فصل: كتاب الشهادات وما دخله من الرسالة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الشهادات وما دخله من الرسالة:

قال الشافعي رضي الله عنه: "ليس من الناس أحد نعلمه إلا قليلاً يمحِّض الطاعةَ والمروءة، حتى لا يخلطهما بمعصيته، أو يمحِّض المعصية حتى لا يخلطها بشيء من الطاعة... إلى آخره".
12120- المقصود من هذا الكتاب الكلامُ في عفة الشاهد ومروءته، واشتراط توقّيه عن التهمة. وقد ذكرنا في باب مجامعَ الشرائط المرعية في الشهود، والغرضُ الآن مقصور على الأصول الثلاثة التي ذكرناها.
ثم ذكر الشافعي في عقد الباب كلاماً، نقلنا بعضه، وبالجملة إذا كان اشتراط العصمة محالاً في قبول الشهادة، فيُفضي الكلامُ إلى انتشارٍ لا يستقل لضبطه إلا موفَّق في ذكر ما يقدح في الشهادة من الذنوب وفي ذكر ما لا يقدح.
ولو لم يكن فيه إلا التعرض للكبائر والصغائر، وقد تقطع علماء الأصول فيها، فلا يتأتى الخوض فيها، وفي أئمتنا من قال: لا صغيرة في الذنوب، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق، واستمسك فيه بما لا يُدَافَع، فقال: الذنب يعظم بعظم قدر من خولف فيه، فعلى هذا كل ذنب- وإن استصغره مقارفه كبيرة؛ من جهة أنه مخالفةٌ لأمر الله تعالى.
والمروءة ونقيضها كيف تنضبط مع اختلاف الحالات والدرجات.
والتهمة خارجة أيضاً عن الضبط.
ونحن نستفرغ الوسع في هذه الفصول ونبرأ من الحول والقوة، فنذكر أولاً ما قاله الأصحاب.
قالوا: العفيف من لا يرتكب كبيرة، ولا يُصرّ على صغيرة، وصاحب المروءة هو الذي يصون نفسه عن الأدناس، ولا يَشينها عند الناس.
وقيل: هو الذي يسير سيرة أشكاله من أهل عصره في زمانه ومكانه.
وقيل: هو من يحفظ نفسه من فعلٍ يُسخر به لأجله، فالفقيه إذا لبس السلاح وزيّ السلطان، كان تاركاً للمروءة. والحمالون إذا تطلّسوا كانوا تاركين للمروءة.
فهذا ما ذكره الأصحاب، وما لم نذكره، فهو من جنس ما ذكرناه.
12121- والضبط عندنا في مقصود هذا الباب أهونُ من كل ضبط في محل انتشار، فنستعين بالله، ونقول: أما الذنوب فالمعتبر عندنا فيها أن يقال: كل ما يدلّ صَدرُه عن الشخص على استهانته بالدين، ولست أعني الاستهانة التي توجب التكفير، بل أعني استهانة تُنتجها غلبةُ النفس الأمّارة بالسوء؛ فإن من شأنها إذا استغلبت على سُنَّةِ التقوى أن تهوّن الأمر، وقد تعتضد بعده بالتوبة وبإظهار المطمع في الرحمة، وبالجملة تتدرب وتتمرن على العصيان على استبشار من غير استشعارٍ وانكسار، فكل ما يُشعر بذلك- يوجب ردَّ الشهادة، وهو الكبيرة عندي في قاعدة الأصول.
وما يحمل على فلتات النفس، وفترات مراقبة التقوى، وشأنُ مثله أن يقترن بالتندم، ولا يهنأ صاحبه بلذة في المعصية، بل يُنَغص عليه كلَّ لذة تنال نفسه في المعصية، ومن هذا يلتحق الإصرار-على ما يسمى صغائر- بالكبيرة، ويُخرَّج على ما مهدناه أن الموبقات لا تكون نوادر؛ فإنه لا يستجزىء عليها إلا جسور، سبقت طمأنينة نفسه إلى أمثالها، وإلى المعنى الذي ذكرناه أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم».
وقد ذكر بعض الأتقياء في هذا كلاماً واقعاً، فقال: معصية التقيّ كعثرة الجواد ونبوة الصارم، فإن دام العِثار، فعن ظَلْعٍ وكلال، وإن دامت النَبوة فعن انفلال.
12122- ونحن نتمم غرضنا في الشهادة، فنقول: إن كنا نطلب عدالةً ابتداءً، وظهر لنا ما يغلب على الظن استهانةً، فالجَرْحُ، وإن ترددنا فالوقْف، وإن ظهر لنا تحرج وتعظيم للدين، فالتّعْديل.
وإن تقدمت عدالة، فظهر نقيضها، فالجرح، وإن لم يظهر نقيضها، وطرأ تردد، فهذا موضع وقف القضاة، إذا رابهم أمر فيتحرجون، فإن لم يستبينوا واضطروا، قَضَوْا.
فإن قيل: هلا توقفوا حتماً؟ قلنا: لأن العدالة الماضية تنفي استواء الظن؛ فإنه لا يليق بالعدل الرضا ما نحسبه، وهذا يرجع إلى أنه إذا قضى، فهو باقٍ على غلبة الظن في استصحاب العدالة. هذا قولنا في تقريب الضبط فيما يتعلق بالمخالفات.
12123- فأما المروءة، فحقها أولاً أن تُفْصَلَ عن مقارفة الذنوب، وتُحصَرَ فيما لا يَحْرُم في نفسه، ولو أقدم عليه المقدِم، لم يأثم ولم يُعصَّ-وإن أطلقنا في بعض الأحوال الكراهية- على ما ستأتي المسائل، إن شاء الله.
فالضابط في هذا الفصل يقرب من الضابط فيما تقدم، فكل انحلال عن عصام المروءة يُشعر بترك المبالاةِ والخروجِ عن التماسك، فهو يُسيء الظنون بالتحفظ في الشهادة.
وفي هذا سرّ خفي، وهو أن من انحلّ كذلك، غلب على الظن انحلاله في المعاصي، وشهادةُ الزور منها، فرجع الرد في ترك المروءة إلى ظنٍّ غالب في ارتكاب المعصية، ومنه ما يغلّب على الظن خبلاً في العقل، فهذا هو المحذور ممن لا مروءة له.
ومما يجب مراعاته في الباب أمور العادات، وهي من أعظم الأقطاب، وذلك جارٍ في الذنوب وترك المروءات.
وبيانه أن اللعب بالنرد إن ثبت أنه ليس من الموبقات والكبائر، فإذا استعظمه أهل قُطر، فلا يُقدم عليه إلا جسور. وقد لا يستعظمه أهل ناحية، فيُعتبر في حق أهلها الإصرارُ.
وأمور العادات غالبة في المروءات، حتى لو قيل: جملتها مرتبطة بالعادات، لم يكن بعيداً. فمن لبس من الفقهاء القَباء في هذه الديار يعد خارماً للمروءة، وقد يعتاد الفقهاء ذلك في بعض بلاد الشرق، فلا يُنسبون إلى خرم المروءة. وقد يعتاد السوقة ببغداد التحنك والتطلّس، وذلك من عوامّ الناس خرق للمروءة في بلادنا.
وألحق الأئمة بفصل المروءات الكلامَ في أصحاب الحرف الدنيّة كالدباغ، والكنّاس، والحجام، والمدلّك، فذكروا وجهين في قبول شهادتهم، وسبب ذلك أنهم على عادةٍ مستمرة فيما هم فيه، فلم يكونوا خارمين لعادةٍ من وجه، واختيارهم تلك الحرف يورث خرماً ودلالة على خسّة الجوهر، فكان هذا التردد مثاراً للخلاف.
وذكر بعض الأصحاب الحاكة وعدوهم من أهل الحرف الدنية، قال القفال:
ليسوا عندي كذلك، فهم ينسجون غزلاً كما يخيط الخياط ثوباً منسوجاً، وهذا الذي ذكره حسن في فنه، ولكن يتطرق إلى الحاكة أمر نبهنا على تمهيده، وهو أن الناس متفقون على الإزراء بهؤلاء، وقد يجرون-في التعريض بالمساب والكلم المؤذية- النسبة إلى الحياكة، فإذا اطرد هذا في الناس، فاختيارها مع ظهور الذم بها يشعر بالخسّة التي يُشعر بها جملةُ الحرف الدنية، فهذا مما يجب التنبه له.
ومما نذكره أن الرجل المعدودَ من المعتبرين والأماثل إذا كان تبذّل في نقل الماء والأطعمة إلى منزله، فإن كان ذلك عن ضِنّةٍ وشُح، فهو خسة خارمة للمروءة، وإن كان ذلك عن استكانة وتذلل، وإظهارِ خضوعٍ وتأسٍّ بالأولين، وتشوفٍ إلى شيم الأتقياء البُرآء من التكلف، فهذا لا يخرم المروءة، ولا يخفى مُدرك الفصل بين الحالتين. ويستبان ذلك في الرجلين، فليقع النظر في أمثال هذا ثم الحكم بحسبه.
وألحق الأئمة بما ذكرناه اشتغالَ المرء عن مهماته بما هو مباح في قبيله، حتى يعدّ معطلاً لما يُهم، مشتغلاً بما لا يعنيه، فصاحب هذه الحالة ملتحق بتارك المروءة، وإن لم يكنه؛ لأنه في معناه؛ من حيث ينتسب إلى ترك المبالاة والانسلال عن العادات، وهو يتهدف لتغليب الظن بالجرأة على الزور والكذب، أو للخبل في العقل، كما قدمناه.
ومن هذا وقع لأبي حنيفة أن شهادة الفاسق بالغصب. والظلم إذا كان كبير النفس، آنفاً من الكذب-مقبولة؛ فإن فسقه لا يغلّب على القلب جرأته على الكذب، مع ما ظهر فيه من الأنفة، والاستنكاف عن كذبةٍ، وإن قَبِل دونها.
والشافعي لم يثق بفاسق، وجعل عصامَ الأمر الدينَ، وقد يعرض للظلمة في حميّات النفوس والعصبية إذا لم يَزَعْهُم دينٌ- الكذبُ.
12124- ومما نلحقه بهذه الأصول ردَّ شهادة المغفل، فالعدل الرضا إذا غلبت غفلاته، واعترته في حالاته الفترات، فالشافعي يرد شهادته مجملةً، ويقبلها مفصلة إذا وصف المكان والزمان، وتأنق في ذكر الأوصاف. وهذا خارج على القاعدة؛ لأنه إذا أجمل الشهادة، فقد يظن به غفلة، وإذا فضلها-وهو عدل لا يظن به اعتماد الكذب- فيبعد أن تنتظم له الدقائق في التفاصيل من غير تثبت وتحصيل.
فيخرج مما ذكرناه أن الرد بالفسق، وترك المروءة، والغفلة، يؤول إلى أصلٍ واحد في غلبة الظن، فهذا نجاز تمهيد أصول الباب.
وقد جرى بالغاً في البيان والانتظام. ونحن نعود بعده إلى مسائل الكتاب، ونقتصر على ذكرِ صورها، والمرامزِ إلى تفاصيلها المُلْحقةِ لها بالأصول التي مهدناها، والله وليّ التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
فصل:
قال: "ولا يقبل الشاهدَ حتى يثبت عنده أنه حر... إلى آخره".
12125- هذا معترِض في الباب خارج عن المقاصد الثلاثة التي ذكرناها، ولكنه مقصود في نفسه، فالحرية لابد من مراعاتها في الشاهد، ثم يجب طلبُ الباطن فيها، ولا يمكن ضبط اشتراط الحرية بالمروءة، مصيراً إلى أن العبيد لا تستدّ لهم رعاية المروءة؛ فإن المعول في المروءة على العادات، والتبذل عادةٌ مطردة في المماليك لا تَشينُهم، وليسوا فيما بُلوا فيه كأصحاب الحرف الدنية؛ فإنهم مضطرون إلى تصريف السادة إياهم في جهات التبذّل.
والدليل عليه أن تاركَ المروءة مردودُ الرواية، كما أنه مردودُ الشهادة، ورواية العبد مقبولة. فلا يستدّ من ردّ شهادة العبيد إلا أمران:
أحدهما: إجماع الخلفاء والقضاة على ترك طلب الشهادات من العبيد، مع كثرتهم، واشتهرت الروايات من المماليك.
والآخر- أن الشهادة تقتضي قياماً بتحفُّظٍ عظيمٍ، واستبدادٍ بالنفس في طلب الاطلاع، وهذا لا يتأتى من العبد؛ فإن فرض فارض إذناً من السادة، فهو بمثابة ما لو فرض مثل ذلك في الولايات.
ثم لا اكتفاء بالظاهر، فلتَثْبت حريةُ الشاهد ببينة أو بتسامع على استفاضة، أو بانتساب الرجل إلى أحرار فلو أراد القاضي أن يكتفي بالظاهر في ذلك، كان كما لو اكتفى بظاهر العدالة.
فصل:
قال: "ولا تجوز شهادة جارّ إلى نفسه... إلى آخره".
12126- هذا هو القطب الثالث، وهو. ردّ الشهادة بالتهمة، ولا يُدْرَكُ مقصدُ الفصل بالهوينا. وقد قال الشافعي في مواضع: "أقبل الشهادة، ولا أجعل للتهمة موضعاً". ولا يمكن إنكار رد الشهادة بالتهمة في أصول الشريعة، فكيف الضبط، والطرفان منتشران؟
الوجه أن نذكر ما ذكره الأصحاب نقلاً، ثم نشمر للبحث. قالوا: لا تقبل شهادة جارٍّ إلى نفسه ولا دافعٍ عنها.
ثم صوّروا الجرَّ، فقالوا: إذا شهد الرجل بأن فلاناً جرح موروثه، لا تقبل شهادته في حياة المجروح.
وصوروا الدافع، فقالوا: إذا شهد شاهدان على أن فلاناً قتل فلاناً خطاً، فشهد عدلان من العاقلة على جرح شهود القتل، فشهادة العاقلة مردودة، لأنهم يدفعون عن أنفسهم غُرم التحمل. هذا ما ذكره الأصحاب في الجرّ والدفع.
ولست أتعرض بعدُ لضبط المذهب حتى استتم نقل المسائل المتعلقة بالتهمة.
12127- قال رضي الله عنه: "ولا على الخصم، لأن الخصومة موضع عداوة... إلى آخره".
قال أئمتنا: شهادة العدو على العدو مردودة؛ لمكان التهمة، وشهادته له مصلحة، وعلى هذا بنى الأصحاب ردَّ شهادة الزوج مع ثلاثة من العدول على زنا زوجته، فإنها بزناها أوغرت صدر زوجها. والوجه في ذلك أنه ربما يرى منها مراودات وأمور تدل على الفجور، فيحمله ذلك على ما ذكرناه.
وأهم ما نذكره في هذا الفصل معنى العداوة، فلا ينبغي أن تُفرضَ عداوة مترتبة على فسق لا يُظهر تأثير العداوة في الرد، والعداوة التي نعنيها ونحكم بأنها توجب رد الشهادة من غير فسق هي العداوة الجبلّية أو المترتبة على سبب (قُدْرَتي)، لا انتساب فيه إلى معصية؛ فإن كان الإنسان مع آخر بحيث يتمنى له كلَّ سوء ويريد له كلَّ شر، ويحزن بمسرته، ويشمت بمصائبه، ولا فسق، فهذه العداوة توجب رد شهادته على عدوه. وقد لا يكون ذلك الإنسان عدواً، فالنظر إلى معاداة الشاهد إياه، وإن كانت العداوة مترتبة على فسق، فالشهادة مردودة عموما للناس وعليهم.
ولم يختلف أصحابنا في أن الصداقة لا توجب رد الشهادة، ولو طرد الطارد القياس الذي يبتدره الوهم بجعل الصداقة ضد العداوة، وقال: شهادة الصديق للصديق مردودة. وهي عليه مقبولة، كما أن شهادة العدو مردودة، وهي له مقبولة، ولكن الفرق أن الصديق الصدوق إذا كان عدلاً لا يحب لصديقه إلا ما يحب لنفسه، والعدل الرضا لا يؤثر لنفسه إلا الخير، فالصداقة تحمل على طلب الخير للصديق، والعداوة تحمل على طلب الشر للعدو.
ولم يختلف العلماء في أن شهادة المخاصِم مردودة على المخاصَم، وشهادة المخاصَم ليست مردودة على المخاصِم، وسبب ذلك أن شهادة المخاصَم لو كانت مردودة على من يخاصمه، لصار ذلك ذريعة في إبطال كل شهادة، حتى يقال: كل من يهم بإقامة شهادة على شخص، فينشىء ذلك الشخص خصومة مع الذي يشهد، فيرد شهادته، فحسمنا هذا الباب.
12128- ثم قال: "ولا لولد بنيه وولد بناته... إلى آخره".
كل شخصين بينهما قرابة توجب النفقة عند فرض الإعسار في جانب واليسار في جانب، فشهادة أحدهما مردودة للثاني مقبولة عليه، هذا هو المذهب.
وللشافعي رضي الله عنه قول في القديم أن شهادة كل واحد منهما مقبولة للثاني وعليه.
وقال مالك شهادة الوالد للولد لا تقبل. وشهادة الولد للوالد تقبل. ومذهب الشافعي في القديم قبول الشهادة من الجانبين.
وكل قرابة لا توجب النفقة، لا تتضمن رد الشهادة.
وأبو حنيفة أوجب النفقة بالأخوة، وما في معناها، ولم يردّ الشهادة بها.
أما شهادة الزوج لزوجته، وشهادة الزوجة لزوجها، فقد أجراها الأصحاب مجرى القول في القطع عند السرقة.
ففي المسألة إذاً ثلاثة أقوال:
أحدها: قبول الشهادة من الجانبين.
والثاني: ردها من الجانبين.
والثالث: قبول شهادة الزوج لزوجته ورد شهادتها لزوجها، والفاصل أنها تستحق النفقة عليه، وهو لا يستحقها عليها، ولا شك أن هذا التردد في شهادة أحدهما للثاني، فأما شهادته عليه، فمقبولة إذا لم تكن عداوة، وكذلك شهادة الولد والوالد مقبولة من كل واحد منهما على صاحبه.
وذكر العراقيون وصاحب التقريب اختلافاً في مسألةٍ وهي إذا شهد الابن على أبيه بما يوجب عليه عقوبة، فالذي ذهب إليه الأكثرون القبول، وهو جارٍ على القياس ولا تهمة.
ويُحكَى عن بعض الأصحاب ردُّ شهادة الابن على أبيه فيما يوجب عقوبة، فإنها لو قبلت، لكان الابن سبباً في وجوب العقوبة على الأب، وهذا ممتنع، لأن الأب لا يستوجب القصاصَ وحدَّ القذف بالجناية على ابنه وقذفه، وهذا كلام ركيك، لا أصل له؛ فإن العقوبة التي تجب بشهادة الابن ليست واجبة له، وهذا هو الممتنع.
هذه مسائل ذكرها الأصحاب في رد الشهادة بالتهمة.
12129- وقد حان الآن أن نذكر في ذلك ضبطاً معنوياً، فنقول: ما يقتضيه قياس أصول الشريعة ألا ترد الشهادة من عدل لتخيّل تهمة؛ فإنه لا يُظَنُّ بمن ظهرت عدالته الميلُ إلى مظانّ التهم، ومن لا يُعدّلُه دينُه في مزالّ القدم ومواطن التهم فليس عدلاً، والاعتدال افتعال من العدالة، ومن يُزيغه طلبُ حظه، فحقه أن ترد شهادته على العموم، ولكن الذي تمهّد في أصل الشرع أن الإنسان لا يثبت حق نفسه بقولٍ يصدر منه، وإن كان أعدل العدول، وليس رد ذلك للتهمة أيضاً؛ فإن الذي هو أعدل البرية ويهون في حقه بذلُ الآلاف في اقتناء المكرمات، وجلب الخيرات، إذا ادّعى درهماً، فيغلب على القلب صدقه، وتنتفي التهمة، ولكنَّ وضْعَ الشرع على أن الإنسان لا يُثبت بنفسه لنفسه حقاً، فإذا تضمَّنت شهادته جرّاً في مسألة جرح الموروث، فهي مردودة لا للتهمة، ولكن لأنه يشهد بجُرح هو مستحق أرشه.
وقد ذكرنا أنه لو شهد لموروثه في مرض موته بمالٍ، ولم يكن بينهما بعضية، فشهادته مقبولة؛ فإن الملك يثبت منبتّا لحيٍّ، بخلاف أرش الجرح؛ فإنه لا يثبت إلا حين يستحقه الشاهد.
وأما صورة الدفع، فهي خارجة على ما مهدناه؛ فإن العاقلة يدفعون عن أنفسهم، فكان هذا في معنى شهادتهم لأنفسهم.
ويخرّج على ذلك رد الشهادة بين قريبين بينهما عُلقة النفقة، فكأن كل واحد منهما يثبت لنفسه مالاً إليه مرجعه إذا احتاج، ولا غرض في أعيان الأموال إلا الرجوع إليها عند الحاجات.
ولو رُددنا إلى الأصل الممهد، لما رَدَدْنا شهادةَ العدو على صاحبه، ولكن اعتمد الشافعي في هذا خبراً صحيحاً، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقبل شهادة خصم على خصم»، فقال: إذا نظرنا، وجدنا العدو في معنى المخاصم، فإن الخصومة تتضمن عداوة في وضع الجبلة، وإن كان الخصم على الحق يدور.
واعترف أبو حنيفة برد شهادة الخصم، وأنكر اعتبار العدوّ به.
فهذا هو الذي يجب اعتماده في قاعدة التهمة، ومن ضمّ ما مهدناه في التهمة إلى ما ذكرناه في قاعدتي المعصية والمروءة، لم يخف عليه مُدرك الكلام في مسألة تتعلق بهذه الأصول.
فصل:
قال: "ومن لا يُعرف بكثرة الغلط والغفلة... إلى آخره".
12130- العدل المغفل ليس مردودَ الشهادة على الإطلاق، وليس مقبولها على الإطلاق، ولكن كل ما يَغْلِب على القلب غفلتُه فيه، فشهادته مردودة فيه، وذلك الشهادة المرسلة، فأما الشهادة المفصّلة إذا امتحناها،-والرجل عدل- فلم تضطرب، فهي مقبولة؛ إذ ليست الغفلة معنىً يقتضي الرد عموماً بخلاف الفسق.
وهذا يناظر قول أئمة الحديث في إسماعيل بن عياش، فإنهم يقبلون ما يرويه عن الشاميين، ويتوقفون فيما يرويه عن غيرهم، لأنهم رأوا حفظه ثابتاً في رواياته عن الشاميين، ولعله كان أثبتها في عنفوان شبابه، فثبت حفظه.
وكل ما يتعلق بتحقيق الثقة، فتستوي فيه الرواية والشهادة، ويترتب على هذا الأصل أمر ذكرناه قبلُ مرسلاً، ونحن نفصله الآن.
12131- قال الشافعي: "القاضي إذا رابه أمر من الشهود فرّق مجالسهم، وسألهم عن الزمان والمكان... إلى آخره".
ونحن نقول: إذا استشعر القاضي منهم غفلة، ورابه لذلك أمر، فإنه يطلب التفصيل لما أشرنا إليه في شهادة المغفل، فلو أَبَوْا أن يذكروا التفصيل، وكان لقنهم ملقن الامتناع عن التفصيل، فالقاضي إن دامت ريبته، لم يقض بشهادتهم؛ بناء على ما ذكرناه.
وإن لم يكن بالشهود غفلة، فشهدوا، وظن القاضي بهم غفلة؛ فإذا استفصلهم، ولم يفصّلوا، فعلى القاضي أن يبحث عن حالهم، فإذا تبين أنهم ليسوا مغفلين، قضى بشهادتهم المطلقة؛ ومعظم شهادات العوام يشوبها جهل وغرّة، وإن كانوا عدولاً، فيتعين الاستفصال، كما ذكرنا. وليس الاستفصال مقصوداً في نفسه، وإنما الغرض تبين تثبتهم في الشهادة التي أقاموها، وهذا كشف سرٍّ يغتبط الفقيه به.
فصل:
قال: "ولا أرد شهادة الرجل من أهل الأهواء، إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقه بتصديقه وقبول يمينه... إلى آخره".
12132- قال الفقهاء الذين شَدَوْا طرفاً من الأصول: إذا كفّرنا المعتزلة، ومن شابههم من أهل الأهواء، رددنا شهادتهم، وإن ضلّلناهم، لم نرد شهادتهم، والقول في التكفير، والتبرؤ ليس بالهين، وما ذكره الأصحاب من أن من يكفو تردّ شهادته صحيح، ونقل العراقيون أن الشافعي كفّر من قال بخلق القرآن، وهذا أهونُ بدعة ابتدعها المعتزلة.
وكان شيخي ردّ شهادة الوقّاعين في أعراض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل المتعرضين لعائشة قذفَةً مردودين، فإن منزلتها لا تنحط عن منزلة محصنةٍ من حرائر المسلمين، وقد سماها الله تعالى محصنة، فقال: {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ...} [النور: 23].
وأنا أقول: لا سبيل إلى تكفير المعتزلة ومن في معناهم من أهل الأهواء، وقد نص الشافعي في مجموعاته على قبول شهادتهم، وما نقل عنه من تكفيرهم، فهو محرّف، وظني الغالب أنه ناظر بعضهم، فألزمه الكفرَ عن حجاج، ولم يحكم بكفره، وإذا كان كذلك، فسبيلهم في الشهادة كسبيل غيرهم، فينظر إلى العدالة والثقة والمروءة، كما سبق تقريره. وقد قال الشافعي: النفسُ بقَوْلِ من يقول: "الكذب يوجب الخلود في النار " أوثق.
فهذا هو المذهب لا غير، وما حكيناه ليس خلافَ مذهبٍ، وإنما هو بناء على زللٍ في التكفير، ومثل هذا لا يعد مذهباً في الفقه.
وما ذكره شيخي من ردّ شهادة القذفة يصح على قانون الفقه، وكان محمد بن إسماعيل البخاري يؤلف مخرّجه الصحيح في الروضة: بين المنبر والقبر، قال: رويتُ عن ابن مُحَيْرِيز، فغلبتني عيناي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: تروي عن ابن مُحَيْريز وهو يطعن في أصحابي،-وكان خارجياً- قال محمد بن إسماعيل: قلت له: يا رسول الله، لكنه ثقة، فقال صلى الله عليه وسلم: «صدقت إنه ثقة، فارْوِ عنه»، فكنت أروي عنه بعد ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فصل:
قال: "واللاعب بالشِّطْرَنْج والحمام... إلى آخره".
12133- أطلق كثير من أصحابنا الإباحة في اللعب بالشِّطْرَنجْ، وقال المحققون:
إنه مكروه، وهذا هو الصحيح، ولا آمن أن الذين أطلقوا الإباحة أرادوا انتفاء التحريم؛ فإن التعرض للفصل بين المكروه والمباح مما أحدثه المتأخرون.
ثم قال الأصحاب: لا يحرم ما لم تنضم إليه مُسابّةٌ أو تركُ صلاةٍ، وهذا كلام غث؛ فإن المحرّم هو الترك والمسابّة، وقالوا: يحرم إذا قصد به القمار، وهذا أيضاً ليس بشيء؛ فإن القمار لا يلزم، والمحرم قصده وإلزامُه، والشطرنج في نفسه لا يتغير اللعب به. وقيل: كان سعيد بن جبير يلعب بالشِّطْرَنج استدباراً، وما روي أن علياً رضي الله عنه مرّ بقومٍ يلعبون بالشطرنج، فقال: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " فهذا محمول على أنه رأى الشطرنج على صورة الفرس والفيل؛ فقال ما قال.
وأما اللعب بالنرد من غير قمارٍ، فحرام على ظاهر المذهب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللاعب بالنرد كعابد الوثن»، وقال: «من لعب بالنرد، فقد عصى أبا القاسم» وقد روي «ملعون من لعب بالنردشير». وحكى صاحب التقريب عن ابن خَيْران أن النرد كالشطرنج، وحكاه العراقيون عن أبي إسحاق المروزي. فإن لم يثبت في النرد الأخبار التي ذكرناها، فلا فرق. وقد أطلق الشافعي لفظ الكراهية في النرد، ولا اعتداد بذلك؛ فإنه كثيراً ما يُطلق الكراهية، ويريد التحريم كما قال:"وأكره استعمال أواني الذهب والفضة " وأراد التحريم.
وكان شيخي يجعل اللعب بالنرد من غير قمار صغيرة، ولا يرى الردّ بالمرّة حتى يفرض فيها إدمان وإصرار. وقال قائلون: الكرّة منه تفسّق.
12134- وسأخرج هذا على الأصول التي سبق تمهيدها. فأقول: اللعب بالشطرنج بين أن يكون مباحاً أو مكروهاً، وعلى أي الوجهين قُدِّر لا يوجب ردَّ الشهادة لعينه، ثم يتطرق إليه وجهان:
أحدهما: أن إظهاره قد يكون ترك مروءة من بعض الناس. والآخر- أن إدامة الاشتغال به تعطّل المهمات. وقد بيّنت ما يتلقى من كل أصلٍ من هذين الأصلين من الرد ونقيضه.
والنرد إن ألحقناه بالشطرنج؛ فقد مضى حكمه، وإن حرّمناه، فمن أصحابنا من يراه كبيرة، ومنهم من يراه صغيرة، ولا يخفى أثرهما، وتفصيل القول فيهما، ويتصل بذلك كله ملاحظةُ الاعتياد، وقدرُ استقباح الناس في كل قطرٍ، على ما تمهّد.
واللعب بالحمام لا يحرم، وذكر العراقيون وجهين في أنه هل يكره، وليس لأمثال هذا الخلاف وَقْعٌ عندي، ثم الكلام في ردّ الشهادة يضاهي الكلامَ في اللعب بالشطرنج.
فصل:
قال:"ومن شرب عصير العنب... إلى آخره".
12135- شرب الخمر المحرمة إجماعاً من الكبائر، ثم كل مسكرٍ حرام عند الشافعي، وخلاف أبي حنيفة في المثلّث، ونقيع الزبيب، وغيرهما لا يخفى، فمن تعاطى من أصحابنا شيئاً منها رُدَّت شهادته.
وقال الشافعي:"لو شرب الحنفي النبيذ، حددتُه، وقبلت شهادته " وقد ذكرنا خلافاً للأصحاب في الحد. وقال المزنى: كيف تحد من شرب قليلاً من نبيذ شديد، وتجوّز شهادته؟ فمن أصحابنا من قال: المزني يختار أنه لا يُحدّ كما لا يفسّق، ومنهم من قال: بل يَختار أنه يُفسّق كما يُحدّ، ومن أصحابنا من ذكر وجهاً في التفسيق أيضاً، فَخَرَجَ في الحد والفسق أوجه:
أحدها: أنه لا يحدّ الحنفي ولا يفسّق.
والثاني: أنه يحدّ ويفسّق.
والثالث: أنه يحدّ ولا يفسّق. وهو النص. والشافعي يفسّقُ بشرب ما يعتقد تحريمه.
فإن قلنا: يحد الحنفي، فالشفعوي أولى، ومن قال: لا يحدّ المحلِّل، فهل يحدّ المحرِّم؟ فعلى وجهين:
أحدهما- لا يحد لشبهة مذهب المحللين، كما لا نوجب الحد على الواطىء في نكاح المتعة في ظاهر المذهب، وأما النكاح بغير ولي، فالصحيح أنه لا حدّ فيه، وأجرى بعض أصحابنا ذلك مجرى شرب النبيذ، وكل ذلك مما قرّرته في موضعه، وحظ كتاب الشهادة منه ما نبهت عليه، ولم أبسط القول في تمهيد أصول الباب إلا لأعطف عليها المسائل على إيجاز.
فصل:
قال:"ولو كان يديم الغناء، ويغشاه المغنون... إلى آخره".
12136- الفصل يشتمل على ما يتعلق السماع به من ضروب الغناء. والبداية في هذا الفن بتحريم المعازف والأوتار، وكلها حرام، وهي ذرائع إلى كبائر الذنوب.
وفي اليراع وجهان. ولا يَحْرم ضربُ الدف إذا لم تكن عليه جلاجل، فإن كان، فوجهان. وكان شيخي يقطع بتحريم (الكوبة)، ويقول: فيها أخبار مغلظة على ضاربها، والمستمع إلى صوتها. وقد نص الشافعي أن من أوصى بطبل اللهو، فالوصية باطلة، ولا يعرف طبل لهو يلتحق بالمعازف-حتى تبطل الوصية بها- إلا (الكوبة)، ولست أرى الطبول الصغار التي تُهيأ لملاعب الصبيان محرَّمة؛ فإنها إن لم تلتحق بالطبول الكبار، فهي في معنى الدّف.
ولم يتعرض القاضي (للكوبة)، ولو رددنا إلى مسلك المعنى، فهي في معنى الدف، ولست أرى فيها ما يقتضي تحريماً، إلا أن المُفْلِكِين يعتادون ضربها، ويتولعون بها.
والذي يقتضيه الرأي أن ما يصدر منه ألحان مستلذة تَهِيجُ الإنسان، وتستحثه على الشرب، ومجالسة إخوانه، فهو المحرّم، والمعازف والمزامير كذلك، وما ليس له صوت مستلذ، وإنما تنتحب في إيقاعات قد تطرب، فإن كانت لا تُلذ، فجميعها في معنى الدف، والكوبةُ في هذا المسلك كالدف، فإن صح فيها تحريم، حرّمناها، وإلا توقفنا فيها.
والضرب بالصَّفَّاقَتَيْن كان يحرمه، وهو مما يعتاده المخنثون، وفيه نظر عندي بيّنٌ؛ فإنه لم يرد فيه خبر، إن فرض ورود أخبار في الكوبة.
واليراعُ الذي حكينا فيه الخلاف ليس هو المزمار الذي يسمى العراقي، ويضرب مع الأوتار، بل لا نشك في تحريمه. وقد روى الرواة:"أن ابن الزبير كانت له جوارٍ عَوَّادات، فدخل عليه ابن عمر وبالقرب منه عود، فقال له ابن الزبير: يا صاحب رسول الله ما هذا؟ فأخذه وتأمله، فقال: ميزانٌ شامي وأنا ابن عمر".
وكان شيخي يقول: الاستماع إلى الأوتار في رتبة الصغائر، والإدمان فيه مفسّق، وما يندر منه لا يفسق.
وقطع العراقيون ومعظم الأصحاب بأنه من الكبائر، وهذا يوضحه ما قدّمناه من اعتبار العادات؛ فإن كان ما نحن فيه مستقبحاً معدوداً من الفواحش في بعض البلدان، فالهجوم عليه خرمٌ بيّن، واستجراءٌ على ترك المروءة. وإن كان لا يعدّ من الفواحش في بعض البلاد؛ فإذ ذاك يقع النظر في أنه من الصغائر أم من الكبائر؟ فهذا قولنا في الألحان والأوتار.
12137- وأما الغناء قولاً وسماعاً، فأجمعُ كلامٍ فيه وأحواه للمقصود قول الشافعي، إذ قال: الشعر كلامٌ، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، والأمر على ما ذَكر، فلا فرق بين أن يكون الكلام منظوماً أو منثوراً، فكل ما يحرم منثوره يحرم منظومه.
ثم في الشعر وغرضِنا منه ما يُحوِجُ إلى مزيد فكر. ومسلكُ الأصحاب مضطرب فيه: فأما الأشعار التي ليس فيها من المنكر والخنا وفُحش المنطق، والخروجِ إلى حد الكذب، وإنما هي في وصف دِمنٍ وأطلال، وما في معانيها، فهي دواوين العرب، والمُكِبُّ على تحصيلها متوسل إلى حفظ اللغة، وبيان مناظم الكلام، وهو من أشرف العلوم، وكيف لا، وهي الذريعة إلى دَرْك الكتاب والسنة.
ولو فرض ترنمُ مترنِّم بها في إنشادٍ، أو في صنع الحداء، فلا بأس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي إليها، ويطلب إنشادَها، وربما كان يستزيد ويستعيد، حتى رُوي أنه قال لشَرِيد: «أمعك من شعر أمية»؛ فقال: نعم، فقال: هيهِ، فأنشدته بيتاً، فلم يزل يستزيد حتى بلغت مائة. وقال لابن رواحة:
" حرّك بالقوم " فاندفع يرتجز ويقول:
اللهُمّ لولا أنت ما اهتدينا... ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
إلى آخر القطعة. ولا حاجة إلى الإطناب فيها على بيانه.
وإنما النظر في خروج الشاعر إلى حد الكذب في وصفٍ، أو مدح وإطراء، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن منشىء هذا الفن كاذب، فهو كما لو كان يكذب على ندور أو اعتياد، و قال الصيدلاني: هذا لا يلتحق بالكذب؛ فإن الكذب من يُخبر ويُري الكذبَ صدقاً، والشعر صناعة، وليس غرض الشاعر أن يُصدَّق في شعره، فليس إذاً من الكذابين.
فمن سلك المسلك الأول، قال: النادر من هذا الفن محتمل غير مؤثر في رد الشهادة، والكثير منه يوجب ردَّها، وقياس ما ذكره الصيدلاني أنه لا فرق بين القليل والكثير منه؛ فإنه ليس خبراً محقَّقاً عن مُخبرٍ، وليس خارماً للمروءة إذا لم يتخذه الشاعر مكسباً، فإذاً لا كذبَ ولا خسّة، بل هو من الفضائل، ثم من الوسائل إلى تعلّم الشريعة.
ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لأَنْ يمتلىء جوفُ أحدكم قيحاً حتى يَرِيَه خيرٌ من أن يمتلىء شعراً» قال أصحاب المعاني: هذا فيمن لا يحسن إلا الشعر، فأما إذا كان يحسن غيره، فليس يندرج تحت الخبر. وما ذكرناه مشروط بألا يهجو، ولا يتعرض لعرضٍ، ولا يشبب بامرأة معيّنة، فإن في ذلك هتكاً للستر.
ولا يتطرق إلى العلم بالشعر ومنشئه ومنشده بعد التحرز مما ذكرناه إلا ترك المهمات من الأمور، فإن استوعب الأوقات بها، وترك ما يُهِمه، فقد يكون ذلك بمثابة خرق حجاب المروءة، وإن لم يكن مُضرباً عن مهماته، فلا ترد شهادته.
فتنخّل من مجموع ما ذكرناه خلافُ الأصحاب في جوهر الشعر وأنه كذب إن اشتمل على ما ينتهي إلى الكذب، أم هو صناعة؟ فإن جعلناه بمثابة الكذب، فيجب أن نفصل بين ما يحكيه وبين ما ينشئه، فلا يُسْقِطُ الثقةَ بصدق لهجته.
والكذب الذي يجري إذا قلّ وندر، لم يوجب ردَّ الشهادة، وإذا كثر أشعر باعتياد الكذب، فإذ ذاك يتضمن ردَّ الشهادة. هذا قولنا في الكذب المقصود، فما الظن بما ليس مقصوداً كذباً، فيجب أن يُفْصَل بين القليل منه والكثير.
وإن جرينا على أنه ليس من الكذب، فإذا لم يكن فيه إيذاء فيبعد تحريمه، وقد يتطرق إليه ما ذكرناه من تَرك المهمات.
وإن اكتسب الشاعر بشعره، التحق ذلك بما يخرم المروءة، وقد انتجز القول فيه.
12138- وبقي بعده الغناء: فما يحرُم قوله، يحرُم سماعه، وما لا فلا. وإدمان الغناء قولاً وسَمْعاً يخرم مروءة الدين، ويُلحق الرجل بالهازلين.
والرَّقْص ليس محرَم العين، وإنما هو حركات على استقامة أو اعوجاج، ولكن كثيره يَخْرِم المروءة، كسائر أصناف اللّعب إذا كان على اختيار.
فصل:
قال:"وإذا كان هكذا، كان تحسينُ الصوت بذكر الله والقرآن أولى... إلى آخره".
12139- أراد بذلك أنه لما جاز الاستماع إلى الحُداء مع الترنم به، فلأن يجاز ذلك في ذكر الله وقراءة القرآن أولى، على شرط ألا ينتهي إلى التمطيط المغيِّر لنظم الكلام.
وكان أبو موسى الأشعري حسنَ الترنم بالقرآن، وفيه قال المصطفى عليه السلام: «أُوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود» وقال عليه السلام: «ما أذن الله لشيء إذنَه لنبي حسن الترنم بالقرآن». أراد بالقراءة، فلا منع إذاً.
وفي بعض الأخبار «من لم يتغن بالقرآن فليس منا» وتفسير الحديث معروف مع اختلاف فيه، وأصح الوجوه في تأويل الحديث من لم يُغنه القرآن، ولم يقنعه في إيمانه، ولم يصدق بما فيه من وعدٍ ووعيد، فليس منا، وقيل من لم يرتح من قراءته وسماعه.
12140- ثم قال:"ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه... إلى آخره".
وردت أخبار في النهي عن العصبية، وليس منها أن يحبّ الرجل قومَه، وإنما العصبية أن يبغض الرجل من ليس من قومه من غير سبب، وهي توجب البغض.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال عليه السلام: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً».
12141- ثم قال:"ويجوز شهادة ولد الزنا... إلى آخره".
والأمر كما قال؛ فإن ذلك لا يسقط الثقة، والأوصاف المرعية موجودة. وقصد بهذا الرد على مالك، فإنه رد شهادة ولد الزنا.
12142- ثم قال:"والقروي على البدوي".
وأراد أن شهادة القروي مقبولة على البدوي، وكذلك شهادة البدوي على القروي، وقصد بذلك الرد على مالك أيضاً.
فصل:
12143- إذا شهد الصبي والمملوك والكافر ورُدّت شهاداتهم لما بهم، فلو صاروا إلى الكمال، فبلغ الصبي، وأسلم الكافر، وعَتَق العبد، فأعادوا تلك الشهادات، فهي مقبولة منهم وفاقاً.
12144- وإن شهد الرجل، فردت شهادته لفسقه، ثم ظهرت عدالته وحسنت حالته وكان مقبول الشهادة في القضايا، فلو أعاد تلك الشهادة التي رُدّت بسبب الفسق، نُظر: فإن كان مستسرّاً بالفسق أولاً متعيّراً به لو نسب إليه، وقُذف به، فلا تقبل الشهادة المعادة باتفاق الأصحاب، ووافق فيه أبو حنيفة، ومتبعوه.
ولو كان معلناً بالفسق لمّا شَهد، غير متعَيّرٍ بأن ينسب إليه، فردت شهادته، ثم ظهرت عدالته، فأعاد بعد العدالة تلك الشهادة، ففي قبولها وجهان:
أحدهما: أنها مردودة، كما لو كان متعيراً بالفسق أول مرة.
والثاني: أنها تقبل، كالشهادة المعادة بعد العتق، وتغير العتق من التغايير التي وصفناها.
وأصحاب أبي حنيفة يزعمون أن سبب رد الشهادة المعادة أنها ردت، وجرى القضاء بردها أولاً، وشهادة الفاسق شهادة، بخلاف شهادة الصبي والمملوك والكافر؛ فإنها ألفاظ على صيغ الشهادة، وليست شهادة، ومعنى ردها إبانة أن ما جاؤوا به ليست شهادة، وليس كذلك الفاسق؛ فإنه شاهد، فإذا اتصل القضاء برد شهادته في قضية، لم تُعَد؛ إذ لو أعيدت، وقبلت، لكان قبولها نقضاً للقضاء السابق بالرد. وقد ذكرنا كلامهم هذا في مسائل الخلاف ونقضناه.
والذي يدور في الخَلَد من هذه المسألة؛ أن رد الشهادة المعادة بعد ظهور العدالة ليس ينتظم فيه معنى صحيح عندي؛ فإني أوضحت أن رد الشهادة بالتهمة من العدل لا معنى له في مسلك القياس، فقد استثنى الخبر رد شهادة الخصم، وألحق الشافعي شهادة العدو بشهادة الخصم، واستثنى الإجماعُ ردّ الشهادة المعادة، وليس عند من يشتغل بمعاني الفقه معنى يترتب عليه ردُّ الشهادة المعادة.
12145- ومما ينبغي أن يحاط به أن العبد المملوك إذا تصدى للشهادة، والقاضي علم برقِّه، فإنه يمنعه من إقامة الشهادة، وكذلك القول في الكافر والصبي، فأما الفاسق، فإن كان في أمره نظر، فلا شك أنه يصغي إلى شهادته، ثم يبحث عن حالته، فإن كان الشاهد معلناً بالفسق، فالذي كان يقطع به شيخي أن القاضي لا يصغي إلى شهادته؛ إذ يَقْبُح أن يُصغي القاضي إلى ثملٍ بيده قدح.
وذهب بعض أئمتنا إلى أنه يصغي إلى شهادة المعلن، ثم يرد شهادته، وهذا بعيد عن قياسنا.
ولو شهد السيد لمكاتَبه، فلا شك في رد الشهادة، فلو عَتَق المكاتَب، فأعاد السيد تلك الشهادة، ففي بعض التصانيف وجهان في قبول الشهادة المعادة:
أحدهما: أنها مردودة كالشهادة المردودة بالفسق، إذا أعيدت بعد ظهور العدالة.
والثاني: أنها مقبولة. والرد مخصوص بمسألة الفسق، وكأن القائل الأول ينظر إلى التعيّر بالرد الأول، ونسبة الشاهد إلى ترويج شهادته المعادة لما يُداخله من الغضاضة. وهذا قد يتحقق في رد شهادة السيد للمكاتب، ولما فيه من النظر، اختلف الأصحاب.
ولو ردت شهادته للعداوة، ثم زالت العداوة الظاهرة، وصار يوالف من كان يعاديه، فإذا أعاد تلك الشهادة، ففي المسألة وجهان، وهذا قريبٌ مما تقدم؛ من جهة أن البحث يتسلط على العداوة، وليس في رد شهادة العدو ما يَسْينه.
12146- فكأن المعتبر في الوفاق والخلاف أن الرد إذا كان بسببٍ ظاهر، وكان لا يعيِّر الردُّ المردودين، فإذا زالت الموانع، وأعيدت الشهادة، فالقطع بالقبول.
وإن كان السبب الذي به الرد مجتَهَداً فيه، وكان مع ذلك معيِّراً، فالقطع بردّ الشهادة المعادة، وإن تطرق الاجتهاد ولا تعيُّرَ في الرد، ففي رد الشهادة المعادة وجهان، والفصل تقليدي، لا انتهاض لمعاني الفقه فيه.
فصل:
12147- من تحمل الشهادة ظاهراً أداها كما تحملها، ومن سمع لفظاً، أو رأى فعلاً، وكان مختفياً عن القائل المشهود عليه، فالمذهب أن له إقامة الشهادة، بل عليه، ذلك إذا كان يتحمل الشهادة. وقال مالك: ليس له أن يقيم تلك الشهادة؛ فإن هذا التحمل من قبيل التدليس، واللائق بمحاسن الشريعة إبطالُه. وقيل: هذا قولٌ للشافعي، وهو مزيف غير معتد به.
فرع:
12148- ذكر بعض أصحابنا أن جلوس الرجال على فرش الحرير يوجب تفسيقهم، حتى قالوا: لو جلس شهود النكاح حالة العقد على فرش الديباج، لم ينعقد النكاح، بناء على أن النكاح لا ينعقد بشهادة الفسقة.
وهذا لا أصل له، والذي صار إليه المحصلون أن هذا من الصغائر، وما يندر منه لا يوجب التفسيق.
فصل:
قال:"ولو ترك ميت ابنين، فشهد أحدهما... إلى آخره".
إذا مات رجل عن ابنين وتركة، فاقتسماها، ثم أقر أحدهما بعينٍ في التركة لإنسان، وهي واقعة في حصته، وأنكر الابن الآخر استحقاقَ ذلك المقَر له، فلا خلاف أنه يجب على المقِر تسليمَ تلك العين إلى المقر له.
وإن أقر أحدهما بدين، وأنكر الثاني، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه يلزمه جميعُ المقر به في حقه بإقراره متعلقاً بما في يده من التركة، وهذا مذهب أبي حنيفة.
والثاني: يلزمه نصفُ المقَرِّ به بإقراره متعلقاً بما في يده من التركة. فلو أقر أحدهما بألف درهم، وفي يده ألف درهم، فعلى القول الأول يلزمه جميعُ المقَرِّ به وتسليمُ الألف، أو مقداره من سائر ماله، وعلى القول الثاني يلزمه خمسمائة متعلقاً بما في يده. وتوجيه القولين مذكور في (الأساليب)، وقد أوضحنا فيها إشكالَ القول المنصور على أبي حنيفة.
12149- ولو أقر أحدهما بوصية، نُظر: فإن أقر بعين للموصى له من جهة الوصية، وكانت تلك العين واقعةً في يده وحصتِه، فيلزمه تسليمُها إذا كان ثلث المال وافياً بها، لأنه معترف بكونها مستحقة على اللزوم للموصى له.
ولو أقر له بثلث التركة شائعاً، فيلزمُه تسليم ثلث ما في يده لا غير.
وإن أقر بوصيةٍ مرسلةٍ، ففي المسألة قولان:
أحدهما: يلزمه جميعُ المقرّ به في حقه بإقراره متعلقاً بثلث ما في يده.
والثاني: يلزمه نصف المقر به في حقه، متعلقاً بثلث ما في يده. فلو كان في يده ألف، وأقر بخمسمائة وصيةً، فعلى القول الأول يلزمه ثلث الألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثُلث. وعلى القول الثاني يلزمه مائتان وخمسون، وهو نصف الوصية، ولكن ثلث ما في يده وافٍ به.
وإذا كان في يده ألف، وأقر بألف درهم وصية، استوى القولان؛ فإن الوصية إن قدّرناها ألفاً، فهو مردود إلى الثلث مما في يد المقر، وإن قدرناها خمسمائة فالجواب كذلك، فيخرج ثلث الألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث. ولسنا نخوض في توجيه القولين، لأنا أحلناها على ما ذكرنا في (الأساليب) (والغُنية)
12150- ومما يتعلق بتفصيل المذهب في المسألة أن أحد الابنين إذا شهد للمُقَر له بالدين، وأراد المقَر له أن يحلف مع شاهده، أو أراد أن يضم إليه شاهداً آخر، فالذي ذكره المحققون من أصحابنا أن قبول شهادته يتفرع على القولين في إفراره لو أقر فإن قلنا: لو أقر، لم يلزمه في حصته إلا نصف المقر به، فإذا شهد، كانت شهادته مقبولة على الميت، وحكمها أنه يلزمه نصفُ المشهود به في حصته، ويلزم صاحبَه النصفُ.
فإن حكمنا بأنه لو أقر، لكان يلزمه التمام، فإذا شهد، فشهادته مردودة على صاحبه المنكر، وهي بمثابة ما لو أقر، وسبب ذلك أنا لو قبلنا شهادته، لكانت متضمنة دفعاً عن النفس؛ فإن الإقرار بالجميع مع إنكار الثاني يُلزمه حكم الجميع في حصته، فكأنه يطلب بشهادته أن يُلزم صاحبَه النصفَ.
وعن أبي حنيفة أنه قال: إن أقر أحدهما بالدين أولاً، ثم إنه شهد بعد إقراره، فشهادته مردودة؛ لأن الحق ثبت بالإقرار عليه، ثم رام دفعه بالشهادة.
وإن شهد أولاً، قال: فشهادته مقبولة. ونحن خرّجنا شهادته من غير تقدم الإقرار على القولين كما تقدم الشرح فيه.
فلو أقر أحدهما أولاً، ثم شهد، والتفريع على أن الإقرار لا يُلزم المُقر إلا النصف، فالشهادة في النصف الثاني مقبولة على الابن المنكر، وإن فرّعنا على القول الثاني- وهو أن الإقرار يُلزم المقر التمامَ، فعلى هذا القول شهادته مردودة على أخيه المنكر، ولا فرق إذاً عندنا بين أن يبتدىء فيشهد وبين أن يقدم الإقرار ثم يشهد، فقبولُ الشهادة على المنكر وردُّها خارج على القولين.
فإن قال قائل: إذا قذف رجلاً، ثم شهد عليه ثلاثةٌ، فشهادته بعد القذف مردودة، ولو شهد ابتداء مع ثلاثةٍ على زناه، فشهادته على الزنا مقبولة، فهلا جعلتم الشهادة ردّاً منه عن نفسه فيما كان يلزمه لو قذف ولم يشهد، وما الفرق بين تقدم القذف وبين تقدم الإقرار؟
قلنا: هذا لا حاصل له، فإنه إذا قدم القذفَ، فقد التزم الحدَّ بالقذف، فإذا رام دفع العقوبة عن نفسه، كان دافعاً بشهادته على التحقيق، فرُدَّت، وإذا شهد ابتداء، فليس هو بشهادته دافعاً عن نفسه أمراً لا محيص له عنه؛ فإنه كان لا يجب عليه أن يشهد، والإخبارُ عن الدَّين لابد منه في التركة، وهو بشهادته يؤدي واجباً عليه، فافترق الأمران افتراقاً ظاهراً.
وقد ذكر صاحب التقريب في الإقرار بالوصية المرسلة طريقين: إحداهما- إجراء القولين على التفصيل المقدم، وقد ذكرناه.
والثاني: القطعُ بأنه لا يلزم المقِرَّ إلا مقدارُ حصته قولاً وحداً. وأبو حنيفة سلّم الوصية، وإن صار إلى أن المقِر بالدين يلتزم جميعَه في حصته.
فما ذكره صاحب التقريب يوافق مذهب أبي حنيفة. وهذا ليس بشيء، ولا فرق بين الوصية والدين إلا أن الوصية وضعُها الحَسْبُ من الثلث، كما فصّلنا. والدين الثابت وضعُه إخراجُه من رأس المال، وأما الفرق، فلا اتجاه له.