فصل: باب: الشهادة على الحدود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الشهادة على الحدود:

قال:"وإذا شهدوا على رجلٍ بالزنا... إلى آخره".
12169- مقصود الفصل أن شهود الزنا لابد وأن يتوخَّوْا بحقيقة الحال، ويذكروا إيلاجَْ الحشفة في الفرج، ولا تكفي المكاني، وقد ذكرنا هذا في الحدود.
وهل يشترط ذلك في الإقرار بالزنا؟ فيه خلاف مذكور في الحدود، ونفس ذكر الزنا من القاذف، قذفٌ صريح. فإذاً هذه ثلاث مراتب.
وإنما لم نشترط التصريح في القذف؛ لأن الجناية على العرض تحصل بالنسبة إلى الزنا، ثم سيأتي في الدعاوى فصل فيما يُبيّن ويشترطُ فيه نهاية الكشف، وفيما يكتفى فيه بإطلاق الاسم، وثَمَّ نُعيد في التقاسيم ما ذكرناه الآن.
قال:"ولو شهد أربعة، اثنان منهم... إلى آخره". وهذا مما تكرر في الحدود، فإذا شهد اثنان على أنه زنى بفلانة في بيت عيّناه، وشهد آخران أنه زنى بها في بيت آخر، فلا يثبت الزنا، والكلام في أن الشهود قذفة أم لا؟ وكل ذلك مما مضى.
ولو اختلفت الشهادات في تعيين زوايا بيت واحد، فلا يثبت الزنا عندنا خلافاً لأبي حنيفة.
فصل:
قال:"ولو ادعى على رجل من أهل الجهالة... إلى آخره".
12170- مقصود الفصل الكلامُ في تسبيب القاضي إلى درء الحد، قال صاحب التقريب: إذا رُفع إلى الإمام من يتهم بالسرقة أو غيرها من موجبات الحد، فللقاضي أن يعرّض بما يتضمن حملَ المرفوع إلى مجلسه على إنكار السرقة، حتى لا تثبت الحدود، وذلك ثابت في الحديث، فإنه عليه السلام قال للمرفوع إليه بتهمة السرقة: «ما إخالك سرقت» وفي بعض الألفاظ «أسرقت؟ قل لا!» قال ذلك سراً.
ثم قال صاحب التقريب: ينبغي أن يكون التعريض بما يُسقط الحد، ولا يجوز أن يكون التعريض بما يدرأ الغرم؛ فإن التعريض فيما يتعلق بالأموال غير سائغ.
وهذا إذا لم يبتدر إلى الإقرار.
فإن أقر صريحاً، فهل يعرّض بالرجوع عن الإقرار؟ الذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يعرّض؛ فإن الاحتيال ينبغي أن يكون في منع الثبوت، فأما في السقوط بعد الثبوت فلا.
ومن أصحابنا من قال: يجوز التعرض للرجوع عن الإقرار وتمسك بترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً بعد إقراره بالزنا في القصة المشهورة، وهذا غير صحيح؛ لأن الرسول عليه السلام كان يستريب في عقله؛ إذ رآه أشعث أغبر فردّده لذلك، وليس في قصته تشبيبٌ بتلقينه الرجوع عن الإقرار.
ثم ظاهر ما ذكره الأصحاب أن المسوَّغ-قبل الثبوت وبعده على أحد الوجهين- التعريضُ، فأما التصريح فلا وجه له، وهو رفع لحجاب الهيبة، وتصريح بتعليم الكذب. فإذا كنا نُحرم التصريح بالخِطبة ونبيح التعريض بها، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه.
وإن صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع إلى مجلسه: (قل: لا!) فهذا يدل على جواز التصريح بالتلقين، وغالب ظني أن هذه الزيادة لم ينقلها الأثبات.
قال صاحب التقريب: التعريض المتفق عليه قبل الثبوت، كما بيّنّا، وفي التعريض بعد الإقرار الوجهان، فلو قامت بيّنة بالزنا أو السرقة، فالتعريض المتعلق بما يُسقط الحد بعد قيام البيّنة-كدعوى الشركة أو الملك- فيه وجهان مرتّبان على التعريض، وقد ثبت الحد بالإقرار، وصورة البيّنة أولى بالمنع، والفرق لائح.
والأصح-من كل ما ذكرناه- اختصاص التعريض بما قبل الثبوت.
ثم ذلك التعريض جائز أو مستحب؟ فيه تردد مأخوذ من كلام الأئمة.
فصل:
قال:"ولو شهد أنه سرق من هذا البيت كبْشاً... إلى آخره".
12171- ذكر وجوهاً في اختلاف شهادة الشاهدين، وقد تقدم جميعها. منها: أنه لو شهد شاهد أنه سرق غدوة، وشهد الثاني أنه سرق بالعشي، فالشهادتان مختلفتان، كذلك إذا اختُلف في المكان، أو صفة المسروق، فقال أحدهما: سرق كبشاً أسود، وقال الثاني: سرق كبشاً أبيض، فلا تثبت السرقة.
ولأبي حنيفة خبط في الألوان، ونظر دقيق في السواد والبياض، والصفرة والحمرة، ولسنا للخوض فيها.
12172- ثم قال:"ولو شهد اثنان أنه سرق ثوب كذا... إلى آخره".
صورة المسألة: أن يشهد اثنان أنه سرق ثوباً وصفاه، وقيمته ربع دينار، وشهد آخران أنه سرق ذلك الئوبَ بعينه، وأن قيمته أقل من ربع دينار؛ أما القطع؛ فلا يجب؛ فإن ما جرى من اختلاف البيّنتين في أن قيمة المسروق هل بلغت نصاباً؛ من أقوى ما تُدرأ به الحدود. وأما الغُرم، فلا يثبت عندنا إلا أقل القيمتين.
وقال أبو حنيفة: يثبت أكثر القيمتين. واعتل بأن المكثر عرف زيادة خصلة، غفل عنها المقلل.
قلنا: ربما عرف المقلل عيباً يوجب نقصان القيمة، غفل عنه المكثر، وهذا أولى؛ فإن الظاهر السلامة فربما بنى المكثر على ظاهر السلامة، واستدرك المقلل صفة خافية منقصة.
ولو اتفقا على الصفات، وصرحا بأنه لم يستقل واحد منا بمعرفة صفة لم يدركها آخر، وردوا النزاع إلى القيمةِ نفسِها، فلا يجب عندنا إلا الأقل أيضاً، حملاً على براءة الذمة.
فرع:
12173- ذكره صاحب التلخيص: إذا ادعى الرجل ألفَ درهم على رجل، وأقام شاهداً أن له عليه ألفاً، وشهد شاهد آخر أن عليه ألفَ درهم قد قضاه، فلا يثبت في هذه الصورة الألف أصلاً؛ فإن الشاهد الثاني لما قال: عليه ألف ثم قضاه، فقد تناقض قوله، وكيف يكون عليه ألف وقد قضاه، ولكن الشاهد الذي جزم شهادته بالألف ولم يُناقِضْ قولَه شهادتُه ثابتة، فلو أراد أن يحلف مع ذلك الشاهد، ويُثبت المال، جاز.
وبمثله لو شهد أحدهما أنه أقر بألف، وقال الثاني: أقر بألف، لكنه قضاه، ففي هذه المسألة وجهان ذكرهما الصيدلاني وغيره:
أحدهما- أنه يثبت الألف بشهادتهما، وقد يشهد شاهد واحد بالقضاء، فإن أراد الخصم أن يحلف معه ليُثبت القضاء بشاهد ويمين، جاز. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني- أنه لا يثبت بشهادتهما شيء، فإنهما لم يجتمعا على ثبوت الألف، وليس الغرض إثبات لفظ الإقرار، وإنما المقصود إثبات معناه.
ولو شهد شاهدان أن عليه ألفاً، ثم قال أحدهما بعد يوم مثلاً، قبل أن يقضي القاضي بالبينة: قد كان المشهود عليه قضى الدين؛ فهذا رجوع منه عن شهادته، فلا يحكم الحاكم بالشهادة.
ولو شهدا أن له عليه ألف درهم، ثم قال أحدهما قبل القضاء: قد قضى الألف بعد شهادتي؛ فهل يقضي القاضي بالدين؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يقضي به، ولا حكم لقوله المجرد: قد قضى، إلا أن يحلف الخصم المشهود عليه معه.
والصورة التي تقدمت على هذه فيه إذا قال أحد الشاهدين: قد كان قضى الألف قبل لشهادتي، وتبيّنت ذلك، فيكون هذا رجوعاً كما قدمناه.
ولو قال ابتداء: أقر فلان بألف، ثم قال أحدهما بعد ذلك، وقبل القضاء: قد قضى ما أقر به بعد لشهادتنا، فهل يقضي القاضي بثبوت الدين؟ في المسألة وجهان مرتّبان على الوجهين فيه إذا شهدا على الإقرار، وقال أحدهما: قد قضى، وهذه الصورة أولى بثبوت الدين فيها من صورة الاقتران، والفرق ظاهر. والله أعلم.

.باب: الرجوع عن الشهادة:

قال:"الرجوع عن الشهادة ضربان... إلى آخره".
12174- الكلام في الرجوع يتعلق بثلاثة فصول:
أحدها: في الشهادة على موجبات العقوبات إذا فُرض الرجوع عنها.
والثاني: في الرجوع عن الشهادة على ما لا مستدرك له، كالعَتاق والطلاق.
والثالث: في الرجوع عن الشهادة على الأموال. فأما
الفصل الأول
12175- فهو مثل الشهادة على قتلى يوجب القصاص، أو زنىً يوجب الرجم، أو الجلد، ثم يفرض موت المجلود المحدود، ومن الفصل الشهادة على السرقة الموجبة للقطع.
والذي يقتضيه الترتيب أن نذكر الرجوع قبل القضاء، ثم نذكر الرجوع بعد القضاء وقبل الاستيفاء، ثم نذكر الرجوع بعد الاستيفاء.
فأما الرجوع قبل القضاء، فمبطلٌ للشهادة. والذي نذكر في هذا القسم، أنهم إذا شهدوا على الزنا، ثم رجعوا، فهم قذفة يحدون، فسقة يردون، ثم الكلام في الاختبار، والاستبراء على ما نفصل.
ولو قالوا كما رجعوا عن شهاداتهم في الزنا وغيرِه: ما تعمدنا، ولكن أخطأنا، فالذي صدر منهم لا يوجب جرحَهم في غير الشهادة على الزنا. فأما إذا رجع شهود الزنا، وقالوا: أخطأنا؛ فهل يكونون قذفة؟ قد ذكرنا أنه إذا نقص العدد، ففي كونهم قذفة قولان، فإذا كمل العدد في مسألتنا، وقالوا: أخطأنا، احتَمَل خلافاً، ولكنه مرتب على نقصان العدد؛ فإنه يتطرق إليهم الملام في ترك التحفظ والمبالغة فيه، وإن كان المتحفظ قد يغلط، وأما نقصان العدد، فلا يتجه فيه نسبة الشاهدين إلى ما يوجب لوماً، والامتناع من غيرهم، فإن قلنا: إنهم قذفة، فترد شهادتهم، وإن قلنا: لا حدّ عليهما، فلا تردّ شهادتهم.
فرع:
12176- لو شهد عند القاضي شاهدان، فيما نحن فيه أو في غيره من القضايا، ثم قالا للقاضي- قبل القضاء: توقف! حتى نتثبت في شهادتنا، فلا شك أنه يتوقف، فلو عادا، وقالا: تحققنا ونحن مصران على الشهادة، فهل يحكم؟ فعلى وجهين:
أحدهما- يحكم؛ لأنهما لم يرجعا بل توقفا، ثم استمرا.
والثاني: لا يحكم؛ لأن ما قالاه أورث ريبة في الشهادة.
ولا خلاف أنهما لو رجعا، ثم عادا، فقالا: غلطنا في الرجوع، فلا يقبل منهما، فإن قلنا: إذا استمرا بعد التوقف، فللقاضي أن يقضي، فهل يكلفهما إنشاء الشهادة؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما. هذا في الرجوع قبل القضاء.
12177- فأما إذا فرض رجوع الشهود بعد القضاء، وقبل الاستيفاء، فرجوع شهود المال في هذا الوقت لا يوجب نقض القضاء، بل يتمادى القاضي، ويُلزم المشهود عليه إيفاء ما ثبت عليه من المال.
ولو كانت الشهادة فيما يوجب عقوبة، فإذا قضى القاضي بوجوب العقوبة، فرجع الشهود قبل استيفائها، ففي المسألة ثلاثة أوجه، ذكرها الشيخ أبو علي وغيره: أحد الوجوه- أن القاضي لا يستوفي العقوبة؛ فإنها حَرِيَّةٌ بالدرء، ويبعد أن يُريق القاضي دماً، ولا حجة على الاقتران بإراقته.
والوجه الثاني- أنه يستوفي العقوبات؛ فإن الشهود رجعوا بعد القضاء، وما استحق استيفاؤه كالمستوفَى.
والثالث: أن ما يجب حقاً للآدمي لا يسقط كالقصاص وحدِّ القذف، وما يجب حقاً لله من العقوبات يسقط؛ فإن رجوع الشهود لا ينحط عن رجوع المقر، ومن أقر بموجب حدٍّ لله، ثم رجع، سقط الحد عنه، وهذا حسن متجه؛ إذ لا خلاف في الإقرار.
ولو فسق الشهود قبل القضاء، أو بعد القضاء وقبل الاستيفاء، ففسقهم كرجوعهم في كل ما ذكرناه.
12178- فأما إذا رجع الشهود بعد استيفاء العقوبات: كأنْ شهدوا بالقصاص، فاقتُصَّ من المشهود عليه، أو شهدوا بالزنا على محصن، فرجم، أو على شخص بالسرقة، فقُطع، أو على بِكْر بالزنا فجُلِد ومات، فإذا رجعوا بعد وقوع العقوبات، فلهم أحوال في الرجوع: إحداها- أن يقولوا: تعمّدنا، وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا، فيجب عليهم القَوَدُ، وعَقْد الباب أنهم بمثابة المباشرين للقتل، وكل ما لو باشره وحصل التلف به، وجب عليه القود، فإذا وقع التلف بموجَب شهادته، وجب عليه القود، خلافاً لأبي حنيفة.
ولو قالوا أخطانأ، وذكروا وجهاً، أو أطلقوا وصف الرجوع بالخطأ، فلا قصاص، وقد يرى القاضي تعزيرهم؛ من جهة ترك التحفظ، والغُرم يجب في مالهم؛ فإنه ثبت بإقرارهم، إلا أن تصدّقهم العاقلة، ففيه شيء سأنبه عليه، إن شاء الله.
ولو قال بعضهم: تعمدت، وقال الباقون: أخطأنا، لم يجب القود على المعترف بالعمد؛ فإن القتل على حكم الأقارير وقع بعمدٍ وخطأ، ولا قصاص على العامد إذا كان شريكه مخطئاً، ولو قال كل واحد منهم: تعمدت وأخطأ أصحابي، ففي وجوب القصاص وجهان:
أحدهما: لا يجب، لأن كل واحد أقر بقتلٍ على شركة خاطىء، ولم يقر بالعمد المحض.
والثاني: يجب؛ لأن كل واحد منهم مقر بالعمد في حق نفسه، وإنما يدعي خطأ من شركائه، وقوله مقبول في حق نفسه مردود في حق شركائه.
وإن قال القاضي: علمت كذبهم وتعمدت، فعليه القَوَدُ، قطع الأئمة به؛ فإن مقامه لا ينحط عن مقام شاهد.
ولو رجع المزكّي عن تزكية الشهود، فقد ذكر أصحابنا في وجوب الغرم عليه وجهين، ثم ذكروا على أحد الوجهين في القصاص وجهين، وحاصل الكلام ثلاثة أوجه في الغرم. والقصاص، وهذا عندي مُحوِجٌ إلى فضل نظر.
فإن قال المزكي: زكيتهم مع العلم بفسقهم وكذبهم، فهذا موضع خلاف للأصحاب. وإن قال: زكيتهم مع العلم بفسقهم، ولم أعلم كذبَهم، فقد قال الأصحاب: هذا كما لو زعم أني علمت كذبهم، وما ذكروه ظاهر، ولكن قد يتجه في القصاص ترتيبٌ لحالة على حالة، والأمر فيه قريب.
12179- ومن أهم ما يجب الاعتناء به، أن الذي ادعى القصاص لو رجع عن دعواه، وأصرّ الشهود، فعليه الغُرم والقود. وإن رجعوا كلهم والوليُّ هو الذي اقتص، فلا شك في وجوب القود عليه، وهل يجب القود على الشهود؟ فعلى وجهين- ذكرهما القاضي:
أحدهما: لا قصاص على الشهود؛ فإن الولي قتل مختاراً، وليس في حكم المكره، والشهادات سبب، فهي بالإضافة إلى قتل الولي كالإمساك مع القتل. وهذا هو الذي بنينا عليه (الأساليب).
والوجه الثاني- أن القصاص يجب على الشهود مع الولي؛ فإنهم من جملتهم تعاونوا على القتل، وكانوا كالمشتركين فيه. وليسوا كالقاتل والممسك؛ فإن الشهود هم الذين أكسبوا الوليَّ صفةَ المحق، ولولاهم، لما تصدى لذلك، وهذا ضعيف، والقياس الحق مع الوجه الأول.
ثم إذا لم نوجب القصاص على الشهود، لم نلزمهم غرماً أيضاً، إذا آل الأمر إلى المال؛ تشبيهاً لهم بالممسكين، ومصيراً إلى أن مباشرة الولي على الاختيار تقطع أثر تسببهم.
12180- ولو قال الشهود: تعمدنا الشهادة كاذبين، ولكن لم نعلم أنه يقتل بشهادتنا، فقد قال الأكثرون: لا قود عليهم.
وهذا فيه نظر؛ فإن من ضرب شخصاً فمات، وكان ذلك الشخص مريضاً يُقصد قتلُه بمثل ذلك الضرب، فقال الضارب: لم أحسبه مريضاً، ولو كان صحيحاً، لكان الأغلب ألا يموت، فهل يجب القصاص والحالة هذه؟ فيه تردد مأخوذ من كلام الأصحاب. فإن قلنا بوجوب القصاص على الشهود في هذه الصورة، فلا كلام، وإن قلنا: لا قصاص عليهم؛ فقد قال الشافعي: عليهم الدية حالّةٌ في أموالهم في الصورة التي ذكرناها. قال صاحب التقريب: الوجه أن تكون الدية مؤجلة عليهم، لأنه بمثابة من يصدر منه القتلُ شبهَ عمد. وهذه المسألة تقرب مما لو قتل مسلماً في دار الحرب على توهم أنه مشرك، ففي وجوب الدية قولان. فإن أوجبناها، ففي ماله أو عاقلته؟ فعلى قولين، وقد مهدت هذا الفصل في كتاب الديات.
12181- ومما يليق بتفريع هذا الفصل الكلامُ في شهود الزنا، وشهودِ الإحصان إذا فرض الرجوع منهم أو من بعضهم، ونحن نذكر في مبتدأ ذلك أصلين- ونفرعّ المسائل عليهما؛ أحدهما- أن شهود الإحصان إذا رجعوا، فهل يغرّمون؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا يغرمون؛ فإنهم ما شهدوا على موجِب الحد؛ إذ موجِبه الزنا، والإحصان صفات كمال، وعلى نحو هذا اختلف الأصحاب في أنه لو شهد على تعليق العتق بدخول الدار شاهدان، وشهد على الدخول آخران، ثم رجعوا بعد نفوذ القضاء، فهل يجب على اللذين شهدوا على وجود الصفة غرمٌ؟ فعلى وجهين. فإن قلنا: شهود الإحصان لا يغرمون إذا رجعوا، فلا كلام. وإن غرّمناهم، أوجبنا القصاص عليهم حيث يجب القصاص، ثم كم يغرّمون إذا رجعوا ورجع شهود الزنا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يغرمون نصف الدية، لأن لحدّ الزنا ركنين: الزنا، والإحصان.
والثاني: عليهم ثلث الغرم، لأن الإحصان يثبت بشاهدين والزنا لا يثبت إلا بأربعة، فهم يقعون في مراتب الشهادات ثُلُثَ الشهود، هذا أحد الأصلين.
والأصل الآخر- أنه إذا شهد على شيء عددٌ أكثر من العدد المشروط فيه، ثم رجع من زاد على العدد؛ فنقول أولاً: إن رجع كلهم، فالغرم مفضوض على جميعهم، ولا فرق بين أن يرجعوا بأجمعهم معاً، وبين أن يرجعوا واحداً واحداً، فإذا تكامل الرجوع، فالغرم على الجميع.
فأما إذا رجع من الشهود من لا ينخرم به العدد المشروط، مثل أن يشهد خمسة على الزنا، أو ثلاثة على غيره، ثم رجع الزائد، وبقي العدد الذي به الاستقلال؛ فهل يجب على الراجع شيء في هذه الصورة؟ فعلى قولين:
أحدهما: رواه البويطي، واختاره المزني أنه يُغَرَّم.
والثاني: وهو المشهور أنه لا يغرّم، وبه قال أبو حنيفة، والتوجيه هيّن.
وإذا ثبت الأصلان، خضنا بعدهما في تفريع المسائل.
12182- فلو شهد أربعة على الزنا، واثنان سواهم على الإحصان، فلو رجع أحد شاهدي الإحصان، فإن قلنا: لا غرم، فلا كلام. وإن قلنا: يجب الضمان على شهود الإحصان إذا رجعوا بفرع النصف والثلث، فعلى الراجع على قول النصف ربع الغرم، وعلى قول الثلث سدس الغرم.
وإن رجع أحد شهود الزنا، فإن قلنا: يتعلق بهم ثلثا الغرم، فعلى الراجع سدس، وعلى القول الثاني عليه ثمن الغرم.
ولو شهد أربعة على الزنا والإحصان جميعاً، ثم رجع أحدهم عن الإحصان والزنا جميعاً، فلا غرامة لأجل الإحصان على أحد القولين، لأنه قد بقي من يتعلق به ثبوت الإحصان، فأما لأجل الزنا، فيغرّم، وفي مقداره الخلاف الذي قدّمناه، فيغرّم سدساً أو ثمناً.
فإن رجع ثلاثة وثبت واحد، فقد بطلت الشهادتان؛ فيغرمون على أحد الوجهين لأجل الإحصان ولأجل الزنا، ويخرج المقدار على ما تقدم: السدس-في حسابٍ- على كل واحد لأجل الزنا، و-في حسابٍ- الثمن. ولأجل الإحصان-إن غرّمنا به- ثلث الربع أو ثلث السدس؛ لأنه لما رجع واحد من شهود الإحصان أوجبنا عليه في قولٍ الربعَ، وهو نصف النصف، فيُفَضُّ ذلك في هذه الصورة على ثلاثة: على كل واحد ثلثُ الربع، وأوجبنا في قولٍ نصفَ الثلث، وهو السدس، فيفض على ثلاثة: على كل واحد ثلثُ السدس.
ولو شهد أربعة على الزنا، وشهد اثنان من هؤلاء الأربعة على الإحصان، ثم رجع أحد هذين اللذين شهدا على الأمرين، وقلنا بالضمان على شهود الإحصان، فعلى الراجع لأجل الإحصان ربع الغرم في وجه، وسدس الغرم في وجه، وأما لأجل الزنا، فثمن الغرم في وجه، فإن شهود الزنا أربعة، وسدس الغرم في وجه.
ولو شهد ثمانية على الأمرين، ثم رجع أحدهم، فلا غرم عليه، على أشهر القولين، وكذلك لو رجع الثاني، والثالث، والرابع، وإن رجع الخامس- حينئذ، لا غرامة لأجل الإحصان على الوجه المشهور، ويغرم لأجل الزنا السدس في وجه، والثمن في وجه، وهذا المقدار على الخمسة بأجمعهم.
وإن رجع ستة وشهود الإحصان ما انخرموا بعدُ، فعلى قولٍ عليهم ثلث الغرم يُفضّ على ستة، وعلى قولٍ رُبع الغرم. وإن رجع سبعة، فقد بطلت الشهادتان، ولا يخفى التفريع، وقد نجز الكلام في فصل واحد من الفصول الثلاثة.
فأما
الفصل الثاني
12183- فمضمونه الشهادة على ما إذا نفذ القضاء به، لم يُستَدْرك، كالعتق والطلاق، فإذا رجع الشهود بعد نفوذ القضاء، غَرِموا القيمة في العتق، وقد مضى التفصيل فيما يغرمه شهود الطلاق في كتاب الرضاع، على أحسن وجه، وأبلغه في البيان.
والذي لم نذكره ثَمَّ فَرْعٌ فرّعه ابنُ الحداد، وهو: إذا شهد رجلٌ وعشرُ نسوة على أن بين فلان والتي تحته بحكم الزوجية رضاعاً محرِّماً، وقضى القاضي بشهادتهم، وفرّق بينهما، فلو رجعوا عن الشهادة، فالقول في أنهم يغرّمون، وماذا يغرّمون، كالقول في شهود الطلاق، لا فرق بينهما في المغروم.
وإنما غرضنا من هذا الفرع الكلام في كيفية فض المغروم على الرجال والنساء في شهادة الرضاع-وشهادة النسوة لا تتصور في الطلاق- فلهذا فرضنا في الشهادة على الرضاع-فنقدم على ذلك شهادة في المال، ونقول: إذا شهد رجل وأربع نسوة على مال، وقضى به القاضي، ورجعوا، وقلنا: إنهم يغرمون- كما سيأتي في الفصل الثالث: فالمذهب أنه يجب نصف الغرم على الرجل، ونصف الغرم على النسوة كم كن وأيَّ عددٍ بلغن، فعلى الاثنتين النصف وعلى العشر فصاعداً النصفُ؛ فإن النسوة-وإن كثر عددهن- في محل رجل واحد، وذهب أبو حنيفة إلى أن كل امرأتين بمثابة رجل. فاذا كانوا رجلاً وأربع نسوة، فعلى النسوة ثلثا الغرامة، وعلى الرجل الثلث، كأنهم ثلاثة من الرجال شهدوا ورجعوا.
قال الشيخ أبو علي: قد ذهب إلى هذا بعضُ أصحابنا، وهو بعيد فإذا ثبت ذلك، رجعنا إلى مسألتنا.
فإذا شهد رجل وعشر نسوة على الرضاع، ثم رجعوا بعد نفوذ القضاء، قال الشيخ- نعدّ الرجل بامرأتين في حساب الغرم، فإذا كن عشراً معهن رجل، فنقدّرهم اثني عشر، ونقسم الغرم اثني عشر سهماً، على الرجل سهمان وعلى كل امرأة سهم.
وقد ذكرنا في الشهادة على المال أن المذهب أن نوجب نصف الغرم على النساء كَمْ كن، وفي الرضاع لا نقول ذلك. بل نعدّ الرجل بامرأتين، وامرأتين برجل، والفرق أن النساء أصلٌ في شهادة الرضاع، بدليل أن الرضاع يثبت بشهادتهن وحدهن، ولا يثبت المال بشهادة النسوة وحدهن، فالرجل في المال شطر البيّنة أبداً، وهو معدود في الرضاع بامرأتين على حسب عددهن، فهذا كلام فيه إذا رجع كلهم.
فإما إذا رجع الرجل وست نسوة، فقد بقيت أربع من النسوة مُصرّات على الشهادة، فالمذهب الصحيح أنه لا يجب على الراجعين شيء؛ فإن الشهادة ما انخرمت.
ومنهم من قال: يجب على الراجعين بقدر ما يخصهم لو رجع كلهم، فإذا رجع رجل وست نسوة، فيخصهم ثلثا الغرامة، فيلزمهم ذلك على الحساب الذي قدمناه.
ولو رجع عن الشهادة رجل وسبع نسوة، فإن فرّعنا على القول الضعيف، فيجب على الراجعين من الغرم ما يخصهم لو رجع كلهم، وذلك تسعة أسهم من اثني عشر سهما من جميع المغروم، على الرجل سهمان من التسعة، وعلى كل واحدة سهم منها، وهذا ضعيف.
والصحيح أنه يجب ربع الغرامة؛ فإن الشهادة قد انخرم ربعها، إذ بقيت ثلاث نسوة، فيقسم ربع الغرم على الرجل والسبع نسوة: على تسعة أسهم كما ذكرناه، فهذا هو الذي أردنا ذكره هاهنا.
وتمهيد الأصول في المقدار المغروم المتوجه على الراجعين عن شهادة الطلاق قبل المسيس وبعده مذكور في كتاب الرضاع. فأما الفصل الثالث
12184- فمضمونه الكلامُ في الرجوع عن الشهادة بعد نفوذ القضاء فيما يفرض فيه مستدرك، وهو كالشهادة على الأموال. فإذا شهد شاهدان على أن الدار التي في يد زيد لعمرو، ونفذ القضاء بموجَب الشهادة، فإذا رجعا، فلا سبيل إلى نقض القضاء، وهل يغرمان للمشهود عليه قيمةَ الدار؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنهما يغرمان. وهذا أقيس القولين؛ لأن الشهادة مسلكٌ لو فات بها شيء، وفرض الرجوع، ثبت الغرم، وكل جهة تثبت الغرم عند تحقق الفوات؛ فإنها تُثبت الغرم عند إثبات الحيلولة، والشهادة قد أَثبتت حيلولةً، فلتقتض غرماً.
والقول الثاني- إن الغرم لا يجب؛ فإن التفويت لم يتحقق؛ إذ يتصور من المشهود عليه أن يعترف ويقرّ، ويرد الدار إلى المشهود عليه، وهذا لا يتحقق في الطلاق والعتاق؛ فإنهما بعد نفوذ القضاء بهما لا يتصور فيهما مستدرك، فكانا في معنى الإتلاف المحقق، وهذا القول يعسر توجيهه، ولكنه القول الجديد، ومأخذ القولين قريب من أصل القولين فيه إذا قال الرجل: غصبت هذه الدار من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلّمة إلى الأول، وهل يغرم للثاني قيمة الدار، من حيث تسبب بتقديم الإقرار للأول إلى إيقاع الحيلولة بين الثاني الذي قَرّ عليه إقراره وبين الدار؟ فعلى قولين.
فرع:
12185- إذا شهد شاهدان، ثم رجعا عن شهادتهما قبل نفوذ القضاء، فلا شك أن القاضي لا يقضي بشهادتهما بعد الرجوع، فإن قالا: تعمدنا الكذب، رُدت شهادتهما عموماً؛ فإن الشهادة ترد بما يورث رَيْباً في شهادة الزور، فإذا اعترفا بتعمد الكذب، فقد تعرضا لهدم منصبهما فيما هو عين المقصود بالشهادة، فإن تابا واستبرأنا أحوالهما، قبلنا شهادتهما في غير تلك القضية، فإن قالا: ما كنا كذبنا، وإنما أظهرنا دعوى الكذب لغرضٍ، قلنا: لا سبيل إلى قبول تلك الشهادة؛ فإنا إذا كنا لا نقبل الشهادة المعادة إذا كانت ردّت بسبب الفسق، فإذا ردّت بالاعتراف بتعمد الكذب، فلأن لا تُقبل أولى، فإن المؤاخذة بالقول الأول قائمة، لا سبيل إلى إزالتها.