فصل: باب: موضع اليمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: موضع اليمين:

قال: "من ادعى مالاً فأقام عليه شاهداًً... إلى آخره".
12086- مقصود الباب القول في تغليظ الأيمان بالمكان والزمان والألفاظ، فكل ما يعظم قدره كالدماء وما يلتحق بها مما لا يثبت بالشاهد واليمين، فالتغليظ في اليمين مشروع فيه، وما يثبت بالشاهد والمرأتين ينقسم إلى المال وحقوقه، وإلى عيوب النساء، فأما الأول، فينقسم إلى المال الكثير وإلى القليل، فأما القليل، فلا تغليظ فيه بالجهات الثلاث. وأما الكثير، فالتغليظ مشروع فيه. والكثير الذي يجري التغليظ فيه، عشرون ديناراً أو مائتا درهم، وما دون ذلك لا تغليظ فيه، والرجوع فيما ذكرناه إلى الآثار.
روي عن عبد الرحمن بن عوف أنه مرّ برجل يحلَّف بين الركن والمقام، فقال: "أعلى دمٍ؟ فقالوا: لا، فقال: أعلى عُظْم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت " وروي- أن يَبْهأ الناس بهذا البيت.
ومعناه: التهاون أيضاًً.
فروى: العظيم من المال عشرون ديناراً، ولا يظن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدير من غير تثبت عندهم.
فأما عيوب النساء، فأمرها خطير يلتحق بالنكاح وما في مرتبته، وإن كان يثبت بالشاهد والمرأتين؛ فإن سبب ذلك الضرورة الداعية إلى قبول شهادة النسوة المتجردات. ثم ترتب عليه إقامة رجل مقام امرأتين.
ومما نذكره أن الوكالة في التصرف في مقدار نزرٍ من المال قياسها تغليظ اليمين فيها، لأنها لا تثبت برجل وامرأتين تعظيماً للولاية، وملك التصرف.
وفي النفس من هذا شيء؛ فإن الوكالة في الدرهم خسيسة، وهي أخس من ملك الدرهم، فإن تصرف المالك أقوى من تصرف الوكلاء، وشرطُنا شاهدين في الوكالة لا يحمل على شرف الوكالة، وإنما يحمل على اتباع التعبدات في مراتب الشهادات، والتغليظ يتلقى من عظم قدر ما فيه الخصومة، فإذا كنا نغلظ ما يتعلق ببواطن النساء مع ثبوته بالشاهد والمرأتين، لم يبعد أن نخفف ما يتعلق بالوكالة، وإن كانت لا تثبت إلا بشاهدين.
هذا قولنا فيما يجري التغليظ فيه.
12087- ثم كيفية التغليظ بالمكان والزمان مضى ذكرهما في كتاب اللعان، والذي نذكره هاهنا أن التغليظ بالمكان هل يُستحَق؟ فيه قولان لا يخفى توجيههما تعلقاً بالوجود من وجه، وحملاً على الاحتياط من وجه، ووجه التعلق بالوجود أنه لو لم يجب، لما جاز لما أشار إليه عبد الرحمن بن عوف من خشية التهاون.
ثم قال الأصحاب: في تغليظ الأيمان على الكفار، نحلّفهم في كنائسهم وبيعهم، ولا نحلّف المجوسي في بيت النيران؛ فإنها ليست محترمة، وهذا وإن صار إليه الأصحاب مشكل، وقد قال صاحب التقريب: نحلفهم في بيوت النيران. ووجه ما قاله الأصحاب أن البيع والكنائس محترمة، فنسخت حرمتها، فلا يبعد الاستمساك بما كان، ولم يثبت احترام بيوت النيران في ملة من الملل.
فأما التغليظ بالزمان، ففيه طريقان: منهم من لم يوجبه، قولاً واحداً. ومنهم من أجرى القولين فيه.
وأما التغليظ باللفظ، فينقسم إلى تغليظٍ بالعدد كما ذكرنا في أيمان القسامة واللعان، وهذا مستحَق حيث يثبت، وتغليظ لا يرجع إلى العدد، قول الحالف "بالله الذي لا إله إلا هو" وهذا مرتب على الزمان، وهو أبعد الأركان الثلاثة عن الاستحقاق.
وإذا جمعنا المكان والزمان واللفظ، انتظم فيها أقوال:
أحدها: الاستحقاق في الكل.
والثاني: الاحتياط في الكل.
والثالث: الاستحقاق في المكان فحسب.
والرابع- الاستحقاق في الزمان والمكان دون اللفظ.
فرع:
12088- إذا رأينا التغليظ بالمكان، واقتضى ذلك إحضار المرأة المسجد وتحليفها، فلو كانت مخدرة، قال العراقيون: لا يعصمها التخدير، ويجب عليها حضور المسجد وقطعوا بها، وقد قدمنا في التخدير كلاماً يوجب تطرق الاحتمال إلى ما ذكرناه الآن.
فرع:
12089- كل تغليظ رآه القاضي مستحَقاً، فيجب اتباع رأيه فيه؛ فإن المسائل مجتَهَد فيها، والامتناع عما رآه غير سائغ، والممتنع مجبَر على الطاعة، فإذا قال القاضي: قل "بالله"، فقال "بالرحمن"، كان هذا نكولاً؛ فإنَّ حَلِفه مربوطٌ بتحليف القاضي، والقاضي لم يحلّفه بالرحمن، فكان مبتدئاً فيه، هكذا وجدت الطرق.
ولو قال: "قل بالله الذي لا إله إلا هو"، فقال: "بالله"، واقتصر، فهل يكون ناكلاً أم لا؟ فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب. والوجه عندي أن نقول: إذا رأى القاضي التغليظ باللفظ مستحقاً، فالممتنع عنه ناكل، وإن لم ير القاضي التغليظ مستحقاً، فمخالفة القاضي فيما يراه احتياطاً هل يكون نكولاً؟ فعلى وجهين.
هذا مقصود الباب، وقد تركت مسائل فلم أُعدها، لأني ذكرتها في كتاب اللعان، والغرض الأخص بالباب نجمعه في فصلٍ.
فصل:
12090- الخصومة الدائرة بين شخصين قد تكون مغلظة في أحد الشقين مخففة في الشق الثاني، وتصوير ذلك أن العبد إذا ادعى على مولاه إعتاقه إياه، فانكر المولى، فالقول قوله مع يمينه. فإذا رغب في اليمين نظرنا إلى قيمة العبد، فإن كانت قيمته عشرين ديناراً غُلّظت اليمين عليه. والتفريع على التغليظ.
وإن كانت القيمة أقلَّ من عشرين ديناراً، لم تغلّظ، وإن نكل عن اليمين، رددنا اليمين على العبد، واليمينُ مغلظة عليه، قلّت قيمته أو كثرت، فإنه يبغي إثبات العتق وخطرُه عظيم، وكذلك إذا ادعى على مولاه الكتابة، والمولى ينكرها، فننظر إلى مقدار القيمة في جانب السيد، وإذا رددنا اليمين على العبد غلّظناها، لأنه يبغي بإثبات الكتابة الاستقلال المنافي لحجر الرق المُفضي إلى العَتاقة.
وذكر صاحب التقريب في هذا الفن وجهاً بعيداً، أنا إذا غلظنا اليمين من جانب، غلظناها من الجانب الثاني، حتى يتحد القياس في ترتيب الخصومة.
وهذا وجه مزيف لا أصل له؛ إذ ليس المصير إلى هذا أولى من المصير إلى عكسه حتى يقال: إذا خَفَّت الخصومة في شيء كالملك، فالعتق زوال لذلك الملك الخفيف، فيجب تخفيفه، فالوجه الحكم في كل شيء بما يليق به.
فرع:
12091- قال العراقيون: إذا توجه على رجل يمين بمكة مثلاً، ورأى القاضي تغليظها بأن يحلّف المنكر بين الركن والمقام، فقال المدعى عليه: قد حلفت بالطلاق لا أحلف بين الركن والمقام، فنقول: إن حلف بالطلاق أنه لا يحلف يميناً مغلظة، وقلنا إن التغليظ ليس بواجب، فعلى القاضي أن يترك التغليظ ولا يحنّثه.
وإن قلنا التغليظ مستحَق، فلا يبالَى بيمينه ويغلّظ عليه ويحنّثه، وإن لم يرد الحنث فلينكُل.
ولو قال: لا أحلف بين الركن والمقام، وقلنا: إن التغليظ مستحب، فلا يحنّثه بالتحليف بين الركن والمقام، وإن قلنا: التغليظ مستحق، وقد حلف لا يحلف بين الركن والمقام، فقد ذكروا في هذه الصورة قولين:
أحدهما: أن القاضي يحلّفه بين الركن والمقام، ولا يُبالي بيمينه، والثاني: أن يحلّفه في جانب آخر من جوانب الكعبة؛ فإن جملة جوانبها محترمة، ويحصل التغليظ بها، ولا معنى لتحنيثه، هكذا ذكروه، ولا حاصل عندي لذكر الخلاف حيث انتَهَوْا إليه إلا على تردد في أن ما بين الركن والمقام هل يتعين في التغليظ، إذا كنا نعتبر التغليظ ونراه مستحقاً، فإن عيّنّا ذلك المكان، فالامتناع عنه امتناع عن مستحق، وإن لم نر ذلك متعيناً شرعاً، فلا معنى لتحنيثه، ويعود التفريع إلى قولنا: التغليظ مستحب غير مستحق.
فصل:
قال: "ويحلف الرجل في حق نفسه فيما علمه على البتّ... إلى آخره".
12092- الإنسان يحلف على فعل نفسه على البتّ، نفياً كان أو إثباتاً؛ فإن اطلاعه على ما ينفيه ويثبته في حق نفسه ممكن، فلتكن اليمين باتّة، وتصوير ذلك هيّن.
وإذا تضمنت يمينه إثباتَ فعل الغير، فلتكن على البت أيضاًً، فإن وصوله إلى العلم بثبوت فعل الغير ممكن. ولهذا يتصور منه الشهادة عليه، فكانت اليمين على البت.
فأما ما يتضمن نفيَ فعل الغير، فاليمين على نفي العلم، مثل أن يدعي مدعٍ على أبيه مالاً، أو استقراضاً، فالوارث يحلف بالله لا يعلم ذلك، وسيعود هذا مرتباً في كتاب الدعاوي، إن شاء الله.
ولو ادُّعي على عبده جناية، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يحلف على العلم؛ من جهة أنه يبغي بيمينه نفيَ جناية عبده، وهذا غيب لا يطلع عليه، فلتكن اليمين على العلم.
والثاني: أن اليمين على البت؛ فإنّ فعلَ عبده بمثابة فعله، ويغلب اطلاعه على عبده، وقد ينسى فعلَ نفسه، وبنى الأصحاب الوجهين على أن أرش الجناية يتعلق بذمة العبد أو برقبته ورقِّه.
وعلى هذا الأصل ابتنى مقدار ما يفدي به السيد عبدَه، فإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد، فهو المستقل بالالتزام، والرقبة مرتهنة، والسيد يحلف على نفي العلم، وإن قلنا: الأرش يتعلق بالرقبة، فعلى هذا العبدُ بمثابة يد السيد وأعضائه.
والذي أراه أنه يقتصر على نفي العلم، وإن لم يثبت للعبد ذمة.
ولو انتشرت بهيمة في زرع إنسان على وجه يقتضي ذلك وجوبَ الضمان على صاحب البهيمة، فإذا أراد أن يحلف، فالقياس الذي مهدناه مأخوذاً من التعلق بالذمة، يقتضي أن يبتّ اليمين في هذه المسألة؛ فإن مالك البهيمة لا يضمن بفعل البهيمة، وإنما يضمن لتقصيره في حفظها، وهذا يتعلق بأحواله والتعلق برقبة العبد ليس محمولاً على تقصير السيد؛ فإن مبنى الانتفاع بالعبيد على إطلاقهم بخلاف البهائم.
فصل:
" ولا تقبل منه اليمين إلا بعد أن يستحلفه الحاكم... إلى آخره".
12093- إذا ادعى المدعي، وذكر أنه لا بيّنة له، فلو ابتدر المدعى عليه وحلف، لا يعتد بيمينه، ولو طلب المدعي اليمين، فابتدر المدعى عليه وحلف، لم يعتد بيمينه بلا خلاف، ولو طلب المدعي وعرَض القاضي، فهذا أوان الحلف.
واستدل الأئمة على ذلك بما روي: "أن ركانة طلق امرأته ألبتة، وقال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم، والله ما أردتَ إلا واحدة؟ فحلف ركانة مرة أخرى " فدلّ ذلك على أن اليمين التي ابتدرها قبل عرض رسول الله لم تكن معتداً بها، ولذلك استعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو قال المدعي: لا بينة لي، ولم يطلب اليمين، فإن كان ممن يجوز أن يجهل ترتيب الخصومة، فحقّ على القاضي أن يبيّن له أن حقَّه في التحليف، وذلك منوط بخِبْرته.
وإن كان المدعي ممن لا يخفى عليه ذلك، وربما عُهد ممارساً للخصومات، دَرِباً بترتيبها عليماً بأن اليمين تعرض إذا لم تكن للمدعي بيّنة، فالقاضي ماذا يصنع؟ أيصبر حتى يطلب المدعي تحليفَ الخصم؟ أو يقول له بعد قوله لا بينة لي: ماذا تريد؟ أو يهجُم على عرض اليمين اكتفاءً بقرينة الحال، وعلماً بأن المدعي لا يحمل خصمَه إلى مجلس الحكم ولا بيّنة له إلا وهو يبغي عرضَ اليمين عليه، فعساه يقر؟
فنقول: أما الاستبداد بالعرض، فلا سبيل إليه، والكلام في أنه يسكت عن المدعي أم يقول له ماذا تريد؟ هذا مما تردد فيه الأئمة. والقول فيه قريب. وهو من فنّ الأَوْلى في الأوان. وظهر اختلافُ الأصحاب في أن المدعي إذا ادعى هل تتوقف مطالبة المدعى عليه بالجواب على طلب المدعي، وفيه خلافٌ قدمناه. والسبب فيه أن العادات لا تختلف في طلب الجواب، وهي تختلف في عرض اليمين.
ومما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أن قالوا: العبرة في الأيمان بعقيدة القاضي، ولا عبرة بعقيدة- الحالف وهذا فيه فضل نظر.
12094- قد قدمنا أن القاضي متبوع في قضائه، وأوضحنا تعليله، وذكرنا أن الولايات لا تستمر إلا بهذا مع اختلاف المذاهب. وقد ذكر صاحب التقريب أمراً بديعاً لم أره لغيره، وذلك أنه قال: القضاء ينفذ ظاهراً على العوام، وإن اختلفت مذاهبهم، فإن كان المقضي عليه مجتهداً، وقد خالف مذهبه مذصبَ القاضي، فهل ينفذ قضاء القاضي عليه ظاهراً على خلافِ عقده؟ ذكر في ذلك وجهين:
أحدهما: أنه ينفذ. وهو الذي قطع به الأصحاب.
والثاني: أنه لا ينفذ؛ لأن المجتهد مستقل بنفسه في نظره، فليس له أن يتبع غيره، وليس للغير أن يستتبعه.
وهذا عندي في حكم الهفوة التي لا يعتدّ بها، لأن القول به يؤدي إلى خرم منصب القضاة؛ على أنه مراغمة لما مضى عليه الأولون؛ فإن أقضية الخلفاء ومن بعدهم تنفذ على أئمة الدين؛ فلا وجه لهذا. وإنما الخلاف في الباطن كما ذكرناه.
12095- ونعود بعد ذلك إلى إتمام المراد بما يليق، إذا ادّعى حنفي على شافعي شفعةَ الجوار، وكان القاضي يرى إثباتها، فإذا أنكر الشافعي الشفعة، لم يكن له أن يحلف بناء على اعتقاد نفسه لما مهدناه من أنه يجب اتباع القاضي؛ فلا يكون باراً في يمينه بالله لا يلزمه، بل هو كاذب فيها.
وفي تعليق معتمدٍ عن القاضي أنه لو حلف مؤوِّلاً بانياً على عَقْد نفسه، حنث في الظاهر، وهذا كلام خليٌّ عن التحصيل، والوجه أن نورِّك الذنب فيه على المعلِّق؛ فإن لزوم الكفارة ليس مما يختلف فيه الظاهر والباطن. وكذلك إذا حلف الرجل يميناً فاجرة، وعقبها بالاستثناء بحيث يُسمع نفسه، فلا حكم للاستثناء أصلاً ظاهراً وباطناًً، وهذا مما اتفق الأصحاب عليه، ولولاه لما انتظم مقصود في تحليف؛ فإن أحداً لا يعجز عن هذا.
وقال القاضي: لا ينفعه الاستثناء في الظاهر، وينفعه فيما بينه وبين الله في وجوب الكفارة، وهذا كلام سخيف لما ذكرته، ومحل السؤال منه أنه لو أسمع القاضي الاستثناء، فلا خلاف أنه لا يعتدّ بيمينه، بل تُعاد، وقد يقول الفطن: لو كان الاستثناء في مفصل القضاء لا يُبطل اليمين، لما كان إظهاره مبطلاً، وهذا خيال ووهم؛ فإن القاضي طلب منه يميناًً جازمة، والذي جاء به ليست اليمين المطلوبة؛ فإعادة اليمين لهذا، وأيضاً فإن ما يقوله المرء في نفسه من غير أن يظهره لأهل المجلس، فهو الذي لا يبالَى به، ولا يقضى بأنه يغيّر أمراً في الظاهر والباطن، والعلم عند الله تعالى.
فرع:
12096- إذا ادعى ديناً مؤجلاً على إنسان، ففي سماع دعواه وجهان:
أحدهما: أنها لا تسمع؛ فإن الدعوى إنما تتم وتنتظم إذا اتصلت بمطالبة المدعى عليه، ولا يتصور الطلب في الدين المؤجل قبل محل الأجل. والوجه الثاني- تُسمع الدعوى، لأنه يستفيد بها إثباتَ حقه، فقد يقرّ المدعى عليه، فيسجِّل على إقراره، وإذا ثبت الدين مؤجلاً، كان مالا معتدّاً له، ولو مات من عليه الدين، حل بموته.
ومن أصحابنا من فَصَلَ بين أن يكون للمدعي بيّنة وبين ألا يكون، فقال: إن كانت له بينةٌ، سُمعت دعواه وبيّنته، ويستفيد به ثبوتَ الحق والأمنَ من ضياع البيّنة؛ فإن الشهود ربما لا يبقون إلى حلول الحق، وإذا لم يكن بينة، لم تسمع الدعوى، فحصلت ثلاثة أوجه.
وإذا ادعت الجاريةُ على مولاها الاستيلادَ، فالمذهب القطع بأن دعواها مسموعة، وكذلك إذا ادعى العبد التدبيرَ، أو ادعى تعليقَ العتق بالصِّفة.
وذهب بعض أصحابنا إلى تخريج هذه المسائل كلها على وجهين مأخوذين من دعوى الدَّيْن المؤجل؛ فإن غرض المملوك دعوى سبب يُفضي إلى خلاصه من الرق في ثاني الحال.
وهذا غير سديد؛ فإن التعليق والتدبير والاستيلاد حقوق ثابتةٌ في الحال، يجوز تعليق الدعوى بها، وهذا يظهر جداً في الاستيلاد؛ فإنه يتنجّز به لو ثبت امتناعُ البيع والرهنِ، وفي دعوى التدبير فضل نظر، فأما إن جوّزنا الرجوع عن التدبير، فإنكار المولى يجوز أن يجعل رجوعاً، كما سيأتي، وإذا كان في تقدير الإنكار إبطال الدعوى، فلا معنى لتصبح الدعوى، وإن قلنا: لا يصح الرجوع عن التدبير، فيتجه حينئذ تصحيح الدعوى.
فرع:
12097- ذكر صاحب التقريب في تضاعيف كلامه في أثر قضاء القاضي ووجوب اتباعه حكماً متعلقاً بالفتوى، فقال: لو نكح رجل امرأة، ثم استفتيا مفتياً فأفتى لهما بفساد النكاح، والمسألة مجتهدٌ فيها، فهل تبين المرأة عن الرجل بفتوى المفتي؟ ذكر وجهين:
أحدهما: أن المرأة لا تبين، وإن وقع الرضا بالفتوى، وإنما ينقطع النكاح بقضاء القاضي. والوجه الثاني- أن النكاح ينقطع؛ فإن اتباع الفتوى حتم على المقلِّد، وذكر وجهاً ثالثاً مفصلاً- فقال: إن صحَّحَ النكاح قاضٍ، لم يرتفع بالفتوى، وإن لم يتصل تصحيحه بقضاء قاض يرتفع بالفتوى، ولست أخوض في تفصيل ذلك، فإنه من أحكام الفتاوي، وهو من فن الأصول، وقد جمعت في الاجتهاد والفتوى كلاماً شافياً كافياً، فليطلبه مريده من مجموعنا فيه.

.باب: الامتناع من اليمين:

قال: "وإذا كانت الدعوى غيرَ دمٍ في مالٍ، أحلف المدعى عليه، فإن حلف برىء... إلى آخره".
12098- في اللفظ الذي نقله المزني خللٌ من وجهين:
أحدهما: هو أنه قال: "إن كانت الدعوى غيرَ دم"، فأوهم أن الدعوى لو كانت في الدم لا يحلف المدَّعَى عليه، وليس كذلك. وأوهم أن لا مدخل لليمين في غير الأموال، والأمر على خلاف ذلك.
12099- ومقصود الباب الكلام في شيئين:
أحدهما: في النكول ورد اليمين، والثاني: فيما يجري التحليف فيه.
فإذا توجهت اليمين على المدعى عليه، فلا يخلو إما أن يحلف أو لا يحلف، فإن حلف، تخلص عن الخصومة، ولم ينقطع الحق إن كان، ولو وجد المدعي بيّنة، أقامها، وقد صحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في ذلك: "البيّنة العادلة خيرٌ من اليمين الفاجرة".
وقال ابن أبي ليلى: لا تُسمع بيّنةُ المدعي بعد تحليف المدعَى عليه، والحق عنده يسقط بيمينه.
وقال مالك إن كانت البينة حاضرة في المجلس، لم تقبل بعد اليمين، وتعطلت. وإن كانت غائبة، فحلف المدعى عليه، قُبلت بينته إذا أحضرها.
ولو قال المدعي: ليست لي بيّنة، ثم قال من بعدُ: وجدت بيّنةً عالمةً بحقي، وما كنت أدريها، تسمع البيّنة منه، ولا يمتنع سماعها بقوله: ليست لي بينة.
ولو قال: ليست لي بينة لا حاضرة، ولا غائبة، ثم جاء بشهود، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنها تقبل.
ولو أقام المدعي شاهدين عدلين عند إنكار خصمه، ثم قال: كذب شاهداي، وشهدا بباطل، فلا شك أن بينته تسقط بما صدر منه من التكذيب، وهل تبطل دعواه في الأصل؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: تبطل الدعوى حتى لو أراد أن يقيم بينة أخرى، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، وينزل تكذيبُه شهوده منزلةَ تكذيبه نفسه. وهذا الوجه ضعيف.
والوجه الثاني- أنه لا تبطل دعواه؛ إذ من الممكن أن يقول أنا محق في دعواي، ولكنكما لم تحيطا بحقيقة الحال، فشهدتما بما لا تعلمان. وهذا واضح.
ثم فرّع على هذا فقال: لو أن المدعي أقام بينة، كما ذكرنا، وأقام المدعى عليه شاهداً واحداً: أن المدعي قال: كذب شهودي، وشهدوا مبطلين، وأراد أن يحلف مع شاهده، فما حكمه؟ قال: إن قلنا: لو قال المدعي ذلك، سقط دعواه، فيُقبل ذلك من المدعى عليه؛ فإنه يستفيد بالشاهد واليمين إسقاطَ الدعوى، فصار كما لو أقام شاهداً وحلف معه أن المدعي أبرأه، فهذا مقبول. وإن قلنا: اللفظةُ التي قدمناها لو صدرت من المدعي حقيقةً، لم تتضمن سقوط دعواه، فإذا أقام المدعى عليه شاهداًً، وأراد أن يحلف معه، والمدعي منكر للّفظ، فلا حكم لما يأتي به المدعى عليه من الشاهد واليمين؛ فإن الدعوى لا تسقط، والبينة لا تسقط أيضاًً، فإنه نقل طعناً من المدعي في البينة، وما يتضمن جرحاً وطعناً في الشهود لا يثبت بشاهد ويمين، وإن كان المشهود عليه مالاً.
وكل ما ذكرناه متعلق بالبينة.
12100- فلو لم يكن للمدعي بينة، فاليمين معروضة على المدعى عليه، فلا يخلو: إما أن يُنكر، أو يسكت، فإن أجاب، وأنكر، عرض القاضي عليه اليمين باستدعاء المدعي، فإن نكل عن اليمين، لم يُقضَ عليه بنكوله.
ثم قال العلماء: المستحب أن يعرض اليمين عليه ثلاث مرات، فإن اقتصر على مرة واحدة، فله الحكم بالنكول، ولسنا نعني بالحكم بالنكول أنه يثبت على الناكل ما ادعاه المدعي، ولكن فائدة الحكم بالنكول إثباتُه النكول، ليرتب عليه رد اليمين، كما سنصفه إن شاء الله.
وهذه الأمور يعدها معظم الففهاء ظاهرة ويتخطَّوْنها من غير اهتمام بكشفها، ومعظم الغوائل فيها.
12101- ونحن نقول-مستعينين بالله- النكول لا يثبت ما لم يقض القاضي به إذا لم يصرح المدعى عليه بأني ناكل عن اليمين. ثم ما ذكرناه من ترديد القاضي العرضَ على المدعى عليه أدبٌ مستحب في مراسم القضاء، فإن قضى القاضي بالنكول كما ظهر له في العرضة الأولى، ثبت النكول، ثم لا يجوز له أن يقضي بالنكول ما لم يظهر له ذلك من المدَعى عليه، حتى لو كان يجوّز أن يكون امتناعه عن دهش، أو كان يُقدّر أنه لم يفهم عَرْض اليمين لغباوة وعدم إلفٍ بمراسم الخصومات، فليس له أن يقضي بنكوله، وإذا ظهر له امتناعه، فإن أكد بالتكرير، فحسنٌ، وإن أراد ألا يكرر، فلا عليه.
ومما نستحسنه أن يُعلمه أنه يقضي بنكوله لو تمادى على امتناعه، فلو لم يُعلمه ذلك، وظهر له امتناعه، ولكن كان المدعى عليه لا يدري أن امتناعه مع القضاء بنكوله يوجب ردّ اليمين، فهل للقاضي أن يقضي بنكوله ويردَّ، أم شرطُ القضاء بالنكول إعلامُه موجَب نكوله؟ هذا فيه احتمال ظاهر والأرجح أن قضاءه بالنكول ينفذ، وإن لم يُعلمه حكمَ النكول.
وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يصرح بالنكول أو الامتناع عن اليمين.
12102- فإن قال: نكلت، أو أنا ناكِل، أو لست أحلف، فالذي نراه أنه لا حاجة في هذا المقام إلى قضاء القاضي، وهو بمثابة ما لو أقر المدعى عليه بالحق، فلا يظهر بقضاء القاضي أثر عند الإقرار، وسنبين أثر ما ذكرناه في التفريع.
12103- ثم قال الأصحاب: إنما يتحقق النكول إذا قال القاضي للمدعى عليه احلف بالله، فإذا امتنع، فإذ ذاك يقضي بالنكول، ولو قال له: أتحلف؟ فامتنع، فقد قال القاضي: لا حكم لهذا الامتناع، لأنه لم يأمره باليمين، بل استشاره فيها مستفهماً، وهذا فيه تدبر من جهة أن قول القاضي للمدعى عليه: "احلف " مشكلٌ؛ فإنه أمر، وتوجيه الأمر عليه بالحلف، فيه غموض، هذا وجه. والآخر أنه إذا قال: أتحلف، فلو ابتدر وحلف، فهل يعتد بيمينه، أم لا؟ هذا وجه التنبيه.
وسبيل الكشف بعده أن قوله: "احلف " ليس أمراً جازماً، ولكنه إبانةُ وقت الحلف واليمين المعتد بها إن أرادها المدعى عليه، فإذا لم يحلف وامتنع، نفذ القضاء بنكوله، فأما قوله: "أتحلف"، فاستخبار، ولو ابتدر وحلف، لم يُعْتَدَّ بيمينه؛ فإن اليمين إنما يُعتدُّ بها إذا استحلف القاضي، والاستفهام ليس استحلافاً، ولكن إن قُدِّم الاستفهامُ، فهو حسن، ليكون الاستحلاف بعده على بصيرة.
ونظمُ الكلام أنه يقول للمدعى عليه أتحلف؟ فإن قال: نعم. قال: قل " بالله"، ثم إذا ثبت نكوله، إما بقوله نكلت، أو بحكم الحاكم بنكوله، فلو قال بعد ذلك: أحلفُ، لا يبالَى به، وهذا أثر إثبات النكول. فإن قال: نكلت، أو قال القاضي: حكمتُ بنكولك، أو أقبل على المدعي، فقال: احلف، فلو أراد المدعى عليه أن يحلف، لم يُقبل منه بعد ما وصفنا. وقوله للمدعي: "احْلِف " قضاءٌ منه بالنكول، فلا يشترط في هذا المقام أكثرُ من ذلك.
ولو أقبل على المدعي هامّاً بتحليفه يمينَ الرد، ولم يقل بعدُ " احلف " فأراد المدعى عليه أن يحلف، ففي المسألة وجهان، ذكرهما القاضي:
أحدهما: أنه يحلف، لأنه لم يصرح بالنكول، ولم يأت القاضي بعدُ بما يكون حكماً بالنكول، فوقت يمينه باقٍ.
والوجه الثاني- أنه لا يحلف؛ فإن إقباله على المدعي إقدامٌ منه على تحليفه، ولا يقع هذا إلا بعد إثبات النكول.
ولو جرى القضاء بنكوله أو صرح بكونه ناكلاً، فقد ذكرنا أنه لو أراد أن يحلف لم يمكَّن.
فلو قال المدعي: رضيت بأن يحلف، ففي المسألة وجهان:
أظهرهما- أن القاضي يحلِّفُ المدعَى عليه برضا المدعي؛ فإن الحق لا يعدوه، فإذا رضي، جرى القاضي على موجب رضاه.
والوجه الثاني- أنه لا يُحلَّف، وإن رضي المدعي؛ فإن هذا تحليفٌ بعد النكول، والنكولُ يُبطل إمكانَ اليمين.
ولكن ما ذكرناه فيه إذا أنكر المدعى عليه، ثم جرى في اليمين ما وصفناه، فأما إذا سكت ولم يُجب المدعي، فقال له القاضي: أجب، فليس بك بُكْم ولا صَمَم، فإن تمادى في سكوته، جُعل ذلك إنكاراً في حكم عرض اليمين، ثم يعرض اليمين، ويجعل التمادي على السكوت نكولاً عن اليمين، وهذا فيه إذا لم يظهر عنده سبب مُسكت.
فقد انتجز الغرض المتعلق بهذا النوع.
12104- فإن نكل المدعى عليه عن اليمين، رددنا اليمين على المدعي، فإن حلف، استحق دعواه، وإن نكل، فقد قال الأصحاب: نكول المدعي عن يمين الرد بمثابة يمين المدعى عليه، وهذا طرف من الكلام يجب صرفُ الاهتمام إليه، والوجه أن نسوق كلام الأصحاب على وجهه ثم نحوِّم على الإشكال، ونحلّه شيئاً شيئاً بتوفيق الله تعالى.
قال الأصحاب: إن قال المدعي-وقد رُدَّت اليمين عليه-: أمهلوني ريثما أطالع حسابي، أو أستفتي، وأتثبت في أمري، فإنه يُمهَل. ثم قالوا: لا تزيد مدة إمهاله على ثلاثة أيام. ولو قال المدعى عليه-لما عرضت عليه اليمين الأولى-: أمهلوني لأتدبر، وأراجع حسابي، كما ذكرناه في جانب المدعي، فلا يمهل أصلاً. وإذا ظهر امتناعه، كان ناكلاً، والفرق بينه وبين المدعي أن المدعى عليه مطالبٌ محمولٌ على الإقرار، أو اليمين، وليس صاحبَ خِيَرة، وأما المدعي، فليس محمولاً من جهة أحد، بل هو صاحب الحق؛ إن أراد قدمه، وإن أراد أخره. هذا قول الأصحاب.
فقد حصل لنا من كلامهم أن نكول المدعي ممكن، وهو نازل منزلة حلف المدعى عليه، وثبت من كلامهم أنه إذا استمهل، أمهل.
12105- ونحن نقول بعد ذلك: قد اعترض لنا تصوير النكول عن اليمين مع الشاهد، وتصوير النكول عن يمين الرد، فنقول: إذا أقام المدعي شاهداًً، فكيف وجهُ نكوله؟ ومن يعرض عليه اليمين حتى ينكُل؟ وما المأخذ الفقهي الذي يربط النكول به؟
فنقول في إيضاح ذلك: إذا استعدى المدعي على خصمه، وأحضره مجلس الحكم وادعى، وأنكرالخصم، فإن أقام المدعي بيّنة، فذاك، وإن لم يقمها، فحقٌّ على القاضي أن يقول للمدعي: أحلّف خصمك إن أردت، وإلا فاقطع طلبتك عنه، واترك رفعه إلى مجلس الحكم، فإذا أقام شاهداًً واحداً، وتمكن من الحلف معه، فلم يحلف، فينتهي الأمر إلى ما ذكرناه من تحليف الخصم، وإلزام المدعي قطعَ الخصام، وإلا فهذا يؤدي إلى أن يرفع خصمه إلى مجلس القضاء في كل ساعة يتصدى القاضي فيها للقضاء، ولا يحلّفه، ولا يقيم بيّنة، ولا سبيل إلى تسويغ هذا.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أنه إذا أقام شاهداً، أبان له القاضي أنه لو حلف معه، ثبت حقه؛ فإن لم يحلف، أبان له أنك لو لم تحلِّف المدعَى عليه، منعتك من إعادته إلى مجلس الحكم، فهذا تصوير النكول عن اليمين مع الشاهد.
ولو قال المدعي: أمهلوني، أمهلناه كما يمهل المدعي في يمين الرد، فإن اليمين ليست محتومة عليه، وليس هو واقفاً موقف المحمولين في الخصومة، وإذا منعناه من إعادة خصمه إلى مجلس الحكم، فلا يُعيده في تلك الخصومة إلا أن يجد بينةً كاملة، فيُعيدُه ويقيمُها، فإنه لو وجد بينة بعد حلف المدعى عليه، فعل ذلك، وقد نجز الغرض في النكول عن اليمين مع الشاهد.
12106- فأما تصوير النكول عن يمين الرد، ففيه مزيد إشكال؛ فإن المدعي إذا أقام شاهداً، فالمدعى عليه يقول: حلّفني أو احلف وخلصني، وهذا لا يتأتى في يمين الرد؛ فإن المدعى عليه نكل عن اليمين، فإن قال للمدعي: احلف أو انكُل، فالمدّعي يقول له: وأنت احلف أو أَقرّ، ففي مسألة اليمين مع الشاهد، فالمدعى عليه متعرض ليمينٍ بحق، وفي مسألة الرد هو ناكل عن اليمين، غيرُ معذور في ترك الإقرار واليمين.
هذا وجه من الإشكال. ولأجله قال بعض أصحابنا: لا يصير المدعي ناكلاً عن يمين الرد قط، إذا لم يصرح بالنكول، ولا ضبط لإمهاله بمدة، وسبيله في يمين الرد كسبيله في البينة يقيمها متى وجدها. وهذا قد يظهر على قولنا: "يمين الرد تنزل منزلة البينة"، وغالب ظني أني أجريت ذكر هذا فيما تقدم من الكتب.
ولكن المذهب المشهور تصوير النكول عن يمين الرد من غير تصريح به، والسبب فيه أنا لو لم نفعل هذا، لرفع خصمَه كلَّ يوم، والخصم ناكل، وهو لا يحلف يمين الرد، فلا يتفرغ القاضي من خصومته إلى شُغْلٍ، ولا يجوز أن يُفضي القضاء إلى مثل هذا، فيجب إذاً قطْع الخصومة، ومن ضرورة هذا أن نحكم بنكول المدعي إذا امتنع، ثم إن استمهل أمهلناه ثلاثة أيام بلا مزيد، وهي مدة ثابتة في قواعدَ من الشريعة، ومدة إمهال المرتد إذا رأينا إمهاله ثلاثةُ أيام، وهي مدةُ الخيار، ومقامُ المسافرين. ولو امتنع ولم يستمهِل لا نمهله ثلاثةَ أيام ثم نقضي بالنكول، بل نعجل القضاءَ بالنكول إذا لم يُظهر عذراً.
وقد تم ما أردناه من تصوير النكول باليمين مع الشاهد، وتصوير النكول عن يمين الرد على أبلغ وجه في البيان.
ولو نكل المدعي عن يمين الرد، فقال: إني نكلت، فحلّفوا خصمي، فلا نجيبه؛ فإن اليمين، انقطعت عن جانب المدعى عليه بنكوله، فلا عود إلى ما تحقق انقطاعه، ثم هذا لو قيل به، لأفضى إلى الدَّور، والغرض أن تنفصل الخصومة، لا أن تتسلسل.
وقد عقد الشافعي باباً في النكول ورد اليمين، وغرضُه محاجَّة أبي حنيفة في قضائه بالنكول. وليس ذلك من شرطنا.
فصل:
قال: "فإن قيل: كيف أحْلَفت في الحدود والطلاق... إلى آخره".
12107- كنا ذكرنا إن الباب مشتمل على النكول والرد، وعلى ما يجرى التحليف فيه، وقد تم الغرض في أحد الفصلين، فأما ما يجري التحليف فيه، فكل ما تتعلق الدعوى به، وتقام البينة عليه، فاليمين جاريةٌ فيه، كالطلاق، والعَتاق، والفيئة في الإيلاء، والرجعة، والولاء، والنسب، والنكاح.
وعند أبي حنيفة لا تجري اليمين في هذه الأشياء، وقيل: بناء مذهبه على أن اليمين تُطلب بتقدير النكول، ثم القضاء يقع بالنكول، والنكولُ نازلٌ منزلة البذل والإباحة، ولا مدخل للبذل في هذه الأصول، وهذا كلام مضطربٌ، لا استناد له إلى قاعدة من قواعد الشريعة.
ونحن اعتمدنا الدعوى، وسماعَ البينة، فالعقوبات تتمحض حدوداً لله، لا تنتظم فيها الدّعوى، وإن كانت البينة تقوم على موجباتها، فلا جرم لا يجري التحليف فيها، والنكاح، والرجعة، والطلاق والعَتاق، والفيئة في الإيلاء، والولاء، والنسب، تجري الدعوى فيها، وتقوم البينة عليها.
ومما يجب التثبّت فيه أن شهادة الحسبة تجري في الطلاق، والعَتاق، وإذا كان كذلك، فلا ارتباط للبينة بالدعوى، ولكنا لسنا نعني دعوىً تقتضي البينة أو تقتضيها البينة، وإنما نعني أن الدعوى تنتظم فيها، وتصح، ثم التحليف يجري متعلقاً بما ذكرناه. إلا أن يؤدي إلى فساد حال.
وبيان ذلك أن المشهود عليه لو ادعى على الشاهد تعمّد الكذب، فالدعوى منتظمة، ولو أقام بينة على إقرار الشاهد بذلك لسُمعت، ولكن لو أراد تحليف الشاهد، لم يجد إليه سبيلاً؛ فإن هذا يُطَرِّقُ إلى الشهود أمراً عظيماً لا يحتمل، وقد يرتدعون عن الشهادة لأجله، وكذلك لو ادعى الخصم على القاضي تحيُّفاً في القضاء، فالدعوى منتظمة، والبينة على شرطها مسموعة عند قاضٍ آخر. ولكن لا سبيل إلى تحليف القاضي في زمان ولايته. وإن عُزل، فقد قدمنا تفصيل المذهب في الدعاوي المسموعة على القاضي المصروف.
ولو قذف رجل رجلاً، ثم ادعى عليه أنك زنيتَ، وأراد أن يحلّفه على ذلك، فقد قال الأصحاب: له أن يحلّفه؛ فإن حلف، استقر حد القذف على القاذف، وإن نكل، رددنا اليمين على القاذف، فإن حلف، لم يثبت الزنا بحلفه، ولكن يندفع حد القذف عن القاذف، فإذاً فائدة عرض اليمين ترجع وتؤول إلى دفع حد القذف، وهو من حقوق الآدميين.
فرع:
12108- إذا نكل المدعي عن اليمين المردودة، ثم أقام شاهداً، وأراد أن يحلف مع شاهده، ففي المسألة قولان:
أحدهما: لا يكون له ذلك؛ لأنه نكل عن اليمين في هذه الواقعة.
والثاني: له ذلك؛ لأن هذه اليمين غير تيك التي نكل عنها.
وكذلك إذا أقام شاهداً واحداً، ونكل عن اليمين معه، فعرضنا اليمين على المدعى عليه، فنكل، فأراد المدعي أن يحلف يمين الرد، فقولان كما تقدم، وقد ذكرنا نظائر لذلك في كتاب القسامة، عند فرض النكول عنها، والرغبة في يمين الرد بعدها. وإذا اتضح الغرض، فالإيجاز أولى.
ومما اشتهر في المسائل قولان استنبطهما الأصحاب من كلام الشافعي في أن يمين الرد بمثابة بينة تقام، أم هي بمثابة إقرار المدعى عليه؟ ولهما فوائدُ وآثارٌ سبقت في مواضعها، وسيأتي منها ما لم يأت.
فرع:
12109- إذا وكل في مجلس الحكم بحضرة القاضي من يخاصم عنه، صح التوكيل، وله أن يخاصمه، وإن وكّله في غير المجلس، فجاء وادَّعى أنه وكيل فلان، وأراد أن يقيمَ البينة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب ذاهبون إلى أن له أن يثبت الوكالة من غير إحضار الخصم، ثم إذا ثبتت، استعدى على الخصم، وأحضره، وابتدأ المخاصمة.
قال القاضي: الذي عندي أنه لا تُسمع بيّنتُه هكذا، بل يُحضر الخصمَ، ويدعي عليه أني أستحق مخاصمتك بتوكيل فلان إياي، فيربط دعواه به، ويثبت الوكالة بالبينة، ووجه ذلك أن الوكالة حقُّ آدمي، فينبغي أن تُربط بخصم عند محاولة الإثبات.
ثم قال القاضي في أثناء كلام له: الخصم إذا حضر مجلس الحكم، فالغالب أنه يقول لمن يوكله هذا وكيلي بالخصومة، ولا يخصصه؛ وحكم ذلك أنه ينتصب وكيلاً له في كل خصومة، غيرَ أن القضاة يرونه وكيلاً في تلك الخصومة في ذلك المجلس لا غير، وإنما بَنَوْا ذلك على ما علموه من عادات الخصماء على اطراد، ونزلوا اللفظ على المفهوم منه في التعارف.
ثم قال: إذا أنكر الخصم الوكالة، ولم يُقم الوكيل بينة، فقال للقاضي: حلّفه: لا يَعْلَمُني وكيلاً في الخصومة معه، فالقاضي لا يحلّفه؛ لأن أكثر ما في الباب أن يقر بوكالته، ولو أقر بالوكالة، وقال: لا أخاصمه، فإني لا آمن أن ينكر الموكِّل وكالته، فأحتاج أن أستأنف الأمرَ معه، فله أن يقول ذلك، وهذا كما لو ادعى أنه وكيل فلان في قبض ماله، فلو أقر من عليه الحق بالوكالة، لم يلزمه الدفع إليه للعلة التي ذكرناها.
وإذا قال المدعَى عليه بعد ثبوت الوكالة: حلّفه أيها القاضي "ما عُزل أو لم يمت موكِّله"، فالقاضي يحلفه على نفي العلم.
فصل:
قال: "ولو قال: أَحْلفه: ما اشتريتُ هذه الدار... إلى آخره".
12110- إذا ادعى على صاحب اليد في الدار، وقال قد بعتَ هذه الدارَ مني، والتمسَ من القاضي أن يحلّفه على نفي البيع منه، فالقاضي لا يجيبه؛ فإنه لم يدّع الملك في الحال، وما لم يدع ذلك، لم يكن مدَّعياً لاستحقاقٍ ناجز، وإنما يطالب القاضي الخصمَ بالجواب إذا توجهت عليه دعوى في استحقاق ناجزٍ، مع طلب الخروج من موجَب الدعوى، ولو قال: بعتَ مني واختصر، فلا يبعد أن يكون صادقاً، ولكن عادت الدار إلى ملك البائع، وهي مقرَّة على ملكه الآن.
وإن قال المدعي: الدار التي في يده ملكي الآن، واشتريتها منه، فالدعوى مسموعة، ثم المدعَى عليه بالخيار: إن شاء، قال: ما بعتها منه، وإن شاء، لم يجبه على وفق الدعوى لفظاً ومعنىً، بل قال: لا يلزمني تسليمُ الدار إليه، والجواب على هذا الوجه مقبول.
وكذلك إذا ادعى عليه أنه مزّق ثوبه، وعليه أرشُه، فلا يلزمه أن يقول: ما مزّقتُ، بل إن شاء قال: لا يلزمني غرامةُ الأرش له.
وإنما يسوّغ الشرعُ مثلَ ذلك، لأنه ربما كان مزّقه، لكن بإذنه، ولو اعترف بالتمزيق وادعى الإذن، فربما يحلف صاحبُه.
وذهب أبو يوسف إلى أنه يجب على المدعى عليه أن يجيب عن عين ما يذكره المدعي.
ولو ادّعى المدّعي مثلَ ما ذكرناه؛ فأنكر المدعى عليه عينَ ما ادعاه، ثم لما عُرضت اليمين عليه أراد أن يحلف، لا يلزمه تسليم الدار، أو أرش التمزيق، ففي قبول اليمين على التأويل مع تقدم الإنكار على التصريح وجهان. وسيكون لنا إلى هذا الأصل عَوْدٌ في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
12111- إذا رهن بدينٍ عليه شيئاً عند صاحب الحق، ثم إن الراهن ادّعى تلك العين على المرتهن؛ فإنه يحلف، لا يلزمه تسليمُ العين إليه؛ فإنه لو أقر بملكه، وادعى الرهن، لم يصدقه القاضي، وانتزعه من يده.
وإذا ادعى المرتهن على الراهن الدَّينَ، فهو مُحق في دعواه، فلو كان الراهن لا يأمن جحودَ المرتهن الرهنَ، فقد كان الشيخ القفال يقول: له أن يقول: أتدعي عليّ ألفاً بها رهنٌ عندك حتى أجيبك، أو تدعي ألفاً آخر؟ قال: لأنه لو أقر بالدين المطلق، فربما ينكر صاحبُه الرهنَ، ويستمسك بظاهر اليد، فيتضرر به الراهن.
قال القاضي: لا يُقبل عندي من المدعى عليه ترديد القول والجواب على هذا الوجه؛ فإن القاضي لا يبحث عن جهة الوجوب، ولا يطلب منه أن يذكر سبب الاستحقاق، وللمدعى عليه مع بتّ الجواب حيلةٌ أخرى مستقيمة على قياس الأصول، وهي أن يجحد الحق إذا جحد المرتهنُ الرهنَ؛ وذلك لأن العين المرهونة تدخل في ضمان المرتهن بالجحد، فللراهن الذي عليه الحق أن يجحد ويمتنع من أداء ما عليه، إذا كانت قيمةُ المرهون قدرَ الدين.
وكل من غصب عيناً من إنسان، وللغاصب على المغصوب منه دين، فللمغصوب منه أن يجحد حقه ويمنعه، مع اعتبار المساواة في القدر، كما وصفنا.
فرع:
12112- إذا ادعى على رجل مالاً، فقال المدعى عليه-بعد الإنكار-: قد حلفتني في هذه الدعوة مرةً أخرى، نظرنا: فإن ادعى أنه حلّفه في مجلس هذا القاضي، فالرجوع إليه، فإن تذكر ما ادّعاه المدعى عليه مَنَع المدعي من تحليفه مرة أخرى، وإن لم يتذكر ما ادعاه المدعَى عليه من التحليف، فلا مبالاة بقوله، وتتوجه عليه اليمين.
وإن ادعى المدعى عليه تحليف الخصم إياه عند قاضٍ آخر، فهل يسمع قول المدعى عليه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يسمع هذا منه، لأن المدعي لو أقر به، لانتفع المدعى عليه، وتخلص من الخصومة.
والثاني: لا تسمع، لأنه ليس بحقٍّ يدعيه. وقد ذكر الوجهين أبو سعيد الإصطخري، فإن قلنا: يُسمع، فإن كان للمدعى عليه بينة أقامها عليه، وتخلص من هذه الخصومة، وإن لم تكن له بينة، فالقول قول المدعي: يحلف بالله ما حلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف هو، وتخلص عن الخصومة.
ولو قال المدعى عليه-والتفريع على سماع الدعوى في ذلك- أمهلوني لأقيم البينة، قال القاضي: القياس أن يمهل ثلاثةَ أيام، قياساً على الاستمهال في نظائر ذلك، قال: ولكني أقول: لا نمهله أكثر من يوم واحد؛ فإنه يشبه المراوغ المتعنت.
وهذا الذي ذكره غير لائق بفقهه، فإن القياس إن صح، فلا يدافع بمثل ذلك. نعم، يتجه أن نقول: لا نمهله أصلاً؛ لأن اليمين متوجهة عليه في أصل الخصومة، وهو يريد أن يدرأها باحتيال واستمهال، وليس كالمدعي إذا ردت عليه اليمين، فاستمهل؛ فإنه صاحب الحق، واليمين حجته، ولا طلبة عليه، وإنما الإشكال في أن المدعي كيف يصح نكوله عن يمين الرد، كما قدمنا ذكر ذلك، والمدعى عليه مطالب باليمين، وهو بما يذكره من إقامة البينة مدافع ليمينٍ توجهت عليه.
فرع:
12113- إذا ادعى رجل مالاً على رجل، وصحت دعواه فيه، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذه الدعوى، قال الإصطخري: هذه الدعوى مسموعة، وقال القفال: لا تسمع، وكان القفال يقول: إنما يستقيم هذا على أصل أبي حنيفة، حيث يجوّز الصلح مع الإنكار، فأما على أصلنا، فلا يصح، لأنه ادعى الإبراء مما لم يثبت إذا قال: أبرأتني عن الدعوى. والدعوى تنقسم حقاً وباطلاً، فدعوى الإبراء عن الدعوى إنما هي دعوى في شيء غير صحيح.
وعلى مذهب الأصطخري لو سمعنا هذه الدعوى، فنقول: يصح الإبراء عن الدعوى لو صدر من المدعي، فلو أقام المدعى عليه البينة على إبراء المدعي عن الدعوى، بطل حق المدعي، حتى لو أراد المدعي أن يقيم البينة على الحق، لم تقبل منه، وإن نكل المدعي عن اليمين، وحلف المدعى عليه على إبرائه، ثبت مقصوده، وانقطعت الدعوى.
ولو ادعى مالاً وصحت الدعوى، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذا المال، فهذا إقرار منه بالمدعَى؛ فإن الإبراء من ضرورته تقدم الحق عليه، فقد اعترف بالحق، وادعى على مستحِقه إسقاطَه، فيطالَب بإقراره، وله الدعوى.
ثم في كلام القاضي ما يدل على أن المدعى عليه إذا ادعى إبراءً عن الحق، أو إيفاءً، فهو مطالب بالحق. يقال له: أدّ ما لزمك، ثم استفتح دعواك.
وهذا لا أعرف له وجهاً. والأصحاب مجمعون على خلافه. وكيف يطالب المدعى عليه بإيفاء الحق، ودعواه مسموعة في الإيفاء، وفصلها ممكن في الحال بتحليف المدعي؟ نعم، لو ادعى الإبراءَ، وقال: لي بينة، فأمهلوني في إقامتها إياها، فلا نمهله الآن، ونقول: أدّ ما ثبت عليك، أو اقنع بتحليف صاحبك على نفي الإبراء، ثم أدّ، وإن كان لك بيّنة، فأقمها من بعدُ. ونحن نُتبع الحكم، وله-إن صدق- أن يصابر الحبس أياماً معدودة ليحضر بيّنته.
وهذه الصورة الآن تناظر مسألة وكيل الغائب في الحكم، فإذا حضر وكيلٌ، وأثبت حقاً لموكله على خصمه، فقال المدعى عليه: قد أبرأني موكلك، فنقول له:
أدّ ما عليك، ثم إذا حضر الموكل، فادّع، واستدرك؛ فإنا لو لم نقل هذا، لأدى إلى تعطيل فائدة التوكيل على الغَيْبة.
فصل:
12114- ذكر صاحب التلخيص مسائلَ في نوعين:
أحدهما: في امتناع جريان التحليف، والثاني: في امتناع ردّ اليمين بعد النكول.
فأما النوع الأول- فمن مسائله فيه، أن من نصب وصياً في تركته، فجاء إنسان، وادعى أنه قد أوصى له الميت بوصيةٍ؛ فإن أقام البينة، تثبت الوصية، وإن لم يُقم، وأراد أن يحلّف الوصيّ بالله لا يَعلم ذلك، فلا يجد إلى تحليفه سبيلاً، إذا لم يكن الوصي وارثاً.
وهذا ظاهر؛ لأن الوصي لو أقر بالوصية، لم تثبت بقراره؛ فلا معنى لتحليفه، ولو كان الوصي وارثاً، فاليمين تتوجه عليه حينئذ بحق الوراثة.
ومما ذكره مسألة الوكيل: إذا جاء رجل، وادعى أنه وكيل غائبٍ، ولا بينة له، فإن أراد أن يحلّف الخصمَ على نفي العلم بالتوكيل، فقد ذكرنا أنه ليس له ذلك، لأنه لو أقر بالتوكيل ولا بينة، فله أن يمتنع لما يتوقعه من إنكار الموكّل لأصل الوكالة.
وألحق الأئمة بما ذكره تحليفَ الشاهد والقاضي، وقد أوضحنا امتناع ذلك لما فيه من الفساد.
ومما ذكره أن من ادعى على إنسان شيئاً، فادعى المدعى عليه أنه صبي، وكان ما يقوله محتملاً، فالخصومة تقف، فلو قال المدعي: حلّفوه على الصبا، لم نحلّفه، لأن الصبيَّ لا يحلّف، وتحليفه ينافي قبولَ دعواه.
12115- فأما المسائل التي ذكرها من النوع الثاني، وهي إذا امتنع رد اليمين بعد نكول الخصم، فمنها: أن الساعي إذا طلب الزكاة، فقال رب المال: قد أديتُها، فالقول قوله، فإن حلَّفناه، فنكل، فلا سبيل إلى رد اليمين على الساعي، ولا على المستحقين-ولا حصر لهم- فماذا نصنع والحالة هذه؟ فيه تفصيل قدمتُه في كتاب الزكاة، وأنا أعيد منه ما أظن أني لم أذكره، فأقول: من أصحابنا من ذهب إلى أن اليمين غيرُ مستحَقة على رب المال، فعلى هذا لا أثر لنكوله. ومنهم من قال: اليمين مستحَقة عليه، فإذا حلفناه، فنكل، ففي المسألة أوجه: أجدها- أنه يُقضى عليه بالنكول؛ فإن اليمين قد تعذَّر ردُّها، والثاني: لا يقضى بالنكول؛ فإنه ممتنعٌ على أصل الشافعي، ولا سبيل إلى الرد، فيُحبَس المدعى عليه حتى يحلف أو يؤدي ما عليه ويُقر.
وهذا بعيد عن قاعدة الشافعي؛ فإن الإجبار على التحليف إنما صار إليه أبو حنيفة في القسامة وغيرها.
والوجه الثالث: أنا نفصل بين أن يكون رَبُّ المال على صورة المدعين، وبين أن يكون نافياً على صورة المدعى عليه؛ فإن كان مثبتاً، مثل أن يقول: أدّيتُ الزكاة.
12116- ومما أورده من هذا الجنس أن الذمي إذا ضربنا عليه الجزية، فلما انقضى نصف السنة، غاب عنّا، وعاد بعد انقضاء الحول مسلماً، وقال: قد أسلمت قبل انقضاء الحول، وفرّعنا على قولنا: إن الذمي إذا أسلم قبل انقضاء الحول، لم يلزمه شيء من الجزية لما مضى من الحول في الشرك، فإذا ادعى ذلك قُبل قوله؛ فإن ما يقوله ممكن، والأصل براءة الذمة، فنحلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، فلا سبيل إلى رد اليمين على أهل الفيء.
ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يُقضى عليه بنكوله، فتلزمه الجزية.
والثاني: لا يقضى عليه بالنكول، ولا سبيل إلى الرد، فلا يلزمه شيء. وهذا عندي إسقاط اليمين؛ فإنه يَنْكُل، فلا يلتزم شيئاً، ولا سبيل إلى حمله على اليمين. والوجه الثالث: أنه يحبس حتى يحلف أو يعترف بما عليه.
ثم قيّد صاحب التلخيص هذه المسألة بالغَيْبة، فقال: لو غاب ثم جرى ما جرى، وعاد مسلماً، فظاهر هذا يدل على أنه لو بقي بيننا، ولما انقضت السنة، صادفناه مسلماً، فادعى أنه قد أسلم قبل الحول، ولم يُخْبرنا، وكتمَ إسلامَه عنا، فلا يقبل قوله في هذه الصورة؛ إذ الظاهر أن من يسلم لا يكتم إسلامه في بلاد الإسلام؛ فلم يقبل قوله، والأصل عدم ما يدعيه، فتلزمه الجزية، إلا أن يقيم بيّنة.
والذي أراه أنا لو ألزمناه في مسألة الغَيْبة الجزية إن لم يُقم بينة على إسلامه قبل انقضاء السنة، لم يكن ذلك بعيداً؛ فإن إسلامه في الغيبة وإن كان ممكناًً، فهو ثبوت أمر يناقض موجَبَ عقد ملزم؛ وقد قلنا: لو ادعى الموكّل عزْلَ الوكيل في الغيبة- تفريعاً على نفوذ عزله- فلا يقبل قوله ما لم يُقم البينة، وهذا أمثل من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.
12117- ومما ذكره صاحب التلخيص في ذلك أنا إذا أسرنا طائفةً من الكفار وأردنا قتل مقاتلتهم، فقال واحد منهم: لست ببالغ، فالحكم أنا نكشف عن مؤتزره، فإن كان أَنْبت، حكمنا ببلوغه، وقتلناه في القتلى، فلو قال: قد داويتُ واستعجلت الإنبات، فحصل في غير حينه، فإن قلنا: الإنبات عين البلوغ، فلا فائدة لقوله، وقد استعجل سبب حتف نفسه، وإن جعلنا الإنباتَ علامةَ البلوغ، فنحلّفه في دعوى العلاج، فإن حلف، لم نقتله، وكان من الذُّرية، وإن نكل عن اليمين، فقد نُقل نص الشافعي في أنه يقتل. وهذا قضاء بالنكول.
وهذه المسألة فيها وقفات:
منها- أنه قد ادعى الصبا، وتحليفُ من ادعى الصبا متناقض كما سبق ذكره. قال الشيخ: لكنا عولنا في تحليفه على ظاهر الإنبات، وإن كان هو يدعي الصبا، ولكن ظاهر الإنبات يكذبه، فحلّفناه. قال الشيخ: هذا مشكل مع هذا.
ثم إذا حلّفناه، فنكل، فالنص ما ذكرناه. وفي المسألة وجه آخر أنه استعجل، وهذا فيه إشكال من وجه آخر، وذلك أنه إذا تحقق بلوغه، فيحتمل أن يقال: لا يقتل، بل يدام الحبس عليه حتى يحلف أو يقر بأني ما كنت استعجلت فيقتل؛ وذلك لأن البلوغ المتحقق لا يخرجه عن الذرية أمس، وهو لا يقتل لبلوغ حالٍّ، وإنما يقتل لتبين بلوغه عند الأسر، هذا ما أردنا أن نذكره في ذلك.
12118- ومما ذكره من هذا الجنس أن غلاماً يافعاً من الأولاد المرتزقة إذا عرض نفسه، وزعم أنه قد بلغ لنُثبت اسمَه في الديوان، ونُجريَ له السهم، وكان صدقه محتملاً، قال: نحلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، لم يثبت له سهمُ المرتزقة.
وقد تكلم الأصحاب في هذه المسألة على وجهين:
أحدهما: أن منهم من قال: إذا ادعى البلوغ، صُدِّق، ورُجع إلى قوله، ولم نحلّفه؛ فإن الإمام إن قدره بالغاً، لم يحتج إلى تحليفه، وإن قدّره صبياً، فلا حكم ليمينه، وقالوا: إن حلّفه، فنكل، فليس هذا من باب القضاء بالنكول-إن رأينا تحليفه- بل هو من باب عدم الحجة، فقد ادعى أمراً لا حجة معه فيه، واليمين في حقه في هذا المقام بمثابة البينة في حق المدعي، فإنه ليس يُدّعى عليه أمرٌ حتى يفرض نكوله ويطلبَ بعد نكوله الرد. هذا منتهى ما أورده صاحب التلخيص.
12119- وألحق الأصحاب بما ذكره أن من مات، ولم يخلّف ورثةً خاصة، وورثه المسلمون، وكان له دين على إنسان، فادعاه منصوب السلطان، فأنكره، ولا بيّنة، فيحلِّفه، فلو نكل، فلا سبيل إلى الرد. وفي الممسألة وجهان ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه يُقضى عليه بالنكول، بخلاف قياس الباب؛ لأنا حيث لا نقضي بالنكول، نجد مَردّاً بتحقيق اليمين، وهو يمين المدعي، فلا نبرم الحكمَ دون عرضها إذا أمكن ذلك، والنكول حيث لا رد منتهى الخصومة، فلا يبعد أن يُنسب صاحبُه إلى العناد، وقصْدِ دفْع الحق والامتناع عنه.
والوجه الثاني- أنه يحبس ليحلف، أو يُقر كما قدمناه، والفرق بين هذه الصورة وبين مسألة الزكاة أنه يجري في مسألة الزكاة وجهٌ أن الاستحلاف ليس مستحقاً، واليمين في الصورة التي ذكرناها الآن مستحقة على قياس الخصومات، فلم يخرّج أصحابنا وجهاً أنه يُترك إذا نكل، ولا يُقضى بالنكول ولا يحبس؛ فإن هذا إن قيل به، فحاصله إسقاط اليمين رأساً، وقد كان شيخي يذكر هذا الوجه في هذه المسألة، وهو أنا نخلّيه، ولا نقضي عليه، غير أنا نُعصِّيه لو عاند، وهذا لا حاصل له.
نسأل الله تعالى حسن الإعانة، وتقييض منصفين ينظرون في مجموعنا هذا، وهو ولي التوفيق.