهذا عندنا تخييل لا حاصل له، ولا يجوز أن يكون بين وقوفه عن المشي، وبين استدامته السكون في المكان؛ فرقٌ؛ فإنه في الموضعين تارك مصاحبة الغريم مع التمكن منها.
ومما نفرعه على الطريقة الأولى أنه لو قال: "لا أفترق أنا وأنت أو نفترق". فعقد اليمين على هذه الصيغة، ولم يقل: لا أفارقك، فإذا فارق الحالفُ، حَنِث، وإن سكن الحالف، وفارق الغريم، ففي المسألة وجهان: أظهرهما-وهو الذي لا يتجه غيره- أن الحالف يحنث؛ لأنه عقد اليمين على فعليهما، إذ قال: لا نفترق، ومكثه مع مفارقة غريمه يسمى افتراقاً، وعليه يخرّج قول الرسول صلى الله عليه وسلم في خيار المجلس: "ما لم يتفرقا"، فيجتمع في هذه الصورة ارتباط المحلوف عليه بهما، وتمكن الحالف من المصاحبة، ويتسق لذلك انطلاق اسم التفرق أو الافتراق.
ومن أصحابنا من قال: لا يحنث إذا لم يكن الفراق من جهته، وهذا بعيد وإن كان مشهوراً في الحكاية؛ إذ لا خلاف أن هذا لا ينزل منزلة قول القائل: "والله لا نتناظر "؛ فإنه لو نزل هذه المنزلة، لاشترط في تحقيق الحنث أن يتفرقا بأبدانهما حتى يقال: على موجبه لو فارق الحالف، ومكث الغريم، لا يحنث؛ فإن قيل: إنه يحنث مذهباً واحداً، تبين بذلك انفصال التفرق والافتراق عن التناظر لو فُرِضَ محلوفاً عليه.
هذا مقصود الفصل.
11799- ثم وصل الأصحاب بذلك صُوراً تستند إلى الأصول المقدمة، فقالوا: إذا حلف لا يفارق غريمه، فقضى القاضي بفَلَس الغريم، وألزم الحالفَ مفارقته، فهذا يلتحق بوجود المحلوف عليه على صفة الإكراه، وفيه القولان، ولو فَلَّسه الحاكم، أو تحقق للحالف فَلَسُه، ورأى ملازمته محظورة، وما ألزمه القاضي مفارقته، فإذا فارقه، حَنِث، ولا نجعل علمَه بفَلَسه بمثابة ما لو أجبر على مفارقته.
ولو حلف كما وصفنا، فاستوفى في ظاهر الحال حقّه، وكان دراهم، فتبيّن أنها مستحقة، أو خرجت زُيوفاً، فهذه مفارقة قبل استيفاء الحق؛ فإن كان عالماً، فهو حانث، وإن كان جاهلاً بحقيقة الحال، ففي المسألة قولان مأخوذان من الجهل والنسيان.
ولو حلف لا يفارق حتى يستوفي حقه، فاعتاض عن حقه عوضاً وفارق، فقد نقل المزني عن الشافعي أن العوض الذي أخذه إن كان يساوي مقدار حقه، لم يحنث، ثم أخذ يعترض ويقول: أخذ عوض حقه ولم يأخذ حقَّه، واليمين معقودة على استيفاء الحق، وقد أجمع الأصحاب على أن المذهب ما ذكره المزني، والحالف يحنث، ثم اتفقوا على أن الخلل جاء من جهته، والشافعي حكى ما ذكره مذهباً لمالك، ولم يقل به، ولم يصر إليه.
ولو أبرأ غريمه عن حقه، حنث بنفس الإبراء، وكذلك لو أبرأه عن بعض حقه، حنث وإن قل قدره، لتسببه إلى تفويت البرّ.
11800- ثم قال: "لو حلف ليقضينه حقه غداً، فقضاه اليوم، حِنَث... إلى آخره".
إذا حلف من عليه الحق ليقضينه غداً، ثم إنه ابتدر، وقضى في اليوم-واليمينُ مطلقة- حَنِث لتفويته البرَّ بتعجيله القضاء، وهذا بيّن، وكذلك لو قضى مما عليه بعضه، فالبر يفوت.
ولو قال: لأقضين حق فلان غداً، فأبرأه مستحق الحق، والتفريع على الأصح- وهو أن الإبراء لا يفتقر إلى القبول- فقد تعذر البرّ في الغد على حكم الإكراه، فيخرج القولان، وإن قلنا: لا يصحُّ الإبراء ما لم يقبل المبرأ عنه، فقبل الحالف، حَنِث قولاً واحداً بتسببه إلى الحنث بسبب القبول، ولا معنى لتكثير الصور، بعد ذكر خاصية الباب.

.باب: من حلف على امرأته لا تخرج إلاّ بإذنه:

11851- مضمون هذا الباب من مسائل الطلاق، ولكن المزني وضعه في هذا الكتاب، وفي الباب مسألتان إحداهما- أنه إذا قال لامرأته: إن خرجت من الدار إلا بإذني أو بغير إذني، فأنت طالق، فلا يخفى حكم المسألة في البر والحنث، فلو أذن لها، فخرجت بالإذن، لم تطلق، ثم قال الشافعي: "إذا خرجت مرة بالإذن، انحلت اليمين على البرّ، فلو عادت، وخرجت مرة أخرى مراغِمةً، من غير استئذان، لم تطلق.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا تنحل اليمين بخروجها الأول مع الإذن فيه، وهذا هو القياس؛ فإن اليمين إنما تنحل إذا جرت صورة الحنث، حيث لا يجد الطلاق نفاذاً، مثل أن يعلّق طلاق امرأته بدخول الدار، ثم يُبينها، ثم تدخل الدار بعد البينونة، وفي هذا خبط وتخليط، ذكرته في موضعه، فإذا خرجت بالإذن، فليس ما أتت به مُخالفة، فاليمين باقية في خروجها بغير الإذن، فإذا خرجت بغير الإذن، فهذا أول مخالفتها.
وتوجيه مذهب الشافعي عسرٌ عندي، وحكى شيخي قولاً مُخرَّجاً مثلَ مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان يُفتي به، وَوَدِدتُ لو وجدتُ هذا القول في طرق الأصحاب، وهو على اتجاهه في القياس غريب، لم أره إلا لشيخي.
11802- ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار لابسةَ حرير، فأنت طالق، فدخلتها ولا حرير عليها، لم تطلق فلو دخلت بعد ذلك، لابسةَ حرير، طلقت، هكذا ذكره الأصحاب، ثم طلبوا الفصل بين هذه المسألة، وبين ما إذا قال: إن دخلت الدار بغير إذني، فأنت طالق، ولا فرق عندنا قطعاً بين المسألتين؛ فإن الدخول في المسألة الأولى إنما كان متعلقاً بالطلاق إذا كان موصوفاً بالمراغمة، فكأن الطلاق علق بالدخول وصفةٍ منضمّةٍ إليه، وهو بمثابة ما لو قال: إن دخلت الدار لابسةَ حريرٍ، فدخلتها ولا حرير، ثم دخلتها ثانية لابسةَ حريرٍ، وإذا لم يكن للشافعي نص في مسألة الحرير فأي حاجة إلى تصويرها وتسليمها وتكلف فرق لا ينتظم قط.
هذا أحد مقصودي الباب.
11803- المقصود الثاني- أنه إذا قال: إن خرجت من الدار بغير إذني، فأنت طالق، ثم أذن لها، ولم تشعر، فخرجت على قصد المراغمة مثلاً غيرَ شاعرة بجريان الإذن من الزوج، فهذا عند المحققين يقرب مأخذه من بيع الوكيل ما وكل ببيعه، وقد عزله الموكِّل من حيث لا يدري، ولكنْ توجيه هذا الخلاف في اليمين على نسق آخر، والظاهر أنها لا تطلق؛ فإنها خرجت بعد الإذن.
ومن أصحابنا من قال: إنها تطلق؛ فإن ظاهر اليمين منعها عن الاستبداد بالخروج والمراغمة به، وإذا لم يبلغها الإذن، فخروجها على نعت المراغمة وقصد المخالفة.
هذا مأخذ الكلام.
ويمكن أن يقال: هذا الخلاف يقرب مما إذا قال لها: إن خرجت، فأنت طالق، وظهر أنه قصد منعها من الخروج، فلو نسيت اليمين وخرجت، ففي وقوع الطلاق قولان.
وقد ذكرتُ هذا وأمثاله في كتاب الطلاق، ووجه التشبيه أنها إذا خرجت ناسية، فليس خروجها على حكم المخالفة، ويمكن أن يقال: قصد الزوج بالطلاق أن يمنعها مما يدخل في وسعها، وليس يدخل في الوسع طرد النسيان.
هذا منتهى المراد من ذلك.

.باب: من يعتق عليه من مماليكه إذا حنث:

قال الشافعي: "من حلف يعتق ما يملك... إلى آخره".
11804- إذا قال: مماليكي أحرار، دخل تحت لفظه العبيد، والإماء، والمدبرون، وأمهات الأولاد، والظاهر أن المكاتب لا يدخل، لما ثبت له من الانحياز والاستقلال بالنفس، وفي المسألة قول آخر أنه يَعتِق؛ لأنه مملوكٌ ما بقي عليه من النجم شيء، والمستولدة وإن ضعف الملك فيها، فاحتكام السيد جارٍ عليها، وإنما ينحسم من تصرفاته فيها البيع والرهن.
وإذا قال: عبيدي أحرار، لم يدخل الإماء على ظاهر المذهب، وهذا هو الذي يجب القطع به.
وذهب ضعفة الأصحاب إلى إدخالهن؛ من جهة أن العبودية تشمل الإماء، ويسوغ أن يقول الرجل: استعبدتها، كما يسوغ أن يقول: استرققتها، وقد نطقت العرب بتسمية الأمة عبدة، وهذا وإن كان جارياً في فنه، فليس على مأخذ الأيمان، فإن الإماء لا يُرَدْن في العرف بإطلاق اسم العبيد، والتعويل الأظهر في اليمين على غلبة العرف.
ثم ذَكَر في الباب مسائل من عَوْد الحِنْث، ولَسْنا لها، وذكر فيه أنه لو قال لعبده: إن بعتك، فأنت حر أنه إذا باعه، عَتَق أخذاً من القول في خيار المجلس، وكل ذلك مما تمهد وتقرر في الأصول السابقة.
فصل:
قال: ْ " ولو قال: إن زوّجتك، أو بعتك، فأنت حر... إلى آخره".
11805- إذا عقد اليمين على عقدٍ وأطلق، فاليمين محمولة على العقد الصحيح، فلو قال: لا أبيع، أو لا أشتري، أو لا أتزوج، ثم صدرت منه صورة عقد من هذه العقود على الفساد، لم يحنث، فإن الفاسد ليس عقداً، وكذلك لو قال: "لأبيعن " لا يبرّ إلا بالبيع الصحيح، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ولو قال الزوج: لا أبيع مالَ زوجتي، أو قالت الزوجة ذلك في مال زوجها، ثم انفرد الحالف بالبيع من غير إذن، فلا شك في فساد البيع، ثم ما صار إليه الأصحاب أنه لا يتعلق به الحِنث؛ بناءً على ما مهدناه، وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهاً بعيداً أن الحنث يحصل، لأن أحد الزوجين قد يتبسط في مال الثاني، فإذا أطلق اليمين على ما وصفناه، ظهر أنه عنى بذلك ترك الانبساط بالبيع، وإن كان على الفساد.
وهذا بعيد، لا أصل له، ولا يسوغ خرمُ المذهب بمثله.
ولو قال: والله لا أبيع مال فلان، فهذا محمول على البيع الصحيح، ولو قال: لا أبيع ماله بغير إذنه، فباعه بغير إذنه على الفساد، فالذي قطع به الأصحاب أنه لا يحنث، وصاحب التقريب يُجري الوجهَ الضعيفَ في ذلك؛ فإنه قد يظهر من غرض الحالف الانكفاف عن صورة التصرف من غير إذن.
ولو قال: والله لا أبيع الخمر، فقد قال الأئمة: إذا قال: بعت هذه الخمر، لم يحنَث لأن البيع في اليمين محمول على الصحة، وبيع الخمر فاسد، ولو قال: لأبيعن الخمر، لم يبرّ بصورة البيع، فهو كما لو قال: لأصعدن السماء.
وقال المزني: إذا قال: لا أبيع الخمر، حنث ببيعها؛ فإنه لا يقصد إلا الامتناع عن صورة البيع، وإلا فالخمر لا يصح بيعها، وهذا الذي ذكره منقاس متجه، ولا شك أن الوجه الضعيف الذي ذكرناه عن صاحب التقريب في بيع مال الغير يجري هاهنا؛ فإنه إذا قال: لا أبيع مال الغير بغير إذنه، فصاحب الوجه الضعيف يحمله على صورة البيع، وهذا في الخمر أوجه وأظهر.
ولو قال: لا أشتري شراءً فاسداً، أو لا أبيع بيعاً فاسداً، فلا وجه عندنا، إلا القطع بأنه يحنث بصورة البيع والشراء، وإن جرت على الفساد؛ لأنا إن حملنا مطلق العقد على الصحيح، فمقيده بالفساد كيف يتوقع حمله على الصحيح، وإذا امتنع تقدير خلاف في هذا، فيظهر معه مذهب المزني في منع بيع الخمر.

.باب: جامع الأيمان الثاني:

قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا حلف لا يأكل الرؤوس... إلى آخره".
11806- إذا حلف لا يأكل الرؤوس، فالذي أطلقه الشافعي رضي الله عنه والأصحاب معه أنه لا يحنث بأكل رؤوس الطير والحيتان، وبناءُ الفصل على اتباع العرف، ومن قال: أكلت الرأس، أو لم آكله، لم يُفهم من مطلق كلامه التعرض لرؤوس الطير والحيتان، وسبب اطراد هذا العرفِ أن الناس في جميع البلاد لا يعتادون إفراد رؤوس الطير بالشيّ، أو الطبخ، أو الأكل، وإنما اتسق ما ذكرناه لاطراد العادة بأكل رؤوسٍ تفردُ بالشيّ والطبخ، فكان انتظام ما ذكرناه متلقى من اعتياد أكل رؤوس على الإفراد، وعدم ذلك في رؤوس الطير والحيتان فلا يُنكِر أحدٌ أن اسمَ الرأس ينطلق في صريح اللغة على رأس الطائر والحوت، ولكن لما لم يفرد بالأكل، لا يفرد بالذكر، والتعويل على العرف إذا غلب، وهذا هو المذهب.
وذكر صاحب التقريب ما ذكرناه، وجعله معوّل المذهب، وحكى قولاً آخر أن اسم الرأس يحمل على رأس الطائر والحوت تمسكاً بحقيقة اللغة، وليس اسم الرأس مزالاً مماتاً عما عدا النَّعم، ولكن ما اعتاد الناس إفراد رؤوس غيرها، وهذا لا يغير اللغة الشائعة الحقيقية. ولم أر هذا القول لغير صاحب التقريب، ولا عود إليه بعد ذلك.
فإذا قال: لا آكل الرؤوس، حَنِث بأكل رؤوس الغنم، فإنه معتاد بكل مكان، وأطلق الشافعي التحنيث بأكل رؤوس البقر والإبل، وإنما بنى هذا على اعتياد طوائِفَ من الناس أكلَها في بعض البلاد. والذي يتحصل من هذا الفصل بعد حط القول الذي حكاه صاحب التقريب في جميع الرؤوس طرقٌ: أحدها: أن الحنث يحصل برؤوس النَّعم في جميع البقاع، ولا يحصل الحنث بغيرها.
والثاني: حكاه صاحب التقريب أن الحنث لا يحصل إلا برؤوس الغنم؛ فإنها هي المفهومة من إطلاق الرؤوس المفردة على الإطلاق.
والطريقة الثالثة-وهي أعدل الطرق- أن كل بقعة يُعتاد فيها إفراد رؤوس بالأكل، فمطلق اسم الرؤوس فيها محمول على ما يُعتاد في تلك البقعة، حتى لو اعتاد طائفةٌ أكلَ رؤوس الظباء وغيرِها من الصيود-حيث تكثر الصيود-، فإذا أطلق الحالفُ منهم اسم الرؤوس، دخل تحتها ما يعتادون إفراده بالأكل من تلك الرؤوس. هذا قولنا فيهم.
فأما غيرهم من أهل البلاد والقرى إذا كانوا لا يعتادون إفراد تلك الرؤوس التي ذكرناها بالأكل؛ فاسم الرؤوس في أيمانهم هل يتناول تلك الرؤوس التي يعتاد أكلها أهل ناحية؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن الاسم في حقهم لا يتناولها اعتباراً بعادتهم.
والثاني: اسم الرؤوس في حق الكافة يحمل في الإطلاق على الرؤوس التي يأكلها أهل ناحية. والترتيب للعراقيين، استاقوه كذلك، وهو حسن.
والوجهان مأخوذان من الخلاف فيه إذا حلف القروي لا يدخل بيتاً، فدخل الخباء والخيام، ووجه التقريب لائح؛ فإن اسم البيت حقيقة في وضع اللسان للخيام والأخبية، وقد جرى بذلك عرفٌ على حسب اللسان، فإذا استعمل أقوام اسم البيت، وهم لا يساوون أهل اللسان في عرفهم، فينشأ الخلاف المقدم، كذلك اسم الرؤوس في أصل الوضع يتناول كل رأس، فإذا انضم إليه عرف أهل ناحية، التحق بإطلاق اسم البيت، فهذا بيان الطرق من جهة النقل.
ولا بد من عطف البحث عليها.
11807- أما من أدرج رؤوس النعم وأخرج ما سواها، فهذا محمول على اعتقاد هؤلاء أن رؤوس الإبل مأكولة في بعض البلاد، ورؤوس البقر أعم من رؤوس الإبل، ورؤوس الغنم يعتاد أكلها في طَبَقِ الأرض، فبنى هؤلاء المذهب على ما وجدوه في الاعتياد، ولم يتكلموا على التقدير.
ومن قدّر أكل رؤوس الصيود، استوعب الكلام على الموجود والمقدر، وما عندنا أن أهل الطريقة الأولى ينكرون الكلام على هذا التقدير لو روجعوا فيه، وما حكاه صاحب التقريب من التخصيص برؤوس الغنم مخالفة، وكأنَّ صاحب هذه الطريقة يعتبر العموم، ولا يعتبر الحكم بما يندر من الأكل في رؤوس الإبل والبقر. ولو روجع هذا القائل في تقدير عموم الأكل في بعض النواحي، لم ينكر نزول الاسم على ما يعم أكله. والذي يختص هذا القائل به أنه لا يحكم على أهل البلاد بما يندر فيهم، وغير هؤلاء يقولون: إذا كان الشيء مفرداً مأكولاً-وإن كان لا يعم- كان بمثابة لحم الإبل بالإضافة إلى لحم الغنم في كثير من البلاد. وعلى الجملة لا معنى لاعتبار العموم، ورَجَع حاصلُ الكلام إلى المنهج الأعدل الذي ذكرناه للعراقيين في الخلاف والوفاق.
11808- وإذا قال الحالف: "لا آكل اللحم"، لم يحنث بالحيتان، وإن كانت تعم؛ فإنها حيث تعم لا تسمى لحماً مطلقاً، فمأخذ الكلام فيها من الاسم لا من الاعتياد، وأما الرؤوس، فالاسم لجميعها حقيقة، ومأخذ الكلام فيها من اعتبار الإفراد حتى ينزل عليها مطلق اسم الرؤوس إفراداً.
11809- ومما يضاهي الرؤوسَ، البيض. قال الشافعي: إذا حلف لا يأكل البيض، حمل لفظه المطلق على كل بيض يزايل البائض: كبيض الدجاج، والوز، والبط، ونحوها وأراد إخراج بيض الحيتان؛ فإنها لا تُلقى مزايلةً، فتؤكل، وإنما توجد في بطونها، واسم البيض على الإطلاق لا يتناول بيضَ الحيتان، كما لا يتناول اسم اللحم عند الإطلاق الحيتان.
ثم قال الأئمة: البيض التي لا تفرد بالأكل اعتياداً، وإن كانت تزايل البائض كبيض العصافير والحمام ونحوها، فهي بالنسبة إلى البيض التي يعتاد أكلها كرؤوس الطير بالإضافة إلى الرؤوس التي تفرد بالأكل اعتياداً، وإنما ذكر الشافعي مزايلة البيض البائضَ ليُخرج بيضَ الحيتان، لا ليدخل بيض العصافير، هذه الطريقة المرضية.
وفي كلام بعض الأصحاب رمز إلى إجراء نص الشافعي على حقيقته في كل بيض يزايل بائضه، وهذا يضاهي طريقةَ صاحب التقريب في إدخاله جمنة الرؤوس تحت اسمها المطلق في الأيمان.
فصل:
قال: "ولو حلف لا يشرب سويقاً، فأكله... إلى آخره".
11810- مضمون هذا الفصل الكلام على الأكل والشرب والذوق. فإذا كان الحلف على الأكل، لم يقع الحنث بالشرب، وإذا كان على الشرب، لم يقع الحنث بالأكل. وإذا كان اللفظ الجاري شاملاً لهما، وقع الحِنث بالأكل والشرب.
وبيان ذلك بالتفصيل: أن من قال: لا آكل السويق، فلو استفّه، حَنِث. وكذلك لو لتّه بسمن أو ماء، ولم ينته إلى الانمياع، وكان يتعاطاه أكلة أكلة، فهذا الأكل، ولو ماثه وخلطه بالماء الكثير حتى انماع وتحسّاه شرباً، فهذا شرب، وليس بأكل، والذي يتردد الرأي فيه أن يكون خاثراً يتأتى تعاطيه بالملاعق، ويتأتى تحسّيه على ثخونته، فكيف الوجه؟ هذا محتمل عندي: يجوز أن يقال: تحسّيه شربٌ في حكم البر والحنث، ويجوز أن يقال: يتناوله اسم الأكل والشرب جميعاًً. والإهالة الخاثرة وإن كان تتحسى لا يبعد انطلاق اسم الأكل فيها، والعلم عند الله.
ولو قال في يمينه: لا أطعم أو لا أتناول، عمّ ذلك الأكلَ والشربَ. ولو قال بالفارسية " نخورم " تناول الأكل والشرب. ولو قال: والله لا آكل، فإذا أدرك الطعم وازدرد منه المقدار الذي يزدرده الذائق، فهذا ليس أكلاً ولا شرباً، هذا ذكره القاضي الأصحاب.
ولو حلف لا يذوق، فأدرك الطعم، ثم مجّ ما ذاقه ولفظه، بحيث لا يفطر الصائم، ففي حصول الحنث وجهان:
أحدهما: لا يحصل؛ فإن الذوق لا يطلق حقيقة إلا عند وصول شيء نَزْرٍ إلى الباطن، فإذا مج، ولفظ، يقال: أدرك الطَّعْم، والأصح أنه ذائق وإن لم يزدرد.
ولو قال: لا أذوق، فأكل وشرب، فالأصح أنه يحنث؛ فإنه ذاق وزاد، وأبعد بعض الأصحاب فيما نقله بعض المصنفين، وقال: لا يحنث إذا أكل وشرب؛ فإن اسم الذوق يستدعي اقتصاراً، فإذا استتم الإنسان أكلاً، لا يقال ذاق، وهذا تخييل لا حاصل له.
ولو قال: لا آكل السكر والفانيذ، فوضع سكرة أو فانيذة في فيه، وترك حتى ذاب، وابتلع الذائب؛ فالذي ذهب إليه الأكثرون أن هذا ليس بأكل؛ فإن الأكل إنما يجري فيما يمضغ ويردّد ويزدرد.
ومن أصحابنا من قال: هو أكل، وهذا متجه؛ فإن الذي فعل ما وصفناه لا يقال: شرب السكر، ولو مضغ وازدرد الرضاض، فهو آكل، وإن مضغ حتى انماع بمضغه، ففيه الخلاف، والحنث هاهنا أولى لجريان المضغ.
ولو قال: لا آكل العنب والرمان، فاحتوى بفيه على المحلوف عليه ولم يزدرد من الثُّفْلِ شيئاً، فقد قال القاضي: لا يحنث، وفيه الاحتمال الذي ذكرته، في انمياع السكر والفانيذ؛ فإن من كان يمجّ الثُّفْلَ يسمى آكلاً للرمان والعنب، والمتبع في الأيمان خاصةً العرفُ والإطلاقُ لا حقاًئقُ الصور. نعم، لو جمع ماء الرمان والعصير وشربهما، فليس أكلاً، ولو قال قائل: ليس المصّ شرباً، ولا آكلاً، كما أن الذوق ليس أكلاً ولا شرباً، لكان ذلك قولاً، ولم يصر إليه أحد فيما أظنه.
11811- وفيما قدمته من المسائل دقيقة، يجب التنبيه لها، وهي أن من قال: لا آكل، فالحنث يحصل بالقليل والكثير، وإذا كان كذلك، فالمقدار الذي يتجرعه الذائق، لم يخرج عن الأكل والشرب مع قول الأصحاب؛ فإن الحنث يحصل بالقليل حصولَه بالكثير، وإذا جمع الجامع بين هذا وبين ما ذكره الأصحاب من أن ما يحصل به الذوق ليس حنثاً في الأكل، ولا في الشرب، تنشّأ له بعد هذا التنبيه مسلكان:
أحدهما: أن المقدار الذي هو على حد الذوق ليس أكلاً ولا شرباً، وإنما يحصل الأكل والشرب بعد ذلك. ثم ينقسم إلى القلة والكثرة.
والمسلك الثاني- أن يقال: الزائد على حد الذوق لا يعتبر فيه القصد، وهو أكل أو شرب، والقدر الذي يحصل الذوق به قد يختلف الأمر فيه بالقصد؛ فإن قصد الأكل ولم يَبغْ درك طعمه، فهو آكل أو شارب، وإن قصد به درك الطعم، فهو ذائق، وليس بآكل ولا شارب. فهذا هو الممكن عندنا في ذلك.
فصل:
قال: "ولو حلف لا يأكل سمناً، فأكله بالخبز... إلى آخره".
11812- إذا حلف لا يأكل سمناً، وكان ذائباً فتحسّاه، لم يحنث، لأنه شرب وما أكل، وإن كان جامداً، فأكله على جموده، فهو آكل، ولا يشترط في اسم الأكل المضغُ والترديد، بل لو بلعه على جموده فهو أكل.
ولو قال: لا آكل السمن، فأكله في العصيدة أو الفالوذ، فهذا يستدعي تمهيدَ أصل يتضح به ما انتهينا إليه وأمثالِه، فنقول: من عقد اليمين على جنسٍ، فاختلط ذلك الجنس بغيره؛ فهذا يفرض على وجوه: أحدها: أن يختلط اختلاطاًً يصير مستهلكاً بحيث لا يظهر أثره في الحسّ، فإن كان كذلك، فلا يحصل الحنث، فإذا قال: لا آكل السمن، فاستعمل السمن في الدقيق والماء، وكان يُعَصِّد ويُلوي على النار، حتى لم يبق جرم السمن محسوساً، ولم يبق له أثر مدرك، فالحكم ما ذكرناه.
ولو بقي أثره كالطَّعم واللون، ولكن استجد ذلك المختلط اسماً، وكان لا يفرد أركانه المختلطة بالاسم، ففي حصول الحنث وجهان، إذا كان يتحقق الأكل فيه، والحلف على الأكل، أو كان يتحقق الشرب فيه، والحلف على الشرب. ولو كان ما حلف عليه ممتازاً في الحسّ، كالسمن الممتاز عن العصيد، فإذا أكل العصيد والسمن معه، فالمذهب أنه يحنث. وحكى العراقيون عن الإصطخري أنه قال: لا يحنث؛ لأن الأكل إذا أضيف في صيغة اليمين إلى جنس، اقتضى إفرادَه بالأكل، وهذا ضعيف مردود عليه.
ونقل القاضي والعراقيون عنه أنه لو حلف لا يأكل السمن، فأكله مع الخبز لا يحنث، وهذا على نهاية البعد، فإن السمن لا يؤكل إلا كذلك، ولا يُتَعاطى وحده فيُبلع، وقوله في أكل السمن بالخبز أبعدُ من قوله في أكل العصيد مع السمن الظاهر.
ولو قال: والله لا آكل الخل، وكان يروغ اللقمة فيه، فهذا أكلٌ، وإن كان الخل مائعاً في نفسه، ولكن إذا تشربه الخبز تناوله اسمُ الأكل.
ولو حلف لا يأكل الخل، فاتخذ منه مرقة وأكلها بالخبز، فقد نص الشافعي أنه لا يحنث في يمينه، وأطلق ذلك. ولم يفصّله، فصار معظم الأصحاب إلى أنه إن كان طعمه ظاهراً في المرقة، فالحنث يحصل، قال صاحب التقريب: من أصحابنا من يجري على ظاهر النص، ويقول: لا يحنَث؛ لأن الاسم قد تغير باتخاذ المرقة، فلا يقال لمن أكل السّكباج: إنه أكل الخل، بخلاف السمن المتميز الحائر على العصيد، وهذا ذكره صاحب التقريب وزيّفه، وفي المسألة احتمال على حال.
فصل:
قال: "ولو حلف لا يأكل لحماًً، فأكل شحماً... إلى آخره".
11813- إذا حلف لا يأكل لحماً، لم يحنث بأكل الشحم، نعني ما على الثِّرب، والمِعَى، والكُلى، ولا نعني سَمن اللحم.
ولو حلف لا يأكل الشحم، لم يحنث بأكل اللحم الأحمر، ولو حلف لا يأكل اللحم، فأكل الأَلْية؛ ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا يحنث، كما لا يحنث بأكل الشحم؛ فإن الألية تتميز عن اللحم تميّز الشحم.
ولو قال: لا آكل الشحم، فأكل سَمْن اللحم، وهو ما يعلو اللحم الأحمر، وقد يوجد في خلله أيضاً، فهذا يستدعي بيانَ مقدمة: فإذا قال: لا آكل الشحم، هل يحنَث بأكل سمن اللحم؟ ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهين:
أحدهما: أنه يحنث؛ فإنهما يقربان صورة وطعماً. والثاني-وهو الأصح- أنه لا يحنث؛ فإن اسم الشحم لا ينطلق عليه عرفاً. ثم قال الشيخ: من أدرجَه تحت اسم الشحم يقول: لو قال: لا آكل اللحم، لم يحنث بأكل السمن. وهذا بعيد.
وحكى الشيخ عن أبي زيد المروزي أنه قال: إن قال ذلك عربي، فالسمن في حقه شحم، وإن قاله أعجمي، فهو لحم، ثم لا يخفى التفصيل إذا اختلف عُرف أهل اللسان، وأصحاب القرى والبلاد، وهذا فيه إذا استعمل القروي لغة العرب.
فأما إذا عقد اليمين على الاسم الأعجمي للشحم، فقال: "بيه نخورم"، فهذا لا يتناول سمن اللحم. والأصحُّ من بين ذلك أن سمن اللحم جزء من اللحم، لا يتناوله اسم الشحم، فيرجع الخلاف إلى الأَلْية بالإضافة إلى اللحم، ولا تكون الألية شحماً على الطريقة المرضية. وسنام البعير فيه بمثابة الألية من الشاة، وليس كالشحم.
ولو حلف لا يأكل لحماًً، فالمذهب أنه لا يحنث بأكل الكرش والأمعاء والكبد والطِّحال والرئة؛ فإن شيئاً من ذلك لا يسمى لحماً. وحكى الشيخ أبو علي عن الشيخ أبي زيد أنه حكى في هذه الأشياء كلِّها قولين عن ابن سريج:
أحدهما: أنها بجملتها تُعدّ في حكم اللحم. وهذا غريب جداً، لم يحكه غيرُ الشيخ، ولم يتعرض في هذه الطريقة للشحم. وقد وجدت اتفاق الأصحاب على أن اللحم لا يتناول الشحم.
وإذا حلف على اللحم وجرينا على ما هو المذهب في إخراج الأصناف التي ذكرناها عن اسم اللحم، فالحالف على اللحم هل يحنث بأكل القلب؟ فيه وجهان:
أحدهما:وهو الذي ذكره الصيدلاني- أنه يحنث؛ فإن القلب لحم. والثاني-وهو الذي قطع به العراقيون- أنه لا يحنث بأكل القلب، كما لا يحنث بأكل الكبد؛ فإنه لا يسمى لحماًً، والمسألة محتملة، والكُلية عندي في معنى القلب، وقد قدمنا أن الكبد خارج عن اسم اللحم.
11814- ولو حلف لا يأكل اللبن، حَنِث بالرايب، وإن صار قارصاً؛ فإن العرب تسميه لبناً تحقيقاً.
ولو حلف على اللبن، فأكل الزُّبْد، فإنه لا يحنث على المذهب، وذهب بعض الأصحاب إلى أنه يحنث؛ لما في الزُّبد من الرغوة، وهذا ليس بشيء؛ فإن المتبع الاسم، كما قدمناه، ولو حلف على اللبن، لم يحنث بالسمن، ولو قال: لا آكل زُبداً، أو لا آكل سمناً، فأكل اللبن، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين، وهذا ليس بشيء، والوجه القطع بأنه لا يحنث.
ولو ذكر اللبن ثم تعاطى المَخيض الذي انتزع السمن منه، ففي المسألة وجهان، وسبب الخلاف أن العرب في بلادها تسمي المخيض لبناً، وتسمي اللبن-قبل أن يُمْخَضَ- الحليبَ، والصريف.
ولو حلف لا يأكل الزُّبد، لم يحنث بالسمن، ولو حلف لا يأكل السمن، فالمذهب أنه لا يحنث بالزبد، وفيه وجه غير معتد به، ولو حلف لا يأكل السمن، لم يحنث بالأدهان. ولو عقد اليمين على الدّهن، فهل يحنث بالسمن؟ تردد فيه جواب القاضي، والمختار عندنا أنه لا يحنث.
وإن قال بالفارسية: "روغن " تناول السمن والأدهان.
11815- وإن حلف على الجوز قال القاضي يحنث بجوزنا، ويحنث بالجوز الهندي، وإذا حلف على التمر، لم يحنث بالتمر الهندي- هكذا قال، وهو حسن؛ فإن اسم التمر لا يطلق فيه ما لم يضف إلى الهند، ولهذا اتجاه في الجوز الهندي أيضاً، ولكنه في التمر الهندي أظهر.
والعرب لا تسمي التمر الهندي تمراً، وإنما تسميه الحُمَر، فإن عورضنا بتسمية الجوز الهندي الرانج، فالعرب لا تعرف ذلك، وأنا أراه اسماً معرباً؛ وليس في الأبنية الأصلية ما يتركب من الراء والنون والجيم.
ومما ذكره القاضي أنه إذا حلف لا يأكل لحم البقر، حَنِث بأكل بقر الوحش.
ولو قال: لا أركب حماراً، فركب حمار الوحش، ذكر القاضي فيه تردداً، وليس يبعد إجراء هذا التردد في بقر الوحش.
ثم قال: "ولو كتب إليه كتاباً أو أرسل إليه رسولاً... إلى آخره".
11816- إذا حلف لا يكلم فلاناً، فرمز رمزاً مُفهماً، وأشار إشارة مفيدة، فقد ذكر الأصحاب في تحنيثه قولين:
أحدهما:وهو المنصوص عليه في القديم- أنه يحنَث؛ لأن هذا كلامُ قومٍ، والعبارات دلالات كالإشارات، واحتج على ذلك باستثناء الرمز من الكلام في قوله تعالى في قصة زكريا عليه السلام.
والقول الجديد أنه لا يحنث بالرمز؛ فإنه لا يسمى كلاماً، ومن فرّع مسائل الأيْمان على غير اتباع الاسم والعرف، فهو حائد عن وضع الكتاب، وإذا فرّعنا على الجديد، فقد يتردد الفطن في إشارات الخُرس؛ من جهة أنا نقيم إشاراتهم مقام عبارات الناطقين، فيما يفتقر إلى النطق، وهذا مما حذرت منه الآن؛ فإنه تمسك بالأحكام التي قد تبنى على الضرورات ومسيس الحاجات.
والوجه القطع بأن الخرس إذا ترامزوا، لم يكن ذلك منهم كلاماًً، فإنما إشاراتهم خَلَفٌ عن العبارات، وعلى هذا إذا أشار الأخرس في الصلاة، فمن جعل الإشارة كلاماًً وحنَّث بها، فلا يبعد أن يقضي ببطلان صلاة الأخرس إذا باع في الصلاة، أو طلّق بالإشارة.
والكتابةُ في جميع ما ذكرناه في معنى الإشارة؛ فإنها وإن كانت تُفهم، فليست كلاماًً، فيجري فيها القولان والتفصيل.
وقال الأصحاب: المهاجرة التي حرّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين-وهي قطع المكالمة- لا تزول بالمكاتبة. ولو حلف ليهاجرن فلاناً، ثم كتب إليه، لم يحنث وفاقاً، وهذا بيّن للمتأمل. وإذا رمز إلى صاحبه، ففي قطع المهاجرة بالرمز تردد عندنا، والعلم عند الله.
فإن قيل: من ألحق الكتابة بالكلام، كيف لا يقطع المهاجرةَ بها؟ قلنا: رب شيء يكون كلاماً، فلا يقطع المهاجرة، كالشتم والسب، وكل ما يوغر القلب بشيء من ذلك لا يقطع المهاجرة، وإن كان كلاماًً، ولو قال: لا أكلم فلاناً، فزجره على إثر اليمين، كان ذلك مكالمة مُحْنِثة. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن اتصل الزجر بالحلف، لم يقع الحِنث به، وإن انفصل عنه، حَنِث.
ولو قال: لا أتكلم، فقرأ القرآن، أو سبّح، وهلّل، فقد قال الأصحاب: لا يحنث- وهذا ظاهر في قراءة القرآن، ولو قال: لا أتكلم، فأخذ يردد شعراً، كان ذلك كلاماً، ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يحنث بالتسبيح والتهليل، وفيه احتمال، أخذاً مما ذكرناه من إنشاد الشعر وما في معناه.
فصل:
قال: "ولو حلف لا يرى منكراً إلا رفعه إلى القاضي... إلى آخره".
11817- إذا قال لا أرى منكراً إلا رفعته إلى فلان القاضي، فإذا رأى منكراً وأراد البر، فليرفعه إليه إذا تمكن، وإن أخر الرفع، ثم رفع إلى من عَيَّنَ مع اطراد الولاية، برّ في يمينه؛ فإنه ليس في لفظه ما يتضمن تعقيب رؤية المنكر بالرفع، ولو تمكن من الرفع، ولم يرفع إلى من عَيَّنَ حتى مات ذلك الشخص، يحنث حينئذٍ. ولو رأى المنكر ولم يتمكن من الرفع حتى مات، فقولان.
ولو رأى وابتدر الرفع غير مؤخِّرٍ، فمات القاضي قبل انتهاء الرفع إليه، ففي المسألة طريقان:
أحدهما: القطع بأنه لا يحنث، ومن أحاط بما جمعناه في فصل الإكراه والنسيان، وذكرناه في ترتيب المسائل بعضِها على البعض، لم يخف عليه أمثالُ ما نحن فيه.
ولو عُزل القاضي ورأى منكراً بعد عزله، فهل يتعلق البر برفعه إليه بعد العزل؟ إن كانت له نية في تخصيص الرفع بحالة القضاء أو في تعميم الرفع في الأحوال، فلا خلاف أن نيته متبعة. وإن كان لفظه مطلقاً، ففي المسألة قولان مأخوذان من تمييل الشافعي قوله، فأنه قال: "إذا لم يكن له نية، خشيت أن يحنث"، يعني إذا لم يرفع بعد العزل، وهذا الاختلاف مأخوذ من الإشارة والوصف في قول القائل: لا آكل لحم هذه السخلة، فإذا كبرت، ففي الأكل من لحمها الكلامُ المقدم. فإذا قال: إلى فلان القاضي، فتسميته بمثابة الإشارة، والقضاءُ وصفه.
ولو قال: لا أرى منكراً إلا رفعته إلى قاضٍ، لم يتعين عليه قاضٍ، ولا أثر لموت من مات، وفوت من فات، ولو قال: لا أرى منكراً إلا رفعته إلى القاضي، فهل يتعين لهذا الشأن القاضي الذي في البلد وقتَ التلفظ؟ فعلى وجهين مذكورين في بعض التصانيف.
وفي المسألة احتمال إذا كان اللفظ مطلقاً؛ من جهة اقتضاء الألف واللام التعريف، والتعريف يتردد بين صاحب الأمر المنتصب في المكان والزمان، وبين الجنس، وهذا أغلب وأوقع. وهو كقول القائل: القاضي لا يداهن، ولا يفضل خصماً على خصم، فليس المراد بهذا معيناً. ولكن المراد الكلام على جنس القضاة، ولو قال: "إلى فلان القاضي"، فعُزل، رأينا أن الرفع إليه بعد العزل لا يدخل تحت مطلق اليمين.
فلو كان رأى منكراً في حالة قضائه، ولم يرفعه حتى عزل، فلو وُلّي بعد العزل، رفعه إليه؛ فإن الشخص ذاتُ الشخص، والولاية محققة، على هذا إذا عُزل لا نقطع بالحنث، ونحن ننتظر أن يولَّى مرة ثانية.
وإن قال: أرفعه إلى القاضي، فلو مرّ القاضي بمنكر وعاينه، فهل يرفعه إليه؟ نُظر: فإن كان مع القاضي، فيبعد أن يقال: يرفعه إليه؛ فإنهما مشتركان في الاطلاع على المنكر، ولو رآه القاضي وحده، أو رفع إليه لا من جهة الحالف، فهل يرفعه الحالف؟ فيه تردد للأصحاب: منهم من قال: يرفعه للبرّ. ومنهم من قال: لا معنى لرفعه؛ فإن معنى الرفع إعلامُه بما ليس عالماً به، ثم إن قلنا: يرفعه، فلا كلام، وبرّه في الرفع، وإن قلنا: لا ينفع رفعُه، فهذا مما تعذر البرّ فيه، فكأنه كما لو قال: لأشربنّ ماء هذه الإداوة، ولا ماء فيها.
فصل:
قال: "ولو حلف ما له مالٌ... إلى آخره".
11818- إذا حلف على المال انصرف إلى كل ما يتمول، ويتهيأ للتصرفات التي تستدعي الملك، وهل ينصرف لفظ المال إلى أمهات الأولاد والمكاتبين-واللفظ مطلق- فعلى ثلاثة أوجه: وجهان عامّان في النفي والإثبات. والثالث: أن المكاتب لا يدخل؛ لاستقلاله، وأم الولد تدخل، والمدبر عبد يعتق كسائر العبيد، وما ذكرناه في كتاب السرقة من سرقة أمهات الأولاد يدنو مما نحن فيه، وإن كان معتمدُ اليمين الاسمَ، وحكم المالية في السرقة معتبرٌ على نسق آخر.
وأجمع الأصحاب في الطرق أن المنافع لا تندرج تحت مطلق اسم المال، فلو كان لا يملك إلا منافعَ بقعة استأجرها، فهي خارجة عن اسم المال، إلا أن تُعنى وتُنوى، و إذا كان للحالف على المال شيءٌ موقوف عليه، فإن قلنا: لا يملك الموقوف عليه رقبةَ الوقف، فلا حِنث إذا قال ما قال. وإذا قلنا: الموقوف مِلكُ الموقوف عليه، فهذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه في أمهات الأولاد.
والديون أموال وإن كانت على معسرين أو مماطلين، وهي بمثابة العبد الآبق، ولم يختلف الأصحاب في الآبق، وإن ترددوا في المكاتب، والعَوْد إلى الرق في المكاتب منتظر، حسب انتظار إياب الآبق.
وردّد بعض الأصحاب الجواب في الدين المؤجل أخذاً من إبعاد بعض الناس في أن الدين المؤجل هل يكون مملوكاً؟ وهذا هوس لا يعتدّ به. وكيف لا يكون المؤجل مملوكاً، وهو يثبت عوضاً في البيع مع استحالة تعرّيه عن العوض المملوك.
ثم لا يختص المال عندنا بأموال الزكاة، ولْتدخل تحته جميع الأصناف، حتى الثياب التي على الحالف، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: المال في اليمين محمول على الأموال الزكاتية، وربما يقول: إنه محمول على الدراهم والدنانير.
فصل:
قال: "ولو حلف ليضربن عبده مائة سوط... إلى آخره".
11819- إذا قال لعبده: "إن لم أضربك مائة سوط فأنت حرّ " فكيف الحكم فيه؟ هذا الفصل خارج عن قياس الكتاب بعضَ الخروج على ما سننبّه عليه في أثناء الكلام، فإذا حلف ليضربنه مائة خشبة، فيبرّ في يمينه بأن يضربه بشمراخ عليه مائة من القضبان، وإن كانت دِقاقاً، وهذا متفق عليه، والأصل المعتمد قوله تعالى في قصة أيوب عليه السلام- وكان حلف ليضربن امرأته مائة خشبة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44].
واتفق العلماء على أن هذا معمول به في ملّتنا، والسبب فيه أن الملل لا تختلف في موجب الألفاظ، وفيما يقع برّاً وحنثاً، ثم تأكد ذلك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في المخدَج الذي خَبَث بامرأة؛ فأنه قال: "خذوا عثكالاً عليه مائة شمراخ، فاضربوه به"، ولا يكاد يخفى أنا كنا لا نطلق القول على هذا الوجه لولا ما ثبت من التوقيف فيه، ولو لم نجد إلا حديث المُخْدَج، لما بنينا عليه أمر اليمين، فقد تأكد الغرض بقصة أيوب، كما ذكرناها.
ثم إذا كان قال: لأضربن مائة خشبة، فالوضع لا يكفي، فإنه لا يسمى ضرباً، ولا يشترط ضرباً يؤلم مثله ألماً محتفلاً به، بل يكفي ما يسمى ضرباً.
ثم إذا تحقق اسم الضرب، فلابد من أدنى أثر، وإن كان محتملاً، ثم إن كانت القضبان منبسطة فلاقت بجملتها الجلد إذا وقع الضرب بها، فقد حصل البرّ، وإن لقي البشرةَ بعضُها، ولم يتكابس الباقي عليها بحيث تثقل التي لاقت البشرة، فلا يحصل البِرُّ، وإذا تكابست القضبان العالية على التي لاقت البشرة، وثقَّلتها بعضَ التثقيل، ففيه خلاف مشهور بين الأصحاب: فذهب بعضهم إلى أن البِرَّ لا يحصل، لأن أدنى درجات الضرب أن تلقى الآلةُ المضروبَ. وقال آخرون: يكفي التكابس، والتثقيل، وهذا القائل يستشهد بقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} والغالب أن قضبان الضِّغث لا تنبسط، فجريان الاكتفاء في الضرب بالضغث يدل دلالة ظاهرة على أن المماسّة في الجميع ليست شرطاً.
ومما يجب التنبه له أنا أجرينا في أثناء الكلام ذكر مماسّة القضبان البشرة، ولم نعن بها حقيقة المماسّة، ولكن لو صادف الضربُ المضروبَ وبين القضبان والبشرة قميص أو ما في معناه، فالضرب يحصل على شرط أن لا يمنع الحائل تأثر البشرة، وإن لم يعظم أثره.
ومن حلف ليضربن رجلاً، فلا يشترط أن ينال موضعاً بارزاً منه، ولكن لو ضرب المحلوفَ عليه بيده أو بآلة، وتأثر المضروب، كفى ذلك، وإن كان بينه وبين ما يقع الضرب به حائل.
11820- وإذا اكتفينا في مسألة الشمراخ بأن يَلْقَى البدنَ بعضُ القضبان، وينكبس البعض على ما لقي المضروب انكباس تثقيل، فوقع الضرب، وأشكل الأمر، فلم ندر أحصل الانكباس أم لا؟ وإن شرطنا المماسّة، لم ندر أحصل المماسةُ أم لا؟ فالذي نص عليه الشافعي هاهنا أنه لا يحنث، ونص في مسائل الاستثناء على أنه لو قال: لا أدخل الدار إلا أن يشاء زيد، فمات زيد ولم يدر أشاء أم لا؟ وكان دخل الحالف: قال الشافعي: يحنث.
واختلف أصحابنا على طريقين: منهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج والجامعُ الإشكال. ومنهم من أجرى النصين، وفرّق، فقال: إذا حصل الضرب، فالغالب الانكباس إن اكتفينا به، فوجدنا لوقوع المقصود أصلاً نتخذه مستنداً للظن، والتعويل في مسألة المشيئة على أن يشاء زيد، ولم يتحقق أنه شاء أم لم يشأ؟ والأصل عدم المشيئة، ولا مستند لما نظنُّ، أما مسألة المشيئة، فقد استقصيناها في موضعها من كتاب الطلاق، وذكرنا حقيقتها.
وأما هذه المسألة، فالنص فيها، يقتضي أنا نبني الأمر على حصول المقصود، فالوجه عندنا أن يقع الضرب على حالة يغلب على الظن حصولُ المطلوب فيها، فلو لم يغلب على الظن، فيبعد اعتقاد البِرّ من غير ظن.
ثم من جرى على النص، ولم يذكر قولاً آخر، لم يتوجه ما قاله بإسناد المقصود إلى ظاهر الضرب، وإنما يتوجه بظاهر كتاب الله تعالى إذا قال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، فأثبت الضرب، ونفى الحنث؛ والمسألة مبنية على طرفٍ صالح من التخفيف والرخصة. وإذا كان المعتمد في ذلك الكتاب، فينبغي أن يقع الاقتصار على ما يُشعر به ظاهر الكتاب، فأما تعليل ذلك بالظن مع القطع بأن البر لا يتحصل في قياس الباب إلا بالقطع، فلا وجه له.
فإن قيل: إن كان كذلك فلم اشترطتم غلبة الظن؟ قلنا: لا أقل منها، والضغث إذا تحقق الضرب به وقضبانه لدنة لينة المَهْصَر والمِعْطف، فيغلب على الظن-إذا كان ما جاء به الحالف ضرباً، ولم يكن إمساساً محضاً- أن المقصود يحصل إذا كانت الآلة مُتهيِّئة لما ذكرناه، وكل هذا، ولفظ الحالف لأضربنه مائة خشبة.
11821- فأما إذا قال: لأضربنه مائة سوط، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه لا يكفي-واللفظ ما ذكرناه- الشمراخ ذو القضبان الضعاف، فإنه لا يسمى سياطاً، وهذا بيّن.
وذكر شيخي وجهاً آخر أن لفظ السياط ولفظ الخشبات لا يختلف، فإن السوط منه دقيقٌ ومنه متوسط، والباب مبني على التخفيف كما ذكرناه، وليس في معتمد الباب- وهو ظاهر الكتاب- ما يُشعر بالفصل بين لفظ الخشب والسوط.
فإن اكتفينا بالشمراخ، فذاك، وإن لم نكتف واشترطنا ما يسمى سوطاً، فلو جمع مائة سوط، وضرب بها دفعة واحدة، كان هذا بمثابة الضرب بالشمراخ، حيث يكون اللفظ الخشبة، ثم يعود التفصيل في أنا هل نشترط الإمساس في جميع السياط-على ما فسّرناه- أم نكتفي بمماسة البعض وانكباس البعض على وجه يثقل؟ وكل هذا إذا قال: مائة خشبة، أو مائة سوط.
11822- فلو قال: لأضربنه مائة ضربة، فقد قال الأصحاب: لابد من الضربات المتوالية؛ فإن الرجل اعتنى بإضافة العدد إلى الضرب، فلتقع الضربات على الاعتياد فيها متوالية: الضربة بعد الضربة، حتى تنتجز الضربات المذكورة.
وذكر العراقيون وجهين- حيث انتهى الكلام إليه:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: أنه لو أوقع الضربات بالسياط معاً كفى.
ثم كيف فرض الأمر، فلا يشترط الإبلاغ حتى يحصل الألم الناجع، ولابد من أدنى أثر، وإن كان محتملاً حتى يتميز الضرب عن الإمساس المحض والوضع.
ولو قال: لأضربن ضرباً شديداً، فلابد من الإيلام الناجع، ثم لا حد يقف عنده في تحصيل البِرِّ، والرجوعُ إلى ما يسمى شديداً في العرف، وهذا يختلف لا محالة باختلاف حال المضروب، والله أعلم.
وهذا نجاز مقصود الفصل.
فصل:
قال: "ولو حلف لا يهب له هبة، فتصدق... إلى آخره".
11823- إذا حلف على الهبة حنث بالرُّقبى والعُمْرى والنِّحلة والتصدق، وإن كان التصدق يمتاز عن الهبة التي ليست تصدقاً، ولكن لفظ الهبة يتناول التصدق في أصل اللسان.
ولا يحنَثُ الحالف على الهبة بالعارية؛ لأنها ليست تمليكاً.
وإن وقف على الشخص المذكور، ابتنى هذا على أن الوقف هل يتضمن تمليك الموقوف عليه رقبةَ الموقوف؟ فإن قلنا: لا يملك الموقوف عليه الرقبة، لم يحصل الحنث بالوقف، وإن قلنا: يملك الموقوف عليه رقبةَ الموقوف، فيقع الحنث بالوقف.
وهذا فيه احتمال عندي ظاهر؛ من جهة أن الوقف لا يسمى هبة في وضع اللسان وعرُفه، وإن تردد الفقهاء في أنه هل يقتضي تمليكاً أم لا؟ والمعتمد في الأيْمان العرف واللسان، فيجب تخريج خلاف على قولنا يملك الموقوفُ عليه رقبةَ الوقف، وليس الوقف كالرقبى والعمرى؛ فإنها من الهبات تحقيقاً، وإن أُفردا بلقبين، وسبيلهما كسبيل اختصاص ثمرة التفاح باسمها، وهذا لا يخرجها عن تناول اسم الثمار لها. والله أعلم.
وإذا حلف لا يهب، فوهب وقبِل المتهب، فهل يتوقف الحنث على الإقباض؟ اختلف أصحابنا فيه على ما حكاه القاضي: فقال بعضهم: يحنث؛ لأن اسم الهبة يتم بهذا القدر، وقال آخرون: لا حقيقة للهبة حتى يتصل بها القبض؛ لأن القبض هو الركن، وبه حصول المقصود، والألفاظ تعنى لمقاصدها.
وقد ذكر العراقيون الخلاف على وجه آخر، فقالوا: إذا حصلت الهبة والقبول، فالذي جرى هبة في حكم الحنث والبر، بلا خلاف، وإنما التردد فيه إذا قال الحالف وهبت، فهل نقول: يحصل الحنث بمجرد قول الواهب قبل القبول؟ قالوا المذهب أن هذا ليس بهبة، وحكَوْا عن ابن سريج وجهاً أنه إذا قال: لا أهب، ثم وهب، حصل الحنث، وإن لم يقبل المتهب، مصيراً إلى أن الإنسان قد يخبر عما جرى، ويقول: وهبت لفلان، فلم يقبل مني، ولا شك أنهم يطردون هذا الخلاف في البيع وغيره من العقود المشتملة على الإيجاب والقبول.
ولو قال: لا أهب، ثم أضاف الشخص المذكور، وقدم إليه الطعام؛ فإن لم يأكله، فلا حنث، وإن أكله، فهذا يخرج على أن الضيف هل يملك ما يأكله؟ إن قلنا: إنه لا يملكه، فالذي جرى ليس بهبة، وإن قلنا: إنه يملك، ففيه تردد واحتمال، من جهة حصول الملك من وجه، وبُعد ما جرى عن اسم الهبة من وجه، والوجهُ القطع بأن الحنث لا يحصل.
11824- ولو كان المحلوف عليه التصدق مثل أن يقول: لا أتصدق، فلو وهب، ولم يقصد التصدق الذي يقع التقرب به، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أنه لا يحنث؛ لأن الهبة لا تسمى صدقة، وإن كانت الصدقة تسمى هبة.
ومن أصحابنا من قال: يحنث بالهبة؛ فإنها تمليك من غير عوض، وهي في الاسم قريبة المأخذ بالإضافة إلى الصدقة، وهذا لا وجه له، والوجه ألا يحنث بالهبة إذا كان المحلوف عليه الصدقة. واختار القاضي التحنيث بالهبة مصيراً إلى أن الهبة لا تخلو عن ثواب كالصدقة، وهذا الاختيار لا يليق بمنصبه مع القطع بتحليل الهبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريم الصدقة عليه.
11825- ثم قال: "ولو حلف لا يركب دابة العبد... إلى آخره".
إذا حلف لا يركب دابة العبد، وقلنا: يملك العبد بالتمليك، وكان ملّكه سيّده دابة، فيحصل الحنث بركوبها؛ فإن الإضافة متحققة، كما ذكرناها.
وإن قلنا: لا يملك العبد بالتمليك، وكانت الدابة مختصة بالعبد، والعبدُ مختصٌّ بها، فالمذهب أن الحِنث لا يحصل بركوبها.
ولا يخفى أن ذلك في اللفظ المطلق. فلو أراد الحالف بالإضافة التي ذكرناها إضافة الاختصاص، فلفظه منزل على نيته، وقد أكثرنا ترديد ذلك في المسائل، وغرضنا أن يقف الناظر على أن مسائل الأيمان مفروضة في الإطلاق، وإنما حكمنا بأن الحنث لا يحصل إذا كان اللفظ مطلقاً، من جهة أن الملك يتوقع لذلك الشخص على الجملة، إما بتقدير أن يَعْتِق، وإما بتقدير أن يكاتَب، وإذا كان كذلك، توقف حصول الحنث على الملك المنتظر.
ولو قال: لا أركب سرج هذه الدابة أو لا أبيع جُلّها، وكان ما ذكره مضافاً إلى الدابة عن اعتيادٍ غالب وتخصيصٍ جارٍ، فيحصل الحنث إذا كان اللفظ مطلقاً؛ فإن الملك إذا لم يكن متصوراً، فالإضافة محمولة على الاختصاص الجاري. وهذا مستبين.